الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٧

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل0%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 572

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

مؤلف: آية الله الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
تصنيف:

الصفحات: 572
المشاهدات: 273440
تحميل: 4733


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 572 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 273440 / تحميل: 4733
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء 7

مؤلف:
العربية

الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ* ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ* انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ ) .

فعلى هذا ، من المستحسن ان يجاب على السؤال المتعلق بتناقض ظواهر الآيات حول التكلم بما ذكره كثير من المفسّرين ، وهو انّ الناس يقطعون في ذلك اليوم مراحل مختلفة وكل مرحلة لها خصوصياتها ، ففي قسم من المراحل لا يسألون ابدا حتى انّ أفواههم يختم عليها فلا يتكلمون ، وانّما تنطق أعضاء أجسادهم التي حفظت آثار اعمالها بلغة من دون لسان ، وفي المراحل الاخرى يرفع الختم او القفل عن أفواههم ويتكلمون بإذن الله فيعترفون بأخطائهم وذنوبهم ويلوم المخطئون بعضهم بعضا ، بل يحاولون ان يلقوا تبعات أوزارهم على غيرهم.

ويشار في نهاية الآية الى تقسيم الناس جميعا الى طائفتين : طائفة محفوظة ، واخرى بائسة تعيسة( فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ ) .

و «السعيد» مشتق من مادة «السعادة» ومعناها توفر اسباب النعمة.

و «الشقي» مشتق من مادة «الشقاء» ومعناه توفر اسباب البلاء والمحنة.

فالسعداء ـ إذا ـ هم الصالحون الذين يتمتعون بأنواع النعم في الجنّة والاشقياءهم المسيئون الذين هم يتقلبون في انواع العذاب والعقاب في جهنم.

وليس هذا الشقاء ـ على كل حال ـ وتلك السعادة سوى نتيجة الأعمال والأقوال والنيّات التي سلفت من الإنسان في الدنيا.

والعجيب ان بعض المفسّرين يتخذون هذه الآية ذريعة لعقيدتهم الباطلة في مجال الجبر ، في حين انّ الآية ليس فيها اقلّ دليل على هذا المعنى ، بل هي تتحدث عن السعداء والأشقياء في يوم القيامة وانهم وصلوا جميعا بأعمالهم الى هذه المرحلة ، ولعلهم توهموا هذه النتيجة من هذه الآية بالخلط بينها وبين بعض الأحاديث التي تتكلم عن شقاء الإنسان او سعادته وهو في بطن امّه قبل الولادة ،

٦١

ولكن هذه المسألة ليس هنا مجالها إذ لها قصّة اخرى وحديث طويل.

ثمّ تشرح الآيات حالات السعداء والأشقياء في عبارات موجزة واخّاذة حيث تقول( فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ ) وتضيف حاكية عن حالهم ايضا :( خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ ) .

* * *

ملاحظات

1 ـ هل انّ السعادة والشقاوة ذاتيان؟

أراد البعض ان يثبت من الآيات المتقدمة ـ كما قلنا آنفا ـ كون السعادة والشقاء ذاتيين ، في حين انّ الآيات المتقدمة لا تدل على هذا الأمر فحسب ، بل تثبت بوضوح كون السعادة والشقاء اكتسابيين ، إذ تقول( فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا ) او تقول( وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا ) فلو كان كل من الشقاء والسعادة ذاتيين لكان ينبغي ان يقال «امّا الأشقياء وامّا السعداء» وما أشبه ذلك التعبير ، ومن هنا يتّضح بطلان ما جاء في تفسير الفخر الرازي ممّا مؤداه : «انّ هذه الآيات تحكم من الآن انّ جماعة في القيامة سعداء وجماعة أشقياء ، ومن حكم الله عليه مثل هذا الحكم ويعلم انه في القيامة امّا شقي أو سعيد ، فمحال عليه ان يغير ذلك والّا للزم ـ في الآية ـ ان يكون ما اخبر الله به كذبا ويكون علمه جهلا!! وهذا محال» فكل ذلك لا أساس له.

وهذا هو الاشكال المعروف على «علم الله» في مسألة الجبر والاختيار والذي أجيب عليه قديما بأنه : إذا لم نرد تحميل افكارنا وآراؤنا المسبقة على آيات القرآن الكريم ، فإنّ مفاهيمها تبدو واضحة ، انّ هذه الآيات تقول :( يَوْمَ

٦٢

يَأْتِى ) يكون فيه جمع من الناس سعداء من خلال اعمالهم ، وجمع آخر أشقياء بسبب اعمالهم ، والله سبحانه يعلم من الذي اختار طريق السعادة باختياره ، وبإرادته ، ومن الذي خطا خطوات في مسير الشقاء بإرادته. وهذا المعنى يعطي نتيجة معاكسة تماما لما ذكره الرازي حيث انّ الناس إذا كانوا مجبورين على هذا الطريق فإنّ علم الله سيكون جهلا (والعياذ بالله) ، لانّ الجميع اختاروا طريقهم وانتخبوه بإرادتهم ورغبتهم.

الشاهد في الكلام انّ الآيات المتقدمة تتحدث عن قصص الأقوام السابقين ، حيث عوقبت عقابا جماعة عظيمة منهم ـ بسبب ظلمهم وانحرافهم عن جادة الحق والعدل ، وبسبب التلوث بالمفاسد الاخلاقية الشديدة ، والوقوف بوجه الأنبياء والقادة الإلهيين ـ أليما في هذه الدنيا والقرآن يقص علينا هذه القصص من اجل إرشادنا وتربيتنا وبيان طريق الحق من الباطل ، وفصل مسير السعادة عن مسير الشقاء.

وإذا كنّا ـ أساسا ـ كما يتصوّر الفخر الرازي ومن على شاكلته ـ محكومين بالسعادة والشقاء الذاتيين ، ونؤخذ دون ارادتنا بالسيئات او الصالحات ، فإنّ «التعليم والتربية» سيكونان لغوا وبلا فائدة ومجيء الأنبياء ونزول الكتب السّماويّة والنصيحة والموعظة والتوبيخ والملامة والمؤاخذة والسؤال والمحاكمة والثواب كل ذلك يعدّ غير ذي فائدة ، او يعدّ ظلما.

الأشخاص الذين يرون الناس مجبورين على عمل الخير او الشرّ ، سواء كان هذا الجبر جبرا الهيا ، او جبرا طبيعيا ، او جبرا اقتصاديا ، او جبرا اجتماعيا متطرفون في عقيدتهم هذه في كلامهم فحسب ، او في كتاباتهم ، ولكنّهم حتى أنفسهم لا يعتقدون ـ عند العمل ـ بهذا الاعتقاد ، ولهذا فلو وقع تجاوز على حقوقهم فانّهم يرون المتجاوز مستحقا للتوبيخ والملامة والمحاكمة والمجازاة وليسوا مستعدين ابدا للإغضاء عنه بحجة انه مجبور على هذا العمل وانّ من

٦٣

الظلم عقابه ومجازاته ، او يقولوا انه لم يستطع ان لا يرتكب هذا العمل لانّ الله أراد ذلك ، او انّ المحيط أجبره ، او الطبيعة وهذا بنفسه دليل آخر على انّ اصل الاختيار فطري.

وعلى كل حال لا نجد للجبر مسلكا في اعمالنا اليومية يرتبط بهذه العقيدة ، بل اعمال الناس جميعا تصدر عنهم بصورة حرّة ومختارة وهم مسئولون عنها.

وجميع الأقوام في الدنيا يقبلون حرية الارادة ، بدليل تشكيل المحاكم والادارات القضائية لمحاكمة المتخلفين.

وجميع المؤسسات التربوية في العالم تقبل بهذا الأصل ضمنا ، وهو انّ الإنسان يعمل بإرادته ورغبته ، ويمكن بإرشاده وتعليمه وتربيته ان يتجنب الاخطاء والاشتباهات والأفكار المنحرفة.

2 ـ واقع الإنسان بين السعادة والشقاوة

الطريف انّ لفظ «شقوا» في الآيات المتقدمة ورد بصيغة المبني للمعلوم ، ولفظ «سعدوا»(1) ورد بصيغة المبني للمجهول ، ولعل في هذا الاختلاف في التعبير اشارة لطيفة الى هذه المسألة الدقيقة ، وهي انّ الإنسان يطوي طريق الشقاء بخطاه ، ولكن لا بدّ لطيّ طريق السعادة في الأمداد والعون الالهي ، والّا فإنّه لا يوفّق في مسيره ، ولا شكّ انّ هذا الأمداد والعون يشمل أولئك الذين يخطون خطواتهم الاولى بإرادتهم واختيارهم فحسب وكانت فيهم اللياقة والجدارة لهذا الأمداد. (فلاحظوا بدقة).

__________________

(1) «سعدوا» من مادة (سعد) وحسب رأي اصحاب اللغة فإنّ هذا الفعل لازم ولا يتعدّى الى مفعول ، فعلى هذا ليست له صيغة للمجهول ، فاضطروا ان يقولوا : انّه مخفّف من (اسعدوا) وبابه (الأفعال) ولكن كما ينقل الآلوسي في كتاب روح المعاني في شرح الآية عن بعض اهل اللغة ، انّ الفعل الثلاثي من «سعد» يتعدّى الى المفعول ايضا ـ قالوا : سعده الله وهو مسعود ، فعلى هذا لا حاجة الى ان نقول بأنّ (سعدوا) مخفف من «اسعدوا» «فتدبّر».

٦٤

3 ـ مسألة الخلود في القرآن

معنى «الخلود» لغة البقاء الطويل ، كما جاء بمعنى الأبد ايضا ، فكلمة «الخلود» لا تعني الأبد وحده لانّه تشمل كل بقاء طويل.

ولكن ذكرت في كثير من آيات القرآن مع قيود بفهم منها معنى الأبد ، فمثلا في الآية (100) من سورة التوبة ، والآية (11) من سورة الطلاق ، والآية (9) من سورة التغابن ، حين تذكر هذه الآيات اهل الجنّة تأتي بالتعبير عنهم( خالِدِينَ فِيها أَبَداً ) ومفهومها ابديّة الجنّة لهؤلاء ، ما نقرا في آيات القرآن الاخرى وصف اهل النّار كالآية (169) من سورة النساء ، والآية (23) من سورة الجن هذا التعبير ايضا( خالِدِينَ فِيها أَبَداً ) وهو دليل على عذابهم الابدي.

وتعبيرات اخرى مثل الآية (3) من سورة الكهف( ماكِثِينَ فِيهِ أَبَداً ) والآية (108) من سورة الكهف ايضا( لا يَبْغُونَ عَنْها حِوَلاً ) وأمثالها تدل بصورة قطعيّة على انّ طائفة من اهل الجنّة وطائفة من اهل النّار سيبقون في العذاب او النعمة.

ولم يستطع البعض ان يحل الإشكالات في الخلود والجزاء الابدي ، فاضطر الى الرجوع الى معناه اللغوي وفسّره بالبقاء الطويل ، على حين انّ تعابير كالتعابير الواردة في الآيات المتقدمة لا تفسّر بمثل هذا التّفسير.

سؤال مهم :

هنا ترتسم في ذهن كل سامع علامة استفهام كبيرة ، إذ كيف نتصوّر عدم التعادل عند الله بين الذنب والعقاب؟! وكيف يمكن القبول بأن يقضي الإنسان كل عمره الذي لا يتجاوز ثمانين سنة ـ او مائة سنة على الأكثر بالعمل الصالح او بالإثم ، ثمّ يثاب على ذلك او يعاقب ملايين الملايين من السنين.

وهذا الأمر ليس مهما بالنسبة للثواب لانّ الأجر والثواب كلما ازداد كان دليلا على كرم المثيب والمعطي ، فلا مجال للمناقشة في هذا الأمر.

ولكن السؤال يرد في العمل السيء والذنب والظلم والكفر ، وهو : «هل

٦٥

ينسجم العذاب الدائم مقابل ذنب محدود مع اصل العدل عند الله»؟ فالذي لم تتجاوز مرحلة ظلمه وطغيانه وعناده في أقصى ما يمكن احتماله مائة سنة ، كيف يعذب في النّار عذابا دائما؟ أفلا تقتضي العدالة ان يكون هناك نوع من التعادل؟ فمثلا يعاقب مائة سنة بمقدار اعماله السيئة.

الاجوبة غير المقنعة

انّ تعقيد المسألة كان السبب في توجيه معاني آيات الخلود عند البعض وتفسيرها بما لا يستفاد منه العقاب الدائم الذي هو على خلاف اصل العدالة في عقيدتهم

1 ـ ذهب البعض : إنّ المقصود بـ «الخلود» هو المعنى المجازي او الكنائي عنه ، اي مدة وطويلة نسبيّا ، كما يقال مثلا لأولئك الذين يحكم عليهم بالسجن طول عمره «محكوم عليه بالسجن المؤبد» مع انّه من المسلم به لا ابديّة في السجن حيث ينتهي السجن ، مع انتهاء ويقال في العربية ايضا «يخلّد في السجن» وهو مأخوذ من الخلود في هذه الموارد.

2 ـ وقال آخرون : انّ أمثال هؤلاء الطغاة والمعاندين الذين اكتنفت وجودهم الآثام ، فتحوّل وجودهم الى ماهية الكفر او الإثم ، هؤلاء وان بقوا في نار جهنم دائمين ، الّا انّ جهنّم لا تبقى على حالها ، فسيأتي يوم تنطفي نارها. كأية نار اخرى ، ويعم اهل النّار نوع من الهدوء والراحة.

3 ـ واحتمل آخرون انّه مع مرور الزمان وبعد معاناة العذاب الطويل ينسجم اهل النّار مع محيطهم ، اي انهم يتطبّعون ويتعوّدون على هذا المحيط شيئا فشيئا حتى تبلغ بهم الحالة الّا يحسوا بالعذاب والشقاء.

وبالطبع فإنّ الداعي الى هذه التوجيهات هو عجزهم وعدم استطاعتهم ان يحلّوا مشكلة خلود العذاب ودوامه ، والّا فإن ظهور آيات الخلود في ديمومة العذاب وبقائه غير قابلة للإنكار.

٦٦

الحلّ النهائي للإشكال

ومن اجل حلّ هذا الاشكال ينبغي ان نعود الى البحوث السالفة ونعالج الاشتباهات الناشئة من قياس مجازاة يوم القيامة بالمجازاة الاخرى ، ليعلم انّ مسألة الخلود لا تنافي عدالة الله ابدا.

ولتوضيح هذا البحث ينبغي الالتفات الى ثلاثة اصول :

1 ـ انّ العذاب الدائم ـ وكما أشرنا اليه من قبل ـ هو لأولئك الذين اوصدوا أبواب النجاة بوجوههم ، واضحوا غرقى الفساد والانحراف عامدين ، وغشى الظلّ المشؤوم للاثم قلوبهم وأرواحهم فاصطبغوا بلون الكفر ، وكما نقرا عنهم في سورة البقرة الآية (81)( بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ ) .

2 ـ يخطئ من يتصور انّ مدّة العقاب وزمانه ينبغي ان تكون على قدر مدّة الإثم وزمانه ، لانّ العلاقة بين الإثم والعقاب ليست علاقة زمانية بل كيفية ، اي ان زمان العقاب يتناسب مع كيفية الإثم لا مع زمانه.

فمثلا قد يقدم شخص في لحظة على قتل نفس محترمة ، وطبقا لما في بعض القوانين يحكم عليه بالحبس الدائم ، فهنا نلاحظ انّ زمن الإثم لحظة واحدة ، في حين انّ العقاب قد يبلغ ثمانين سنة.

اذن المهم في الإثم هو «كيفيته» لا «كمية زمانه».

3 ـ قلنا انّ العقاب والمحاسبات في يوم القيامة لها اثر طبيعي للعمل وخصوصية الذنب ، وبعبارة أوضح : ان ما يجده المذنبون من الم وأذى يوم القيامة هو نتيجة اعمالهم التي أحاطت بهم في الدنيا.

نقرا في القرآن كما في سورة يس الآية (54) :( فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَلا تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) ونقرا في الآية (33) من سورة الجاثية :( وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ ) وفي سورة القصص الآية

٦٧

(84) :( فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ ) .

والآن وبعد ان اتّضحت مقدمات هذه الأصول ، فإنّ الحل النهائي لهذا الاشكال لم يعد بعيدا ، ويكفي للوصول اليه ان نجيب على الاسئلة التالية.

ولنفرض انّ شخصا يبتلى بالقرحة المعدية نظرا لادمانه على المشروبات الكحولية لمدّة سبعة ايّام تباعا ، فيكون مجبورا على تحمل الألم والأذى الى آخر عمره ، ترى هل هذه المعادلة بين هذا العمل السيء ونتيجته مخالفة للعدالة؟! ولو كان عمر هذا الإنسان (مكان الثمانين سنة) الف سنة او مليون سنة ، ولأجل نزوته النفسية بشرب الخمر أسبوعا يتألم طول عمره ، ترى هل هذا التألم لمليون سنة ـ مثلا ـ مخالف لاصل العدالة في حين انّه ابلغ حال شرب الخمر بوجود هذا الخطر واعلم بنتيجته؟

ولنفرض ايضا انّ سائق ، سيارة لا يلتزم بأوامر المرور ومقرراته ، والالتزام بها ينفع الجميع قطعا ويقلل من الحوادث المؤسفة ، لكنه يتجاهلها ولا يصغي لتحذير اصدقائه وفي لحظة قصيرة تقع له حادثة ـ وكل الحوادث تقع في لحظه ـ ويفقد بذلك عينه او يده اورجله في هذه اللحظة. ونتيجة لما وقع يعاني الألم سنين طويلة لفقده البصر او اليد او الرجل ، فهل تتنافى هذه الظاهرة فيه مع اصل عدالة الله؟!

ونأتي هنا بمثال آخر ـ والامثلة تقرب الحقائق العقليّة الى الذهن وتهيّؤ لنيل النتيجة النهائية ـ فلنفرض اننا نثرنا على الأرض عدة غرامات من بذور الشوك ، وبعد عدّة أشهر او عدة سنوات نواجه صحراء مليئة بالشوك الذي يدمي أقدامنا وعلى العكس ننثر بذور الزهور ـ مع اطلاعنا ـ ولا تمرّ فترة حتى نواجه خميلة مليئة بالازهار العطرة ، فهي تعطرنا وتنعش قلوبنا ، فهل في هذه الأمور التي هي آثار لأعمالنا منافاة لاصل العدالة في حين انّه لا مساواة بين كمية هذا العمل ونتيجته؟

٦٨

ومن مجموع ما بيناه نستنتج ما يلي :

حين يكون الجزاء والثواب نتيجة وأثرا لعمل المرء نفسه ، فإنّ مسألة المساواة من حيث الكمية والكيفية لا تؤخذ بنظر الاعتبار. فما اكثر ما يكون العمل صغيرا في الظاهر ، ولكنه يحوّل حياة الإنسان الى جحيم وعذاب والم طيلة العمر ، وكذلك ما اكثر ما يكون العمل صغيرا في الظاهر ، ولكنّه يكون سببا للخيرات والبركات طيلة عمر الإنسان!

ينبغي ان لا يتوهم انّ المقصود من صغر العمل (من حيث مقدار الزمان) لانّ الأعمال والذنوب الداعية الى خلود الإنسان في العذاب ليست صغيرة من حيث الاهمية والكيفيّة.

فعلى هذا حين يحيط الذنب والكفر والطغيان والعناد بوجود الإنسان ويحرق جميع أجنحته وريشه وروحه في نار ظلمه ونفاقه ، فأي مكان للعجب ان يحرم في الدار الآخرة من التحليق في سماء الجنّة وان يكون مبتلى هناك بالعذاب والبلاء.

ترى امّا حذّروه وأبلغوه وانذروه من هذا الخطر الكبير؟!

اجل فأنبياء الله من جهة ، وما يأمره العقل من جهة اخرى جميعا حذروه بما يلزم ، فهل كان ما اقدم عليه من دون اختياره فلقي هذا المصير ، ام كان عن علم وعمد واختيار؟ الحقيقة هو انّه كان عالما عامدا.

وكانت نفسه ونتيجة اعماله المباشرة قد ساقته الى هذا المصير؟! بل انّ كل ما حدث له فهو من آثار اعماله!

فلهذا لم يبق مجال للشكوى ، ولا إيراد او اشكال مع احد ، ولا منافاة مع قانون عدالة الله سبحانه.

٦٩

4 ـ مفهوم الخلود في هذه الآيات

هل الخلود في الآيات ـ محل البحث ـ بمعنى البقاء الدائم؟! او هو بالمعنى اللغوي المراد منه المدّة الطويلة؟

قال بعض المفسّرين : بما انّ الخلود مقيد هنا بقوله( ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ ) فإنّ الخلود ليس معناه البقاء الابدي الدائم ، لانّ السّماوات والأرض لا أبدية لهما وطبقا لصريح القرآن فإن يوما سيأتي تنطوي فيه السّماوات وتبدل الأرض الى ارض اخرى.(1) .

ولكن ، مع ملاحظة انّ مثل هذه التعابير في اللغة العربية يراد بها البقاء الدائم ، فالآيات ـ محل البحث ـ ايضا تبيّن الدوام.

فمثلا تقول العرب : هذا الأمر قائم ما لاح كوكب ، او ما كرّ الجديدان (الليل والنهار) او ما أضاء فجر ، او ما اختلف الليل والنهار ، وأمثالها وهي كناية عن البقاء الدائم ، ونقرا عن الامام عليعليه‌السلام في نهج البلاغة وذلك حين أشكل عليه بعض المنتقدين الجهلة على تقسيمه من بيت المال بالسويّة وعدم التمييز بين مقامات الناس لتوطيد دفة الحكم.

فانزعج الامامعليه‌السلام وقال : «أتأمرني ان اطلب النصر بالجور في من وليت عليه؟ والله لا اطور به ما سمر سمير وما امّ نجم في السّماء نجما».(2)

ونقرا في قصيدة دعبل الخزاعي المعروفة التي أنشدها في حضرة الامام علي بن موسى الرضاعليه‌السلام هذا البيت :

سأبكيهم ما ذرّ في الأفق شارق

ونادى منادي الخير في الصلوات(3)

وبالطبع فإنّ هذا الاستعمال ليس مخصوصا بلغة العرب وآدابها ، ففي اللغات

__________________

(1) كما في سورة ابراهيم ، الآية (48) ، والأنبياء ، الآية (104).

(2) نهج البلاغة ، الخطبة 126.

(3) نور الأبصار للشبلنجي ، ص 140 وكتاب الغدير ، وكتب أخرى.

٧٠

الاخرى يوجد مثل هذا الاستعمال ايضا على كل حال فإنّ دلالة الآية على الدوام قطعية وغير قابلة للنقاش.

5 ـ ما معنى الاستثناء في الآية؟

الجملة الاستثنائية( إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ ) التي وردت في الآيات المتقدمة في اهل الجنّة وفي اهل النّار ايضا ، اضحت ميدانا واسعا للمفسرين ومثارا للبحث ، وقد نقل المفسّر الكبير الطبرسي في تفسير هذا الاستثناء عشرة أوجه عن المفسّرين القدامى ، ونعتقد انّ كثيرا من هذه الأوجه ضعيف ولا ينسجم مع الآيات السابقة او اللاحقة ، ولذلك نغض النظر عنها ، ونورد ما نراه صحيحا هنا ، هو وجهان فحسب :

1 ـ الهدف في بيان هذا الاستثناء ان لا يتصور انّ الخلود في النار او في الجنّه جار على غير مشيئة الله وارادته بما يعطي معنى الإلزام وتحديد قدرة الله تعالى وارادته ، بل في الوقت الذي يكون اهل الجنّة واهل النار خالدين فيهما ، فإنّ قدرة الله وارادته حاكمة على الجميع ، وانّ العذاب والثواب يتحققان بمقتضى حكمته لكلّ من هذين الطرفين.

والشاهد على هذا الكلام ما ورد في الجملة الثّانية بعد الاستثناء وهي قوله تعالى :( عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ ) اي غير منقطع ، وهو دليل على انّ الجملة الاستثنائية لبيان قدرته فحسب.

2 ـ وحيث تذكر الآيات هذين الطرفين( فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ ) فليس الأشقياء هم الكفار المستحقين للخلود في النّار فقط بل قد يوجد بينهم مؤمنون من اهل الكبائر فيكون هؤلاء داخلين في هذا الاستثناء.

ولكن قد ينقدح هذا السؤال ايضا وهو : ما المراد من الاستثناء في الجملة الثّانية (التي تتحدث عن الذين سعدوا)؟

٧١

وفي الجواب على هذا السؤال أجيب ـ ايضا ـ بأنّ المؤمنين المذنبين يدخلون النّار اوّلا ليتطهروا من الذنوب ، ثمّ يلتحقون بصفوف اهل الجنّة.

فإنّ الاستثناء في الجملة الاولى هو بالنسبة لآخر الأمر وفي الجملة الثّانية لاوّل مرّة (فلاحظوا بدقّة).

ويحتمل في الجواب على السؤال الآنف الذكر انّ الاستثناء في الجملة الاولى اشارة الى المؤمنين المذنبين الذين يعتقون من النّار بعد مدة ، والاستثناء في الجملة الثّانية اشارة الى قدرة الله سبحانه ، والشاهد على هذا الكلام ورود قوله تعالى( إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ ) في الجملة الاولى بعد الاستثناء ، ليدل على تحقق المشيئة الالهية ، وفي الجملة الثّانية ورد قوله تعالى :( عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ ) ليدل على الابديّة (فتدبّر).

وقد احتمل البعض ان يكون العقاب والثواب متعلقان بحياة البرزخ «النعيم في البرزخ او الشقاء في البرزخ» التي تكون محدودة المدّة ولا بدّ ان تنتهي ، ولكنّه احتمال بعيد جدّا ، لانّ الآيات المتقدمة تتحدث عن يوم القيامة بصراحة ، وعلاقة هذه الآيات بتلك الآيات علاقة لا تقبل الانفكاك.

كما انّ احتمال كون الخلود هنا بمعنى المدّة الطويلة ـ كما هو في بعض آيات القرآن الاخرى ، وليس هو البقاء الدائم الابدي ـ لا ينسجم مع قوله تعالى :( عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ ) ولا مع الاستثناء نفسه الذي يدل على الابدية في الجمل السابقة.

6 ـ تقول الآيات المتقدمة في شأن اهل النّار :( لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ ) وقد احتمل اهل اللغة والمفسّرون في معنى هاتين الكلمتين «الزفير والشهيق» احتمالات متعددة :

1 ـ فقال البعض : المراد بـ «الزفير» هو الصراخ المصطحب بإخراج النفس الى الخارج ، وامّا «الشهيق» فهو الأنين المقترن بسحب الهواء الى داخل الرئة.

٧٢

2 ـ وقال آخرون : انّ الزفير هو بداية صوت الحمار والشهيق نهايته ، ولعل هذا التّفسير لا تختلف عن التّفسير الاوّل كثيرا.

وعلى كل حال فإنّ هذين الصوتين يحكيان عن صراخ وعويل اهل النّار الذين يضجون ـ من الحزن والغمّ والحسرة ـ ضجيجا يملا جميع وجودهم ويدلّ على منتهى اذاهم وشدّة عذابهم.

وينبغي الالتفات الى انّ «الزفير والشهيق» كلاهما مصدر ، و «الزفير» في الأصل حمل العبء الثقيل على الكتف ، ولانّ هذا العمل يؤدي الى التأوه والضجيج فقد سميّ زفيرا ، وامّا «الشهيق» فمعناه في الأصل الاطالة والارتفاع ، ومن هنا فقد سمي الجبل المرتفع بالجيل الشاهق ايضا ، ثمّ أطلقوا هذا اللفظ «الشهيق» على الأنين.

اسباب السعادة والشقاء

السعادة ضالّة كل الناس ، وكلّ واحد يبحث عنها في شيء ما ويطلبها في مكان ما ، وهي توفّر اسباب تكامل الفرد في المجتمع ، والنقطة المقابلة لها هي الشقاء الذي يتنفر منه كل احد ، وهو عبارة عن عدم مساعدة الظروف للنجاح والتقدم والتكامل.

فعلى هذا ، كل من توفرت له اسباب التحرك والتقدم نحو الاهداف السامية روحيا وجسميا وعائليا وبيئيا وثقافيا ، فهو اقرب للسعادة ، وبتعبير آخر هو اكثر سعادة!

ولكن ينبغي الالتفات الى انّ أساس السعادة او الشقاء هو ارادة الإنسان نفسه ، فهو يستطيع ان يوفر الوسائل لترشيد نفسه وحتى مجتمعه ، وهو الذي يستطيع ان يواجه عوامل الشقاء ويهزمها او يستسلم لها.

وليس الشقاء او السعادة في منطق الوحي ومدرسة الأنبياء في داخل ذات

٧٣

الإنسان شيئا وحتى النواقص في المحيط والعائلة والوراثة كل ذلك قابل للتغيير بتصميم الإنسان وارادته الّا ان ننكر اصل الارادة في الإنسان وحريته ، ونعدّه محكوما بالظروف الجبرية ، وكل من سعادته او شقائه ذاتي او هو نتيجة جبرية لمحيطه ، وما الى ذلك.

وهذا الراي مرفوض في نظر الأنبياء وفي نظر المذهب العقلي ايضا.

الطريف انّنا نجد في الرّوايات المنقولة عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واهل البيتعليهم‌السلام إشارات الى مسائل مختلفة على انّها اسباب السعادة ، او اسباب الشقاء بحيث يتعرف الإنسان خلال مطالعتها على طريقة التفكير الاسلامي في هذه المسألة المهمّة ، وسيقف على الواقعيات العينية واسباب السعادة الحقيقية ، بدلا من ان يقف عليها في المسائل الخرافية والتصوّرات والسنن الخاطئة الموجودة في كثير من المجتمعات.

ونلفت نظر القارئ الكريم على سبيل المثال الى بعض الأحاديث الشريفة في هذا الصدد :

1 ـ ينقل الامام الصّادقعليه‌السلام عن جدّه امير المؤمنينعليه‌السلام انّه قال «حقيقة السعادة ان يختم للرجل عمله بالسعادة وحقيقة الشقاوة ان يختم للرجل بالشقاوة»(1) .

فهذه الرّواية تقول بصراحة : انّ المرحلة النهائية لعمر الإنسان واعماله هي المرحلة التي تكشف عن سعادته وشقاوته ، وعلى هذا فهي تنفي السعادة او الشقاء الذاتيين ، وتجعل الإنسان رهين عمله ، كما تجعل طريق العودة مفتوحا في جميع المراحل حتى نهاية عمره.

2 ـ ونقرا في حديث آخر عن الامام عليعليه‌السلام «السعيد من وعظ بغيره

__________________

(1) تفسير نور الثقلين ، ج 2 ، ص 398.

٧٤

والشقي من انخدع لهواه وغروره»(1) .

وكلام الامام عليعليه‌السلام هذا تأكيد آخر على عدم ذاتية السعادة والشقاء وبيان بعض أسبابهما.

3 ـ ويقول نبي الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ايضا : «اربع من اسباب السعادة واربع من الشقاوة ، فالأربع التي من السعادة المراة الصالحة ، والمسكن الواسع ، والجار الصالح ، والمركب البهيّ. والأربع التي من الشقاوة : الجار السوء ، والمراة السوء ، والمسكن الضيق ، والمركب السوء»(2) .

مع ملاحظة انّ هذه الأمور الاربعة لها تأثير بالغ في الحياة المادية والمعنوية لكل احد ، ويمكن ان تكون من عوامل النجاح او الفشل وتتّضح بهذا سعة مفهوم السعادة والشقاوة في منطق الإسلام.

فالمرأة الصالحة ترغّب الإنسان في انواع «الحسنات» ، والبيت الواسع يهب روح الإنسان وفكره الهدوء والراحة ويهيئه للنشاط والفعالية ، والجار الصالح الذي يقدم له عونا مؤثرا في راحته واستقراره وحتى في تقدم اهداف الانسانية ، المركب الجيد عامل مؤثر في الوصول الى الأعمال والوظائف الاجتماعية ، في حين انّ المركب السوء يكون عاملا في التأخير ولا يوصل صاحبه الى هدفه.

4 ـ كما روي عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هذا الحديث ايضا : «من علامات الشقاء : جمود العينين ، وقسوة القلب ، وشدّة الحرص في طلب الرزق ، والإصرار على الذنب»(3) .

هذه الأمور الاربعة التي وردت في الحديث المتقدم ، هي امور اختيارية وهي نتيجة اعمال الإنسان وأخلاقه الاكتسابية نفسه ، وعلى هذا فإنّ ابعاد اسباب الشقاء هذه تكمن في اختيار الإنسان نفسه.

__________________

(1) نهج البلاغة ، الخطبة 86.

(2) مكارم الأخلاق ، ص 65.

(3) تفسير نور الثقلين ، ج 2 ، ص 398.

٧٥

وإذا لاحظنا اسباب السعادة والشقاوة في الأحاديث المتقدمة وحقيقتهما واثرهما البالغ في حياة البشر ، وقارنّاهما مع الأسباب والمسائل الخرافية التي يعتقد بها جمع كثير ـ حتى في عصرنا عصر الذّرة والفضاء ـ لوصلنا الى هذا الواقع الذي يؤكّد انّ التعاليم الاسلامية منطقيّة ومدروسة الى أقصى حد.

ولا يزال الى اليوم من يعتقد انّ نعل الفرس سبب للسعادة ، وانّ اليوم الثّالث عشر سبب لسوء الحظّ والقفز على النّار في بعض ليالي السنة من اسباب السعادة ، وصوت بعض الطيور سبب للشقاء وسوء الحظ ، وسكب الماء عند خروج المسافر من اسباب السعادة ، والعبور من تحت السلم سبب للشقاء!!

وحتى تعليق بعض الأشياء في رقبة الفرد او على وسائل النقل من اسباب السعادة والعطاس علامة على الفشل إذا كان حين العمل وكثير من أمثال هذه الخرافات نجدها في الشرق والغرب بين الأقوام والأمم المتعددة.

وكم من أناس تعطلوا عن نشاطهم في الحياة نتيجة ابتلائهم بمثل هذه الخرافات وأصبحوا رهن المصائب الكثيرة.

لقد شطب الإسلام بقلم احمر على جميع هذه التصوّرات الخرافية ، وحدّد ـ مبيّنا بوضوح ـ سعادة الإنسان وشقاوته في الفعاليّات الايجابية والسلبية ونقاط الضعف والقوّة في الأخلاق والمناهج العملية وطريقة التفكير والعقيدة لكل فرد ، من خلال الامثلة التي قدمناها في الأحاديث الاربعة عن اهل البيتعليهم‌السلام .

* * *

٧٦

الآيات

( فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هؤُلاءِ ما يَعْبُدُونَ إِلاَّ كَما يَعْبُدُ آباؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ (109) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (110) وَإِنَّ كُلاًّ لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمالَهُمْ إِنَّهُ بِما يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (111) فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَمَنْ تابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (112) )

التّفسير

الاستقامة والثّبات :

هذه الآيات ـ في الحقيقة ـ بمثابة تسلية لخاطر النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، كما انّها نازلة لبيان وظيفته ومسئوليته ، وفي الواقع انّ من أهم النتائج التي يتوصل إليها من القصص السابقة للأمم الماضية هي ان لا يكترث النّبي ومن معه من اتباعه المؤمنون حقّا من كثرة الأعداء ، ولا يخافوا منهم ، ولا يشكّوا او يتردّدوا في هزيمة عبدة الأصنام والظالمين الذي يقفون بوجوههم ، وان يواصلوا طريقهم ويعتمدوا على الله واثقين به.

٧٧

لذلك يقول القرآن الكريم في هذا الصدد :( فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هؤُلاءِ ما يَعْبُدُونَ إِلَّا كَما يَعْبُدُ آباؤُهُمْ ) (1) .

ويقول بعدها مباشرة :( وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ ) على انّ جملة موفوهم نصيبهم تعني أداء الحق كاملا ، لكن ذكر كلمة غير منقوص للتأكيد اكثر على هذه المسألة.

وفي الحقيقة انّ هذه الآية تجسّم هذه الحقيقة ، وهي انّ ما قرأناه من قصص الأمم السابقة لم يكن اسطورة ، كما انّها لا تختص بالماضين ، فهي سنّة ابدية وخالدة وهي لجميع الناس ماضيا وحاضرا ومستقبلا.

غاية ما فيه الأمر انّ هذا العقاب في كثير من الأمم السابقة نزل على شكل بلايا مهولة وعظيمة ، لكنّه وجد شكلا آخر في شأن أعداء نبي الإسلام ، وهو انّ الله اعطى القدرة والقوة العظيمة لنبيّه وأصحابه المؤمنين بحيث استطاع ان يهزم أعداءه الظالمين اللجوجين الذين أصروا على انحرافهم وغرورهم.

ويسلّي القرآن قلب النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مرّة اخرى ، فيحدّثه عن موسى وقومه قائلا :( وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ ) ويقول إذا ما رأيت انّ الله لا يعجل العذاب على قومك ، فلانّ مصلحة الهداية والتعليم والتربية لقومك توجب ذلك والّا فانّ القرار الالهي المسبق يقتضي التعجيل بعملية التحكيم والقضاء وبالتالي إنزال العقاب( وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ ) وبالرغم من ذلك فهم في شك من هذا الأمر(2) .

__________________

(1) «المرية» على وزن «جزية» كما تأتي على وزن «قرية» ومعناها التردد في التصميم على امر ما وقد قال البعض : انّها تعني الشكّ المقترن بالتهمة ، والجذر الاصلي لهذه الكلمة معناه عصر ثدي الناقة بعد احتلابها. على امل ان يكون شيء من اللبن لا يزال باقيا في الثدي ، ولانّ هذا العمل منشؤه التردد والشك فلذلك أطلقت الكلمة على كل ما فيه شكّ وتردد.

(2) هناك كلام بين المفسّرين في عودة الضميرين «هم» و «منه» على اية كلمتين في الآية؟! فقال بعضهم : انّ هذا الضمير هم «وانهم» يعود على قوم موسى و «منه» يعود على كتاب (التوراة) فمعنى الآية : ان هؤلاء القوم لا يزالون يشكّون في

٧٨

كلمة «مريب» مشتقّة من «الريب» ومعناه الشكّ المقترن بسوء الظن والنظرة السيئة والقرائن المخالفة ، وعلى هذا فيكون مفهوم هذه الكلمة انّ عبدة الأصنام ما كانوا يترددون في مسألة حقيقة القرآن او نزول العذاب على المفسدين فحسب ، بل كانوا يدّعون بأنّ لديهم قرائن تخالف ذلك ايضا.

امّا «الراغب» فيقول في «مفرداته» : انّ معنى الريب هو الشك الذي يرفع عنه الحجاب بعدئذ ويعود الى اليقين ، فعلى هذا يكون مفهوم الآية انّ الحجاب سيكشف عاجلا عن حقانية دعوتك وكذلك عن عقاب المفسدين وتظهر حقيقة الأمر!

ويضيف القرآن لمزيد التأكيد( وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمالَهُمْ ) وهذا الأمر ليس فيه صعوبة على الله ولا حرج إذ( إِنَّهُ بِما يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ) .

الطريف انّ القرآن يقول :( لَيُوَفِّيَنَّهُمْ أَعْمالَهُمْ ) ليشير مرّة اخرى الى مسألة تجسّم الأعمال وانّ الجزاء والثواب هما في الحقيقة اعمال الإنسان نفسه التي تتخذ شكلا آخر وتصل اليه ثانية.

وبعد ذكر قصص الأنبياء والأمم السابقة ورمز نجاحهم ونصرهم ، وبعد تسلية قلب النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتقوية ارادته ، يبيّن القرآن ـ عن هذا الطريق ـ اهمّ دستور امر به النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو( فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ ) .

«استقم» في طريق الإرشاد والتبليغ استقم في طريق المواجهة والمواصلة استقم في أداء الوظائف الالهية ونشر التعليمات القرآنية.

ولكن هذه الاستقامة ليست لينال فلان او فلان مستقبلا زاهرا ، وليست للرياء وما شابه ذلك ، وليست لاكتساب عنوان البطولة ، ولا اكتساب «المقام» او «الثروة» او «الموفقية» او «القدرة» ، بل هي لمجرّد طاعة الله واتباع امره( كَما

__________________

كتاب موسى ، ولكن قال آخرون : ان الضمير في (انهم) يعود على مشركي مكة و «منه» يعود على القرآن ، وبملاحظة ان الآيات جاءت لتسلية قلب النبي فيكون التفسير الثاني اقرب للنظر.

٧٩

أُمِرْتَ ) .

كما انّ هذه الاستقامة ليست عليك وحدك ، فعليك ان تستقيم أنت( وَمَنْ تابَ مَعَكَ ) استقامة خالية من كل زيادة ونقصان وافراط أو تفريط( وَلا تَطْغَوْا ) إذ( إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ) ولا تخفى عليه حركة ولا قول ولا اي خطّة اخرى إلخ.

المسؤولية الكبيرة!!

نقرا في حديث معروف عن ابن عباس انّه قال : ما نزل على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم آية كانت اشدّ عليه ولا اشقّ من هذه الآية. ولذلك قال لأصحابه حين قالوا له : اسرع إليك الشيب يا رسول الله قال :صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «شيبتني هود والواقعة»(1) .

ونقرا في رواية اخرى انّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال حين نزلت هذه الآية : «شمّروا شمّروا فما رئي ضاحكا ...»(2) .

والدليل واضح ، لانّ اربعة أوامر مهمّة موجودة في هذه الآية يلقي كل واحد منها عبئا ثقيلا على الكتف.

وأهمها الأمر بالاستقامة الاستقامة (المشتقة من مادة القيام) من جهة انّ الإنسان يكون تسلطه وسعيه في عمله حال القيام اكثر الاستقامة التي معناها طلب القيام ، اي أوجد حالة في نفسك بحيث لا تجد طريقا للضعف فيك ، فما اصعبه من امر وما اشدّه؟!

غالبا ما يكون النجاح في العمل امرا هيّنا نسبيا لكن المحافظة على النجاح فيها كثير من الصعوبة وفي اي مجتمع؟! في مجتمع متأخر متخلف في مجتمع بعيد عن العلم والتعقل في مجتمع لجوج وبين اعداء كثيرين

__________________

(1) تفسير مجمع البيان ، ج 5 ، ص 199.

(2) الدر المنثور في تفسير الآية هذه.

٨٠