الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٧

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل10%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 572

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 572 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 287646 / تحميل: 5227
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٧

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

2 - حواره مع أصحاب الأديان

قال الحسن بن محمد النوفليّ: لمّا قدم علي بن موسى الرضاعليه‌السلام إلى المأمون أمر الفضل بن سهل أن يجمع له أصحاب المقالات مثل الجاثليق ورأس الجالوت ورؤساء الصابئين والهربذ الأكبر، وأصحاب زردهشت وقسطاس الرّومي والمتكلّمين ليسمع كلامه وكلامهم فجمعهم الفضل بن سهل، ثم أعلم المأمون باجتماعهم، فقال: أدخلهم عليّ، ففعل، فرحّب بهم المأمون.

ثم قال لهم: إني إنّما جمعتكم لخير، وأحببت أن تناظروا ابن عمّي هذا المدنيّ القادم عليّ، فإذا كان بكرة فاغدوا عليَّ ولا يتخلّف منكم أحد، فقالوا: السمع والطاعة يا أمير المؤمنين نحن مبكّرون إن شاء الله.

قال الحسن بن محمد النوفلي: فبينا نحن في حديث لنا عند أبي الحسن الرضاعليه‌السلام إذ دخل علينا ياسر الخادم وكان يتولّى أمر أبي الحسنعليه‌السلام فقال: يا سيدي إنّ أمير المؤمنين يقرئك السلام فيقول: فداك أخوك إنه اجتمع إليّ أصحاب المقالات وأهل الأديان والمتكلّمون من جميع الملل، فرأيك في البكور علينا إن أحببت كلامهم وإن كرهت كلامهم فلا تتجشّم وإن أحببت أن نصير إليك خفّ ذلك علينا.

فقال أبو الحسنعليه‌السلام : أبلغه السلام وقل له: قد علمت ما أردت وأنا صائر إليك

١٨١

بكرة إن شاء الله. قال الحسن بن محمّد النوفلي: فلمّا مضى ياسر التفت إلينا، ثم قال لي: يا نوفليّ أنت عراقي ورقّة العراقي غير غليظ فما عندك في جمع ابن عمّك علينا أهل الشرك وأصحاب المقالات؟ فقلت: جعلت فداك يريد الامتحان ويحبّ أن يعرف ما عندك، ولقد بنى على أساس غير وثيق البنيان وبئس - والله - ما بنى.

فقال لي: وما بناؤه في هذا الباب؟ قلت: إن أصحاب البدع والكلام خلاف العلماء وذلك أنّ العالم لا ينكر غير المنكر وأصحاب المقالات والمتكلّمون وأهل الشرك أصحاب إنكار ومباهتة، وإن احتججت عليهم بأن الله واحد قالوا: صحّح وحدانيّته وإن قلت: إن محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رسول الله قالوا: أثبت رسالته، ثم يباهتون الرجل وهو يبطل عليهم بحجّته، ويغالطونه حتى يترك قوله فاحذرهم جعلت فداك.

قال: فتبسّمعليه‌السلام ثم قال: يا نوفلي أتخاف أن يقطعوا عليّ حجّتي؟

قلت: لا والله ما خفت عليك قطّ وإنّي لأرجو أن يظفرك الله لهم إن شاء الله.

فقال لي: يا نوفلي تحبّ أن تعلم متى يندم المأمون؟ قلت: نعم.

قال: إذا سمع احتجاجي على أهل التوراة بتوراتهم، وعلى أهل الإنجيل بإنجيلهم، وعلى أهل الزّبور بزبورهم وعلى الصابئين بعبرانيتهم وعلى الهرابذة بفارسيتهم وعلى أهل الرّوم بروميتهم وعلى أصحاب المقالات بلغاتهم فإذا قطعت كلّ صنف ودحضت حجّته وترك مقالته ورجع إلي قولي علم المأمون أنّ الموضع الذي هو بسبيله ليس هو بمستحق له فعند ذلك تكون الندامة منه، ولا حول ولا قوّة إلاّ بالله العلي العظيم.

فلمّا أصبحنا أتانا الفضل بن سهل فقال له: جعلت فداك ابن عمّك ينتظرك، وقد اجتمع القوم فما رأيك في إتيانه؟

فقال الرضاعليه‌السلام : تقدمني فإنّي صائر إلى ناحيتكم إن شاء الله، ثم، توضأعليه‌السلام

١٨٢

وضوء الصلاة وشرب شربة سويق وسقانا منه، ثمّ خرج وخرجنا معه حتى دخلنا على المأمون، فإذا المجلس غاص بأهله ومحمّد بن جعفر في جماعة الطالبيين والهاشميين والقوّاد حضور.

فلما دخل الرضاعليه‌السلام قام المأمون وقام محمد بن جعفر وقام جميع بني هاشم فما زالوا وقوفاً والرضاعليه‌السلام جالس مع المأمون حتى أمرهم بالجلوس فجلسوا، فلم يزل المأمون مقبلاً عليه يحدّثه ساعة، ثم التفت إلى الجاثليق، فقال: يا جاثليق هذا ابن عمّي علي بن موسى بن جعفر، وهو من ولد فاطمة بنت نبينا وابن علي بن أبي طالبعليهم‌السلام فأحب أن تكلّمه وتحاجّه وتنصفه.

فقال الجاثليق: يا أمير المؤمنين كيف أحاج رجلاً يحتجّ عليّ بكتاب أنا منكره ونبيّ لا أؤمن به؟

فقال له الإمام الرضاعليه‌السلام : يا نصرانيّ فإن احتججت عليك بإنجيلك أتقرّ به؟!

قال الجاثليق: وهل أقدر على دفع ما نطق به الإنجيل، نعم والله أقرّ به على رغم أنفي.

فقال له الرضاعليه‌السلام : سل عمّا بدا لك وافهم الجواب.

قال الجاثليق: ما تقول في نبوّة عيسىعليه‌السلام وكتابه هل تنكر منهما شيئاً؟

قال الرضاعليه‌السلام : أنا مقرّ بنبوّة عيسى وكتابه وما بشّر به أمته وأقرّ به الحواريون وكافر بنبوّة كل عيسي لم يقرَّ بنبوة محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبكتابه ولم يبشّر به أمته.

قال الجاثليق: أليس إنّما تقطع الأحكام بشاهدي عدل؟

قال: بلى.

قال: فأقم شاهدين من غير أهل ملتك على نبوّة محمد ممّن لا تنكره النصرانية وسلنا مثل ذلك من غير أهل ملّتنا.

قال الرضاعليه‌السلام : الآن جئت بالنصفة يا نصراني، ألا تقبل منّي العدل المقدّم عند

١٨٣

المسيح عيسى بن مريم؟

قال الجاثليق: ومن هذا العدل؟ سمه لي؟

قال: ما تقول في يوحنا الدّيلمي.

قال: بخ بخ ذكرت أحبّ الناس إلى المسيح.

قال: فأقسمت عليك هل نطق الإنجيل أنّ يوحنا قال إن المسيح أخبرني بدين محمد العربي وبشّرني به إنه يكون من بعده، فبشّرت به الحواريين فآمنوا به؟!

قال الجاثليق: قد ذكر ذلك يوحنا عن المسيح وبشّر بنبوّة رجل وبأهل بيته ووصيّه ولم يلخّص متى يكون ذلك ولم يسمّ لنا القوم فنعرفهم.

قال الرضاعليه‌السلام : فإن جئناك بمن يقرأ الإنجيل فتلا عليك ذكر محمّد وأهل بيته وأمته أتؤمن به؟

قال: شديداً.

قال الرضاعليه‌السلام لقسطاس الرومي: كيف حفظك للسفر الثالث من الإنجيل؟

قال: ما أحفظني له.

ثم التفت إلى رأس الجالوت فقال له: ألست تقرأ الإنجيل؟!

قال: بلى لعمري.

قال: فخذ على السفر الثالث، فإن كان فيه ذكر محمّد وأهل بيته وأمته سلام الله عليهم فاشهدوا لي، وإن لم يكن فيه ذكره فلا تشهدوا لي.

ثم قرأعليه‌السلام السّفر الثالث حتى إذا بلغ ذكر النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقف، ثم قال: يا نصراني، إني أسألك بحق المسيح وأمه أتعلم أني عالم بالإنجيل؟ قال: نعم، ثم تلا علينا ذكر محمّد وأهل بيته وأمته ثم قال: ما تقول يا نصرانيّ؟ هذا قول عيسى بن مريم فإن كذبت ما ينطق به الإنجيل فقد كذبت عيسى وموسىعليهما‌السلام ومتى أنكرت هذا الذّكر وجب عليك القتل لأنّك تكون قد كفرت بربّك وبنبيّك وبكتابك.

١٨٤

قال الجاثليق: لا أنكر ما قد بان لي في الإنجيل وإنّي لمقرّ به.

قال الرضاعليه‌السلام : اشهدوا على إقراره. ثم قال: يا جاثليق، سل عمّا بدا لك.

قال الجاثليق: أخبرني عن حواري عيسى بن مريم كم كان عدّتهم، وعن علماء الإنجيل كم كانوا.

قال الرضاعليه‌السلام : على الخبير سقطت، أمّا الحواريون فكانوا اثنى عشر رجلاً وكان أفضلهم وأعلمهم لوقا.

وأما علماء النصارى فكانوا ثلاثة رجال: يوحنّا الأكبر بأج، ويوحنّا بقرقيسيا، ويوحنّا الدّيلمي بزجان، وعنده كان ذكر النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وذكر أهل بيته وأُمته وهو الذي بشر أُمة عيسى وبني إسرائيل به، ثم قالعليه‌السلام : يا نصراني، والله إنّا لنؤمن بعيسى الذي آمن بمحمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وما ننقم على عيساكم شيئاً إلاّ ضعفه وقلّة صيامه وصلاته.

قال الجاثليق: أفسدت والله علمك وضعّفت أمرك، وما كنت ظننت إلاّ أنّك أعلم أهل الإسلام.

قال الرضاعليه‌السلام : وكيف ذلك؟

قال الجاثليق: من قولك: إنّ عيساكم كان ضعيفاً قليل الصيام قليل الصلاة، وما أفطر عيسى يوماً قطّ، ولا نام بليل قطّ، ومازال صائم الدّهر، قائم الليل.

قال الرضاعليه‌السلام : فلمن كان يصوم ويصلي؟

قال: فخرس الجاثليق وانقطع.

قال الرضاعليه‌السلام : يا نصراني! إني أسألك عن مسألة.

قال: سل فإن كان عندي علمها أجبتك.

قال الرضاعليه‌السلام : ما أنكرت أنّ عيسى كان يحيي الموتى بإذن الله عَزَّ وجَلَّ؟

قال الجاثليق: أنكرت ذلك من قبل، إنّ من أحيا الموتى وأبرأ الأكمه

١٨٥

والأبرص فهو ربّ مستحق لأن يعبد.

قال الرضاعليه‌السلام : فإنّ اليسع قد صنع مثل ما صنع عيسى مشى على الماء وأحيا الموتى وأبرأ الأكمه والأبرص، فلم يتّخذه أُمته رباً ولم يعبده أحد من دون الله عَزَّ وجَلَّ، ولقد صنع حزقيل النبيعليه‌السلام مثل ما صنع عيسى بن مريمعليه‌السلام فأحيا خمسة وثلاثين ألف رجل من بعد موتهم بستّين سنة.

ثم التفت إلى رأس الجالوت فقال له: يا رأس الجالوت، أتجد هؤلاء في شباب بني إسرائيل في التوراة أختارهم بخت نصر من سبي بني إسرائيل حين غزا بيت المقدّس ثم انصرف بهم إلى بابل فأرسله الله عَزَّ وجَلَّ إليهم فأحياهم، هذا في التوراة لا يدفعه إلاّ كافر منكم.

قال رأس الجالوت: قد سمعنا به وعرفناه.

قال: صدقت. ثم قالعليه‌السلام : يا يهوديّ، خذ على هذا السفر من التوراة فتلاعليه‌السلام علينا من التوراة آيات، فأقبل يهودي يترجّح لقراءته ويتعجّب.

ثم أقبل على النصراني فقال: يا نصراني أفهؤلاء كانوا قبل عيسى أم عيسى كان قبلهم؟

قال: بل كانوا قبله.

قال الرضاعليه‌السلام : لقد اجتمعت قريش إلى رسول الله (صلّى الله عليه وآله) فسألوه أن يحيي لهم موتاهم فوجّه معهم علي بن أبي طالبعليه‌السلام ، فقال له: اذهب إلى الجبانة فناد بأسماء هؤلاء الرهط الذين يسألون عنهم بأعلى صوتك، يا فلان و يا فلان و يا فلان، يقول لكم محمد رسول الله (صلّى الله عليه وآله) قوموا بإذن الله عَزَّ وجَلَّ، فقاموا ينفضون التراب عن رؤوسهم، فأقبلت قريش تسألهم عن أمورهم.

ثم أخبروهم أنّ محمّداً قد بعث نبيّاً، وقالوا: وددنا أنا أدركناه فنؤمن به ولقد ابرأ الأكمه والأبرص والمجانين وكلّمه البهائم، والطير والجن والشياطين ولم نتخذه ربّاً من دون

١٨٦

الله عَزَّ وجَلَّ ولم ننكر لأحد من هؤلاء فضلهم، فمتى اتّخذتم عيسى رباً جاء لكم أن تتخذوا اليسع وحزقيل ربّاً لأنهما قد صنعا مثل ما صنع عيسى من إحياء الموتى وغيره، أنّ قوماً من بني إسرائيل هربوا من بلادهم من الطاعون وهم ألوف حذر الموت.

فأماتهم الله في ساعة واحدة فعمد أهل تلك القرية فحظروا عليهم حظيرة فلم يزالوا فيها حتى نخرت عظامهم وصاروا رميماً، فمرّ بهم نبي من أنبياء بني إسرائيل فتعجّب منهم ومن كثرة العظام البالية فأوحى الله إليه: أتحبّ أن أحييهم لك فتنذرهم؟ قال: نعم يا ربّ، فأوحى الله عَزَّ وجَلَّ إليه أن نادهم.

فقال: أيتها العظام البالية قومي بإذن الله عَزَّ وجَلَّ فقاموا أحياء أجمعون ينفضون التراب عن رؤوسهم ثم إبراهيمعليه‌السلام خليل الرحمن حين أخذ الطيور وقطعهنّ قطعاً ثمّ وضع على كل جبل منهنّ جزءً، ثم ناديهن فأقبلن سعياً إليه، ثم موسى بن عمران وأصحابه والسبعون الذين اختارهم صاروا معه إلى الجبل فقالوا له: إنّك قد رأيت الله سبحانه فأرناه كما رأيته.

فقال لهم: إني لم أره. فقالوا: لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة، فأخذتهم الصاعقة فاحترقوا عن آخرهم وبقي موسى وحيداً، فقال: يا ربّ اخترت سبعين رجلاً من بني إسرائيل فجئت بهم وارجع وحدي فكيف يصدّقني قومي بما أخبرهم به، فلو شئت أهلكتهم من قبل وإيّاي أفتهلكنا بما فعل السفهاء منّا، فأحياهم الله عَزَّ وجَلَّ من بعد موتهم.

وكل شيء ذكرته لك من هذا لا تقدر على دفعه، لأنّ التوراة والإنجيل والزبور والفرقان قد نطقت به، فإن كان كل من أحيا الموتى وأبرأ الأكمه والأبرص والمجانين يتّخذ ربّاً من دون الله، فاتّخذ هؤلاء كلّهم أرباباً، ما تقول يا نصراني؟

قال الجاثليق: القول قولك ولا إله إلاّ الله.

ثم التفتعليه‌السلام إلى رأس الجالوت فقال: يا يهوديّ أقبل عليَّ أسألك بالعشر الآيات التي أنزلت على موسى بن عمرانعليه‌السلام ، هل تجد في التوراة مكتوباً نبأ محمّد وأُمته

١٨٧

إذا جاءت الأمة الأخيرة أتباع راكب البعير يسبّحون الربّ جداً جداً تسبيحاً جديداً في الكنائس الجدد، فليفرغ بنو إسرائيل إليهم وإلى ملكهم لتطمئنّ قلوبهم فإنّ بأيديهم سيوفاً ينتقمون بها من الأمم الكافرة في أقطار الأرض. هكذا هو في التوراة مكتوب؟!

قال رأس الجالوت: نعم إنّا لنجده كذلك.

ثم قال للجاثليق: يا نصراني كيف علمك بكتاب شعيا؟ قال: أعرفه حرفاً حرفاً.

قال الرضاعليه‌السلام لهما: أتعرفان هذا من كلامه: يا قوم إني رأيت صورة راكب الحمار لابساً جلابيب النور، ورأيت راكب البعير ضوؤه مثل ضوء القمر.

فقالا: قد قال ذلك شعيا.

قال الرضاعليه‌السلام : يا نصراني هل تعرف في الإنجيل قول عيسى: إني ذاهب إلى ربّي وربّكم والفار قليطا جاء هو الذي يشهد لي بالحق كما شهدت له وهو الذي يفسّر لكم كلّ شيء وهو الذي يبدي فضائح الأمم، وهو الذي يكسر عمود الكفر؟

فقال الجاثليق: ما ذكرت شيئاً ممّا في الإنجيل إلاّ ونحن مقرّون به.

فقال: أتجد هذا في الإنجيل ثابتاً يا جاثليق؟!

قال: نعم.

قال الرضاعليه‌السلام : يا جاثليق ألا تخبرني عن الإنجيل الأوّل حين افتقدتموه عند من وجدتموه ومن وضع لكم هذا الإنجيل؟

قال له ك ما افتقدنا الإنجيل إلاّ يوماً واحداً حتى وجدناه غضّاً طريّاً فأخرجه إلينا يوحنّا ومتي.

فقال له الرضاعليه‌السلام : ما أقلّ معرفتك بسرّ الإنجيل وعلمائه، فإن كان كما تزعم فلم اختلفتم في الإنجيل؟ إنّما وقع الاختلاف في هذا الإنجيل الذي في أيديكم اليوم فلو كان على العهد الأوّل لم تختلفوا فيه، ولكني مفيدك علم ذلك، اعلم أنّه لمّا افتقد الإنجيل الأوّل

١٨٨

اجتمعت النصارى إلى علمائهم فقالوا لهم: قتل عيسى بن مريمعليه‌السلام وافتقدنا الإنجيل وأنتم العلماء فما عندكم؟

فقال لهم لوقا ومرقابوس: إنّ الإنجيل في صدورنا، ونحن نخرجه إليكم سفراً سفراً في كل أحد، فلا تحزنوا عليه ولا تخلّوا الكنائس، فإنّا سنتلوه عليكم في كلّ أحد سفراً سفراً حتّى نجمعه لكم كلّه، فقعد لوقاء ومرقابوس ويوحنّا ومتي ووضعوا لهم هذا الإنجيل بعد ما افتقدتم الإنجيل الأوّل وإنّما كان هؤلاء الأربعة تلاميذ تلاميذ الأوّلين، أعلمت ذلك؟

قال الجاثليق: أما هذا فلم أعلمه وقد علمته الآن، وقد بان لي من فضل علمك بالإنجيل وسمعت أشياء ممّا علمته، شهد قلبي أنّها حقّ فاستزدت كثيراً من الفهم.

فقال له الرضاعليه‌السلام : فكيف شهادة هؤلاء عندك؟

قال: جائزة، هؤلاء علماء الإنجيل وكلّ ما شهدوا به فهو حقّ.

فقال الرضاعليه‌السلام للمأمون ومن حضره من أهل بيته ومن غيرهم: اشهدوا عليه، قالوا: قد شهدنا.

ثم قال للجاثليق: بحقّ الابن وأمه هل تعلم أنّ متي قال: إن المسيح هو ابن داود بن إبراهيم بن إسحاق بن يعقوب بن يهودا بن خضرون، وقال مرقابوس: في نسبة عيسى بن مريم: إنه كلمة الله أحلّها في جسد الآدمي فصارت إنساناً، وقال الوقا: إن عيسى بن مريم وأمه كانا إنسانين من لحم ودم فدخل فيهما روح القدس.

ثم إنّك تقول من شهادة عيسى على نفسه، حقّاً أقول لكم يا معشر الحواريين إنّه لا يصعد إلى السماء إلاّ ما نزل منها إلاّ راكب البعير خاتم الأنبياء، فإنّه يصعد إلى السماء وينزل، فما تقول في هذا القول؟

قال الجاثليق: هذا قول عيسى لا ننكره.

١٨٩

قال الرضاعليه‌السلام : فما تقول في شهادة الوقا، ومرقابوس ومتي على عيسى وما نسبوه إليه؟

قال الجاثليق: كذبوا على عيسى.

قال الرضاعليه‌السلام : يا قوم أليس قد زكّاهم وشهد أنهم علماء الإنجيل وقولهم حقّ؟

فقال الجاثليق: يا عالم المسلمين أحبّ أن تعفيني من أمر هؤلاء.

قال الرضاعليه‌السلام : فإنا قد فعلنا، سل يا نصراني، عمّا بدالك؟

قال الجاثليق: ليسألك غيري فلا وحق المسيح ما ظننت أن في علماء المسلمين مثلك.

فالتفت الرضاعليه‌السلام إلى رأس الجالوت فقال له: تسألني أو أسألك؟

قال: بل أسألك، ولست أقبل منك حجة إلاّ من التوراة أو من الإنجيل أو من زبور داود أو ممّا في صحف إبراهيم وموسى.

فقال الرضاعليه‌السلام : لا تقبل منّي حجة إلاّ بما تنطق به التوراة، على لسان موسى بن عمران، والإنجيل على لسان عيسى بن مريم، والزبور على لسان داود.

فقال رأس الجالوت: من أين تثبت نبوّة محمد؟

قال الرضاعليه‌السلام : شهد بنبوّته (صلّى الله عليه وآله) موسى بن عمران وعيسى بن مريم وداود خليفة الله عَزَّ وجَلَّ في الأرض.

فقال له: أثبت قول موسى بن عمران.

قال الرضاعليه‌السلام : هل تعلم يا يهوديّ أن موسى أوصى بني إسرائيل فقال لهم: إنّه سيأتيكم نبيّ هو من إخوتكم فيه فصدّقوا، ومنه فاسمعوا، فهل تعلم أن لبني إسرائيل إخوة غير ولد إسماعيل إن كنت تعرف قرابة إسرائيل من إسماعيل والنسب الذي بينهما من قبل إبراهيمعليه‌السلام ؟

فقال رأس الجالوت: هذا قول موسى لا ندفعه.

١٩٠

فقال له الرضاعليه‌السلام : هل جاءكم من إخوة بني إسرائيل نبي غير محمد (صلّى الله عليه وآله).

قال: لا.

قال الرضاعليه‌السلام : أوليس قد صحّ هذا عندكم؟!

قال: نعم ولكنّي أحب أن تصحّحه لي من التوراة.

فقال له الرضاعليه‌السلام : هل تنكر أن التوراة تقول لكم: جاء النور من جبل طور سيناء، وأضاء لنا من جبل ساعير واستعلن علينا من جبل فاران؟

قال رأس الجالوت: أعرف هذه الكلمات وما أعرف تفسيرها.

قال الرضاعليه‌السلام : أنا أخبرك به، أما قوله: جاء النّور من جبل طور سيناء فذلك وحي الله تبارك وتعالى الذي أنزله على موسىعليه‌السلام على جبل طور سيناء، وأما قوله: وأضاء لنا من جبل ساعير، فهو الجبل الذي أوحى الله عَزَّ وجَلَّ إلى عيسى بن مريمعليه‌السلام وهو عليه، وأما قوله: واستعلن علينا من جبل فاران، فذلك جبل من جبال مكّة بينه وبينها يوم.

وقال شعيا النبيعليه‌السلام فيما تقول أنت وأصحابك في التوراة: رأيت راكبين أضاء لهما الأرض أحدهما راكب على حمار، والآخر على جمل، فمن راكب الحمار ومن راكب الجمل؟!

قال رأس الجالوت: لا أعرفهما فخبّرني بهما.

قالعليه‌السلام : أما راكب الحمار فعيسى بن مريم، وأما راكب الجمل، فمحمد (صلّى الله عليه وآله) أتنكر؟ هذا من التوراة، قال لا، ما أنكره.

ثم قال الرضاعليه‌السلام : هل تعرف حيقوق النبي؟ قال: نعم إنّي به لعارف، قالعليه‌السلام فإنّه قال وكتابكم ينطق به: جاء الله بالبيان من جبل فاران، وامتلأت السماوات من تسبيح أحمد وأُمته، يحمل خيله في البحر كما يحمل في البرّ يأتينا بكتاب جديد بعد خراب بيت المقدّس - يعني بالكتاب القرآن - أتعرف هذا وتؤمن به؟

١٩١

قال رأس الجالوت: قد قال ذلك حيقوقعليه‌السلام ولا ننكر قوله.

قال الرضاعليه‌السلام : وقد قال داود في زبوره وأنت تقرأ: اللهم ابعث مقيم السنة بعد الفترة، فهل تعرف نبياً أقام السنّة بعد الفترة غير محمد (صلّى الله عليه وآله)؟

قال رأس الجالوت: هذا قول داود نعرفه ولا ننكره، ولكن عنى بذلك عيسى، وأيّامه هي الفترة.

قال الرضاعليه‌السلام : جهلت أنّ عيسى لم يخالف السنّة وقد كان موافقاً لسنّة التوراة حتى رفعه الله إليه، وفي الإنجيل مكتوب: إن ابن البرّة ذاهب والفارقليطا جاء من بعده وهو الذي يخفّف الآصار، ويفسّر لكم كلّ شيء، ويشهد لي كما شهدت له، أنا جئتكم بالأمثال، وهو يأتيكم بالتأويل أتؤمن بهذا في الإنجيل؟

قال: نعم لا أنكره.

فقال الرضاعليه‌السلام : يا رأس الجالوت أسألك عن نبيّك موسى بن عمران؟

فقال: سل.

قال: ما الحجّة على أنّ موسى ثبتت نبوّته؟

قال اليهوديّ: إنّه جاء بما لم يجيء به أحد من الأنبياء قبله.

قال له: مثل ماذا؟

قال: مثل فلق البحر، وقلبه العصا حيّة تسعى وضربه الحجر فانفجرت منه العيون، وإخراجه يده بيضاء للناظرين وعلامات لا يقدر الخلق على مثلها.

قال له الرضاعليه‌السلام : صدقت إذا كانت حجة على نبوّته أنه جاء بما لا يقدر الخلق على مثله أفليس كلّ من ادّعى أنّه نبيّ ثم جاء بما لا يقدر الخلق على مثله وجب عليكم تصديقه؟

قال: لا؛ لأن موسى لم يكن له نظير لمكانته من ربّه، وقربه منه ولا يجب علينا الإقرار بنبوّة من ادّعاها حتى يأتي من الأعلام بمثل ما جاء به.

١٩٢

قال الرضاعليه‌السلام : فكيف أقررتم بالأنبياء الذين كانوا قبل موسىعليه‌السلام ولم يفلقوا البحر ولم يفجروا من الحجر اثنتي عشرة عيناً، ولم يخرجوا أيديهم بيضاء مثل إخراج موسى يده بيضاء ولم يقلب العصا حيّة تسعى؟!

قال له اليهودي: قد خبرتك أنه متى جاءوا على دعوى نبوّتهم من الآيات بما لا يقدر الخلق على مثله ولو جاءوا بما لم يجيء به موسى، أركان على غير ما جاء به موسى وجب تصديقهم.

قال الرضاعليه‌السلام : يا رأس الجالوت فما يمنعك من الإقرار بعيسى بن مريم، وقد كان يحيي الموتى ويبرئ الأكمه والأبرص، ويخلق من الطين كهيئة الطير، ثم ينفخ فيه فيكون طيراً بإذن الله؟

قال رأس الجالوت: يقال إنّه فعل ذلك ولم نشهده.

قال له الرضاعليه‌السلام : أرأيت ما جاء به موسى من الآيات شاهدته؟! أليس إنّما جاء في الأخبار به من ثقات أصحاب موسى أنه فعل ذلك.

قال: بلى.

قال: فكذلك أتتكم الأخبار المتواترة بما فعل عيسى بن مريم فكيف صدقتم بموسى ولم تصدّقوا بعيسى.

فلم يحر جواباً.

قال الرضاعليه‌السلام : وكذلك أمر محمد (صلّى الله عليه وآله) وما جاء به وأمر كلّ نبي بعثه الله ومن آياته أنه كان يتيماً فقيراً راعياً أجيراً لم يتعلّم كتاباً ولم يختلف إلى معلّم، ثم جاء بالقرآن الذي فيه قصص الأنبياء وأخبارهم حرفاً حرفاً وأخبار من مضى ومن بقى إلى يوم القيامة.

ثم كان يخبرهم بأسرارهم وما يعملون في بيوتهم، وجاء بآيات كثيرة لا تحصى.

قال رأس الجالوت: لم يصحّ عندنا خبر عيسى ولا خبر محمّد ولا يجوز لنا أن نقرّ لهما بما لم يصحّ.

١٩٣

قال الرضاعليه‌السلام : فالشاهد الذي شهد لعيسى ولمحمد (صلّى الله عليه وآله) شاهد زور.

فلم يحر جواباً.

ثم دعاعليه‌السلام بالهربذ الأكبر فقال له الرضاعليه‌السلام : أخبرني عن زردهشت الذي تزعم أنه نبي ما حجّتك على نبوّته؟

قال: إنه أتى بما لم يأتنا به أحد قبله ولم نشهده، ولكن الأخبار من أسلافنا وردت علينا بأنه أحل لنا ما لم يحلّه غيره فاتّبعناه.

قالعليه‌السلام : أفليس إنّما أتتكم الأخبار فاتبعتموه؟!

قال: بلى.

قال: فكذلك سائر الأمم السالفة أتتهم الأخبار بما أتى به النبيّون، وأتى به موسى وعيسى ومحمد صلوات الله عليهم فما عذركم في ترك الإقرار لهم، إذ كنتم أقررتم بزردهشت من قبل الأخبار المتواترة، بأنّه جاء بما لم يجيء به غيره؟!

فانقطع الهربذ مكانه.

فقال الرضاعليه‌السلام : يا قوم إن كان فيكم أحدٌ يخالف الإسلام وأراد أن يسأل فليسأل غير محتشم.

فقام إليه عمران الصابي وكان واحداً في المتكلمين فقال: يا عالم الناس لو لا أنّك دعوت إلى مسألتك لم أقدم عليك بالمسائل، ولقد دخلت الكوفة والبصرة والشام والجزيرة ولقيت المتكلمين فلم أقع على أحد يثبت لي واحداً ليس غيره قائماً بوحدانيّته أفتأذن لي أن أسألك؟

قال الرضاعليه‌السلام : إن كان في الجماعة عمران الصابي فأنت هو!

فقال: أنا هو.

فقالعليه‌السلام : سل يا عمران وعليك بالنصفة وإيّاك والخطل والجور!

قال: والله يا سيدي ما أريد إلاّ أن تثبت لي شيئاً أتعلّق به فلا أجوزه.

١٩٤

قالعليه‌السلام : سل عمّا بدا لك، فازدحم عليه الناس وانضمّ بعضهم إلى بعض.

فقال عمران الصابي: أخبرني عن الكائن الأوّل وعمّا خلق.

قالعليه‌السلام : سألت فافهم أما الواحد فلم يزل واحداً كائناً لا شيء معه بلا حدود ولا أعراض، ولا يزال كذلك ثمّ خلق خلقاً مبتدعاً مختلفاً بأعراض وحدود مختلفة لا في شيء أقامه ولا في شيء حدّه ولا على شيء حذاه ولا مثّله له.

فجعل من بعد ذلك الخلق صفوة وغير صفوة واختلافاً وائتلافاً وألواناً وذوقاً وطمعاً لا لحاجة كانت منه إلى ذلك ولا لفضل منزلة لم يبلغها إلاّ به، ولا رأى لنفسه فيما خلق زيادة ولا نقصاناً، تعقل هذا يا عمران؟

قال: نعم والله يا سيدي.

قالعليه‌السلام : واعلم يا عمران! أنه لو كان خلق ما خلق لحاجة لم يخلق إلاّ من يستعين به على حاجته ولكان ينبغي أن يخلق أضعاف ما خلق، لأنّ الأعوان كلّما كثروا كان صاحبهم أقوى، والحاجة يا عمران لا يسعها لأنّه لم يحدث من الخلق شيئاً إلاّ حدثت فيه حاجة أخرى ولذلك أقول: لم يخلق الخلق لحاجة، ولكن نقل بالخلق الحوائج بعضهم إلى بعض وفضّل بعضهم على بعض بلا حاجة منه إلى من فضّل ولا نقمةٍ منه على من أذلّ، فلهذا خلق.

قال عمران: يا سيدي هل كان الكائن معلوماً في نفسه عند نفسه؟

قال الرضاعليه‌السلام : إنّما تكون المعلمة بالشيء لنفي خلافه وليكون الشيء نفسه بما نفي عنه موجوداً، ولم يكن هناك شيء يخالفه فتدعوه الحاجة إلى نفي ذلك الشيء عن نفسه بتحديد علم منها، أفهمت ياعمران؟

قال: نعم والله يا سيدي فأخبرني بأيّ شيء علم ما علم أبضمير أم بغير ذلك؟

قال الرضاعليه‌السلام : أرأيت إذا علم بضمير هل تجد بدّاً من أن تجعل لذلك الضمير حداً ينتهى إليه المعرفة؟!

١٩٥

قال عمران: لابدّ من ذلك.

قال الرضاعليه‌السلام : فما ذلك الضمير؟

فانقطع ولم يحر جواباً.

قال الرضاعليه‌السلام : لا بأس، إن سألتك عن الضّمير نفسه تُعرّفُه بضمير آخر؟!

ثم قال الرضاعليه‌السلام : أفسدت عليك قولك ودعواك يا عمران، أليس ينبغي أن تعلم أنّ الواحد ليس يوصف بضمير، وليس يقال له أكثر من فعل وعمل وصنع وليس يتوهّم منه مذاهب وتجزئة كمذاهب المخلوقين وتجزئتهم فاعقل ذلك وابن عليه ما علمت صواباً.

قال عمران: يا سيدي ألا تخبرني عن حدود خلقه؟ كيف هي؟ وما معانيها؟ وعلى كم نوع يتكوّن؟

قالعليه‌السلام : قد سألت فافهم إنّ حدود خلقه على ستّة أنواع: ملموس وموزون ومنظور إليه، وما لا وزن له، وهو الروح ومنها منظور إليه وليس له وزن ولا لمس ولا حسّ ولا ذوق والتقدير، والأعراض، والصور والعرض والطول، ومنها العمل والحركات التي تصنع الأشياء وتعلمها وتغييرها من حال إلى حال وتزيدها وتنقصها.

وأما الأعمال والحركات فإنّها تنطلق لأنّها لا وقت لها أكثر من قدر ما يحتاج إليه، فإذا فرق من الشيء انطلق بالحركة وبقي الأثر ويجري مجرى الكلام الذي يذهب ويبقى أثره.

قال له عمران: يا سيدي ألا تخبرني عن الخالق إذا كان واحداً لا شيء غيره ولا شيء معه، أليس قد تغيّر بخلقه الخلق.

قال الرضاعليه‌السلام : يتغير عَزَّ وجَلَّ بخلق الخلق، ولكن الخلق يتغير بتغييره.

قال عمران: فبأي شيء عرفناه.

قالعليه‌السلام : بغيره.

قال: فأي شيء غيره؟

١٩٦

قال الرضاعليه‌السلام : مشيّته واسمه وصفته وما أشبه ذلك، وكلّ ذلك محدث مخلوق مدبّر.

قال عمران: يا سيدي فأيّ شيء هو؟

قالعليه‌السلام : هو نور بمعنى أنه هاد لخلقه من أهل السماء وأهل الأرض، وليس لك عليَّ أكثر من توحيدي إيّاه.

قال عمران: يا سيدي أليس قد كان ساكتاً قبل الخلق لا ينطق ثم نطق؟

قال الرضاعليه‌السلام : لا يكون السكوت إلاّ عن نطق قبله، والمثل في ذلك أنّه لا يقال للسراج هو ساكت لا ينطق ولا يقال إنّ السراج ليضيء فيما يريد أن يفعل بنا، لأنّ الضوء من السراج ليس بفعل منه ولا كون وإنّما هو ليس شيء غيره، فلما استضاء لنا قلنا قد أضاء لنا حتى استضأنا به، فبهذا تستبصر أمرك.

قال عمران: يا سيدي فإنّ الذي كان عندي أن الكائن قد تغيّر في فعله عن حاله بخلقه الخلق.

قال الرضا: أحلت يا عمران في قولك: إن الكائن يتغيّر في وجه من الوجوه حتى يصيب الذات منه ما يغيره، يا عمران هل تجد النار تغير نفسها؟ أو هل تجد الحرارة تحرق نفسها؟ أو هل رأيت بصيراً قطّ رأى بصره؟

قال عمران: لم أرَ هذا، ألا تخبرني أهو في الخلق أم الخلق فيه.

قال الرضاعليه‌السلام : جلّ يا عمران عن ذلك ليس هو في الخلق ولا الخلق فيه، تعالى عن ذلك، وسأعلّمك وتعرفه به، ولا حول ولا قوة إلاّ بالله، أخبرني عن المرآة أنت فيها أم هي فيك؟! فان كان ليس واحد منكما في صاحبه، فبأي شيء استدللت بها على نفسك؟

قال عمران: بضوء بيني وبينها.

فقال الرضاعليه‌السلام : هل ترى من ذلك الضوء في المرآة أكثر ممّا تراه في عينك؟

قال نعم.

١٩٧

قال الرضاعليه‌السلام : فأرناه؟ فلم يحر جواباً.

قال الرضاعليه‌السلام : فلا أرى النور إلاّ وقد دلّك ودلّ المرّاة على أنفسكما من غير أن يكون في واحد منكما، ولهذا أمثال كثيرة غير هذا لا يجد الجاهل فيها مقالاً ولله المثل الأعلى.

ثم التفتعليه‌السلام إلى المأمون قال: الصلاة قد حضرت.

فقال عمران: يا سيدي لا تقطع عليّ مسألتي فقد رقّ قلبي.

قال الرضاعليه‌السلام : نصلّي ونعود، فنهض ونهض المأمون، فصلّى الرضاعليه‌السلام داخلاً وصلّى الناس خارجاً خلف محمد بن جعفر، ثم خرجاً، فعاد الرضاعليه‌السلام إلى مجلسه ودعا بعمران فقال: سل يا عمران.

قال: يا سيدي ألا تخبرني عن الله عَزَّ وجَلَّ هل يوحد بحقيقة أم يوحد بوصف؟

قال الرضاعليه‌السلام : إنّ الله المبدئ الواحد الكائن الأوّل، لم يزل واحداً لا شيء معه، فرداً لا ثاني معه لا معلوماً ولا مجهولاً، ولا محكماً ولا متشابهاً، ولا مذكوراً ولا منسياً، ولا شيئاً يقع عليه اسم شيء من الأشياء غيره، ولا من وقت كان ولا إلى وقت يكون ولا بشيء قام ولا إلى شيء يقوم، ولا إلى شيء استند، ولا في شيء استكن، وذلك كلّه قبل الخلق إذ لا شيء وما أوقعت عليه من الكلّ فهي صفات محدثة وترجمة يفهم بها من فهم.

واعلم أنّ الإبداع والمشيّة والإرادة معناها واحد، وأسماؤها ثلاثة، وكان أوّل إبداعه وإرادته ومشيّته الحروف التي جعلها أصلاً لكل شيء ودليلاً على كلّ مدرك وفاصلاً لكلّ مشكل. وتلك الحروف تفريق كلّ شيء من اسم حقّ وباطل أو فعل أو مفعول أو معنى أو غير معنى، وعليها اجتمعت الأمور كلّها، ولم يجعل للحروف في إبداعه لها معنى غير أنفسها يتناهي ولا وجود لأنها مبدعة بالإبداع، والنّور في هذا الموضع أوّل فعل الله الذي هو نور السماوات والأرض.

١٩٨

والحروف هي المفعول بذلك الفعل وهي الحروف التي عليها الكلام والعبارات كلّها من الله عَزَّ وجَلَّ، علّمها خلقه، وهي ثلاثة وثلاثون حرفاً، فمنها ثمانية وعشرون حرفاً تدل على اللغات السريانيّة، والعبرانيّة، ومنها خمسة أحرف متحرّفة في سائر اللغات من العجم لأقاليم اللغات كلّها وهي خمسة أحرف تحرّفت من الثمانية والعشرين الحرف من اللغات فصارت الحروف ثلاثة وثلاثين حرفاً.

فأمّا الخمسة المختلفة فتحجج لا يجوز ذكرها أكثر ممّا ذكرناه ثمّ جعل الحروف بعد إحصائها وإحكام عدّتها فعلاً منه كقوله عَزَّ وجَلَّ:( كُنْ فَيَكُونُ ) وكن منه صنع وما يكون به المصنوع، فالخلق الأوّل من الله عَزَّ وجَلَّ الإبداع لا وزن له ولا حركة ولا سمع ولا لون ولا حسّ.

والخلق الثاني الحروف لا وزن لها ولا لون، وهي مسموعة موصوفة غير منظور إليها، والخلق الثالث ما كان من الأنواع كلّها محسوساً ملموساً ذا ذوق منظوراً إليه والله تبارك وتعالى سابق للإبداع لأنّه ليس قبله عَزَّ وجَلَّ شيء، ولا كان معه شيء والإبداع سابق للحروف والحروف لا تدلّ على غير أنفسها.

قال المأمون: وكيف لا تدلّ على غير أنفسها؟ قال الرضاعليه‌السلام : لأن الله تبارك وتعالى لا يجمع منها شيئاً لغير معنى أبداً، فإذا ألّف منها أحرفاً أربعة أو خمسة أو ستة أو أكثر من ذلك أو أقلّ لم يؤلفها لغير معنى ولم يك إلاّ لمعنى محدث لم يكن قبل ذلك شيئاً.

قال عمران: فكيف لنا بمعرفة ذلك؟

قال الرضاعليه‌السلام : أمّا المعرفة فوجه ذلك وبابه أنّك تذكر الحروف إذا لم ترد بها غير أنفسها ذكرتها فرداً فقلت: ا ب ت ث ج ح خ حتى تأتي على آخرها، فلم تجد لها معنى غير أنفسها، فإذا ألفتها وجمعت منها أحرفاً وجعلتها اسماً وصفة لمعنى ما طلبت ووجه ما عنيت كانت دليلة على معانيها داعية إلى الموصوف بها، أفهمته؟ قال: نعم.

١٩٩

قال الرضاعليه‌السلام : واعلم أنّه لا يكون صفة لغير موصوف ولا اسم لغير معنى ولا حدّ لغير محدود، والصفات والأسماء كلّها تدلّ على الكمال والوجود ولا تدلّ على الإحاطة كما تدلّ على الحدود التي هي التربيع والتثليث والتسديس، لأنّ الله عَزَّ وجَلَّ وتقدّس تدرك معرفته بالصفات والأسماء، ولا تدرك بالتحديد بالطول والعرض والقلّة والكثرة واللّون والوزن وما أشبه ذلك، وليس يحلّ بالله جلّ وتقدّس شيء من ذلك حتى يعرفه خلقه بمعرفتهم أنفسهم بالضرورة التي ذكرنا.

ولكن يدلّ على الله عَزَّ وجَلَّ بصفاته ويدرك بأسمائه ويستدلّ عليه بخلقه حتى لا يحتاج في ذلك الطالب المرتاد إلى رؤية عين، ولا استماع أذن ولا لمس كفّ ولا إحاطة بقلب، فلو كانت صفاته جل ثناؤه لا تدلّ عليه وأسماؤه لا تدعو إليه والمعلمة من الخلق لا تدركه لمعناه كانت العبادة من الخلق لأسمائه وصفاته دون معناه، فلو لا أنّ ذلك كذلك لمكان المعبود الوحد غير الله تعالى، لأنّ صفاته وأسماءه غيره، أفهمت؟ قال: نعم يا سيدي زدني.

قال الرضاعليه‌السلام : إياك وقول الجهّال أهل العمى والضلال الذي يزعمون أن الله عَزَّ وجَلَّ وتقدّس موجود في الآخرة للحساب والثواب والعقاب، وليس بموجود في الدنيا للطاعة والرجاء ولو كان في الوجود لله عَزَّ وجَلَّ نقص واهتضام لم يوجد في الآخرة أبداً، ولكنّ القوم تاهوا وعموا وصمّوا عن الحقّ من حيث لا يعلمون، وذلك قوله عَزَّ وجَلَّ:( وَمَن كَانَ فِي هذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلّ سَبِيلاً ) يعنى أعمى عن الحقائق الموجودة.

وقد علم ذوو الألباب أنّ الاستدلال على ما هناك لا يكون إلاّ بما ههنا، ومن أخذ علم ذلك برأيه وطلب وجوده وإدراكه عن نفسه دون غيرها لم يزدد من علم ذلك إلاّ بعداً، لأنّ

٢٠٠

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

التّفسير

دعاء ابراهيمعليه‌السلام :

لمّا كان الحديث في الآيات السابقة عن المؤمنين الصادقين والشاكرين لأنعم الله ، عقّبت هذه الآيات في بحث بعض ادعية وطلبات العبد المجاهد والشاكر لله ابراهيمعليه‌السلام ليكون هذا البحث تكملة للبحث السابق ونموذجا حيّا للذين يريدون ان يستفيدوا من النعم الالهيّة أفضل استفادة.

يقول تعالى :( وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ ) لانّهعليه‌السلام كان يعلم حجم البلاء الكبير الكامن في عبادة الأصنام ، ويعلم كثرة الذين ذهبوا ضحيّة في هذا الطريق( رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ ) فأيّ ضلال اكبر من هذا الضلال الذي يفقد الإنسان فيه حتّى عقله وحكمته.

الهي انّني ادعو الى توحيدك ، وادعو الجميع الى عبادتك( فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) .

في الحقيقة انّ ابراهيمعليه‌السلام أراد بهذه العبارة ان يقول لله تعالى : انّه حتّى لو انحرف ابنائي عن مسيرة التوحيد واتّجهوا الى عبادة الأصنام فإنّهم ليسوا منّي ، ولو كان غيرهم في مسيرة التوحيد فهم ابنائي وإخواني.

انّ تعبير ابراهيم المؤدّب والعطوف جدير بالملاحظة ، فهو لم يقل : ومن عصاني فإنّه ليس منّي وسأعاقبه عقابا شديدا ، بل يقول :( وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) .

ثمّ يستمر بدعائه ومناجاته( رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ ) .

وكان ذلك عند ما رزقه الله إسماعيل من جاريته «هاجر» فأثار ذلك حسد زوجته الاولى «سارة» ولم تستطع تحمّل وجود هاجر وابنها ، فطلبت من

٥٢١

ابراهيم ان يذهب بهما الى مكان آخر ، فاستجاب لها ابراهيم طبقا للأوامر الالهيّة ، وجاء بإسماعيل وامّه الى صحراء مكّة القاحلة ، ثمّ ودّعهم وذهب.

ولم يمض قليل من الوقت حتّى عطشت الامّ وابنها في تلك الشمس المحرقة ، وسعت هاجر كثيرا في انقاذ ابنها ، ولكنّ الله تعالى أراد ان تكون تلك الأرض قاعدة عظيمة للعبادة فأظهر عين زمزم ، ولم يمض وقت حتّى علمت قبيلة «جرهم» البدوية التي كانت قريبة منهم بالأمر ، فرحلوا وأقاموا عندهم ، فأخذت مكّة بالتحضّر شيئا فشيئا.

ثمّ يتابع ابراهيمعليه‌السلام دعاءه : الهي ، انّ اهلي قد سكنوا في هذه الصحراء المحرقة احتراما لبيتك المحرّم :( فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ ) .

ومن هنا لمّا كان الإنسان الموحّد والعارف يعلم بمحدودية علمه في مقابل علم الله ، وانّه يعلم مصلحته الّا الله تعالى ، فما اكثر ما يطلب شيئا من الله وليس فيه صلاحه ، او لا يطلبه وفيه صلاحه ، وأحيانا لا يستطيع ان يقوله بلسانه فيضمره في اعماق قلبه ، ولذلك يعقّب على ما مضى من دعائه ويقول :( رَبَّنا إِنَّكَ تَعْلَمُ ما نُخْفِي وَما نُعْلِنُ وَما يَخْفى عَلَى اللهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ ) .

فان كنت مغتمّا لفراق ابني وزوجتي فأنت تعلم بذلك وترى دموع عيني المنهملة. وان كان قلبي قد ملأه همّ الفراق ، وامتزج بفرح العمل بالتكليف والطاعة لاوامرك فأنت اعلم بذلك وعند ما فارقت زوجتي وقالت لي : «الى من تكلني» فأنت أدرى بها وبمستقبلها ومستقبل هذه الأرض.

ثمّ يشير القرآن الى شكر ابراهيمعليه‌السلام لنعمه تعالى والتي هي من اهمّ ما امتاز بهعليه‌السلام شكره على منحه ولدين بارّين إسماعيل وإسحاق وذلك في سنّ

٥٢٢

الشيخوخة( الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ ) (١) نعم( إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعاءِ ) .

ثمّ يستمرّ بدعائه ومناجاته ايضا فيقول :( رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنا وَتَقَبَّلْ دُعاءِ ) .

ثمّ يختم دعاءه هنا فيقول :( رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ ) .

* * *

بحوث

١ ـ هل كانت مكّة في ذلك الوقت مدينة؟

رأينا في الآيات السابقة انّ ابراهيم قال :( رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ ) وهذه اشارة الى اوّل دخوله ارض مكّة والتي كانت غير مزروعة ولا معمورة ولا ساكن فيها سوى اسّس بيت الله الحرام ، ومجموعة من الجبال الجرداء.

ولكنّنا نعلم انّها لم تكن رحلته الوحيدة الى مكّة ، بل وطأت قدمه عدّة مرّات تلك الأرض ، وفي الوقت نفسه كانت مكّة تأخذ طابع المدينة ، وسكنتها قبيلة «جرهم» وبظهور عين زمزم أصبحت صالحة للسكن.

والمعتقد انّ ادعية ابراهيم هذه كانت في احدى رحلاته ، ولذلك عبّر عنها بالبلد ، اي المدينة فقال :( رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً ) .

وامّا قوله :( بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ ) فقد تكون اشارة الى رحلته الاولى او اشارة

__________________

(١) هناك اختلاف بين المفسّرين في سنّ ابراهيم عند ولادة إسماعيل وإسحاق ، فمنهم من قال : كان عمره عند ولادة إسماعيل ٩٩ عاما وعند ولادة إسحاق ١١٢ عام ، ومنهم من يقول اكثر من ذلك واقل ، ولكن القدر المسلّم به انّ عمره كان في سن يصعب ان يولد منه الأبناء.

٥٢٣

الى ارض مكّة بعد ان أخذت طابع المدينة ، فإنّها لا زالت غير صالحة للزراعة ، لانّها من الناحية الجغرافية تقع بين جبال يابسة وقليلة المياه.

٢ ـ أمان ارض مكّة

من الطريف انّ اوّل ما سأل ابراهيم من ربّه في هذه الأرض هو الامان ، وهذا يوضّح انّ نعمة الأمن هي من الشروط الاولى لحياة الإنسان وسكنه في منطقة ما ، فالمكان غير الآمن لا يمكن السكن فيه ، حتّى لو اجتمعت كلّ النعم الدنيويّة فيه ، وفي الحقيقة اي مدينة او بلد فاقد لنعمة الأمن سوف يفقد جميع النعم!

ولا بدّ هنا من الالتفات الى هذه النقطة ، وهي انّ استجابة الله لدعاء ابراهيم بخصوص امن مكّة له جهتان : فمن جهة منحها امنا تكوينيّا ، ولذلك لم تشهد في تاريخها الّا النزر القليل من إخلال الأمن ، ومن جهة ثانية منحها الأمن التشريعي ، اي انّ الله اقرّ ان يأمن جميع الناس ـ وحتّى الحيوانات ـ في هذه الأرض. ومنع صيد الحيوانات ، وعدم متابعة المجرمين الذين يلجأون الى حرم الكعبة ، ونستطيع ـ فقط ـ ان نمنع عليهم الغذاء لكي يخرجوا ، ومن ثمّ تطبيق العدالة في حقّهم.

٣ ـ دعاء ابراهيم لاجتناب عبادة الأصنام؟

ممّا لا شكّ فيه انّ ابراهيمعليه‌السلام كان نبيّا معصوما ، وكذلك ابناه إسماعيل وإسحاق كانا نبيّين معصومين ، لانّهما داخلان في كلمة «بنيّ» في الآية قطعا ، ومع ذلك يدعو الله ان يجنّبهم عبادة الأصنام!

وهذا دليل في التأكيد على محاربة عبادة الأصنام بحيث كان يطلب هذا الأمر من الله حتّى للأنبياء المعصومون ومحطّمو الأصنام ، وهذا نظير اهتمام النّبي في وصاياه لعلي ـ او الائمّة الآخرين بالنسبة لاوصيائهم ـ في امر الصلاة ، والتي

٥٢٤

لا يمكن احتمال تركها من قبلهم ابدا ، بل انّ الصلاة أساسا قامت ببركة سعيهم وجهودهم.

وهنا يطرح هذا السؤال : كيف قال ابراهيم( رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ ) في حين انّ الأصنام ليست سوى أحجارا وخشبا ولا استطاعة لهنّ في إضلال الناس.

ويمكن الجواب على هذا السؤال من جهتين :

اوّلا : لم تكن الأصنام من الأحجار والخشب دائما ، بل هناك الفراعنة وأمثال نمرود الذين كانوا يدعون الناس لعبادتهم ويسمّون أنفسهم بالربّ الأعلى والمحي والمميت.

ثانيا : وأحيانا يكون القائمون بأمر الأصنام مظهرين تعظيمها وتزيينها بالشكل الذي تكون حقّا مضلّة لعوام الناس.

٤ ـ من هم اتباع ابراهيم؟

قرانا في الآيات انّ ابراهيم قال :( فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي ) فهل انّ اتباع ابراهيم من كان في عصره فقط ، ام الذين كانوا على دينه في العصور اللاحقة ، او يشمل كلّ الموحدين والمؤمنين في العالم ـ باعتبار ابراهيمعليه‌السلام مثالا في التوحيد ومحطّما للأصنام ـ؟

نستفيد من الآيات القرآنية ـ ومن ضمنها الآية ٧٨ من سورة الحج ـ انّ دعاء ابراهيم يشمل جميع الموحدين والمجاهدين في طريق التوحيد. ويؤيّد هذا التّفسير ما ورد عن اهل البيتعليهم‌السلام ايضا : فعن الباقرعليه‌السلام قال «من احبّنا فهو منّا اهل البيت. قلت ، جعلت فداك : منكم؟ قال منّا والله ، اما سمعت قول ابراهيم( فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي ) (١) .

__________________

(١) نور الثقلين ج ٤ ص ٥٤٨.

٥٢٥

ويوضّح هذا الحديث صيرورة الفرد من اهل البيت معنويا ان سار على خطّهم وتابع منهجهم.

وعن الامام عليعليه‌السلام قال : «نحن آل ابراهيم ، أفترغبون عن ملّة ابراهيم! وقد قال الله تعالى :( فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي ) .

٥ ـ واد غير ذي زرع والحرم الآمن

الذين سافروا الى مكّة يعلمون جيدا انّها تقع بين جبال صخرية يابسة لا ماء فيها ولا كلا ، وكأنّ الصخور وضعت في افران حارّة ثمّ صبّت في أماكنها. وفي نفس الوقت فهي اكبر مركز للعبادة واقدم قاعدة للتوحيد على وجه المعمورة ، وكذلك هي حرم الله الآمن.

وهنا قد يرد هذا السؤال في أذهان الكثيرين وهو : لماذا جعل الله هذا المركز المهمّ في مثل هذه الأرض؟

يجيب الامام عليعليه‌السلام على هذا السؤال من خلال أوضح العبارات وأجمل التعابير الفلسفيّة خطبته القاصعة حيث يقول : «وضعه بأوعر بقاع الأرض صخرا واقلّ نتائق الدنيا مدرا بين جبال خشنة ورمال دمثة ولو أراد سبحانه ان يضع بيته الحرام ومشاعره العظام بين جنّات وانهار وسهل وقرار ، جمّ الأشجار ، داني الثمار ، ملتفّ البنا ، متّصل القوى ، بين برّة سمراء وروضة خضراء ، وأرياف محدقة ، وعراص مغدقة ورياض ناظرة وطرق عامرة ، لكان قد صغر قدر الجزاء على حسب ضعف البلاء ، ولو كان الأساس المحمول عليها والأحجار المرفوع بها بين زمردة خضراء ، وياقوتة حمراء ، ونور وضياء ، لخفّف ذلك مصارعة الشكّ في الصدور ، ولوضع مجاهدة إبليس عن القلوب ، ولنفى معتلج الريب من الناس ، ولكنّ الله يختبر عباده بأنواع الشدائد ، ويتعبّدهم بأنواع المجاهد ، ويبتليهم بضروب المكاره ، إخراجا للتكبّر من قلوبهم ، وإسكانا للتذلّل في نفوسهم وليجعل

٥٢٦

ذلك أبوابا فتحا الى فضله ، وأسبابا ذللا لعفوه»(١) .

٦ ـ الدعوات السبعة لإبراهيم

دعا ابراهيمعليه‌السلام في هذه الآيات سبع دعوات في مجال التوحيد والمناجاة ومحاربة الأصنام وعبادتها ومحاربة الظالمين :

اوّل هذه الدعوات هو أمان مكّة القاعدة العظيمة لمجتمع التوحيد (وما اعمق مغزى هذا الطلب).

الثّاني : دعاؤه في الاجتناب عن عبادة الأصنام والتي هي الأساس والقاعدة لجميع العقائد والبرامج الدينيّة.

الثّالث : دعاؤه في تمايل قلوب المؤمنين وارتباطهم العاطفي بالنسبة لأبنائه والتابعين لدينه.

دعاؤه الرابع : ان يرزقهم الله من انواع الثمرات ، لتكون عنوانا للشكر والالتفات بشكل اعمق لخالق النعم.

الدعاء الخامس : التوفيق لاقامة الصلاة والتي هي أقوى صلة بين الإنسان وربّه ، ودعاؤهعليه‌السلام ليس له فقط ، بل حتّى لأبنائه.

دعاؤه السادس : قبول دعائه ، ونحن نعلم انّ الله يقبل الدعاء من مواقع الإخلاص والقلوب الطاهرة والأرواح السامية ، وفي الواقع انّ هذا الطلب من ابراهيمعليه‌السلام يحتوي ضمنا الحصول على القلب الطاهر والروح السامية.

وآخر دعائهعليه‌السلام : ان يشمله الله بلطفه ورحمته فيما إذا صدر منه ذنب او خطيئة ، وان يرحم امّه وأباه وجميع المؤمنين في يوم القيامة.

وبهذا الترتيب فإن دعواته تبدا بالأمن وتنتهي بالعفو والغفران ، ومن الطريف انّه لم يطلبها لنفسه فقط ، بل للآخرين كذلك ، لانّ عباد الرحمن ليسوا انانيّين!

__________________

(١) نهج البلاغة ، خطبة ١٩٢ (القاصعة).

٥٢٧

٧ ـ هل يدعو ابراهيم لأبيه؟

ممّا لا شكّ فيه انّ «آزر» كان يعبد الأصنام ، وكما يشير اليه القرآن فإنّ ابراهيم سعى جاهدا لان يهديه لكن خاب سعيه ، وإذا سلّمنا انّ آزر كان أبا لإبراهيم ، فلما ذا يدعو ابراهيم ان يغفر الله له في الوقت الذي نرى انّ القرآن يقول :( ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ ) .(١)

ومن هنا يتّضح انّ آزر لم يكن أبا لإبراهيم ، وانّ كلمة أب تطلق أحيانا على العمّ ، وكثيرا ما يستعملها العرب كذلك ، بينما (الوالد) خاصّة بالأب الحقيقي والتي جاءت في الآيات أعلاه. امّا كلمة أب والتي وردت بخصوص آزر فمن الممكن انّ المراد بها العمّ.

ونستنتج من الآيات أعلاه وممّا ورد في سورة التوبة من النهي عن الاستغفار للمشركين انّ «آزر» لم يكن أبا لإبراهيم حتما. (وللتوضيح اكثر راجع تفسير الآية ٧٤ من سورة الانعام و ٣٦ من سورة الأعراف في تفسيرنا هذا).

* * *

__________________

(١) التوبة ، ١١٣.

٥٢٨

الآيات

( وَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ غافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ (٤٢) مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ (٤٣) وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنا أَخِّرْنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ ما لَكُمْ مِنْ زَوالٍ (٤٤) وَسَكَنْتُمْ فِي مَساكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنا بِهِمْ وَضَرَبْنا لَكُمُ الْأَمْثالَ (٤٥) )

التّفسير

اليوم الذي تشخّص فيه الأبصار!

كان الحديث في الآيات السابقة عن يوم الحساب ، وبهذه المناسبة تجسّم هذه الآيات حال الظالمين والمتجبّرين في ذلك اليوم ، ثمّ تبيّن المسائل المتعلّقة بالمعاد وتكمل الحديث السابق حول التوحيد وتبدا في تهديد الظالمين :( وَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ غافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ ) .

٥٢٩

وهذا في الواقع جواب لأولئك الذين يقولون : إذا كان لهذا العالم اله عادل فلما ذا يترك الظالمين وحالهم؟ هل هو غافل عنهم ام لا يستطيع ان يمنعهم وهو يعلم بظلمهم؟

فيجيب القرآن الكريم على ذلك بأنّ الله ليس غافلا عنهم ابدا ، لانّ عدم عقابهم مباشرة هو انّ هذا العالم محلّ الامتحان والاختبار وتربية الناس ، وهذا لا يتمّ الّا في ظلّ الحرية ، وسوف يأتي يوم حسابهم( إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ ) .

«تشخص» من مادّة «الشخوص» بمعنى توقّف العين عن الحركة والنظر الى نقطة بدهشة.

«مهطعين» من مادّة «إهطاع» بمعنى رفع الرقبة ، ويعتقد البعض انّها بمعنى «السرعة» وقال آخرون : تعني «النظر بذلّة وخشوع». ولكن بالنظر الى الجمل الاخرى يكون المعنى الاوّل اقرب الى الصحّة.

«مقنعي» من مادّة «الاقناع» بمعنى رفع الراس عاليا.

ومفهوم جملة( لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ ) لا يقدرون على ان يطرفوا من شدّة الهول ، وكأنّ أعينهم كأعين الأموات عاطلة عن العمل!

وجملة( أَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ ) بمعنى قلوبهم خالية ومضطربة بحيث ينسون كلّ شيء حتّى أنفسهم وفقدت قلوبهم وأنفسهم كلّ ادراك وعلم ، وفقدوا كلّ قواهم.

انّ بيان هذه الصفات الخمس : تشخص الأبصار ، مهطعين ، مقنعي رؤوسهم ، لا يرتدّ إليهم طرفهم ، افئدتهم هواء ، صورة بليغة لهول وشدّة ذلك اليوم على الظالمين الذين كانوا يستهزئون بكلّ شيء ، وأصبحوا في هذا اليوم لا يستطيعون حتّى تحريك أجفان أعينهم.

ولكي لا يشاهدوا هذه المناظر المفجعة ينظرون الى الأعلى فقط ، فهؤلاء كانوا يعتقدون بكمال عقولهم ويعدّون الآخرين من الحمقى ، فأصبحوا اليوم

٥٣٠

مدهوشين لدرجة انّ نظرهم نظر المجانين. بل الأموات نظر جاف عديم الروح ومليء بالرعب والفزع نعم ، عند ما يريد القرآن الكريم ان يصوّر منظرا او يجسّم موقفا يستخدم اقصر العبارات في أكمل بيان كما في الآية أعلاه.

ولكي لا يعتقد احد انّ هذه المجازات تتعلّق بمجموعة معيّنة ، يقول تعالى لنبيّه الكريم :( وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنا أَخِّرْنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ ) حتّى نستفيد من هذه الفرصة ثمّ( نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ ) ولكن هيهات انّ ذلك محال( أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ ما لَكُمْ مِنْ زَوالٍ وَسَكَنْتُمْ فِي مَساكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنا بِهِمْ وَضَرَبْنا لَكُمُ الْأَمْثالَ ) فكلّ هذه الدروس لم تؤثّر بكم وأدمتم ظلمكم وجوركم ، والآن وبعد ان وقعتم في يد العدالة تطلبون تمديد المدّة ، اي مدّة؟ لقد انتهى كلّ شيء!

* * *

بحوث

١ ـ لماذا وجّه الخطاب هنا الى الرّسول الأكرم؟

ممّا لا شكّ فيه انّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يتصوّر ابدا انّ الله غافلا عن الظالمين ، ومع ذلك نرى الآيات أعلاه توجّه خطابها الى النّبي وتقول له :( وَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ غافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ ) .

انّه ـ في الواقع ـ إيصال الخطاب بشكل غير مباشر الى الآخرين ، والذي هو احد فنون الفصاحة ، كما نقول : ايّاك اعني واسمعي يا جارة.

وبالاضافة الى ذلك فإنّ هذا التعبير كناية عن التهديد ، كما نقول في بعض الأحيان للشخص المقصّر «لا تعتقد انّنا غافلون عن افعالك» يعني سوف نحاسبك على ما فعلت!

٥٣١

وعلى اي حال فأساس الحياة يقوم على إعطاء المهلة الكافية للافراد حتّى ينفقوا ممّا عندهم ، ولكي لا يبقى عذر لأحد تعطى المهلة الكافية قبل ساعة الامتحان ، وإعطاء المهلة الكافية للرجوع والإصلاح للجميع.

٢ ـ ما هو المقصود من( يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذابُ ) ؟

لقد امر النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ان ينذر الناس بهذا اليوم الذي ينزل عليهم فيه العذاب الالهي ، ولكن اي يوم هذا؟ ذكر المفسّرون له ثلاث احتمالات :

الاوّل : يوم القيامة.

الثّاني : يوم وقوع الموت ، حيث تبدا مقدّمة العذاب الالهي للظالمين.

الثّالث : المقصود هو نزول جزء من العذاب والبلاء الدنيوي ، كعذاب قوم لوط وعاد وثمود وقوم نوح وفرعون ، والذي تمّ من خلال الطوفان او الزلازل والعواطف والريح وغيرها.

ومع انّ كثير من المفسّرين رجّحوا التّفسير الاوّل ، الّا انّ الآيات التي تليها تشير الى قوّة الاحتمال الثّالث ، والتي توضّح انّ المقصود هو العقاب الدنيوي لانّنا نقرا بعد هذه الآية( رَبَّنا أَخِّرْنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ ) .

فالتعبير «اخّرنا» قرينة واضحة في الطلب لاستمرار الحياة في الدنيا ، لانّه لو كان في الآخرة لقالوا : ربّنا ارجعنا الى الدنيا ، كما نقرا في الآية (٢٧) من سورة الانعام( وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقالُوا يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ) حيث يردّ عليهم القرآن الكريم ويقول :( وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ ) .

وقد يسأل سائل : إذا كانت هذه الآية تشير الى عذاب الدنيا ، والآية ما قبلها( وَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ غافِلاً ) تشير الى عذاب الآخرة ، فكيف يمكن ان تتوافق هاتان الآيتان ، بالنظر الى انّ كلمة «انّما» دالّة على عقابهم في الآخرة فقط وليس في

٥٣٢

الدنيا.

ويتّضح الجواب بملاحظة انّ العقاب الاخروي الذي يشمل جميع الظالمين ، ليس له اي تبديل وتغيير ، بينما الجزاء الدنيوي ـ بالاضافة الى انّه غير شامل ـ فهو قابل للتبديل.

ولا بدّ من ذكر هذه النقطة ايضا وهو انّ العقاب الدنيوي ـ كعقاب قوم نوح وفرعون وأمثالهم ـ إذا حلّ بهم سوف تغلق أبواب التوبة كليّا وليس لهم طريق للرجوع والتوبة ، لانّ اغلب المذنبين عند ما يرون العذاب يندمون على ما فعلوا ، وهذا الندم اضطراريوليس له اي قيمة ، ولذلك يجب عليهم ان يتوبوا قبل نزول العذاب(١) .

٣ ـ لماذا لا تقبل المهلة؟

نقرا في آيات مختلفة من القرآن الكريم انّ الظالمين والمذنبين في مواقف متعدّدة ، يطلبون الرجوع الى الحياة لتصحيح مسيرتهم ، فبعض هذه المواقف مرتبط بيوم القيامة كما أشرنا في الآية (٢٨) من سورة الانعام ، وبعض آخر مرتبط بساعة الموت كما تشير اليه الآية (٩٩) من سورة المؤمنون( حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ ) والبعض الآخر يطلب الرجوع عند نزول العذاب المهلك ـ كما في هذه الآية ـ حيث يقول الظالمون عند رؤيتهم للعذاب( رَبَّنا أَخِّرْنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ ) ومن الطريف انّ الجواب في جميع هذه المواقف يكون بالنفي.

ودليله واضح ، لانّ اي واحد من هذه الامنيات لا يمثّل حقيقة واقعيّة ولا جديّة ، ورجاؤهم هذا هو حالة اضطرارية تظهر حتّى عند أسوإ الأشخاص ، وليست حالة دالّة على التغيّر الذاتي والتصميم الواقعي الصادق لتصحيح مسيرة

__________________

(١) للمطالعة اكثر راجع ذيل الآية (١٨) من سورة النساء.

٥٣٣

حياتهم ، كالمشركين عند ما يأخذهم الطوفان يسألون الله النجاة ، وعند ما ينجيهم الى الساحل ينكثون عهودهم كأن لم يكن يحدث شيء إطلاقا.

ولذلك يقول القرآن الكريم في بعض آياته ـ كما أشرنا اليه أعلاه ـ( وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ ) .

* * *

٥٣٤

الآيات

( وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ (٤٦) فَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقامٍ (٤٧) يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ (٤٨) وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ (٤٩) سَرابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرانٍ وَتَغْشى وُجُوهَهُمُ النَّارُ (٥٠) لِيَجْزِيَ اللهُ كُلَّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (٥١) هذا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ (٥٢) )

التّفسير

لا فائدة من مكرهم!

اشارت الآيات السابقة الى نوع من عقاب الظالمين ، وفي هذه الآيات ايضا اشارت ـ اوّلا ـ الى جزء من أفعالهم ، ومن ثمّ الى قسم آخر من جزائهم الشديد وعقابهم الأليم.

٥٣٥

تقول الآية الاولى :( وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ ) .

لقد عملوا كلّ ما بوسعهم من اجل طمس حقائق الإسلام ، بدء من الترغيب والتهديد وحتّى الأذى ومحاولات القتل والاغتيال وبثّ الشائعات ، ومع كلّ ذلك فإنّ الله مطّلع على جميع مؤامراتهم وقد احصى اعمالهم :( وَعِنْدَ اللهِ مَكْرُهُمْ ) وعلى اي حال فلا تقلق فانّهم لا يستطيعون بمكرهم هذا ان يصيبوك بسوء حتّى( وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ ) .

«المكر» ـ وكما أشرنا اليه سابقا ـ بمعنى الاحتيال ، فمرّة يلازمه الفساد ومرّة اخرى لا يلازمه ، وفي تفسير جملة( وَعِنْدَ اللهِ مَكْرُهُمْ ) رأيان : يقول البعض ومن جملتهم العلّامة الطباطبائي في تفسير الميزان : المراد بكون مكرهم عند الله احاطته تعالى به بعلمه وقدرته.

ويقول البعض الآخر ، كالعلّامة الطبرسي في مجمع البيان : انّ المراد هو ثبوت جزاء مكرهم عند الله تعالى (وعلى هذا التّفسير يكون تقدير الآية : عند الله جزاء مكرهم) فكلمة الجزاء محذوفة.

وممّا لا شكّ فيه انّ التّفسير الاوّل اقرب الى الصحّة ، لانّه يوافق ظاهر الآية ولا يحتاج الى الحذف والتقدير ، وتؤيّده جملة( وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ ) اي انّ مكرهم مهما كان قويّا. ومهما كانت لديهم قدرة على المؤامرة ، فإنّ الله اعلم بهم واقدر عليهم وسيدمر كلّ ما مكروا.

ثمّ يتوعّد الله الظالمين والمسيئين مرّة اخرى من خلال مخاطبة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ( فَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ ) لانّ الأخلاف يصدر من الذي ليست له قدرة واستطاعة ، ولكن :( إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقامٍ ) .

وهذه الآية ـ في الواقع ـ مكمّلة للآية التي قبلها( وَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ غافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ ) .

وتعني انّ المهلة التي أعطيت للظالمين ليست بسبب انّ الله غافل عنهم وعن

٥٣٦

اعمالهم ولا مخلف لوعده ، بل سينتقم منهم في اليوم المعلوم. والانتقام لا يراد به ما كان مصحوبا بالحقد والثأر كما يستخدم عادة في اعمال البشر ، بل هو الجزاء والعقاب واقامة العدالة بحقّ الظالمين ، بل انّها نتيجة عمل الإنسان نفسه ، ولا حاجة الى القول بأنّ الله تعالى لو لم ينتقم من الظالمين لكان ذلك خلافا لعدله وحكمته.

ثمّ يضيف تعالى( يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ ) وسوف يتجدّد كلّ شيء بعد الدمار ، ويبعث الإنسان في خلق جديد وعالم جديد يختلف في كلّ شيء عن هذا العالم ، في سعته ، في نعيمه وعقابه وسيظهر الإنسان بكلّ وجوده لله تعالى :( وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ ) .

و «البروز» من مادّة «البراز» على وزن «فراز» بمعنى الفضاء والمحلّ الواسع ، وغالبا ما تأتي بمعنى الظهور ، لانّ وجود الشيء في الفضاء الواسع بمعنى ظهوره ، وهناك آراء مختلفة للمفسّرين في معنى بروز الناس لله تعالى ، الكثير يرى انّها تعني الخروج من القبر.

ويحتمل ان يكون المعنى انكشاف بواطن وظواهر جميع الناس في يوم المحشر ، كما نقرا في الآية (١٦) من سورة غافر( يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ لا يَخْفى عَلَى اللهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ ) وكذلك الآية (٩) من سورة الطارق( يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ ) وعلى اي حال فوصفه بالقهّار دليل على تسلطه على كلّ الأشياء وسيطرته على ظاهرها وباطنها.

وهنا يأتي هذا السؤال ، وهو : هل انّ شيئا خفي على الله في هذه الدنيا لكي يظهر في الآخرة؟ ام انّ الله لا يعلم بما في القبور ولا يعلم بأسرار الناس؟

ويتّضح الجواب من الالتفات الى هذه النقطة ، وهي انّ لنا ظاهرا وباطنا في هذه الدنيا ، وقد يشتبه على البعض ـ بسبب علمنا المحدود ـ انّ الله لا يرى باطننا ، ولكن سوف يظهر كلّ شيء في الآخرة ولا وجود للظاهر والباطن هناك ، وبعبارة

٥٣٧

اخرى فالظهور بالقياس الى علمنا وليس الى علم الله المطلق.

وتصوّر الآية التالية كيفيّة بروزهم الى الله فنقول :( وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ ) .

«الأصفاد» جمع «صفد» بمعنى الغلّ ، وقال البعض هو الغلّ والسلاسل التي تجمع اليد الى العنق.

«مقرنين» من مادّة «القرن والاقتران» وهي بنفس المعنى ، لكن لو استخدمت من باب التفعيل يستفاد منها التكثير ، وعلى ذلك فكلمة مقرّنين بمعنى الأشخاص المتقاربين مع بعضهم البعض.

وللمفسّرين ثلاث آراء حول المقصود من هذه الكلمة :

الاوّل : هو تقييد المجرمين بالسلاسل والأغلال بعضهم مع البعض الآخر وظهورهم بهذه الصورة في يوم القيامة ، انّ هذا الغل هو عبارة عن تجسيد للروابط العملية والفكرية بين المجرمين في هذه الدنيا ، حيث كان يساعد بعضهم البعض على الظلم والفساد ، وتتجسّد هذه العلاقة في الآخرة بصورة سلاسل تربطهم فيما بينهم.

الثّاني : انّ المجرمين يقرّنون مع الشياطين بالسلاسل في يوم القيامة بسبب علاقتهم الباطنية معهم في هذه الدنيا.

الثّالث : ان تقيّد أيديهم برقابهم في الآخرة.

ولا مانع هناك من ان تجمع هذه الصفات للمجرمين ، لكن المعنى الاوّل الذي ذكرناه يوافق ظاهر الآية.

ثمّ يتطرّق القرآن الكريم الى لباسهم والذي هو احد افراد المجازاة الشديدة( سَرابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرانٍ وَتَغْشى وُجُوهَهُمُ النَّارُ ) .

«سرابيل» جمع (سربال) على وزن (مثقال) بمعنى القميص من اي قماش كان ، ويقول البعض بأنّه كلّ انواع اللباس ، لكن الاوّل اقرب الى المعنى.

٥٣٨

«قطران» بفتح القاف وسكون الطاء او بكسر القاف وسكون الطاء ، وهي مادّة تؤخذ من شجرة الأبهل ثمّ تغلى فتثخن وتطلى بها الإبل عند اصابتها بمرض الجرب ، وكانوا يعتقدون انّ المرض يزول بسبب وجود الحرقة في هذه المادّة ، وعلى اي حال فهي مادّة سوداء نتنة وقابلة للاشتغال(١) .

فيكون معنى الجملة( سَرابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرانٍ ) انّهم يلبسون ثيابا من مادّة سوداء ونتنة وقابلة للاشتعال ، حيث تمثّل اسوا الالبسة لما كانوا يعملونه في هذه الدنيا من ارتكاب الذنوب والفواحش. وسوادها يشير إلى أنّ الذنوب تؤدّي إلى ان يكون الإنسان مسودّ الوجه امام ربّه ، وتعفّنها يشير الى تلوّث المجتمع بهم ومساعدتهم على إشعال نار الفساد ، وكأنّ القطران تجسيد لاعمالهم في الدنيا.

( وَتَغْشى وُجُوهَهُمُ النَّارُ ) بسبب لباسهم الذي هو من قطران ، لانّه عند اشتعاله لا يحرق جسمهم فقط ، بل يصل لهيبه الى وجوههم. كلّ ذلك لأجل( لِيَجْزِيَ اللهُ كُلَّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ ) .

ومن الطريف انّه لم يقل انّ الجزاء بما كسبت أنفسهم ، بل يقول : «ما كسبت» ليكون تجسيدا حيّا لاعمالهم ، وهذه الآية بهذا التعبير الخاص دليل آخر على تجسّم الأشياء.

وفي الختام يقول تعالى :( إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ ) وهذا واضح تماما لانّ كلّ انسان حسابه معه!

ونقرا في بعض الرّوايات : انّ الله تعالى يحاسب الخلائق كلّهم في مقدار لمح البصر. ولا ريب انّ الله تعالى لا يحتاج الى وقت لمحاسبة الافراد ، وما جاء في الرّواية أعلاه اشارة الى اقصر الفترات. (للتوضيح اكثر راجع تفسير الآية ٢٠٢ من سورة البقرة من تفسيرنا هذا).

__________________

(١) يقول فريد وجدي في دائرة المعارف في مادّة (القطران) مائع ناتج من تقطير الفحم الحجري ، والقطران النباتي يتمّ الحصول عليه من بعض الأشجار.

٥٣٩

وبما انّ آيات هذه السورة ـ وكذلك جميع الآيات ـ لها جانب الدعوة الى التوحيد وإبلاغ الأحكام الالهيّة الى الناس وإنذارهم ، يقول تعالى في آخر آية من هذه السورة :( هذا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ ) .

* * *

بحوث

١ ـ تبديل الأرض غير الأرض والسماوات

قرانا في الآيات أعلاه انّ في يوم القيامة تبدّل الأرض غير هذه الأرض وكذلك السّماوات ، فهل التبديل تبديل ذاتي ، اي ان تفنى هذه الأرض وتخلق مكانها ارض اخرى للقيامة؟ ام المقصود هو تبديل الصفات ، يعني دمار ما في الأرض والسّماوات وخلق ارض وسماوات جديدة على انقاضها؟ حيث تكون النسبة بينهما انّ الثانية أكمل من الاولى.

الظاهر في كثير من الآيات القرآنية أنّها تشير الى المعنى الثاني ، ففي الآية (٢١) من سورة الفجر يقول تعالى :( كَلَّا إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا ) وفي الآية الاولى من سورة الزلزال يقول تعالى :( إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها ) وفي الآية (١٥) من سورة الحاقة( وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْواقِعَةُ ) وقوله تعالى :( وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً فَيَذَرُها قاعاً صَفْصَفاً ـ لا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً ـ يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً ) ،(١) وقوله تعالى :( إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ وَإِذَا الْجِبالُ سُيِّرَتْ ) وقوله تعالى في سورة الانفطار( إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ وَإِذَا الْكَواكِبُ

__________________

(١) سورة طه ، ١٠٨١٠٥ ـ.

٥٤٠

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572