الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٧

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل13%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 572

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 572 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 287934 / تحميل: 5234
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٧

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

قول الله أصدق مِن قولك

زرارة قال: دخلت أنا وحمران على أبي جعفر الباقر (عليه السلام)، فقلت له: مَن وافقنا مِن علويٍّ أو غيره تولَّيناه، ومَن خالفنا مِن علويٍّ أو غيره برِئنا منه.

فقال لي: (يا زرارة، قول الله أصدق مِن قولك، فأين الذين قال الله عَزَّ وجَلَّ: ( إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيل ) (1).

أين المُرجَون لأمر الله؟!

أين الذين خلطوا عَملاً صالحاً وآخر سيِّئاً؟!

أين أصحاب الأعراف؟!

أين المُؤلَّفة قلوبهم؟!) (2) .

____________________

(1) النساء: 98.

(2) المعاد، ج1.

١٠١

...............................

إنَّ سعد بن عبادة قال: إنَّ بَكراً أخا بني ساعدة، توفِّيت أُمَّه وهو غائب عنها، فقال: يا رسول الله، إنَّ أُمِّي توفِّيت وأنا غائب عنها، فهل ينفعها إنْ تصدَّقت بشيء عنها؟

قال: (نعم).

قال: فإنِّي أُشهِدك أنَّ حائط المَخْرَف صدقة عليها.

الولد الصالح كالصدقة الجارية، مصدر أجر وثواب للوالدين في عالم البرزخ، فالولد الصالح يستغفر أحياناً لوالديه، وهذا الأمر يجعل الوالدين يتمتَّعان بالعفوِّ الإلهي، والرحمة الإلهيَّة في عالم البرزخ، أو أنَّ الولد الصالح، ونظراً لأنَّ تربيته تربية صالحة مِن قِبَل أبويه، هي التي جعلته يقوم بهذا العمل الصالح الحسن؛ فإنَّ ثواب وأجر هذا العمل الصالح، الذي قام به الولد يعود إلى والديه في عالم البرزخ.

عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال:

مَرَّ عيسى بن مريم (عليه السلام) بقبر يُعذَّب صاحبه، ثمَّ مَرَّ به مِن قابل، فإذا هو ليس يُعذَّب، فقال: (يا رَبِّ مررت بهذا القبر عامَ أوَّلٍ فكان صاحبه يُعذَّب؟!).

فأوحى الله عَزَّ وجَلَّ إليه: (يا روح الله، إنَّه أدرك له ولد صالح، فأصلح طريقاً وآوى يتيماً؛ فغفرت له بما فعل ابنه) (1) .

____________________

(1) المعاد، ج1.

١٠٢

كرامة عبد المُطَّلب جَدُّ النبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)

قام إبراهيم الخليل، وابنه إسماعيل، بأمر مِن الله ببناء الكعبة، وإقامة ذلك البيت المَقْدس، وأقام إسماعيل في مَكَّة، وكان إبراهيم (عليه السلام) يأتي إلى مَكَّة في مواسم الحَجِّ، وكان إسماعيل يشكو لوالده شُحَّ المياه، وطلب منه أنْ يُساعده للتغلُّب على هذه المُشكلة، فأوحى الله إلى إبراهيم أنْ يقوم بحفر بئر لتأمين مِياه الشِّرب للحجيج، وتوفير سُبل الراحة لهم، وبالطبع فإنَّ عمليَّة حَفر البئر في تلك المنطقة، والوصول إلى الماء لم تكن عمليَّة سهلة، فأمر الله جبرائيل أنْ يُحدِّد نقطة مُعيَّنة، أو مكان مُعيَّن يُحفر فيه البئر، وهذا المكان هو الذي يقع فيه اليوم بِئر زمزم.

قاموا بالفعل بحفر البئر، وخلافاً للتوقُّعات، وصلوا إلى الماء على عُمقٍ قليل، وفرحوا كثيراً لهذه العناية الإلهيَّة.

بعد ذلك، طلب جبرائيل مِن إبراهيم أنْ ينزل إلى داخل البئر، وتبعه جبرائيل الذي طلب مِن إبراهيم أنْ يضرب بفأسه في كلِّ زاوية مِن الزوايا الأربع، في قعر البئر، وأنْ يذكر اسم الله في كلِّ مَرَّة يضرب فيها بمِعوله، وكان إبراهيم يفعل ذلك، فكان الماء يتدفَّق مِن كلِّ زاوية مِن زوايا البئر.

فقال جبرائيل: (يا إبراهيم، اشرب الآن مِن ماء البئر وادع لولدك بالبركة)، ثمَّ خرج إبراهيم وجبرائيل مِن البئر.

وفي فترة كانت قبيلة جُرهم تُسيطر على مدينة مَكَّة، وتتولَّى سَدانة الحرم الإلهي، حيث كان المسؤولون عن شؤون الكعبة، يستلمون الهدايا والقرابين، التي كان الناس في الجاهليَّة يهدونها ويُقدِّمونها إلى آلهتهم، التي كانت موجودة في داخل الكعبة، ويحتفظون بها في مكان خاصٍّ يخضع لإشرافهم.

كان في الكعبة غَزالان مِن ذهب، وخمسة أسياف فلمَّا غلبت خُزاعة جُرهم على

١٠٣

الحرم، ألقت جُرهم الأسياف والغزالين في بِئر زمزم، وألقوا فيها الحِجارة، وطمُّوها وعموا أثرها، فلمَّا غلب قُصي على خُزاعة، لم يعرفوا موضع زمزم وعَمِيَ عليهم، وبقي مكان بئر زمزم مجهولاً لا يعرفه أحد، حتى جاء دور السيادة لعبد المُطَّلب جَدِّ الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، الذي كان يحظى بمكانةٍ عظيمة، وموقعٍ اجتماعيٍّ كبيرٍ بين القبائل العربيَّة في ذلك الوقت؛ بحيث إنَّهم كانوا يفرشون له البساط لكي يستريح عليه في ظِلِّ جِدار الكعبة، ولم يكونوا يفعلون ذلك لأحدٍ مِن قبله، وفي إحدى المَرَّات، عندما كان عبد المُطَّلب نائماً عند جدار الكعبة، رأى في المنام أنَّ شَخصاً جاء إليه، وقال له: احفر زمزم واعلم أنَّه يوجد في مكان زمزم غُراب أبيض الجناحين، ووَكر للنمل، وكان بالفعل يوجد في مكان بئر زمزم صخرة، تحتها وَكْر للنمل، وفي النهار عندما كان النمل يخرج مِن وكره، كان يأتي غراب أبيض الجناح، ويلتقط النمل بمنقاره ويأكله.

وقد عرف عبد المُطَّلب مكان بئر زمزم، استناداً إلى تلك الرُّؤيا الحقيقية؛ فقام هو وأبناؤه بحفر ذلك المكان، وأزالوا عنه الحِجارة والرِّمال، حتَّى عثروا على الماء، فكبَّروا الله.

مِن خلال هذه الرُّؤيا ظهر مكان بئر زمزم، الذي كان يجهله الناس في ذلك الوقت، ظهر بصورة حقيقيَّة كما هو، وتعرَّف عبد المُطَّلب - بموجب تلك الرُّؤيا - على مكان البئر المجهول، وأُلهِم بحقيقة كانت مَخفيَّة وغير معروفة، دون أنْ تكون هناك حاجة إلى تفسير هذه الرؤيا (1) .

____________________

(1) المعاد، ج1.

١٠٤

عبد المُطَّلب وحُلْم الشجرة التي تنبت في ظهره

كان عبد المُطَّلب في إحدى الليالي إلى جانب الكعبة، بالقُرب مِن الحَجر الأسود، فرأى حُلْماً بَدَّاً عَجيباً بنظره، فسيطر عليه الخوف والهلع؛ فذهب إلى أحد مُفسِّري الأحلام، وأخبره بما رآه في المنام، وقال: رأيت في المنام أنَّ شجرة نبتت في ظهري، امتدَّت أغصانها إلى عِنان السماء، وغطَّت أوراقها وأغصانها الشرق والغرب، ثمَّ رأيت نوراً ينبعث مِن تلك الشجرة، وهو أكثر بريقاً مِن نور الشمس وضوئها، ورأيت الناس مِن العرب والعَجم يسجدون لهذه الشجرة، وكلُّ يوم كان يمرُّ كانت هذه الشجرة تزداد نوراً، ورأيت أنَّ جماعة مِن قريش جاءت لكي تجتثُّ تلك الشجرة، وتقتلعها مِن جذورها، ولكنْ كلَّما اقتربوا مِن تلك الشجرة بهدف الإساءة إليها، كان يظهر شابٌّ حَسَن الملبس والمظهر، فيصدُّهم عنها، ويقصم ظهورهم، ويقتلع عيونهم، وقد مدْدْت يدي لكي آخذ غِصناً مِن أغصانها؛ فصاح بي الشابُّ الوسيم قائلاً: أنْ أيضاً ليس لك نصيب مِن هذه الشجرة، فقلت له: ومَن هم الذين لهم نصيب منها؟

فقال: إنَّ هذه الشجرة هي مِلك للذين يتمسَّكون بها، ويُمسكون بأغصانها؛ فتغيَّر وجه الشخص الذي كان يستمع إلى هذه الرؤيا مِن عبد المُطَّلب واضطربت أحواله.

ثمَّ قال: لئِن صدقت، ليخرجَنَّ مِن صُلْبك وَلد يَمْلك الشرق والغرب، ويُنبِّأ في الناس... وكان أبو طالب يُحدِّث بهذا الحديث، والنبي قد خرج ويقول: كانت الشجرة - والله - أبا القاسم الأمين.

ووفقاً لما قاله الشخص، الذي فسَّر هذه الرؤيا، فإنَّ الرؤيا المذكورة تتضمَّن مجموعة مِن الأنباء الغيبيَّة، بدأت تتحقَّق بصورة تدريجيَّة بعد ذلك بعشرات السنين، ففي بداية الأمر يُرزَق عبد المُطَّلب بولدٍ.

١٠٥

وثانياً: هذا الولد يَحُكم الشرق والغرب.

وثالثاً: يقوم بنشر وترويج التعاليم الإلهيَّة بين الناس.

ورابعاً: هذا المولود يرتفع نجمه، وتزداد شُهرته، وتتعزَّز مكانته يوماً بعد يوم.

خامساً: مجموعة مِن قريش تبدأ في مُناهضته ومُعارضة رسالته، وبالتالي فهي تسعى للقضاء عليه.

سادساً: إنَّ شابَّاً ينبري للدفاع عن هذه الشجرة، ويقضي على المُعارضين، وهذا الشاب ليس سوى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام).

سابعاً: إنَّ يَد عبد المُطَّلب لا تصل إلى أغصان الشجرة؛ لأنَّه يُفارق الحياة قبل أنْ يُبعث الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) (1) .

____________________

(1) المعاد، ج1.

١٠٦

إيَّاكم وتعلُّم النجوم إلاَّ ما يُهتدى به في بَرٍّ أو بحر

عندما أعدَّ عليٌّ (عليه السلام) جنوده لمُحاربة الخوارج، واستعدَّ للانطلاق، تقدَّم إليه رجل، وقال له: إذا ذهبت إلى الحرب في هذا الوقت بالذات، أخاف أنْ لا تحقَّق هدفك، وتعود مُنهزماً، وقد عرفت ذلك عن طريق الحسابات الفلكيَّة، والتدقيق في أوضاع الكواكب والنجوم في السماء.

فقال (عليه السلام): (أتزعم أنَّك تهدي إلى الساعة، التي مَن سار فيها صُرِف عنه السوء، وتُخوِّف مِن الساعة، التي مَن سار فيها حاق به الضُّرُّ؟! فمَن صَدَّقك بهذا؛ فقد كَذَّب القرآن؛ واستغنى عن الاستعانة بالله في نيل المَحبوب، ودفع المكروه، وتبتغي في قولك للعامل بأمرك أنْ يُولْيك الحمد دون رَبِّه؛ لأنَّك بزعمك أنت هديته إلى الساعة التي نال فهيا النفع وأمن الضُّرَّ).

ثمَّ أقبل (عليه السلام) على الناس فقال: (أيُّها الناس، إيَّاكم وتعلُّم النجوم، إلاَّ ما يُهتدى به في بَرٍّ أو بحرٍ؛ فإنَّها تدعو إلى الكَهانة، والمُنجِّم كالكاهن، والكاهن كالساحر، والساحر كالكافر، والكافر في النار، سيروا على اسم الله) (1) .

____________________

(1) المعاد، ج1.

١٠٧

ما مؤمن يموت..

إلاَّ قيل لروحه: الحَقْي بوادي السلام

عن حبَّة العَرني قال: خرجت مع أمير المؤمنين (عليه السلام) إلى الظهر، فوقف بوادي السلام، كأنَّه مُخاطب لأقوام، فقُمت بقيامه حتَّى أعييت، ثمَّ جلست حتَّى مَلَلت، ثمَّ قُمت حتَّى نالني مِثل ما نالني أوَّلاً، ثمَّ جلست حتَّى مَلَلت، ثمَّ قُمت وجمعت ردائي، فقلت: يا أمير المؤمنين، إنِّي قد أشفقت عليك مِن طول القيام فراحة ساعة.

ثمَّ طرحت الرداء ليجلِس عليه، فقال لي: (يا حبَّة، إنْ هو إلاّ مُحادثة مؤمن أو مُؤانسته).

قلت: يا أمير المؤمنين، وإنَّهم لكذلك؟!

قال: (نعم، ولو كُشِف لك لرأيتهم حلقاً حلقاً، مُحتَبين يتحادثون).

فقلت: أجسام أمْ أرواح؟

فقال: (أرواح، وما مؤمن يموت في بُقعة مِن بِقاع الأرض، إلاَّ قيل لروحه: الحقي بوادي السلام، وإنَّها لبُقعة مِن جَنَّة عَدْنٍ) (1) .

____________________

(1) المعاد، ج1.

١٠٨

سلمان وتكليم المَيِّت له

عيَّن أمير المؤمنين (عليه السلام) سلمان الفارسي والياً على المَدائن.

ويقول أصبغ بن نُباتة: كنت مع سلمان في المدائن، وكنت أُكثِر مِن زيارته ولقائه. وفي أحد الأيَّام ذهبت لعيادته عندما كان مريضاً، وهو المرض الذي أودى بحياته في نهاية الأمر، وكنت أعوده باستمرار، وأسأل عن حاله وشيئاً فشيئاً اشتدَّ به المرض، وأيقن بالموت، فالتفت إليَّ وقال لي: يا أصبغ، عهدي برسول الله يقول: (يا سلمان، سيُكلِّمك مَيِّت إذا دنت وفاتك)، وقد اشتهيت أنْ أدري أدنت أم لا؟.

فقال أصبغ: يا سلمان، اطلب ما تُريده فسأُنجزه لك.

فقال: تذهب الآن، وتُحضِر لي تابوتاً، وتفرش في داخله نفس البساط الذي يُفرش للموتى عندما يوضعون داخل التابوت، ومِن ثمَّ تُحضر معك أربعة أشخاص، فتحملوني إلى المقبرة، فقام أصبغ على عَجَلٍ، وعاد بعد ساعة وقد أحضر كلَّ ما طلبه منه سلمان الفارسي، وفعل كلَّ ما أمره به، وحمله إلى المقبرة، وعندما وصل إلى هناك وضع التابوت على الأرض.

فقال سلمان: ضعوني أمام القبلة؛ ففعلوا ذلك، عندها نادى سلمان بأعلى صوته:

السلام عليكم يا أهل عَرصة البلاء، السلام عليكم يا مُحتجبين عن الدنيا، فلم يسمع جواباً. ثمَّ كرَّر السلام عليهم قائلاً:

أقسمتكم بالله وبرسوله الكريم، أنْ يُجيبني واحد منكم، فأنا سلمان الفارسي صاحب رسول الله، وهو الذي أخبرني: بأنَّه إذا دنا أجلي، فإنَّ مَيِّتاً سيُكلِّمني، وإنِّي أُريد أنْ أعرف هل دنا أجلي أم لا؟

عندها سمع سلمان الجواب مِن الروح الذي رَدَّ السلام، وقال لسلمان:

لقد سمعنا كلامك، فاسأل ما تُريد.

١٠٩

فسأل سلمان الروح قائلاً: هل أنت مِن أهل الجَنَّة أمْ مِن أهل النار؟

فقال الروح: بلْ أنا مِن الذين شملتهم الرَّحمة والمَغفرة الإلهيَّة وفازا بالجَنَّة.

ثمَّ سأل سلمان الروح عن كيفيَّة مُفارقته الدنيا، وعن الأوضاع بعد الموت، وكان الروح يُجيب على أسئلة سلمان الفارسي واحداً واحداً، وبعد أنْ انتهى الحديث بين سلمان والروح، أخرجوه مِن التابوت، ووضعوه على الأرض فتوجَّه سلمان إلى الله قائلاً:

يا مَن بيده ملكوت كلِّ شيء، وإليه تُرجعون، وهو يُجير ولا يُجار عليه، بك آمنت ولنبيِّك اتَّبعت، وبكتابك صدقت، وقد أتاني ما وعدتني، يا مَن لا يُخلف الميعاد اقبضني إلى رحمتك، وأنزلني دار كرامتك (1) .

____________________

(1) المعاد، ج1.

١١٠

صَفاء الروح وقوَّة الحُلْم

قبل سنوات عديدة، كان يعيش في إحدى مُدن إيران رجل شريف ومؤمن، وكان ولده الأكبر أيضاً رجلاً صالحاً ومؤمناً، كوالده وكان الأب والابن يعيشان في منزلٍ عاديٍّ، في وضع ماديٍّ صعب؛ حيث كانا يقتصدان كثيراً في النفقات؛ لكي يُحافظا على سُمعتهما، ولا يمدَّا يد الحاجة إلى الآخرين، وقد بلغ بهما الوضع حَدَّاً، بحيث إنَّهما صارا يستعملا ماء الحنفيَّة في المنزل للشرب والطبخ فقط. أمَّا لغسل الملابس ومَلء الحوض الموجود في باحة المنزل، وسقي حديقة المنزل، فإنَّهما كانا يستعملان ماء البئر، كما أنَّهما قاما ببناء غرفة صغيرة فوق البئر؛ لكي تقي الأشخاص الذين يُريدون إخراج الماء، مِن البئر الحَرَّ، وأشعَّة الشمس المُحرقة في فصل الصيف، والبرد والأمطار والثلوج في فصل الشتاء، كما أنَّ وجود مِثل هذه الغرفة الصغيرة، يمنع سقوط الأجسام الغريبة، والقاذورات، والأحجار، وغيرها في داخل البئر، وبالتالي تُحافظ على نظافة البئر.

لقد كان الأب وابنه يقومان - بنفسهما - بسحب الماء مِن البئر، ولم يستأجرا أحداً للقيام بهذا العمل.

وفي أحد الأيَّام، لاحظ الأب وابنه أنَّ الطبقة الطينيَّة، التي تُغطِّي سقف هذه الغرفة مِن الداخل، يُمكن أنْ تسقط على الأرض، أو في داخل البئر، أو يُمكن أنْ تسقط على رأس أحد، يُصادف وجوده في الغرفة في تلك اللحظة، ونظراً لأنَّهما لا يملكان المال اللازم لاستخدام عمَّال بناء، يقومون بصيانة السقف وترميمه، فقد قررَّا أنْ يقوما بنفسيهما بهذا العمل في يوم عطلة.

وبالفعل قاما في اليوم المُتَّفق عليه بتغطية فوهة البئر، بقطع الأخشاب، وقطعة مِن البساط، وبدءا بإزالة الطبقة الطينيَّة مِن السقف، وقاما بتجميع هذه القطع في باحة

١١١

المنزل، وصبَّا عليها الماء، حتَّى أصبحت ليِّنة طريَّة، وأخذ الأب يقوم بعمل البناء، وابنه يُناوله الطين، حتَّى انتهى الأب مِن تغطية سقف الغرفة بأكمله، بالطين المخلوط بالقَشِّ أو التبن، وبعد انتهاء العمل لاحظ الأب أنَّ خاتمه ليس موجوداً في إصبعه، فاعتقد في بادئ الأمر أنَّه نسيه إلى جانب الحوض، عندما كان يغسل يديه، ولكنَّه لم يعثر عليه هناك.

وظلَّ الأب يبحث عن خاتمه، على مدى يومين كاملين في كلِّ مكان، ولكنَّه لم يعثر على أيِّ أثرٍ، وتأثَّر كثيراً لضياع خاتمه، ويئس مِن إمكانيَّة العثور عليه، وظلَّ لفترة مِن الوقت يتحدَّث مع أهله وعياله عن الخاتم المفقود، وكان يتأسَّف كثيراً على ذلك، وبعد عِدَّة سنوات مِن هذه القضيَّة توفِّي الأب إثر نوبة قلبيَّة.

يقول الابن: بعد فترة مِن وفاة والدي، رأيته يوماً في المنام، وكنت أعلم أنَّه ميِّت، فاقترب مِنِّي، وسلَّم عليَّ، وسألني عن أحوالي، ثمَّ قال لي: يا ولدي، إنَّني مَدينٌ للشخص الفلاني بخمسمائة تومان، فأرجو أن تخلصني مِن العذاب.

استيقظ الولد مِن نومه، ولم يكترث بالحُلْم الذي رآه، ولم يعمل بما طلبه منه أبوه، وبعد فترة رأى الابن والده مَرَّة أُخرى في المنام، وكرَّر ما سبق أنْ طلبه منه، وعاتبه على عدم تلبية طلبه، فقال له الابن - وهو في المنام ويعلم أنَّ والده مَيِّت ـ: أعطني عَلامة؛ حتَّى أطمئن بأنَّك والدي.

قال له: أتذكر قبل عِدَّة سنوات، أنَّنا قُمنا - معاً - بتغطية سقف غرفة البئر بالطين، وبعدها اكتشفت أنَّ خاتمي مفقود، وبحثنا عنه في كلِّ مكان، فلم نعثر عليه.

قال الابن: نعم، أذكر ذلك.

قال الأب: إنَّ الشخص عندما يموت، تتَّضح له كثير مِن القضايا والأُمور المجهولة، فلقد عرفت بعد موتي أنَّ خاتمي أضعته داخل الطين الذي أصلحت به سقف الغرف، حيث انزلق الخَاتم مِن إصبعي عندما كنت أعِجن الطين وأقلبه. ولكي

١١٢

تطمئنَّ بأنِّي أبوك الذي أتحدَّث معك، عليك أنْ تُزيل الطين مِن السقف وتخلطه بالماء، حتَّى يُصبح طريَّاً عندها سوف تعثر على الخاتم.

في الصباح نفَّذ الولد ما قاله له أبوه، دون أنْ يُخبر أحداً بالأمر، فعثر بالفعل على خاتم والده.

يقول الابن: بعد ذلك ذهبت إلى السوق، للشخص الذي أخبرني به والدي، فسلَّمت عليه وسألته عن حاله، ثمَّ قلت له: هل أنَّ والدي مَدينٌ لك بمبلغ مِن المال؟

قال الرجل صاحب الدُّكَّان: لماذا تسأل مِثل هذا السؤال؟

قلت: أُريد أنْ أعرف حقيقة الأمر.

قال: أطلب والدك بخمسمائة تومان.

سألته: كيف كان ذلك؟

قال: جاءني أبوك يوماً إلى هنا، وطلب مِنِّي قرضاً بمبلغ خمسمائة تومان، فأعطيته المبلغ دون أنْ آخذ منه إيصالاً بذلك، وبعد فترة توفِّي والدك بالنوبة القلبيَّة.

ـ لماذا لم تُطالب بقرضك؟

قال الرجل: لأنِّي لم أكُن أملك وثيقة أو إيصالاً، ورأيت أنَّ مِن غير المُناسب أنْ أُطالب بالمبلغ، فقد لا تصدِّقونني.

سلَّم الابن المبلغ المذكور إلى الدائن صاحب الدُّكَّان، ونقل له القِصَّة مِن أوَّلها إلى آخرها (1) .

____________________

(1) المعاد، ج1.

١١٣

توقَّع الموت صباحاً ومساءً

جاء موسى العطَّار إلى أبي عبد الله الصادق (عليه السلام)، فقال له: يا ابن رسول الله، رأيت رؤيا هالتني: رأيت صِهراً لي مَيِّتاً، وقد عانقني، وقد خِفت أنْ يكون الأجل قد اقترب.

فقال: (يا موسى، توقَّع الموت صباحاً ومساءً؛ فإنَّه مُلاقينا، ومُعانقة الأموات الأحياء أطول لأعمارهم فما كان اسم صِهرك؟).

قال: حسين.

فقال: (أمَّا رؤياك تدلُّ على بقائك وزيارتك لأبي عبد الله الحسين { عليه السلام }) (1) .

____________________

(1) المعاد، ج1.

١١٤

ليس هناك ليلٌ وإنَّما هو ضوء ونور

قال رجل: يا رسول الله، هل في الجَنَّة مِن ليلٍ؟

قال: (وما هيَّجك على هذا؟).

قال: سمعت الله يذكر في الكتاب: ( ... وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيّاً ) (مريم)، والليل مِن البُّكْرة والعَشيِّ.

فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): (ليس هناك ليلٌ، وإنَّما هو ضوء ونور يَرد الغُدوَّ على الرواح والرواح على الغدوِّ، وتأتيهم طرف الهدايا مِن الله لمواقيت الصلوات، التي كانوا يُصلُّون فيها في الدنيا، وتُسلِّم عليهم الملائكة) (1) .

____________________

(1) المعاد، ج2.

١١٥

امرأة تدخل النار في هِرَّة حبستها

وأُخرى تدخل الجَنَّة في كلب سقته

عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: (اطَّلعت ليلة الإسراء على النار فرأيت امرأة تُعذَّب، فسألت عنها: فقيل: إنَّها ربطت هِرَّة، ولم تُطعمها، ولم تُسقها، ولم تدعها تأكل مِن خَشاش الأرض حتَّى ماتت، فعذَّبها بها بذلك.

واطَّلعت على الجَنَّة، فرأيت امرأة مومس، فسألت عنها: فقيل: إنَّها مَرَّت بكلب يلهث مِن العطش، فأرسلت إزارها في بئر، فعصرته في حلقه حتَّى روي فغفر الله لها) (1) .

____________________

(1) المعاد، ج2.

١١٦

البئر صدقة

خَرج سعد يُرافقه عدد مِن الأشخاص يوماً مِن المدينة، مع الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) في طريقهم إلى الحرب، وكانت أُمُّ سعد مريضة، حيث فارقت الحياة أثناء غياب ابنها، وكان سعد مُقاتلاً في جيش الإسلام ويُحبُّ والدته كثيراً، وعندما سمع بوفاتها لدى عودته تأثَّر كثيراً، فجاء إلى الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وقال له: أردت قبل سفري أنْ أُعطي صدقة عن والدتي، ولكنِّي لم أستطع، والآن حيث فارقت والدتي الدنيا هل ينفعها إذا قدَّمت صدقة عنها؟

فقال الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم): (نعم).

فقال سعد: ما هي أفضل صدقة أُقدِّمها لها؟

فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): (لقد رأيت أنَّ الجنود يُعانون أثناء الطريق مِن شَحَّة الماء، فبإمكانك أنْ تحفر بئراً في الطريق؛ لكي تستفيد منه القوافل التي تمرُّ مِن هناك، وتكون صدقة جارية لوالدتك).

فقام سعد - استجابة لأمر الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) - بحفر بئر على نيَّة والدته، وأسماه: بئر أُمَّ سعد وجعلها وقفاً للجميع (1).

____________________

(1) المعاد، ج2.

١١٧

غفر لك بالخوف فانظر كيف تكون فيما تستقبل

عن أبي حمزة الثمالي، عن علي بن الحسين (صلوات الله عليهما) قال: (إنَّ رجلاً ركب البحر بأهله، فكُسر بهم فلم ينجُ مِمَّن كان في السفينة إلاَّ امرأة الرجل، فإنَّها نجت على لوح مِن ألواح السفينة، حتَّى لجأت إلى جزيرة مِن جُزر البحر، وكان في تلك الجزيرة رجل يقطع الطريق، ولم يَدَعْ لله حُرمَة إلاَّ وانتهكها، فلم يعلم إلاَّ والمرأة قائمة على رأسه، فرفع رأسه إليها، فقال: إنسيَّة أمْ جِنِّيَّة؟

قالت: إنسيَّة.

فلم يكلِّمها كلمة، حتَّى جلس منها مجلس الرجل مِن أهله، فلمَّا أنْ همَّ بها اضطربت، فقال لها: ما لك تضطربين؟

قالت: أفرق مِن هذا، وأومأت بيدها إلى السماء.

قال: وما صنعتِ مِن هذا الشيء، وإنَّما أستكرِهُك استكراهاً، فأنا - والله - أولى بهذا الفَرق والخوف أحقُّ منك.

[ قال: ] فقام ولم يُحدِث شيئاً، ورجع إلى أهله، وليست له هِمَّة إلاَّ التوبة والمُراجعة.

فبينا هو يمشي، إذ صادفه راهب يمشي في الطريق، فحميت عليهما الشمس، فقال الراهب للشابِّ: ادعُ الله يُظلُّنا بغَمامة، فقد حَميت علنيا الشمس.

فقال الشابُّ: ما أعلم أنَّ لي عند رَبِّي حسنة، فأتجاسر على أنْ أسأله شيئاً.

قال: فأدعو أنا، وتؤمِّن أنت؟

قال: نعم.

فأقبل الراهب يدعو والشابُّ يؤمِّن، فما كان بأسرع مِن أنْ أظلَّتهما غَمامة، فمشيا

١١٨

تحتها مَليَّاً مِن النهار، ثمَّ تفرَّقت الجادَّة جادَّتين، فأخذ الشابُّ في واحدة، وأخذ الراهب في واحدة، فإذا السحابة مع الشابِّ، فقال الراهب: أنت خيرٌ مِنِّي، لك استُجيب، ولم يُستجَب لي، فأخبرني ما قِصَّتك، فأخبره بخبر المرأة.

فقال: غُفر لك ما مضى؛ حيث دخلك الخوف، فانظر كيف تكون فيما تستقبل) (1) .

____________________

(1) المعاد، ج2.

١١٩

المرء مع مَن أحبَّ

عن أنس قال: جاء رجل مِن أهل البادية - وكان يُعجبنا أنْ يأتي الرجل مِن أهل البادية يسأل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) - فقال يا رسول الله: متى قيام الساعة؟

فحضرت الصلاة، فلمَّا قضى (صلى الله عليه وآله وسلم) صلاته، قال: (أين السائل عن الساعة؟).

قال: أنا يا رسول الله.

قال: (أعددت لها؟).

قال: والله، ما أعددت لها مِن كثيرِ عملٍ، صلاة ولا صوم، إلاَّ أنِّي أُحبُّ الله ورسوله.

فقال له النبي (صلى الله عليه وآله): (المرء مع مَن أحبَّ).

قال أنس: فما رأيت المسلمين فرحوا بعد الإسلام بشيء أشدُّ مِن فرحهم بهذا (1) .

____________________

(1) المعاد، ج3.

١٢٠

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

مقرّها في عنان السّماء ، وهذه الاغصان والفروع تشقّ الهواء وتصعد فيه عاليا( وَفَرْعُها فِي السَّماءِ ) .

ومن الواضح انّ الاغصان كلّما كانت عالية وسامقة تكون بعيدة عن التلوّث والغبار وتصبح ثمارها نظيفة ، وتستفيد اكثر من نور الشمس والهواء الطلق ، فتكون ثمارها طيّبة جدّا(١) .

٦ ـ هذه الشجرة كثيرة الثمر لا كالأشجار الذابلة العديمة الثمر ، ولذلك فهي كثيرة العطاء( تُؤْتِي أُكُلَها ) .

٧ ـ وثمارها ليست فصلية ، بل في كلّ فصل وزمان ، فإذا أردنا ان نمدّ يدنا الى أغصانها في اي وقت لم نرجع خائبين( كُلَّ حِينٍ ) .

٨ ـ انّ إنتاجها من الثمار يكون وفق قوانين الخلقة والسنن الالهيّة وليس بدون حساب( بِإِذْنِ رَبِّها ) .

والآن يجب ان نفتّش ، اين نجد هذه الخصائص والبركات؟ نجدها بالتأكيد في كلمة التوحيد ومحتواها ، وفي الإنسان الموحّد ذي المعرفة ، وفي البرامج الحيّة النظيفة ، وجميعها نامية ومتحرّكة ولها اصول ثابتة ومحكمة وفروع كثيرة وعالية بعيدة عن التلوّث بالادران الجسديّة والدنيوية ، وكلّها مثمرة وفيّاضة.

وما من احد يأتي إليها ويمدّ يده الى فروعها الّا ويستفيد من ثمارها اللذيذة العطرة ، وتتحقّق فيه الخصال المذكورة ، فعواصف الاحداث الصعبة والمشاكل الكبيرة لا تزحزحه من مكانه ، ولا يتحدد ، وافق تفكيره في هذه الدنيا الصغيرة ، بل يشقّ حجب الزمان والمكان ويسير نحو المطلق اللامتناهي.

سلوكهم وبرامجهم ليست تابعة للهوى والهوس ، بل طبقا للأوامر الالهيّة

__________________

(١) ويظهر هذا الأمر بشكل واضح في ثمار الأشجار ، فثمار الاغصان العالية تكون انضج وأطيب طعما من ثمار الاغصان الواطئة.

٥٠١

وبإذن ربّهم ، وهذا هو مصدر الحركة والنمو في حركتهم.

الرجال العظام من المؤمنين هم كلمة الله الطيّبة ، وحياتهم اصل البركة ، دعوتهم توجب الحركة ، آثارهم وكلماتهم وأقوالهم وكتبهم وتلاميذهم وتاريخهم وحتّى قبورهم جميعها ملهمة وحيّة ومربّية.

نعم( وَيَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ) .

وهناك سؤال مطروح بين المفسّرين وهو : هل لوجود هذه الشجرة وصفاتها واقع خارجي؟

يعتقد البعض بوجودها وهي النخلة ، ولذلك اضطروا الى ان يفسّروا( كُلَّ حِينٍ ) بستّة أشهر.

ولكن لا حاجة الى الإصرار في وجود مثل هذه الشجرة ، بل هناك تشبيهات كثيرة وليس لها وجود خارجي أصلا.

وعلى ايّة حال ، فالهدف من التشبيه هو تجسيم الحقائق والمسائل العقليّة وصبّها في قالب الحواس ، وهذه الأمثال ليس فيها اي إبهام ، بل هي مقبولة ومؤثّرة وجذّابة.

وفي عين الحال هناك أشجارا في هذه الدنيا ثمارها لا تنقطع على طول السنة ، وقد رأينا بعض الأشجار في المناطق الحارّة وكانت مثمرة وفي نفس الوقت لها ازهار جديدة للثمار المقبلة!

وبما انّ احد أفضل الطرق لتوضيح المسائل هو الاستفادة من طريق المقابلة والمقايسة ، فقد جعلت النقطة المقابلة للشجرة الطيّبة ، الشجرة الخبيثة( وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ ما لَها مِنْ قَرارٍ ) .

والكلمة «الخبيثة» هي كلمة الكفر والشرك ، وهي القول السيء والرديء ، وهي البرنامج الضالّ والمنحرف ، والناس الخبثاء ، والخلاصة : هي كلّ خبيث ونجس.

٥٠٢

ومن البديهي انّ مثل هذه الشجرة ليس لها اصل ، ولا نمو ولا تكامل ولا ثمار ولا ظلّ ولا ثبات ولا استقرار ، بل هي قطعة خشبيّة لا تصلح الّا للاشتعال بل اكثر من ذلك هي قاطعة للطريق وتزاحم السائرين وأحيانا تؤذي الناس!

ومن الطريف انّ القرآن الكريم فصل الحديث في وصف الشجرة الطيّبة بينما اكتفى في وصف الشجرة الخبيثة بجملة قصيرة واحدة( اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ ما لَها مِنْ قَرارٍ ) ، وهذا نوع من لطافة البيان ان يتابع الإنسان جميع خصوصيات ذكر «المحبوب» بينما يمرّ بسرعة في جملة واحدة بذكر «المبغوض»!

ومرّة اخرى نجد المفسّرين اختلفوا في تفسير الشجرة الخبيثة ، وهل لها واقع خارجي؟

قال البعض : انّها شجرة «الحنظل» والتي لها ثمار مرّة ورديئة.

واعتقد آخرون انّها «الكشوت» وهي نوع من الاعشاب المعقّدة التي تنبت في الصحراء ولها اشواك قصيرة تلتفّ حولها وليس لها جذر ولا أوراق.

وكما قلنا في تفسير الشجرة الطيّبة ، ليس من اللازم ان يكون للشجرة الخبيثة وجود خارجي في جميع صفاتها ، بل الهدف هو تجسيم الوجه الحقيقي لكلمة الشرك والبرامج المنحرفة والناس الخبثاء ، وهؤلاء كالشجرة الخبيثة ليس لها ثمار ولا فائدة الّا المتاعب والمشاكل. مضافا الى انّ الأشجار والنّباتات الخبيثة التي قلعتها الأعاصير ليست قليلة.

وبما انّ الآيات السابقة جسّدت حال الايمان والكفر ، الطيّب والخبيث من خلال مثالين صريحين ، فإنّ الآية الاخيرة تبحث نتيجة عملهم ومصيرهم النهائي ، يقول تعالى :( يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ ) لانّ ايمانهم لم يكن ايمانا سطحيا وشخصيتهم لم تكن كاذبة ومتلوّنة ، بل كانت شجرة طيّبة أصلها ثابت وفرعها في السّماء ، وبما انّ ليس هناك من لا يحتاج الى اللطف الالهي ، وبعبارة اخرى : كلّ المواهب تعود لذاته المقدّسة ، فالمؤمنون

٥٠٣

المخلصون الثابتون بالاستناد الى اللطف الالهي يستقيمون كالجبال في مقابل ايّة حادثة. والله تعالى يحفظهم من الزلّات التي تعتريهم في حياتهم. ومن الشياطين الذين يوسوسون لهم زخرف الحياة ليزلّوهم عن الطريق.

وكذلك فالله تعالى يثبّتهم امام القوى الجهنّمية للظالمين القساة ، الذين يسعون لاخضاعهم بأنواع التهديد والوعيد.

ومن الطريف انّ هذا الحفظ والتثبّت الإلهيين يستوعبان كلّ حياتهم في هذه الدنيا وفي الآخرة ، فهنا يثبّتون بالايمان ويبرؤون من الذنوب ، وهناك يخلدون في النعيم المقيم.

ثمّ يشير الى النقطة المقابلة لهم( وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللهُ ما يَشاءُ ) .

قلنا مرارا : انّ الهداية والضلال التي تنسب الى اللهعزوجل لا تتحقّقان الّا بأن يرفع الإنسان القدم الاوّل لها ، فاللهعزوجل عند ما يسلب المواهب والنعم من العبد او يمنحها له يكون ذلك بسبب استحقاقه او عدم استحقاقه.

ووصف «الظالمين» بعد جملة «يُضِلُّ اللهُ » أفضل قرينة لهذا الموضوع ، يعني ما دام الإنسان غير ملوّث بالظلم لا تسلب الهداية منه ، امّا إذا تلوّث بالظلم وعمّت وجوده الذنوب ، فسوف يخرج من قلبه نور الهداية الالهيّة ، وهذه عين الارادة الحرّة. وبالطبع إذا غيّر مسيره بسرعة فطريق النجاة مفتوح له ، ولكن إذا استحكم الذنب فإنّ طريق العودة يكون صعبا جدّا.

* * *

بحوث

١ ـ هل القصد من الآخرة في الآية هو القبر؟

نقرا في روايات متعدّدة انّ الله يثبت الإنسان على خطّ الايمان عند ما يواجه اسئلة الملائكة في القبر ، وهذا معنى الآية( يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ

٥٠٤

فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ ) .

ولقد وردت كلمة «القبر» بصراحة في بعض هذه الرّوايات(١) .

ولكن هناك رواية شريفة عن الامام الصادقعليه‌السلام قال : «انّ الشيطان ليأتي الرجل من أوليائنا عند موته عن يمينه وعن شماله ليضلّه عمّا هو عليه ، فيأبى اللهعزوجل له ذلك ، وهو قول اللهعزوجل :( يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ ) (٢) .

واكثر المفسّرين يميلون الى هذا التّفسير ، طبقا لما نقله المفسّر الكبير العلّامة الطبرسي في مجمع البيان ولعلّ ذلك يعود الى انّ الآخرة ليست محلا للأعمال ولا للانحراف ، بل هي محلّ الحصول على النتائج فحسب ولكن عند وقوع الموت وحتّى في البرزخ (الذي هو عالم بين الدنيا والآخرة) قد تحصل بعض الهفوات ، فهنا يكون اللطف الالهي عاملا في حفظ وثبات الإنسان.

٢ ـ دور الثبات والاستقامة

من بين جميع الصفات التي ذكرتها الآيات أعلاه للشجرة الطيّبة والخبيثة ، وردت مسألة الثبات وعدم الثبات بشكل اكثر ، وحتّى في بيان ثمار هذه الشجرة يقول تعالى :( يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا ) وبهذا الترتيب تتّضح لنا اهميّة الثبات ودوره في حياة الإنسان.

فكثير من الأشخاص من ذوي القابليات المتوسطة ، الّا انّهم ينالون انتصارات كبيرة في حياتهم ، ثمّ إذا حقّقنا في الأمر لم نجد دليلا الّا الثبات والاستقامة لديهم.

ومن جهة اجتماعية لا يتحقّق اي تقدّم في البرامج الّا في ظلّ الثبات ، ولهذا السبب نجد المخرّبين يسعون في تدمير الاستقامة ، ولا نعرف المؤمنين الصادقين

__________________

(١) تفسير نور الثقلين ، ج ٢ ، صفحة ٥٤٠ ـ ٥٤١.

(٢) المصدر السابق.

٥٠٥

الّا من خلال استقامتهم وثباتهم في مقابل الحوادث الصعبة.

٣ ـ الشجرة الطيّبة والخبيثة في الرّوايات الاسلامية

كما قلنا أعلاه فإنّ كلمة «الطيّبة» و «الخبيثة» التي شبّهت الشجرتان بها ، لها مفهوم واسع بحيث تشمل كلّ شخص وبرنامج ومبدا وفكر وعلم وقول وعمل ، ولكن وردت في بعض الرّوايات في موارد خاصّة ولكن لا تنحصر بها.

ومن جملتها ما ورد في الكافي عن الامام الصادقعليه‌السلام في تفسير الآية( كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُها ثابِتٌ وَفَرْعُها فِي السَّماءِ ) قال : «رسول الله أصلها وامير المؤمنين فرعها ، والائمّة من ذرّيتهما أغصانها ، وعلم الائمّة ثمرها ، وشيعتهم المؤمنون ورقها ، هل فيها فضل؟» (اي هل يبقى شيء) قال قلت : لا والله ، قال : «والله انّ المؤمن ليولد فتورق ورقة فيها ، وانّ المؤمن ليموت فتسقط ورقة منها»(١) .

وعنه ايضاعليه‌السلام حينما سأله سائل عن معنى الآية( تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها ) قال : «ذاك علم الائمّة يأتيكم كلّ عام من كلّ المناطق»(٢) .

وفي رواية اخرى : «الشجرة الطيّبة رسول الله وعلي وفاطمة وبنوها ، والشجرة الخبيثة بنو اميّة»(٣) .

وفي بعضها الآخر فسّرت الشجرة الطيّبة بالنخل والخبيثة بالحنظلة.

وعلى ايّة حال ليس هناك من تضادّ بين هذه التفاسير ، بل بينها وبين ما قلناه أعلاه ترابط وتنسبق ، لانّها مصاديقها.

* * *

__________________

(١) نور الثقلين ، ج ٢ ، ص ٥٣٥.

(٢) المصدر السابق.

(٣) المصدر السابق.

٥٠٦

الآيات

( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ (٢٨) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها وَبِئْسَ الْقَرارُ (٢٩) وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ (٣٠) )

التّفسير

نهاية كفران النعم :

الخطاب في هذه الآيات موجّه للرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو في الحقيقة عرض لواحد من موارد «الشجرة الخبيثة».

يقول تعالى اوّلا :( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا ) الى نهاية الآية. هؤلاء هم جذور الشّجرة الخبيثة وقادة الكفر والانحراف ، لديهم أفضل نعمة وهو رسول الله ، وباستطاعتهم ان يستفيدوا منه في الطريق الى السعادة ، الّا انّ تعصّبهم الأعمى وعنادهم وحقدهم صارت سببا في تركهم هذه النعمة الكبيرة ، ولم يقتصروا على تركها فحسب. بل اضلّوا قومهم ايضا ممّا جعلهم يسلكون هذا السلوك.

مع انّ بعض المفسّرين الكبار عند متابعتهم للروايات الاسلامية فسّروا ـ

٥٠٧

أحيانا ـ هذه النعمة بوجود النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأحيانا أخرى بالأئمةعليهم‌السلام ، وفسّروا الكافرين بهذه النعمة «بني اميّة» و «بني المغيرة» مرّة ، ومرّة اخرى جميع الكفّار الذين عاصروا عهد النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولكن من المسلّم به انّ للآية مفهوما أوسع من هذا ، وليس مختصّا بمجموعة معيّنة ، بل تشمل جميع الافراد الذين يكفرون بالنعم الالهيّة.

وتثبّت الآية ضمنا هذه الحقيقة ، وهي انّ الاستفادة من وجود القادة العظام تعود لنفس الإنسان ، كما انّ الكفر بهذه النعمة العظيمة يؤدّي الى الهلاك والبوار.

ثمّ انّ القرآن الكريم يفسّر دار البوار بقوله تعالى :( جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها وَبِئْسَ الْقَرارُ ) (١) .

ثمّ يشير في الآية الاخرى الى واحدة من أسوإ انواع كفران النعم( وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ ) لكي يستفيدوا عدّة ايّام من حياتهم الماديّة ومن رئاستهم وحكومتهم في ظلّ الشرك والكفر لإضلال الناس عن طريق الحقّ.

ايّها النّبي( قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ ) .

فحياتكم هذه شقاء ورئاستكم فاسدة ، ومع ذلك فانّها تعدّ حياة لذيذة وسعيدة بالنسبة للنهاية التي تنتظرهم ، كما نقرا في آية اخرى( قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ ) .(٢) .

* * *

بحوث

١ ـ يقال في العبارات الدارجة : انّ الشخص الفلاني كفر بنعمة الله ، ولكن الآية أعلاه تقول :( الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللهِ كُفْراً ) انّ هذا التعبير الخاص يدلّ على

__________________

(١) «يصلون» من «الصلي» بمعنى الاشتعال والاحتراق بالنار.

(٢) الزمر ، ٨.

٥٠٨

احد أمرين :

الف : المراد من تبديل «النعمة» الى «كفران» هو عدم شكرهم لهذه النعم ، فبدّلوا الشكر بالكفران (في الحقيقة كلمة الشكر مقدّرة ، ففي التقدير : الذين بدّلوا شكر نعمة الله كفرا).

ب : ـ انّ المقصود هو تبديلهم نفس «النعمة» «كفرا» ، وفي الحقيقة فإنّ النعم الالهيّة وسائل ، وطريقة استعمالها مرتبطة بإرادة الإنسان ، فمثلما يمكن ان نستفيد منها في طريق السعادة والايمان والعمل الصالح ، يمكن ان نستعملها كذلك في مسير الكفر والظلم والفساد ، فهي كالمواد الاوّلية التي يمكن بمساعدتها الحصول على انواع مختلفة من الانتاج ، الّا انّها خلقت في الأصل للخير والسعادة.

٢ ـ ليس «كفران النعم» عدم الشكر اللساني فقط ، بل كلّ استفادة غير صحيحة ومنحرفة للنعم ، تلك هي حقيقة الكفران ، وامّا عدم الشكر باللسان ففي الدرجة الثانية ، وكما قلنا سابقا فإنّ شكر النعمة تعني صرفها في الهدف الذي خلقت من اجله ، والشكر عليها باللسان يأتي في الدرجة الثانية ، فإذا قلنا آلاف المرّات : الحمد لله ، ولكنّنا اسأنا عمليّا الاستفادة من النعم ، فذلك كفران للنعم.

وفي عصرنا الحاضر أفضل نموذج لتبديل النعم بالكفران هو استخدام الإنسان لمواهب الطبيعة بفكره ومهارته التي منحها الله للإنسان لخدمة منافعه الخاصّة. فالاكتشافات العلميّة والخبرات الصناعية غيّرت وجه العالم ورفعت عن كاهل الإنسان عبئا ثقيلا ووضعته على عجلات المعامل. فالمواهب والنعم الالهيّة اكثر من اي زمن آخر ، ووسائل نشر المعارف وانتشار العلوم ومعرفة جميع اخبار العالم متوفّرة في ايدي الجميع ، فيجب على الناس في هذا العصر ان يكونوا سعداء من الناحية الماديّة والمعنوية.

ولكن بسبب تبديل النعم الالهيّة الكبيرة الى كفران ، وصرف القوى الطبيعيّة

٥٠٩

في طريق الظلم والطغيان واستخدام الاختراعات والاكتشافات في طريق الاهداف المخربة بحيث انّ كلّ تطور صناعي يستخدم اوّلا في عمليات التدمير.

وخلاصة القول : انّ عدم الشكر هذا والذي هو بعيد عن التعاليم الصالحة للأنبياء ادّى الى ان يجرّوا قومهم ومجتمعهم الى دار البوار.

ودار البوار هذه هي مجموعة من الحروب الاقليميّة والعالميّة بكلّ آثارها التخريبيّة ، وكذلك عدم الأمن والظلم والفساد والاستعمار حيث يبتلي بها في النهاية المؤسّسون لها ايضا ، كما رأينا في السابق ونراه اليوم.

وما الطف تصوير القرآن حيث جعل مصير كلّ الأقوام والأمم التي كفرت بأنعم الله الى دار البوار.

٣ ـ «أنداد» جمع «ندّ» بمعنى «المثل» ولكن الراغب في مفرداته والزبيدي في تاج العروس قالا : انّ «الندّ» يقال للشيء الذي يشابه الشيء الآخر جوهريا ، و «المثل» يطلق على كلّ شيء شبيه لشيء ، ولذلك فالندّ له معنى اعمق وادقّ من المثل.

وطبقا لهذا المعنى نستفيد من الآية أعلاه انّ ائمّة الكفر كانوا يسعون لان يجعلوا لله شركاء ويشبهوهم في جوهر ذاتهم باللهعزوجل ، لكي يضلّوا الناس عن عبادة الله ويحصلوا على مقاصدهم الشريرة.

فتارة يقرّبون لهؤلاء الشركاء القرابين ، واخرى يجعلون قسما من النعم الالهيّة (كبعض الانعام) مخصوصة للأصنام ، ويعتقدون أحيانا بعبادتها. واوقح من ذلك كلّه كانوا يقولون أثناء حجّهم في عصر الجاهلية : (لبّيك لا شريك لك ـ الا شريك هو لك ـ تملكه وما ملك)(١) .

* * *

__________________

(١) تفسير الفخر الرازي ذيل الآية أعلاه.

٥١٠

الآيات

( قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلالٌ (٣١) اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهارَ (٣٢) وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ (٣٣) وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللهِ لا تُحْصُوها إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ (٣٤) )

التّفسير

عظمة الإنسان من وجهة نظر القرآن :

تعقيبا للآيات السابقة في الحديث عن برنامج المشركين والذين كفروا بأنعم الله وكون مصيرهم الى دار البوار ، تتحدّث هذه الآيات عن برنامج عباد الله المخلصين والنعم النازلة عليهم ، يقول تعالى :( قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا

٥١١

الصَّلاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً ) قبل ان يأتي ذلك اليوم الذي لا يستطيع فيه الإنسان من التخلّص من العذاب بشراء السعادة والنعيم الخالد ، ولا تنفع الصداقة حينئذ( مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلالٌ ) .

ثمّ تتطرّق الآية الى معرفة الله عن طريق نعمه ، معرفة تؤدّي الى احياء ذكره في القلوب ، وتحثّ الإنسان على تعظيمه في مقابل لطفه وقدرته ، لانّ من الأمور الفطرية ان يشعر الإنسان في قلبه بالحبّ والودّ لمن أعانه واحسن اليه.

ويبيّن هذا الموضوع من خلال عدّة آيات( اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ ) .

ثمّ انّه( وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ ) سواء من جهة موادّها الاوّلية المتوفّرة في الطبيعة ، او من جهة القوّة المحرّكة لها وهي الرياح التي تهب على البحار والمحيطات بصورة منتظمة لتسيير هذه السفن فتنقل الإنسان وما يحتاج اليه من منطقة الى اخرى بيسر وسهولة :( لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ ) .

( وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهارَ ) كي تسقوا من مائها زروعكم ، وتشربوا أنتم وانعامكم ، وفي كثير من الأحيان تكون طريقا للسفن والقوارب ، وتستفيدون منها في صيد الأسماك.

وليست موجودات الأرض ـ فقط ـ مسخّرة لكم ، بل( وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دائِبَيْنِ ) (١) .

وليست مخلوقات العالم بذاتها فقط ، بل حتّى الحالات العرضية لها هي في خدمتكم :( وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ ) من احتياجاتكم البدنيّة والاجتماعية وجميع وسائل السعادة والرفاه( وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللهِ لا تُحْصُوها ) لانّ النعم المادية والمعنوية للخالق شملت جميع وجودكم

__________________

(١) «دائبين» من مادّة «الدؤوب» بمعنى ادامة العمل طبقا للسنّة الثابتة ، وبما انّ الشمس والقمر مستمرّان بشكل ثابت من ملايين السنين ، وما لها من فوائد عظيمة للكائنات ، لا نجد هناك عبارة لهما أفضل من دائبين.

٥١٢

وهي غير قابلة للاحصاء ، وعلاوة على ذلك فإنّ ما تعلمونه من النعم بالنسبة لما تجهلونه كقطرة في مقابل البحر.

وعلى الرغم من كلّ هذه الألطاف والنعم ف( إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ ) .

فلو كان الإنسان يستفيد من هذه النعم بشكلها الصحيح لاستطاع ان يجعل الدنيا حديقة غنّاء ولنفّذ مشروع المدينة الفاضلة ، ولكن بسبب عدم الاستفادة الصحيحة لها أصبحت حياته مظلمة ، واهدافه غير سامية ، فتراكمت عليه المشاكل والصعاب وقيّدته بالسلاسل والأغلال.

* * *

بحوث

١ ـ الصلة بالخالق والصلة بالخلق

نواجه في هذه الآيات مرّة اخرى وفي تنظيم برنامج المؤمنين الصادقين مسألة «الصلاة» و «الإنفاق» ، وفي البداية قد يطرح هذا السؤال ، وهو : كيف أشار القرآن الكريم لهاتين المسألتين من بين جميع البرامج العمليّة للإسلام؟ العلّة في ذلك انّ للإسلام ابعاد مختلفة يمكن تلخيصها في ثلاث نقاط : علاقة الإنسان بربّه ، وعلاقته بخلق الله ، وعلاقته بنفسه ، وهذا القسم الأخير في الحقيقة نتيجة للقسم الاوّل والثاني ، فالصلاة والإنفاق كلّ واحدة منهما رمز للعلاقة الاولى والثانية.

والصلاة مظهر لصلة الإنسان بربّه وهذه الصلة تظهر في الصلاة بشكل أوضح من اي عمل آخر ، والإنفاق رمز للصلة بين المخلوقين ، فالرزق في مفهومه الواسع يشمل كلّ نعمة مادية ومعنوية.

وبالنظر الى انّ هذه السورة مكّية ، وأثناء نزولها لم يكن حكم الزكاة نازلا بعد ، لا نستطيع القول : انّ هذا الإنفاق مرتبط بالزكاة ، بل له معنى واسع بحيث

٥١٣

يشمل حتّى الزكاة بعد نزولها.

وعلى ايّة حال إذا تأصّل الايمان فسوف يتجلّى بالعمل فيقرب الإنسان الى ربّه من جانب ، الى عباده من جانب آخر.

٢ ـ لماذا السرّ والعلانية؟

نقرا مرارا في آيات القرآن انّ المؤمنين ينفقون او يتصدّقون في السرّ والعلانية ، وبهذا الترتيب فإنّه تعالى مع ذكره للإنفاق يذكر كيفيّة الإنفاق ، لانّه يكون مرّة في السرّ اكثر تأثيرا وكرامة ، ويكون مرّة اخرى في الجهر سببا في تشجيع الآخرين واقتدائهم في اقامة الشعائر الدينيّة.

ولو قامت حرب بين دولة اسلامية واخرى كافرة لرأينا الناس المؤمنين يحملون كلّ يوم مقادير كبيرة من التبرعات الى المناطق المنكوبة لمساعدة المتضرّرين بالحرب ، او الجرحى والمعوّقين او المقاتلين ، ومن المعلوم انّ نشر اخبار هذه التبرّعات مفيد جدّا ولتكون دليلا على مواساتهم ، ودعمهم لمقاتليهم ، وإحياء لروح الانسانيّة في عامّة الناس ، وتشجيعا للذين تخلّفوا عن هذه القافلة لكي يوصلوا أنفسهم بها ، ومن البديهي انّ الإنفاق هنا في العلانية اكثر تأثيرا.

ويقول بعض المفسّرين : انّ الفرق بين الانفاقين هو انّ الإنفاق العلني مرتبط بالواجبات ، فلا يخشى عليه من الرياء ، لان العمل بالواجبات لازم للجميع ولا داعي لاخفائه ، وامّا الإنفاق المستحبّ ـ ولانّه زائد عن الوظيفة الواجبة ـ فمن الممكن ان تتخلّله حالة من التظاهر والرياء ولذلك كان إخفاؤه أفضل.

ولكن الظاهر انّ هذا التّفسير ليس أصلا كلّيا على حدة. بل هو فرع من التّفسير الاوّل.

٥١٤

٣ ـ يوم لا بيع فيه ولا خلال

من المعلوم انّ يوم القيامة هو يوم استلام النتائج ومتابعة جزاء الأعمال ، وبهذا الترتيب لا يستطيع احد هناك ان ينجو من العذاب بفدية ، حتّى لو افترضنا انّه ينفق جميع ما في الأرض فإنّه لا يمكن ان يمحو ذرّة من جزاء اعماله ، لانّ صحيفته في «دار العمل» اي الدنيا مليئة بالاخطاء والذنوب وهناك «دار الحساب».

وكذلك لا تستطيع العلاقة المادية للصداقة مع اي شخص كان ان تنجيه من العذاب ، وبعبارة اخرى : انّ الإنسان غالبا ما يلجأ الى المال او الواسطة (الرشوة ، العلاقات) في نجاته من المصاعب في هذه الدنيا ، فإذا كان تصوّرهم انّ الآخرة كذلك فهذا دليل وهمّهم وجهلهم.

ومن هنا يتّضح انّ نفي وجود الخلّة والصداقة في هذه الآية لا يتنافى مع صداقة المؤمنين بعضهم لبعض في الآخرة والتي اشارت إليها بعض الآيات ، لانّها صداقة مودّة معنوية في ظلّ الايمان.

وامّا مسألة «الشفاعة» فقد قلنا كرارا انّها تخلو من اي مفهوم مادّي ، بل بالنظر الى ما صرّحت به بعض الآيات فإنّها في ظلّ العلاقات المعنوية وصلاحية البعض بسبب اعمال الخير (وقد شرحنا هذا الموضوع في ذيل الآية ٢٥٤ من سورة البقرة).

٤ ـ كلّ الموجودات تحت امرة الإنسان!

نواجه في هذه الآيات مرّة اخرى تسخير مختلف الموجودات في الأرض والسّماء للإنسان ، وقد قسمت الى ستّة اقسام : تسخير الفلك ، والأنهار ، والشمس ، والقمر ، والليل ، والنهار. ونرى انّ قسما من هذه المسخّرات من السّماء ، وقسما آخر من الأرض ، وقسما ثالثا من الظواهر بين الاثنين (الليل

٥١٥

والنهار).

وقلنا سابقا ، ونكرّر هنا للتذكرة : انّ الإنسان من وجهة نظر القرآن له من العظمة بحيث سخّر الله له جميع ما في الوجود ، امّا ان يكون زمام أمورها بيده او تتحرّك ضمن منافعه ، وعلى ايّة حال فهذه العظمة جعلته من اشرف الموجودات.

«فالشمس» : تسطع له بالنّور ، وتعطيه الحرارة ، وتساعد على نمو النباتات له ، وتطهّر محيطه من الأمراض ، وتخلق له البهجة والسرور ، وتعلّمه الحياة.

وامّا «القمر» : فمصباح في ليله المظلم ، ومفكرة طبيعيّة دائمة ، ومن آثاره تتكوّن ظاهرة الجزر والمدّ لتحلّ كثيرا من مشاكله ، فتسقي الأشجار (بسبب ارتفاع منسوب المياه في الأنهار المجاورة للبحار) وتتحرّك مياه البحار الراكدة كي لا تتعفّن ، وليدخل الاوكسجين فيها بسبب الأمواج ليكون تحت تصرّف الكائنات الحيّة.

«الرياح» : تؤدّي الى حركة السفن في المحيطات حيث تشكّل اكبر واسطة نقل وفي أوسع طريق للإنسان ، بحيث تستطيع ـ أحيانا ـ ان تدفع سفينة بحجم مدينة صغيرة بكامل افرادها وتنقلها في المحيطات.

«الأنهار» : تجري في خدمة الإنسان ، تسقي زرعه ، وتروي مواشيه ، وتجعل محيطة ذا طراوة ، وتربّي له الأسماك لتغذيته.

«ظلام الليل» : حيث هو سكن للإنسان ، ويمنحه الطمأنينة والراحة ، ويخفّف من حرارة الجو الملتهبة في النهار.

وأخيرا «ضياء النهار» : يدعوه الى الحركة والسعي ، ويخلق له الدفء والحرارة.

والخلاصة : انّ كلّ ما على الأرض وحولها لنفع الإنسان ، وبيان هذه النعم وشرحها يمنح الإنسان شخصية جديدة ، وتفهمه عظمة مقامه وتبعث فيه الاحساس بالشكر اكثر.

٥١٦

ونستفيد ايضا من هذا البيان انّ للتسخير في لغة القرآن معنيان :

الاوّل : التسخير لخدمة الإنسان وتحقيق منافعه ومصالحه (كتسخير الشمس والقمر).

والثّاني : التسخير الذي يكون زمام أموره بيد الإنسان (كتسخير الفلك والبحار).

وامّا ما اعتقده البعض من انّ هذه الآيات اشارة الى تسخير الإنسان للقمر وغيره في عصرنا الحاضر فإنّنا لا نراه صحيحا ، لانّ هناك بعض الآيات تقول :( وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ ) (١) ، فلا يستطيع الإنسان ان يصل الى جميع الكرات السّماوية بتاتا.

نعم هناك بعض الآيات قد تشير الى هذا النوع من التسخير ، وسوف نبحث هذا الموضوع بإذن الله في تفسير سورة الرحمن (وسبق لنا بحث في تسخير الموجودات للإنسان في ذيل الآية (٢) من سورة الرعد).

٥ ـ دائبين

قلنا انّ «دائب» من مادّة «الدؤوب» بمعنى استمرار العمل طبقا للعادة والسنّة ، فالشمس لا تدور حول الأرض ، بل الأرض تدور حول الشمس ، ونحن نظنّ انّ الشمس تدور حولنا ، وهذه الحركة ليست المقصودة في معنى «دائب» بل الاستمرار في انجاز العمل يدخل في مفهوم الدؤوب ، ونحن نعلم انّ الشمس والقمر لهما برنامج في انبعاث النّور وما يتبعه من توقّف الحياة على الأرض عليه بشكل مستمر وفي غاية من الدقّة (وهناك حركات اخرى للشمس كما يقوله العلماء ، منها الحركة حول نفسها ، وحركتها مع المجموعة الشمسية).

__________________

(١) الجاثية ، ١٣.

٥١٧

٦ ـ هل يعطينا الله كلّ ما نطلب منه؟

قرانا في الآيات أعلاه انّ اللهعزوجل لطف بكم وأعطاكم من كلّ ما سألتموه («من» في الآية تبعيضيّة) وذلك بسبب انّ كثيرا ممّا يطلبه الإنسان من ربّه قد يعود عليه بالضرر والهلاك ، ولكنّ الله حكيم وعالم ورحيم فلا يستجيب لمثل هذه الطلبات ، وفي المقابل نرى في اكثر الأحيان انّ الإنسان لا يطلب شيئا بلسانه ، ولكن يتمنّاه بفطرته ووجدانه فيستجيب الله له ، وليس هناك مانع من ان يكون السؤال في جملة( ما سَأَلْتُمُوهُ ) شاملا للسؤال باللسان والسؤال بالفطرة والوجدان.

٧ ـ لماذا لا تحصى نعماؤه؟

نعم الله ـ في الحقيقة ـ تعمّ كلّ وجودنا ، وإذا ما طالعنا الكتب المختلفة في العلوم الطبيعيّة والانسانيّة والنفسيّة وأمثالها فسوف نرى الى اي مدى تتّسع أطراف هذه النعم ، وفي الحقيقة انّ لكلّ نفس يتنفّسه الإنسان نعمتان ، ولكلّ نعمة شكر واجب.

واكثر من ذلك فنحن نعلم بأنّ متوسّط عدد الخلايا الحيّة في جسم الإنسان نحو العشرة ملايين ميليارد ، وكلّ مجموعة تشكّل قسما فعّالا في الجسم ، وهذا العدد كبير جدّا بحيث لو أردنا إحصاءه نحتاج الى مئات السنين!

فهذا قسم من نعمه علينا ، ولذلك ـ حقّا ـ لا نستطيع عدّ نعمه ،( وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللهِ لا تُحْصُوها ) .

ويوجد في دم الإنسان مجموعتان من الكريّات (وهي خلايا صغيرة سابحة في الدم ولها وظائف حياتية مهمّة) ملايين من «الكريّات الحمراء» وظيفتها إيصال الاوكسجين لأجل الاحتراق وصنع خلايا الجسم ، وملايين من «الكريات البيض» وظيفتها حفظ سلامة الإنسان مقابل هجوم المكروبات ، والعجيب انّ

٥١٨

هذه الكريات في حالة حركة مستمرّة لخدمة الإنسان.

فهل نستطيع في هذه الأحوال ان نحصي نعمه تعالى غير المتناهية؟!

٨ ـ أسفا انّ الإنسان ظلوم وكفّار

توصّلنا في البحوث السابقة الى هذه الحقيقة ، وهي انّ الله سخّر للإنسان جميع الموجودات ، وهيّأ له كلّ هذه النعم بحيث سدّ جميع احتياجاته ، ولكن الإنسان بسبب ابتعاده عن نور الايمان والتربية ، نراه يخطو في طريق الظلم والطغيان ويكفر بالنعم.

ويسعى المحتكرون في احتكار النعم الالهيّة الواسعة والسيطرة على منابعها الحياتية ، مع انّهم لا يستهلكون الّا الشيء القليل ويحرمون الآخرين منها ، ويظهر هذا الظلم بأشكال مختلفة من السيطرة على الشعوب الضعيفة واستعمارها والتجاوز على حقوق الآخرين ، فيعرّض الإنسان حياته الهادئة الى الهلاك ، يخلق الحروب ، ويسفك الدماء ، ويقضي على الأموال والأنفس.

وفي الحقيقة فإنّ القرآن الكريم يناديه : ايّها الإنسان ، كلّ شيء بالقدر الكافي تحت تصرّفك ، بشرط ان لا تكون ظلوما كفّارا ، عليك ان تقنع بحقّك ولا تتجاوز على حقوق الآخرين.

* * *

٥١٩

الآيات

( وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ (٣٥) رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣٦) رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (٣٧) رَبَّنا إِنَّكَ تَعْلَمُ ما نُخْفِي وَما نُعْلِنُ وَما يَخْفى عَلَى اللهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ (٣٨) الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعاءِ (٣٩) رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنا وَتَقَبَّلْ دُعاءِ (٤٠) رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ (٤١) )

٥٢٠

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572