الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٧

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل10%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 572

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 572 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 287860 / تحميل: 5231
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٧

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

معاندين وفي سبيل بناء مجتمع سالم وحضارة انسانية زاهرة فالاستقامة في هذا الطريق ليس امرا هيّنا.

والأمر الآخر : ان تحمل هذه الاستقامة هدفا الهيا فحسب ، وان تكون الوساوس الشيطانية بعيدة عنها تماما ، اي ان تكتسب هذه الاستقامة اكبر القدرات السياسية والاجتماعيّة من اجل الله.

والأمر الثّالث : مسألة قيادة أولئك الذين رجعوا الى طريق الحق وتعويدهم على الاستقامة ايضا.

والأمر الرّابع : المواجهة والمبارزة في مسير الحق والعدالة والقيادة الصحيحة وصدّ كل انواع التجاوز والطغيان ، فكثيرا ما يبدي بعض الناس منتهى الاستقامة في سبيل الوصول للهدف ، لكن لا يستطيعون ان يراعوا مسألة العدالة ، وغالبا ما يبتلون بالطغيان والتجاوز عن الحدّ.

اجل مجموع هذه الأمور وتواليها على النّبي حمّلته مسئولية كبرى ، حتى انهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما رئي ضاحكا وشيّبته هذه الآية من الهمّ.

وعلى كل حال فإنّ هذا الأمر لم يكن للماضي فحسب ، بل هو للماضي والحاضر والمستقبل ، وهو للأمس واليوم والغد القريب والغد البعيد ايضا.

واليوم مسئوليتنا المهمّة ـ نحن المسلمين ايضا ، وبالخصوص قادة الإسلام ـ تتلخّص في هذه الكلمات الاربعة. وهي : الاستقامة ، والإخلاص ، وقيادة المؤمنين ، وعدم الطغيان والتجاوز. ودون ربط هذه الأمور بعضها الى بعض فإنّ النصر على الأعداء الذين احاطونا من كل جانب من الداخل والخارج ، واستفادوا من جميع الاساليب الثقافية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والعسكريّة هذا النصر لا يكون سوى أوهام في مخيلة المسلمين.

* * *

٨١

الآية

( وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ أَوْلِياءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ (١١٣) )

التّفسير

الرّكون الى الظالمين :

انّ هذه الآية تبيّن واحدا من أقوى وأهم الاسس والبرامج الاجتماعية والسياسية والعسكرية والعقائدية ، فتخاطب عامة المسلمين ليؤدوا وظيفتهم القطعية فتقول :( وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا ) والسبب واضح( فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ أَوْلِياءَ ) ومعلوم عندئذ حالكم( ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ ) .

ملاحظات

١ ـ ما هو مفهوم الرّكون؟

مفهوم «الركون» مشتق من مادة «ركن» ومعناه العمود الضخم من الحجر او الجدار الذي يربط البناء او الأشياء الاخرى بعضها الى بعض ، ثمّ اطلق هذا اللفظ على الاعتماد او الاستناد الى الشيء.

* * *

٨٢

وبالرغم من انّ المفسّرين اعطوا معاني كثيرة لهذه الكلمة في تفسيرهم للآية ، ولكنّها في الغالب تعود الى مفهوم جامع وكلي فمثلا فسّرها البعض بالميل ، وفسّرها البعض بـ «التعاون» ، وفسّرها البعض بـ «اظهار الرضا» ، وفسّرها آخرون بـ «المودّة» ، كما فسرها جماعة بالطاعة وطلب الخير ، وكل هذه المعاني ترجع الى الاعتماد والاتكاء كما هو واضح.

٢ ـ في ايّ الأمور لا ينبغي الرّكون الى الظالمين؟

بديهي انّه في الدرجة الاولى لا يصح الاشتراك معهم في الظلم او طلب الاعانة منهم ، وبالدرجة الثّانية الاعتماد عليهم فيما يكون فيه ضعف المجتمع الاسلامي وسلب استقلاله واعتماده على نفسه وتبديله الى مجتمع تابع وضعيف لا يستحق الحياة ، لانّ هذا الركون ليس فيه نتيجة سوى الهزيمة والتبعية للمجتمع الاسلامي.

وامّا ما نلاحظه أحيانا من مسائل التبادل التجاري والروابط العلمية بين المسلمين والمجتمعات غير الاسلامية على أساس حفظ منافع المسلمين واستقلال المجتمعات الاسلامية وثباتها ، فهذا ليس داخلا في مفهوم الركون الى الظالمين ولم يكن شيئا ممنوعا من وجهة نظر الإسلام ، وفي عصر النّبي نفسهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والاعصار التي تلته كانت هذه الأمور موجودة وطبيعية ايضا.

٣ ـ فلسفة تحريم الركون الى الظالمين

الرّكون الى الظالمين يورث مفاسد كثيرة لا تخفى على احد بصورتها الاجمالية ولكن كلّما تفحصنا في هذه المسألة اكثر اكتشفنا مسائل دقيقة جديدة.

فالركون الى الظالمين يبعث على تقويتهم ، وتقويتهم مدعاة الى اتساع رقعة الظلم والفساد في المجتمعات ، ونقرا في الأوامر الاسلامية انّ الإنسان ما لم يجبر

٨٣

«وفي بعض الأحيان حتى مع الإجبار» لا يحق له ان يراجع القاضي الظالم من اجل اكتساب حقّه ، لان مراجعة مثل هذا القاضي الحاكم الجائر من اجل احقاق الحق مفهومها ان يعترف ضمنا برسميته وتقواه ، ولعل ضرر هذا العمل اكبر من الخسارة التي تقع نتيجة فقدان الحق.

والركون الى الظلمة يؤثر تدريجا على الثقافة الفكرية للمجتمع ، فيضمحل مفهوم «قبح الظلم» ويؤدي بالناس الى الرغبة في الظلم.

وأساسا لا نتيجة من الركون الى الغير بصورة التعلق والارتباط الشديد الّا سوء الحظ والشقاء ، فكيف إذا كان هذا الركون الى الظالمين؟

انّ المجتمع الحضاري المقتدر هو المجتمع الذي يقف على قدميه ، كما يعبر القرآن الكريم في مثل بديع في الآية (٢٩) من سورة الفتح إذ يقول :( فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ ) والمجتمع الحرّ المستقلّ هو المجتمع الذي يكتفي ذاتيا ، وارتباطه او تعاونه مع الآخرين هو ارتباط على أساس المنافع المتبادلة لا على أساس ركون الضعيف الى القوي ، لانّ هذا الركون ـ سواء كان من جهة فكرية او ثقافية او اقتصادية او عسكرية او سياسية ـ لا يخلّف سوى الأسر والاستثمار ، ولا يثمر سوى المساهمة في ظلمهم والمشاركة في خططهم.

وبالطبع فإنّ الآية المتقدمة ليست خاصّة بالمجتمعات فحسب ، بل تشمل العلاقة والارتباط بين فردين ايضا ، فلا يجوز لإنسان مؤمن ان يركن الى اي ظالم ، فإنّه اضافة الى فقدان استقلاله لركونه الى دائرة ظلمه ، فسيؤدي الى تقويته واتساع الفساد والعدوان كذلك.

٤ ـ من المقصود بـ «الَّذِينَ ظَلَمُوا »؟

ذكر المفسّرون في هذا المجال احتمالات مختلة ، فقال بعضهم : المقصود ب( الَّذِينَ ظَلَمُوا ) هم المشركون ، ولكن ـ كما قال آخرون ـ لا دليل على انحصار

٨٤

هذا اللفظ بالمشركين رغم ان مصداق الظالمين في عصر نزول الآية هو المشركين.

كما انّ تفسير هذه الكلمة في الرّوايات بالمشركين لا يدلّ على الانحصار ، لانّنا قلنا مرارا وتكرارا انّ مثل هذه الرّوايات انّما تبيّن المصداق الواضح والجلي ، فعلى هذا الأساس يدخل في دائرة هذه الآية جميع الذين امتدّت أيديهم الى الظلم والفساد ، او استعبدوا خلق الله وعباده ، او استغلوا قواهم لمنافعهم ، وباختصار كل الذين دخلوا في المفهوم العام لهذا التعبير( الَّذِينَ ظَلَمُوا ) .

ولكن من الواضح ان من اخطأوا في حياتهم خطأ بسيطا وصاروا من مصاديق الظالم أحيانا غير داخلين في مفهوم الآية قطعا لانّه في هذه الصور لا يخرج عن شمولية هذه الآية الّا النادر ، فلا يصح الرّكون والاعتماد على اي شخص ، اللهم الّا ان نقول : انّ المراد بالركون هو الاعتماد على الظالم من جهة ظلمه وجوره ، وفي هذه الحال حتى الذين تلوّثت أيديهم بالظلم مرّة واحدة لا يجوز الركون إليهم.

٥ ـ اشكال

بعض المفسّرين من اهل السنة اشكالا يصعب الجواب عليه من مبناهم وهو ما ورد في رواياتهم من وجوب الطاعة والتسليم لسلطان الوقت الذي هو من أولو الأمر ايّا كان ، لما نقلوا حديثا عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في وجوب طاعة السلطان «وان أخذ مالك وضرب ظهرك ...»! وروايات اخرى تؤكّد طاعة السلطان بمعناها الواسع.

ومن جهة اخرى تقول الآية :( وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا ) فهل يصحّ الجمع بين هذين الأمرين؟!

أراد البعض ان يرفع هذا التضاد باستثناء واحد ، وهو ان طاعة السلطان

٨٥

تكون واجبة ما لم ينحرف الى طريق العصيان ويخطو في طريق الكفر.

ولكن لحن تلك الرّوايات لا ينسجم مع هذا الاستثناء.

وعلى كل حال فنحن نعتقد ـ وكما ورد في مذهب اهل البيتعليهم‌السلام ـ بوجوب طاعة ولي الأمر العادل والعالم الذي يصح ان يكون خليفة عامّا للنّبي واماما من بعده فحسب.

وإذا كان سلاطين بني اميّة وبني العباس قد وضعوا الأحاديث في هذا المجال لمصلحتهم ، فلا تنسجم بأي وجه مع اصول مذهبنا والتعليمات القرآنية ، وينبغي ان نعالج هذه الرّوايات ، فإن كانت تقبل التخصيص خصّصناها ، والّا طرحناها جانبا ، لانّ كل رواية تخالف كتاب الله فهي مردودة وباطلة ، والقرآن يصرح انّ امام المسلمين لا يجوز ان يكون ظالما ، والآية المتقدمة تقول بصراحة ايضا :( وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا ) او نقول : انّ أمثال هذه الرّوايات مخصوصة بالحالات الضرورية والاضطرارية.

* * *

٨٦

الآيتان

( وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ذلِكَ ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ (١١٤) وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (١١٥) )

التّفسير

الصلاة والصبر :

هذه الآيات تشير الى أمرين من اهمّ الأوامر الاسلامية ، وهما في الواقع روح الايمان وقاعدة الإسلام ، فيأتي الأمر اوّلا بالصلاة( وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ ) .

وظاهر التعبير من( طَرَفَيِ النَّهارِ ) هو بيان صلاة الصبح وصلاة المغرب اللتين يقعان طرفي النهار ، و «الزلف» جمع «زلفة» التي تعني القرب ، ويشار بها الى اوّل الليل القريب من النهار فتنطبق على صلاة العشاء.

وهذا التّفسير وارد في روايات اهل البيتعليهم‌السلام ايضا ، اي انّ الآية تشير الى الصلوات الثلاث «الصبح والمغرب والعشاء».

ويرد هنا سؤال وهو : لم ذكرت هذه الصلوات الثلاث من بين الصلوات الخمس؟!

٨٧

غموض الاجابة دعا بعض المفسّرين لان يتوسع في معنى( طَرَفَيِ النَّهارِ ) ليشمل صلاة الصبح والظهر والعصر والمغرب ايضا. وبالتعبير ب( وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ ) الذي يشير الى صلاة العشاء تكون جميع الصلوات الخمس قد دخلت في الآية! والإنصاف ان تعبير( طَرَفَيِ النَّهارِ ) لا يتحمل مثل هذا التّفسير ، مع ملاحظة انّ المسلمين في الصدر الاوّل من الإسلام كانوا مقيدين بأداء صلاة الظهر في اوّل الوقت وأداء صلاة العصر في حدود نصف الوقت ، اي بين وقت الظهر ووقت المغرب.

الشيء الوحيد الذي يمكن ان يقال هنا : انّ آيات القرآن قد تذكر جميع الصلوات الخمس أحيانا كما في سورة الاسراء :( أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ ) (١) .

وقد تذكر ثلاث صلوات ـ كالآية محل البحث ـ وقد تذكر صلاة واحدة كما في سورة البقرة( حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ ) (٢) .

فعلى هذا لا يستلزم ذكر جميع الصلوات الخمس في كل مورد ، وقد توجب المناسبات الاشارة الى صلاة الظهر «الصَّلاةِ الْوُسْطى » لاهميتها او تشير الى صلاة الصبح او المغرب والعشاء وذلك لاحتمال ان تقع في دائرة النسيان للتعب او النوم.

ولاهمية الصلوات اليوميّة ـ خاصّة ـ وجميع العبادات والطاعات والحسنات ـ عموما ـ فإنّ القرآن يشير بهذا التعبير( إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ذلِكَ ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ ) .

والآية آنفة الذكر كسائر آيات القرآن تبيّن تأثير الأعمال الصالحة في محو

__________________

(١) الآية ، ٧٨.

(٢) الآية ، ٢٣٨.

٨٨

اثر الأعمال السيئة ، حيث نقرا في سورة النساء الآية (٣١) :( إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ ) ونقرا في سورة العنكبوت الآية (٧) :( وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ ) .

وبهذا تثبت مقولة ابطال السيئات بالطاعات والأعمال الحسنة.

ومن الناحية النفسية ـ ايضا ـ لا ريب في ان الذنب والعمل السيء يوجد نوعا من الظلمة في روح الإنسان ونفسه ، بحيث لو استمرّ على السيئات تتراكم عليه الآثار فتمسخ الإنسان بصورة موحشة.

ولكن العمل الصالح الصادر من الهدف الالهي يهب روح الإنسان لطافة بإمكانها ان تغسل آثار الذنوب وان تبدّل ظلمات نفسه الى أنوار.

وبما انّ الجملة الآنفة( إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ) ذكرت بعد الأمر بإقامة الصلاة مباشرة ، فإنّ واحدة من مصاديقها هي الصلاة اليومية ، وإذا ما لاحظنا في الرّوايات اشارة الى الصلاة اليومية في التّفسير فحسب فليس ذلك دليلا على الانحصار ، بل ـ كما قلنا مرارا ـ انّما هو بيان مصداق واضح قطعي.

الاهميّة القصوى للصلاة :

تلاحظ في الرّوايات المتعددة المنقولة عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والائمة الطاهرينعليهم‌السلام تعبيرات تكشف عن الاهمية الكبرى للصلاة في نظر الإسلام.

يقول ابو عثمان : كنت جالسا مع سلمان الفارسي تحت شجرة فأخذ غصنا يابسا وهزّه حتى تساقطت أوراقه جميعا ، ثمّ التفت اليّ وقال : ما سألتني لم فعلت ذلك؟!

فقلت : وما تريد؟!

قال : هذا ما كان من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حين كنت جالسا معه تحت شجرة ثمّ سألني النّبي هذا السؤال وقال : «ما سألتني لم فعلت ذلك؟».

٨٩

فقلت له : ولم يا رسول الله؟

فقال : «انّ المسلم إذا توضأ فأحسن الوضوء ثمّ صلّى الصلوات الخمس تحاتّت خطاياه كما تحاتّ هذا الورق» ثمّ قرا الآية «وَأَقِمِ الصَّلاةَ إلخ».(١)

ونقرا في حديث آخر عن احد اصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واسمه ابو امامة انّه قال : «كنت جالسا يوما في المسجد مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فجاءه رجل وقال : يا رسول الله ، أذنبت ذنبا يستوجب الحدّ فأقم عليّ الحدّ ، فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أصليت معنا؟» قال : نعم يا رسول الله ، فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «فإنّ الله غفر ذنبك» او «أسقط عنك الحد»(٢) .

كما نقل عن عليعليه‌السلام انه قال : «كنّا مع رسول الله ننتظر الصلاة فقام رجل وقال : يا رسول الله ، أذنبت. فأعرض النّبي بوجهه عنه ، فلما انتهت الصلاة قام ذلك الرجل وأعاد كلامه ثانية ، فقال النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : الم تصلّ معنا وأحسنت لها الوضوء؟ فقال بلى ، فقال : هذه كفارة ذنبك»(٣) .

ونقل عن عليعليه‌السلام ايضا انّه قال : «قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : انّما منزلة الصلوات الخمس لامتي كنهر جار على باب أحدكم ، فما يظن أحدكم لو كان في جسده درن ثمّ اغتسل في ذلك النهر خمس مرات ، أكان يبقى في جسده درن؟ فكذلك والله الصلوات الخمس لامتي»(٤) .

وعلى كل حال ، لا مجال للشكّ في انّه متى ما ادّيت الصلاة بشرائطها فإنّها تنقل الإنسان الى عالم من المعنويّة والروحانيّة بحيث توثق علائقه الايمانية بالله ، وتغسل عن قلبه وروحه الأدران وآثار الذنوب.

الصلاة تجير الإنسان من الذنب ، تجلو صدا القلوب.

الصلاة تجذّر الملكات السامية للإنسان في اعماق الروح البشرية ، والصلاة

__________________

(١) مجمع البيان في تفسير الآية.

(٢) المصدر السّابق.

(٣) المصدر السّابق.

(٤) المصدر السّابق.

٩٠

تقوي الارادة وتطهر القلب والروح ، وبهذا الترتيب فإنّ الصلاة الواعية الفاعلة هي مذهب تربوي عظيم.

أرجى آية في القرآن :

ينقل في تفسير الآية ـ محل البحث ـ حديث طريف عن الامام عليعليه‌السلام بهذا المضمون ، وهو انّه التفت مرّة الى الناس وقال : «اي آية في كتاب الله أرجى عندكم»؟!

فقال بعضهم :( إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ ) .

فقالعليه‌السلام : حسنة ليست ايّاها.

فقال آخرون : هي آية( قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ ) .

فقالعليه‌السلام : حسنة ليست ايّاها.

فقالوا : هي آية( وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللهَ يَجِدِ اللهَ غَفُوراً رَحِيماً ) .

قالعليه‌السلام : حسنة ليست ايّاها.

فقال آخرون : هي آية :( وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللهُ ) فقال الامام ايضا : «حسنة ليست ايّاها».

ثمّ أحجم الناس ، فقال : ما لكم يا معشر المسلمين ، فقالوا : والله ما عندنا شيء قالعليه‌السلام : «سمعت حبيبي رسول الله يقول : أرجى آية في كتاب الله( وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ذلِكَ ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ ) (١) .

__________________

(١) المصدر السابق.

٩١

وبالطبع كما ذكرنا في شرح الآية (٤٨) من سورة النساء : انه ورد حديث آخر يشير الى ان أرجى آية في القرآن هي آية( إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ ) .

ولكن مع ملاحظة انّ كل آية من هذه الآيات تنظر الى زاوية من هذا البحث وتبيّن بعدا من الابعاد ، فلا تضادّ بينها.

وفي الواقع انّ الآية محل البحث تتحدّث عن أولئك الذين يؤدّون الصلاة بصورة صحيحة ، صلاة مع حضور القلب والروح ، بحيث تغسل آثار الذنوب عن قلوبهم وأرواحهم. امّا الآية الاخرى تتحدّث عن أولئك الذين حرموا من هذه الصلاة ، فبإمكانهم من باب التوبة ، فإذن هذه الآية لهؤلاء الجماعة أرجى آية ، وتلك الآية لأولئك الجماعة أرجى آية.

وايّ رجاء أعظم من ان يعلم الإنسان انّه متى زلت قدمه وغلب عليه هواه (دون ان يصرّ على الذنب) وحين يحل وقت الصلاة فيتوضأ ويقف امام معبوده للصلاة ، فيحسّ بالخجل عند التوجه الى الله لما قدمه من اعمال سيئة ويرفع يديه بالدعاء وطلب العفو فيغفر وتزول عن قلبه الظلمة وسوادها.

وتعقيبا على تأثير الصلاة في بناء شخصية الإنسان وبيان تأثير الحسنات على محو السيئات ، يأتي الأمر بالصبر في الآية الاخرى بعدها( وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ) .

وبالرغم من انّ بعض المفسّرين حاول تحديد معنى الصبر في هذه الآية في الصلاة ، او إيذاء الأعداء للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، الّا انّ من الواضح ان لا دليل على ذلك ـ بل ان الآية تحمل مفهوما واسعا كليا وجامعا ويشمل كل انواع الصبر امام المشاكل والمخالفات والأذى والطغيان والمصائب المختلفة ، فالصمود امام جميع هذه الحوادث يندرج تحت مفهوم الصبر.

«الصبر» اصل كلّي وأساس اسلامي ، يأتي أحيانا في القرآن مقرونا

٩٢

بالصلاة ، ولعل ذلك آت من انّ الصلاة تبعث في الإنسان الحركة ، والأمر بالصبر يوجب المقاومة ، وهذان الأمران ، اي «الحركة والمقاومة» حين يكونان جنبا الى جنب يثمران كل اشكال النجاح والموفقية.

وأساسا يتحقق عمل صالح دون صبر ومقاومة لانّه لا بدّ من إيصال الأعمال الصالحة الى النهاية ، ولذلك فإنّ الآية المتقدمة تعقب على الأمر بالصبر بثواب الله واجره إذ تقول :( إِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ) ومعنى ذلك ان العمل الصالح لا يتيسر دون صبر ومقاومة لا بأس بذكر هذه المسألة الدقيقة ، وهي انّ الناس ينقسمون الى عدّة جماعات إزاء الحوادث العسيرة الصعبة :

١ ـ فجماعة تفقد شخصيّتها فورا ، وكما يعبر القرآن( إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً ) .

٢ ـ وجماعة آخرون يصمدون امام الأزمات بكل تحمّل وتجلّد.

٣ ـ وجماعة آخرون بالاضافة الى صمودهم وتحملهم للأزمة ، فإنّهم يؤدّون الشكر لله.

٤ ـ وجماعة آخرون يتجهون الى الأزمات والمصاعب بشوق وعشق ، ويفكرون في كيفية التغلب عليها. ولا يعرفون التعب والنصب في متابعة الأمور ، ولا يهداون حتى تزول المشاكل.

وقد وعد الله مثل هؤلاء الصابرين بالنصر المؤزر( إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ ) (١) .

وأنعم عليهم وأثابهم في الدار الاخرى بالجنّة( وَجَزاهُمْ بِما صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً ) (٢) .

* * *

__________________

(١) الأنفال ، ٦٥.

(٢) سورة الإنسان ، ١٢.

٩٣

الآيتان

( فَلَوْ لا كانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسادِ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا ما أُتْرِفُوا فِيهِ وَكانُوا مُجْرِمِينَ (١١٦) وَما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها مُصْلِحُونَ (١١٧) )

التّفسير

عامل الانحراف والفساد في المجتمعات :

من اجل إكمال البحوث السابقة ذكر في هاتين الآيتين اصل اساسي اجتماعي يضمن نجاة المجتمعات من الفساد ، وهو انّه ما دام هناك في كل مجتمع طائفة من العلماء المسؤولين والملتزمين الذين يحاربون كل اشكال الفساد والانحراف ، ويأخذون على عاتقهم قيادة المجتمع فكريا وثقافيا ودينيا ، فإنّ هذا المجتمع سيكون مصونا من الزيغ والانحراف.

لكن متى ما سكت عن الحق اهله وحماته ، وبقي المجتمع دون مدافع امام عوامل الفساد ، فإنّ انتشار الفساد ومن ورائه الهلاك امر حتمي.

الآية الاولى اشارت الى القرون والأمم المتقدمة الذين ابتلوا بأشد انواع

٩٤

البلاء قائلة :( فَلَوْ لا كانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسادِ ) ثمّ تستثني جماعة فتقول :( إِلَّا قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنا ) .

هذه الجماعة القليلة وان كانت تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر ، ولكنّها كحال لوطعليه‌السلام وأسرته الصغيرة ، ونوح والمعدودين ممن آمن به ، وصالح وجماعة من اتباعه ، فإنّهم كانوا قلّة لم توفق للإصلاح العام والكلي في المجتمع.

وعلى كل حال فإنّ الظالمين الذين كانوا يشكلون القسم الأكبر من المجتمع اتبعوا لذاتهم وتنعمهم ، وكما تقول الآية :( وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا ما أُتْرِفُوا فِيهِ وَكانُوا مُجْرِمِينَ ) .

وللتأكيد على هذه الحقيقة ، تأتي الآية الثّانية لتقول : انّ هذا الذي ترون من إهلاك الله للأمم ، إنّما كان لعدم وجود المصلحين فيهم( وَما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها مُصْلِحُونَ ) .

وأحيانا يسود الظلم والفساد في المجتمع ، لكن المهم انّ الناس يشعرون بالظلم والفساد وهم في طريق الإصلاح ، وبهذا الشعور والاحساس والتحرك بخطوات في طريق الإصلاح يمهلهم الله ، ويقرّ لهم قانون الخلق حق الحياة.

ولكن هذا الاحساس متى ما انعدم وأصبح المجتمع صامتا ، وأخذ الفساد والظلم في الانتشار بكل مكان فإنّ قانون الخلق والوجود لا يعطيهم الحق في الحياة ، وهذه الحقيقة تتضح بمثال يسير في البدن قوّة ومناعة كريّات الدم البيضاء التي تواجه المكروبات والجراثيم عند دخولها البدن عن طريق الهواء او الغذاء او الماء او الجروح الجلدية إلخ

وهذه الكريّات البيضاء بمثابة الجنود المقاتلة إذ تقف بوجه المكروبات والجراثيم فتبيدها ، او على الأقل تحدّ من انتشارها ونموّها.

وبديهي ان هذه القوة الدفاعية التي تتشكل من ملايين الجنود ، لو أضربت يوما عن العمل وبقي البدن دون مدافع ، فسيكون ميدانا لهجوم الجراثيم الضارّة

٩٥

بحيث تسرع انواع الأمراض الى البدن.

وجميع المجتمعات البشرية لها مثل هذه الحالة ، فلو ارتفعت هذه القوّة المدافعة عنها وهي ما عبّر عنه القرآن ب( أُولُوا بَقِيَّةٍ ) فإن جراثيم الأمراض الاجتماعية المتوفرة في كل زاوية من المجتمع سرعان ما تنمو وتتكاثر ويسقط المجتمع صريع الأمراض المختلفة.

ان اثر( أُولُوا بَقِيَّةٍ ) في بقاء المجتمع حساس للغاية ، حتى يمكن القول : انّ المجتمع من دون «اولي بقية» يسلب حق الحياة ، ومن هنا فقد وردت الاشارة إليهم في الآية المتقدمة.

من هم( أُولُوا بَقِيَّةٍ ) ؟

كلمة «اولوا» تعني الاصحاب ، وكلمة «بقيّة» معناها واضح اي ما يبقى ، ويستعمل هذا التعبير في لغة العرب بمعنى «أولو الفضل» لانّ الإنسان يدخر الأشياء النفيسة والجيّدة لتبقى عنده ، فالمصطلح( أُولُوا بَقِيَّةٍ ) يحمل في نفسه مفهوم الخير والفضل.

ونظرا لانّ الضعفاء ـ عادة ـ يرجّحون الفرار على القرار في ميدان المواجهة الاجتماعية ، او يصيبهم الفناء ، ولا يبقى في ميدان المواجهة إلّا من يتمتع بقوّة فكرية او جسدية ، وبذلك يبقى الأقوياء فقط ، ومن هذا المنطلق ايضا تقول العرب في أمثالها : في الزوايا خبايا وفي الرجال بقايا.

كما جاءت كلمة «بقيّة» في القرآن الكريم في ثلاثة موارد وهي تحمل هذا المفهوم ، حيث نقرا في قصّة طالوت وجالوت( إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسى ) (١) .

وقرانا ايضا قصّة شعيب (في هذه السورة) مخاطبا قومه :( بَقِيَّتُ اللهِ خَيْرٌ

__________________

(١) سوره البقرة ، الآية ٢٤٨.

٩٦

لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ) (١) .

وحيث نجد في قسم من التعبيرات اطلاق( بَقِيَّتُ اللهِ ) على «المهدي الموعود»عليه‌السلام فهو اشارة الى هذا الموضوع ايضا ، لانّه وجود ذو فيض وذخيرة الهية كبرى ، وهو معدّ ليطوي بساط الظلم والفساد وليرفع لواء العدل في العالم كله.

ومن هنا نعرف الحق الكبير لهؤلاء الرجال الاجلّاء الافذاذ والمكافحين للفساد ، والمصطلح عليهم ب( أُولُوا بَقِيَّةٍ ) على المجتمعات البشرية لانّهم رمز لبقاء الأمم وحياتها ونجاتها من الهلاك.

المسألة الاخرى التي تستجلب النظر في الآية المتقدمة انّها تقول :( وَما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها مُصْلِحُونَ ) .

وبملاحظة التفاوت بين كلمتي «مصلح» و «صالح» تتجلى هذه المسألة الدقيقة ، وهي انّ الصلاح وحده لا يضمن البقاء ، بل إذا كان المجتمع فاسدا ولكن افراده يسيرون باتجاه إصلاح الأمور فالمجتمع يكون له حق البقاء والحياة ايضا.

فلو انعدم الصالح والمصلح في المجتمع فإنّ من سنة الخلق ان يحرم ذلك المجتمع حق الحياة ويهلك عاجلا.

وبتعبير آخر : متى كان المجتمع ظالما ولكنه مقبل على إصلاح نفسه ، فهذا المجتمع يبقى ، ولكن إذا كان المجتمع ظالما ولم يقبل على نفسه فيصلحها او يطهرها فإنّ مصيره الى الفناء والهلاك.

المسألة الدقيقة الاخرى : انّ واحدا من أسس الظلم والاجرام ـ كما تشير اليه الآيات المتقدمة ـ هو اتباع الهوى وعبادة اللّذة وحبّ الدنيا ، وقد عبّر القرآن عن كل ذلك بـ «الترف».

فهذا التنعم والتلذذ غير المقيد وغير المشروط أساس الانحرافات في

__________________

(١) هود ، ٨٦.

٩٧

المجتمعات المرفهة ، لانّ سكرها من شهواتها يصدها عن إعطاء القيم الانسانية الاصيلة حقّها ودرك الواقعيات الاجتماعية ، ويغرقها في العصيان والآثام.

* * *

٩٨

الآيتان

( وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ (١١٨) إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (١١٩) )

التّفسير

في الآية الاولى محل البحث اشارة الى واحدة من سنن الخلق والوجود والتي تمثّل اللبنات التحتيّة لسائر المسائل المرتبطة بالإنسان وهي مسألة الاختلاف والتفاوت في بناء الإنسان روحا وفكرا وجسما وذوقا وعشقا ، ومسألة حرية الارادة والاختيار.

تقول الآية( وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ ) . لئلا يتصور احد من الناس انّ تأكيد الله وإصراره على طاعة امره دليل على عدم قدرته على ان يجعلهم في سير واحد ومنهج واحد.

نعم ، لم يكن ـ اي مانع ـ ان يخلق جميع الناس بحكم إلزامه وإجباره على شاكلة واحدة ، ويجعلهم مؤمنين بالحق ومجبورين على قبول الايمان به لكن مثل هذا الايمان لا تكون فيه فائدة ولا في مثل هذا الاتحاد فالإيمان القسري الذي ينبع من هدف غير ارادي لا يكون علامة على شخصية

٩٩

الفرد ولا وسيلة للتكامل ، ولا يوجب الثواب كما هو الحال في خلق النحل خلقا يدفعها بحكم الغريزة الى ان تجمع الرحيق من الازهار وخلق بعوضة الملاريا خلقا يجعلها تستقر في المستنقعات ، ولا يمكن لايّ منهما ان تتخلى عن طريقتها.

الّا انّ قيمة الإنسان وامتيازه وأهم ما يتفاوت فيه عن سائر الموجودات هي هذه الموهبة ، وهي حرية الارادة والاختيار ، وكذلك امتلاك الأذواق والاطباع والأفكار المتفاوتة التي يصنع كل واحد منها قسما من المجتمع ويؤمّن بعدا من ابعاده.

ومن طرف آخر فإنّ الاختلاف في انتخاب العقيدة والمذهب امر طبيعي مترتب على حرية الارادة ويكون سببا لانّ تقبل جماعة طريق الحق وتتبع جماعة أخرى الباطل ، الّا ان يتربى الناس تربية سليمة في احضان الرحمة الالهية ويتعلموا المعارف الحقة بالاستفادة من مواهب الله تعالى لهم ففي هذه الحال ، ومع جميع ما لديهم من اختلافات ، ومع الاحتفاظ بالحريّة والاختيار ، فإنّهم سيخطون خطوات في طريق الحق وان كانوا يتفاوتون في هذا المسير.

ولهذا يقول القرآن الكريم في الآية الاخرى :( إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ ) ولكن هذه الرحمة الالهية ليست خاصّة بجماعة معينة ، فالجميع يستطيعون «شريطة رغبتهم» ان يستفيدوا منها( وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ ) .

الأشخاص الذين يريدون ان يستظلوا برحمة الله فإنّ الطريق مفتوح لهم الرحمة التي افاضها الله لجميع عباده عن طريق تشخيص العقل وهداية الأنبياء.

ومتى ما استفادوا من هذه الرحمة والموهبة ، فإنّ أبواب الجنّة والسعادة الدائمة تفتح بوجوههم ، والّا : فلا :( وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ) .

* * *

١٠٠

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

يَمْشِي سَوِيًّا عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ ) .

فهنا شبه المعاندين والمغرورين كمن يسير في جادّة متعرّجة غير مستوية كثيرة المنعطفات وقد وقع على وجهه ، يحرّك يديه ورجليه للاهتداء إلى سبيله ، لأنّه لا يبصر طريقه جيّدا ، وليس بقادر على السيطرة على نفسه ، ولا بمطّلع على العقبات والموانع ، وليست لديه القوّة للسير سريعا ، وبذلك يتعثّر في سيره يمشي قليلا ثمّ يتوقّف حائرا.

كما شبّه المؤمنين برجال منتصبي القامات ، يسيرون في جادّة مستوية ومستقيمة ليس فيها تعرّجات واعوجاج ، ويمشون فيها بسرعة ووضوح وقدرة ووعي وعلم وراحة تامّة.

إنّه ـ حقّا ـ لتشبيه لطيف فذّ ، حيث إنّ آثار هذين السبيلين واضحة تماما ، وانعكاساتها جليّة في حياة هذين الفريقين ، وذلك ما نلاحظه بأمّ أعيننا.

ويرى البعض أنّ مصداق هاتين المجموعتين هما : (الرّسول الأكرم) و (أبو جهل) فهما مصاديق واضحة للآية الكريمة ، إلّا أنّ ذلك لا يحدّد عمومية الآية.

وذكرت احتمالات متعدّدة في تفسير (مكبّا على وجهه). إلّا أنّ أكثر الاحتمالات المنسجمة مع المفهوم اللغوي للآية هو ما ذكرناه أعلاه ، وهو أنّ الإنسان غير المؤمن يكون مكبّا على وجهه ويمشي زاحفا بيده ورجليه وصدره.

وقيل أنّ المقصود من (مكبّا) هو المشي الاعتيادي ولكنّه مطأطئ الرأس لا يشخّص مسيره بوضوح أبدا.

كما يرى آخرون أنّ المقصود بـ (مكبّا) هو الشخص الذي لا يستطيع أن يحفظ توازنه في السير ، فهو يخطو خطوات معدودة ثمّ ما يلبث أن يسقط على الأرض وينهض ليمشي ، ثمّ تتكرّر هذه الحالة.

ويستفاد ممّا ذكره الراغب في مفرداته أنّ المقصود بـ (مكبّا) هو الشخص الذي يدور حول محور الذات والأنانية ، معرضا عن الاهتمام بغيره.

٥٠١

إلّا أنّ المعنى الأوّل أنسب حسب الظاهر ، وذلك بقرينة المقابلة مع وضع المؤمنين والذين عبّرت عنهم الآية بـ (سويّا).

وعلى كلّ حال ، فهل أنّ هذه الحالة (مكبّا) و (سويّا) تمثّل وضع الكفّار والمؤمنين في الآخرة فقط؟ أم في العالمين (الدنيا والآخرة)؟ لا دليل على محدودية مفهوم الآية وانحصارها في الآخرة ، فهما في الدنيا كما هما في الآخرة.

إنّ هؤلاء الأنانيين المنشدّين إلى مصالحهم الماديّة والمنغمسين في شهواتهم ، السائرين في درب الضلال والهوى ، كمن يروم العبور من مكان مليء بالأحجار زاحفا على صدره ، بخلاف من تحرّر من قيد الهوى في ظلّ الإيمان حيث يكون مسيره واضحا ومستقيما ونظراته عميقة وثاقبة.

ثمّ يوجّه الله تعالى الخطاب إلى الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الآية اللاحقة فيقول :( قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ ) .

إنّ الله تعالى جعل لكم وسيلة للمشاهدة والإبصار (العين) وكذلك وسيلة وقناة للاطّلاع على أفكار الآخرين ومعرفة وجهات نظرهم من خلال الاستماع (الإذن) ثمّ وسيلة اخرى للتفكّر والتدبّر في العلوم والمحسوسات واللامحسوسات (القلب).

وخلاصة الأمر إنّ الله تعالى قد وضع جميع الوسائل اللازمة لكم لتتعرّفوا على العلوم العقلية والنقلية ، إلّا أنّ القليل من الأشخاص من يدرك هذه النعم العظيمة ويشكر الله المنعم ، حيث أنّ شكر النعمة الحقيقي يتجسّد بتوجيه النعمة نحو الهدف الذي خلقت من أجله ، ترى من هو المستفيد من هذه الحواس (العين والاذن والعقل) بصورة صحيحة في هذا الطريق؟

ثمّ يخاطب الرّسول مرّة اخرى حيث يقول تعالى :( قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ) .

وفي الحقيقة فإنّ الآية الاولى تعيّن (المسير) ، والثانية تتحدّث عن (وسائل

٥٠٢

العمل) أمّا الآية ـ مورد البحث ـ فإنّها تشخّص (الهدف والغاية) وذلك بالتأكيد على أنّ السير يجب أن يكون في الطريق المستقيم ، والصراط الواضح المتمثّل بالإسلام والإيمان ، وبذل الجهد للاستفادة من جميع وسائل المعرفة بهذا الاتّجاه ، والتحرّك نحو الحياة الخالدة.

والجدير بالملاحظة هنا أنّ التعبير في الآية السابقة ورد بـ (أنشأكم) وفي الآية مورد البحث بـ (ذرأكم) ، ولعلّ تفاوت هذين التعبيرين هو أنّه في الأولى إشارة إلى الإنشاء والإيجاد من العدم (أي إنّكم لم تكونوا شيئا وقد خلقكم الله تعالى) وفي الثانية إشارة إلى خلق الإنسان من مادّة التراب ، وذلك يعني أنّ الله خلق الإنسان من التراب.

ثمّ يستعرض سبحانه قول المشركين في هذا المجال والردّ عليهم ، فيقول تعالى :( وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ) .

إنّ المشركين يطالبون بتعيين التاريخ بصورة دقيقة ليوم القيامة ، كما أنّهم يطالبون بحسم هذا الأمر الذي يتعلّق بمصير الجميع( مَتى هذَا الْوَعْدُ؟ ) .

وذكروا احتمالين في المقصود من (هذا الوعد) : الأوّل : هو وعد يوم القيامة ، والآخر : هو تنفيذ الوعد بالنسبة للعقوبات الدنيوية المختلفة ، كوقوع الزلازل والصواعق والطوفانات. إلّا أنّ المعنى الأوّل أكثر تناسبا حسب الظاهر ، وذلك بلحاظ ما ورد في الآية السابقة. كما أنّ بالإمكان الجمع بين المعنيين.

ويجيبهم الله سبحانه على تساؤلهم هذا بقوله تعالى :( قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللهِ وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ ) .

إنّ هذا التعبير يشبه تماما ما ورد في الآيات القرآنية العديدة التي من جملتها

٥٠٣

قوله تعالى :( قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي ) (١) .

ولا بدّ أن يكون الجواب بهذه الصورة ، حيث أنّ تحديد تأريخ يوم القيامة إن كان بعيدا فإنّ الناس سيغرقون بالغفلة ، وإن كان قريبا فإنّهم سيعيشون حالة الهلع والاضطراب. وعلى كلّ حال فإنّ الأهداف التربوية تتعطّل في الحالتين.

ويضيف في آخر آية من هذه الآيات بأنّ الكافرين حينما يرون العذاب والوعد الإلهي من قريب تسودّ وجوههم :( فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ) فسيماهم طافحة بآثار الحزن والندم( وَقِيلَ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ ) .

«تدعون» من مادّة (دعاء) يعني أنّكم كنتم تدعون وتطلبون دائما أن يجيء يوم القيامة ، وها هو قد حان موعده ، ولا سبيل للفرار منه(٢) .

وهذا المضمون يشبه ما جاء في قوله تعالى مخاطبا الكفّار في يوم القيامة :( هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ ) (٣) .

وعلى كلّ حال ، فإنّ الآية الشريفة ناظرة إلى عذاب يوم القيامة كما ذهب إليه أغلب المفسّرين ، وهذا دليل على أنّ جملة( مَتى هذَا الْوَعْدُ ) إشارة إلى موعد يوم القيامة.

يقول الحاكم أبو القاسم الحسكاني : عند ما شاهد الكفّار شأن ومقام الإمام عليعليه‌السلام عند الله تعالى. اسودّت وجوههم (من شدّة الغضب)(٤) .

ونقل هذا المعنى أيضا في حديث عن الإمام الباقرعليه‌السلام أنّ هذه الآية نزلت

__________________

(١) الأعراف ، الآية ١٨٧.

(٢) «تدعون» من باب (افتعال) ، ومن مادّة دعاء ، بمعنى الطلب والرجاء ، أو من مادّة (دعوا) بمعنى الطلب أو إنكار شيء معيّن.

(٣) الذاريات ، الآية ١٤.

(٤) مجمع البيان ، ج ١٠ ، ص ٣٣٠.

٥٠٤

بحقّ أمير المؤمنين عليعليه‌السلام وأصحابه(١) .

وهذا التّفسير نقل عن طرق الشيعة وأهل السنّة ، وهو نوع من التطبيق المصداقي ، وإلّا فإنّ هذه الآية تناولت موضوع (القيامة) ومثل هذه التطبيقات ليست قليلة في عالم الروايات.

* * *

__________________

(١) نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ٣٨٥.

٥٠٥

الآيات

( قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنا فَمَنْ يُجِيرُ الْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (٢٨) قُلْ هُوَ الرَّحْمنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٢٩) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ (٣٠) )

التّفسير

من الذي يأتيكم بالمياه الجارية؟

إنّ الآيات أعلاه ، التي هي آخر آيات سورة الملك ، تبدأ جميعها بكلمة (قل) مخاطبة الرّسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، حيث أنّها تمثّل استمرارا للأبحاث التي مرّت في الآيات السابقة حول الكفّار ، وتعكس هذه الآيات الكريمة جوانب اخرى من البحث.

يخاطب البارئعزوجل ـ في البداية ـ الأشخاص الذين يرتقبون وفاة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأصحابه ، ويتصوّرون أنّ بوفاته سوف يمحى دين الإسلام وينتهي كلّ شيء. وهذا الشعور كثيرا ما ينتاب الأعداء المخذولين إزاء القيادات

٥٠٦

القويّة والمؤثّرة ، يقول تعالى مخاطبا إيّاهم :( قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنا فَمَنْ يُجِيرُ الْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ ) .

ورد في بعض الروايات أنّ كفّار مكّة ، كانوا دائما يسبّون الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمسلمين ، وكانوا يتمنّون موته ظنّا منهم أنّ رحيله سينهي دعوته كذلك ، لذا جاءت الآية أعلاه ردّا عليهم.

كما جاء شبيه هذا المعنى في قوله تعالى :( أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ ) (١) .

لقد كانوا غافلين عن وعد الله سبحانه لرسوله الأمين ، بأنّ اسمه سيكون مقترنا مع مبدأ الحقّ الذي لا يعتريه الفناء وإذا جاء أجله فإنّ ذكره لن يندرس ، نعم ، لقد وعده الله سبحانه بانتصار هذا المبدأ ، وأن ترفرف راية هذا الدين على كلّ الدنيا ، وحياة الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو موته لن يغيّرا من هذه الحقيقة شيئا.

كما ذكر البعض تفسيرا آخر لهذه الآية وهو : إنّ خطاب الله لرسوله الكريم ـ الذي يشمل المؤمنين أيضا ـ مع ما عليهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الإيمان الراسخ ، كان يعكس الخوف والرجاء معا في آن واحد. فكيف بكم أنتم أيّها الكافرون؟ وما الذي تفكّرون به لأنفسكم؟

ولكن التّفسير الأوّل أنسب حسب الظاهر.

واستمرارا لهذا البحث ، يضيف تعالى :( قُلْ هُوَ الرَّحْمنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ ) .

وهذا يعني أنّنا إذا آمنا بالله ، واتّخذناه وليّا ووكيلا لنا ، فإنّ ذلك دليل واضح على أنّه الربّ الرحمن ، شملت رحمته الواسعة كلّ شيء ، وغمر فيض ألطافه ونعمه الجميع (المؤمن والكافر) ، إنّ نظرة عابرة إلى عالم الوجود وصفحة الحياة تشهد

__________________

(١) الطور ، الآية ٣٠.

٥٠٧

على هذا المدّعى ، أمّا الذين تعبدونهم من دون الله فما ذا عملوا؟ وما ذا صنعوا؟

وبالرغم من أنّ ضلالكم واضح هنا في هذه الدنيا ، إلّا أنّه سيتّضح بصورة أكثر في الدار الآخرة. أو أنّ هذا الضلال وبطلان دعاواكم الفارغة ستظهر في هذه الدنيا عند ما ينتصر الإسلام بالإمدادات الإلهية على جيش الكفر بشكل إعجازي وخارق للعادة ، عندئذ ستتبيّن الحقيقة أكثر للجميع.

إنّ هذه الآية ـ في الحقيقة ـ نوع من المواساة للرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمؤمنين ، كي لا يظنّوا أو يتصوّروا أنّهم وحدهم في هذا الصراع الواسع بين الحقّ والباطل ، حيث أنّ الرحمن الرحيم خير معين لهم ونعم الناصر.

ويقول تعالى في آخر آية ، عارضا لمصداق من رحمته الواسعة ، والتي غفل عنها الكثير من الناس :( قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ ) .

إنّ للأرض في الحقيقة قشرتين متفاوتين : (قشرة قابلة للنفوذ) يدخل فيها الماء ، واخرى (غير قابلة للنفوذ) تحفظ بالماء ، وجميع العيون والآبار والقنوات تولّدت من بركات هذا التركيب الخاصّ للأرض ، إذ لو كانت القشرة القابلة للنفوذ لوحدها على سطح الكرة الأرضية جميعا ولأعماق بعيدة ، فإنّ جميع المياه التي تدخل جوف الأرض لا يقرّ لها قرار ، وعندئذ لا يمكن أن يحصل أحد على قليل من الماء. ولو كانت قشرة الأرض غير قابلة للنفوذ لتجمّعت المياه على سطحها وتحوّلت إلى مستنقع كبير ، أو أنّ المياه التي تكون على سطحها سرعان ما تصبّ في البحر ، وهكذا يتمّ فقدان جميع الذخائر التي هي تحت الأرض.

إنّ هذا نموذج صغير من رحمة الله الواسعة يتعلّق بموت الإنسان وحياته.

«معين» من مادّة (معن) ، على وزن (طعن) بمعنى جريان الماء.

وقال آخرون : إنّها مأخوذة من (عين) والميم زائدة. لذا فإنّ بعض المفسّرين ذهبوا إلى أنّ معنى (معين) تعني الماء الذي يشاهد بالعين بغضّ النظر عن جريانه.

إلّا أنّ الغالبية فسّروه بالماء الجاري.

٥٠٨

وبالرغم من أنّ الماء الصالح للشرب لا ينحصر بالماء الجاري ، إلّا أنّه ممّا لا شكّ فيه أنّ الماء الجاري يمثّل أفضل أنواع ماء الشرب ، سواء كان من العيون أو الأنهار أو القنوات أو الآبار المتدفّقة

ونقل بعض المفسّرين أنّ أحد الكفّار عند ما سمع قوله تعالى :( قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ ) قال : (رجال شداد ومعاول حداد) وعند نومه ليلا نزل الماء الأسود في عينيه ، وفي هذه الأثناء سمع من يقول : أتي بالرجال الشداد والمعاول الحداد ليخرجوا الماء من عينيك.

ومن الواضح أنّه في حالة عدم وجود القشرة الصلبة وغير القابلة للنفوذ ، فإنّه لا يستطيع أي إنسان قوي ولا أي معول حادّ أن يستخرج شيئا من الماء(١) .

* * *

تعقيب

جاء في الروايات عن أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام أنّ المراد من الآية الأخيرة من هذه السورة هو ظهور الإمام المهديعليه‌السلام وعدله الذي سيعمّ العالم.

فقد جاء في حديث عن الإمام الباقرعليه‌السلام أنّه قال : «نزلت في الإمام القائمعليه‌السلام ، يقول : إن أصبح إمامكم غائبا عنكم ، لا تدرون أين هو؟ فمن يأتيكم بإمام ظاهر يأتيكم بأخبار السموات والأرض ، وحلال الله وحرامه؟ ثمّ قال : والله ما جاء تأويل هذه الآية ، ولا بدّ أن يجيء تأويلها»(٢) .

والروايات في هذا المجال كثيرة ، وممّا يجدر الانتباه له أنّ هذه الروايات هي من باب (التطبيق).

وبعبارة اخرى فإنّ ظاهر الآية مرتبط بالماء الجاري ، والذي هو علّة حياة

__________________

(١) أبو الفتوح الرازي ، ج ١١ ، ص ٢١٩.

(٢) نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ٣٨٧.

٥٠٩

الموجودات الحيّة. أمّا باطن الآية فإنّه يرتبط بوجود الإمامعليه‌السلام وعلمه وعدالته التي تشمل العالم ، والتي هي الاخرى تكون سببا لحياة وسعادة المجتمع الإنساني.

ولقد ذكرنا مرّات عدّة أنّ للآيات القرآنية معاني متعدّدة ، حيث لها معنى باطن وظاهر ، إلّا أنّ فهم باطن الآيات غير ممكن إلّا للرسول والإمام المعصوم ، ولا يحقّ لأي أحد أن يطرح تفسيرا ما لباطن الآيات. وما نستعرضه هنا مرتبط بظاهر الآيات ، أمّا ما يرتبط بباطن الآيات فعلينا أن نأخذه من المعصومينعليهم‌السلام فقط.

لقد بدأت سورة الملك بحاكمية الله ومالكيته تعالى ، وانتهت برحمانيته ، والتي هي الاخرى فرع من حاكميته ومالكيته سبحانه ، وبهذا فإنّ بدايتها ونهايتها منسجمتان تماما.

اللهمّ ، أدخلنا في رحمتك العامّة والخاصّة ، وأرو ظمآنا من كوثر ولاية أولياءك.

ربّنا ، عجّل لنا ظهور عين ماء الحياة الإمام المهدي ، واطفئ عطشنا بنور جماله

ربّنا ، ارزقنا اذنا صاغية وعينا بصيرة وعقلا كاملا ، فأقشع عن قلوبنا حجب الأنانية والغرور لنرى الحقائق كما هي ، ونسلك إليك على الصراط المستقيم بخطوات محكمة وقامة منتصبة

آمين ربّ العالمين

نهاية سورة الملك

* * *

٥١٠
٥١١

سورة

القلم

مكيّة

وعدد آياتها اثنتان وخمسون آية

٥١٢

«سورة القلم»

محتوى السورة :

بالرغم من أنّ بعض المفسّرين شكّك في كون السورة بأجمعها نزلت في مكّة ، إلّا أنّ نسق السورة ومحتوى آياتها ينسجم تماما مع السور المكيّة ، لأنّ المحور الأساسي فيها يدور حول مسألة نبوّة رسول الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومواجهة الأعداء الذين كانوا ينعتونه بالجنون وغيره ، والتأكيد على الصبر والاستقامة وتحدّي الصعاب ، وإنذار وتهديد المخالفين لهذه الدعوة المباركة بالعذاب الأليم.

وبشكل عامّ يمكن تلخيص مباحث هذه السورة بسبعة أقسام :

١ ـ في البداية تستعرض السورة بعض الصفات الخاصّة لرسول الإنسانية محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وخصوصا أخلاقه البارّة السامية الرفيعة ، ولتأكيد هذا الأمر يقسم البارئعزوجل في هذا الصدد.

٢ ـ ثمّ تتعرّض بعض الآيات الواردة في هذه السورة إلى قسم من الصفات السيّئة والأخلاق الذميمة لأعدائه.

٣ ـ كما يبيّن قسم آخر من الآيات الشريفة قصّة (أصحاب الجنّة) والتي هي بمثابة توجيه إنذار وتهديد للسالكين طريق العناد من المشركين.

٤ ـ وفي قسم آخر من السورة ذكرت عدّة امور حول القيامة والعذاب الأليم للكفّار في ذلك اليوم.

٥ ـ كما جاء في آيات اخرى جملة إنذارات وتهديدات للمشركين.

٥١٣

٦ ـ ونلاحظ في آيات اخرى من السورة الأمر الإلهي للرسول العظيم محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأن يواجه الأعداء بصبر واستقامة وقوّة وصلابة.

٧ ـ وأخيرا تختتم السورة موضوعاتها بحديث حول عظمة القرآن الكريم ، وطبيعة المؤامرات التي كان يحوكها الأعداء ضدّ الرّسول محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

انتخاب (القلم) اسما لهذه السورة المباركة ، كان بلحاظ ما ورد في أوّل آية منها ، وذكر البعض الآخر أنّ اسمها (ن).

ويستفاد من بعض الروايات التي وردت في فضيلة هذه السورة أنّ اسمها «ن والقلم».

فضيلة تلاوة سورة القلم :

نقل عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في فضيلة تلاوة هذه السورة أنّه قال : «من قرأ (ن والقلم) أعطاه الله ثواب الذين حسن أخلاقهم»(١) .

كما نقرأ في حديث عن الإمام الصادقعليه‌السلام أنّه قال : «من قرأ سورة (ن والقلم) في فريضة أو نافلة ، آمنه الله أن يصيبه في حياته فقر أبدا ، وأعاذه إذا مات من ضمّة القبر ، إن شاء الله»(٢) .

وهذا الأجر والجزاء يتناسب تناسبا خاصّا مع محتوى السورة ، والهدف من التأكيد على هذا النوع من الأجر من تلاوة السورة هو أن تكون التلاوة مقرونة بالوعي والمعرفة ومن ثمّ العمل بمحتواها.

* * *

__________________

(١) تفسير نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ٣٨٧.

(٢) مجمع البيان ، ج ١٠ ، ص ٣٣٠.

٥١٤

الآيات

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

( ن وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ (١) ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (٢) وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ (٣) وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ (٤) فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ (٥) بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ (٦) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (٧) )

التّفسير

عجبا لأخلاقك السامية :

هذه السورة هي السورة الوحيدة التي تبدأ بحرف (ن) حيث يقول تعالى :( ن ) .

وقد تحدّثنا مرّات عديدة حول الحروف المقطّعة ، خصوصا في بداية سورة (البقرة) و (آل عمران) و (الأعراف) والشيء الذي يجدر إضافته هنا هو ما اعتبره البعض من أنّ (ن) هنا تخفيف لكلمة (الرحمن) فهي إشارة لذلك. كما أنّ البعض الآخر فسّرها بمعنى (اللوح) أو (الدواة) أو (نهر في الجنّة) إلّا أنّ كلّ تلك الأقوال ليس لها دليل واضح.

٥١٥

وبناء على هذا فإنّ الحرف المقطّع هنا لا يختلف عن تفسير بقيّة الحروف المقطّعة والتي أشرنا إليها سابقا.

ثمّ يقسم تعالى بموضوعين يعتبران من أهمّ المسائل في حياة الإنسان ، فيقول تعالى :( وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ ) .

كم هو قسم عجيب؟ وقد يتصوّر أنّ القسم هنا يتعلّق ظاهرا بمواضيع صغيرة ، أي قطعة من القصب ـ أو شيء يشبه ذلك ـ وبقليل من مادّة سوداء ، ثمّ السطور التي تكتب وتخطّ على صفحة صغيرة من الورق.

إلّا أنّنا حينما نتأمّل قليلا فيه نجده مصدرا لجميع الحضارات الإنسانية في العالم أجمع ، إنّ تطور وتكامل العلوم والوعي والأفكار وتطور المدارس الدينية والفكرية ، وبلورة الكثير من المفاهيم الحياتية كان بفضل ما كتب من العلوم والمعارف الإنسانية في الحقول المختلفة ، ممّا كان له الأثر الكبير في يقظة الأمم وهداية الإنسان وكان ذلك بواسطة (القلم).

لقد قسّمت حياة الإنسان إلى عصرين : (عصر التأريخ) و (عصر ما قبل التأريخ) وعصر تأريخ البشر يبدأ منذ أن اخترع الإنسان الخطّ واستطاع أن يدوّن قصّة حياته وأحداثها على الصفحات ، وبتعبير آخر ، يبدأ عند ما أخذ الإنسان القلم بيده ، ودوّن للآخرين ما توصّل إليه (وما يسطرون) تخليدا لماضيه.

وتتّضح عظمة هذا القسم بصورة أكثر عند ما نلاحظ أنّ هذه الآيات المباركة حينما نزلت لم يكن هنالك كتاب ولا أصحاب قلم ، وإذا كان هنالك أشخاص يعرفون القراءة والكتابة ، فإنّ عددهم في كلّ مكّة ـ التي تمثّل المركز العبادي والسياسي والاقتصادي لأرض الحجاز ـ لم يتجاوز ال (٢٠) شخصا. ولذا فإنّ القسم بـ (القلم) في مثل ذلك المحيط له عظمة خاصّة.

والرائع هنا أنّ الآيات الاولى التي نزلت على قلب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في (جبل النور) أو (غار حراء) قد أشير فيها أيضا إلى المنزلة العليا للقلم ، حديث يقول تعالى :

٥١٦

( اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ، خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ ، اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ ، الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ ، عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ ) (١) .

والأروع من ذلك كلّه أنّ هذه الكلمات كانت تنطلق من فمّ شخص لم يكن يقرأ أو يكتب ، ولم يذهب للمكاتب من أجل التعليم قطّ ، وهذا دليل أيضا على أنّ ما ينطق به لم يكن غير الوحي السماوي.

وذكر بعض المفسّرين أنّ كلمة (القلم) هنا يقصد بها : (القلم الذي تخطّ به ملائكة الله العظام الوحي السماوي) ، (أو الذي تكتب به صفحة أعمال البشر) ، ولكن من الواضح أنّ للآية مفهوما واسعا ، وهذه الآراء تبيّن مصاديقها.

كما أنّ لجملة( ما يَسْطُرُونَ ) مفهوما واسعا أيضا ، إذ تشمل جميع ما يكتب في طريق الهداية والتكامل الفكري والأخلاقي والعلمي للبشر ، ولا ينحصر بالوحي السماوي أو صحائف أعمال البشر(٢) .

ثمّ يتطرّق سبحانه لذكر الأمر الذي أقسم من أجله فيقول تعالى :( ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ ) .

إنّ الذين نسبوا إليك هذه النسبة القبيحة هم عمي القلوب والأبصار ، وإلّا فأين هم من كلّ تلك النعم الإلهية التي وهبها الله لك؟ نعمة العقل والعلم الذي تفوّقت بها على جميع الناس ونعمة الأمانة والصدق والنبوّة ومقام العصمة إنّ الذين يتّهمون صاحب هذا العقل الجبّار بالجنون هم المجانين في الحقيقة ، إنّ ابتعادهم عن دليل الهداية وموجّه البشرية لهو الحمق بعينه.

ثمّ يضيف تعالى بعد ذلك :( وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ ) أي غير منقطع ، ولم لا

__________________

(١) العلق ، الآية ١ ـ ٥.

(٢) اعتبر البعض أنّ (ما) في (ما يسطرون) مصدرية ، واعتبرها بعض آخر بأنّها (موصولة) والمعنى الثاني أنسب ، والتقدير هكذا : (ما يسطرونه) ، كما اعتبرها البعض أيضا بمعنى (اللوح) أو (القرطاس) الذي يكتب عليه ، وفي التقدير (ما يسطرون فيه) كما اعتبر البعض (ما) هنا إشارة لذوي العقول والأشخاص الذين يكتبون هذه السطور ، إلّا أنّ المعنى الذي ذكرناه في المتن أنسب من الجميع حسب الظاهر.

٥١٧

يكون لك مثل هذا الأجر ، في الوقت الذي وقفت صامدا أمام تلك التّهم والافتراءات اللئيمة ، وأنت تسعى لهدايتهم ونجاتهم من الضلال وواصلت جهدك في هذا السبيل دون تعب أو ملل؟

«ممنون» من مادّة (منّ) بمعنى (القطع) ويعني الأجر والجزاء المستمرّ الذي لا ينقطع أبدا ، وهو متواصل إلى الأبد ، يقول البعض : إنّ أصل هذا المعنى مأخوذ من «المنّة» ، بلحاظ أنّ المنّة توجب قطع النعمة.

وقال البعض أيضا : إنّ المقصود من( غَيْرَ مَمْنُونٍ ) هو أنّ الله تعالى لم تكن لديه منّة مقابل هذا الأجر العظيم. إلّا أنّ التّفسير الأوّل أنسب.

وتعرض الآية اللاحقة وصفا آخر لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وذلك بقوله تعالى :( وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ ) .

تلك الأخلاق التي لا نظير لها ، ويحار العقل في سموّها وعظمتها من صفاء لا يوصف ، ولطف منقطع النظير ، وصبر واستقامة وتحمّل لا مثيل لها ، وتجسيد لمبادئ الخير حيث يبدأ بنفسه أوّلا فيما يدعو إليه ، ثمّ يطلب من الناس العمل بما دعا إليه والالتزام به.

عند ما دعوت ـ يا رسول الله ـ الناس ـ لعبادة الله ، فقد كنت أعبد الناس جميعا ، وإذ نهيتهم عن سوء أو منكر فإنّك الممتنع عنه قبل الجميع ، تقابل الأذى بالنصح ، والإساءة بالصفح ، والتضرّع إلى الله بهدايتهم ، وهم يؤلمون بدنك الطاهر رميا بالحجارة ، واستهزاء بالرسالة ، وتقابل وضعهم للرماد الحارّ على رأسك الشريف بدعائك لهم بالرشد.

نعم لقد كنت مركزا للحبّ ومنبعا للعطف ومنهلا للرحمة ، فما أعظم أخلاقك؟

«خلق» من مادّة (الخلقة) بمعنى الصفات التي لا تنفكّ عن الإنسان ، وهي ملازمة له ، كخلقة الإنسان.

وفسّر البعض الخلق العظيم للنبي بـ (الصبر في طريق الحقّ ، وكثرة البذل

٥١٨

والعطاء ، وتدبير الأمور ، والرفق والمداراة ، وتحمّل الصعاب في مسير الدعوة الإلهية ، والعفو عن المتجاوزين ، والجهاد في سبيل الله ، وترك الحسد والبغض والغلّ والحرص ، وبالرغم من أنّ جميع هذه الصفات كانت متجسّدة في رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلّا أنّ الخلق العظيم له لم ينحصر بهذه الأمور فحسب ، بل أشمل منها جميعا.

وفسّر الخلق العظيم أيضا بـ (القرآن الكريم) أو (مبدأ الإسلام) ومن الممكن أن تكون الموارد السابقة من مصاديق المفهوم الواسع للآية أعلاه.

وعلى كلّ حال فإنّ تأصّل هذا (الخلق العظيم) في شخصية الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو دليل واضح على رجاحة العقل وغزارة العلم له ونفي جميع التّهم التي تنسب من قبل الأعداء إليه.

ثمّ يضيف سبحانه بقوله :( فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ ) .

( بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ ) أي من منكم هو المجنون(١) .

«مفتون» : اسم مفعول من (الفتنة) بمعنى الابتلاء ، وورد هنا بقصد الابتلاء بالجنون.

نعم ، إنّهم ينسبون هذه النسب القبيحة إليك ليبعدوا الناس عنك ، إلّا أنّ للناس عقلا وإدراكا ، يقيّمون به التعاليم التي يتلقّونها منك ، ثمّ يؤمنون بها ويتعلّمونها تدريجيّا ، وعندئذ تتّضح الحقائق أمامهم ، وهي أنّ هذه التعاليم العظيمة مصدرها البارئعزوجل ، أنزلها على قلبك الطاهر بالإضافة إلى ما منحك من نصيب عظيم في العقل والعلم.

كما أنّ مواقفك وتحرّكاتك المستقبلية المقرونة بالتقدّم السريع لانتشار الإسلام ، ستؤكّد بصورة أعمق أنّك منبع العلم والعقل الكبيرين ، وأنّ هؤلاء الأقزام

__________________

(١) (الباء) في (بأيّكم) زائدة و (أيّكم) مفعول للفعلين السابقين.

٥١٩

الخفافيش هم المجانين ، لأنّهم تصدّوا لمحاربة نور هذه الشمس العظيمة المتمثّلة بالحقّ الإلهي والرسالة المحمّدية.

ومن الطبيعي فإنّ هذه الحقائق ستتوضّح أمامهم يوم القيامة بصورة دامغة ، ويخسر هنالك المبطلون ، حيث تتبيّن الأمور وتظهر الحقيقة.

وللتأكيد على المفهوم المتقدّم يقول سبحانه مرّة اخرى :( إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ) .

وبلحاظ معرفة البارئعزوجل بسبيل الحقّ وبمن سلكه ومن جانبه وتخلّف أو انحرف عنه ، فإنّه يطمئن رسوله الكريمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأنّه والمؤمنون في طريق الهداية والرشد ، أمّا أعداؤه فهم في متاه الضلالة والغواية.

وجاء في حديث مسند أنّ قريشا حينما رأت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقدم الإمام عليعليه‌السلام على الآخرين ويجلّه ويعظّمه ، غمزه هؤلاء وقدحوا بهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقالوا : (لقد فتن محمّد به) هنا أنزل الله تعالى قرآنا وذلك قوله :( ن وَالْقَلَمِ ) وأقسم بذلك ، وإنّك يا محمّد غير مفتون ومجنون حتّى قوله تعالى :( إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ) حيث الله هو العالم بالأشخاص الذين ضلّوا وانحرفوا عن سواء السبيل ، وهي إشارة إلى قريش التي كانت تطلق هذه الاتّهامات ، كما أنّه تعالى أعرف بمن اهتدى ، وهي إشارة إلى الإمام عليعليه‌السلام (١) .

* * *

بحثان

١ ـ دور القلم في حياة الإنسان

إنّ من أهمّ معالم التطور في الحياة البشرية ـ كما أشرنا سابقا ـ هو ظهور

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ١٠ ، ص ٣٣٤ ، (نقل الطبرسي هذا الحديث بسنده عن أهل السنّة).

٥٢٠

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572