الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٧

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل10%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 572

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 572 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 287709 / تحميل: 5229
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٧

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

الاقتصادي الذي كان عليه قوم شعيب ، لكن كليهما يتشابهان في توليد الفساد في المجتمع والإخلال بالنظام الاجتماعي واماتة الفضائل الخلقية واشاعة الانحراف ، ومن هنا نجد في الرّوايات أحيانا مقارنة الدرهم الربوي المرتبط ـ بالطبع ـ بالمسائل الاقتصادية بالزنا الذي هو تلوّث جنسي(١) .

ثمّ يأمر شعيب قومه الضالين بشيئين هما في الواقع ما كان يؤكّد عليه جميع الأنبياء المتقدمين.

الاوّل : قوله :( وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ) اي لتطهروا من الذنوب وتجتنبوا الشرك وعبادة الأوثان والخيانة في المعاملات.

والثّاني : قوله :( ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ ) اي ارجعوا اليه.

والواقع انّ الاستغفار توقف في مسير الذنب وغسل النفس ، والتوبة عودة الى الله الكمال المطلق.

واعلموا انّه مهما يكن الذنب عظيما والوزر ثقيلا فإنّ طريق العودة اليه تعالى مفتوح وذلك لانّ( رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ ) .

وكلمة «الودود» صيغة مبالغة مشتقّة من الود ومعناه المحبّة ، وذكر هذه الكلمة بعد كلمة «رحيم» اشارة الى انّ الله يلتفت بحكم رحمته الى المذنبين التائبين ، بل هو اضافة الى ذلك يحبّهم كثيرا لانّ رحمته ومحبته هما الدافع لقبول الاستغفار وتوبة العباد.

* * *

__________________

(١) ينبغي ذكر هذه المسألة ايضا وهي انّ جملة( لا يَجْرِمَنَّكُمْ ) ذات احتمالين :

الاوّل : بمعنى لا يحملنكم ، ففي هذه الصورة تكون على النحو التالي لا يجرمن فعل و (شقاقي) فاعله ، و «كم» الضمير المتصل بالفعل مفعول به اوّل و( أَنْ يُصِيبَكُمْ ) مصدر مؤول مفعول ثان فيكون معنى الآية : يا قوم لا يحملنكم شقاقي (مخالفتكم اياي) ان يصيبكم مصير كمصير قوم نوح وأمثالهم من الأقوام المذكورين.

الاحتمال الثّاني : انّ( لا يَجْرِمَنَّكُمْ ) اي لا يجرنكم الى الذنب والاجرام ، ففي هذه الصورة تكون الجملة على النحو التالي ، و «لا يجرمن» فعل و «شقاقي» فاعله و «كم» مفعوله و «انى يصيبكم» نتيجته ، ويكون معنى الآية كما ذكرناه في المتن.

٤١

الآيات

( قالُوا يا شُعَيْبُ ما نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَراكَ فِينا ضَعِيفاً وَلَوْ لا رَهْطُكَ لَرَجَمْناكَ وَما أَنْتَ عَلَيْنا بِعَزِيزٍ (٩١) قالَ يا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَراءَكُمْ ظِهْرِيًّا إِنَّ رَبِّي بِما تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (٩٢) وَيا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ (٩٣) )

التّفسير

التّهديدات المتبادلة بين شعيب وقومه :

انّ شعيبا هذا النّبي العظيم الذي لقّب بخطيب الأنبياء(١) لخطبة المعروفة والواضحة ، والتي كانت أفضل دليل أمين للحياة المادّية والمعنوية لهذه الجماعة ، واصل محاججته لقومه بالصبر والاناة والقلب المحترق ، ولكن تعالوا لنرى كيف ردّ عليه هؤلاء القوم الضالون؟! لقد أجابوه بأربع جمل كلّها تحكي عن جهلهم ولجاجتهم :

__________________

(١) سفينة البحار ، مادة : شعيب.

٤٢

فأوّلها : انّهم قالوا :( يا شُعَيْبُ ما نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ ) فكلامك أساسا ليس فيه اوّل ولا آخر ، وليس فيه محتوى ولا منطق قيم لنفكر فيه ونتدبره وليس لديك شيء نجعله ملاكا لعملنا ، فلا ترهق نفسك اكثر! وامض الى قوم غيرنا

والثّانية : قولهم( وَإِنَّا لَنَراكَ فِينا ضَعِيفاً ) فإذا كنت تتصور انّك تستطيع اثبات كلماتك غير المنطقية بالقدرة والقوّة فأنت غارق في الوهم.

والثّالثة : هي انّه لا تظنّ انّنا نتردد في القضاء عليك بأبشع صورة خوفا منك ومن بأسك ، ولكن احترامنا لعشيرتك هو الذي يمنعنا من ذلك( وَلَوْ لا رَهْطُكَ لَرَجَمْناكَ ) !

والطريف انّهم عبّروا عن قبيلة شعيب : بـ «الرّهط» وهذه الكلمة تطلق في لغة العرب على الجماعة التي مجموع أنصارها ثلاثة الى سبعة ، او عشرة ، او على قول. وهو الحدّ الأكثر ـ تطلق على أربعين نفرا.

وهم يشيرون بذلك الى انّ قبيلتك تتمتع بالقوة الكافية مقابل قوتنا ، ولكن تمنعنا امور اخرى ، وهذا يشبه قول القائل : لو لا هؤلاء الاربعة من قومك وأسرتك لأعطيناك جزاءك بيدك. في حين انّ قومه وأسرته ليسوا بأربعة ، بل المراد بيان هذه المسألة ، وهي انّهم لا اهمية لقدرتهم في نظر القائل.

وقولهم الأخير :( وَما أَنْتَ عَلَيْنا بِعَزِيزٍ ) فمهما كانت منزلتك في عشيرتك ، ومهما كنت كبيرا في قبيلتك الّا انّه لا منزلة لك عندنا لسلوكك المخالف والمرفوض.

ولكنّ شعيبا دون ان يتأثر بكلماتهم الرخيصة واتهاماتهم الواهية أجابهم بمنطقه العذب وبيانه الشائق متعجبا وقال :( يا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللهِ ) أفتذروني من اجل رهطي وقبيلتي التي لا تتجاوز عدّة انفار ولا ينالني منكم سوء ، فلم لا تصغون لكلامي في الله؟ وهل يمكن ان نقارن عدّة افراد بعظمة الله

٤٣

سبحانه وأنتم لم تهابوه وتوقّروه( وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَراءَكُمْ ظِهْرِيًّا ) (١) .

وفي الختام يقول لهم : لا تظنوا انّ الله غافل عنكم او انّه لا يرى اعمالكم ولا يسمع كلامكم ، بل( إِنَّ رَبِّي بِما تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ ) .

انّ المتحدّث البليغ هو من يستطيع ان يعرّف موقفه من بين جميع المواقف الى الطرف المقابل ويشخصه من خلال أحاديثه.

فحيث انّ المشركين من قوم شعيب هددوه في آخر كلامهم بالرجم ، وابرزوا قوتهم امامه ، كان موقف شعيب من تهديداتهم على النحو التالي :( وَيا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ (٢) إِنِّي عامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ (وَمَنْ هُوَ كاذِبٌ) وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ ) (٣) . اي انتظروا لتنتصروا عليّ بقواكم وجماعتكم وأموالكم ، وانا منتظر ايضا ان يصيبكم الله بعذابه ويهلككم جميعا.

* * *

__________________

(١) هناك في اللغة العربية أسلوب يستعمل عند عدم الاعتناء بشيء ما وذلك على نحو الكناية فيقال مثلا «جعلته تحت قدمي» او يقال مثلا «جعلته دبر اذني» او «جعلته وراء ظهري» او «جعلته ظهريا» و «الظهر» على زنة «قهر» ، والياء بعده ياء النسبة وانّما كسرت الظاء فذلك لما يطرأ على الاسم المنسوب من تغيرات.

(٢) المكانة : مصدر او اسم مصدر ومعناه القدرة على الشيء.

(٣) الرقيب : معناه الحافظ والمراقب وهو مشتق في الأصل من الرقبة وانّما سمّي بذلك لانّه يكون حافظا على رقبة شخص ما «كناية عن انّه مراقب على روحه» او يحرك الرقبة ليؤدي دور الرقابة والحفظ.

٤٤

الآيتان

( وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا شُعَيْباً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ (٩٤) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها أَلا بُعْداً لِمَدْيَنَ كَما بَعِدَتْ ثَمُودُ (٩٥) )

التّفسير

عاقبة المفسدين في مدين :

قرانا في قصص الأقوام السابقين مرارا ، انّ الأنبياء كانوا في المرحلة الاولى يدعونهم الى الله ولم يألوا جهدا في النصيحة والإبلاغ وبيان الحجّة ، وفي المرحلة التي بعدها حيث لم ينفع النصح للجماعة ينذرها نبيّها ويخوّفها من عذاب الله ، ليعود الى طريق الحق من فيه الاستعداد ولتتم الحجّة عليهم ، وفي المرحلة الثّالثة ، وبعد ان لم يغن اي شيء ممّا سبق ـ تبدا مرحلة التصفية وتطهير الأرض ، وينزل العقاب فيزيل الأشواك من الطريق.

وفي شأن قوم شعيب ـ اي اهل مدين ـ وصل الأمر الى المرحلة النهائية ايضا ، إذ يقول القرآن الكريم فيهم :( وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا شُعَيْباً وَالَّذِينَ آمَنُوا

٤٥

مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ ) .

«الصيحة» كما قلنا سابقا معناها في اللغة كل صوت عظيم ، والقرآن الكريم يحكي عن هلاك أقوام متعددين بالصيحة السّماوية ، هذه الصيحة يحتمل ان تكون صاعقة من السّماء او ما شابهها ، وكما بينا في قصّة ثمود «قوم هود» قد تبلغ الأمواج الصوتية حدّا بحيث تكون سببا لهلاك جماعة من الناس.

ثمّ يعقّب القرآن فيقول :( فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ ) اي : أجسادا هامدة بلا روح ، لتبقى أجسادهم هناك عبرة لمن اعتبر وهكذا طوي سجلّ وطومار حياتهم( كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها ) . وانطفأ بريق كل شيء ، فلا ثروة ولا قصور ولا ظلم ولا زينة كل ذلك تلاشى وانعدم.

وكما كانت نهاية عاد وثمود ـ وقد حكى عنهما القرآن ـ فهو يقول عن نهاية مدين ايضا( أَلا بُعْداً لِمَدْيَنَ كَما بَعِدَتْ ثَمُودُ ) .

وواضح انّ المقصود من كلمة «مدين» اهل مدين الذين كانوا بعيدين عن رحمة الله وكانوا من الهالكين.

دروس تربوية في قصّة شعيب :

انّ أفكار الأنبياء والوقائع التي جرت للأقوام السابقة تستلهم منها الأجيال التي بعدها ، لانّ تجارب حياة أولئك الأقوام هي التي تمخضت عن عشرات السنين او مئات السنين ثمّ نقلت إلينا في عدّة صفحات من «التاريخ» وكل فرد منّا يستطيع ان يستلهم العبر في حياته.

قصّة هذا النّبي العظيم «شعيب» فيها دروس كثيرة ، ومن هذه الدروس ما يلي :

٤٦

١ ـ اهمية المسائل الاقتصادية

قرانا في هذه القصّة انّ شعيبا دعا قومه بعد التوحيد الى الحق والعدالة في الأمور المالية والتجارية ، وهذا نفسه يدل على انّ المسائل الاقتصادية في المجتمع لا يمكن تجاوزها وتهميشها. كما يدل على انّ الأنبياء لم يؤمروا بالمسائل الاخلاقية فحسب ، بل كانت دعوتهم تشكل «الإصلاح» إصلاح الوضع الاجتماعي غير الجيد ، وإصلاح الوضع الاقتصادي كذلك ، حيث كانت هذه الأمور من أهم الأمور ـ عند الأنبياء ـ بعد التوحيد.

٢ ـ لا ينبغي التّضحية بالاصالة من اجل التعصب

كما قرانا في هذه القصّة فإنّ احد العوامل التي دعت الى سقوط هؤلاء في احضان الشقاء انّهم نسوا الحقائق لحقدهم وعدائهم الشخصي ، في حين انّ الإنسان العاقل والواقعي ينبغي ان يتقبل الحق من كل احد حتى ولو كان من عدوّه.

٣ ـ الصلاة تدعو الى التوحيد والتطهير

لقد سأل شعيبا قومه( أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوالِنا ما نَشؤُا ) وان نترك الغش وعدم إيفاء الميزان حقّه. فلعلهم كانوا يتصورون متسائلين : انّ هذه الاذكار والادعية ما عسى ان تؤثر في هذه الأمور؟ على حين انّنا نعرف ان أقوى علاقة ورابطة هي العلاقة الموجودة بين الصلاة وهذه الأمور ، فإذا كانت الصلاة بمعناها الواقعي اي مع حضور الإنسان بجميع وجوده امام الله فإنّ هذا الحضور معراج التكامل وسلّم الصعود في تربية روحه ونفسه ، والمطهّر لصدإ ذنوبه ورين قلبه وهذا الحضور يقوّي ارادته ويجعل عزمه راسخا وينزع عنه غروره وكبرياءه.

٤٧

٤ ـ النظرة الذاتيّة (الانانيّة) رمز للجمود !

لقد كان قوم شعيب ـ كما عرفنا في الآيات السابقة ـ افرادا انانيين و «ذاتيين» إذ كانوا يتصورون أنفسهم ذوي فهم ، وانّ شعيبا يجهل الأمور!! وكانوا يسخرون منه ويعدّون كلامه بلا محتوى ويرونه ضعيفا ، وهذه النظرة الضيقة والانانية صيّرت سماء حياتهم مظلمة ورمت بهم الى هاوية الهلاك.

ليس الإنسان وحده ـ بل حتى الحيوان ـ إذا كان «انانيّا» ذا نظرة ضيقة فإنّه سيتوقف في الطريق!!

يقال انّ فارسا وصل الى نهر وأراد عبوره ولكنّه لاحظ بتعجب انّ الفرس غير مستعدّة ان تعبر النهر الصغير والقليل العمق ، وكلما الحّ على الفرس لكي تعبر لم يفلح ، فمرّ به رجل حكيم ، فقال له : حرّك ماء النهر ليذهب فإنّ المشكلة ستنحلّ. ففعل ذلك فعبرت الفرس النهر بكل هدوء!! فسأل الحكيم عن السرّ في ذلك ، فقال : حين كان الماء صافيا كانت صورة الفرس في الماء فلم يرق للفرس ان تطأ نفسها ، وحين اختلط الماء بالطين ذهبت الصورة ونسيت الفرس صورتها فعبرت بكل بساطة!

٥ ـ تلازم الايمان والعمل

لا يزال الكثيرون يتصورون انه يمكن للمسلم ان يكون بالعقيدة وحدها مسلما حتى وان يقم بأيّ عمل ، وما يزال الكثيرون يريدون من الدين الّا يكون مانعا لرغباتهم وميولهم ، ويريدون ان يكونوا أحرارا بوجه مطلق.

قصّة شعيب تدلنا على انّ قومه كانوا يريدون مثل هذا المنهج ، لذلك كانوا يقولون له : نحن غير مستعدين ان نترك ما كان عليه السلف من عبادة الأصنام ، ولا نفقد حريتنا في التصرف بأموالنا ما نشاء.

لقد نسي أولئك انّ ثمرة شجرة الايمان ـ أساسا ـ هي العمل ، وكان نهج

٤٨

الأنبياء ان يصلحوا الانحرافات العمليّة للإنسان ويسددوا خطواته ، والّا فإنّ شجرة بلا ثمر وورق وفائدة عملية لا تستحق الّا ان تحرق!

نحن اليوم ـ وللأسف ـ نرى بعض المسلمين قد غلب عليهم هذا الطراز من الفكر ، وهو انّ الإسلام عبارة عن عقائد جافّة لا تتعدّى حدود المسجد ، فما داموا في المسجد فهي معهم ، وإذا خرجوا ودّعوها فيه!! فلا تجد أثرا لاسلامهم في السوق او الادارات او المحيط.

انّ السير في كثير من الدول الاسلامية ـ حتى الدول التي كانت مركزا لانتشار الإسلام ـ يكشف لنا هذا الواقع المرير ، وهو انّ الإسلام منحصر في حفنة من «الاعتقادات وعدد من العبادات عديمة الروح» لا تجد فيها أثرا عن المعرفة والعدالة الاجتماعية والنمو الثقافي والأخلاق الاسلاميّة ولكن ـ لحسن الحظ ـ نرى في ضمن هذه الصحوة الاسلامية ولا سيما بين الشباب تحرّك نحو الإسلام الصحيح والممازجة بين الايمان والعمل ، فلا تكاد تسمع في هذا الوسط مثل هذا الكلام «ما علاقة الإسلام بأعمالنا؟!» او انّ «الإسلام مرتبط بالقلب لا بالحياة والمعاش» وما الى ذلك.

الاطروحة التي نسمعها من بعض المنحرفين بقولهم : نحن نستوحي عقيدتنا من الإسلام واقتصادنا من ماركس ، هي شبيهة بطريقة تفكير قوم شعيب الضالين وهي محكومة مثلها ايضا ، ولكن هذا الانفصال او التفرقة بين العمل والايمان كان موجودا منذ القدم ولا يزال ، وينبغي ان نكافح مثل هذا التفكير!

٦ ـ الملكية غير المحدودة أساس الفساد

لقد كان قوم شعيب واقعين في مثل هذا الخطأ حيث كانوا يتصورون انّه من الخطأ القول بتحديد التصرف بالأموال من قبل مالكيها ، ولذلك تعجبوا من شعيب وقالوا له : امثلك وأنت الحليم الرشيد يمنعنا من التصرف بأموالنا ويسلب حريتنا

٤٩

منها ، انّ هذا الكلام سواء كان على نحو الحقيقة والواقع ، ام كان على نحو الاستهزاء ، يدلّ على انّهم كانوا يرون تحديد التصرّف بالمال دليلا على عدم العقل والدارية.

في حين انّهم كانوا على خطأ كبير في تصورهم هذا إذ لو كان الناس أحرارا في التصرّف بأموالهم لعمّ المجتمع الفساد والشقاء ، فيجب ان تكون الأمور المالية تحت ضوابط صحيحة ومحسوبة كما عرضها الأنبياء على الناس ، والّا فستجرّ الحرية المطلقة المجتمع نحو الانحراف والفساد.

٧ ـ هدف الأنبياء هو الإصلاح

لم يكن هذا الشعار :( إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلاحَ ) شعار شعيب فحسب ، بل هو شعار جميع الأنبياء وكل القادة المخلصين ، وانّ اعمالهم وأقوالهم شواهد على هذا الهدف. فهم لم يأتوا لاشعار الناس ، ولا لغفران الذنوب ، ولا لبيع الجنّة ، ولا لحماية الأقوياء وتخدير الضعفاء من الناس ، بل كان هدفهم الإصلاح بالمعنى المطلق والوسيع للكلمة الإصلاح في الفكر ، الإصلاح في الأخلاق ، الإصلاح في النظم الثقافية والاقتصادية والسياسيّة للمجتمع ، والإصلاح في جميع ابعاد المجتمع.

وكان اعتمادهم ودعامتهم على تحقق هذا الهدف هو الله فحسب ولهذا لم يخافوا من التهديدات والمؤامرات كما قال شعيب( وَما تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ ) .

* * *

٥٠

الآيات

( وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ (٩٦) إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ (٩٧) يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ (٩٨) وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ (٩٩) )

التّفسير

البطل المبارز لفرعون :

بعد انتهاء قصّة شعيب واهل مدين ، يشير القرآن الكريم الى زاوية من قصّة موسى ومواجهته لفرعون وهذه القصّة هي القصّة السابعة من قصص الأنبياء في هذه السورة.

تحدث القرآن الكريم عن قصّة موسىعليه‌السلام وفرعون وبني إسرائيل اكثر من مائة مرّة.

وخصوصية قصّة موسىعليه‌السلام بالنسبة لقصص الأنبياء ـ كشعيب وصالح وهود ولوطعليهم‌السلام التي قرأناها في ما سبق ـ هي انّ أولئك الأنبياءعليهم‌السلام واجهوا الأقوام الضالين ، لكن موسىعليه‌السلام واجه اضافة الى ذلك حكومة «ديكتاتور» طاغ مستبدّ

٥١

هو فرعون الجبار.

وأساسا فإنّ الإصلاح ينبغي ان يبدأ من الأصل والمنبع ، وطالما هناك حكومات فاسدة فلن يبصر اي مجتمع وجه السعادة ، وعلى القادة الإلهيين في مثل هذه المجتمعات ان يدمروا مراكز الفساد قبل كل شيء.

ولكن ينبغي الالتفات الى انّنا نقرا في هذا القسم من قصّة موسى زاوية صغيرة فحسب ولكنّها في الوقت ذاته تحمل رسالة كبيرة للناس جميعا.

يقول القرآن الكريم اوّلا :( وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ ) .

«السلطان» بمعنى التسلّط ، يستعمل تارة في السلطة الظاهرية ، وأحيانا في السلطة المنطقية ، السلطة التي تحاصر المخالف في طريق مسدود بحيث لا يجد طريقا للفرار.

ويبدو في الآية المتقدمة انّ «السلطان» استعمل في المعنى الثّاني ، والمراد بـ «الآيات» هي معاجز موسى الجليلة ، وللمفسرين احتمالات اخرى في هاتين الكلمتين.

وعلى كل حال فإنّ موسى أرسل بتلك المعجزات القاصمة وذلك المنطق القوي( إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ ) .

وكما قلنا مرارا فإنّ كلمة «الملا» تطلق على الذين يملا مظهرهم العيون بالرّغم من خلوّ المحتوى الداخلي ، وفي منطق القرآن تطلق هذه الكلمة غالبا على الوجوه والاشراف والأعيان الذين يحيطون بالمستكبرين وبالقوى الظالمة الّا انّ جماعة فرعون الذين وجدوا منافعهم مهددة بالخطر بسبب دعوة موسى ، فإنّهم لم يكونوا مستعدين للاستجابة لمنطقه الحق ومعجزاته( فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ ) . ولكن فرعون ليس من شأنه هداية الناس الى الحياة السعيدة او ضمان نجاتهم وتكاملهم :( وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ ) .

انّ هذا نجاح فرعون هذا لم يحصل بسهولة ، فقد استفاد من كل انواع السحر

٥٢

والخداع والتآمر والقوى لتقدم اهدافه وتحريك الناس ضد موسىعليه‌السلام ، ولم يترك في هذا السبيل ايّ نقطة نفسية بعيدة عن النظر ، فتارة كان يقول : انّ موسى( يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ ) .(١)

واخرى كان يقول :( إِنِّي أَخافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسادَ ) .(٢) فيحرك مشاعرهم واحاسيسهم المذهبيّة.

وأحيانا كان يتهم موسى ، واخرى كان يهدّده ، وأحيانا يبرز قوّته وشوكته بوجه الناس في مصر ، او يدعي الدهاء في قيادته بما يضمن الخير والصلاح لهم.

ويوم الحشر حين يأتي الناس عرصات القيامة فإنّ زعماؤهم وقادتهم في الدنيا هم الذين سيقودوهم هناك حين يرى فرعون هناك :( يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ ) وبدلا من ان ينقذهم ويخلصهم من حرارة المحشر وعطشه يوصلهم الى جهنم( فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ ) فبدلا من ان يسكن عطش اتباعه هناك يحرق وجودهم وبدلا من الارواء يزيدهم ظمأ الى ظمأ.

مع ملاحظة انّ «الورود» في الأصل معناه التحرّك نحو الماء والاقتراب منه ، ولكن الكلمة أطلقت لتشمل الدخول على كل شيء وتوسّع مفهومها.

و «الورد» هو الماء يرده الإنسان ، وقد يأتي بمعنى الورود ايضا.

و «المورود» هو الماء الذي يورد عليه ، فـ «هم» اسم مفعول ، فعلى هذا يكون معنى الجملة بئس الورد والمورود(٣) على النحو التالي : النّار بئس ماؤها ماء حين يورد عليه.

ويلزم ذكر هذه المسألة الدقيقة ، وهي انّ العالم بعد الموت ـ كما قلنا سابقا ـ

__________________

(١) الأعراف ، ١١٠.

(٢) غافر ، ٢٦.

(٣) هذا الجملة من حيث التركيب النحوي يكون اعرابها كالتالي : «بئس» من افعال الذم ، وفاعله «الورد» و «المورود» صفة ، والمخصوص بالذم «النار» التي حذفت من الجملة ، واحتمل البعض انّ المخصوص بالذم هو كلمة «المورود» فعلى هذا لم يحذف من الجملة شيء ، الّا انّ الاوّل أقوى كما يبدو.

٥٣

عالم «تتجسم فيه اعمالنا وأفعالنا» الدنيوية بمقياس واسع ، فالشقاء والسعادة في ذلك العالم نتيجة اعمالنا في هذه الدنيا ، فالأشخاص الذين كانوا في هذه الدنيا قادة الصلاح يقودون الناس الى الجنّة والسعادة في ذلك العالم ، والذين كانوا قادة للظالمين والضالين واهل النّار يسوقونهم الى جهنم يتقدمونهم هناك!

ثمّ يقول القرآن :( وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ ) . فأسماؤهم الذليلة تثبت على صفحات التاريخ ابدا على انّهم قوم ضالون وجبابرة ، فقد خسروا الدنيا والآخرة وساءت النّار لهم عطاء وجزاء و( بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ ) (١) .

و «الرفد» في الأصل معناه الاعانة على القيام بعمل معين ، وإذا أرادوا ان يسندوا شيئا الى شيء آخر عبروا عن ذلك بالرفد ، ثمّ أطلقت هذه الكلمة على العطاء لانّه اعانة من قبل المعطي الى المعطى له!

* * *

__________________

(١) اعراب هذه الجملة كإعراب أختها السابقة.

٥٤

الآيات

( ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْقُرى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْها قائِمٌ وَحَصِيدٌ (١٠٠) وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَما أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَما زادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ (١٠١) وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ (١٠٢) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خافَ عَذابَ الْآخِرَةِ ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ (١٠٣) وَما نُؤَخِّرُهُ إِلاَّ لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ (١٠٤) )

التّفسير

في آيات هذه السورة تبيان لقصص سبعة أقوام من الأقوام السابقين ولمحات من تأريخ أنبيائهم ، وكل واحد منهم يكشف للإنسان قسما جديرا بالنظر من حياته المليئة بالحوادث ويحمل بين جنبيه دروسا من العبرة للإنسان.

وهنا اشارة الى جميع تلك القصص ، فيتحدث القرآن عن صورة مستجمعة لما مرّ من الحوادث والأنباء حيث يقول :( ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْقُرى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْها قائِمٌ وَحَصِيدٌ ) .

٥٥

وكلمة «قائم» تشير الى المدن والعمارات التي لا تزال باقية من الأقوام السابقين ، كأرض مصر التي كانت مكان الفراعنة ولا تزال آثار أولئك الظالمين باقية بعد الغرق ، فالحدائق والبساتين وكثير من العمارات المذهلة قائمة بعدهم.

وكلمة «حصيد» معناها اللغوي قطع النباتات بالمنجل ، وفي هذه الكلمة اشارة الى بعض الاراضي البائرة ، كأرض قوم نوح وارض قوم لوط ، حيث انّ واحدة منهما دمرها الغرق والثانية أمطرت بالحجارة.

( وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ) حيث ركنوا ولجأوا الى الأصنام والآلهة «المزعومة»( فَما أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ ) بل زادوهم ضررا وخسرانا( وَما زادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ ) (١) .

( وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ ) فلا يدعها على حالها و( إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ ) .

هذا قانون الهي عام ومنهج دائم ، فما من قوم او امّة من الناس يتجاوزون حدود الله ويمدون أيديهم للظلم ولا يكترثون لنصائح أنبيائهم ومواعظهم ، الّا أخذهم الله أخذا شديدا واعتصرتهم قبضة العذاب.

هذه الحقيقة تؤكّد انّ المنهاج السابق منهاج عمومي وسنّة دائمة ، وتستفاد من آيات القرآن بصورة جيدة ، وهي في الواقع إنذار لأهل العالم جميعا : ان لا تظنوا انّكم مستثنون من هذا القانون ، او انّ هذا الحكم مخصوص بالاقوام السابقين.

والطبع فإنّ الظلم بمعناه الواسع يشمل جميع الذنوب ، ووصفت القرية او المدينة بأنّها «ظالمة» مع انّ الوصف ينبغي ان يكون لساكنيها ، فكأنما هناك مسألة دقيقة وهي انّ اهل هذه المدينة انغمسوا في الظلم الى درجة حتى كأنّ المدينة لها أصبحت مغموسة في الظلم ايضا.

__________________

(١) «التتبيب» مشتق من مادة «تبّ» ومعناه الاستمرار في الضرر ، وقد يأتي بمعنى الهلاك ايضا.

٥٦

وحيث انّ هذا قانون كلّي وعام فإنّ القرآن يقول مباشرة( إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خافَ عَذابَ الْآخِرَةِ ) .

لانّ الدنيا لا تعدّ شيئا إزاء الآخرة ، وجميع ما في الدنيا حقير حتى ثوابها وعقابها ، والعالم الآخر أوسع ـ من جميع النواحي ـ من هذه الدنيا. فالمؤمنين بيوم القيامة يعتبرون لدى مشاهدة واحد من هذه المثل والنماذج في الدنيا ، ويواصلون طريقهم.

وفي ختام الآية اشارة الى وصفين من أوصاف يوم القيامة حيث يقول القرآن( ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ ) .

هي اشارة الى انّ القوانين والسنن الالهية كما هي عامّة في هذا العالم ، فإنّ اجتماع الناس في تلك المحكمة الالهية ايضا عام ، وسيكون في زمان واحد ويوم مشهود للجميع يحضره الناس كلّهم ويرونه.

من الطريف هنا انّ الآية تقول( ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ ) ولم تقل «مجموع فيه الناس» وهذا التعبير اشارة الى انّ يوم القيامة ليس ظرفا لاجتماع الناس فحسب ، بل هو هدف يمضي اليه الناس في مسيرهم التكاملي.

ونقرا في الآية (٩) من سورة التغابن( يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذلِكَ يَوْمُ التَّغابُنِ ) .

وبما انّ البعض قد يتوهم انّ الحديث عن ذلك اليوم لم يحن اجله فهو نسيئة وغير معلوم وقت حلوله ، لهذا فإنّ القرآن يقول مباشرة :( وَما نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ ) .

وذلك ايضا لمصلحة واضحة جليّة ليرى الناس ميادين الاختبار والتعلم ، وليتجلى آخر منهج للأنبياء وتظهر آخر حلقة للتكامل الذي يمكن لهذا العالم ان يستوعبها ثمّ تكون النهاية.

والتعبير بكلمة «معدود» اشارة الى قرب يوم القيامة ، لانّ كل شيء يقع تحت

٥٧

العدّ والحساب فهو محدود وقريب.

والخلاصة انّ تأخير ذلك اليوم لا ينبغي ان يغترّ به الظالمون ، لانّ يوم القيامة وان تأخر فهو آت لا محالة ، وانّ التعبير بتأخره ايضا غير صحيح.

* * *

٥٨

الآيات

( يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ (١٠٥) فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (١٠٦) خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلاَّ ما شاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ (١٠٧) وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلاَّ ما شاءَ رَبُّكَ عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ (١٠٨) )

التّفسير

السّعادة الشّقاوة :

أشير في الآيات المتقدّمة الى مسألة القيامة واجتماع الناس كلّهم في تلك المحكمة العظيمة وهذه الآيات ـ محل البحث ـ بيّنت زاوية من عواقب الناس ومصيرهم في ذلك اليوم ، إذ تقول الآيات اوّلا :( يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ ) .

قد يتصور أحيانا انّ هذه الآية الدالة على تكلّم الناس في ذلك اليوم بإذن الله ، تنافي الآيات التي تنفي التكلم هناك مطلقا ، كالآية (٦٥) من سورة يس

٥٩

( الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ ) ، وكالآية (٣٥) من سورة المرسلات حيث نقرا :( هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ ) .

ولهذا السبب قال بعض المفسّرين الكبار : انّ التكلم هناك «يوم القيامة» لا مفهوم له أساسا. لانّ التكلم وسيلة لكشف باطن الأشخاص وداخلهم ، ولو كان لدينا احساس نستطيع ان نطّلع به على أفكار كل شخص لم يكن حاجة الى التكلم ابدا.

فعلى هذا لمّا كانت الأسرار وجميع الأشياء تنكشف «يوم القيامة» على حالة «الظهور والبروز» فلا معنى للتكلم أصلا.

وببيان آخر : انّ الدار الآخرة دار مكافأة وجزاء لا دار عمل ، وعلى هذا فلا معنى هناك لاختيار الإنسان وتكلمه حسب رغبته وارادته ، بل هو الإنسان وعمله وما يتعلق به ، فلو أراد التكلم فلا يكون كلامه عن اختيار وارادة وحاكيا عمّا في ضميره كما في الدنيا ، بل كل ما يتكلم به هناك فهو نوع من الانعكاس عن اعماله التي تظهر جليّة ذلك اليوم. اي انّ الكلام هناك ليس كالكلام في الدنيا بحيث يستطيع الإنسان على حسب ميله ان يتكلم صادقا او كاذبا.

وعلى كل حال فإنّ ذلك اليوم هو يوم كشف حقائق الأشياء وعودة الغيب الى الشهود ، ولا شبه له بهذه الدنيا.

ولكن هذا الاستنتاج من الآية المتقدّمة لا ينسجم مع ظاهر الآيات الأخرى في القرآن ، لأنّ القرآن يتحدث عن كثير من كلام المؤمنين والمجرمين والقادة والجبابرة وأتباعهم ، والشيطان والمنخدعين به ، وأهل النّار وأهل الجنّة ، بحيث يدل على انّ هناك كلاما كالكلام في هذه الدنيا أيضا.

حتى انّ بعض الآيات يستفاد منها انّ قسما من المجرمين يكذبون في ردهم على بعض الاسئلة ، كما هو مذكور في سورة الانعام الآيات (٢٢) الى (٢٤) حيث تقول الآيات( وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ

٦٠

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

أي فئتين من المؤمنين وقع القتال بينهما، وأنّه لا ينبغي لأحد أن يفضّل أي فئة منهما على الأُخرى، حتّى لا تحدث فتنة. (1)

2 - حرّمت الإباضيّة الزواج بين من ربطت بينهما علاقة إثم، وقد كانوا في تحريمهم لهذا الزواج يستندون إلى روح الإسلام الّذي يحارب الفاحشة. (2) وقد انفردوا به من بين سائر المذاهب.

3 - منعت الإباضيّة المسلم من إراقة ماء الوجه والتعرّض لمذلّة السؤال؛ فإذا هانت عليه كرامته، وذهب يسأل الناس الزكاة، حَرُم منها عقاباً له على هذا الهوان، وتعويداً له على الاستغناء عن الناس، والاعتماد على الكفاح. (3)

مؤسّس المذهب الإباضي ودعاته في العصور الأُولى:

قد تعرّفت على عقائد الإباضيّة، فحان البحث عن أئمّتهم ودعاتهم في العصور الأُولى.

1 - عبد الله بن إباض، مؤسّس المذهب:

هو عبد الله بن إباض، المقاعسي، المري، التميمي، ابن عبيد، ابن مقاعس، من دعاة الإباضيّة، بل هو مؤسّس المذهب.

____________________

(1) انظر: الإباضيّة في مصر والمغرب: 61.

(2) الإباضيّة في موكب التاريخ: 111 - 112.

(3) الإباضيّة في موكب التاريخ: 116.

١٤١

قد اشتهرت هذه الفِرقة بالإباضيّة من أوّل يوم، وهذا يدلُّ على أنّه كان لعبد الله بن إباض، دور في نشوء هذه الفِرقة وازدهارها.

2 - جابر بن زيد العماني، الأزدي:

جابر بن زيد، أبو الشعثاء، الأزدي، اليحمدي، البصري، مشهور بكنيته، فقيه الإباضيّة، مات سنة 93هـ، ويقال: مائة. يروي عن عبد الله بن عبّاس.

3 - أبو عبيدة، مسلم بن أبي كريمة (المتوفّى حوالي 158هـ):

مسلم بن أبي كريمة التميمي، توفّي في ولاية أبي جعفر المنصور المتوفّى سنة 158هـ، قال عنه ابن الجوزي: مجهول.

أخذ العلم عن جابر بن عبد الله، وجابر بن زيد، وضمار السعيدي، وجعفر السمّاك وغيرهم.

حمل العلم عنه الربيع بن حبيب الفراهيدي؛ صاحب المسند، وأبو الخطّاب المعافري، وعبد الرحمن بن رستم، وعاصم السدراتي، وغيرهم.

4 - أبو عمرو، ربيع بن حبيب الفراهيدي:

هو من أئمّة الإباضيّة، وهو صاحب المسند المطبوع، ولم نجد له ترجمة وافية في كتب الرجال لأهل السنّة، ويُعدّ في طليعة الجامعين للحديث والمصنّفين فيه.

١٤٢

5 - أبو يحيى عبد الله بن يحيى الكندي:

عبد الله بن يحيى بن عمر الكندي، من حضرموت، وكان قاضياً لإبراهيم بن جبلة؛ عامل القاسم بن عمر على حضرموت، وهو عامل مروان على اليمن، خرج بحضرموت والتفَّ حوله جماعة عام 128هـ، وبسط سيطرته على عُمان واليمن والحجاز، وفي عام 130هـ جهّز مروان بن محمد جيشاً بقيادة عبد الملك بن محمد بن عطيّة السعدي، فكانت بينهم حرب عظيمة، قُتل فيها عبد الله بن يحيى وأكثر من معه من الإباضيّة، ولحق بقيّة الخوارج ببلاد حضرموت.

دول الإباضيّة:

قد قام باسم الإباضيّة، عدد من الدول في أربعة مواضع من البلاد الإسلاميّة:

1 - دولة في عُمان، استقلّت عن الدولة العباسيّة في عهد أبي العباس السفّاح، سنة 132هـ، ولا تزال إلى اليوم.

2 - دولة في ليبيا، سنة 140هـ، ولم تعمّر طويلاً؛ فقد انتهت بعد ثلاث سنوات.

3 - دولة في الجزائر، قامت سنة 160هـ، وبقيت إلى حوالي 190هـ، ثُمَّ قضت عليها الدولة العبيديّة.

١٤٣

4 - دولة قامت في الأندلس، ولا سيّما في جزيرتي ميورقة ومينورقة، وقد انتهت يوم انتهت الأندلس.

هذه هي الإباضيّة، وهذا ماضيهم وحاضرهم، وقد قدّمنا إليك صورة موجزة من تاريخهم ونشأتهم وشخصيّاتهم وعقائدهم.

١٤٤

13

الشِّيعة الإماميّة

الشّيعة لغة واصطلاحاً:

الشيعة لغة هم: الجماعة المتعاونون على أمر واحد في قضاياهم، يقال تشايع القوم إذا تعاونوا، وربّما يطلق على مطلق التابع، قال سبحانه: ( فَاسْتَغَاثَهُ الّذِي مِن شِيعَتِهِ عَلَى الّذِي مِنْ عَدُوّه ) (1) ، وقال تعالى: ( وَإِنّ مِن شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ * إِذْ جَاءَ رَبّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ) (2) .

وأمّا اصطلاحاً، فلها إطلاقات عديدة، بملاكات مختلفة:

1 - الشيعة: من أحبَّ عليّاً وأولاده باعتبارهم أهل بيت النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) الّذين فرض الله سبحانه مودّتهم، قال عزَّ وجلَّ: ( قُل لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلّا الْمَوَدّةَ فِي الْقُرْبَى ) (3) . والشّيعة بهذا المعنى تعمّ كلّ المسلمين، إلاّ النواصب؛ بشهادة أنّهم يصلّون على نبيّهم وآله في صلواتهم وأدعيتهم، ويتلون الآيات النازلة في حقّهم صباحاً ومساءً، وهذا هو الإمام الشافعي يصفهم بقوله:

يـا أهل بيت رسول الله حبكم

فرض من الله في القرآن أنزله

____________________

(1) القصص: 15.

(2) الصافات: 83 - 84.

(3) الشورى: 23.

١٤٥

كـفاكم مـن عـظيم الشأن أنّكم

مَن لم يصلّ عليكم لا صلاة له (1)

2 - من يفضّل عليّاً على عثمان، أو على الخلفاء عامّة، مع اعتقاده بأنّه رابع الخلفاء، وإنّما يقدّم؛ لاستفاضة مناقبه وفضائله عن الرسول الأعظم، والّتي دوّنها أصحاب الحديث في صحاحهم ومسانيدهم.

3 - الشيعة من يشايع علياً وأولاده باعتبار أنّهم خلفاء الرسول وأئمة الناس بعده، نَصَبهم لهذا المقام بأمر من الله سبحانه، وذكر أسماءهم وخصوصيَّاتهم. والشيعة بهذا المعنى هو المبحوث عنه في المقام، وقد اشتُهر بأنّ عليّاً هو الوصيّ حتّى صار من ألقابه، وذكره الشعراء بهذا العنوان في قصائدهم، وهو يقول في بعض خطبه:

«لا يقاس بآل محمد من هذه الأُمّة أحد، ولا يسوّى بهم من جرت نعمتهم عليه أبداً، هم أساس الدين، وعماد اليقين، إليهم يفيء الغالي، وبهم يلحق التالي، ولهم خصائص حقِّ الولاية، وفيهم الوصيّة والوراثة». (2)

ومُجمل القول: إنّ هذا اللفظ يشمل كلَّ من قال إنّ قيادة الأُمّة لعليّ بعد الرسول (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، وإنّه يقوم مقامه في كلِّ ما يمتُّ إليه، سوى النبوّة ونزول الوحي عليه، كلّ ذلك بتنصيص من الرسول.

وعلى ذلك، فالمقوّم للتشيّع، وركنه الرّكين، هو القول بالوصاية والقيادة، بجميع شؤونها، للإمام (عليه السّلام)، فالتشيّع هو الاعتقاد بذلك، وأمّا ما سوى ذلك، فليس مقوّماً لمفهوم التشيّع، ولا يدور عليه إطلاق الشيعة.

____________________

(1) الصواعق: 148.

(2) نهج البلاغة: الخطبة 2.

١٤٦

الفصل الأوّل:

مبدأ التشيّع وتاريخ تكوّنه

زعم غير واحد من الكتّاب القدامى والجدد، أنّ التشيّع كسائر المذاهب الإسلاميّة، من إفرازات الصراعات السياسيّة، وذهب بعض آخر إلى القول إنّه نتيجة الجدال الكلامي والصراع الفكري، فأخذوا يبحثون عن تاريخ نشوئه وظهوره في الساحة الإسلاميّة، وكأنّهم يتلقّون التشيّع كظاهرة طارئة على المجتمع الإسلامي، ويظنّون أنّ القطاع الشيعي من جسم الأُمّة الإسلاميّة، باعتباره قطاعاً تكوّن على مرّ الزمن؛ لأحداث وتطورات سياسيّة أو اجتماعيّة أو فكريّة، أدَّت إلى تكوين ذلك المذهب كجزء من ذلك الجسم الكبير، ثُمَّ اتسع ذلك الجزء بالتدريج.

وبعد أن افترض هؤلاء أنّه أمر طارئ، أخذوا بالفحص والتفتيش عن علّته أو علله، فذهبوا في تعيين المبدأ إلى كونه ردّة فعل سياسيّة أو فكريّة، ولكنّهم لو كانوا عارفين أنّ التشيّع وُلِد منذ عهد النبيّ الأكرم (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)؛ لَمَا تسرّعوا في إبداء الرأي في ذلك المجال، ولعلموا أنّ التشيّع والإسلام وجهان لعملة واحدة، وليس للتشيّع تاريخ ولا مبدأ، سوى تاريخ الإسلام ومبدئه، وانّ النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) هو الغارس لبذرة التشيّع في صميم الإسلام، من أوّل يوم أمَر بالصدع وإظهار الحقيقة، إلى أن لبىَّ دعوة ربه.

١٤٧

فالتشيّع ليس إلاّ عبارة عن استمرار قيادة النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) بعد وفاته، عن طريق من نصبه إماماً للناس وقائداً للأُمّة، حتّى يرشدها إلى النهج الصحيح والهدف المنشود، وكان هذا المبدأ أمراً ركّز عليه النبيّ في غير واحد من المواقف الحاسمة، فإذا كانّ التشيع متبلوراً في استمرار القيادة بالوصيّ، فلا نجد له تاريخاً سوى تاريخ الاسلام، والنصوص الواردة عن رسوله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم).

والشيعة هم المسلمون من المهاجرين والأنصار، ومن تبعهم بإحسان في الأجيال اللاحقة، هم الّذين بقوا على ما كانوا عليه في عصر الرسول في أمر القيادة، ولم يغيّروه، ولم يتعدّوا عنه إلى غيره، ولم يأخذوا بالمصالح المزعومة في مقابل النصوص، وصاروا بذلك المصداق الأبرز لقوله سبحانه: ( يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا لاَ تُقَدّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللّهِ وَرسُولِهِ وَاتّقُوا اللّهَ إِنّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) (1) .

ففزعوا في الأُصول والفروع إلى عليّ وعترته الطاهرة، وانحازوا عن الطائفة الأُخرى؛ الّذين لم يتعبدوا بنصوص الخلافة والولاية وزعامة العترة؛ حيث تركوا النصوص وأخذوا بالمصالح.

إنّ الآثار المرويّة في حق شيعة الإمام عن لسان النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) ترفع اللّثام عن وجه الحقيقة، وتُعرب عن التفاف قسم من المهاجرين حول الوصيّ، فكانوا معروفين بشيعة عليّ في عصر الرسالة، وأنّ النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) وصفهم في كلماته بأنّهم هم الفائزون، وإن كنت في شك من هذا الأمر، فسأتلو عليك بعض ما ورد من النصوص في المقام.

____________________

(1) الحجرات: 1.

١٤٨

1 - أخرج ابن مردويه، عن عائشة، قالت: قلت: يا رسول الله من أكرم الخلق على الله؟، قال: يا عائشة، أما تقرأين ( إِنّ الّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحَاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيّةِ ) (1) . (2)

2 - أخرج ابن عساكر، عن جابر بن عبد الله، قال: كنّا عند النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، فأقبل عليّ، فقال النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم): «والّذي نفسي بيده، إنّ هذا وشيعته لهم الفائزون يوم القيامة»، ونزلت: ( إِنّ الّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحَاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيّةِ ) ، فكان أصحاب النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، إذا أقبل عليّ قالوا: جاء خير البريّة. (3)

3 - أخرج ابن عدي، عن ابن عبّاس، قال: لمّا نزلت ( إِنّ الّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحَاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيّةِ ) قال رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) لعلي: «هو أنت وشيعتك يوم القيامة، راضين مرضيّين». (4)

4 - أخرج ابن مردويه، عن عليّ، قال: قال لي رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم): «ألم تسمع قول الله: ( إِنّ الّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحَاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيّةِ ) أنت وشيعتك، وموعدي وموعدكم الحوض، إذا جاءت الأُمم للحساب تدعون غرّاً محج<لين». (5)

5 - روى ابن حجر في صواعقه، عن أُم سلمة: كانت ليلتي، وكان النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) عندي، فأتته فاطمة، فتبعها عليّ (رضي الله عنه)، فقال النبيّ: «يا عليّ أنت وأصحابك في الجنّة، أنت وشيعتك في الجنة». (6)

____________________

(1) البينة: 7.

(2 و3 و4 و5) الدر المنثور: 6/589.

(6) الصواعق: 161.

١٤٩

6 - روى أحمد في المناقب: إنّه (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) قال لعليّ: «أمَا ترضى أنّك معي في الجنّة، والحسن والحسين وذريّتنا خلف ظهورنا، وأزواجنا خلف ذريّتنا، وشيعتنا عن أيماننا وشمائلنا». (1)

7 - أخرج الديلمي: (يا عليّ، إنّ الله قد غفر لك ولذريّتك ولولدك ولأهلك ولشيعتك، فابشر إنّك الأنزع البطين). (2)

8 - روى المغازلي بسنده عن أنس بن مالك، قال: قال رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم): «يدخلون من أُمّتي الجنة سبعون ألفاً لا حساب عليهم»، ثُمَّ التفت إلى عليّ، فقال: «هم شيعتك وأنت أمامهم». (3)

إلى غير ذلك من الروايات الّتي تُعرب عن أنّ عليّاً (عليه السّلام) كان متميّزاً بين أصحاب النبيّ؛ بأنّ له شيعة وأتباعاً، ولهم مواصفات وسمات كانوا مشهورين بها، في حياة النبيّ وبعدها.

الشيعة في كلمات المؤرّخين وأصحاب الفِرق:

قد غلب استعمال الشيعة بعد عصر الرسول، تبعاً له فيمن يوالي عليّاً وأهل بيته، ويعتقد بإمامته ووصايته، ويَظهر ذلك من خلال كلمات المؤرّخين وأصحاب المقالات؛ نشير إلى بعضها:

1 - روى المسعودي في حوادث وفاة النبيّ: إنّ الإمام عليّاً أقام ومن

____________________

(1) الصواعق: 161.

(2) المصدر نفسه.

(3) مناقب المغازلي: 293.

١٥٠

معه من شيعته في منزله، بعد أن تمّت البيعة لأبي بكر. (1)

2 - وقال النوبختي (المتوفّى 313هـ): إنّ أوّل الفِرق، الشيعة؛ وهم فِرقة عليّ بن أبي طالب، المسمّون شيعة عليّ في زمان النبيّ وبعده، معروفون بانقطاعهم إليه، والقول بإمامته. (2)

3 - وقال أبو الحسن الأشعري: وإنّما قيل لهم: الشيعة، لأنّهم شايعوا عليّاً، ويقدّمونه على سائر أصحاب رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم). (3)

4 - ويقول الشهرستاني: الشيعة هم الّذين شايعوا عليّاً في الخصوص، وقالوا بإمامته وخلافته نصّاً ووصيّةً. (4)

5 - وقال ابن حزم: ومن وافق الشيعة في أنّ عليّاً أفضل الناس بعد رسول الله وأحقّهم بالإمامة، وولْده من بعده. (5)

هذا غيض من فيض، وقليل من كثير، ممّا جاء في كلمات المؤرّخين وأصحاب المقالات، تُعرب عن أنّ لفيفاً من الأُمّة في حياة الرسول وبعده، إلى عصر الخلفاء وبعدهم، كانوا مشهورين بالتشيّع لعليّ، وأنّ لفظة الشيعة ممّا نطق بها الرسول وتبعته الأُمّة عليه.

____________________

(1) الوصيّة: 121.

(2) فِرق الشيعة: 15.

(3) مقالات الإسلاميّين: 1/65.

(4) الملِل والنحل: 1/131.

(5) الفصل في الملِل والنحل: 2/113.

١٥١

رواد التشيع في عصر النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم):

وإليك أسماء لفيف من الصحابة الشيعة المعروفين بالتشيّع:

1 - عبد الله بن عبّاس. 2 - الفضل بن العبّاس. 3 - عبيد الله بن العبّاس. 4 - قثم بن العبّاس. 5 - عبد الرحمن بن العبّاس. 6 - تمام بن العبّاس. 7 - عقيل بن أبي طالب. 8 - أبو سفيان بن الحرث بن عبد المطلب. 9 - نوفل بن الحرث. 10 - عبد الله بن جعفر بن أبي طالب. 11 - عون بن جعفر. 12 - محمد بن جعفر. 13 - ربيعة بن الحرث بن عبد المُطّلب. 14 - الطفيل بن الحرث. 15 - المغيرة بن نوفل بن الحارث. 16 - عبد الله بن الحرث بن نوفل. 17 - عبد الله بن أبي سفيان بن الحرث. 18 - العبّاس بن ربيعة بن الحرث. 19 - العبّاس بن عُتبة بن أبي لهب. 20 - عبد المُطّلب بن ربيعة بن الحرث. 21 - جعفر بن أبي سفيان بن الحرث.

هؤلاء من مشاهير بني هاشم، وأمّا غيرهم، فإليك أسماء لفيف منهم:

22 - سلمان المحمّدي. 23 - المقداد بن الأسود الكندي. 24 - أبوذر الغفاري. 25 - عمّار بن ياسر. 26 - حذيفة بن اليمان. 27 - خزيمة بن ثابت. 28 - أبو أيّوب الأنصاري. 29 - أبو الهيثم مالك بن التيهان. 30 - أُبي بن كعب. 31 - سعد بن عبادة. 32 - قيس بن سعد بن عبادة. 33 - عدي بن حاتم. 34 - عبادة بن الصامت. 35 - بلال بن رباح الحبشي. 36 - أبو رافع مولى رسول الله. 37 - هاشم بن عتبة. 38 - عثمان بن حُنيف. 39 - سهل بن حُنيف. 40 - حكيم بن جبلة العبدي. 41 - خالد بن سعيد بن العاص. 42 - أبو الحصيب الأسلمي. 43 - هند بن أبي هالة

١٥٢

التميمي. 44 - جعدة بن هبيرة. 45 - حجر بن عدي الكندي. 46 - عمرو بن الحمق الخزاعي. 47 - جابر بن عبد الله الأنصاري. 48 - محمّد بن أبي بكر. 49 - أبان بن سعيد بن العاص. 50 - زيد بن صوحان الزيدي.

هؤلاء خمسون صحابيّاً من الطبقة العليا للشيعة، فمن أراد التفصيل والوقوف على حياتهم وتشيّعهم، فليرجع إلى الكتب المؤلَّفة في الرجال.

١٥٣

الفصل الثاني:

شبهات حول تاريخ الشيعة

قد تعرّفت على تاريخ التشيع، وأنّه ليس وليد الجدال الكلامي، ولا إنتاج السياسات الزمنيّة؛ وإنّما هو وجه آخر للإسلام، وهما وجهان لعملة واحدة، إلاّ أنّ هناك جماعة من المؤرّخين وكتّاب المقالات، ظنّوا أنّ التشيّع أمر حادث وطارئ على المجتمع الإسلامي، فأخذوا يفتّشون عن مبدئه ومصدره، وراحوا يثيرون الشبهات حول تاريخه، وإليك استعراض هذه الشبهات نقداً وتحليلاً.

الشبهة الأُولى:

الشيعة ويوم السقيفة

إنّ مأساة السقيفة جديرة بالقراءة والتحليل، وقد تخيّل لبعض المؤرخين أنّ التشيّع ظهر بعدها.

يقول الطبري: اجتمع الأنصار في سقيفة بني ساعدة؛ ليبايعوا سعد بن عبادة، فبلغ ذلك أبا بكر، فأتاهم ومعه عمر وأبو عبيدة بن الجراح، فقال: ما هذا؟، فقالوا: منّا أمير ومنكم أمير، فقال أبو بكر: منّا الأمراء ومنكم الوزراء - إلى أن

١٥٤

قال: - فبايعه عمر، وبايعه الناس، فقالت الأنصار أو بعض الأنصار: لا نبايع إلاّ عليّاً، ثُمَّ قال: أتى عمر بن الخطاب منزل عليّ، وفيه طلحة والزّبير ورجال من المهاجرين، فقال: والله لأحرقنّ عليكم أو لتخرجنّ إلى البيعة، فخرج عليه الزبير مسلطاً بالسيف فعثر، فسقط السيف من يده، فوثبوا عليه فأخذوه.

وقال أيضاً: وتخلّف عليّ والزّبير، واخترط الزبير سيفه، وقال: لا أغمده حتّى يُبَايَع عليّ، فبلغ ذلك أبا بكر وعمر، فقالا: خذوا سيف الزبير. (1)

يُلاحظ عليه: أنّ هذه النصوص تدلّ على أنّ فكرة التشيّع لعليّ، كانت مختمرة في أذهانهم منذ عهد الرسول إلى وفاته، فلمّا رأت الجماعة أنّ الحق خرج عن محوره، عمدوا إلى التمسّك بالحق بالاجتماع في بيت عليّ، الّذي أوصّاهم النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) به طيلة حياته؛ إذ من البعيد جداً أن يجتمع رأيهم على عليّ في يوم واحد في ذلك اليوم العصيب، فالمعارضة كانت استمراراً لما كانوا يلتزمون به في حياة النبيّ، ولم تكن فكرة خلقتها الظروف والأحداث.

كان أبوذر وقت أخذ البيعة غائباً، ولمّا جاء، قال: أصبتم قناعة، وتركتم قرابة، لو جعلتم الأمر في أهل بيت نبيّكم، لَمَا اختلف عليكم اثنان. (2)

وقال سلمان: أصبتم ذا السن، وأخطأتم المعدن، أمّا لو جعلتموه فيهم، ما اختلف منكم اثنان، ولأكلتموها رغداً.

وروى الزبير بن بكار في الموفقيّات: إنّ عامّة المهاجرين، وجلّ الأنصار، كانوا لا يشكّون أنّ عليّاً هو صاحب الأمر.

____________________

(1) تاريخ الطبري: 2/443 - 444.

(2) تاريخ اليعقوبي: 2/103.

١٥٥

وروى الجوهري في كتاب السقيفة: إنّ سلمان والزبير وبعض الأنصار، كان هواهم أن يبايعوا عليّاً.

وروى أيضاً: إنّه لمّا بويع أبو بكر واستقرَّ أمره، ندم قوم كثير من الأنصار على بيعته، ولام بعضهم بعضاً، وهتفوا باسم الإمام عليّ، ولكنّه لم يوافقهم. (1)

ومن المستحيل عادة، اختمار تلك الفكرة بين هؤلاء، في يوم واحد، بل يُعرب ذلك عن وجود جذور لها، قبل رحلة النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، ويؤكد ذلك نداءاته الّتي ذكرها في حق عليّ وعترته، في مواقف متعدّدة، فامتناع الصحابة عن بيعة الخليفةن ومطالبتهم بتسليم الأمر إلى عليّ؛ إنّما هو لأجل مشايعتهم لعليّ زمن النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، وما هذا إلاّ إخلاصاً و وفاءاً منهم للنبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، وأين هو من تكوّن التشيع يوم السقيفة؟!

الشبهة الثانية:

التشيّع صنيع عبد الله بن سبأ

كتب الطبري في تاريخه يقول:

كان عبد الله بن سبأ يهوديّاً من أهل صنعاء، أُمّه سوداء، فأسلم زمان عثمان، ثُمَّ تنقّل في بلدان المسلمين يحاول إضلالهم، فبدأ بالحجاز، ثُمَّ البصرة، ثُمَّ الكوفة، ثُمَّ الشام، فلم يقدر على ما يريد عند أحد من أهل الشّام، فأخرجوه حتّى أتى

____________________

(1) شرح نهج البلاغة: 6/43 - 44.

١٥٦

مصر، فاعتمر فيهم، فقال لهم فيما يقول: لعجب ممّن يزعم أنّ عيسى يرجع، ويكذِّب بأنّ محمّداً يرجع، وقد قال الله عز وجل: ( إِنّ الّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادّكَ إِلَى‏ مَعَادٍ ) (1) ، فمحمّد أحق بالرجوع من عيسى، قال: فقُبل ذلك عنه، ووضع لهم الرجعة، فتكلّموا فيها، ثُمَّ قال لهم بعد ذلك: إنّه كان ألف نبيّ، ولكلّ نبيّ وصيّ، وكان عليّ وصيّ محمّد، ثُمَّ قال: محمّد خاتم الأنبياء، وعليّ خاتم الأوصياء، وإنّ عثمان غاصب حق هذا الوصيّ وظالمه، فيجب مناهضته لإرجاع الحق إلى أهله.

وقد بثّ عبد الله بن سبأ دُعاته في البلاد الإسلاميّة، وأشار عليهم أن يُظهروا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والطعن في الأُمراء، فمال إليه وتبعه على ذلك جماعات من المسلمين، فيهم الصحابي الكبير، والتابعي الصالح، من أمثال: أبي ذر، وعمّار بن ياسر، ومحمّد بن حذيفة، وعبد الرحمن بن عديس، ومحمّد بن أبي بكر، وصعصعة بن صوحان العبدي، ومالك الأشتر، إلى غيرهم من أبرار المسلمين وأخيارهم، فكانت السبئيّة تثير الناس على ولاتهم، تنفيذاً لخطة زعيمها، وتضع كتباً في عيوب الأمراءن وترسل إلى غير مصرهم من الأمصار، فنتج عن ذلك قيام جماعات من المسلمين؛ بتحريض السبئيّين، وقدومهم إلى المدينة، وحصرهم عثمان في داره؛ حتّى قتل فيها، كلّ ذلك كان بقيادة السبئيّين ومباشرتهم.

إنّ المسلمين بعدما بايعوا علياً، ونكث طلحة والزبير بيعتهما، وخرجا إلى البصرة، رأى السبئيّون أنّ رؤساء الجيشين أخذوا يتفاهمون، وأنّه إن تمّ ذلك

____________________

(1) القصص: 85.

١٥٧

سيؤخذون بدم عثمان، فاجتمعوا ليلاً وقرروا أن يندسّوا بين الجيشين، ويثيروا الحرب بكرة، دون علم غيرهم، وإنّهم استطاعوا أن ينفّذوا هذا القرار الخطير في غلس الليل، قبل أن ينتبه الجيشان المتقاتلان، فناوش المندسّون من السبئيّين في جيش عليّ، من كان بإزائهم من جيش البصرة، ففزع الجيشان وفزع رؤساؤهما، وظنّ كلّ بخصمه شرّاً، ثُمَّ إنّ حرب البصرة وقعت بهذا الطريق، دون أن يكون لرؤساء الجيشين رأي أو علم. (1)

إلى هنا انتهت قصة السبئيّة؛ الّتي ذكرها الطبري في تاريخه.

نظرنا في الموضوع:

1 - إنّ ما جاء في تاريخ الطبري من القصة، لا يصحّ نسبته إلاّ إلى عفاريت الأساطير ومردة الجن؛ إذ كيف يصحّ لإنسان أن يصدّق أنّ يهوديّاً جاء من صنعاء، وأسلم في عصر عثمان، استطاع أنّ يُغري كبار الصحابة والتابعين ويخدعهم، ويطوف بين البلاد، واستطاع أن يكوّن خلايا ضدَّ عثمان، ويستقدمهم إلى المدينة، ويؤلّبهم على الخلافة الإسلاميّة، فيهاجموا داره ويقتلوه، بمرأى ومسمع من الصحابة العدول ومن تبعهم بإحسان، هذا شيء لا يحتمله العقل، وإن وطّن على قبول العجائب والغرائب!!

إنّ هذه القصّة تمسّ كرامة المسلمين والصحابة والتابعين، وتصوّرهم أُمّه ساذجة؛ يغترّون بفكر يهوديٍّ وفيهم السادة والقادة والعلماء والمفكرون.

2 - إنّ القراءة الموضوعيّة للسيرة والتاريخ، تُوقفنا على سيرة عثمان بن

____________________

(1) انظر تاريخ الطبري: 3/378، نقل بتصرف وتلخيص.

١٥٨

عفّان، ومعاوية بن أبي سفيان، فإنّهما كانا يعاقبان المعارضين لهم، وينفون المخالفين ويضربونهم، فهذا أبوذر الغفاري نفاه عثمان من المدينة إلى الربذة؛ لاعتراضه عليه في تقسيم الفيء وبيت المال بين أبناء بيته، كما أنّ غلمانه ضربوا عمّار بن ياسر؛ حتّى أنفتق له فتق في بطنه، وكسروا ضلعاً من أضلاعه. إلى غير ذلك من مواقفهم من مخالفيهم ومعارضيهم، ومع ذلك نرى أنّ رجال الخلافة وعمالها، يغضّون الطرف عمّن يؤلّب الصحابة والتابعين على إخماد حكمهم، وقتل خليفتهم في عقر داره، ويجر الويل والويلات على كيانهم!!

3 - إنّ رواية الطبري، نقلت عن أشخاص لا يصحّ الاحتجاج بهم؛ مثلاً: السري؛ الّذي يروي عنه الطبري، إنّما هو أحد رجلين:

أ - السري بن إسماعيل الهمداني؛ الّذي كذّبه يحيى بن سعيد، وضعّفه غير واحد من الحفّاظ. (1)

ب - السري بن عاصم بن سهل الهمداني؛ نزيل بغداد (المتوفّى عام 258هـ)، وقد أدرك ابن جرير الطبري شطراً من حياته؛ يربو على ثلاثين سنة، كذّبه ابن خراش، ووهّاه ابن عدي، وقال: يسرق الحديث، وزاد ابن حبان: ويرفع الموقوفات؛ لا يحلّ الاحتجاج به، فالاسم مشترك بين كذّابين، لا يهمّنا تعيين أحدهما.

4 - عبد الله بن سبأ، أسطورة تاريخيّة، لأنّ القرائن والشواهد والاختلاف الموجود في حق الرجل ومولده، وزمن إسلامه، ومحتوى دعوته، يُشرف

____________________

(1) ميزان الاعتدال: 2/117.

١٥٩

المحقّق على القول: بأنّ عبد الله بن سبأ، شخصيّة خرافيّة، وضعها القصّاصون، وأرباب السمر والمجون، في عصر الدولتين: الأُمويّة والعباسيّة.

وفي المقام كلام للكاتب المصري الدكتور طه حسين، يدعم كون الرجل أسطورة تاريخيّة، حاكها أعداء الشيعة، نكاية بالشيعة؛ حيث قال:

وأكبر الظنِّ أنّ عبد الله بن سبأ هذا، إنّما قال ودعا إلى ما دعا إليه بعد أن كانت الفتنة، وعظم الخلاف، فهو قد استغلَّ الفتنة ولم يثرها.

إنّ خصوم الشيعة أيّام الأُمويّين والعباسيّين، قد بالغوا في أمر عبد الله بن سبأ هذا، ليشكّكوا في بعض ما نسب من الأحداث إلى عثمان وولاته، من ناحية، وليشنعوا على عليّ وشيعته من، ناحية أُخرى، فيردوا بعض أُمور الشيعة إلى يهوديٍّ أسلم كيداً للمسلمين، وما أكثر ما شنّع خصوم الشيعة على الشيعة؟!، وما أكثر ما شنع الشيعة على خصومهم؛ في أمر عثمان، وفي غير أمر عثمان؟

فلنقف من هذا كلّه، موقف التحفّظ والتحرّج والاحتياط، ولنُكبر المسلمين في صدر الإسلام عن أن يعبث بدينهم وسياستهم وعقولهم ودولتهم، رجل أقبل من صنعاء وكان أبوه يهوديّاً وكانت أُمّه سوداء، وكان هو يهوديّاً ثُمَّ أسلم لا رغباً ولا رهباً، ولكن مكراً وكيداً وخداعاً، ثُمَّ أُتيح له من النجاح ما كان يبتغي، فحرّض المسلمين على خليفتهم حتّى قتلوه، وفرّقهم بعد ذلك أو قبل ذلك شيعاً وأحزاباً.

هذه كلّها أُمور لا تستقيم للعقل، ولا تثبت للنقد، ولا ينبغي أنّ تُقام عليها أُمور التاريخ. (1)

____________________

(1) الفتنة الكبرى: 134.

١٦٠

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572