الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٧

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل0%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 572

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

مؤلف: آية الله الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
تصنيف:

الصفحات: 572
المشاهدات: 273470
تحميل: 4733


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 572 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 273470 / تحميل: 4733
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء 7

مؤلف:
العربية

التّفسير

دعاء ابراهيمعليه‌السلام :

لمّا كان الحديث في الآيات السابقة عن المؤمنين الصادقين والشاكرين لأنعم الله ، عقّبت هذه الآيات في بحث بعض ادعية وطلبات العبد المجاهد والشاكر لله ابراهيمعليه‌السلام ليكون هذا البحث تكملة للبحث السابق ونموذجا حيّا للذين يريدون ان يستفيدوا من النعم الالهيّة أفضل استفادة.

يقول تعالى :( وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ ) لانّهعليه‌السلام كان يعلم حجم البلاء الكبير الكامن في عبادة الأصنام ، ويعلم كثرة الذين ذهبوا ضحيّة في هذا الطريق( رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ ) فأيّ ضلال اكبر من هذا الضلال الذي يفقد الإنسان فيه حتّى عقله وحكمته.

الهي انّني ادعو الى توحيدك ، وادعو الجميع الى عبادتك( فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) .

في الحقيقة انّ ابراهيمعليه‌السلام أراد بهذه العبارة ان يقول لله تعالى : انّه حتّى لو انحرف ابنائي عن مسيرة التوحيد واتّجهوا الى عبادة الأصنام فإنّهم ليسوا منّي ، ولو كان غيرهم في مسيرة التوحيد فهم ابنائي وإخواني.

انّ تعبير ابراهيم المؤدّب والعطوف جدير بالملاحظة ، فهو لم يقل : ومن عصاني فإنّه ليس منّي وسأعاقبه عقابا شديدا ، بل يقول :( وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) .

ثمّ يستمر بدعائه ومناجاته( رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ ) .

وكان ذلك عند ما رزقه الله إسماعيل من جاريته «هاجر» فأثار ذلك حسد زوجته الاولى «سارة» ولم تستطع تحمّل وجود هاجر وابنها ، فطلبت من

٥٢١

ابراهيم ان يذهب بهما الى مكان آخر ، فاستجاب لها ابراهيم طبقا للأوامر الالهيّة ، وجاء بإسماعيل وامّه الى صحراء مكّة القاحلة ، ثمّ ودّعهم وذهب.

ولم يمض قليل من الوقت حتّى عطشت الامّ وابنها في تلك الشمس المحرقة ، وسعت هاجر كثيرا في انقاذ ابنها ، ولكنّ الله تعالى أراد ان تكون تلك الأرض قاعدة عظيمة للعبادة فأظهر عين زمزم ، ولم يمض وقت حتّى علمت قبيلة «جرهم» البدوية التي كانت قريبة منهم بالأمر ، فرحلوا وأقاموا عندهم ، فأخذت مكّة بالتحضّر شيئا فشيئا.

ثمّ يتابع ابراهيمعليه‌السلام دعاءه : الهي ، انّ اهلي قد سكنوا في هذه الصحراء المحرقة احتراما لبيتك المحرّم :( فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ ) .

ومن هنا لمّا كان الإنسان الموحّد والعارف يعلم بمحدودية علمه في مقابل علم الله ، وانّه يعلم مصلحته الّا الله تعالى ، فما اكثر ما يطلب شيئا من الله وليس فيه صلاحه ، او لا يطلبه وفيه صلاحه ، وأحيانا لا يستطيع ان يقوله بلسانه فيضمره في اعماق قلبه ، ولذلك يعقّب على ما مضى من دعائه ويقول :( رَبَّنا إِنَّكَ تَعْلَمُ ما نُخْفِي وَما نُعْلِنُ وَما يَخْفى عَلَى اللهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ ) .

فان كنت مغتمّا لفراق ابني وزوجتي فأنت تعلم بذلك وترى دموع عيني المنهملة. وان كان قلبي قد ملأه همّ الفراق ، وامتزج بفرح العمل بالتكليف والطاعة لاوامرك فأنت اعلم بذلك وعند ما فارقت زوجتي وقالت لي : «الى من تكلني» فأنت أدرى بها وبمستقبلها ومستقبل هذه الأرض.

ثمّ يشير القرآن الى شكر ابراهيمعليه‌السلام لنعمه تعالى والتي هي من اهمّ ما امتاز بهعليه‌السلام شكره على منحه ولدين بارّين إسماعيل وإسحاق وذلك في سنّ

٥٢٢

الشيخوخة( الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ ) (1) نعم( إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعاءِ ) .

ثمّ يستمرّ بدعائه ومناجاته ايضا فيقول :( رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنا وَتَقَبَّلْ دُعاءِ ) .

ثمّ يختم دعاءه هنا فيقول :( رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ ) .

* * *

بحوث

1 ـ هل كانت مكّة في ذلك الوقت مدينة؟

رأينا في الآيات السابقة انّ ابراهيم قال :( رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ ) وهذه اشارة الى اوّل دخوله ارض مكّة والتي كانت غير مزروعة ولا معمورة ولا ساكن فيها سوى اسّس بيت الله الحرام ، ومجموعة من الجبال الجرداء.

ولكنّنا نعلم انّها لم تكن رحلته الوحيدة الى مكّة ، بل وطأت قدمه عدّة مرّات تلك الأرض ، وفي الوقت نفسه كانت مكّة تأخذ طابع المدينة ، وسكنتها قبيلة «جرهم» وبظهور عين زمزم أصبحت صالحة للسكن.

والمعتقد انّ ادعية ابراهيم هذه كانت في احدى رحلاته ، ولذلك عبّر عنها بالبلد ، اي المدينة فقال :( رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً ) .

وامّا قوله :( بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ ) فقد تكون اشارة الى رحلته الاولى او اشارة

__________________

(1) هناك اختلاف بين المفسّرين في سنّ ابراهيم عند ولادة إسماعيل وإسحاق ، فمنهم من قال : كان عمره عند ولادة إسماعيل 99 عاما وعند ولادة إسحاق 112 عام ، ومنهم من يقول اكثر من ذلك واقل ، ولكن القدر المسلّم به انّ عمره كان في سن يصعب ان يولد منه الأبناء.

٥٢٣

الى ارض مكّة بعد ان أخذت طابع المدينة ، فإنّها لا زالت غير صالحة للزراعة ، لانّها من الناحية الجغرافية تقع بين جبال يابسة وقليلة المياه.

2 ـ أمان ارض مكّة

من الطريف انّ اوّل ما سأل ابراهيم من ربّه في هذه الأرض هو الامان ، وهذا يوضّح انّ نعمة الأمن هي من الشروط الاولى لحياة الإنسان وسكنه في منطقة ما ، فالمكان غير الآمن لا يمكن السكن فيه ، حتّى لو اجتمعت كلّ النعم الدنيويّة فيه ، وفي الحقيقة اي مدينة او بلد فاقد لنعمة الأمن سوف يفقد جميع النعم!

ولا بدّ هنا من الالتفات الى هذه النقطة ، وهي انّ استجابة الله لدعاء ابراهيم بخصوص امن مكّة له جهتان : فمن جهة منحها امنا تكوينيّا ، ولذلك لم تشهد في تاريخها الّا النزر القليل من إخلال الأمن ، ومن جهة ثانية منحها الأمن التشريعي ، اي انّ الله اقرّ ان يأمن جميع الناس ـ وحتّى الحيوانات ـ في هذه الأرض. ومنع صيد الحيوانات ، وعدم متابعة المجرمين الذين يلجأون الى حرم الكعبة ، ونستطيع ـ فقط ـ ان نمنع عليهم الغذاء لكي يخرجوا ، ومن ثمّ تطبيق العدالة في حقّهم.

3 ـ دعاء ابراهيم لاجتناب عبادة الأصنام؟

ممّا لا شكّ فيه انّ ابراهيمعليه‌السلام كان نبيّا معصوما ، وكذلك ابناه إسماعيل وإسحاق كانا نبيّين معصومين ، لانّهما داخلان في كلمة «بنيّ» في الآية قطعا ، ومع ذلك يدعو الله ان يجنّبهم عبادة الأصنام!

وهذا دليل في التأكيد على محاربة عبادة الأصنام بحيث كان يطلب هذا الأمر من الله حتّى للأنبياء المعصومون ومحطّمو الأصنام ، وهذا نظير اهتمام النّبي في وصاياه لعلي ـ او الائمّة الآخرين بالنسبة لاوصيائهم ـ في امر الصلاة ، والتي

٥٢٤

لا يمكن احتمال تركها من قبلهم ابدا ، بل انّ الصلاة أساسا قامت ببركة سعيهم وجهودهم.

وهنا يطرح هذا السؤال : كيف قال ابراهيم( رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ ) في حين انّ الأصنام ليست سوى أحجارا وخشبا ولا استطاعة لهنّ في إضلال الناس.

ويمكن الجواب على هذا السؤال من جهتين :

اوّلا : لم تكن الأصنام من الأحجار والخشب دائما ، بل هناك الفراعنة وأمثال نمرود الذين كانوا يدعون الناس لعبادتهم ويسمّون أنفسهم بالربّ الأعلى والمحي والمميت.

ثانيا : وأحيانا يكون القائمون بأمر الأصنام مظهرين تعظيمها وتزيينها بالشكل الذي تكون حقّا مضلّة لعوام الناس.

4 ـ من هم اتباع ابراهيم؟

قرانا في الآيات انّ ابراهيم قال :( فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي ) فهل انّ اتباع ابراهيم من كان في عصره فقط ، ام الذين كانوا على دينه في العصور اللاحقة ، او يشمل كلّ الموحدين والمؤمنين في العالم ـ باعتبار ابراهيمعليه‌السلام مثالا في التوحيد ومحطّما للأصنام ـ؟

نستفيد من الآيات القرآنية ـ ومن ضمنها الآية 78 من سورة الحج ـ انّ دعاء ابراهيم يشمل جميع الموحدين والمجاهدين في طريق التوحيد. ويؤيّد هذا التّفسير ما ورد عن اهل البيتعليهم‌السلام ايضا : فعن الباقرعليه‌السلام قال «من احبّنا فهو منّا اهل البيت. قلت ، جعلت فداك : منكم؟ قال منّا والله ، اما سمعت قول ابراهيم( فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي ) (1) .

__________________

(1) نور الثقلين ج 4 ص 548.

٥٢٥

ويوضّح هذا الحديث صيرورة الفرد من اهل البيت معنويا ان سار على خطّهم وتابع منهجهم.

وعن الامام عليعليه‌السلام قال : «نحن آل ابراهيم ، أفترغبون عن ملّة ابراهيم! وقد قال الله تعالى :( فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي ) .

5 ـ واد غير ذي زرع والحرم الآمن

الذين سافروا الى مكّة يعلمون جيدا انّها تقع بين جبال صخرية يابسة لا ماء فيها ولا كلا ، وكأنّ الصخور وضعت في افران حارّة ثمّ صبّت في أماكنها. وفي نفس الوقت فهي اكبر مركز للعبادة واقدم قاعدة للتوحيد على وجه المعمورة ، وكذلك هي حرم الله الآمن.

وهنا قد يرد هذا السؤال في أذهان الكثيرين وهو : لماذا جعل الله هذا المركز المهمّ في مثل هذه الأرض؟

يجيب الامام عليعليه‌السلام على هذا السؤال من خلال أوضح العبارات وأجمل التعابير الفلسفيّة خطبته القاصعة حيث يقول : «وضعه بأوعر بقاع الأرض صخرا واقلّ نتائق الدنيا مدرا بين جبال خشنة ورمال دمثة ولو أراد سبحانه ان يضع بيته الحرام ومشاعره العظام بين جنّات وانهار وسهل وقرار ، جمّ الأشجار ، داني الثمار ، ملتفّ البنا ، متّصل القوى ، بين برّة سمراء وروضة خضراء ، وأرياف محدقة ، وعراص مغدقة ورياض ناظرة وطرق عامرة ، لكان قد صغر قدر الجزاء على حسب ضعف البلاء ، ولو كان الأساس المحمول عليها والأحجار المرفوع بها بين زمردة خضراء ، وياقوتة حمراء ، ونور وضياء ، لخفّف ذلك مصارعة الشكّ في الصدور ، ولوضع مجاهدة إبليس عن القلوب ، ولنفى معتلج الريب من الناس ، ولكنّ الله يختبر عباده بأنواع الشدائد ، ويتعبّدهم بأنواع المجاهد ، ويبتليهم بضروب المكاره ، إخراجا للتكبّر من قلوبهم ، وإسكانا للتذلّل في نفوسهم وليجعل

٥٢٦

ذلك أبوابا فتحا الى فضله ، وأسبابا ذللا لعفوه»(1) .

6 ـ الدعوات السبعة لإبراهيم

دعا ابراهيمعليه‌السلام في هذه الآيات سبع دعوات في مجال التوحيد والمناجاة ومحاربة الأصنام وعبادتها ومحاربة الظالمين :

اوّل هذه الدعوات هو أمان مكّة القاعدة العظيمة لمجتمع التوحيد (وما اعمق مغزى هذا الطلب).

الثّاني : دعاؤه في الاجتناب عن عبادة الأصنام والتي هي الأساس والقاعدة لجميع العقائد والبرامج الدينيّة.

الثّالث : دعاؤه في تمايل قلوب المؤمنين وارتباطهم العاطفي بالنسبة لأبنائه والتابعين لدينه.

دعاؤه الرابع : ان يرزقهم الله من انواع الثمرات ، لتكون عنوانا للشكر والالتفات بشكل اعمق لخالق النعم.

الدعاء الخامس : التوفيق لاقامة الصلاة والتي هي أقوى صلة بين الإنسان وربّه ، ودعاؤهعليه‌السلام ليس له فقط ، بل حتّى لأبنائه.

دعاؤه السادس : قبول دعائه ، ونحن نعلم انّ الله يقبل الدعاء من مواقع الإخلاص والقلوب الطاهرة والأرواح السامية ، وفي الواقع انّ هذا الطلب من ابراهيمعليه‌السلام يحتوي ضمنا الحصول على القلب الطاهر والروح السامية.

وآخر دعائهعليه‌السلام : ان يشمله الله بلطفه ورحمته فيما إذا صدر منه ذنب او خطيئة ، وان يرحم امّه وأباه وجميع المؤمنين في يوم القيامة.

وبهذا الترتيب فإن دعواته تبدا بالأمن وتنتهي بالعفو والغفران ، ومن الطريف انّه لم يطلبها لنفسه فقط ، بل للآخرين كذلك ، لانّ عباد الرحمن ليسوا انانيّين!

__________________

(1) نهج البلاغة ، خطبة 192 (القاصعة).

٥٢٧

7 ـ هل يدعو ابراهيم لأبيه؟

ممّا لا شكّ فيه انّ «آزر» كان يعبد الأصنام ، وكما يشير اليه القرآن فإنّ ابراهيم سعى جاهدا لان يهديه لكن خاب سعيه ، وإذا سلّمنا انّ آزر كان أبا لإبراهيم ، فلما ذا يدعو ابراهيم ان يغفر الله له في الوقت الذي نرى انّ القرآن يقول :( ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ ) .(1)

ومن هنا يتّضح انّ آزر لم يكن أبا لإبراهيم ، وانّ كلمة أب تطلق أحيانا على العمّ ، وكثيرا ما يستعملها العرب كذلك ، بينما (الوالد) خاصّة بالأب الحقيقي والتي جاءت في الآيات أعلاه. امّا كلمة أب والتي وردت بخصوص آزر فمن الممكن انّ المراد بها العمّ.

ونستنتج من الآيات أعلاه وممّا ورد في سورة التوبة من النهي عن الاستغفار للمشركين انّ «آزر» لم يكن أبا لإبراهيم حتما. (وللتوضيح اكثر راجع تفسير الآية 74 من سورة الانعام و 36 من سورة الأعراف في تفسيرنا هذا).

* * *

__________________

(1) التوبة ، 113.

٥٢٨

الآيات

( وَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ غافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ (42) مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ (43) وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنا أَخِّرْنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ ما لَكُمْ مِنْ زَوالٍ (44) وَسَكَنْتُمْ فِي مَساكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنا بِهِمْ وَضَرَبْنا لَكُمُ الْأَمْثالَ (45) )

التّفسير

اليوم الذي تشخّص فيه الأبصار!

كان الحديث في الآيات السابقة عن يوم الحساب ، وبهذه المناسبة تجسّم هذه الآيات حال الظالمين والمتجبّرين في ذلك اليوم ، ثمّ تبيّن المسائل المتعلّقة بالمعاد وتكمل الحديث السابق حول التوحيد وتبدا في تهديد الظالمين :( وَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ غافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ ) .

٥٢٩

وهذا في الواقع جواب لأولئك الذين يقولون : إذا كان لهذا العالم اله عادل فلما ذا يترك الظالمين وحالهم؟ هل هو غافل عنهم ام لا يستطيع ان يمنعهم وهو يعلم بظلمهم؟

فيجيب القرآن الكريم على ذلك بأنّ الله ليس غافلا عنهم ابدا ، لانّ عدم عقابهم مباشرة هو انّ هذا العالم محلّ الامتحان والاختبار وتربية الناس ، وهذا لا يتمّ الّا في ظلّ الحرية ، وسوف يأتي يوم حسابهم( إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ ) .

«تشخص» من مادّة «الشخوص» بمعنى توقّف العين عن الحركة والنظر الى نقطة بدهشة.

«مهطعين» من مادّة «إهطاع» بمعنى رفع الرقبة ، ويعتقد البعض انّها بمعنى «السرعة» وقال آخرون : تعني «النظر بذلّة وخشوع». ولكن بالنظر الى الجمل الاخرى يكون المعنى الاوّل اقرب الى الصحّة.

«مقنعي» من مادّة «الاقناع» بمعنى رفع الراس عاليا.

ومفهوم جملة( لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ ) لا يقدرون على ان يطرفوا من شدّة الهول ، وكأنّ أعينهم كأعين الأموات عاطلة عن العمل!

وجملة( أَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ ) بمعنى قلوبهم خالية ومضطربة بحيث ينسون كلّ شيء حتّى أنفسهم وفقدت قلوبهم وأنفسهم كلّ ادراك وعلم ، وفقدوا كلّ قواهم.

انّ بيان هذه الصفات الخمس : تشخص الأبصار ، مهطعين ، مقنعي رؤوسهم ، لا يرتدّ إليهم طرفهم ، افئدتهم هواء ، صورة بليغة لهول وشدّة ذلك اليوم على الظالمين الذين كانوا يستهزئون بكلّ شيء ، وأصبحوا في هذا اليوم لا يستطيعون حتّى تحريك أجفان أعينهم.

ولكي لا يشاهدوا هذه المناظر المفجعة ينظرون الى الأعلى فقط ، فهؤلاء كانوا يعتقدون بكمال عقولهم ويعدّون الآخرين من الحمقى ، فأصبحوا اليوم

٥٣٠

مدهوشين لدرجة انّ نظرهم نظر المجانين. بل الأموات نظر جاف عديم الروح ومليء بالرعب والفزع نعم ، عند ما يريد القرآن الكريم ان يصوّر منظرا او يجسّم موقفا يستخدم اقصر العبارات في أكمل بيان كما في الآية أعلاه.

ولكي لا يعتقد احد انّ هذه المجازات تتعلّق بمجموعة معيّنة ، يقول تعالى لنبيّه الكريم :( وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنا أَخِّرْنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ ) حتّى نستفيد من هذه الفرصة ثمّ( نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ ) ولكن هيهات انّ ذلك محال( أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ ما لَكُمْ مِنْ زَوالٍ وَسَكَنْتُمْ فِي مَساكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنا بِهِمْ وَضَرَبْنا لَكُمُ الْأَمْثالَ ) فكلّ هذه الدروس لم تؤثّر بكم وأدمتم ظلمكم وجوركم ، والآن وبعد ان وقعتم في يد العدالة تطلبون تمديد المدّة ، اي مدّة؟ لقد انتهى كلّ شيء!

* * *

بحوث

1 ـ لماذا وجّه الخطاب هنا الى الرّسول الأكرم؟

ممّا لا شكّ فيه انّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يتصوّر ابدا انّ الله غافلا عن الظالمين ، ومع ذلك نرى الآيات أعلاه توجّه خطابها الى النّبي وتقول له :( وَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ غافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ ) .

انّه ـ في الواقع ـ إيصال الخطاب بشكل غير مباشر الى الآخرين ، والذي هو احد فنون الفصاحة ، كما نقول : ايّاك اعني واسمعي يا جارة.

وبالاضافة الى ذلك فإنّ هذا التعبير كناية عن التهديد ، كما نقول في بعض الأحيان للشخص المقصّر «لا تعتقد انّنا غافلون عن افعالك» يعني سوف نحاسبك على ما فعلت!

٥٣١

وعلى اي حال فأساس الحياة يقوم على إعطاء المهلة الكافية للافراد حتّى ينفقوا ممّا عندهم ، ولكي لا يبقى عذر لأحد تعطى المهلة الكافية قبل ساعة الامتحان ، وإعطاء المهلة الكافية للرجوع والإصلاح للجميع.

2 ـ ما هو المقصود من( يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذابُ ) ؟

لقد امر النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ان ينذر الناس بهذا اليوم الذي ينزل عليهم فيه العذاب الالهي ، ولكن اي يوم هذا؟ ذكر المفسّرون له ثلاث احتمالات :

الاوّل : يوم القيامة.

الثّاني : يوم وقوع الموت ، حيث تبدا مقدّمة العذاب الالهي للظالمين.

الثّالث : المقصود هو نزول جزء من العذاب والبلاء الدنيوي ، كعذاب قوم لوط وعاد وثمود وقوم نوح وفرعون ، والذي تمّ من خلال الطوفان او الزلازل والعواطف والريح وغيرها.

ومع انّ كثير من المفسّرين رجّحوا التّفسير الاوّل ، الّا انّ الآيات التي تليها تشير الى قوّة الاحتمال الثّالث ، والتي توضّح انّ المقصود هو العقاب الدنيوي لانّنا نقرا بعد هذه الآية( رَبَّنا أَخِّرْنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ ) .

فالتعبير «اخّرنا» قرينة واضحة في الطلب لاستمرار الحياة في الدنيا ، لانّه لو كان في الآخرة لقالوا : ربّنا ارجعنا الى الدنيا ، كما نقرا في الآية (27) من سورة الانعام( وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقالُوا يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ) حيث يردّ عليهم القرآن الكريم ويقول :( وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ ) .

وقد يسأل سائل : إذا كانت هذه الآية تشير الى عذاب الدنيا ، والآية ما قبلها( وَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ غافِلاً ) تشير الى عذاب الآخرة ، فكيف يمكن ان تتوافق هاتان الآيتان ، بالنظر الى انّ كلمة «انّما» دالّة على عقابهم في الآخرة فقط وليس في

٥٣٢

الدنيا.

ويتّضح الجواب بملاحظة انّ العقاب الاخروي الذي يشمل جميع الظالمين ، ليس له اي تبديل وتغيير ، بينما الجزاء الدنيوي ـ بالاضافة الى انّه غير شامل ـ فهو قابل للتبديل.

ولا بدّ من ذكر هذه النقطة ايضا وهو انّ العقاب الدنيوي ـ كعقاب قوم نوح وفرعون وأمثالهم ـ إذا حلّ بهم سوف تغلق أبواب التوبة كليّا وليس لهم طريق للرجوع والتوبة ، لانّ اغلب المذنبين عند ما يرون العذاب يندمون على ما فعلوا ، وهذا الندم اضطراريوليس له اي قيمة ، ولذلك يجب عليهم ان يتوبوا قبل نزول العذاب(1) .

3 ـ لماذا لا تقبل المهلة؟

نقرا في آيات مختلفة من القرآن الكريم انّ الظالمين والمذنبين في مواقف متعدّدة ، يطلبون الرجوع الى الحياة لتصحيح مسيرتهم ، فبعض هذه المواقف مرتبط بيوم القيامة كما أشرنا في الآية (28) من سورة الانعام ، وبعض آخر مرتبط بساعة الموت كما تشير اليه الآية (99) من سورة المؤمنون( حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ ) والبعض الآخر يطلب الرجوع عند نزول العذاب المهلك ـ كما في هذه الآية ـ حيث يقول الظالمون عند رؤيتهم للعذاب( رَبَّنا أَخِّرْنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ ) ومن الطريف انّ الجواب في جميع هذه المواقف يكون بالنفي.

ودليله واضح ، لانّ اي واحد من هذه الامنيات لا يمثّل حقيقة واقعيّة ولا جديّة ، ورجاؤهم هذا هو حالة اضطرارية تظهر حتّى عند أسوإ الأشخاص ، وليست حالة دالّة على التغيّر الذاتي والتصميم الواقعي الصادق لتصحيح مسيرة

__________________

(1) للمطالعة اكثر راجع ذيل الآية (18) من سورة النساء.

٥٣٣

حياتهم ، كالمشركين عند ما يأخذهم الطوفان يسألون الله النجاة ، وعند ما ينجيهم الى الساحل ينكثون عهودهم كأن لم يكن يحدث شيء إطلاقا.

ولذلك يقول القرآن الكريم في بعض آياته ـ كما أشرنا اليه أعلاه ـ( وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ ) .

* * *

٥٣٤

الآيات

( وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ (46) فَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقامٍ (47) يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ (48) وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ (49) سَرابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرانٍ وَتَغْشى وُجُوهَهُمُ النَّارُ (50) لِيَجْزِيَ اللهُ كُلَّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (51) هذا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ (52) )

التّفسير

لا فائدة من مكرهم!

اشارت الآيات السابقة الى نوع من عقاب الظالمين ، وفي هذه الآيات ايضا اشارت ـ اوّلا ـ الى جزء من أفعالهم ، ومن ثمّ الى قسم آخر من جزائهم الشديد وعقابهم الأليم.

٥٣٥

تقول الآية الاولى :( وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ ) .

لقد عملوا كلّ ما بوسعهم من اجل طمس حقائق الإسلام ، بدء من الترغيب والتهديد وحتّى الأذى ومحاولات القتل والاغتيال وبثّ الشائعات ، ومع كلّ ذلك فإنّ الله مطّلع على جميع مؤامراتهم وقد احصى اعمالهم :( وَعِنْدَ اللهِ مَكْرُهُمْ ) وعلى اي حال فلا تقلق فانّهم لا يستطيعون بمكرهم هذا ان يصيبوك بسوء حتّى( وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ ) .

«المكر» ـ وكما أشرنا اليه سابقا ـ بمعنى الاحتيال ، فمرّة يلازمه الفساد ومرّة اخرى لا يلازمه ، وفي تفسير جملة( وَعِنْدَ اللهِ مَكْرُهُمْ ) رأيان : يقول البعض ومن جملتهم العلّامة الطباطبائي في تفسير الميزان : المراد بكون مكرهم عند الله احاطته تعالى به بعلمه وقدرته.

ويقول البعض الآخر ، كالعلّامة الطبرسي في مجمع البيان : انّ المراد هو ثبوت جزاء مكرهم عند الله تعالى (وعلى هذا التّفسير يكون تقدير الآية : عند الله جزاء مكرهم) فكلمة الجزاء محذوفة.

وممّا لا شكّ فيه انّ التّفسير الاوّل اقرب الى الصحّة ، لانّه يوافق ظاهر الآية ولا يحتاج الى الحذف والتقدير ، وتؤيّده جملة( وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ ) اي انّ مكرهم مهما كان قويّا. ومهما كانت لديهم قدرة على المؤامرة ، فإنّ الله اعلم بهم واقدر عليهم وسيدمر كلّ ما مكروا.

ثمّ يتوعّد الله الظالمين والمسيئين مرّة اخرى من خلال مخاطبة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ( فَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ ) لانّ الأخلاف يصدر من الذي ليست له قدرة واستطاعة ، ولكن :( إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقامٍ ) .

وهذه الآية ـ في الواقع ـ مكمّلة للآية التي قبلها( وَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ غافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ ) .

وتعني انّ المهلة التي أعطيت للظالمين ليست بسبب انّ الله غافل عنهم وعن

٥٣٦

اعمالهم ولا مخلف لوعده ، بل سينتقم منهم في اليوم المعلوم. والانتقام لا يراد به ما كان مصحوبا بالحقد والثأر كما يستخدم عادة في اعمال البشر ، بل هو الجزاء والعقاب واقامة العدالة بحقّ الظالمين ، بل انّها نتيجة عمل الإنسان نفسه ، ولا حاجة الى القول بأنّ الله تعالى لو لم ينتقم من الظالمين لكان ذلك خلافا لعدله وحكمته.

ثمّ يضيف تعالى( يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ ) وسوف يتجدّد كلّ شيء بعد الدمار ، ويبعث الإنسان في خلق جديد وعالم جديد يختلف في كلّ شيء عن هذا العالم ، في سعته ، في نعيمه وعقابه وسيظهر الإنسان بكلّ وجوده لله تعالى :( وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ ) .

و «البروز» من مادّة «البراز» على وزن «فراز» بمعنى الفضاء والمحلّ الواسع ، وغالبا ما تأتي بمعنى الظهور ، لانّ وجود الشيء في الفضاء الواسع بمعنى ظهوره ، وهناك آراء مختلفة للمفسّرين في معنى بروز الناس لله تعالى ، الكثير يرى انّها تعني الخروج من القبر.

ويحتمل ان يكون المعنى انكشاف بواطن وظواهر جميع الناس في يوم المحشر ، كما نقرا في الآية (16) من سورة غافر( يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ لا يَخْفى عَلَى اللهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ ) وكذلك الآية (9) من سورة الطارق( يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ ) وعلى اي حال فوصفه بالقهّار دليل على تسلطه على كلّ الأشياء وسيطرته على ظاهرها وباطنها.

وهنا يأتي هذا السؤال ، وهو : هل انّ شيئا خفي على الله في هذه الدنيا لكي يظهر في الآخرة؟ ام انّ الله لا يعلم بما في القبور ولا يعلم بأسرار الناس؟

ويتّضح الجواب من الالتفات الى هذه النقطة ، وهي انّ لنا ظاهرا وباطنا في هذه الدنيا ، وقد يشتبه على البعض ـ بسبب علمنا المحدود ـ انّ الله لا يرى باطننا ، ولكن سوف يظهر كلّ شيء في الآخرة ولا وجود للظاهر والباطن هناك ، وبعبارة

٥٣٧

اخرى فالظهور بالقياس الى علمنا وليس الى علم الله المطلق.

وتصوّر الآية التالية كيفيّة بروزهم الى الله فنقول :( وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ ) .

«الأصفاد» جمع «صفد» بمعنى الغلّ ، وقال البعض هو الغلّ والسلاسل التي تجمع اليد الى العنق.

«مقرنين» من مادّة «القرن والاقتران» وهي بنفس المعنى ، لكن لو استخدمت من باب التفعيل يستفاد منها التكثير ، وعلى ذلك فكلمة مقرّنين بمعنى الأشخاص المتقاربين مع بعضهم البعض.

وللمفسّرين ثلاث آراء حول المقصود من هذه الكلمة :

الاوّل : هو تقييد المجرمين بالسلاسل والأغلال بعضهم مع البعض الآخر وظهورهم بهذه الصورة في يوم القيامة ، انّ هذا الغل هو عبارة عن تجسيد للروابط العملية والفكرية بين المجرمين في هذه الدنيا ، حيث كان يساعد بعضهم البعض على الظلم والفساد ، وتتجسّد هذه العلاقة في الآخرة بصورة سلاسل تربطهم فيما بينهم.

الثّاني : انّ المجرمين يقرّنون مع الشياطين بالسلاسل في يوم القيامة بسبب علاقتهم الباطنية معهم في هذه الدنيا.

الثّالث : ان تقيّد أيديهم برقابهم في الآخرة.

ولا مانع هناك من ان تجمع هذه الصفات للمجرمين ، لكن المعنى الاوّل الذي ذكرناه يوافق ظاهر الآية.

ثمّ يتطرّق القرآن الكريم الى لباسهم والذي هو احد افراد المجازاة الشديدة( سَرابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرانٍ وَتَغْشى وُجُوهَهُمُ النَّارُ ) .

«سرابيل» جمع (سربال) على وزن (مثقال) بمعنى القميص من اي قماش كان ، ويقول البعض بأنّه كلّ انواع اللباس ، لكن الاوّل اقرب الى المعنى.

٥٣٨

«قطران» بفتح القاف وسكون الطاء او بكسر القاف وسكون الطاء ، وهي مادّة تؤخذ من شجرة الأبهل ثمّ تغلى فتثخن وتطلى بها الإبل عند اصابتها بمرض الجرب ، وكانوا يعتقدون انّ المرض يزول بسبب وجود الحرقة في هذه المادّة ، وعلى اي حال فهي مادّة سوداء نتنة وقابلة للاشتغال(1) .

فيكون معنى الجملة( سَرابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرانٍ ) انّهم يلبسون ثيابا من مادّة سوداء ونتنة وقابلة للاشتعال ، حيث تمثّل اسوا الالبسة لما كانوا يعملونه في هذه الدنيا من ارتكاب الذنوب والفواحش. وسوادها يشير إلى أنّ الذنوب تؤدّي إلى ان يكون الإنسان مسودّ الوجه امام ربّه ، وتعفّنها يشير الى تلوّث المجتمع بهم ومساعدتهم على إشعال نار الفساد ، وكأنّ القطران تجسيد لاعمالهم في الدنيا.

( وَتَغْشى وُجُوهَهُمُ النَّارُ ) بسبب لباسهم الذي هو من قطران ، لانّه عند اشتعاله لا يحرق جسمهم فقط ، بل يصل لهيبه الى وجوههم. كلّ ذلك لأجل( لِيَجْزِيَ اللهُ كُلَّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ ) .

ومن الطريف انّه لم يقل انّ الجزاء بما كسبت أنفسهم ، بل يقول : «ما كسبت» ليكون تجسيدا حيّا لاعمالهم ، وهذه الآية بهذا التعبير الخاص دليل آخر على تجسّم الأشياء.

وفي الختام يقول تعالى :( إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ ) وهذا واضح تماما لانّ كلّ انسان حسابه معه!

ونقرا في بعض الرّوايات : انّ الله تعالى يحاسب الخلائق كلّهم في مقدار لمح البصر. ولا ريب انّ الله تعالى لا يحتاج الى وقت لمحاسبة الافراد ، وما جاء في الرّواية أعلاه اشارة الى اقصر الفترات. (للتوضيح اكثر راجع تفسير الآية 202 من سورة البقرة من تفسيرنا هذا).

__________________

(1) يقول فريد وجدي في دائرة المعارف في مادّة (القطران) مائع ناتج من تقطير الفحم الحجري ، والقطران النباتي يتمّ الحصول عليه من بعض الأشجار.

٥٣٩

وبما انّ آيات هذه السورة ـ وكذلك جميع الآيات ـ لها جانب الدعوة الى التوحيد وإبلاغ الأحكام الالهيّة الى الناس وإنذارهم ، يقول تعالى في آخر آية من هذه السورة :( هذا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ ) .

* * *

بحوث

1 ـ تبديل الأرض غير الأرض والسماوات

قرانا في الآيات أعلاه انّ في يوم القيامة تبدّل الأرض غير هذه الأرض وكذلك السّماوات ، فهل التبديل تبديل ذاتي ، اي ان تفنى هذه الأرض وتخلق مكانها ارض اخرى للقيامة؟ ام المقصود هو تبديل الصفات ، يعني دمار ما في الأرض والسّماوات وخلق ارض وسماوات جديدة على انقاضها؟ حيث تكون النسبة بينهما انّ الثانية أكمل من الاولى.

الظاهر في كثير من الآيات القرآنية أنّها تشير الى المعنى الثاني ، ففي الآية (21) من سورة الفجر يقول تعالى :( كَلَّا إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا ) وفي الآية الاولى من سورة الزلزال يقول تعالى :( إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها ) وفي الآية (15) من سورة الحاقة( وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْواقِعَةُ ) وقوله تعالى :( وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً فَيَذَرُها قاعاً صَفْصَفاً ـ لا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً ـ يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً ) ،(1) وقوله تعالى :( إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ وَإِذَا الْجِبالُ سُيِّرَتْ ) وقوله تعالى في سورة الانفطار( إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ وَإِذَا الْكَواكِبُ

__________________

(1) سورة طه ، 108105 ـ.

٥٤٠