الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٧

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل10%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 572

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 572 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 287932 / تحميل: 5234
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٧

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

قول الله أصدق مِن قولك

زرارة قال: دخلت أنا وحمران على أبي جعفر الباقر (عليه السلام)، فقلت له: مَن وافقنا مِن علويٍّ أو غيره تولَّيناه، ومَن خالفنا مِن علويٍّ أو غيره برِئنا منه.

فقال لي: (يا زرارة، قول الله أصدق مِن قولك، فأين الذين قال الله عَزَّ وجَلَّ: ( إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيل ) (1).

أين المُرجَون لأمر الله؟!

أين الذين خلطوا عَملاً صالحاً وآخر سيِّئاً؟!

أين أصحاب الأعراف؟!

أين المُؤلَّفة قلوبهم؟!) (2) .

____________________

(1) النساء: 98.

(2) المعاد، ج1.

١٠١

...............................

إنَّ سعد بن عبادة قال: إنَّ بَكراً أخا بني ساعدة، توفِّيت أُمَّه وهو غائب عنها، فقال: يا رسول الله، إنَّ أُمِّي توفِّيت وأنا غائب عنها، فهل ينفعها إنْ تصدَّقت بشيء عنها؟

قال: (نعم).

قال: فإنِّي أُشهِدك أنَّ حائط المَخْرَف صدقة عليها.

الولد الصالح كالصدقة الجارية، مصدر أجر وثواب للوالدين في عالم البرزخ، فالولد الصالح يستغفر أحياناً لوالديه، وهذا الأمر يجعل الوالدين يتمتَّعان بالعفوِّ الإلهي، والرحمة الإلهيَّة في عالم البرزخ، أو أنَّ الولد الصالح، ونظراً لأنَّ تربيته تربية صالحة مِن قِبَل أبويه، هي التي جعلته يقوم بهذا العمل الصالح الحسن؛ فإنَّ ثواب وأجر هذا العمل الصالح، الذي قام به الولد يعود إلى والديه في عالم البرزخ.

عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال:

مَرَّ عيسى بن مريم (عليه السلام) بقبر يُعذَّب صاحبه، ثمَّ مَرَّ به مِن قابل، فإذا هو ليس يُعذَّب، فقال: (يا رَبِّ مررت بهذا القبر عامَ أوَّلٍ فكان صاحبه يُعذَّب؟!).

فأوحى الله عَزَّ وجَلَّ إليه: (يا روح الله، إنَّه أدرك له ولد صالح، فأصلح طريقاً وآوى يتيماً؛ فغفرت له بما فعل ابنه) (1) .

____________________

(1) المعاد، ج1.

١٠٢

كرامة عبد المُطَّلب جَدُّ النبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)

قام إبراهيم الخليل، وابنه إسماعيل، بأمر مِن الله ببناء الكعبة، وإقامة ذلك البيت المَقْدس، وأقام إسماعيل في مَكَّة، وكان إبراهيم (عليه السلام) يأتي إلى مَكَّة في مواسم الحَجِّ، وكان إسماعيل يشكو لوالده شُحَّ المياه، وطلب منه أنْ يُساعده للتغلُّب على هذه المُشكلة، فأوحى الله إلى إبراهيم أنْ يقوم بحفر بئر لتأمين مِياه الشِّرب للحجيج، وتوفير سُبل الراحة لهم، وبالطبع فإنَّ عمليَّة حَفر البئر في تلك المنطقة، والوصول إلى الماء لم تكن عمليَّة سهلة، فأمر الله جبرائيل أنْ يُحدِّد نقطة مُعيَّنة، أو مكان مُعيَّن يُحفر فيه البئر، وهذا المكان هو الذي يقع فيه اليوم بِئر زمزم.

قاموا بالفعل بحفر البئر، وخلافاً للتوقُّعات، وصلوا إلى الماء على عُمقٍ قليل، وفرحوا كثيراً لهذه العناية الإلهيَّة.

بعد ذلك، طلب جبرائيل مِن إبراهيم أنْ ينزل إلى داخل البئر، وتبعه جبرائيل الذي طلب مِن إبراهيم أنْ يضرب بفأسه في كلِّ زاوية مِن الزوايا الأربع، في قعر البئر، وأنْ يذكر اسم الله في كلِّ مَرَّة يضرب فيها بمِعوله، وكان إبراهيم يفعل ذلك، فكان الماء يتدفَّق مِن كلِّ زاوية مِن زوايا البئر.

فقال جبرائيل: (يا إبراهيم، اشرب الآن مِن ماء البئر وادع لولدك بالبركة)، ثمَّ خرج إبراهيم وجبرائيل مِن البئر.

وفي فترة كانت قبيلة جُرهم تُسيطر على مدينة مَكَّة، وتتولَّى سَدانة الحرم الإلهي، حيث كان المسؤولون عن شؤون الكعبة، يستلمون الهدايا والقرابين، التي كان الناس في الجاهليَّة يهدونها ويُقدِّمونها إلى آلهتهم، التي كانت موجودة في داخل الكعبة، ويحتفظون بها في مكان خاصٍّ يخضع لإشرافهم.

كان في الكعبة غَزالان مِن ذهب، وخمسة أسياف فلمَّا غلبت خُزاعة جُرهم على

١٠٣

الحرم، ألقت جُرهم الأسياف والغزالين في بِئر زمزم، وألقوا فيها الحِجارة، وطمُّوها وعموا أثرها، فلمَّا غلب قُصي على خُزاعة، لم يعرفوا موضع زمزم وعَمِيَ عليهم، وبقي مكان بئر زمزم مجهولاً لا يعرفه أحد، حتى جاء دور السيادة لعبد المُطَّلب جَدِّ الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، الذي كان يحظى بمكانةٍ عظيمة، وموقعٍ اجتماعيٍّ كبيرٍ بين القبائل العربيَّة في ذلك الوقت؛ بحيث إنَّهم كانوا يفرشون له البساط لكي يستريح عليه في ظِلِّ جِدار الكعبة، ولم يكونوا يفعلون ذلك لأحدٍ مِن قبله، وفي إحدى المَرَّات، عندما كان عبد المُطَّلب نائماً عند جدار الكعبة، رأى في المنام أنَّ شَخصاً جاء إليه، وقال له: احفر زمزم واعلم أنَّه يوجد في مكان زمزم غُراب أبيض الجناحين، ووَكر للنمل، وكان بالفعل يوجد في مكان بئر زمزم صخرة، تحتها وَكْر للنمل، وفي النهار عندما كان النمل يخرج مِن وكره، كان يأتي غراب أبيض الجناح، ويلتقط النمل بمنقاره ويأكله.

وقد عرف عبد المُطَّلب مكان بئر زمزم، استناداً إلى تلك الرُّؤيا الحقيقية؛ فقام هو وأبناؤه بحفر ذلك المكان، وأزالوا عنه الحِجارة والرِّمال، حتَّى عثروا على الماء، فكبَّروا الله.

مِن خلال هذه الرُّؤيا ظهر مكان بئر زمزم، الذي كان يجهله الناس في ذلك الوقت، ظهر بصورة حقيقيَّة كما هو، وتعرَّف عبد المُطَّلب - بموجب تلك الرُّؤيا - على مكان البئر المجهول، وأُلهِم بحقيقة كانت مَخفيَّة وغير معروفة، دون أنْ تكون هناك حاجة إلى تفسير هذه الرؤيا (1) .

____________________

(1) المعاد، ج1.

١٠٤

عبد المُطَّلب وحُلْم الشجرة التي تنبت في ظهره

كان عبد المُطَّلب في إحدى الليالي إلى جانب الكعبة، بالقُرب مِن الحَجر الأسود، فرأى حُلْماً بَدَّاً عَجيباً بنظره، فسيطر عليه الخوف والهلع؛ فذهب إلى أحد مُفسِّري الأحلام، وأخبره بما رآه في المنام، وقال: رأيت في المنام أنَّ شجرة نبتت في ظهري، امتدَّت أغصانها إلى عِنان السماء، وغطَّت أوراقها وأغصانها الشرق والغرب، ثمَّ رأيت نوراً ينبعث مِن تلك الشجرة، وهو أكثر بريقاً مِن نور الشمس وضوئها، ورأيت الناس مِن العرب والعَجم يسجدون لهذه الشجرة، وكلُّ يوم كان يمرُّ كانت هذه الشجرة تزداد نوراً، ورأيت أنَّ جماعة مِن قريش جاءت لكي تجتثُّ تلك الشجرة، وتقتلعها مِن جذورها، ولكنْ كلَّما اقتربوا مِن تلك الشجرة بهدف الإساءة إليها، كان يظهر شابٌّ حَسَن الملبس والمظهر، فيصدُّهم عنها، ويقصم ظهورهم، ويقتلع عيونهم، وقد مدْدْت يدي لكي آخذ غِصناً مِن أغصانها؛ فصاح بي الشابُّ الوسيم قائلاً: أنْ أيضاً ليس لك نصيب مِن هذه الشجرة، فقلت له: ومَن هم الذين لهم نصيب منها؟

فقال: إنَّ هذه الشجرة هي مِلك للذين يتمسَّكون بها، ويُمسكون بأغصانها؛ فتغيَّر وجه الشخص الذي كان يستمع إلى هذه الرؤيا مِن عبد المُطَّلب واضطربت أحواله.

ثمَّ قال: لئِن صدقت، ليخرجَنَّ مِن صُلْبك وَلد يَمْلك الشرق والغرب، ويُنبِّأ في الناس... وكان أبو طالب يُحدِّث بهذا الحديث، والنبي قد خرج ويقول: كانت الشجرة - والله - أبا القاسم الأمين.

ووفقاً لما قاله الشخص، الذي فسَّر هذه الرؤيا، فإنَّ الرؤيا المذكورة تتضمَّن مجموعة مِن الأنباء الغيبيَّة، بدأت تتحقَّق بصورة تدريجيَّة بعد ذلك بعشرات السنين، ففي بداية الأمر يُرزَق عبد المُطَّلب بولدٍ.

١٠٥

وثانياً: هذا الولد يَحُكم الشرق والغرب.

وثالثاً: يقوم بنشر وترويج التعاليم الإلهيَّة بين الناس.

ورابعاً: هذا المولود يرتفع نجمه، وتزداد شُهرته، وتتعزَّز مكانته يوماً بعد يوم.

خامساً: مجموعة مِن قريش تبدأ في مُناهضته ومُعارضة رسالته، وبالتالي فهي تسعى للقضاء عليه.

سادساً: إنَّ شابَّاً ينبري للدفاع عن هذه الشجرة، ويقضي على المُعارضين، وهذا الشاب ليس سوى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام).

سابعاً: إنَّ يَد عبد المُطَّلب لا تصل إلى أغصان الشجرة؛ لأنَّه يُفارق الحياة قبل أنْ يُبعث الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) (1) .

____________________

(1) المعاد، ج1.

١٠٦

إيَّاكم وتعلُّم النجوم إلاَّ ما يُهتدى به في بَرٍّ أو بحر

عندما أعدَّ عليٌّ (عليه السلام) جنوده لمُحاربة الخوارج، واستعدَّ للانطلاق، تقدَّم إليه رجل، وقال له: إذا ذهبت إلى الحرب في هذا الوقت بالذات، أخاف أنْ لا تحقَّق هدفك، وتعود مُنهزماً، وقد عرفت ذلك عن طريق الحسابات الفلكيَّة، والتدقيق في أوضاع الكواكب والنجوم في السماء.

فقال (عليه السلام): (أتزعم أنَّك تهدي إلى الساعة، التي مَن سار فيها صُرِف عنه السوء، وتُخوِّف مِن الساعة، التي مَن سار فيها حاق به الضُّرُّ؟! فمَن صَدَّقك بهذا؛ فقد كَذَّب القرآن؛ واستغنى عن الاستعانة بالله في نيل المَحبوب، ودفع المكروه، وتبتغي في قولك للعامل بأمرك أنْ يُولْيك الحمد دون رَبِّه؛ لأنَّك بزعمك أنت هديته إلى الساعة التي نال فهيا النفع وأمن الضُّرَّ).

ثمَّ أقبل (عليه السلام) على الناس فقال: (أيُّها الناس، إيَّاكم وتعلُّم النجوم، إلاَّ ما يُهتدى به في بَرٍّ أو بحرٍ؛ فإنَّها تدعو إلى الكَهانة، والمُنجِّم كالكاهن، والكاهن كالساحر، والساحر كالكافر، والكافر في النار، سيروا على اسم الله) (1) .

____________________

(1) المعاد، ج1.

١٠٧

ما مؤمن يموت..

إلاَّ قيل لروحه: الحَقْي بوادي السلام

عن حبَّة العَرني قال: خرجت مع أمير المؤمنين (عليه السلام) إلى الظهر، فوقف بوادي السلام، كأنَّه مُخاطب لأقوام، فقُمت بقيامه حتَّى أعييت، ثمَّ جلست حتَّى مَلَلت، ثمَّ قُمت حتَّى نالني مِثل ما نالني أوَّلاً، ثمَّ جلست حتَّى مَلَلت، ثمَّ قُمت وجمعت ردائي، فقلت: يا أمير المؤمنين، إنِّي قد أشفقت عليك مِن طول القيام فراحة ساعة.

ثمَّ طرحت الرداء ليجلِس عليه، فقال لي: (يا حبَّة، إنْ هو إلاّ مُحادثة مؤمن أو مُؤانسته).

قلت: يا أمير المؤمنين، وإنَّهم لكذلك؟!

قال: (نعم، ولو كُشِف لك لرأيتهم حلقاً حلقاً، مُحتَبين يتحادثون).

فقلت: أجسام أمْ أرواح؟

فقال: (أرواح، وما مؤمن يموت في بُقعة مِن بِقاع الأرض، إلاَّ قيل لروحه: الحقي بوادي السلام، وإنَّها لبُقعة مِن جَنَّة عَدْنٍ) (1) .

____________________

(1) المعاد، ج1.

١٠٨

سلمان وتكليم المَيِّت له

عيَّن أمير المؤمنين (عليه السلام) سلمان الفارسي والياً على المَدائن.

ويقول أصبغ بن نُباتة: كنت مع سلمان في المدائن، وكنت أُكثِر مِن زيارته ولقائه. وفي أحد الأيَّام ذهبت لعيادته عندما كان مريضاً، وهو المرض الذي أودى بحياته في نهاية الأمر، وكنت أعوده باستمرار، وأسأل عن حاله وشيئاً فشيئاً اشتدَّ به المرض، وأيقن بالموت، فالتفت إليَّ وقال لي: يا أصبغ، عهدي برسول الله يقول: (يا سلمان، سيُكلِّمك مَيِّت إذا دنت وفاتك)، وقد اشتهيت أنْ أدري أدنت أم لا؟.

فقال أصبغ: يا سلمان، اطلب ما تُريده فسأُنجزه لك.

فقال: تذهب الآن، وتُحضِر لي تابوتاً، وتفرش في داخله نفس البساط الذي يُفرش للموتى عندما يوضعون داخل التابوت، ومِن ثمَّ تُحضر معك أربعة أشخاص، فتحملوني إلى المقبرة، فقام أصبغ على عَجَلٍ، وعاد بعد ساعة وقد أحضر كلَّ ما طلبه منه سلمان الفارسي، وفعل كلَّ ما أمره به، وحمله إلى المقبرة، وعندما وصل إلى هناك وضع التابوت على الأرض.

فقال سلمان: ضعوني أمام القبلة؛ ففعلوا ذلك، عندها نادى سلمان بأعلى صوته:

السلام عليكم يا أهل عَرصة البلاء، السلام عليكم يا مُحتجبين عن الدنيا، فلم يسمع جواباً. ثمَّ كرَّر السلام عليهم قائلاً:

أقسمتكم بالله وبرسوله الكريم، أنْ يُجيبني واحد منكم، فأنا سلمان الفارسي صاحب رسول الله، وهو الذي أخبرني: بأنَّه إذا دنا أجلي، فإنَّ مَيِّتاً سيُكلِّمني، وإنِّي أُريد أنْ أعرف هل دنا أجلي أم لا؟

عندها سمع سلمان الجواب مِن الروح الذي رَدَّ السلام، وقال لسلمان:

لقد سمعنا كلامك، فاسأل ما تُريد.

١٠٩

فسأل سلمان الروح قائلاً: هل أنت مِن أهل الجَنَّة أمْ مِن أهل النار؟

فقال الروح: بلْ أنا مِن الذين شملتهم الرَّحمة والمَغفرة الإلهيَّة وفازا بالجَنَّة.

ثمَّ سأل سلمان الروح عن كيفيَّة مُفارقته الدنيا، وعن الأوضاع بعد الموت، وكان الروح يُجيب على أسئلة سلمان الفارسي واحداً واحداً، وبعد أنْ انتهى الحديث بين سلمان والروح، أخرجوه مِن التابوت، ووضعوه على الأرض فتوجَّه سلمان إلى الله قائلاً:

يا مَن بيده ملكوت كلِّ شيء، وإليه تُرجعون، وهو يُجير ولا يُجار عليه، بك آمنت ولنبيِّك اتَّبعت، وبكتابك صدقت، وقد أتاني ما وعدتني، يا مَن لا يُخلف الميعاد اقبضني إلى رحمتك، وأنزلني دار كرامتك (1) .

____________________

(1) المعاد، ج1.

١١٠

صَفاء الروح وقوَّة الحُلْم

قبل سنوات عديدة، كان يعيش في إحدى مُدن إيران رجل شريف ومؤمن، وكان ولده الأكبر أيضاً رجلاً صالحاً ومؤمناً، كوالده وكان الأب والابن يعيشان في منزلٍ عاديٍّ، في وضع ماديٍّ صعب؛ حيث كانا يقتصدان كثيراً في النفقات؛ لكي يُحافظا على سُمعتهما، ولا يمدَّا يد الحاجة إلى الآخرين، وقد بلغ بهما الوضع حَدَّاً، بحيث إنَّهما صارا يستعملا ماء الحنفيَّة في المنزل للشرب والطبخ فقط. أمَّا لغسل الملابس ومَلء الحوض الموجود في باحة المنزل، وسقي حديقة المنزل، فإنَّهما كانا يستعملان ماء البئر، كما أنَّهما قاما ببناء غرفة صغيرة فوق البئر؛ لكي تقي الأشخاص الذين يُريدون إخراج الماء، مِن البئر الحَرَّ، وأشعَّة الشمس المُحرقة في فصل الصيف، والبرد والأمطار والثلوج في فصل الشتاء، كما أنَّ وجود مِثل هذه الغرفة الصغيرة، يمنع سقوط الأجسام الغريبة، والقاذورات، والأحجار، وغيرها في داخل البئر، وبالتالي تُحافظ على نظافة البئر.

لقد كان الأب وابنه يقومان - بنفسهما - بسحب الماء مِن البئر، ولم يستأجرا أحداً للقيام بهذا العمل.

وفي أحد الأيَّام، لاحظ الأب وابنه أنَّ الطبقة الطينيَّة، التي تُغطِّي سقف هذه الغرفة مِن الداخل، يُمكن أنْ تسقط على الأرض، أو في داخل البئر، أو يُمكن أنْ تسقط على رأس أحد، يُصادف وجوده في الغرفة في تلك اللحظة، ونظراً لأنَّهما لا يملكان المال اللازم لاستخدام عمَّال بناء، يقومون بصيانة السقف وترميمه، فقد قررَّا أنْ يقوما بنفسيهما بهذا العمل في يوم عطلة.

وبالفعل قاما في اليوم المُتَّفق عليه بتغطية فوهة البئر، بقطع الأخشاب، وقطعة مِن البساط، وبدءا بإزالة الطبقة الطينيَّة مِن السقف، وقاما بتجميع هذه القطع في باحة

١١١

المنزل، وصبَّا عليها الماء، حتَّى أصبحت ليِّنة طريَّة، وأخذ الأب يقوم بعمل البناء، وابنه يُناوله الطين، حتَّى انتهى الأب مِن تغطية سقف الغرفة بأكمله، بالطين المخلوط بالقَشِّ أو التبن، وبعد انتهاء العمل لاحظ الأب أنَّ خاتمه ليس موجوداً في إصبعه، فاعتقد في بادئ الأمر أنَّه نسيه إلى جانب الحوض، عندما كان يغسل يديه، ولكنَّه لم يعثر عليه هناك.

وظلَّ الأب يبحث عن خاتمه، على مدى يومين كاملين في كلِّ مكان، ولكنَّه لم يعثر على أيِّ أثرٍ، وتأثَّر كثيراً لضياع خاتمه، ويئس مِن إمكانيَّة العثور عليه، وظلَّ لفترة مِن الوقت يتحدَّث مع أهله وعياله عن الخاتم المفقود، وكان يتأسَّف كثيراً على ذلك، وبعد عِدَّة سنوات مِن هذه القضيَّة توفِّي الأب إثر نوبة قلبيَّة.

يقول الابن: بعد فترة مِن وفاة والدي، رأيته يوماً في المنام، وكنت أعلم أنَّه ميِّت، فاقترب مِنِّي، وسلَّم عليَّ، وسألني عن أحوالي، ثمَّ قال لي: يا ولدي، إنَّني مَدينٌ للشخص الفلاني بخمسمائة تومان، فأرجو أن تخلصني مِن العذاب.

استيقظ الولد مِن نومه، ولم يكترث بالحُلْم الذي رآه، ولم يعمل بما طلبه منه أبوه، وبعد فترة رأى الابن والده مَرَّة أُخرى في المنام، وكرَّر ما سبق أنْ طلبه منه، وعاتبه على عدم تلبية طلبه، فقال له الابن - وهو في المنام ويعلم أنَّ والده مَيِّت ـ: أعطني عَلامة؛ حتَّى أطمئن بأنَّك والدي.

قال له: أتذكر قبل عِدَّة سنوات، أنَّنا قُمنا - معاً - بتغطية سقف غرفة البئر بالطين، وبعدها اكتشفت أنَّ خاتمي مفقود، وبحثنا عنه في كلِّ مكان، فلم نعثر عليه.

قال الابن: نعم، أذكر ذلك.

قال الأب: إنَّ الشخص عندما يموت، تتَّضح له كثير مِن القضايا والأُمور المجهولة، فلقد عرفت بعد موتي أنَّ خاتمي أضعته داخل الطين الذي أصلحت به سقف الغرف، حيث انزلق الخَاتم مِن إصبعي عندما كنت أعِجن الطين وأقلبه. ولكي

١١٢

تطمئنَّ بأنِّي أبوك الذي أتحدَّث معك، عليك أنْ تُزيل الطين مِن السقف وتخلطه بالماء، حتَّى يُصبح طريَّاً عندها سوف تعثر على الخاتم.

في الصباح نفَّذ الولد ما قاله له أبوه، دون أنْ يُخبر أحداً بالأمر، فعثر بالفعل على خاتم والده.

يقول الابن: بعد ذلك ذهبت إلى السوق، للشخص الذي أخبرني به والدي، فسلَّمت عليه وسألته عن حاله، ثمَّ قلت له: هل أنَّ والدي مَدينٌ لك بمبلغ مِن المال؟

قال الرجل صاحب الدُّكَّان: لماذا تسأل مِثل هذا السؤال؟

قلت: أُريد أنْ أعرف حقيقة الأمر.

قال: أطلب والدك بخمسمائة تومان.

سألته: كيف كان ذلك؟

قال: جاءني أبوك يوماً إلى هنا، وطلب مِنِّي قرضاً بمبلغ خمسمائة تومان، فأعطيته المبلغ دون أنْ آخذ منه إيصالاً بذلك، وبعد فترة توفِّي والدك بالنوبة القلبيَّة.

ـ لماذا لم تُطالب بقرضك؟

قال الرجل: لأنِّي لم أكُن أملك وثيقة أو إيصالاً، ورأيت أنَّ مِن غير المُناسب أنْ أُطالب بالمبلغ، فقد لا تصدِّقونني.

سلَّم الابن المبلغ المذكور إلى الدائن صاحب الدُّكَّان، ونقل له القِصَّة مِن أوَّلها إلى آخرها (1) .

____________________

(1) المعاد، ج1.

١١٣

توقَّع الموت صباحاً ومساءً

جاء موسى العطَّار إلى أبي عبد الله الصادق (عليه السلام)، فقال له: يا ابن رسول الله، رأيت رؤيا هالتني: رأيت صِهراً لي مَيِّتاً، وقد عانقني، وقد خِفت أنْ يكون الأجل قد اقترب.

فقال: (يا موسى، توقَّع الموت صباحاً ومساءً؛ فإنَّه مُلاقينا، ومُعانقة الأموات الأحياء أطول لأعمارهم فما كان اسم صِهرك؟).

قال: حسين.

فقال: (أمَّا رؤياك تدلُّ على بقائك وزيارتك لأبي عبد الله الحسين { عليه السلام }) (1) .

____________________

(1) المعاد، ج1.

١١٤

ليس هناك ليلٌ وإنَّما هو ضوء ونور

قال رجل: يا رسول الله، هل في الجَنَّة مِن ليلٍ؟

قال: (وما هيَّجك على هذا؟).

قال: سمعت الله يذكر في الكتاب: ( ... وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيّاً ) (مريم)، والليل مِن البُّكْرة والعَشيِّ.

فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): (ليس هناك ليلٌ، وإنَّما هو ضوء ونور يَرد الغُدوَّ على الرواح والرواح على الغدوِّ، وتأتيهم طرف الهدايا مِن الله لمواقيت الصلوات، التي كانوا يُصلُّون فيها في الدنيا، وتُسلِّم عليهم الملائكة) (1) .

____________________

(1) المعاد، ج2.

١١٥

امرأة تدخل النار في هِرَّة حبستها

وأُخرى تدخل الجَنَّة في كلب سقته

عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: (اطَّلعت ليلة الإسراء على النار فرأيت امرأة تُعذَّب، فسألت عنها: فقيل: إنَّها ربطت هِرَّة، ولم تُطعمها، ولم تُسقها، ولم تدعها تأكل مِن خَشاش الأرض حتَّى ماتت، فعذَّبها بها بذلك.

واطَّلعت على الجَنَّة، فرأيت امرأة مومس، فسألت عنها: فقيل: إنَّها مَرَّت بكلب يلهث مِن العطش، فأرسلت إزارها في بئر، فعصرته في حلقه حتَّى روي فغفر الله لها) (1) .

____________________

(1) المعاد، ج2.

١١٦

البئر صدقة

خَرج سعد يُرافقه عدد مِن الأشخاص يوماً مِن المدينة، مع الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) في طريقهم إلى الحرب، وكانت أُمُّ سعد مريضة، حيث فارقت الحياة أثناء غياب ابنها، وكان سعد مُقاتلاً في جيش الإسلام ويُحبُّ والدته كثيراً، وعندما سمع بوفاتها لدى عودته تأثَّر كثيراً، فجاء إلى الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وقال له: أردت قبل سفري أنْ أُعطي صدقة عن والدتي، ولكنِّي لم أستطع، والآن حيث فارقت والدتي الدنيا هل ينفعها إذا قدَّمت صدقة عنها؟

فقال الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم): (نعم).

فقال سعد: ما هي أفضل صدقة أُقدِّمها لها؟

فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): (لقد رأيت أنَّ الجنود يُعانون أثناء الطريق مِن شَحَّة الماء، فبإمكانك أنْ تحفر بئراً في الطريق؛ لكي تستفيد منه القوافل التي تمرُّ مِن هناك، وتكون صدقة جارية لوالدتك).

فقام سعد - استجابة لأمر الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) - بحفر بئر على نيَّة والدته، وأسماه: بئر أُمَّ سعد وجعلها وقفاً للجميع (1).

____________________

(1) المعاد، ج2.

١١٧

غفر لك بالخوف فانظر كيف تكون فيما تستقبل

عن أبي حمزة الثمالي، عن علي بن الحسين (صلوات الله عليهما) قال: (إنَّ رجلاً ركب البحر بأهله، فكُسر بهم فلم ينجُ مِمَّن كان في السفينة إلاَّ امرأة الرجل، فإنَّها نجت على لوح مِن ألواح السفينة، حتَّى لجأت إلى جزيرة مِن جُزر البحر، وكان في تلك الجزيرة رجل يقطع الطريق، ولم يَدَعْ لله حُرمَة إلاَّ وانتهكها، فلم يعلم إلاَّ والمرأة قائمة على رأسه، فرفع رأسه إليها، فقال: إنسيَّة أمْ جِنِّيَّة؟

قالت: إنسيَّة.

فلم يكلِّمها كلمة، حتَّى جلس منها مجلس الرجل مِن أهله، فلمَّا أنْ همَّ بها اضطربت، فقال لها: ما لك تضطربين؟

قالت: أفرق مِن هذا، وأومأت بيدها إلى السماء.

قال: وما صنعتِ مِن هذا الشيء، وإنَّما أستكرِهُك استكراهاً، فأنا - والله - أولى بهذا الفَرق والخوف أحقُّ منك.

[ قال: ] فقام ولم يُحدِث شيئاً، ورجع إلى أهله، وليست له هِمَّة إلاَّ التوبة والمُراجعة.

فبينا هو يمشي، إذ صادفه راهب يمشي في الطريق، فحميت عليهما الشمس، فقال الراهب للشابِّ: ادعُ الله يُظلُّنا بغَمامة، فقد حَميت علنيا الشمس.

فقال الشابُّ: ما أعلم أنَّ لي عند رَبِّي حسنة، فأتجاسر على أنْ أسأله شيئاً.

قال: فأدعو أنا، وتؤمِّن أنت؟

قال: نعم.

فأقبل الراهب يدعو والشابُّ يؤمِّن، فما كان بأسرع مِن أنْ أظلَّتهما غَمامة، فمشيا

١١٨

تحتها مَليَّاً مِن النهار، ثمَّ تفرَّقت الجادَّة جادَّتين، فأخذ الشابُّ في واحدة، وأخذ الراهب في واحدة، فإذا السحابة مع الشابِّ، فقال الراهب: أنت خيرٌ مِنِّي، لك استُجيب، ولم يُستجَب لي، فأخبرني ما قِصَّتك، فأخبره بخبر المرأة.

فقال: غُفر لك ما مضى؛ حيث دخلك الخوف، فانظر كيف تكون فيما تستقبل) (1) .

____________________

(1) المعاد، ج2.

١١٩

المرء مع مَن أحبَّ

عن أنس قال: جاء رجل مِن أهل البادية - وكان يُعجبنا أنْ يأتي الرجل مِن أهل البادية يسأل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) - فقال يا رسول الله: متى قيام الساعة؟

فحضرت الصلاة، فلمَّا قضى (صلى الله عليه وآله وسلم) صلاته، قال: (أين السائل عن الساعة؟).

قال: أنا يا رسول الله.

قال: (أعددت لها؟).

قال: والله، ما أعددت لها مِن كثيرِ عملٍ، صلاة ولا صوم، إلاَّ أنِّي أُحبُّ الله ورسوله.

فقال له النبي (صلى الله عليه وآله): (المرء مع مَن أحبَّ).

قال أنس: فما رأيت المسلمين فرحوا بعد الإسلام بشيء أشدُّ مِن فرحهم بهذا (1) .

____________________

(1) المعاد، ج3.

١٢٠

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

بحوث

١ ـ ماذا يعني مقام الربّ؟

قرانا في الآيات أعلاه انّ النصر على الظالمين واسكان الأرض للذين يخافون مقام ربّهم ، فما هو المقصود من «المقام»؟ هناك عدّة احتمالات :

الف : ـ المقصود هو مقام الربّ عند الحساب ، كما ذكرت بعض الآيات الاخرى( وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى ) ،(١) ( وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ ) (٢) .

باء : ـ المقام بمعنى القيام اي المراقبة ، ومعناه الشخص الذي يخاف من مراقبة الله له ، ويحسّ بالمسؤولية.

ج : ـ والمقام بمعنى «القيام لإجراء العدالة واحقاق الحقّ».

وعلى ايّة حال ، فلا مانع ان تكون الآية الشريفة متضمّنة لكلّ هذه المفاهيم ، فالذين يرون مراقبة الله لهم ، يخافون من حسابه واجراء عدالته ، خوفا بنّاء يجعلهم يحسّون بمسؤولياتهم في كلّ عمل يقومون به ، ويبعدهم عن الظلم والذنوب ، فالغلبة وحكومة الأرض من نصيبهم.

٢ ـ هناك جدل بين المفسّرين حول جملة «واستفتحوا» حيث اعتقد البعض بأنّها بمعنى طلب الفتح والنصر ، كما ذكرناه سابقا ، وشاهدهم الآية (١٩) من سورة الأنفال( إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ ) .

وقال بعض آخر : انّها بمعنى القضاء والحكومة ، يعني انّ الأنبياء طلبوا من الله ان يحكم بينهم وبين الكفّار ، وشاهدهم الآية (٨٩) من سورة الأعراف( رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ ) .

٣ ـ جاء في التأريخ والتّفسير انّ الوليد بن يزيد بن عبد الملك الحاكم الاموي

__________________

(١) النازعات ، ٤٠.

(٢) الرحمان ، ٤٦.

٤٨١

الجبّار تفألّ بالقرآن يوما لكي يرى حظّه في المستقبل ، فظهرت قوله تعالى( وَاسْتَفْتَحُوا وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ ) في بداية الصفحة ، فاستوحش وأخذته العصبية بحيث مزّق القرآن الكريم ثمّ انشد :

اتوعد كلّ جبّار عنيد؟

فها انا ذاك جبّار عنيد؟

إذا ما جئت ربّك يوم حشر

فقل يا ربّ مزّقني الوليد

ولكن لم يمض وقت طويل حتّى قتل اسوا قتلة من قبل أعدائه ، وقطعوا رأسه وعلّقوه فوق سطح قصره ، ومن ثمّ نقلوه الى باب المدينة(١) .

* * *

__________________

(١) تفسير القرطبي ، ص ٣٥٧٩.

٤٨٢

الآية

( مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلى شَيْءٍ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ (١٨) )

التّفسير

رماد اشتدّت به الريح :

ضربت هذه الآية مثالا واضحا وبليغا لاعمال الكفّار ، وبذلك تكمل بحث الآيات السابقة في مجال عاقبة أمرهم.

يقول تعالى :( مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عاصِفٍ ) فيتناثر الرماد في الريح العاصف بحيث لا يستطيع احد جمعه ، كذلك منكرو الحقّ ليست باستطاعتهم ان يجمعوا ما كسبوا( لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلى شَيْءٍ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ ) .

* * *

٤٨٣

بحوث

١ ـ لماذا شبّهت اعمالهم كرماد اشتدّت به الريح؟

الجواب :

١ ـ التشبيه بالرماد (مع إمكان الاستفادة من التراب والغبار في ذلك) لانّه عبارة عن بقايا الاحتراق ، والآية توضّح انّ اعمالهم ظاهرية فقط وليس لها اي محتوى ، فيمكن ان تنمو وردة جميلة في حفنة من التراب ، ولكن لا يمكن ان ينمو في الرماد حتّى العلف الرّديء.

٢ ـ ان ذرّات الرماد غير متلاصقة ، وحتّى بمساعدة الماء لا يمكن ترابطها فالذرّات تنفصل عن بعضها البعض بسرعة ، وكأنّ ذلك يشير الى انّ اعمال الكفّار غير منسجمة ولا موحّدة ، على العكس من اعمال المؤمنين حيث نراها منسجمة وموحّدة ومترابطة وكلّ عمل يكمل العمل الآخر ، فروح التوحيد والوحدة لا تقتصر على توحيد الجماعة المؤمنة في ما بينهم بل تنعكس حتّى في اعمال الفرد المسلم.

٣ ـ بالرغم من تناثر الرماد في اشتداد الريح ، الّا انّه يؤكّده في يوم عاصف ، لانّ الرياح إذا كانت محدودة وآنيّة فمن الممكن ان ينتقل الرماد من مكان الى مكان ليس بالبعيد ، ولكن إذا كان يوم عاصف فمن البديهي ان يتناثر الرماد بشكل واسع ، وتنتشر ذرّاته ولا يمكن لايّة قدرة جمعها.

٤ ـ إذا كانت العاصفة تهبّ على التبن وأوراق الشجر وتنتثرها في أماكن بعيدة الّا انّه يمكن تشخيصها ، ولكن ذرّات الرماد من الصغر بحيث لو انتثرت لا يبقى لها اي اثر وكأنّ ليس لها وجود سابق.

٥ ـ انّ الرياح وحتّى العواصف لها فوائد جمّة في الطبيعة بغضّ النظر عن آثارها المدمّرة في بعض الأحيان ، وفوائدها هي :

الف : ـ تقوم بنشر بذور النباتات في كلّ مكان من الكرة الارضيّة ، كالمزارع

٤٨٤

والفلاح.

ب : ـ تلقّح الأشجار بنقل حبوب اللقاح من الذكور الى الإناث.

ج : ـ تقوم بتحريك السحاب من المحيطات الى الاراضي اليابسة.

د : ـ تحكّ الجبال العالية وتحوّلها الى تراب ناعم ومفيد.

ه : ـ تنقل الهواء من المناطق القطبية الى المناطق الاستوائية وبالعكس ، حيث تقوم بدور فعّال في تعديل درجات الحرارة.

و: ـ انّ حركة الرياح تثير البحار فتجعلها متلاطمة وموّاجة كي يدخل فيها الهواء ، لانّها إذا ركدت سوف تتعفّن ، وهكذا نجد انّ كلّ ما في الوجود من الأشجار والكائنات الحيّة قد استفاد من هبوب الرياح كلّ على قدره.

ولكن «الرماد» الخفيف الوزن والتافه وعديم الفائدة والذي لا يمكن لاي موجود ان يعيش فيه ، هذا الرماد المتناثر يتلاشى بسرعة حينما تهبّ الريح عليه ، ويزول حتّى ظاهره غير المفيد.

٢ ـ لماذا فرغت اعمالهم من المحتوى؟

يجب ان نرى لماذا كانت اعمال الكفّار غير ذات قيمة وغير ثابتة؟ ولماذا لا يستطيع الكفّار الاستفادة من نتائج اعمالهم؟

ويتّضح الجواب على هذا السؤال لو درسنا المسألة من ناحية النظرة التوحيديّة للعالم ، لانّ النيّة والهدف والمنهجية هي التي تعطي للعمل شكله ومضمونه ، فإذا كانت الخطّة والنيّة والغاية سالمة وجديرة بالاهتمام فسوف يكون العمل كذلك ، ولكن لو قمنا بأحسن الأعمال بنيّة غير صادقة وخطّة سقيمة وهدف شيطاني ، فإنّ ذلك العمل يكون ممسوخا ويفقد محتواه ويزول كليّا كالرماد إذا اشتدّت به الريح!

ولا بأس هنا ان نذكر مثالا حيّا لذلك ، نشاهد الآن برامجا تحت عنوان

٤٨٥

حقوق الإنسان في العالم الغربي ومن قبل القوى المستكبرة ، هذه البرامج نفسها كانت تجري من قبل الأنبياء ايضا ، ولكن حصيلة الاثنين متفاوتة كما بين الأرض والسّماء. فالقوى الاستكبارية عند ما تنادي بحقوق الإنسان فمن المسلّم انّ اهدافها غير انسانية وغير أخلاقية ، بل التغطية على جرائمهم واستعمارهم بشكل اكثر ، لذلك وعلى سبيل المثال لو اعتقل احد جواسيسهم في مكان ما ، فسوف يملا عويلهم وصراخهم الدنيا بالدفاع ، عن حقوق الإنسان ، ولكن عند ما تلطّخت أيديهم بدماء آلاف الناس في فيتنام ، وارتكبوا الفجائع في الدول الاسلامية ، ونسيت فيه حقوق الإنسان ، بل انّهم استغلّوا حقوق الإنسان لمساعدة الانظمة الجائرة والعميلة!

ولكن الأنبياءعليهم‌السلام او أوصياءهم ينادون بحقوق البشر لتحرير الإنسان من القيود والأغلال والظلم ، وعند ما يرون إنسانا مظلوما نراهم يهبون للدفاع عنه بالقول والعمل.

وبهذا النحو يكون الاوّل رماد اشتدّت به الريح ، والثّاني ارض مباركة طيّبة لنمو النباتات والثمار والأوراد.

ويتّضح من هنا ما دار بين المفسّرين من المقصود من العمل في الآية أعلاه ، وهو انّ مراد الآية جميع اعمال الكفّار حتّى اعمالهم الحسنة في الظاهر ، الّا انّها مبطّنة بالشرك والإلحاد.

٣ ـ مسألة الإحباط

هناك جدل كبير بين علماء المسلمين في مسألة «حبط الأعمال» فهل معناه ذهاب عمل الخير بسبب عمل الشرّ ، او بسبب الكفر وعدم الايمان ، ولكن الحقّ ما قلناه في ذيل الآية (٢١٧) من سورة البقرة ، من انّ الإصرار على الكفر والعناد وايضا بعض الأعمال الاخرى كالحسد والغيبة وقتل النفس لها آثار سيّئة كبيرة

٤٨٦

بحيث تذهب بأعمال الخير والحسنات.

والآية أعلاه دليل آخر في إمكان حبط الأعمال(١) .

٤ ـ هل للمخترعين والمكتشفين ثواب الهي؟

بالنظر للبحوث الآنفة الذكر يرد سؤال مهمّ ، وهو انّنا من خلال مطالعتنا في تأريخ العلوم والاختراعات والاكتشافات نرى انّ هناك مجموعة من العلماء استطاعوا ان يقدّموا خدمات جليلة للبشرية وتحمّلوا في سبيل خدمة البشرية منتهى الشدّة والصعوبة ليقدّموا اختراعاتهم واكتشافاتهم للناس ، فعلى سبيل المثال مخترع الكهرباء «اديسون» تحمّل الصعاب ويقال فقد حياته في هذا الطريق لكنّه أضاء العالم ، وحرّك المعامل ، وببركة اختراعه وجدت الآبار العميقة حيث اخضّرت الأرض وتغيّرت الدنيا. و «باستور» الذي اكتشف المكروب ، وأنقذ ملايين الناس من الموت المحتوم فهؤلاء وعشرات مثلهم كيف يجعلهم الله في جهنّم لكونهم غير مؤمنين؟ مع انّ هناك افرادا لم يقدّموا ايّة خدمة للانسانية طول حياتهم ، ويدخلون الجنّة!

الجواب : انّ العمل في حدّ ذاته ليس كافيا من وجهة نظر العقيدة الاسلامية ، بل قيمته في النيّة والقوى المحرّكة له ، فكثيرا ما نشاهد من اعمال الخير كبناء مدرسة او مستشفى او اي عمل آخر وهدف صاحبه في الظاهر هو خدمة المجتمع الانساني ، الّا انّه تحت هذا الغطاء شيء آخر وذاك هو حفظ جاهه او ماله او جلب انظار الناس اليه ، وتحكيم منافعه المادية ، او حتّى ستر خيانته بعيدا عن انظار الآخرين!

وعلى العكس ، فمن الممكن ان يعمل شخص عملا صغيرا ، الّا انّه مخلص في نيّته صادق ، والآن يجب ان نحقّق في ملفات هؤلاء الرجال العظام من وجهة

__________________

(١) للاطلاع اكثر راجع تفسير الآية (٢١٧) من سورة البقرة من تفسيرنا هذا.

٤٨٧

نظر عملهم وكذلك الأسباب والدوافع ، وهي لا تخرج من احد امور :

الف : ـ يكون الهدف من الاختراع أحيانا عملا تخريبيّا (كما في اكتشاف الطاقة النووية حيث كان الهدف الاوّل منها صناعة القنابل النووية) ويمكن الاستفادة منها لخدمة الإنسان ، الّا انّه لم يكن الهدف الاصلي من اختراعها ، فقيمة عمل هذه المجموعة من المخترعين واضح تماما.

ب : ـ وقد يكون هدف المخترع او المكتشف الربح المادّي او الشهرة ، فحكمه ـ في الحقيقة ـ حكم التاجر الذي يقوم بتأسيس الخدمات العامّة لكي يحصل على أرباح اكثر ، ويقوم بتشغيل العمّال وانتاج المحاصيل الزراعية للبلد ، فالهدف من كلّ ذلك هو الحصول على اكبر وارد ممكن ، ولو كان هناك عمل اكثر ربحا لركض وراءه.

بالطبع فإنّ هذه التجارة لو كانت طبقا للموازين الشرعيّة ، فإنّها ليست حراما ، الّا انّها لا تحتسب عملا مقدّسا ومهمّا.

ومثل هؤلاء المخترعين والمكتشفين ليسوا قليلين على طول التاريخ ، فطريقة تفكيرهم ان يقدّموا العمل الأكثر ربحا ـ حتّى لو كان مضرّا بالمجتمع ـ (فمثلا صناعة الادوية لها من الفوائد ٢٠ خ بينما في صناعة الهيروئين ٥٠ خ فهم يرجّحون الثّاني على الاوّل) فحكم هذه المجموعة واضح ايضا ، حيث لم يطلبوا من الله ولا من الناس اي شيء وجزاؤهم الربح والشهرة فقط.

ج : ـ هناك مجموعة ثالثة لا شكّ في انّ دوافعها انسانية ، او الهيّة إذا كانت الجماعة مؤمنة ، وأحيانا يمضون سنين طويلة في زوايا المختبرات بكامل الفاقة والحرمان على امل ان يقدّموا خدمة لبني جنسهم ، او هديّة للعالم ، ليحلّوا أغلال المتعبين ، ويمسحوا التراب من وجوب المعذّبين. فإذا كان هؤلاء الافراد مؤمنين ودوافعهم الهيّة فمصيرهم واضح.

وامّا إذا كانوا غير مؤمنين ودوافعهم انسانيّة ، فسوف يحصلون على الجزاء

٤٨٨

المناسب من الله بلا ادنى شكّ ، هذا الجزاء يمكن ان يكون في الدنيا او الآخرة ، فاللهعزوجل عالم وعادل لا يحرمهم من ذلك ، ولكن كيف؟ تفاصيله غير واضحة لنا ، ويمكن ان نقول : (انّ الله لا يضيع اجر هؤلاء المحسنين فيما إذا كانوا غير مقصّرين لعدم ايمانهم).

وليس عندنا اي دليل من انّ الآية( إِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ) لا تشمل هؤلاء الافراد ، فإطلاق المحسنين في القرآن ليس خاصّا بالمؤمنين فقط ، ولذلك نرى انّ اخوة يوسف لما حضروا عنده وهم لا يعرفوه ويظنّون انّه عزيز مصر قالوا :( إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ) .(١)

وكذلك الآية( فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ ) تشمل هؤلاء الافراد.

عن علي بن يقطين عن الامام الكاظمعليه‌السلام قال : «كان في بني إسرائيل رجل مؤمن وجاره كافر ، وكان هذا الجار الكافر يحسن الى جاره المؤمن ، فعند ما ارتحل من الدنيا بنى له الله بيتا يمنعه من نار جهنّم. وقيل له : انّ هذا بسبب حسن سيرتك مع جارك المؤمن»(٢) .

وعن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «انّ ابن جدعان اقلّ اهل جهنّم عذابا» قالوا : لماذا يا رسول الله؟ قال «انّه كان يطعم الطعام» وعبد الله بن جدعان احد مشركي مكّة المعروفين ومن زعماء قريش(٣) .

وعن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال لعدي بن حاتم الطائي «رفع عن أبيك العذاب الشديد بسخاء نفسه»(٤) .

وعن الامام الصادقعليه‌السلام قال : «أتى رسول الله وفد من اليمن وكان فيهم رجل

__________________

(١) يوسف ، ٩٠.

(٢) البحار ، ج ٣ ، مطبعة كمباني ص ٣٧٧.

(٣) المصدر السابق ، ص ٣٨٢.

(٤) البحار ، ج ٢ ، ص ٦٠٧.

٤٨٩

أعظمهم كلاما واشدّهم في محاجة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فغضب النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتّى التوى عرق الغضب بين عينيه ، وتغيّر وجهه واطرق الى الأرض فأتاه جبرئيل فقال : ربّك يقرئك السّلام ويقول لك : هذا رجل سخي يطعم الطعام ، فسكن عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الغضب ورفع رأسه وقال : لولا انّ جبرئيل اخبرني عن اللهعزوجل انّك سخي تطعم الطعام ، لشدوت بك وجعلتك حديثا لمن خلفك ، فقال له الرجل : وانّ ربّك ليحبّ السخاء؟ فقال : نعم ، قال : انّي اشهد ان لا اله الّا الله وانّك رسول الله والذي بعثك بالحقّ لا رددت عن مالي أحدا»(١) .

وهنا يأتي هذا السؤال والذي يمكن ان نستفيده من بعض الآيات وكثير من الرّوايات ، وهو : هل انّ الايمان والولاية شرط لقبول الأعمال والدخول الى الجنّة؟ فإذا كان كذلك فإنّ أفضل اعمال الكفّار ليس مقبولا عند الله.

ويمكن ان نجيب على هذا السؤال بأنّ مسألة «قبول الأعمال» شيء ، و «الجزاء المناسب» شيء آخر ، فمثلا المشهور بين علماء المسلمين انّ الصلاة بدون حضور القلب او مع ارتكاب بعض الذنوب كالغيبة غير مقبولة عند الله ، ونحن نعلم انّ مثل هذه الصلوات صحيحة شرعا ، وتحتسب طاعة لاوامر الله وتفرغ بها ذمّة المصلّي والطاعة لا تكون بدون اجر. ولذلك فقبول العمل هو الدرجة العالية للعمل ، ونحن نقول هذا ايضا : إذا كانت الخدمات الانسانية مصاحبة للايمان فلها أعلى المضامين ، ولكن في غير هذه الصورة لا تكون بدون مضمون وجزاء ، وجزاء العمل لا ينحصر بدخول الجنّة. (هذه عصارة الفكرة بما يتناسب وهذا التّفسير ، وتفصيل ذلك في الأبحاث الفقهيّة).

* * *

__________________

(١) البحار ، ج ٢.

٤٩٠

الآيتان

( أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (١٩) وَما ذلِكَ عَلَى اللهِ بِعَزِيزٍ (٢٠) )

التّفسير

الخلق على أساس الحقّ :

بعد ما بحثنا عن الباطل وانّه كالرماد المتناثر إذا اشتدّت به الريح ، نبحث في هذه الآية عن الحقّ واستقراره. يقول الله تعالى مخاطبا النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم باعتباره الاسوة لكلّ دعاة الحقّ( أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِ ) .

«الحقّ» كما يقول الراغب في مفرداته «المطابقة والتنسيق» وله استعمالات اخرى : فتارة يستعمل الحقّ في العمل الصادر وفقا للحكمة والنظام كما في قوله تعالى :( هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً ما خَلَقَ اللهُ ذلِكَ إِلَّا بِالْحَقِ ) .(١)

وتارة يطلق على الشخص الذي قام بهذا العمل المحكم ، كما نطلقها على الله

__________________

(١) يونس ، ٥.

٤٩١

عزوجل ( فَذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمُ الْحَقُ ) .(١)

وتارة اخرى يطلق على الاعتقاد الذي يطابق الواقع كما في قوله تعالى :( فَهَدَى اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِ ) .(٢)

ومرّة يقال للقول والعمل الذي يتحقّق في الوقت المناسب كما في قوله تعالى :( حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ ) .(٣)

وعلى ايّة الحال فمقابل «الحقّ» الباطل والضلال واللعب وأمثالهما.

لكنّ الآية التي نحن بصددها تشير الى المعنى الاوّل ، وهو إنشاء عالم الخلق. حيث توضّح السّماء والأرض انّ في الهدف من خلقها الحكمة والنظام والحساب. فالله تعالى ليس محتاجا في خلقها ولا ناقصا لكي يسدّ نقصه بها ، بل هو الغني عن كلّ شيء ، وهذا العالم الواسع دار لنمو المخلوقات وتكاملها.

ثمّ يضيف : انّ الدليل في عدم الحاجة إليكم ولا الى ايمانكم هو :( إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ ) .

وهذا العمل ليس صعبا عند الله( وَما ذلِكَ عَلَى اللهِ بِعَزِيزٍ ) .

والشاهد على هذا القول في سورة النساء( وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكانَ اللهُ غَنِيًّا حَمِيداً إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكانَ اللهُ عَلى ذلِكَ قَدِيراً ) .(٤) وهذا التّفسير بخصوص الآية أعلاه منقول عن ابن عبّاس.

وهناك احتمال آخر ، وهو انّ الجملة أعلاه تشير الى مسألة المعاد وانّ الله قادرا على ان يفني جميع الناس ويأت بخلق آخر ، فهل تشكّون في مسألة المعاد وبعثكم من جديد؟

* * *

__________________

(١) يونس ، ٣٢.

(٢) البقرة ، ٢١٣.

(٣) السجدة ، ١٣.

(٤) النساء ، ١٣١ الى ١٣٣.

٤٩٢

الآيات

( وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً فَقالَ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذابِ اللهِ مِنْ شَيْءٍ قالُوا لَوْ هَدانَا اللهُ لَهَدَيْناكُمْ سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا ما لَنا مِنْ مَحِيصٍ (٢١) وَقالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلاَّ أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ ما أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٢٢) وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ (٢٣) )

التّفسير

المحادثة الصريحة بين الشيطان واتباعه :

اشارت الآيات السابقة الى العقاب الشديد للمخالفين والمعاندين

٤٩٣

والكافرين ، وهذه الآيات تكمل ذاك البحث.

يقول تعالى اوّلا :( وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً ) (١) .

وفي هذه الأثناء يقول الضعفاء الذين تاهوا في وادي الضلالة للمستكبرين الذين كانوا سبب ضلالهم( فَقالَ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذابِ اللهِ مِنْ شَيْءٍ ) فيجيبونهم بدون توقّف( قالُوا لَوْ هَدانَا اللهُ لَهَدَيْناكُمْ ) .

ولكن للأسف فالمسألة منتهية( سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا ما لَنا مِنْ مَحِيصٍ ) .

* * *

ملاحظات

١ ـ ما هو المراد من( وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً ) ؟

أوّل سؤال يطرح بخصوص هذه الآية هو : هل أنّ الناس في هذه الدنيا غير ظاهرين في علم الله لكي تقول الآية :( وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً ) ؟

في الجواب على هذا السؤال قال كثير من المفسّرين : انّ المقصود عدم احساس الناس بهذا الظهور والبروز امام الله في هذه الدنيا ، فيكون احساسهم ظاهرا لهم في الآخرة.

وقال بعض ايضا : المقصود هو البروز والظهور من القبور في ساحة العدل الالهي للحساب.

هذان التّفسيران جيدان وليس هناك مانع من ان تجمعا في مفهوم الآية.

__________________

(١) يجب الانتباه الى انّ «برزوا» فعل ماضي ، الّا انّه جاء هنا بصيغة المستقبل ، لانّ المسائل المتعلّقة بالقيامة قطعيّة وغير قابلة للنقاش ، ولذلك وردت في كثير من الآيات بصيغة الماضي.

٤٩٤

٢ ـ ما هو المقصود من جملة( لَوْ هَدانَا اللهُ لَهَدَيْناكُمْ ) ؟

يعتقد كثير من المفسّرين انّ المقصود الهداية عن طريق النجاة من العقاب الالهي في ذلك العالم ، لانّ هذا الحديث قاله المستكبرون لاتباعهم حينما طلبوا منهم ان يغنوا عنهم قسما من العذاب ، فالسؤال والجواب متناسبان ويوحيان انّ المقصود هو هدايتهم للنجاة من العذاب.

وقد استخدم القرآن هذه الكلمة «الهداية» بخصوص الوصول الى نعم الجنّة ، كما يقول اهل الجنّة :( وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْ لا أَنْ هَدانَا اللهُ ) .(١)

وهناك احتمال انّ «قادة الضلالة» حينما يرون أنفسهم امام طلب اتباعهم ، ولكي يتنصّلوا من الذنب ويلقوا باللائمة على الغير ، كما هي طريقة كلّ المستكبرين ـ يقولون بكلّ وقاحة : ماذا نعمل؟ فلو كان الله قد هدانا الى الطريق الصحيح لهديناكم اليه! ومعناه انّنا مجبورون على ذلك وليست لنا ارادة حرّة.

وهذا هو منطق الشيطان بعينه ، او ليس هو القائل( فَبِما أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ) ؟ ولكن يجب ان يعلم المستكبرون انّهم يتحمّلون مسئولية ذنوب اتباعهم شاؤوا ام أبوا ، طبقا لصريح القرآن والرّوايات ، لانّهم المؤسّسون للانحراف والضلال دون ان ينقص اي شيء من عذاب اتباعهم.

٣ ـ أوضح بيان في ذمّ التقليد الأعمى

يتّضح لنا من الآية أعلاه ما يلي :

اوّلا : الأشخاص الذين يضعون زمام أمورهم بيد الآخرين هم ضعفاء الشخصيّة ، وقد عبّر عنهم القرآن الكريم ب( الضُّعَفاءُ ) .

ثانيا : انّ مصيرهم ومصير قادتهم واحد ، وهؤلاء البؤساء لا يستطيعون حتّى في احلك الظروف ان يستفيدوا من حماية قادتهم المضلّين ، او ان يخفّفوا عنهم

__________________

(١) الأعراف ، ٤٣.

٤٩٥

قليلا من العذاب ، بل يسخرون منهم ويقولون لهم : لا تجزعوا ولا تفزعوا فلا طريق للخلاص والنجاة من العذاب!

ثالثا : «برزوا» في الأصل من مادّة «البروز» اي الظهور او الخروج من الصفّ في مقابل الخصم في ساحة القتال ، وتأتي ايضا بمعنى المقاتلة.

«المحيص» من «المحص» بمعنى التخلّص من العيوب او الألم.

ثمّ يشير القرآن الكريم الى موقف آخر من مواقف القيامة والعقاب النفسي للجبّارين والمذنبين واتباعهم الشياطين ، حيث يقول تعالى :( وَقالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ ) وبهذا الترتيب فالشيطان وجميع المستكبرين الذين هم قادة طرق الضلال ، أصبحوا يلومون ويوبّخون تابعيهم البؤساء.

ثمّ يضيف( وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي ) ويستمرّ في القول( فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ ) .

أنتم فعلتم فاللعنة عليكم!!

وعلى كلّ حال فلا انا أستطيع انقاذكم من العذاب ولا أنتم تستطيعون انقاذي :( ما أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَ ) والآن أعلمكم بأنّي أتبرّأ من شرككم وإطاعتكم لي( إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ ) فقد فهمت الآن انّ الشرك في الطاعة ادّى الى شقائي وشقائكم ، وهذه التعاسة ليس لها طريق للنجاة ، واعلموا( إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ ) .

* * *

بحوث

١ ـ جواب الشيطان الحاسم لاتباعه

مع انّ كلمة «الشيطان»(١) لها مفهوم واسع وتشمل كلّ الطواغيت ووساوس

__________________

(١) للتوضيح اكثر في معنى الشيطان في القرآن راجع تفسير الآية ٣٦ من سورة البقرة من تفسيرنا هذا.

٤٩٦

الجنّ والانس ، ولكن في قراءتنا لهذه الآية وما قبلها علمنا انّ المقصود هنا هو شخص إبليس الذي يعتبر رئيسا للشياطين ، ولذلك انتخب جميع المفسّرين هذا التّفسير ايضا.

ونستفيد بشكل اكيد من هذه الآية انّ وساوس الشيطان لا تسلب الإنسان اختياره وحرية ارادته ، بل هي مجرّد دعوة ليس اكثر ، فالناس هم الذين يلبّون دعوته بإرادتهم ، وقد تصل الارضيّة السابقة والدوام على الخلاف بالإنسان الى حالة من سلب الاختيار في مقابل وساوسه ، كما نشاهد بعض المدمنين على المخدرات ، ولكن نعلم انّ السبب الاوّل كان هو الاختيار. يقول تعالى في الآية (١٠٠) من سورة النحل :( إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ ) .

وعلى هذا فالشيطان يجيب بشكل قاطع على الذين يعتبرونه العامل الاوّل في انحرافهم وضلالهم ، وما يقوله بعض الجهلاء لتبرئتهم من ذنوبهم ، فإنّ السلطان الحقيقي على الإنسان هو ارادته وعمله ولا شيء غيره.

٢ ـ كيف استطاع الشيطان ان يلتقي باتّباعه ويلومهم في ذاك الموقف الكبير؟

الجواب : هو انّ الله تعالى يمنحه القدرة على ذلك ، وهذا في الواقع نوع من العقاب النفسي لاتباع الشيطان ، وإنذار لكلّ السائرين في طريقه في هذه الدنيا ، لكي يعلموا من الآن مصيرهم ومصير قادتهم ، وعلى ايّة حال فالله تعالى بطريقة ما يهيئ وسيلة الارتباط بين الشيطان واتباعه.

ومن الطّريف انّ هذه المواجهة غير منحصرة بالشيطان واتباعه ، بل انّ جميع ائمّة الضلالة في هذا العالم لهم نفس البرنامج ايضا ، يأخذون بأيدي اتباعهم (بموافقتهم طبعا) ويذهبون بهم الى أمواج العذاب والبلاء ، وحينما يرون الأوضاع سيّئة يتركونهم وشأنهم حتّى انّهم يلومونهم ويوبّخونهم في خسران

٤٩٧

الدنيا والآخرة.

٣ ـ «المصرخ» من مادّة «اصراخ» وفي الأصل من مادّة «صرخ» ، وهي بمعنى الاغاثة وطلب المساعدة ، ولذلك فالمصرخ بمعنى المغيث ، والمستصرخ طالب الاستغاثة.

٤ ـ القصد من اتّخاذ الكفّار الشيطان شريكا في الآية أعلاه شرك الطاعة وليس شرك العبادة.

٥ ـ في انّ جملة( إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ ) تابعة لحديث الشيطان ام كلام مستقل من الله تعالى ، هناك آراء مختلفة عند المفسّرين ، لكن التّفسير الأقرب هو انّ الجملة مستقلّة ومن كلام الله حيث قالها في نهاية حديث الشيطان مع اتباعه لتكون درسا تربويّا.

وبعد بيان حال الجبّارين والظالمين ومصيرهم المؤلم ، تتطرّق الآية الاخيرة من هذا البحث الى حال المؤمنين وعاقبتهم حيث يقول تعالى :( وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ) الى آخر الآية.

«التحيّة» في الأصل «الحياة» وتستعمل لسلامة وحياة الافراد ، وتطلق لكلّ تحيّة وسلام ودعاء في بداية اللقاء.

قال بعض المفسّرين : «التحية» هنا من الله للمؤمنين قرينة على نعمهم وسلامتهم من كلّ أذى ونزاع (لذلك فتحيّتهم اضافة لمفعول ، وفاعله الله).

وقال البعض الآخر : انّ القصد هو تحيّة المؤمنين فيما بينهم ، او تحيّة الملائكة لهم ، وعلى ايّة حال فـ «سلام» التي قيلت بشكل مطلق لها من المفهوم الواسع بحيث يشمل كلّ سلامة من اي نوع من انواع العذاب الروحي والجسمي(١) .

* * *

__________________

(١) بحثنا هذا الموضوع «السّلام والتحيّة» في المجلد الثّاني ، ذيل الآية (٨٦) : من سورة النساء من تفسيرنا هذا.

٤٩٨

الآيات

( أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُها ثابِتٌ وَفَرْعُها فِي السَّماءِ (٢٤) تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها وَيَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٢٥) وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ ما لَها مِنْ قَرارٍ (٢٦) يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللهُ ما يَشاءُ (٢٧) )

التّفسير

الشّجرة الطيّبة والشّجرة الخبيثة!

هنا مشهد آخر في تجسيم الحقّ والباطل ، الكفر والايمان ، الطيّب والخبيث ضمن مثال واحد جميل وعميق المعنى يكمل البحوث السابقة في هذا الباب.

يقول تعالى اوّلا :( أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ ) ثمّ يشير الى خصائص هذه الشجرة الطيّبة في جميع ابعادها ضمن عبارات قصيرة.

ولكن قبل ان نستعرض هذه الخصائص يجب ان نعرف ما المقصود من

٤٩٩

«الكلمة الطيّبة»؟

قال بعض المفسّرين : انّها كلمة التوحيد (لا اله الّا الله).

وقال آخرون : انّها تشير الى الأوامر الالهيّة.

وقال البعض الآخر : انّه الايمان الذي محتواه ومفهومه (لا اله الّا الله).

وقال آخرون في تفسيرها : انّها شخص المؤمن.

وأخيرا قال بعضهم : انّها الطريقة والبرامج العمليّة.

ولكن بالنظر الى سعة مفهوم ومحتوى الكلمة الطيّبة نستطيع ان نقول : انّها تشمل جميع هذه الأقوال ، لانّ «الكلمة» في معناها الواسع تشمل جميع الموجودات ، ولهذا السبب يقال للمخلوقات «كلمة الله».

و «الطيّب» كلّ طاهر ونظيف ، فالنتيجة من هذا المثال انّه يشمل كلّ سنّة ودستور وبرنامج وطريقة ، وكلّ عمل ، وكلّ انسان والخلاصة : كلّ موجود طاهر ونظيف وذي بركة ، وجميعها كشجرة طيّبة فيها الخصائص التالية :

١ ـ كائن يمتلك الحركة والنمو ، وليس جامدا ولا خاملا ، بل ثابت وفاعل ومبدع للآخرين ولنفسه (التعبير بـ «الشجرة» بيان لهذه الحقيقة).

٢ ـ هذه الشجرة طيّبة ، ولكن من ايّة جهة؟ بما انّه لم يذكر لها قسم خاص بها ، فإنّها طيّبة من كلّ جهة منظرها ، ثمارها ، ازهارها ، ظلالها ، ونسيمها جميعها طيب وطاهر.

٣ ـ لهذه الشجرة نظام دقيق ، لها جذور وأغصان ، وكلّ واحد له وظيفته الخاصّة ، فوجود الأصل والفرع فيها دليل على سيادة النظام الدقيق عليها.

٤ ـ أصلها ثابت محكم بشكل لا يمكن ان يقلعها الطوفان ولا العواصف.

وباستطاعتها ان تحفظ أغصانها العالية في الفضاء وتحت نور الشمس ، لانّ الغصن كلّما كان عاليا يحتاج الى جذور قوّية( أَصْلُها ثابِتٌ ) .

٥ ـ انّ أغصان هذه الشجرة الطيّبة ليست في محيط ضيّق ولا رديء ، بل

٥٠٠

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572