الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٧

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل10%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 572

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 572 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 287773 / تحميل: 5230
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٧

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

من بين المسلمين علماء في كافة التخصصات للرجوع إليهم.

وينبغي التنويه هنا إلى ضرورة الرجوع إلى المتخصص الثابت علمه وتمكنه في اختصاصه، بالإضافة إلى توفر عنصر الإخلاص في عمله فهل يصح أن نراجع طبيبا متخصصا ـ على سبيل المثال ـ غير مخلص في علمه؟!

ولهذا وضع شرط العدالة في مسائل التقليد إلى جانب الاجتهاد والأعلمية ، أي لا بدّ لمرجع التقليد من أن يكون تقيا ورعا بالإضافة إلى علميته في المسائل الإسلامية.

* * *

٢٠١

الآيات

( أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (45) أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ (46) أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (47) )

التّفسير

لكلّ ذنب عقابه :

ثمّة ربط في كثير من بحوث القرآن بين الوسائل الاستدلالية والمسائل الوجدانية بشكل مؤثر في نفوس السامعين ، والآيات أعلاه نموذج لهذا الأسلوب.

فالآيات السابقة عبارة عن بحث منطقي مع المشركين في شأن النّبوة والمعاد ، في حين جاءت هذه الآيات بالتهديد للجبابرة والطغاة والمذنبين.

فتبتدأ القول :( أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئاتِ ) من الذين حاكوا الدسائس المتعددة حسبا منهم لإطفاء نور الحق والإيمان( أَنْ يَخْسِفَ اللهُ بِهِمُ الْأَرْضَ ) .

فهل ببعيد (بعد فعلتهم النكراء) أن تتزلزل الأرض زلزلة شديدة فتنشق القشرة الأرضية لتبتلعهم وما يملكون ، كما حصل مرارا لأقوام سابقة؟!

٢٠٢

«مكروا السيئات» : بمعنى وضعوا الدسائس والخطط وصولا لأهدافهم المشؤمة السيئة ، كما فعل المشركون للنيل من نور القرآن ومحاولة قتل النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وما مارسوه من إيذاء وتعذيب للمؤمنين المخلصين.

«يخسف» : من مادة «خسف» ، بمعنى الاختفاء ، ولهذا يطلق على اختفاء نور القمر في ظل الأرض اسم (الخسوف) ، يقال (بئر مخسوف) للذي اختفى ماؤه ، وعلى هذا يسمّى اختفاء الناس والبيوت في شق الأرض الناتج من الزلزلة خسفا.

ثمّ يضيف :( أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ ) أي عند ذهابهم ومجيئهم وحركتهم في اكتساب الأموال وجمع الثروات.( فَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ ) .

وكما قلنا سابقا ، فإنّ «معجزين» من الإعجاز بمعنى ازالة قدرة الطرف الآخر ، وهي هنا بمعنى الفرار من العذاب ومقاومته.

أو أنّ العذاب الإلهي لا يأتيهم على حين غفلة منهم بل بشكل تدريجي ومقرونا بالأنذار المتكرر :( أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ ) .

فاليوم مثلا ، يصاب جارهم ببلاء ، وغدا يصاب أحد أقربائهم ، وفي يوم آخر تتلف بعض أموالهم والخلاصة ، تأتيهم تنبيهات وتذكيرات الواحدة تلو الأخرى ، فإن استيقظوا فما أحسن ذلك ، وإلّا فسيصيبهم العقاب الإلهي ويهلكهم.

إنّ العذاب التدريجي في هذه الحالات يكون لاحتمال أن تهتدي هذه المجموعة ، واللهعزوجل لا يريد أن يعامل هؤلاء كالباقين( فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ ) .

ومن الملفت للنظر في الآيات مورد البحث ، ذكرها لأربعة أنواع من العذاب الإلهي :

الأوّل : الخسف.

الثّاني : العقاب المفاجئ الذي يأتي الإنسان على حين غرة من أمره.

الثّالث : العذاب الذي يأتي الإنسان وهو غارق في جمع الأموال وتقلبه في

٢٠٣

ذلك.

الرّابع : العذاب والعقاب التدريجي.

والمسلم به أنّ نوع العذاب يتناسب ونوع الذنب المقترف ، وإن وردت جميعها بخصوص( الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئاتِ ) لعلمنا أنّ أفعال الله لا تكون إلّا بحكمة وعدل.

وهنا لم نجد رأيا للمفسّرين ـ في حدود بحثنا ـ حول هذا الموضوع ، ولكن يبدو أنّ النوع الأوّل من العقاب يختص بأولئك المتآمرين الذين هم في صف الجبارين والمستكبرين كقارون الذي خسف الله تعالى به الأرض وجعله عبرة للناس ، مع ما كان يتمتع به من قدرة وثروة.

أمّا النوع الثّاني فيخص المتآمرين الغارقين بملذات معاشهم وأهوائهم ، فيأتيهم العذاب الإلهي بغتة وهم لا يشعرون.

والنوع الثّالث يخص عبدة الدنيا المشغولين في دنياهم ليل نهار ليضيفوا ثروة إلى ثروتهم مهما كانت الوسيلة ، حتى وإن كانت بارتكاب الجرائم والجنايات وصولا لما يطمحون له! فيعذبهم الله تعالى وهم على تلك الحالة(1) .

وأمّا النوع الرّابع من العذاب فيخص الذين لم يصلوا في طغيانهم ومكرهم وذنوبهم إلى حيث اللارجعة ، فيعذبهم الله بالتخويف. أي يحذرهم بإنزال العذاب الأليم في أطرافهم فإن استيقظوا فهو المطلوب ، وإلّا فسينزل العذاب عليهم ويهلكهم.

وعلى هذا ، فإنّ ذكر الرأفة والرحمة الإلهية ترتبط بالنوع الرّابع من الذين مكروا السّيئات ، الذين لم يقطعوا كل علائقهم مع الله ولم يخربوا جميع جسور العودة.

* * *

__________________

(1) مع أنّ «التقلب» لغة ، بمعنى التردد والذهاب والمجيء ، مطلقا ولكن في هكذا موارد ـ كما قال أكثر المفسّرين وتأييد الرّوايات لذلك ـ بمعنى التردد في طريق التجارة وكسب المال ـ فتأمل.

٢٠٤

الآيات

( أَوَلَمْ يَرَوْا إِلى ما خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ سُجَّداً لِلَّهِ وَهُمْ داخِرُونَ (48) وَلِلَّهِ يَسْجُدُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مِنْ دابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (49) يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ (50) )

التّفسير

سجود الكائنات للهعزوجل :

تعود هذه الآيات مرّة أخرى إلى التوحيد بادئة ب :( أَوَلَمْ يَرَوْا إِلى ما خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ سُجَّداً لِلَّهِ وَهُمْ داخِرُونَ ) (1) .

أي : ألم يشاهد المشركون كيف تتحرك ظلال مخلوقات الله يمينا وشمالا لتعبر عن خضوعها وسجودها له سبحانه؟!

ويقول البعض : إنّ العرب تطلق على الظلال صباحا اسم (الظل) وعصرا

__________________

(1) داخر : في الأصل من مادة (دخور) أي : التواضع.

٢٠٥

(الفيء) ، وإذا ما نظرنا إلى تسمية (الفيء) لقسم من الأموال والغنائم لوجدنا إشارة لطيفة لحقيقة إنّ أفضل غنائم وأموال الدنيا لا تلبث أن تزول ولا يعدو كونها كالظل عند العصر.

ومع ملاحظة ما اقترن بذكر الظلال في هذه الآية من يمين وشمال ، وإنّ كلمة الفيء استعملت للجميع فيستفاد من ذلك : أن الفيء هنا ذو معنى واسع يشمل كل أنواع الظلال.

فعند ما يقف الإنسان وقت طلوع الشمس متجها نحو الجنوب فإنّه سيرى شروق قرص الشمس من الجهة اليسرى لأفق الشرق ، فتقع ظلال جميع الأشياء المجسمة على يمينه (جهة الغرب) ، ويستمر هذا الأمر حتى تقترب الظلال نحو الجهة اليمنى لحين وقت الظهر، وعندها ستتحول الظلال إلى الجهة المعاكسة (اليسرى) وتستمر في ذلك حتى وقت الغروب فتصبح طويلة وممتدة نحو الشرق ، ثمّ تغيب وتنعدم عند غروب الشمس.

وهنا يعرض الباري سبحانه حركة ظلال الأجسام يمينا وشمالا بعنوانها مظهرا لعظمته جل وعلا واصفا حركتها بالسجود والخضوع.

أثر الظلال في حياتنا :

ممّا لا شك فيه أنّ لظلال الأجسام دور مؤثر في حياتنا ، ولعل الكثير منّا غير ملتفت إلى هذه الحقيقة ، فوضع القرآن الكريم إصبعه على هذه المسألة ليسترعي الانتباه لها.

للظلال (التي هي ليست سوى عدم النّور) فوائد جمّة :

1 ـ كما أنّ لأشعة الشمس دور أساسي في حياتنا ، فكذلك الظلال ، لأنّها تقوم بعملية تعديل شدّة الحرارة لأشعة الشمس.

إنّ الحركة المتناوبة للظلال تحفظ حرارة الشمس لحد متعادل ومؤثر ، وبدون

٢٠٦

الظلال فسيحترق كل شيء أمام حرارة الشمس الثابتة وبدرجة واحدة ولمدّة طويلة.

2 ـ وثمّة موضوع مهم آخر وربّما على خلاف تصور معظم الناس ، ألا وهو :إنّ النّور ليس هو السبب الوحيد في رؤية الأشياء ، بل لا بدّ من اقتران الظل بالنّور لتحقيق الرؤية بشكل طبيعي.

وبعبارة أخرى : إنّ النّور لو كان يحيط بجسم ما ويشع عليه باستمرار بما لا يكون هناك مجالا للظل أو نصف الظل ، فإنّه والحال هذه لا يمكن رؤية ذلك الجسم وهو غارق بالنّور

أي : كما أنّه لا يمكن رؤية الأشياء في الظلمة القائمة ، فكذا الحال بالنسبة للنور التام ، ويمكن رؤية الأشياء بوجود النّور والظلمة (النّور والظلال).

وعلى هذا يكون للظلال دور مؤثر جدّا في مشاهدة وتشخيص ومعرفة الأشياء وتمييزها ـ فتأمل.

وثمّة ملاحظة أخرى في الآية : وهي : ورود «اليمين» بصيغة المفرد في حين جاءت الشمال بصيغة الجمع «شمائل».

فالاختلاف في التعبير يمكن أن يكون لوقوع الظل في الصباح على يمين الذي يقف مواجها للجنوب ثمّ يتحرك باستمرار نحو الشمال حتى وقت الغروب حين يختفي في أفق الشرق(1) .

واحتمل المفسّرون أيضا : مع أن كلمة (اليمين) مفردا إلّا أنّه يمكن أن يراد بها الجمع في بعض الحالات ، وهي في هذه الآية تدل على الجمع(2) .

وجاء في الآية أعلاه ذكر سجود الظلال بمفهومه الواسع ، أما في الآية التالية فقد جاء ذكر السجود بعنوانه برنامجا عاما شاملا لكل الموجودات المادية وغير

__________________

(1) تفسير القرطبي ، ضمن تفسير الآية.

(2) تفسير أبو الفتوح الرازي ، ج 7 ، ص 110.

٢٠٧

المادية ، وفي أي مكان ، فيقول :( وَلِلَّهِ يَسْجُدُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مِنْ دابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ ) ، مسلمين لله ولأوامره تسليما كاملا.

وحقيقة السجود نهاية الخضوع والتواضع والعبادة ، وما نؤديه من سجود على الأعضاء السبعة ما هو إلّا مصداق لهذا المفهوم العام ولا ينحصر به.

وبما أنّ جميع مخلوقات الله في عالم التكوين والخلق مسلمة للقوانين العامّة لعالم الوجود، التي أفاضتها الإرادة الإلهية فإنّ جميع المخلوقات في حالة سجود له جلّ وعلا ، ولا ينبغي لها أن تنحرف عن مسير هذه القوانين ، وكلها مظهرة لعظمة وعلم وقدرة الباريعزوجل ، ولتدلل على أنّها آية على غناه وجلاله والخلاصة : كلها دليل على ذاته المقدسة.

«الدابة» : بمعنى الموجودات الحية ، ويستفاد من ذكر الآية لسجود الكائنات الحية في السماوات والأرض على وجود كائنات حية في الأجرام السماوية المختلفة علاوة على ما موجود على الأرض.

وقد احتمل البعض : عبارة «من دابة» قيد لـ «ما في الأرض» فقط ، أي : إنّ الحديث يختص بالكائنات الحية الموجودة على الأرض.

ويبدو ذلك بعيدا بناء على ما جاء في الآية (29) من سورة الشورى( وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَثَّ فِيهِما مِنْ دابَّةٍ ) .

صحيح أنّ السجود والخضوع التكويني لا ينحصر بالكائنات الحية ، ولكنّ تخصيص الإشارة بها لما تحمله من أسرار وعظمة الخلق أكثر من غيرها.

وبما أنّ مفهوم الآية يشمل كلا من : الإنسان العاقل المؤمن ، والملائكة ، والحيوانات الأخرى ، فقد استعمل لفظ السجود بمعناه العام الذي يشمل السجود الاختياري والتشريعي وكذا التكويني الاضطراري.

أمّا الإشارة إلى الملائكة بشكل منفصل في الآية فلأنّ الدابة تطلق على الكائنات الحيّة ذات الجسم المادي فقط ، بينما للملائكة حركة وحضور وغياب ،

٢٠٨

ولكن ليس بالمعنى المادي الجسماني كي تدخل ضمن مفهوم «الدابة».

وروي في حديث النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «إنّ لله تعالى ملائكة في السماء السابعة سجودا منذ خلقهم إلى يوم القيامة ، ترعد فرائصهم من مخافة الله تعالى ، لا تقطر من دموعهم قطرة إلّا صارت ملكا ، فإذا كان يوم القيامة رفعوا رؤوسهم وقالوا : ما عبدناك حق عبادتك»(1) .

أمّا جملة( وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ ) فإشارة لحال وشأن الملائكة التي لا يداخلها أيّ استكبار عند سجودها وخضوعها للهعزوجل .

ولهذا ذكر صفتين للملائكة بعد تلك الآية مباشرة وتأكيدا لنفي حالة الاستكبار عنهم :( يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ ) .

كما جاء في الآية (6) من سورة التحريم في وصف جمع من الملائكة :( لا يَعْصُونَ اللهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ ) .

ويستفاد من هذه الآية بوضوح أنّ علامة نفي الاستكبار شيئان :

أ ـ الشعور بالمسؤولية وإطاعة الأوامر الإلهية من دون أي اعتراض ، وهو وصف للحالة النفسية لغير المستكبرين.

ب ـ ممارسة الأوامر الإلهية بما ينبغي والعمل وفق القوانين المعدة لذلك

وهذا انعكاس للأول ، وهو التحقيق العيني له.

وممّا لا ريب فيه أنّ عبارة( مِنْ فَوْقِهِمْ ) ليست إشارة إلى العلو الحسي والمكاني ، بل المراد منها العلو المقامي ، لأنّ اللهعزوجل فوق كل شي مقاما.

كما نقرأ في الآية (61) من سورة الأنعام :( وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ ) ، وكذلك في الآية (127) من سورة الأعراف :( وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قاهِرُونَ ) حينما أراد فرعون أن يظهر قدرته وقوته!

* * *

__________________

(1) مجمع ذيل البيان ، ذيل الآية المبحوثة.

٢٠٩

الآيات

( وَقالَ اللهُ لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (51) وَلَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ واصِباً أَفَغَيْرَ اللهِ تَتَّقُونَ (52) وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ (53) ثُمَّ إِذا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (54) لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (55) )

التّفسير

دين حق ومعبود واحد :

تتناول هذه الآيات موضوع نفي الشرك تعقيبا لبحث التوحيد ومعرفة الله عن طريق نظام الخلق الذي ورد في الآيات السابقة ، لتتّضح الحقيقة من خلال المقارنة بين الموضوع ، ويبتدأ ب :( وَقالَ اللهُ لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ ) .

وتقديم كلمة «إيّاي» يراد بها الحصر كما في «إيّاك نعبد» أي : يجب الخوف

٢١٠

من عقابي لا غير.

ومن الملفت للنظر أنّ الآية أشارت إلى نفي وجود معبودين في حين أن المشركين كانوا يعبدون أصناما متعددة.

ويمكن أن يكون ذلك إشارة إلى إحدى النقاط التالية أو إلى جميعها :

1 ـ إنّ الآية نفت عبادة اثنين ، فكيف بالأكثر؟!

وبعبارة أخرى : إنّها بيّنت الحد الأدنى للمسألة ليتأكّد نفي الأكثر ، وأيّ عدد ننتخبه (أكثر من واحد) لا بدّ له أن يمر بالإثنين.

2 ـ كل ما يعبد من دون الله جمع في واحد ، فتقول الآية : أن لا تعبدوها مع الله ، ولا تعبدوا إلهين (الحق والباطل).

3 ـ كان العرب في الجاهلية قد انتخبوا معبودين :

الأوّل : خالق العالم ، أي اللهعزوجل وكانوا يؤمنون به.

والثّاني : الأصنام ، واعتبروها واسطة بينهم وبين الله ، واعتبروها كذلك منبعا للخير والبركة والنعمة.

4 ـ يمكن أن تكون الآية ناظرة إلى نفي عقيدة (الثنويين) القائلين بوجود إله للخير وآخر للشر ، ومع انتخابهم لأنفسهم هذا المنطق الضعيف الخاطئ ، إلّا إنّ عبدة الأصنام قد غالوا حتى في هذا المنطق وتجاوزوه لمجموعة من الآلهة!

وينقل المفسّر الكبير العلّامة الطبرسي في تفسير هذه الآية عبارة لطيفة نقلها عن بعض الحكماء : (نهاك ربك أن تتخذ إلهين فاتخذت آلهة ، عبدت : نفسك وهواك ، وطبعك ومرادك ، وعبدت الخلق فأنّى تكون موحدا).

ثمّ يوضح القرآن أدلة توحيد العبادة بأربعة بيانات ضمن ثلاث آيات فيقول أوّلا( وَلَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ) فهل ينبغي السجود للأصنام التي لا تملك شيئا ، أم لمن له ما في السموات والأرض؟

ثمّ يضيف :( وَلَهُ الدِّينُ واصِباً ) .

٢١١

فعند ما يثبت أن عالم الوجود منه ، وهو الذي أوجد جميع قوانينه التكوينية فينبغي أن تكون القوانين التشريعية من وضعه أيضا ، ولا تكون طاعة إلّا له سبحانه.

«واصب» : من «الوصوب» ، بمعنى الدوام. وفسّرها البعض بمعنى (الخالص) (ومن الطبيعي أن ما لم يكن خالصا لم يكن له الدوام. أما الذين اعتبروا «الدين» هنا بمعنى الطّاعة ، فقد فسّروا «واصبا» بمعنى الواجب ، أي : يجب إطاعة الله فقط.

ونقرأ في رواية عن الإمام الصادقعليه‌السلام أنّ شخصا سأله عن قول الله( وَلَهُ الدِّينُ واصِباً ) قال : «واجبا»(1) .

والواضح أنّ هذه المعاني متلازمة جميعها.

ثمّ يقول في نهاية الآية :( أَفَغَيْرَ اللهِ تَتَّقُونَ ) .

فهل يمكن للأصنام أن تصدّ عنكم المكروه أو أن تفيض عليكم نعمة حتى تتقوها وتواظبوا على عبادتها؟!

هذا( وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ ) .

فهذه الآية تحمل لبيان الثّالث بخصوص لزوم عبادة الله الواحد جلّ وعلا ، وأنّ عبادة الأصنام إن كانت شكرا على نعمة فهي ليست بمنعمة ، بل الكل بلا استثناء منّعمون في نعم الله تعالى ، وهو الأحق بالعبادة لا غيره.

وعلاوة على ذلك( ... ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ ) .

فإن كانت عبادتكم للأصنام دفعا للضر وحلا للمعضلات ، فهذا من الله وليس من غيره ، وهو ما تظهره ممارستكم عمليا حين إصابتكم بالضر ، فلمن تلتجئون؟ إنّكم تتركون كل شيء وتتجهون إلى الله.

وهذا البيان الرّابع حول مسألة التوحيد بالعبادة.

__________________

(1) تفسير البرهان ، ج 2 ، ص 373.

٢١٢

«تجئرون» : من مادة (الجؤار) على وزن (غبار) ، بمعنى صوت الحيوانات والوحوش الحاصل بلا اختيار عند الألم ، ثمّ استعملت كناية في كل الآهات غير الاختيارية الناتجة عن ضيق أو ألم.

إنّ اختيار هذه العبارة هنا إشارة إلى أنّه عند ما تتراكم عليكم الويلات ويحل بكم البلاء الشديد تطلقون حينها صرخات الإستغاثة اللااختيارية وأنتم بهذه الحال ، أتوجهون النداء لغيره سبحانه وتعالى؟! فلما ذا إذن في حياتكم الاعتيادية وعند ما تواجهون المشاكل اليسيرة تلتجئون إلى الأصنام؟!

نعم. فالله سبحانه يسمع نداءكم في كل الحالات ويغيثكم ويرفع عنكم البلاء( ثُمَّ إِذا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ ) بالعود إلى الأصنام!

وفي الحقيقة فالقرآن في الآية يشير إلى فطرة التوحيد في جميع الناس ، إلّا أنّ حجب الغفلة والغرور والجهل والتعصب والخرافات تغطيها في الأحوال الاعتيادية.

ولكن ، عند ما تهب عواصف البلاء تنقلع تلك الحجب فيظهر نور الفطرة براقا من جديد ليرى الناس لمن يتوجهون ، فيدعون الله مخلصين بكامل وجودهم ، فيرفع عنهم أغطية البلاء المتأتية من تلك الحجب ، (لاحظوا أنّ الآية قالت :( كَشَفَ الضُّرَّ ) أي : رفع أغطية البلاء).

ولكن عند ما تهدأ العاصفة ويرتفع البلاء وتعودون إلى شاطئ الأمان ، تعاودون من جديد على الغفلة والغرور ، وتظهرون الشرك بعبادتكم للأصنام مجددا!

وفي آخر آية (من الآيات مورد البحث) يأتي التهديد بعد إيضاح الحقيقة بالأدلة المنطقية :( لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ ) .

ويشبّه ذلك بتوجيه النصائح والإرشادات لمنحرف متخلف لا يفيد معه هذا الأسلوب المنطقي فيقطع معه الحديث باللين ليواجه بالتهديد عسى أن يرعوي

٢١٣

فيقال له : مع كل ما قلنا لك افعل ما شئت ولكن سترى نتيجة عملك عاجلا أم آجلا.

وعلى هذا فتكون اللام في «ليكفروا» يراد به التهديد ، وكذا «تمتعوا» أمر يراد به التهديد أيضا ، أمّا مجيء الفعل الأوّل بصيغة الغائب «ليكفروا» والثّاني بصيغة المخاطب «تمتعوا» ، فكأنه افترض غيابهم أوّلا فقال : ليذهبوا ويكفروا بهذه النعم ، وعند تهديدهم يلتفت إليهم ويقول : تمتعوا بهذه النعم الدنيوية قليلا فسيأتي اليوم الذي تدركون فيه عظم خطئكم وسترون عاقبة أعمالكم.

والآية (30) من سورة إبراهيم تشابه الآية المذكورة من حيث الغرض :( قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ ) (1)

* * *

__________________

(1) احتمل جمع من المفسّرين : أنّ «ليكفروا» غاية ونتيجة للشرك والكفر الذي نسب إليهم في الآية التي قبلها ، فيكون المعنى أنّهم بعد إنجائهم من الضر تركوا طريق التوحيد وساروا في طريق الشرك ليكفروا بنعم الله وينكرونها.

٢١٤

الآيات

( وَيَجْعَلُونَ لِما لا يَعْلَمُونَ نَصِيباً مِمَّا رَزَقْناهُمْ تَاللهِ لَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ (56) وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ سُبْحانَهُ وَلَهُمْ ما يَشْتَهُونَ (57) وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (58) يَتَوارى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ ما بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ أَلا ساءَ ما يَحْكُمُونَ (59) لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (60) )

التّفسير

عند ما كانت ولادة البنت عارا!

بعد أن عرضت الآيات السابقة بحوثا استدلالية في نفي الشرك وعبادة الأصنام ، تأتي هذه الآيات لتتناول قسما من بدع المشركين وصورا من عاداتهم القبيحة ، لتضيف دليلا آخرا على بطلان الشرك وعبادة الأصنام ، فتشير الآيات إلى ثلاثة أنواع من بدع وعادات المشركين:

٢١٥

وتقول أوّلا :( وَيَجْعَلُونَ لِما لا يَعْلَمُونَ نَصِيباً مِمَّا رَزَقْناهُمْ ) (1) .

وكان النصيب عبارة عن قسم من الإبل بقية من المواشي بالإضافة إلى قسم من المحاصيل الزراعية ، وهو ما تشير إليه الآية (136) من سورة الأنعام :( وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً فَقالُوا هذا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهذا لِشُرَكائِنا فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللهِ وَما كانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلى شُرَكائِهِمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ ) .

ثمّ يضيف القرآن الكريم قائلا :( تَاللهِ لَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ ) .

وسيكون بعد السؤال اعتراف لا مفر منه ثمّ الجزاء والعقاب ، وعليه فما تقومون به له ضرر مادي من خلال ما تعملونه بلا فائدة ، وله عقاب أخروي لأنّكم أسأتم الظن بالله واتجهتم إلى غيره.

أمّا البدعة الثّانية فكانت :( وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ سُبْحانَهُ ) من التجسم ومن هذه النسبة.( وَلَهُمْ ما يَشْتَهُونَ ) أي : إنّهم لم يكونوا ليقبلوا لأنفسهم ما نسبوا إلى الله ، ويعتبرون البنات عارا وسببا للشقاء!

وإكمالا للموضوع تشير الآية التالية إلى العادة القبيحة الثّالثة :( وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ ) .(2)

ولا ينتهي الأمر إلى هذا الحد بل( يَتَوارى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ ما بُشِّرَ بِهِ ) .

ولم ينته المطاف بعد ، ويغوص في فكر عميق :( أَيُمْسِكُهُ عَلى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي

__________________

(1) ذكر المفسرون رأيين في تفسير «ما لا يعلمون» وضميرها :

الأول : أن ضمير «لا يعلمون» يعود إلى المشركين أي أن المشركين يجعلون للأصنام نصيبا وهم لا يعلمون لها خيرا وشرا (وهذا ما انتخبناه من تفسير).

والثاني : إن الضمير يعود إلى نفس الأصنام ، أي يجعلون للأصنام نصيبا في حين أنها لا تدرك ، لا تعقل ، لا تعلم! والتفسير الثاني يظهر نوعا من التضاد بين عبارات الآية ، لأن «ما» تستعمل عادة لغير العاقل و «يعلمون» تستعمل للعاقل عادة.

أما في التفسير الأول فـ «ما» تعود على الأصنام و «يعلمون» على عبدتها.

(2) الكظيم : تطلق على الإنسان الممتلئ غضبا.

٢١٦

التُّرابِ ) .

وفي ذيل الآية ، يستنكر الباري حكمهم الظالم الشقي بقوله :( أَلا ساءَ ما يَحْكُمُونَ ) .

وأخيرا يشير تعالى إلى السبب الحقيقي وراء تلك التلوثات ، ألا هو عدم الإيمان بالآخرة :( لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) .

فكلّما اقترب الإنسان من العزيز الحكيم انعكس في روحه نور صفاته العليا من العلم والقدرة والحكمة وابتعد عن الخرافات والبدع والأفعال القبيحة.

وكلما ابتعد عنه تعالى غرق بقدر ذلك البعد في ظلمات الجهل والضعف والذلة والقبائح.

فالسبب الرئيسي لكل انحراف وقبح وخرافة هو الغفلة عن ذكر الله وعن محكمته العادلة في الآخرة ، أمّا ذكر الله والآخرة فدافع أصيل للإحساس بالمسؤولية ومحاربة الجهل والخرافة ، وعامل قدرة وقوة وعلم للإنسان.

* * *

بحوث

1 ـ لماذا اعتبروا الملائكة بناتا لله؟

تطالعنا الكثير من آيات القرآن الكريم بأنّ المشركين كانوا يقولون بأنّ الملائكة بنات الله جلّ وعلا ، أو أنّهم كانوا يعتبرون الملائكة إناثا دون نسبتها إلى الله

كما في الآية (19) من سورة الزخرف :( وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً ) ، وفي الآية (40) من سورة الإسراء :( أَفَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِناثاً ) .

٢١٧

يمكن أن تكون هذه الإعتقادات بقايا خرافات الأقوام السابقة التي وصلت عرب الجاهلية ، أو ربما يحصل هذا الوهم بسبب ستر الملائكة عنهم وحال الاستتار أكثر ما يختص بحال النساء ، ولهذا تعتبر العرب الشمس مؤنثا مجازيا والقمر مذكرا مجازيا أيضا ، على اعتبار أنّ قرص الشمس لا يمكن للناظر إليه أن يديم النظر لأنه يستر نفسه بقوة نوره ، أمّا قرص القمر فظاهر للعين ويسمح للنظر إليه مهما طالت المدّة.

وثمّة احتمال آخر يذهب إلى الكناية عن لطافة الملائكة ، والإناث أكثر من الذكور لطافة.

وعلى أية حال فهذه إحدى ترسبات الخرافات القديمة التي تكلست في مخيلة البشرية حتى وصلت للبعض ممن يعيش في يومنا هذا ، ولا تختص هذه الخرافة بقوم دون آخر لأنّنا نلاحظ وجودها في أدبيات عدد من لغات العالم! فنرى الأديب مثلا حينما يريد وصف جمال امرأة ينعتها بالملائكة ، وذاك الفنان الذي يريد أن يعبر عن الملائكة فيجعلها بهيئة النساء ، في حين أن الملائكة لا تملك جسما ماديا حتى يمكننا أن نصفه بالمذكر أو المؤنث.

2 ـ لما ذا شاع وأد البنات في الجاهلية؟

الوأد في واقعة أمر رهيب ، لأنّ الفاعل يقوم بسحق كل ما بين جوانحه من عطف ورحمة ، ليتمكن من قتل إنسان بريء ربّما هو من أقرب الأشياء إليه من نفسه!

والأقبح من ذلك افتخاره بعمله الشنيع هذا!

فأين الفخر من قتل إنسان ضعيف لا يقوى حتى للدفاع عن نفسه؟ بل كيف يدفن الإنسان فلذة كبده وهي حية؟!

وهذا ليس بالأمر الهيّن ، فأيّ إنسان ومهما بلغت به الوحشية لا يقدم على

٢١٨

هكذا جريمة بشعة من غير أن تكون لها مقدمات اجتماعية ونفسية واقتصادية عميقة الأثر والتأثير تدعوه لذلك

يقول المؤرخون : إنّ بداية وقوع هذا العمل القبيح كانت على أثر حرب جرت بين فريقين منهم في ذلك الوقت ، فأسر الغالب منهم نساء وبنات المغلوب ، وبعد مضي فترة من الزمن تمّ الصلح بينهم فأراد المغلوبون استرجاع أسراهم إلّا أنّ بعضا من الأسيرات ممن تزوجن من رجال القبيلة الغالبة اخترن البقاء مع الأعداء ورفضن الرجوع إلى قبيلتهن ، فصعب الأمر على آبائهن بعد أن أصبحوا محلا للوم والشماتة ، حتى أقسم بعضهم أن يقتل كل بنت تولد له كي لا تقع مستقبلا أسيرة بيد الأعداء!

ويلاحظ بوضوح ارتكاب أفظع جناية ترتكب تحت ذريعة الدفاع عن الشرف والناموس وحيثية العائلة الكاذبة فكانت النتيجة : ظهور بدعة وأد البنات القبيحة وانتشارها بين جمع منهم حتى أصبحت سنّة جاهلية ، ولفظاعتها فقد أنكرها القرآن الكريم بشدّة بقوله :( وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ ) (1) .

وثمّة احتمال آخر يذهب إلى دور الطبيعة الإنتاجية للأولاد الذكور ، والنزوع إلى الطبيعة الاستهلاكية عند الإناث ، وما له من أثر على الحياة الاجتماعية والاقتصادية ، فالولد الذكر بالنسبة لهم ذخر مهم ينفعهم في القتال والغارات وفي حفظ الماشية وما شابه ذلك من الفوائد ، في حين أنّ البنات لسن كذلك.

ومن جانب آخر فقد سببت الحروب والنزاعات القبلية قتل الكثير من الرجال والأولاد ممّا أدى لاختلال التوازن في نسبة الإناث إلى الذكور ، حتى وصل وجود الولد الذكر عزيزا ودفع الرجل لأن يتباهى بين قومه حين يولد له مولود ذكرا ، وينزعج ويتألم عند ولادة البنت ووصل حالهم لحد (كما يقول عنه

__________________

(1) سورة التكوير ، 9.

٢١٩

بعض المفسّرون) أنّ الرجل في الجاهلية يغيّب نفسه عن داره عند قرب وضع زوجته لئلا تأتيه بنت وهو في الدار! وإذا ما أخبروه بأنّ المولود ذكر فيرجع إلى بيته وبشائر الفرح تتعالى وجنتيه ، ولكنّ الويل كل الويل والثبور فيما لو أخبروه بأنّ المولود بنتا ويمتلئ غيظا وغضبا(1) .

وقصّة «الوأد» ملأى بالحوادث المؤلمة

منها : ما روي أنّ رجلا جاء إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأعلن إسلامه ، وجاءه يوما فسأله : إنّي أذنبت ذنبا عظيما فهل لي من توبة؟ فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إنّ الله تواب رحيم». قال : يا رسول الله إنّ ذنبي عظيم قال : «ويلك مهما كان ذنبك عظيما فعفو الله أعظم منه» ، قال : لقد سافرت في الجاهلية سفرا بعيدا وكانت زوجتي حبلى وعند ما عدت بعد أربع سنوات استقبلتني زوجتي فرأيت بنتا في الدار ، فقلت لها : ابنة من هذه؟ قالت : ابنة جازنا. فظننت أنّها سترحل عن دارنا بعد ساعة ، فلم تفعل ، ثمّ قلت لزوجتي:أصدقيني من هذه البنت؟ قالت : ألا تذكر أنّي كنت حاملة عند ما سافرت ، إنّها ابنتك. فنمت تلك الليلة مغتما ، أنام واستيقظ ، حتى اقترب وقت الصباح نهضت من فراشي وذهبت إلى فراش ابنتي فأخرجتها وأيقظتها وطلبت منها أن تصحبني إلى حائط النخل ، فتبعتني حتى اقتربنا من الحائط فأخذت بحفر حفيرة وهي تعينني على ذلك ، وعند ما انتهيت من ذلك وضعتها في وسط الحفرة وهنا فاضت عينا رسول الله بالدمع ثمّ وضعت يدي اليسرى على كتفها وأخذت أهيل التراب عليها بيدي اليمنى ، فأخذت تصرخ وتدافع بيديها ورجليها وتقول : أبي ما تصنع بي!؟ ثمّ أصاب لحيتي بعض التراب فرفعت يدها تمسحه عنها ، وأدمت ذلك حتى دفنتها.

__________________

(1) تفسير الفخر الرازي ، ج 20 ، ص 55.

٢٢٠

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

بحوث

١ ـ ماذا يعني مقام الربّ؟

قرانا في الآيات أعلاه انّ النصر على الظالمين واسكان الأرض للذين يخافون مقام ربّهم ، فما هو المقصود من «المقام»؟ هناك عدّة احتمالات :

الف : ـ المقصود هو مقام الربّ عند الحساب ، كما ذكرت بعض الآيات الاخرى( وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى ) ،(١) ( وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ ) (٢) .

باء : ـ المقام بمعنى القيام اي المراقبة ، ومعناه الشخص الذي يخاف من مراقبة الله له ، ويحسّ بالمسؤولية.

ج : ـ والمقام بمعنى «القيام لإجراء العدالة واحقاق الحقّ».

وعلى ايّة حال ، فلا مانع ان تكون الآية الشريفة متضمّنة لكلّ هذه المفاهيم ، فالذين يرون مراقبة الله لهم ، يخافون من حسابه واجراء عدالته ، خوفا بنّاء يجعلهم يحسّون بمسؤولياتهم في كلّ عمل يقومون به ، ويبعدهم عن الظلم والذنوب ، فالغلبة وحكومة الأرض من نصيبهم.

٢ ـ هناك جدل بين المفسّرين حول جملة «واستفتحوا» حيث اعتقد البعض بأنّها بمعنى طلب الفتح والنصر ، كما ذكرناه سابقا ، وشاهدهم الآية (١٩) من سورة الأنفال( إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ ) .

وقال بعض آخر : انّها بمعنى القضاء والحكومة ، يعني انّ الأنبياء طلبوا من الله ان يحكم بينهم وبين الكفّار ، وشاهدهم الآية (٨٩) من سورة الأعراف( رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ ) .

٣ ـ جاء في التأريخ والتّفسير انّ الوليد بن يزيد بن عبد الملك الحاكم الاموي

__________________

(١) النازعات ، ٤٠.

(٢) الرحمان ، ٤٦.

٤٨١

الجبّار تفألّ بالقرآن يوما لكي يرى حظّه في المستقبل ، فظهرت قوله تعالى( وَاسْتَفْتَحُوا وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ ) في بداية الصفحة ، فاستوحش وأخذته العصبية بحيث مزّق القرآن الكريم ثمّ انشد :

اتوعد كلّ جبّار عنيد؟

فها انا ذاك جبّار عنيد؟

إذا ما جئت ربّك يوم حشر

فقل يا ربّ مزّقني الوليد

ولكن لم يمض وقت طويل حتّى قتل اسوا قتلة من قبل أعدائه ، وقطعوا رأسه وعلّقوه فوق سطح قصره ، ومن ثمّ نقلوه الى باب المدينة(١) .

* * *

__________________

(١) تفسير القرطبي ، ص ٣٥٧٩.

٤٨٢

الآية

( مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلى شَيْءٍ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ (١٨) )

التّفسير

رماد اشتدّت به الريح :

ضربت هذه الآية مثالا واضحا وبليغا لاعمال الكفّار ، وبذلك تكمل بحث الآيات السابقة في مجال عاقبة أمرهم.

يقول تعالى :( مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عاصِفٍ ) فيتناثر الرماد في الريح العاصف بحيث لا يستطيع احد جمعه ، كذلك منكرو الحقّ ليست باستطاعتهم ان يجمعوا ما كسبوا( لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلى شَيْءٍ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ ) .

* * *

٤٨٣

بحوث

١ ـ لماذا شبّهت اعمالهم كرماد اشتدّت به الريح؟

الجواب :

١ ـ التشبيه بالرماد (مع إمكان الاستفادة من التراب والغبار في ذلك) لانّه عبارة عن بقايا الاحتراق ، والآية توضّح انّ اعمالهم ظاهرية فقط وليس لها اي محتوى ، فيمكن ان تنمو وردة جميلة في حفنة من التراب ، ولكن لا يمكن ان ينمو في الرماد حتّى العلف الرّديء.

٢ ـ ان ذرّات الرماد غير متلاصقة ، وحتّى بمساعدة الماء لا يمكن ترابطها فالذرّات تنفصل عن بعضها البعض بسرعة ، وكأنّ ذلك يشير الى انّ اعمال الكفّار غير منسجمة ولا موحّدة ، على العكس من اعمال المؤمنين حيث نراها منسجمة وموحّدة ومترابطة وكلّ عمل يكمل العمل الآخر ، فروح التوحيد والوحدة لا تقتصر على توحيد الجماعة المؤمنة في ما بينهم بل تنعكس حتّى في اعمال الفرد المسلم.

٣ ـ بالرغم من تناثر الرماد في اشتداد الريح ، الّا انّه يؤكّده في يوم عاصف ، لانّ الرياح إذا كانت محدودة وآنيّة فمن الممكن ان ينتقل الرماد من مكان الى مكان ليس بالبعيد ، ولكن إذا كان يوم عاصف فمن البديهي ان يتناثر الرماد بشكل واسع ، وتنتشر ذرّاته ولا يمكن لايّة قدرة جمعها.

٤ ـ إذا كانت العاصفة تهبّ على التبن وأوراق الشجر وتنتثرها في أماكن بعيدة الّا انّه يمكن تشخيصها ، ولكن ذرّات الرماد من الصغر بحيث لو انتثرت لا يبقى لها اي اثر وكأنّ ليس لها وجود سابق.

٥ ـ انّ الرياح وحتّى العواصف لها فوائد جمّة في الطبيعة بغضّ النظر عن آثارها المدمّرة في بعض الأحيان ، وفوائدها هي :

الف : ـ تقوم بنشر بذور النباتات في كلّ مكان من الكرة الارضيّة ، كالمزارع

٤٨٤

والفلاح.

ب : ـ تلقّح الأشجار بنقل حبوب اللقاح من الذكور الى الإناث.

ج : ـ تقوم بتحريك السحاب من المحيطات الى الاراضي اليابسة.

د : ـ تحكّ الجبال العالية وتحوّلها الى تراب ناعم ومفيد.

ه : ـ تنقل الهواء من المناطق القطبية الى المناطق الاستوائية وبالعكس ، حيث تقوم بدور فعّال في تعديل درجات الحرارة.

و: ـ انّ حركة الرياح تثير البحار فتجعلها متلاطمة وموّاجة كي يدخل فيها الهواء ، لانّها إذا ركدت سوف تتعفّن ، وهكذا نجد انّ كلّ ما في الوجود من الأشجار والكائنات الحيّة قد استفاد من هبوب الرياح كلّ على قدره.

ولكن «الرماد» الخفيف الوزن والتافه وعديم الفائدة والذي لا يمكن لاي موجود ان يعيش فيه ، هذا الرماد المتناثر يتلاشى بسرعة حينما تهبّ الريح عليه ، ويزول حتّى ظاهره غير المفيد.

٢ ـ لماذا فرغت اعمالهم من المحتوى؟

يجب ان نرى لماذا كانت اعمال الكفّار غير ذات قيمة وغير ثابتة؟ ولماذا لا يستطيع الكفّار الاستفادة من نتائج اعمالهم؟

ويتّضح الجواب على هذا السؤال لو درسنا المسألة من ناحية النظرة التوحيديّة للعالم ، لانّ النيّة والهدف والمنهجية هي التي تعطي للعمل شكله ومضمونه ، فإذا كانت الخطّة والنيّة والغاية سالمة وجديرة بالاهتمام فسوف يكون العمل كذلك ، ولكن لو قمنا بأحسن الأعمال بنيّة غير صادقة وخطّة سقيمة وهدف شيطاني ، فإنّ ذلك العمل يكون ممسوخا ويفقد محتواه ويزول كليّا كالرماد إذا اشتدّت به الريح!

ولا بأس هنا ان نذكر مثالا حيّا لذلك ، نشاهد الآن برامجا تحت عنوان

٤٨٥

حقوق الإنسان في العالم الغربي ومن قبل القوى المستكبرة ، هذه البرامج نفسها كانت تجري من قبل الأنبياء ايضا ، ولكن حصيلة الاثنين متفاوتة كما بين الأرض والسّماء. فالقوى الاستكبارية عند ما تنادي بحقوق الإنسان فمن المسلّم انّ اهدافها غير انسانية وغير أخلاقية ، بل التغطية على جرائمهم واستعمارهم بشكل اكثر ، لذلك وعلى سبيل المثال لو اعتقل احد جواسيسهم في مكان ما ، فسوف يملا عويلهم وصراخهم الدنيا بالدفاع ، عن حقوق الإنسان ، ولكن عند ما تلطّخت أيديهم بدماء آلاف الناس في فيتنام ، وارتكبوا الفجائع في الدول الاسلامية ، ونسيت فيه حقوق الإنسان ، بل انّهم استغلّوا حقوق الإنسان لمساعدة الانظمة الجائرة والعميلة!

ولكن الأنبياءعليهم‌السلام او أوصياءهم ينادون بحقوق البشر لتحرير الإنسان من القيود والأغلال والظلم ، وعند ما يرون إنسانا مظلوما نراهم يهبون للدفاع عنه بالقول والعمل.

وبهذا النحو يكون الاوّل رماد اشتدّت به الريح ، والثّاني ارض مباركة طيّبة لنمو النباتات والثمار والأوراد.

ويتّضح من هنا ما دار بين المفسّرين من المقصود من العمل في الآية أعلاه ، وهو انّ مراد الآية جميع اعمال الكفّار حتّى اعمالهم الحسنة في الظاهر ، الّا انّها مبطّنة بالشرك والإلحاد.

٣ ـ مسألة الإحباط

هناك جدل كبير بين علماء المسلمين في مسألة «حبط الأعمال» فهل معناه ذهاب عمل الخير بسبب عمل الشرّ ، او بسبب الكفر وعدم الايمان ، ولكن الحقّ ما قلناه في ذيل الآية (٢١٧) من سورة البقرة ، من انّ الإصرار على الكفر والعناد وايضا بعض الأعمال الاخرى كالحسد والغيبة وقتل النفس لها آثار سيّئة كبيرة

٤٨٦

بحيث تذهب بأعمال الخير والحسنات.

والآية أعلاه دليل آخر في إمكان حبط الأعمال(١) .

٤ ـ هل للمخترعين والمكتشفين ثواب الهي؟

بالنظر للبحوث الآنفة الذكر يرد سؤال مهمّ ، وهو انّنا من خلال مطالعتنا في تأريخ العلوم والاختراعات والاكتشافات نرى انّ هناك مجموعة من العلماء استطاعوا ان يقدّموا خدمات جليلة للبشرية وتحمّلوا في سبيل خدمة البشرية منتهى الشدّة والصعوبة ليقدّموا اختراعاتهم واكتشافاتهم للناس ، فعلى سبيل المثال مخترع الكهرباء «اديسون» تحمّل الصعاب ويقال فقد حياته في هذا الطريق لكنّه أضاء العالم ، وحرّك المعامل ، وببركة اختراعه وجدت الآبار العميقة حيث اخضّرت الأرض وتغيّرت الدنيا. و «باستور» الذي اكتشف المكروب ، وأنقذ ملايين الناس من الموت المحتوم فهؤلاء وعشرات مثلهم كيف يجعلهم الله في جهنّم لكونهم غير مؤمنين؟ مع انّ هناك افرادا لم يقدّموا ايّة خدمة للانسانية طول حياتهم ، ويدخلون الجنّة!

الجواب : انّ العمل في حدّ ذاته ليس كافيا من وجهة نظر العقيدة الاسلامية ، بل قيمته في النيّة والقوى المحرّكة له ، فكثيرا ما نشاهد من اعمال الخير كبناء مدرسة او مستشفى او اي عمل آخر وهدف صاحبه في الظاهر هو خدمة المجتمع الانساني ، الّا انّه تحت هذا الغطاء شيء آخر وذاك هو حفظ جاهه او ماله او جلب انظار الناس اليه ، وتحكيم منافعه المادية ، او حتّى ستر خيانته بعيدا عن انظار الآخرين!

وعلى العكس ، فمن الممكن ان يعمل شخص عملا صغيرا ، الّا انّه مخلص في نيّته صادق ، والآن يجب ان نحقّق في ملفات هؤلاء الرجال العظام من وجهة

__________________

(١) للاطلاع اكثر راجع تفسير الآية (٢١٧) من سورة البقرة من تفسيرنا هذا.

٤٨٧

نظر عملهم وكذلك الأسباب والدوافع ، وهي لا تخرج من احد امور :

الف : ـ يكون الهدف من الاختراع أحيانا عملا تخريبيّا (كما في اكتشاف الطاقة النووية حيث كان الهدف الاوّل منها صناعة القنابل النووية) ويمكن الاستفادة منها لخدمة الإنسان ، الّا انّه لم يكن الهدف الاصلي من اختراعها ، فقيمة عمل هذه المجموعة من المخترعين واضح تماما.

ب : ـ وقد يكون هدف المخترع او المكتشف الربح المادّي او الشهرة ، فحكمه ـ في الحقيقة ـ حكم التاجر الذي يقوم بتأسيس الخدمات العامّة لكي يحصل على أرباح اكثر ، ويقوم بتشغيل العمّال وانتاج المحاصيل الزراعية للبلد ، فالهدف من كلّ ذلك هو الحصول على اكبر وارد ممكن ، ولو كان هناك عمل اكثر ربحا لركض وراءه.

بالطبع فإنّ هذه التجارة لو كانت طبقا للموازين الشرعيّة ، فإنّها ليست حراما ، الّا انّها لا تحتسب عملا مقدّسا ومهمّا.

ومثل هؤلاء المخترعين والمكتشفين ليسوا قليلين على طول التاريخ ، فطريقة تفكيرهم ان يقدّموا العمل الأكثر ربحا ـ حتّى لو كان مضرّا بالمجتمع ـ (فمثلا صناعة الادوية لها من الفوائد ٢٠ خ بينما في صناعة الهيروئين ٥٠ خ فهم يرجّحون الثّاني على الاوّل) فحكم هذه المجموعة واضح ايضا ، حيث لم يطلبوا من الله ولا من الناس اي شيء وجزاؤهم الربح والشهرة فقط.

ج : ـ هناك مجموعة ثالثة لا شكّ في انّ دوافعها انسانية ، او الهيّة إذا كانت الجماعة مؤمنة ، وأحيانا يمضون سنين طويلة في زوايا المختبرات بكامل الفاقة والحرمان على امل ان يقدّموا خدمة لبني جنسهم ، او هديّة للعالم ، ليحلّوا أغلال المتعبين ، ويمسحوا التراب من وجوب المعذّبين. فإذا كان هؤلاء الافراد مؤمنين ودوافعهم الهيّة فمصيرهم واضح.

وامّا إذا كانوا غير مؤمنين ودوافعهم انسانيّة ، فسوف يحصلون على الجزاء

٤٨٨

المناسب من الله بلا ادنى شكّ ، هذا الجزاء يمكن ان يكون في الدنيا او الآخرة ، فاللهعزوجل عالم وعادل لا يحرمهم من ذلك ، ولكن كيف؟ تفاصيله غير واضحة لنا ، ويمكن ان نقول : (انّ الله لا يضيع اجر هؤلاء المحسنين فيما إذا كانوا غير مقصّرين لعدم ايمانهم).

وليس عندنا اي دليل من انّ الآية( إِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ) لا تشمل هؤلاء الافراد ، فإطلاق المحسنين في القرآن ليس خاصّا بالمؤمنين فقط ، ولذلك نرى انّ اخوة يوسف لما حضروا عنده وهم لا يعرفوه ويظنّون انّه عزيز مصر قالوا :( إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ) .(١)

وكذلك الآية( فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ ) تشمل هؤلاء الافراد.

عن علي بن يقطين عن الامام الكاظمعليه‌السلام قال : «كان في بني إسرائيل رجل مؤمن وجاره كافر ، وكان هذا الجار الكافر يحسن الى جاره المؤمن ، فعند ما ارتحل من الدنيا بنى له الله بيتا يمنعه من نار جهنّم. وقيل له : انّ هذا بسبب حسن سيرتك مع جارك المؤمن»(٢) .

وعن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «انّ ابن جدعان اقلّ اهل جهنّم عذابا» قالوا : لماذا يا رسول الله؟ قال «انّه كان يطعم الطعام» وعبد الله بن جدعان احد مشركي مكّة المعروفين ومن زعماء قريش(٣) .

وعن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال لعدي بن حاتم الطائي «رفع عن أبيك العذاب الشديد بسخاء نفسه»(٤) .

وعن الامام الصادقعليه‌السلام قال : «أتى رسول الله وفد من اليمن وكان فيهم رجل

__________________

(١) يوسف ، ٩٠.

(٢) البحار ، ج ٣ ، مطبعة كمباني ص ٣٧٧.

(٣) المصدر السابق ، ص ٣٨٢.

(٤) البحار ، ج ٢ ، ص ٦٠٧.

٤٨٩

أعظمهم كلاما واشدّهم في محاجة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فغضب النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتّى التوى عرق الغضب بين عينيه ، وتغيّر وجهه واطرق الى الأرض فأتاه جبرئيل فقال : ربّك يقرئك السّلام ويقول لك : هذا رجل سخي يطعم الطعام ، فسكن عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الغضب ورفع رأسه وقال : لولا انّ جبرئيل اخبرني عن اللهعزوجل انّك سخي تطعم الطعام ، لشدوت بك وجعلتك حديثا لمن خلفك ، فقال له الرجل : وانّ ربّك ليحبّ السخاء؟ فقال : نعم ، قال : انّي اشهد ان لا اله الّا الله وانّك رسول الله والذي بعثك بالحقّ لا رددت عن مالي أحدا»(١) .

وهنا يأتي هذا السؤال والذي يمكن ان نستفيده من بعض الآيات وكثير من الرّوايات ، وهو : هل انّ الايمان والولاية شرط لقبول الأعمال والدخول الى الجنّة؟ فإذا كان كذلك فإنّ أفضل اعمال الكفّار ليس مقبولا عند الله.

ويمكن ان نجيب على هذا السؤال بأنّ مسألة «قبول الأعمال» شيء ، و «الجزاء المناسب» شيء آخر ، فمثلا المشهور بين علماء المسلمين انّ الصلاة بدون حضور القلب او مع ارتكاب بعض الذنوب كالغيبة غير مقبولة عند الله ، ونحن نعلم انّ مثل هذه الصلوات صحيحة شرعا ، وتحتسب طاعة لاوامر الله وتفرغ بها ذمّة المصلّي والطاعة لا تكون بدون اجر. ولذلك فقبول العمل هو الدرجة العالية للعمل ، ونحن نقول هذا ايضا : إذا كانت الخدمات الانسانية مصاحبة للايمان فلها أعلى المضامين ، ولكن في غير هذه الصورة لا تكون بدون مضمون وجزاء ، وجزاء العمل لا ينحصر بدخول الجنّة. (هذه عصارة الفكرة بما يتناسب وهذا التّفسير ، وتفصيل ذلك في الأبحاث الفقهيّة).

* * *

__________________

(١) البحار ، ج ٢.

٤٩٠

الآيتان

( أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (١٩) وَما ذلِكَ عَلَى اللهِ بِعَزِيزٍ (٢٠) )

التّفسير

الخلق على أساس الحقّ :

بعد ما بحثنا عن الباطل وانّه كالرماد المتناثر إذا اشتدّت به الريح ، نبحث في هذه الآية عن الحقّ واستقراره. يقول الله تعالى مخاطبا النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم باعتباره الاسوة لكلّ دعاة الحقّ( أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِ ) .

«الحقّ» كما يقول الراغب في مفرداته «المطابقة والتنسيق» وله استعمالات اخرى : فتارة يستعمل الحقّ في العمل الصادر وفقا للحكمة والنظام كما في قوله تعالى :( هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً ما خَلَقَ اللهُ ذلِكَ إِلَّا بِالْحَقِ ) .(١)

وتارة يطلق على الشخص الذي قام بهذا العمل المحكم ، كما نطلقها على الله

__________________

(١) يونس ، ٥.

٤٩١

عزوجل ( فَذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمُ الْحَقُ ) .(١)

وتارة اخرى يطلق على الاعتقاد الذي يطابق الواقع كما في قوله تعالى :( فَهَدَى اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِ ) .(٢)

ومرّة يقال للقول والعمل الذي يتحقّق في الوقت المناسب كما في قوله تعالى :( حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ ) .(٣)

وعلى ايّة الحال فمقابل «الحقّ» الباطل والضلال واللعب وأمثالهما.

لكنّ الآية التي نحن بصددها تشير الى المعنى الاوّل ، وهو إنشاء عالم الخلق. حيث توضّح السّماء والأرض انّ في الهدف من خلقها الحكمة والنظام والحساب. فالله تعالى ليس محتاجا في خلقها ولا ناقصا لكي يسدّ نقصه بها ، بل هو الغني عن كلّ شيء ، وهذا العالم الواسع دار لنمو المخلوقات وتكاملها.

ثمّ يضيف : انّ الدليل في عدم الحاجة إليكم ولا الى ايمانكم هو :( إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ ) .

وهذا العمل ليس صعبا عند الله( وَما ذلِكَ عَلَى اللهِ بِعَزِيزٍ ) .

والشاهد على هذا القول في سورة النساء( وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكانَ اللهُ غَنِيًّا حَمِيداً إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكانَ اللهُ عَلى ذلِكَ قَدِيراً ) .(٤) وهذا التّفسير بخصوص الآية أعلاه منقول عن ابن عبّاس.

وهناك احتمال آخر ، وهو انّ الجملة أعلاه تشير الى مسألة المعاد وانّ الله قادرا على ان يفني جميع الناس ويأت بخلق آخر ، فهل تشكّون في مسألة المعاد وبعثكم من جديد؟

* * *

__________________

(١) يونس ، ٣٢.

(٢) البقرة ، ٢١٣.

(٣) السجدة ، ١٣.

(٤) النساء ، ١٣١ الى ١٣٣.

٤٩٢

الآيات

( وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً فَقالَ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذابِ اللهِ مِنْ شَيْءٍ قالُوا لَوْ هَدانَا اللهُ لَهَدَيْناكُمْ سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا ما لَنا مِنْ مَحِيصٍ (٢١) وَقالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلاَّ أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ ما أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٢٢) وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ (٢٣) )

التّفسير

المحادثة الصريحة بين الشيطان واتباعه :

اشارت الآيات السابقة الى العقاب الشديد للمخالفين والمعاندين

٤٩٣

والكافرين ، وهذه الآيات تكمل ذاك البحث.

يقول تعالى اوّلا :( وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً ) (١) .

وفي هذه الأثناء يقول الضعفاء الذين تاهوا في وادي الضلالة للمستكبرين الذين كانوا سبب ضلالهم( فَقالَ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذابِ اللهِ مِنْ شَيْءٍ ) فيجيبونهم بدون توقّف( قالُوا لَوْ هَدانَا اللهُ لَهَدَيْناكُمْ ) .

ولكن للأسف فالمسألة منتهية( سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا ما لَنا مِنْ مَحِيصٍ ) .

* * *

ملاحظات

١ ـ ما هو المراد من( وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً ) ؟

أوّل سؤال يطرح بخصوص هذه الآية هو : هل أنّ الناس في هذه الدنيا غير ظاهرين في علم الله لكي تقول الآية :( وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً ) ؟

في الجواب على هذا السؤال قال كثير من المفسّرين : انّ المقصود عدم احساس الناس بهذا الظهور والبروز امام الله في هذه الدنيا ، فيكون احساسهم ظاهرا لهم في الآخرة.

وقال بعض ايضا : المقصود هو البروز والظهور من القبور في ساحة العدل الالهي للحساب.

هذان التّفسيران جيدان وليس هناك مانع من ان تجمعا في مفهوم الآية.

__________________

(١) يجب الانتباه الى انّ «برزوا» فعل ماضي ، الّا انّه جاء هنا بصيغة المستقبل ، لانّ المسائل المتعلّقة بالقيامة قطعيّة وغير قابلة للنقاش ، ولذلك وردت في كثير من الآيات بصيغة الماضي.

٤٩٤

٢ ـ ما هو المقصود من جملة( لَوْ هَدانَا اللهُ لَهَدَيْناكُمْ ) ؟

يعتقد كثير من المفسّرين انّ المقصود الهداية عن طريق النجاة من العقاب الالهي في ذلك العالم ، لانّ هذا الحديث قاله المستكبرون لاتباعهم حينما طلبوا منهم ان يغنوا عنهم قسما من العذاب ، فالسؤال والجواب متناسبان ويوحيان انّ المقصود هو هدايتهم للنجاة من العذاب.

وقد استخدم القرآن هذه الكلمة «الهداية» بخصوص الوصول الى نعم الجنّة ، كما يقول اهل الجنّة :( وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْ لا أَنْ هَدانَا اللهُ ) .(١)

وهناك احتمال انّ «قادة الضلالة» حينما يرون أنفسهم امام طلب اتباعهم ، ولكي يتنصّلوا من الذنب ويلقوا باللائمة على الغير ، كما هي طريقة كلّ المستكبرين ـ يقولون بكلّ وقاحة : ماذا نعمل؟ فلو كان الله قد هدانا الى الطريق الصحيح لهديناكم اليه! ومعناه انّنا مجبورون على ذلك وليست لنا ارادة حرّة.

وهذا هو منطق الشيطان بعينه ، او ليس هو القائل( فَبِما أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ) ؟ ولكن يجب ان يعلم المستكبرون انّهم يتحمّلون مسئولية ذنوب اتباعهم شاؤوا ام أبوا ، طبقا لصريح القرآن والرّوايات ، لانّهم المؤسّسون للانحراف والضلال دون ان ينقص اي شيء من عذاب اتباعهم.

٣ ـ أوضح بيان في ذمّ التقليد الأعمى

يتّضح لنا من الآية أعلاه ما يلي :

اوّلا : الأشخاص الذين يضعون زمام أمورهم بيد الآخرين هم ضعفاء الشخصيّة ، وقد عبّر عنهم القرآن الكريم ب( الضُّعَفاءُ ) .

ثانيا : انّ مصيرهم ومصير قادتهم واحد ، وهؤلاء البؤساء لا يستطيعون حتّى في احلك الظروف ان يستفيدوا من حماية قادتهم المضلّين ، او ان يخفّفوا عنهم

__________________

(١) الأعراف ، ٤٣.

٤٩٥

قليلا من العذاب ، بل يسخرون منهم ويقولون لهم : لا تجزعوا ولا تفزعوا فلا طريق للخلاص والنجاة من العذاب!

ثالثا : «برزوا» في الأصل من مادّة «البروز» اي الظهور او الخروج من الصفّ في مقابل الخصم في ساحة القتال ، وتأتي ايضا بمعنى المقاتلة.

«المحيص» من «المحص» بمعنى التخلّص من العيوب او الألم.

ثمّ يشير القرآن الكريم الى موقف آخر من مواقف القيامة والعقاب النفسي للجبّارين والمذنبين واتباعهم الشياطين ، حيث يقول تعالى :( وَقالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ ) وبهذا الترتيب فالشيطان وجميع المستكبرين الذين هم قادة طرق الضلال ، أصبحوا يلومون ويوبّخون تابعيهم البؤساء.

ثمّ يضيف( وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي ) ويستمرّ في القول( فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ ) .

أنتم فعلتم فاللعنة عليكم!!

وعلى كلّ حال فلا انا أستطيع انقاذكم من العذاب ولا أنتم تستطيعون انقاذي :( ما أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَ ) والآن أعلمكم بأنّي أتبرّأ من شرككم وإطاعتكم لي( إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ ) فقد فهمت الآن انّ الشرك في الطاعة ادّى الى شقائي وشقائكم ، وهذه التعاسة ليس لها طريق للنجاة ، واعلموا( إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ ) .

* * *

بحوث

١ ـ جواب الشيطان الحاسم لاتباعه

مع انّ كلمة «الشيطان»(١) لها مفهوم واسع وتشمل كلّ الطواغيت ووساوس

__________________

(١) للتوضيح اكثر في معنى الشيطان في القرآن راجع تفسير الآية ٣٦ من سورة البقرة من تفسيرنا هذا.

٤٩٦

الجنّ والانس ، ولكن في قراءتنا لهذه الآية وما قبلها علمنا انّ المقصود هنا هو شخص إبليس الذي يعتبر رئيسا للشياطين ، ولذلك انتخب جميع المفسّرين هذا التّفسير ايضا.

ونستفيد بشكل اكيد من هذه الآية انّ وساوس الشيطان لا تسلب الإنسان اختياره وحرية ارادته ، بل هي مجرّد دعوة ليس اكثر ، فالناس هم الذين يلبّون دعوته بإرادتهم ، وقد تصل الارضيّة السابقة والدوام على الخلاف بالإنسان الى حالة من سلب الاختيار في مقابل وساوسه ، كما نشاهد بعض المدمنين على المخدرات ، ولكن نعلم انّ السبب الاوّل كان هو الاختيار. يقول تعالى في الآية (١٠٠) من سورة النحل :( إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ ) .

وعلى هذا فالشيطان يجيب بشكل قاطع على الذين يعتبرونه العامل الاوّل في انحرافهم وضلالهم ، وما يقوله بعض الجهلاء لتبرئتهم من ذنوبهم ، فإنّ السلطان الحقيقي على الإنسان هو ارادته وعمله ولا شيء غيره.

٢ ـ كيف استطاع الشيطان ان يلتقي باتّباعه ويلومهم في ذاك الموقف الكبير؟

الجواب : هو انّ الله تعالى يمنحه القدرة على ذلك ، وهذا في الواقع نوع من العقاب النفسي لاتباع الشيطان ، وإنذار لكلّ السائرين في طريقه في هذه الدنيا ، لكي يعلموا من الآن مصيرهم ومصير قادتهم ، وعلى ايّة حال فالله تعالى بطريقة ما يهيئ وسيلة الارتباط بين الشيطان واتباعه.

ومن الطّريف انّ هذه المواجهة غير منحصرة بالشيطان واتباعه ، بل انّ جميع ائمّة الضلالة في هذا العالم لهم نفس البرنامج ايضا ، يأخذون بأيدي اتباعهم (بموافقتهم طبعا) ويذهبون بهم الى أمواج العذاب والبلاء ، وحينما يرون الأوضاع سيّئة يتركونهم وشأنهم حتّى انّهم يلومونهم ويوبّخونهم في خسران

٤٩٧

الدنيا والآخرة.

٣ ـ «المصرخ» من مادّة «اصراخ» وفي الأصل من مادّة «صرخ» ، وهي بمعنى الاغاثة وطلب المساعدة ، ولذلك فالمصرخ بمعنى المغيث ، والمستصرخ طالب الاستغاثة.

٤ ـ القصد من اتّخاذ الكفّار الشيطان شريكا في الآية أعلاه شرك الطاعة وليس شرك العبادة.

٥ ـ في انّ جملة( إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ ) تابعة لحديث الشيطان ام كلام مستقل من الله تعالى ، هناك آراء مختلفة عند المفسّرين ، لكن التّفسير الأقرب هو انّ الجملة مستقلّة ومن كلام الله حيث قالها في نهاية حديث الشيطان مع اتباعه لتكون درسا تربويّا.

وبعد بيان حال الجبّارين والظالمين ومصيرهم المؤلم ، تتطرّق الآية الاخيرة من هذا البحث الى حال المؤمنين وعاقبتهم حيث يقول تعالى :( وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ) الى آخر الآية.

«التحيّة» في الأصل «الحياة» وتستعمل لسلامة وحياة الافراد ، وتطلق لكلّ تحيّة وسلام ودعاء في بداية اللقاء.

قال بعض المفسّرين : «التحية» هنا من الله للمؤمنين قرينة على نعمهم وسلامتهم من كلّ أذى ونزاع (لذلك فتحيّتهم اضافة لمفعول ، وفاعله الله).

وقال البعض الآخر : انّ القصد هو تحيّة المؤمنين فيما بينهم ، او تحيّة الملائكة لهم ، وعلى ايّة حال فـ «سلام» التي قيلت بشكل مطلق لها من المفهوم الواسع بحيث يشمل كلّ سلامة من اي نوع من انواع العذاب الروحي والجسمي(١) .

* * *

__________________

(١) بحثنا هذا الموضوع «السّلام والتحيّة» في المجلد الثّاني ، ذيل الآية (٨٦) : من سورة النساء من تفسيرنا هذا.

٤٩٨

الآيات

( أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُها ثابِتٌ وَفَرْعُها فِي السَّماءِ (٢٤) تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها وَيَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٢٥) وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ ما لَها مِنْ قَرارٍ (٢٦) يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللهُ ما يَشاءُ (٢٧) )

التّفسير

الشّجرة الطيّبة والشّجرة الخبيثة!

هنا مشهد آخر في تجسيم الحقّ والباطل ، الكفر والايمان ، الطيّب والخبيث ضمن مثال واحد جميل وعميق المعنى يكمل البحوث السابقة في هذا الباب.

يقول تعالى اوّلا :( أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ ) ثمّ يشير الى خصائص هذه الشجرة الطيّبة في جميع ابعادها ضمن عبارات قصيرة.

ولكن قبل ان نستعرض هذه الخصائص يجب ان نعرف ما المقصود من

٤٩٩

«الكلمة الطيّبة»؟

قال بعض المفسّرين : انّها كلمة التوحيد (لا اله الّا الله).

وقال آخرون : انّها تشير الى الأوامر الالهيّة.

وقال البعض الآخر : انّه الايمان الذي محتواه ومفهومه (لا اله الّا الله).

وقال آخرون في تفسيرها : انّها شخص المؤمن.

وأخيرا قال بعضهم : انّها الطريقة والبرامج العمليّة.

ولكن بالنظر الى سعة مفهوم ومحتوى الكلمة الطيّبة نستطيع ان نقول : انّها تشمل جميع هذه الأقوال ، لانّ «الكلمة» في معناها الواسع تشمل جميع الموجودات ، ولهذا السبب يقال للمخلوقات «كلمة الله».

و «الطيّب» كلّ طاهر ونظيف ، فالنتيجة من هذا المثال انّه يشمل كلّ سنّة ودستور وبرنامج وطريقة ، وكلّ عمل ، وكلّ انسان والخلاصة : كلّ موجود طاهر ونظيف وذي بركة ، وجميعها كشجرة طيّبة فيها الخصائص التالية :

١ ـ كائن يمتلك الحركة والنمو ، وليس جامدا ولا خاملا ، بل ثابت وفاعل ومبدع للآخرين ولنفسه (التعبير بـ «الشجرة» بيان لهذه الحقيقة).

٢ ـ هذه الشجرة طيّبة ، ولكن من ايّة جهة؟ بما انّه لم يذكر لها قسم خاص بها ، فإنّها طيّبة من كلّ جهة منظرها ، ثمارها ، ازهارها ، ظلالها ، ونسيمها جميعها طيب وطاهر.

٣ ـ لهذه الشجرة نظام دقيق ، لها جذور وأغصان ، وكلّ واحد له وظيفته الخاصّة ، فوجود الأصل والفرع فيها دليل على سيادة النظام الدقيق عليها.

٤ ـ أصلها ثابت محكم بشكل لا يمكن ان يقلعها الطوفان ولا العواصف.

وباستطاعتها ان تحفظ أغصانها العالية في الفضاء وتحت نور الشمس ، لانّ الغصن كلّما كان عاليا يحتاج الى جذور قوّية( أَصْلُها ثابِتٌ ) .

٥ ـ انّ أغصان هذه الشجرة الطيّبة ليست في محيط ضيّق ولا رديء ، بل

٥٠٠

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572