الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٧

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل0%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 572

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

مؤلف: آية الله الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
تصنيف:

الصفحات: 572
المشاهدات: 273503
تحميل: 4733


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 572 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 273503 / تحميل: 4733
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء 7

مؤلف:
العربية

معاندين وفي سبيل بناء مجتمع سالم وحضارة انسانية زاهرة فالاستقامة في هذا الطريق ليس امرا هيّنا.

والأمر الآخر : ان تحمل هذه الاستقامة هدفا الهيا فحسب ، وان تكون الوساوس الشيطانية بعيدة عنها تماما ، اي ان تكتسب هذه الاستقامة اكبر القدرات السياسية والاجتماعيّة من اجل الله.

والأمر الثّالث : مسألة قيادة أولئك الذين رجعوا الى طريق الحق وتعويدهم على الاستقامة ايضا.

والأمر الرّابع : المواجهة والمبارزة في مسير الحق والعدالة والقيادة الصحيحة وصدّ كل انواع التجاوز والطغيان ، فكثيرا ما يبدي بعض الناس منتهى الاستقامة في سبيل الوصول للهدف ، لكن لا يستطيعون ان يراعوا مسألة العدالة ، وغالبا ما يبتلون بالطغيان والتجاوز عن الحدّ.

اجل مجموع هذه الأمور وتواليها على النّبي حمّلته مسئولية كبرى ، حتى انهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما رئي ضاحكا وشيّبته هذه الآية من الهمّ.

وعلى كل حال فإنّ هذا الأمر لم يكن للماضي فحسب ، بل هو للماضي والحاضر والمستقبل ، وهو للأمس واليوم والغد القريب والغد البعيد ايضا.

واليوم مسئوليتنا المهمّة ـ نحن المسلمين ايضا ، وبالخصوص قادة الإسلام ـ تتلخّص في هذه الكلمات الاربعة. وهي : الاستقامة ، والإخلاص ، وقيادة المؤمنين ، وعدم الطغيان والتجاوز. ودون ربط هذه الأمور بعضها الى بعض فإنّ النصر على الأعداء الذين احاطونا من كل جانب من الداخل والخارج ، واستفادوا من جميع الاساليب الثقافية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والعسكريّة هذا النصر لا يكون سوى أوهام في مخيلة المسلمين.

* * *

٨١

الآية

( وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ أَوْلِياءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ (113) )

التّفسير

الرّكون الى الظالمين :

انّ هذه الآية تبيّن واحدا من أقوى وأهم الاسس والبرامج الاجتماعية والسياسية والعسكرية والعقائدية ، فتخاطب عامة المسلمين ليؤدوا وظيفتهم القطعية فتقول :( وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا ) والسبب واضح( فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ أَوْلِياءَ ) ومعلوم عندئذ حالكم( ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ ) .

ملاحظات

1 ـ ما هو مفهوم الرّكون؟

مفهوم «الركون» مشتق من مادة «ركن» ومعناه العمود الضخم من الحجر او الجدار الذي يربط البناء او الأشياء الاخرى بعضها الى بعض ، ثمّ اطلق هذا اللفظ على الاعتماد او الاستناد الى الشيء.

* * *

٨٢

وبالرغم من انّ المفسّرين اعطوا معاني كثيرة لهذه الكلمة في تفسيرهم للآية ، ولكنّها في الغالب تعود الى مفهوم جامع وكلي فمثلا فسّرها البعض بالميل ، وفسّرها البعض بـ «التعاون» ، وفسّرها البعض بـ «اظهار الرضا» ، وفسّرها آخرون بـ «المودّة» ، كما فسرها جماعة بالطاعة وطلب الخير ، وكل هذه المعاني ترجع الى الاعتماد والاتكاء كما هو واضح.

2 ـ في ايّ الأمور لا ينبغي الرّكون الى الظالمين؟

بديهي انّه في الدرجة الاولى لا يصح الاشتراك معهم في الظلم او طلب الاعانة منهم ، وبالدرجة الثّانية الاعتماد عليهم فيما يكون فيه ضعف المجتمع الاسلامي وسلب استقلاله واعتماده على نفسه وتبديله الى مجتمع تابع وضعيف لا يستحق الحياة ، لانّ هذا الركون ليس فيه نتيجة سوى الهزيمة والتبعية للمجتمع الاسلامي.

وامّا ما نلاحظه أحيانا من مسائل التبادل التجاري والروابط العلمية بين المسلمين والمجتمعات غير الاسلامية على أساس حفظ منافع المسلمين واستقلال المجتمعات الاسلامية وثباتها ، فهذا ليس داخلا في مفهوم الركون الى الظالمين ولم يكن شيئا ممنوعا من وجهة نظر الإسلام ، وفي عصر النّبي نفسهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والاعصار التي تلته كانت هذه الأمور موجودة وطبيعية ايضا.

3 ـ فلسفة تحريم الركون الى الظالمين

الرّكون الى الظالمين يورث مفاسد كثيرة لا تخفى على احد بصورتها الاجمالية ولكن كلّما تفحصنا في هذه المسألة اكثر اكتشفنا مسائل دقيقة جديدة.

فالركون الى الظالمين يبعث على تقويتهم ، وتقويتهم مدعاة الى اتساع رقعة الظلم والفساد في المجتمعات ، ونقرا في الأوامر الاسلامية انّ الإنسان ما لم يجبر

٨٣

«وفي بعض الأحيان حتى مع الإجبار» لا يحق له ان يراجع القاضي الظالم من اجل اكتساب حقّه ، لان مراجعة مثل هذا القاضي الحاكم الجائر من اجل احقاق الحق مفهومها ان يعترف ضمنا برسميته وتقواه ، ولعل ضرر هذا العمل اكبر من الخسارة التي تقع نتيجة فقدان الحق.

والركون الى الظلمة يؤثر تدريجا على الثقافة الفكرية للمجتمع ، فيضمحل مفهوم «قبح الظلم» ويؤدي بالناس الى الرغبة في الظلم.

وأساسا لا نتيجة من الركون الى الغير بصورة التعلق والارتباط الشديد الّا سوء الحظ والشقاء ، فكيف إذا كان هذا الركون الى الظالمين؟

انّ المجتمع الحضاري المقتدر هو المجتمع الذي يقف على قدميه ، كما يعبر القرآن الكريم في مثل بديع في الآية (29) من سورة الفتح إذ يقول :( فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ ) والمجتمع الحرّ المستقلّ هو المجتمع الذي يكتفي ذاتيا ، وارتباطه او تعاونه مع الآخرين هو ارتباط على أساس المنافع المتبادلة لا على أساس ركون الضعيف الى القوي ، لانّ هذا الركون ـ سواء كان من جهة فكرية او ثقافية او اقتصادية او عسكرية او سياسية ـ لا يخلّف سوى الأسر والاستثمار ، ولا يثمر سوى المساهمة في ظلمهم والمشاركة في خططهم.

وبالطبع فإنّ الآية المتقدمة ليست خاصّة بالمجتمعات فحسب ، بل تشمل العلاقة والارتباط بين فردين ايضا ، فلا يجوز لإنسان مؤمن ان يركن الى اي ظالم ، فإنّه اضافة الى فقدان استقلاله لركونه الى دائرة ظلمه ، فسيؤدي الى تقويته واتساع الفساد والعدوان كذلك.

4 ـ من المقصود بـ «الَّذِينَ ظَلَمُوا »؟

ذكر المفسّرون في هذا المجال احتمالات مختلة ، فقال بعضهم : المقصود ب( الَّذِينَ ظَلَمُوا ) هم المشركون ، ولكن ـ كما قال آخرون ـ لا دليل على انحصار

٨٤

هذا اللفظ بالمشركين رغم ان مصداق الظالمين في عصر نزول الآية هو المشركين.

كما انّ تفسير هذه الكلمة في الرّوايات بالمشركين لا يدلّ على الانحصار ، لانّنا قلنا مرارا وتكرارا انّ مثل هذه الرّوايات انّما تبيّن المصداق الواضح والجلي ، فعلى هذا الأساس يدخل في دائرة هذه الآية جميع الذين امتدّت أيديهم الى الظلم والفساد ، او استعبدوا خلق الله وعباده ، او استغلوا قواهم لمنافعهم ، وباختصار كل الذين دخلوا في المفهوم العام لهذا التعبير( الَّذِينَ ظَلَمُوا ) .

ولكن من الواضح ان من اخطأوا في حياتهم خطأ بسيطا وصاروا من مصاديق الظالم أحيانا غير داخلين في مفهوم الآية قطعا لانّه في هذه الصور لا يخرج عن شمولية هذه الآية الّا النادر ، فلا يصح الرّكون والاعتماد على اي شخص ، اللهم الّا ان نقول : انّ المراد بالركون هو الاعتماد على الظالم من جهة ظلمه وجوره ، وفي هذه الحال حتى الذين تلوّثت أيديهم بالظلم مرّة واحدة لا يجوز الركون إليهم.

5 ـ اشكال

بعض المفسّرين من اهل السنة اشكالا يصعب الجواب عليه من مبناهم وهو ما ورد في رواياتهم من وجوب الطاعة والتسليم لسلطان الوقت الذي هو من أولو الأمر ايّا كان ، لما نقلوا حديثا عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في وجوب طاعة السلطان «وان أخذ مالك وضرب ظهرك ...»! وروايات اخرى تؤكّد طاعة السلطان بمعناها الواسع.

ومن جهة اخرى تقول الآية :( وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا ) فهل يصحّ الجمع بين هذين الأمرين؟!

أراد البعض ان يرفع هذا التضاد باستثناء واحد ، وهو ان طاعة السلطان

٨٥

تكون واجبة ما لم ينحرف الى طريق العصيان ويخطو في طريق الكفر.

ولكن لحن تلك الرّوايات لا ينسجم مع هذا الاستثناء.

وعلى كل حال فنحن نعتقد ـ وكما ورد في مذهب اهل البيتعليهم‌السلام ـ بوجوب طاعة ولي الأمر العادل والعالم الذي يصح ان يكون خليفة عامّا للنّبي واماما من بعده فحسب.

وإذا كان سلاطين بني اميّة وبني العباس قد وضعوا الأحاديث في هذا المجال لمصلحتهم ، فلا تنسجم بأي وجه مع اصول مذهبنا والتعليمات القرآنية ، وينبغي ان نعالج هذه الرّوايات ، فإن كانت تقبل التخصيص خصّصناها ، والّا طرحناها جانبا ، لانّ كل رواية تخالف كتاب الله فهي مردودة وباطلة ، والقرآن يصرح انّ امام المسلمين لا يجوز ان يكون ظالما ، والآية المتقدمة تقول بصراحة ايضا :( وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا ) او نقول : انّ أمثال هذه الرّوايات مخصوصة بالحالات الضرورية والاضطرارية.

* * *

٨٦

الآيتان

( وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ذلِكَ ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ (114) وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (115) )

التّفسير

الصلاة والصبر :

هذه الآيات تشير الى أمرين من اهمّ الأوامر الاسلامية ، وهما في الواقع روح الايمان وقاعدة الإسلام ، فيأتي الأمر اوّلا بالصلاة( وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ ) .

وظاهر التعبير من( طَرَفَيِ النَّهارِ ) هو بيان صلاة الصبح وصلاة المغرب اللتين يقعان طرفي النهار ، و «الزلف» جمع «زلفة» التي تعني القرب ، ويشار بها الى اوّل الليل القريب من النهار فتنطبق على صلاة العشاء.

وهذا التّفسير وارد في روايات اهل البيتعليهم‌السلام ايضا ، اي انّ الآية تشير الى الصلوات الثلاث «الصبح والمغرب والعشاء».

ويرد هنا سؤال وهو : لم ذكرت هذه الصلوات الثلاث من بين الصلوات الخمس؟!

٨٧

غموض الاجابة دعا بعض المفسّرين لان يتوسع في معنى( طَرَفَيِ النَّهارِ ) ليشمل صلاة الصبح والظهر والعصر والمغرب ايضا. وبالتعبير ب( وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ ) الذي يشير الى صلاة العشاء تكون جميع الصلوات الخمس قد دخلت في الآية! والإنصاف ان تعبير( طَرَفَيِ النَّهارِ ) لا يتحمل مثل هذا التّفسير ، مع ملاحظة انّ المسلمين في الصدر الاوّل من الإسلام كانوا مقيدين بأداء صلاة الظهر في اوّل الوقت وأداء صلاة العصر في حدود نصف الوقت ، اي بين وقت الظهر ووقت المغرب.

الشيء الوحيد الذي يمكن ان يقال هنا : انّ آيات القرآن قد تذكر جميع الصلوات الخمس أحيانا كما في سورة الاسراء :( أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ ) (1) .

وقد تذكر ثلاث صلوات ـ كالآية محل البحث ـ وقد تذكر صلاة واحدة كما في سورة البقرة( حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ ) (2) .

فعلى هذا لا يستلزم ذكر جميع الصلوات الخمس في كل مورد ، وقد توجب المناسبات الاشارة الى صلاة الظهر «الصَّلاةِ الْوُسْطى » لاهميتها او تشير الى صلاة الصبح او المغرب والعشاء وذلك لاحتمال ان تقع في دائرة النسيان للتعب او النوم.

ولاهمية الصلوات اليوميّة ـ خاصّة ـ وجميع العبادات والطاعات والحسنات ـ عموما ـ فإنّ القرآن يشير بهذا التعبير( إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ذلِكَ ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ ) .

والآية آنفة الذكر كسائر آيات القرآن تبيّن تأثير الأعمال الصالحة في محو

__________________

(1) الآية ، 78.

(2) الآية ، 238.

٨٨

اثر الأعمال السيئة ، حيث نقرا في سورة النساء الآية (31) :( إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ ) ونقرا في سورة العنكبوت الآية (7) :( وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ ) .

وبهذا تثبت مقولة ابطال السيئات بالطاعات والأعمال الحسنة.

ومن الناحية النفسية ـ ايضا ـ لا ريب في ان الذنب والعمل السيء يوجد نوعا من الظلمة في روح الإنسان ونفسه ، بحيث لو استمرّ على السيئات تتراكم عليه الآثار فتمسخ الإنسان بصورة موحشة.

ولكن العمل الصالح الصادر من الهدف الالهي يهب روح الإنسان لطافة بإمكانها ان تغسل آثار الذنوب وان تبدّل ظلمات نفسه الى أنوار.

وبما انّ الجملة الآنفة( إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ) ذكرت بعد الأمر بإقامة الصلاة مباشرة ، فإنّ واحدة من مصاديقها هي الصلاة اليومية ، وإذا ما لاحظنا في الرّوايات اشارة الى الصلاة اليومية في التّفسير فحسب فليس ذلك دليلا على الانحصار ، بل ـ كما قلنا مرارا ـ انّما هو بيان مصداق واضح قطعي.

الاهميّة القصوى للصلاة :

تلاحظ في الرّوايات المتعددة المنقولة عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والائمة الطاهرينعليهم‌السلام تعبيرات تكشف عن الاهمية الكبرى للصلاة في نظر الإسلام.

يقول ابو عثمان : كنت جالسا مع سلمان الفارسي تحت شجرة فأخذ غصنا يابسا وهزّه حتى تساقطت أوراقه جميعا ، ثمّ التفت اليّ وقال : ما سألتني لم فعلت ذلك؟!

فقلت : وما تريد؟!

قال : هذا ما كان من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حين كنت جالسا معه تحت شجرة ثمّ سألني النّبي هذا السؤال وقال : «ما سألتني لم فعلت ذلك؟».

٨٩

فقلت له : ولم يا رسول الله؟

فقال : «انّ المسلم إذا توضأ فأحسن الوضوء ثمّ صلّى الصلوات الخمس تحاتّت خطاياه كما تحاتّ هذا الورق» ثمّ قرا الآية «وَأَقِمِ الصَّلاةَ إلخ».(1)

ونقرا في حديث آخر عن احد اصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واسمه ابو امامة انّه قال : «كنت جالسا يوما في المسجد مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فجاءه رجل وقال : يا رسول الله ، أذنبت ذنبا يستوجب الحدّ فأقم عليّ الحدّ ، فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أصليت معنا؟» قال : نعم يا رسول الله ، فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «فإنّ الله غفر ذنبك» او «أسقط عنك الحد»(2) .

كما نقل عن عليعليه‌السلام انه قال : «كنّا مع رسول الله ننتظر الصلاة فقام رجل وقال : يا رسول الله ، أذنبت. فأعرض النّبي بوجهه عنه ، فلما انتهت الصلاة قام ذلك الرجل وأعاد كلامه ثانية ، فقال النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : الم تصلّ معنا وأحسنت لها الوضوء؟ فقال بلى ، فقال : هذه كفارة ذنبك»(3) .

ونقل عن عليعليه‌السلام ايضا انّه قال : «قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : انّما منزلة الصلوات الخمس لامتي كنهر جار على باب أحدكم ، فما يظن أحدكم لو كان في جسده درن ثمّ اغتسل في ذلك النهر خمس مرات ، أكان يبقى في جسده درن؟ فكذلك والله الصلوات الخمس لامتي»(4) .

وعلى كل حال ، لا مجال للشكّ في انّه متى ما ادّيت الصلاة بشرائطها فإنّها تنقل الإنسان الى عالم من المعنويّة والروحانيّة بحيث توثق علائقه الايمانية بالله ، وتغسل عن قلبه وروحه الأدران وآثار الذنوب.

الصلاة تجير الإنسان من الذنب ، تجلو صدا القلوب.

الصلاة تجذّر الملكات السامية للإنسان في اعماق الروح البشرية ، والصلاة

__________________

(1) مجمع البيان في تفسير الآية.

(2) المصدر السّابق.

(3) المصدر السّابق.

(4) المصدر السّابق.

٩٠

تقوي الارادة وتطهر القلب والروح ، وبهذا الترتيب فإنّ الصلاة الواعية الفاعلة هي مذهب تربوي عظيم.

أرجى آية في القرآن :

ينقل في تفسير الآية ـ محل البحث ـ حديث طريف عن الامام عليعليه‌السلام بهذا المضمون ، وهو انّه التفت مرّة الى الناس وقال : «اي آية في كتاب الله أرجى عندكم»؟!

فقال بعضهم :( إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ ) .

فقالعليه‌السلام : حسنة ليست ايّاها.

فقال آخرون : هي آية( قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ ) .

فقالعليه‌السلام : حسنة ليست ايّاها.

فقالوا : هي آية( وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللهَ يَجِدِ اللهَ غَفُوراً رَحِيماً ) .

قالعليه‌السلام : حسنة ليست ايّاها.

فقال آخرون : هي آية :( وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللهُ ) فقال الامام ايضا : «حسنة ليست ايّاها».

ثمّ أحجم الناس ، فقال : ما لكم يا معشر المسلمين ، فقالوا : والله ما عندنا شيء قالعليه‌السلام : «سمعت حبيبي رسول الله يقول : أرجى آية في كتاب الله( وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ذلِكَ ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ ) (1) .

__________________

(1) المصدر السابق.

٩١

وبالطبع كما ذكرنا في شرح الآية (48) من سورة النساء : انه ورد حديث آخر يشير الى ان أرجى آية في القرآن هي آية( إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ ) .

ولكن مع ملاحظة انّ كل آية من هذه الآيات تنظر الى زاوية من هذا البحث وتبيّن بعدا من الابعاد ، فلا تضادّ بينها.

وفي الواقع انّ الآية محل البحث تتحدّث عن أولئك الذين يؤدّون الصلاة بصورة صحيحة ، صلاة مع حضور القلب والروح ، بحيث تغسل آثار الذنوب عن قلوبهم وأرواحهم. امّا الآية الاخرى تتحدّث عن أولئك الذين حرموا من هذه الصلاة ، فبإمكانهم من باب التوبة ، فإذن هذه الآية لهؤلاء الجماعة أرجى آية ، وتلك الآية لأولئك الجماعة أرجى آية.

وايّ رجاء أعظم من ان يعلم الإنسان انّه متى زلت قدمه وغلب عليه هواه (دون ان يصرّ على الذنب) وحين يحل وقت الصلاة فيتوضأ ويقف امام معبوده للصلاة ، فيحسّ بالخجل عند التوجه الى الله لما قدمه من اعمال سيئة ويرفع يديه بالدعاء وطلب العفو فيغفر وتزول عن قلبه الظلمة وسوادها.

وتعقيبا على تأثير الصلاة في بناء شخصية الإنسان وبيان تأثير الحسنات على محو السيئات ، يأتي الأمر بالصبر في الآية الاخرى بعدها( وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ) .

وبالرغم من انّ بعض المفسّرين حاول تحديد معنى الصبر في هذه الآية في الصلاة ، او إيذاء الأعداء للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، الّا انّ من الواضح ان لا دليل على ذلك ـ بل ان الآية تحمل مفهوما واسعا كليا وجامعا ويشمل كل انواع الصبر امام المشاكل والمخالفات والأذى والطغيان والمصائب المختلفة ، فالصمود امام جميع هذه الحوادث يندرج تحت مفهوم الصبر.

«الصبر» اصل كلّي وأساس اسلامي ، يأتي أحيانا في القرآن مقرونا

٩٢

بالصلاة ، ولعل ذلك آت من انّ الصلاة تبعث في الإنسان الحركة ، والأمر بالصبر يوجب المقاومة ، وهذان الأمران ، اي «الحركة والمقاومة» حين يكونان جنبا الى جنب يثمران كل اشكال النجاح والموفقية.

وأساسا يتحقق عمل صالح دون صبر ومقاومة لانّه لا بدّ من إيصال الأعمال الصالحة الى النهاية ، ولذلك فإنّ الآية المتقدمة تعقب على الأمر بالصبر بثواب الله واجره إذ تقول :( إِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ) ومعنى ذلك ان العمل الصالح لا يتيسر دون صبر ومقاومة لا بأس بذكر هذه المسألة الدقيقة ، وهي انّ الناس ينقسمون الى عدّة جماعات إزاء الحوادث العسيرة الصعبة :

1 ـ فجماعة تفقد شخصيّتها فورا ، وكما يعبر القرآن( إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً ) .

2 ـ وجماعة آخرون يصمدون امام الأزمات بكل تحمّل وتجلّد.

3 ـ وجماعة آخرون بالاضافة الى صمودهم وتحملهم للأزمة ، فإنّهم يؤدّون الشكر لله.

4 ـ وجماعة آخرون يتجهون الى الأزمات والمصاعب بشوق وعشق ، ويفكرون في كيفية التغلب عليها. ولا يعرفون التعب والنصب في متابعة الأمور ، ولا يهداون حتى تزول المشاكل.

وقد وعد الله مثل هؤلاء الصابرين بالنصر المؤزر( إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ ) (1) .

وأنعم عليهم وأثابهم في الدار الاخرى بالجنّة( وَجَزاهُمْ بِما صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً ) (2) .

* * *

__________________

(1) الأنفال ، 65.

(2) سورة الإنسان ، 12.

٩٣

الآيتان

( فَلَوْ لا كانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسادِ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا ما أُتْرِفُوا فِيهِ وَكانُوا مُجْرِمِينَ (116) وَما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها مُصْلِحُونَ (117) )

التّفسير

عامل الانحراف والفساد في المجتمعات :

من اجل إكمال البحوث السابقة ذكر في هاتين الآيتين اصل اساسي اجتماعي يضمن نجاة المجتمعات من الفساد ، وهو انّه ما دام هناك في كل مجتمع طائفة من العلماء المسؤولين والملتزمين الذين يحاربون كل اشكال الفساد والانحراف ، ويأخذون على عاتقهم قيادة المجتمع فكريا وثقافيا ودينيا ، فإنّ هذا المجتمع سيكون مصونا من الزيغ والانحراف.

لكن متى ما سكت عن الحق اهله وحماته ، وبقي المجتمع دون مدافع امام عوامل الفساد ، فإنّ انتشار الفساد ومن ورائه الهلاك امر حتمي.

الآية الاولى اشارت الى القرون والأمم المتقدمة الذين ابتلوا بأشد انواع

٩٤

البلاء قائلة :( فَلَوْ لا كانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسادِ ) ثمّ تستثني جماعة فتقول :( إِلَّا قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنا ) .

هذه الجماعة القليلة وان كانت تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر ، ولكنّها كحال لوطعليه‌السلام وأسرته الصغيرة ، ونوح والمعدودين ممن آمن به ، وصالح وجماعة من اتباعه ، فإنّهم كانوا قلّة لم توفق للإصلاح العام والكلي في المجتمع.

وعلى كل حال فإنّ الظالمين الذين كانوا يشكلون القسم الأكبر من المجتمع اتبعوا لذاتهم وتنعمهم ، وكما تقول الآية :( وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا ما أُتْرِفُوا فِيهِ وَكانُوا مُجْرِمِينَ ) .

وللتأكيد على هذه الحقيقة ، تأتي الآية الثّانية لتقول : انّ هذا الذي ترون من إهلاك الله للأمم ، إنّما كان لعدم وجود المصلحين فيهم( وَما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها مُصْلِحُونَ ) .

وأحيانا يسود الظلم والفساد في المجتمع ، لكن المهم انّ الناس يشعرون بالظلم والفساد وهم في طريق الإصلاح ، وبهذا الشعور والاحساس والتحرك بخطوات في طريق الإصلاح يمهلهم الله ، ويقرّ لهم قانون الخلق حق الحياة.

ولكن هذا الاحساس متى ما انعدم وأصبح المجتمع صامتا ، وأخذ الفساد والظلم في الانتشار بكل مكان فإنّ قانون الخلق والوجود لا يعطيهم الحق في الحياة ، وهذه الحقيقة تتضح بمثال يسير في البدن قوّة ومناعة كريّات الدم البيضاء التي تواجه المكروبات والجراثيم عند دخولها البدن عن طريق الهواء او الغذاء او الماء او الجروح الجلدية إلخ

وهذه الكريّات البيضاء بمثابة الجنود المقاتلة إذ تقف بوجه المكروبات والجراثيم فتبيدها ، او على الأقل تحدّ من انتشارها ونموّها.

وبديهي ان هذه القوة الدفاعية التي تتشكل من ملايين الجنود ، لو أضربت يوما عن العمل وبقي البدن دون مدافع ، فسيكون ميدانا لهجوم الجراثيم الضارّة

٩٥

بحيث تسرع انواع الأمراض الى البدن.

وجميع المجتمعات البشرية لها مثل هذه الحالة ، فلو ارتفعت هذه القوّة المدافعة عنها وهي ما عبّر عنه القرآن ب( أُولُوا بَقِيَّةٍ ) فإن جراثيم الأمراض الاجتماعية المتوفرة في كل زاوية من المجتمع سرعان ما تنمو وتتكاثر ويسقط المجتمع صريع الأمراض المختلفة.

ان اثر( أُولُوا بَقِيَّةٍ ) في بقاء المجتمع حساس للغاية ، حتى يمكن القول : انّ المجتمع من دون «اولي بقية» يسلب حق الحياة ، ومن هنا فقد وردت الاشارة إليهم في الآية المتقدمة.

من هم( أُولُوا بَقِيَّةٍ ) ؟

كلمة «اولوا» تعني الاصحاب ، وكلمة «بقيّة» معناها واضح اي ما يبقى ، ويستعمل هذا التعبير في لغة العرب بمعنى «أولو الفضل» لانّ الإنسان يدخر الأشياء النفيسة والجيّدة لتبقى عنده ، فالمصطلح( أُولُوا بَقِيَّةٍ ) يحمل في نفسه مفهوم الخير والفضل.

ونظرا لانّ الضعفاء ـ عادة ـ يرجّحون الفرار على القرار في ميدان المواجهة الاجتماعية ، او يصيبهم الفناء ، ولا يبقى في ميدان المواجهة إلّا من يتمتع بقوّة فكرية او جسدية ، وبذلك يبقى الأقوياء فقط ، ومن هذا المنطلق ايضا تقول العرب في أمثالها : في الزوايا خبايا وفي الرجال بقايا.

كما جاءت كلمة «بقيّة» في القرآن الكريم في ثلاثة موارد وهي تحمل هذا المفهوم ، حيث نقرا في قصّة طالوت وجالوت( إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسى ) (1) .

وقرانا ايضا قصّة شعيب (في هذه السورة) مخاطبا قومه :( بَقِيَّتُ اللهِ خَيْرٌ

__________________

(1) سوره البقرة ، الآية 248.

٩٦

لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ) (1) .

وحيث نجد في قسم من التعبيرات اطلاق( بَقِيَّتُ اللهِ ) على «المهدي الموعود»عليه‌السلام فهو اشارة الى هذا الموضوع ايضا ، لانّه وجود ذو فيض وذخيرة الهية كبرى ، وهو معدّ ليطوي بساط الظلم والفساد وليرفع لواء العدل في العالم كله.

ومن هنا نعرف الحق الكبير لهؤلاء الرجال الاجلّاء الافذاذ والمكافحين للفساد ، والمصطلح عليهم ب( أُولُوا بَقِيَّةٍ ) على المجتمعات البشرية لانّهم رمز لبقاء الأمم وحياتها ونجاتها من الهلاك.

المسألة الاخرى التي تستجلب النظر في الآية المتقدمة انّها تقول :( وَما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها مُصْلِحُونَ ) .

وبملاحظة التفاوت بين كلمتي «مصلح» و «صالح» تتجلى هذه المسألة الدقيقة ، وهي انّ الصلاح وحده لا يضمن البقاء ، بل إذا كان المجتمع فاسدا ولكن افراده يسيرون باتجاه إصلاح الأمور فالمجتمع يكون له حق البقاء والحياة ايضا.

فلو انعدم الصالح والمصلح في المجتمع فإنّ من سنة الخلق ان يحرم ذلك المجتمع حق الحياة ويهلك عاجلا.

وبتعبير آخر : متى كان المجتمع ظالما ولكنه مقبل على إصلاح نفسه ، فهذا المجتمع يبقى ، ولكن إذا كان المجتمع ظالما ولم يقبل على نفسه فيصلحها او يطهرها فإنّ مصيره الى الفناء والهلاك.

المسألة الدقيقة الاخرى : انّ واحدا من أسس الظلم والاجرام ـ كما تشير اليه الآيات المتقدمة ـ هو اتباع الهوى وعبادة اللّذة وحبّ الدنيا ، وقد عبّر القرآن عن كل ذلك بـ «الترف».

فهذا التنعم والتلذذ غير المقيد وغير المشروط أساس الانحرافات في

__________________

(1) هود ، 86.

٩٧

المجتمعات المرفهة ، لانّ سكرها من شهواتها يصدها عن إعطاء القيم الانسانية الاصيلة حقّها ودرك الواقعيات الاجتماعية ، ويغرقها في العصيان والآثام.

* * *

٩٨

الآيتان

( وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (119) )

التّفسير

في الآية الاولى محل البحث اشارة الى واحدة من سنن الخلق والوجود والتي تمثّل اللبنات التحتيّة لسائر المسائل المرتبطة بالإنسان وهي مسألة الاختلاف والتفاوت في بناء الإنسان روحا وفكرا وجسما وذوقا وعشقا ، ومسألة حرية الارادة والاختيار.

تقول الآية( وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ ) . لئلا يتصور احد من الناس انّ تأكيد الله وإصراره على طاعة امره دليل على عدم قدرته على ان يجعلهم في سير واحد ومنهج واحد.

نعم ، لم يكن ـ اي مانع ـ ان يخلق جميع الناس بحكم إلزامه وإجباره على شاكلة واحدة ، ويجعلهم مؤمنين بالحق ومجبورين على قبول الايمان به لكن مثل هذا الايمان لا تكون فيه فائدة ولا في مثل هذا الاتحاد فالإيمان القسري الذي ينبع من هدف غير ارادي لا يكون علامة على شخصية

٩٩

الفرد ولا وسيلة للتكامل ، ولا يوجب الثواب كما هو الحال في خلق النحل خلقا يدفعها بحكم الغريزة الى ان تجمع الرحيق من الازهار وخلق بعوضة الملاريا خلقا يجعلها تستقر في المستنقعات ، ولا يمكن لايّ منهما ان تتخلى عن طريقتها.

الّا انّ قيمة الإنسان وامتيازه وأهم ما يتفاوت فيه عن سائر الموجودات هي هذه الموهبة ، وهي حرية الارادة والاختيار ، وكذلك امتلاك الأذواق والاطباع والأفكار المتفاوتة التي يصنع كل واحد منها قسما من المجتمع ويؤمّن بعدا من ابعاده.

ومن طرف آخر فإنّ الاختلاف في انتخاب العقيدة والمذهب امر طبيعي مترتب على حرية الارادة ويكون سببا لانّ تقبل جماعة طريق الحق وتتبع جماعة أخرى الباطل ، الّا ان يتربى الناس تربية سليمة في احضان الرحمة الالهية ويتعلموا المعارف الحقة بالاستفادة من مواهب الله تعالى لهم ففي هذه الحال ، ومع جميع ما لديهم من اختلافات ، ومع الاحتفاظ بالحريّة والاختيار ، فإنّهم سيخطون خطوات في طريق الحق وان كانوا يتفاوتون في هذا المسير.

ولهذا يقول القرآن الكريم في الآية الاخرى :( إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ ) ولكن هذه الرحمة الالهية ليست خاصّة بجماعة معينة ، فالجميع يستطيعون «شريطة رغبتهم» ان يستفيدوا منها( وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ ) .

الأشخاص الذين يريدون ان يستظلوا برحمة الله فإنّ الطريق مفتوح لهم الرحمة التي افاضها الله لجميع عباده عن طريق تشخيص العقل وهداية الأنبياء.

ومتى ما استفادوا من هذه الرحمة والموهبة ، فإنّ أبواب الجنّة والسعادة الدائمة تفتح بوجوههم ، والّا : فلا :( وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ) .

* * *

١٠٠