الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٨

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل12%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 496

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 496 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 231513 / تحميل: 7122
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٨

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

وهذه النظرية اختارها ابن البطريق (ت ٥٣٣ ـ ٦٠٠ هـ)(١) ، ووافقه عليها غيره .

وإذا ثبت أنّ معنى المولى هو الأولى بالشيء ، يكون ذلك هو المراد من آية الولاية ؛ لأنّه المعنى الوحداني والأصل للفظ الولي ، وتختلف الموارد بحسبها ، فيكون مفاد آية الولاية مفاد قوله تعالى :( النّبِيّ أَوْلَى‏ بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ ) (٢) ، الأولى بالتصرّف ، ويشهد لذلك ما نقله ابن منظور في لسان العرب ، عن ابن الأثر قوله : ( وكأن الولاية تشعر بالتدبير والقدرة والفعل ، وما لم يجتمع ذلك فيها لم ينطلق عليه اسم الوالي )(٣) ، وقريب من هذا المعنى ما ذكره بعض اللغويين في معاجمهم اللغوية .

الاستدلال على المستوى القرآني :

إنّ الآية المباركة :( إِنّمَا وَلِيّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالّذِينَ آمَنُوا ) تضمّنت دلالات وافرة لإثبات المطلوب ، ومراعاة للاختصار نكتفي بالإشارة المفهمة لبعض منها :

١ – إنّ صيغة التعبير في الآية الشريفة جعلت الولاية بمعنى واحد ، حيث قال :( إِنّمَا وَلِيّكُمُ اللهُ و ) فلو كانت ولاية الله تعالى تختلف عن ولاية( الّذِينَ آمَنُوا الّذِينَ يُقِيمُونَ الصّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ ) لكان الأنسب في التعبير أن تفرد بالذكر ولاية أخرى للمؤمنين ؛ لكي تحول

ـــــــــــــ

(١) عمدة عيون الأخبار ، ابن البطريق : ص ١١٤ ـ ١١٥ .

(٢) الأحزاب : ٦ .

(٣) لسان العرب : ابن منظور : ج ١٥ ص ٤٠٧ ؛ النهاية في غريب الحديث ، ابن الأثير : ج ٥ ص ٢٢٧ .

٦١

دون وقوع الالتباس ، نظير قوله تعالى :( قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ ) (١) ، فكرّر لفظ الإيمان في الموضعين ؛ بسبب تكرّر معنى الإيمان وتغايره فيهما .

إذن لابد أن تكون الولاية في الآية المباركة بمعنى واحد في جميع الموارد التي ذكرت فيها ، وهي الأصالة لله تعالى ، وبالتبع لرسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وللذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون .

وولاية الله تعالى في الآية المباركة ولاية عامّة وشاملة لولاية التصرف ، والتدبير ، والنصرة وغيرها ، قال تعالى حكاية عن نبيّه يوسفعليه‌السلام :( أنت وليّي في الدّنيا والآخرة ) (٢) ، وقال عزّ وجلّ :( فَمَا لَهُ مِن وَلِيّ مِن بَعْدِهِ ) (٣) ، وغيرها من الآيات الدالة على ذلك .

٢ ـ إنّ الولاية التي هي بالأصل لله عزّ وجلّ جعلها لنبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالتبع ، فلرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الولاية العامّة على الأمة ، من الحكم فيهم ، والقضاء في جميع شؤونهم ، وعلى الأمة التسليم والطاعة المطلقة بلا ضيق أو حرج ، كما في قوله تعالى :( أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرّسُولَ ) (٤) ، وقوله تعالى :( وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ) (٥) .

خصوصاً وإنّنا لا نجد القرآن يعدّ النبي ناصراً للمؤمنين ولا في آية واحدة .

ـــــــــــــ

(١) التوبة : ٦١ .

(٢) يوسف : ١٠١ .

(٣) الشورى : ٤٤ .

(٤) النساء : ٥٩ .

(٥) الأحزاب : ٣٦ .

٦٢

وهذا المعنى من الولاية الثابتة لله تعالى ورسوله ، عُطفت عليه ولاية :( الذين آمنوا ) ، وهذا يعني أنّ الولاية في الجميع واحدة ؛ لوحدة السياق وهي ثابتة لله عزّ وجلّ بالأصالة ، ولرسوله وللذين آمنوا بالتبع والتفضّل والامتنان .

إذن الولاية الثابتة في الآية لعليعليه‌السلام هي ولاية التصرّف ، وإنّ معنى الولي في الآية تعني الأولى بالتصرّف ، وممّا يؤكّد ذلك مجيء لفظ ( وليّكم ) مفرداً ونسب إلى الجميع بمعنى واحد ، والوجه الذي ذكره المفسّرون لذلك هو أنّ الولاية ذات معنى واحد ، لله تعالى أصالة ولغيره بالتبع .

الاستدلال على المستوى الروائي :

هناك عدّة من القرائن والشواهد الروائية لإثبات المطلوب :

أوّلاً : لو كانت الولاية الثابتة لعلي بن أبي طالبعليه‌السلام بمعنى النصرة ، لما وجد فيها مزيد عناية ومزيّة ومدح لعليعليه‌السلام ؛ لأنّها موجودة بين جميع المؤمنين :( وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضَهُمْ أَولِياءُ بَعْضٍ ) (١) ، وعليعليه‌السلام كان متصفاً بهذه المحبّة والنصرة للمؤمنين منذ أن رضع ثدي الإيمان مع صنوه المصطفىصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

ولكن لو أمعنّا النظر في الروايات الواردة عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عقيب

ـــــــــــــ

(١) التوبة : ٧١ .

٦٣

نزول آية الولاية ، لوجدنا أنها تثبت مويّة ومنقبة عظيمة لعليعليه‌السلام ، ففي الرواية أنّ الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال بعد نزول الآية :( الحمد لله الذي أتمّ لعلي نعمه ، وهيّأ لعلي بفضل الله إيّاه ) (١) .

وقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد نزول الآية أيضاً :( مَن كنت مولاه فعلي مولاه ، اللّهمّ والِ مَن والاه وعاد مَن عاداه ) (٢) ، إذاً في الآية الكريمة مزيد عناية تفترق عن تولّي المؤمنين بعضهم لبعض ، وليس تلك المزيّة العظيمة إلاّ ولاية التصرّف والإمرة .

ثانياً : إنّ الولاية التي خصّها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعليعليه‌السلام يوم غدير خم ، هي ولاية تدبير وتصرّف ؛ لأنّها نفس ولاية النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهذا ما نلمسه من كيفية إعلان الولاية من قِبلهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، حيث قال :( ألست أولى بكم من أنفسكم ) ، وهذه الولاية ـ التي هي ولاية تصرّف ـ هي نفسها الولاية التي تثبتها الآية الشريفة :( إنّما وليّكم ... ) لعليعليه‌السلام .

من هنا نجد أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عقّب ـ بعد نزول آية الولاية في حقّ عليعليه‌السلام ـ بقوله :( مَن كنت مولاه فعلي مولاه اللّهم والِ مَن والاه وعاد مَن عاداه ) ،

ـــــــــــــ

(١) الدر المنثور ، السيوطي : ج ٣ ص ١٠٦ .

(٢) مسند أحمد : ج ١ ص ٨٤ ، ص ١١٨ ، ص ١١٩ ، ص ١٥٢ ، ص ٣٣١ ، ج ٤ ص ٢٨١ ، ص ٣٧٠ ، ص ٣٧٢ ، ج ٥ ص ٣٤٧ ، ص ٣٦٦ ، ص ٣٧٠ ، سنن ابن ماجه : ج ١ ، ص ٤٣ ح ١١٦ ؛ الترمذي : ج ٥ ص ٢٩٧ ؛ المستدرك ، الحاكم النيسابوري : ج ٣ ص ١٠٩ ـ ١١٦ ، ص ١٣٤ ، ص ٣٧١ ، ص ٥٣٣ ؛ مجمع الزوائد ، الهيثمي : ج ٧ ص ١٧ ، ج ٩ ص ١٠٤ ـ ص ١٠٨ ص ١٦٤ ؛ وقال فيه : ( عن سعيد بن وهب رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح ) ؛ فتح الباري : ج ٧ ص ٦١؛ وقال فيه : ( فقد أخرجه الترمذي والنسائي وهو كثير الطرق جداً ، وقد استوعبها ابن عقدة في كتاب مفرد ، وكثير من أسانيدها صحاح وحسان ) ؛ صحيح ابن حبان : ج ١٥ ص ٣٧٦ وما بعد ، وغير ذلك من المصادر الكثيرة جداً ؛ فراجع .

٦٤

وهذا يكشف عن كون الولاية ولاية تصرّف ، لا سيّما إذا أخذنا بنظر الاعتبار ذلك الحشد المتنوع من الروايات الذي يؤكّد على علي بن أبي طالبعليه‌السلام ، ويقرن طاعته بطاعة الله ورسوله ، كل ذلك يكشف عن أن ولايتهعليه‌السلام هي ولاية التصرّف ، وأنّه الأولى بالتصرّف ؛ لذا قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حق عليعليه‌السلام :( مَن أطاعني فقد أطاع الله ، ومَن عصاني فقد عصى الله ، ومَن أطاعك فقد أطاعني ، ومَن عصاك فقد عصاني ) ، قال الحاكم : هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه(١) .

وعنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال :( مَن يريد أن يحيا حياتي ويموت موتي ويسكن جنّة الخلد التي وعدني ربّي ؛ فليتولّ علي بن أبي طالب فإنّه لن يخرجكم من هدى ولن يدخلكم في ضلالة ) ، قال الحاكم أيضاً : هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه(٢) .

وعن عبد الرحمان بن عثمان قال : سمعت جابر بن عبد الله يقول : سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو آخذ بضبع علي بن أبي طالب ، وهو يقول : (هذا أمير البررة ، قاتل الفجرة ، منصور مَن نصره مخذول مَن خذله ، ثم مدّ بها صوته ) ، قال الحاكم : هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه(٣) .

وغيرها الكثير من الروايات التي تشاركها بالمضمون ذاته .

ثالثاً : إنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم طلب من الله تعالى أن يشدّ عضده بأخيه

ـــــــــــــ

(١) المستدرك على الصحيحين ، الحاكم النيسابوري : ج٣ ص ١٢٨ ، تاريخ مدينة دمشق : ابن عساكر : ٤٢ : ص ٣٠٧ .

(٢) المستدرك على الصحيحين ، الحاكم النيسابوري : ج ٣ ص ١٢٨ ـ ١٢٩ .

(٣) المستدرك على الصحيحين ، الحاكم النيسابوري : ج ٣ ص ١٢٩ .

٦٥

عليعليه‌السلام ، كما شدّ الله تعالى عضد موسىعليه‌السلام بأخيه هارونعليه‌السلام ، فنزلت الآية :( إنّما وليّكم ) بشرى لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، بجعل عليعليه‌السلام وليّاً وخليفة من بعده ، وهذا يدلل على أنّ الولاية لعليعليه‌السلام لم تكن مجرّد نصرة ومحبّة ، بل كانت ولاية أولوية بالأمر بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، كما هو الحال في هارونعليه‌السلام ، باعتبار أولويته بالأمر والإمرة بعد موسىعليه‌السلام ، عندما خلّفه في قومه .

رابعاً : احتجاج أمير المؤمنينعليه‌السلام على أولويته بالأمر بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بآية الولاية ، حيث قالعليه‌السلام مخاطباً لجمع من الصحابة في مسجد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( أنشدكم الله : أتعلمون حيث نزلت : ( يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ ) ، وحيث نزلت : ( إِنّمَا وَلِيّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالّذِينَ آمَنُوا الّذِينَ يُقِيمُونَ الصّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ ) ، وحيث نزلت : ( وَلَمْ يَتّخِذُوا مِن دُونِ اللهِ وَلاَ رَسُولِهِ وَلاَ الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً ) ، قال الناس : يا رسول الله : أخاصّة في بعض المؤمنين ، أم عامة لجميعهم ؟ فأمر الله عزّ وجل نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يعلمهم ولاة أمرهم ، وأن يفسّر لهم من الولاية ما فسّر لهم من صلاتهم ، وزكاتهم ، وحجّهم ، فنصبني للناس بغدير خم ) (١) وهذا يكشف عن كون المراد بالآية هو الأولى .

وبذلك يتحصّل أنّ معنى الولي هو الأولى بالتصرّف ، وأنّ الآية بصدد جعل الولاية لعليعليه‌السلام بعد الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

ـــــــــــــ

(١) المناقب ، ابن المغازلي الشافعي : ص ٢٢٢ ، فرائد السمطين : ج ١ ص ٣١٢ ، ينابيع المودّة للقندوزي : ج ١ ص ٣٤٦ ، شواهد التنزيل ، الحسكاني : ج ٢ ص ٢٩٥ ، فرائد السمطين : ج ١ ص ٣١٢ .

٦٦

كيف تستدلّ الشيعة بشأن النزول ؟

الشبهة :

الشيعة يستدلّون بشأن نزول آية الولاية على الإمامة ؟

الجواب :

بعد أن أطبقت الأمّة وأجمع المحدّثون والمفسّرون على نزول الآية المباركة في الإمام عليعليه‌السلام مع صراحة الآية في إثبات الولاية ، ومباركة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للإمام عليعليه‌السلام بقوله :( الحمد لله الذي أتمّ لعلي النعمة ) ، لا يبقى أي مجال لمثل هذه التشكيكات والشبهات ، سواء كان الاستدلال بالآية استدلالاً مباشراً ، أم كان عن طريق شأن النزول ، الذي هو عبارة عن الأحاديث المتواترة والصحيحة والصريحة عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم التي أمرنا الله تعالى بالتمسّك بها بقوله :( وَمَا آتَاكُمُ الرّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا ) (١) ، وعليه فلا ينبغي التهاون والتقليل من شأن هذه الأحاديث القطعيّة ، كما يظهر ذلك من كلام صاحب الشبهة .

ويمكن أن نحقق استيعاباً جيداً لمسألة ولاية علي بن أبي طالبعليه‌السلام ؛ وذلك من خلال الآيات القرآنية والنصوص النبوية التي تعرّضت لبيان هذا المعنى ، فضلاً عمّا أشاعته آية الولاية من مناخ سائد حيال هذه المسألة ، من تقديم التهاني والتبريكات من قِبل الصحابة إلى عليعليه‌السلام الصحابة وإنشاد الشعر والمديح بهذه المناسبة العظيمة ، وهذا يكفي لسدّ كل منافذ الريب والتشكيك ، ومعالجة ما يطرأ على الأذهان من التباسات .

ـــــــــــــ

(١) الحشر : ٧ .

٦٧

الخلاصة

لا مجال لمثل هذه التشكيكات ، بعد أن أجمعت الأمة على نزول الآية في شأن عليعليه‌السلام ، وسواء كان الاستدلال بالآية ذاتها أم من طريق شأن النزول الثابت قطعاً كونه بخصوص عليعليه‌السلام فهو يثبت المطلوب ، ولا معنى للإصغاء لمثل هذه الأوهام .

المعروف أنّ عليّاً فقير فكيف يتصدّق ؟

الشبهة :

إنّ علياً كان فقيراً فكيف يتصدّق بالخاتم إيتاءً للزكاة ؟

الجواب :

ما أكثر المدّعيات التي تُرفع من دون أي دليل ولا برهان يدعمها ، ومن أغرب المدّعيات التي تُثار للتشكيك في صحّة نزول آية الولاية في الإمام عليعليه‌السلام هذا الإشكال الآنف الذكر ، إلا أنّنا توخّياً لدرء مثل هذه التشكيكات التي تطرأ على بعض الأذهان نقول :

أوّلاً : إنّ لفظ الزكاة لغةً شامل لكل إنفاق لوجه الله تعالى ، ونلمس هذا المعنى في عدّة من الآيات المباركة ، وكقوله تعالى:( وَأَوْصَانِي بِالصّلاَةِ وَالزّكَاةِ مَادُمْتُ حَيّاً ) (١) ، وكذا ما قاله القرآن بحق إبراهيم وإسحاق ويعقوبعليهم‌السلام :( وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصّلاَةِ وَإِيتَاءَ الزّكَاةِ ) (٢) ، وغيرها من الآيات التي تشاركها في المضمون ، ومن المعلوم أنّه ليس في شرائعهمعليهم‌السلام الزكاة المالية المصطلحة في الإسلام .

ـــــــــــــ

(١) مريم : ٣١ .

(٢) الأنبياء : ٧٣ .

٦٨

ومن هنا فقد استعمل القرآن لفظ الزكاة في الآية الشريفة بمعناها اللغوي الشامل لكل إنفاق لوجه الله تعالى أي الزكاة المستحبّة ( زكاة تطوّع ) ؛ ولذا نرى أنّ الجصاص ـ في أحكام القرآن ـ فهم أنّ المراد بالزكاة في الآية ، هي زكاة التطوّع ، حيث قال : ( قوله تعالى :( وَيُؤْتُونَ الزّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ ) ، يدلّ على أنّ صدقة التطوّع تسمّى زكاة ؛ لأنّ عليّاً تصدّق بخاتمه تطوّعاً ، وهو نظير قوله تعالى :( وَما آتَيْتُم مِن زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ ) (١) .

ثانياً : لو فرضنا أنّ المراد من الزكاة في الآية هي الزكاة الواجبة ، فليس من الغريب أن يمتلك الإمام عليعليه‌السلام أوّل نصاب من مال الزكاة وهو مقدار (٢٠٠ درهم) ، ومَن ملك ذلك لا يعدّ غنيّاً ، ولا يُطلق عليه اسم الغني شرعاً .

ثالثاً : بعد أن ثبت نزول الآية في الإمام عليعليه‌السلام بإجماع الأمة واتفاق المفسّرين والمحدّثين ، ولم ينكر أحد على الإمام عليعليه‌السلام تصدّقه بالخاتم ، وإنّما الكل فهم المزيّة والكرامة لهعليه‌السلام لا يبقى أي مجال للإنكار والتشكيك .

ومن هنا نلاحظ أنّ الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بادر المباركة للإمام عليعليه‌السلام عقيب نزول الآية الكريمة ، وقام الشعراء بإنشاء القصائد الطافحة بالمديح والثناء على الإمام عليعليه‌السلام ، كل ذلك نتيجة طبيعية للمناخ الذي أشاعته الآية في أوساط المسلمين ، من إثبات الولاية للإمام عليعليه‌السلام ، فإذا ثبت نزول الآية في الإمام عليعليه‌السلام بالدلائل والبيّنات القاطعة لا معنى للاستنكار والتشكيك ، خصوصاً وأنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حمد الله على هذه النعمة التي اتمّها لعليعليه‌السلام ، وبارك الصحابة بأقوالهم وأشعارهم للإمام عليعليه‌السلام تلك المنقبة .

ـــــــــــــ

(١) أحكام القرآن ، الجصاص : ج ٢ ص ٥٥٨ .

٦٩

الخلاصة

١ – إنّ لفظ الزكاة شامل لكلّ إنفاق لوجه الله تعالى واستعملها القرآن بذلك .

٢ ـ لو سلّمنا أنّ لفظ الزكاة في الآية استعمل في الزكاة الواجبة التي هي أقلّ نصابها ٢٠٠ درهم ، فإنّ مَن يملك هذا المبلغ لا يُعدّ غنيّاً شرعاً .

٣ – قام الإجماع على نزول آية الولاية في حق الإمام عليعليه‌السلام ، ولم ينكر أحد آنذاك ما استنكره صاحب الشبهة ، بل أنشد الشعر والمديح والثناء على الإمام عليعليه‌السلام ، مع مباركة الصحابة .

آية البلاغ تدلّ على أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يبلّغ سابقاً

الشبهة :

إنّ استدلال الشيعة بآية البلاغ على الإمامة يبطل كل الاستدلالات السابقة التي يستدلّون بها ؛ لأنّ آية البلاغ مدنية ، فتدل على أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يبلّغ سابقاً .

الجواب :

أوّلاً : لابد أن نفهم كيفية تعاطي الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مع المفاهيم والمبادئ الإسلامية المهمّة التي تمثّل الأساس في منظومة الدين الإسلامي ، والتي ينبغي التأكيد عليها من قِبلهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أكثر من غيرها ، ومن جملة المفاهيم الأساسية هي الإمامة ، حيث نلمس غاية الانسجام ومنتهى الملائمة بين جميع البيانات السابقة لإثبات الإمامة والتنصيص عليها ، فكل تلك المواقف والبيانات كانت تتناسب مع خطورة وأهميّة مبدأ كمبدأ الإمامة والولاية بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فلابد من تأسيسه وتشييد أركانه وجعله وعياً إسلامياً عاماً ، وآية البلاغ جاءت ضمن ذلك السياق وتلك الخلفية ، فهي نزلت في ذلك الظرف لتحمل في طيّاتها العديد من الأمور المهمّة التي تتعلّق بحقيقة الإمامة ، منها :

٧٠

١ ـ أنّها جاءت لتصرّح بقضية مهمة جداً ، وهي أنّ ترك تنصيب علي بن أبي طالبعليه‌السلام للولاية مساوق لترك تبليغ الرسالة بأكملها ، وهذا ما يتجلّى واضحاً عند التأمّل في الآية :( وَإِن لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النّاسِ ) (١) ، وعلى ضوء ذلك تعرف السر في نزول هذه الآية المباركة في أواخر حياة الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، حيث تكشف عن أهمية الإمامة والولاية في المنظومة الدينية ، ومن هذا المنطلق يظهر لك سبب ذلك الحشد المتنوّع من النصوص القرآنية والروائية التي تؤكّد على ضرورة وأهمية موقع الإمامة في الإسلام بأجمعه ؛ ذلك لكي ينطلق الإسلام في قيادة جديدة تكون في جميع مجالاتها وآفاقها امتداداً للقيادة النبوية ، لتبقى المسيرة مستمرة والرسالة محفوظة .

وممّا يؤكّد أهمية الإمامة والولاية هو ما نجده واضحاً في أقوال الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد تبليغ مقام الولاية وتعيين الولي للناس ، حيث قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( فليبلّغ الشاهد الغائب ) (٢) ، فإنّ اهتمامهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الشديد في إيصال خطابه الشريف إلى جميع المسلمين يكشف عن خطورة الأمر ، وأنّه ممّا تتوقّف عليه ديمومة الإسلام .

بالإضافة إلى ما يكتنف الآية المباركة من القرائن الحالية الكثيرة والواضحة الدالة على أهمية هذا الأمر ، وتأثيره المباشر على مسيرة الإسلام ، كنزولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حرّ الهجير والسماء صافية ، والمسلمون واقفون على الحصباء والرمضاء التي كادت تتوقّد من حرارة الشمس ، حتى أنّه نقل الرواة من حفّاظ الحديث وأئمّة التاريخ أنّه لشدّة الحر وضع بعض الناس ثوبه على رأسه ، وبعضهم استظلّ بمركبه ، وبعضهم استظلّ بالصخور ، ونحو ذلك .

ـــــــــــــ

(١) المائدة : ٦٧ .

(٢) كما جاء ذلك في أكثر المصادر الروائية والتفسيرية التي نقلت حديث الغدير ، وقد ذكر ابن حجر أنها (قد بلغت التواتر) ، لسان الميزان ، ابن حجر العسقلاني : ج ١ ص ٣ .

٧١

وكذلك أمرهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم برجوع مَن تقدّم ، وتقدّم مَن تأخّر .

مضافاً إلى حضور ذلك الجمع الغفير من الصحابة والمسلمين الذين حضروا لأداء مناسك الحج من سائر أطراف البلاد الإسلامية ، وغير ذلك من الأمور التي تدل على خطورة الأمر وأهميته .

٢ ـ إنّ آية البلاغ التي بلّغها الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في أواخر حياته ، جاءت تحمل في طيّاتها الإشارة إلى قضية مهمة جداً في الدين الإسلامي ، وهي تحديد معالم أطروحة الإمامة في الإسلام ، مؤكّدة على أنّ الإمامة شاملة لكل الأبعاد القيادية السياسية منها والحكومية والمرجعية وغيرها ، وأنّ منصب الخلافة والحكومة يمثّل أحد أبعاد الإمامة ، وهذا هو موضع النزاع مع أتباع مدرسة الخلفاء ، حيث إنّهم يختزلون دور الإمام في الحاكمية فقط ، فإذا لم يستلم الحكومة لا يكون إماماً ، على خلاف معتقد الشيعة الإمامية الاثني عشرية ، التي تعتقد أنّ منصب الحاكمية يمثّل أحد أبعاد الإمامة لا جميعها .

٣ ـ إنّ آية البلاغ جاء تبليغها بصيغة الإعلان الرسمي للولاية والإمامة والتتويج العام للإمام عليعليه‌السلام أمام المسلمين ، ويشهد لذلك كيفية التبليغ ، حيث جمع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الناس وأمر أن يردّ مَن تقدم منهم ومَن تأخّر عنهم في ذلك المكان ، وجمعت لهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أقتاب الإبل وارتقاها آخذاً بيد أخيه عليعليه‌السلام معمّماً له أمام الملأ صادعاً بإبلاغ الولاية ، ثم إنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم طلب بنفسه البيعة من الناس لعليعليه‌السلام ، وبادر الناس لبيعتهعليه‌السلام وسلّموا عليه بإمرة

٧٢

المؤمنين ، وهنّأوا النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعليّاًعليه‌السلام ، وأوّل مَن تقدّم بالتهنئة والبخبخة ، أبو بكر ثم عمر بن الخطاب وعثمان و...(١) ، وقد روى الطبري في كتابه الولاية بإسناده عن زيد بن أرقم أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال :( قولوا أعطيناك على ذلك عهداً من أنفسنا ، وميثاقاً بألسنتنا ، وصفقة بأيدينا ، نؤدّيه إلى أولادنا وأهلنا لا نبتغي بذلك بدلا ) (٢) .

ثم استئذان حسان بن ثابت من الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لنظم أبيات في الواقعة تدل على أنّه لم يفهم من الحديث غير معنى الخلافة والولاية .

وكذلك يؤكّد كل ما قلناه احتجاج أمير المؤمنين عليعليه‌السلام بحديث الغدير في مواضع عديدة ، حيث كان يحتج على أولئك الذين تركوا وصيّة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقولهعليه‌السلام : (أنشدكم بالله أمنكم مَن نصّبه رسول الله يوم غدير خُم للولاية غيري ؟ قالوا : اللهم ، لا ) ، وفي موضع آخر ( قال :أنشدكم بالله هل فيكم أحد قال له رسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مَن كنت مولاه ، فعلي مولاه ، اللّهمّ والِ مَن والاه وعاد مَن عاداه ، وانصر مَن نصره ، ليبلغ الشاهد الغائب ، غيري ؟ قالوا : اللّهمّ ، لا )(٣) .

ـــــــــــــ

(١) مسند أحمد : ج ٤ ص ٢٨١ ؛ المعيار والموازنة ، الإسكافي : ص ٢١٢ ؛ المعجم الكبير ، الطبراني : ج ٥ ص ٢٠٣ ؛ فيض القدير شرح الجامع الصغير : ج ٦ ص ٢٨٢ ح ١٢٠ ؛ تذكرة الخواص ، ابن الجوزي : ص ٣٦ ؛ نظم درر السمطين : ص ١٠٩ ؛ كنز العمال ، المتقي الهندي : ج ١٣ ص ١٣٤ ؛ شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ج ٥ ص ٨ ؛ المصنف لابن أبي شيبة الكوفي : ج ٧ ص ٥٠٣ ؛ شواهد التنزيل : الحاكم الحسكاني : ج ١ ص ٢٠٠ ؛ ثمار القلوب : ص ٦٣٧ ؛ وغيرها .

(٢) كتاب الولاية : محمد بن جرير الطبري : ص ٢١٤ ـ ٢١٦ .

(٣) انظر : مسند أحمد : ج ١ ص ٨٤ ؛ ج ٤ ص ٣٧٠ ؛ ج ٥ ص ٣٧٠ ؛ مجمع الزوائد ، الهيثمي : ج ٩ ص ١٠٤ ، ص ١٠٧ ؛ المصنف ، أبي شيبة الكوفي : ج ٧ ص ٤٩٩ ؛ كتاب السنّة : عمرو بن أبي عاصم : ص ٥٩١ ، ص ٥٩٣ ؛ خصائص أمير المؤمنين ، النسائي : ص ٩٦ ؛ مسند أبي يعلى : ج ١ ص ٤٢٨ ـ ٤٢٩ ح ٥٦٧ ؛ ج ١١ ص ٣٠٧ ح ٦٤٢٣ ؛ المعجم الصغير : الطبراني : ج ١ ص ٦٤ ـ ٦٥ ؛ المعجم الأوسط : ج ٢ ص ٣٢٤ ؛ المعجم الكبير : ج ٥ ص ١٧١ ؛ كنز العمال ، المتقي الهندي : ج ١١ ص ٣٣٢ ؛ الصواعق المحرقة ، ابن حجر الهيتمي : ص ١٩٥ ؛ وغيرها .

٧٣

٤ ـ لم يكتف الله تبارك وتعالى بكل البيانات السابقة من النبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتى أنزل في ولاية عليعليه‌السلام تلك الآيات الكريمة تتلى على مرّ الأجيال بكرةً وعشيّاً ؛ ليكون المسلمون على ذكر من هذه القضية في كل حين ، وليعرفوا رشدهم والمرجع الذي يجب عليهم أن يأخذوا عنه معالم دينهم ويتبعوه في قيادته .

٥ ـ لو اقتصر في تبليغ الإمامة على تلك البيانات الخاصة للرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمقتصرة على حضور بعض الصحابة ؛ لضاعت وأصبحت روايات ضعافاً ، ولما وصلت إلينا بشكل واضح ومتواتر كما جاءتنا آيات وروايات البلاغ ؛ وذلك بسبب منع تدوين حديث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في عهد الخلفاء ، ولتولّي بني أمية وأعداء أهل البيتعليه‌السلام تدوين الحديث فيما بعد .

الخلاصة

أوّلاً : إنّ تعاطي القرآن الكريم والرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مع المفاهيم الأساسية في الإسلام ـ كالإمامة ـ يختلف عن غيرها من المفاهيم الأخرى ؛ ولذا نجد أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أكّد عليها مراراً وشيّد أركانها ، مستثمراً كل مناسبة يمكن استثمارها في ذلك ، ومن هنا نلتمس أسباب كثرة البيانات والتصريحات المتكرّرة من الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؛ وذلك لكي يكون الاهتمام والتبليغ متناسباً مع أهمية ذلك الأمر ؛ ولذا نرى الانسجام والملائمة بين التبليغات النبوية ، والآيات القرآنية الواردة في هذا الصدد ، وبالخصوص آية البلاغ التي جاءت ضمن الاهتمامات القرآنية بمسألة الإمامة ، وقد حملت آية البلاغ العديد من المعطيات المهمة في مسألة الإمامة ، منها:

١ ـ إنّ الآية المباركة جاءت لتبيّن أنّ ترك تنصيب الإمام عليعليه‌السلام للولاية مساوق لترك تبليغ الرسالة بأجمعها ، كما هو واضح من قوله تعالى :( وَإِن لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلّغْتَ رِسَالَتَهُ ... ) وممّا يؤكّد أهمية هذا التبليغ للإمامة ملاحظة الظروف التي رافقت عملية التبليغ من شدّة الحرّ ، وأمر الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم برجوع المتقدّم ولحوق المتأخّر ، والجمع الغفير الذي حضرها ، كل ذلك يدل على أهمية الأمر وخطورته .

٧٤

٢ ـ إنّ تبليغ الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للآية في أواخر حياته جاء مؤكّداً على بيان أطروحة الإمامة في الإسلام ، وأنّها شاملة لكل الأبعاد القيادية السياسية والدينية والحقوقية والقضائية ، وأنّ منصب الخلافة والحكومة يمثّل أحد أبعاد الإمامة ، وهذا هو محل النزاع بين السنّة والشيعة ، حيث إنّ السنّة يختزلون دور الإمام في الحاكمية فقط .

٣ ـ إنّ آية البلاغ جاءت بصيغة الإعلان الرسمي لولاية الإمام عليعليه‌السلام كما هو واضح من خلال عملية التنصيب وطريقته ومباركة الصحابة له بالولاية وإنشاء الشعر ونحوها ، وكذلك احتجاجهعليه‌السلام بحديث الغدير في مناسبات عديدة على أحقّيّتهعليه‌السلام في الخلافة .

ثانياً : إنّ الله تعالى لم يقتصر على أمر الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالتبليغ لولاية الإمام عليعليه‌السلام ، بل هنالك عدّة من الآيات جاءت مؤكّدة لتلك الولاية لتتلى بكرةً وعشياً على مرّ الأجيال ، وتكون شاهدة وحجّة عليهم .

ثالثاً : لو اقتصر في تبليغ الولاية على البيانات الخاصة المقتصرة على حضور بعض الصحابة ، سوف يُعرّضها ذلك للضياع ، لا سيّما مع ملاحظة منع تدوين السنّة ، أو تكون من الأخبار الضعاف ، ولذا كان تبليغها في واقعة الغدير كفيلاً بأن يجعلها تصل إلى حدّ التواتر وإجماع المسلمين ، الذي لا يمكن تجاوزه .

لا وجود لاسم علي في القرآن

الشبهة :

إنّ القرآن الكريم لم ينص على إمامة عليعليهم‌السلام وإلاّ لذكر اسمه فيه .

٧٥

تمهيد:

لكي تكون الإجابة واضحة لابد من الالتفات إلى نقطتين أساسيتين ، هما :

الأُولى : القرآن تبيان لكل شيء

لا ريب أن القرآن هو الكتاب المنزل لهداية الناس فيه تبيان كل شيء ، والسنّة النبوية مفصّلة ومبيّنة له ، قال تعالى :( وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذّكْرَ لِتُبَيّنَ لِلنّاسِ مَا نُزّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلّهُمْ يَتَفَكّرُونَ ) (١) ، فأحدهما مكمّل للآخر ، والإسلام كلّه ، من عقائد وأحكام وسائر علومه وأُصوله موجود في القرآن الكريم ، أمّا شرحه وتفسيره وتجسيده ، فنجده في سنّة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من خلال حديثه وسيرته المباركة ؛ ولذا نجد أنّ الله تعالى قرن طاعته بطاعة رسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، كما في قوله تعالى :( يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ ) (٢) ، وقوله عزّ وجلّ :( يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَوَلّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ ) (٣) ، وكذلك قرن معصية الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بمعصيته تعالى ، حيث

ـــــــــــــ

(١) النحل : ٤٤ .

(٢) النساء : ٥٩ .

(٣) الأنفال : ٢٠ .

٧٦

قال :( وَمَن يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَإِنّ لَهُ نَارَ جَهَنّمَ خَالِدِينَ فَيهَا أَبَداً ) (١) ، وقوله تعالى :( فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنّي بَرِي‏ءٌ مّمّا تَعْمَلُونَ ) (٢) ، وقال تعالى أيضاً :( فَلاَ وَرَبّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتّى‏ يُحَكّمُوكَ فِيَما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمّا قَضَيْتَ وَيُسَلّمُوا تَسْلِيماً ) (٣) ، وغيرها من الآيات الكريمة .

الثانية : يجب اتباع ما أمر به الله ورسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

إنّ الله تعالى لم يجعل الخيرة للمؤمنين فيما يقضي الله ورسوله به ، كما في قوله تعالى :( وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلّ ضَلاَلاً مّبِيناً ) (٤) ، وبيّن الله تعالى أنّ الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حجّة على الخلق في قوله وفعله ، وأنّ الله جعله إماماً يقتدى به ، فقال تعالى :( وَمَا آتَاكُمُ الرّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا ) (٥) ، وقال أيضاً :( وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاّ وَحْيٌ يُوحَى ) (٦) ، وهذه مفردة مهمة جداً يجب الالتفات إليها جيداً .

وهناك روايات كثيرة متضافرة تؤكّد وتحث على الأخذ بسنّة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وتنهى عن الإعراض عن سنّتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والاكتفاء بالقرآن وحده ، وكان ذلك رائجاً ومعرفاً في أقوال الصحابة وتعاملهم ، من ذلك ما ورد في صحيح البخاري عن علقمة ، عن عبد الله قال : ( لعن الله الواشمات

ـــــــــــــ

(١) الجن : ٢٣ .

(٢) الشعراء : ٢١٦ .

(٣) النساء : ٦٥ .

(٤) الأحزاب : ٣٦ .

(٥) الحشر : ٧ .

(٦) النجم : ٣ ـ ٤ .

٧٧

الموتشمات والمتنمصات والمتفلجات للحسن ، المغيّرات خلق الله ، فبلغ ذلك امرأة من بني أسد يقال لها : أم يعقوب ، فجاءت فقالت : إنّه بلغني أنّك لعنت كيت وكيت ، فقال : ومالي لا ألعن مَن لعن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومَن هو في كتاب الله ، فقالت : لقد قرأت ما بين اللوحين فما وجدت فيه ما تقول ، قال : لئن كنت قرأتيه لقد وجدتيه ، أما قرأت :( وَمَا آتَاكُمُ الرّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا ) (١) ؟ قالت : بلى ، قال : فإنّه قد نهى عنه )(٢) ، وكذا وردت هذه الرواية بنصها في صحيح مسلم(٣) .

ومن الروايات التي وردت عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في هذا المجال ، ما جاء في سنن أبي داود والترمذي وابن ماجه ، ومسند أحمد عن أبي عبد الله بن أبي رافع عن أبيه أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال :( لا ألفين أحدكم متكئاً على أريكته يأتيه الأمر من أمري ممّا أمرت به أو نهيت عنه فيقول : لا ندري ، ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه ) (٤) ، وفي مسند أحمد بلفظ( ما أجد هذا في كتاب الله ) (٥) .

ومنها ما ورد في مسند أحمد أيضاً ، عن أبي هريرة قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( لا أعرفنّ أحداً منكم أتاه عنّي حديث وهو متكئ في أريكته ،

ـــــــــــــ

(١) الحشر : ٧ .

(٢) صحيح البخاري : ج ٣ ص ٢٨٤ ح ٤٨٨٦ .

(٣) صحيح مسلم : ج ٣ ص ١٦٧٨ ح ٢١٢٥ باب تحريم فعال الواصلة والمستوصلة .

(٤) انظر : سنن أبي داود السجستاني ، باب لزوم السنّة : ج ٤ ص ٢٠٥ ح ٤٦٠٥ ؛ سنن الترمذي : ج ٤ ص ١٤٤ ح ٢٨٠١ ، كتاب العلم ؛ باب ما نهى عنه ؛ سنن ابن ماجه ، المقدّمة : ج ١ ص ٦ ـ ٧ ، باب تعظيم حديث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والتغليظ على مَن عارضه .

(٥) مسند أحمد : ج ٦ ص ٨ .

٧٨

فيقول : أتلوا عليّ به قرآناً ) (١) ، وقال حسان بن ثابت ، كما في مقدّمة الدارمي : ( كان جبريل ينزل على النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالسنّة كما ينزل عليه بالقرآن )(٢) ، إلى غير ذلك من الروايات والأقوال ، وإنّما هذه نبذة عمّا ورد في الحثّ على الأخذ بسنّة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والنهي عن مخالفته والتشديد على مَن يهمل السنّة بحجة الاكتفاء بكتاب الله .

وعلى هذا الأساس يتضح أنّ جميع أحكام الإسلام موجودة في القرآن الكريم ، إلاّ أنّه لا يمكن معرفة تفاصيلها والوقوف على حقائقها من دون الرجوع إلى سنّة الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فإنّنا في إقامة الصلاة ـ مثلاً ـ لا نعرف كيف نصلّي من دون أن نأخذ من حديث الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كيفيّتها وشروطها وعدد ركعاتها وسجداتها وأذكارها ومبطلاتها ، وكذلك في الحج ، حيث لا يمكن أداء مناسكه من دون الرجوع إلى سنّتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واستيضاح شروطه وواجباته ومواقيته وأشواط الطواف وصلاته ، وتفاصيل السعي والتقصير وسائر مناسك الحج الأخرى .

إذن لابدّ من الرجوع إلى القرآن والسنّة النبوية معاً لأخذ تعاليم الإسلام منهما ، أمّا مَن أراد الاكتفاء بالقرآن وحده دون السنّة ، فأدنى ما نقول بحقّه : إنّه جاهل بما ورد في القرآن نفسه ، الذي يدعو لإطاعة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ( وَمَا آتَاكُمُ الرّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا ) (٣) ، وقد قال الألباني في هذا المجال : ( فحذار أيّها المسلم أن تحاول فهم القرآن مستقلاً

ـــــــــــــ

(١) مسند أحمد : ج ٢ ص ٣٦٧ ؛ سنن ابن ماجه ، المقدمة : ج ١ ص ٩ ـ ١٠ ح ٢١ ، باب تعظيم حديث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والتغليظ على مَن عارضه .

(٢) سنن الدارمي ، المقدّمة : ج ١ ص ١٤٥ ، باب السنّة قاضية على كتاب الله .

(٣) الحشر : ٧ .

٧٩

عن السنّة ، فإنّك لن تستطيع ذلك ولو كنت في اللغة سيبويه زمانك )(١) ، فمقولة حسبنا كتاب الله مقولة مخالفة لصريح القرآن الكريم .

الجواب :

بعد تلك الإطلالة السريعة نقول لصاحب الشبهة بأنّ عدم ذكر اسم عليعليه‌السلام صريحاً في القرآن يرجع إلى الأسباب التالية :

أوّلاً : عدم ذكر الاسم لحكمة إلهيّة

إنّ عدم ذكر اسم علي في القرآن لعلّه لحكمة إلهية خفيت علينا ، إذ ما قيمة عقولنا كي تحيط بكل جوانب الحكم والمصالح الإلهية ، فكم من الأمور التي قد خفيت أو أُخفيت علينا مصالحها ، قال تعالى :( يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا لاَ تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ ) (٢) ، والاعتراض على حكم الله تعالى خلاف التسليم والخضوع لأمره عزّ وجلّ .

ثانياً : الرسول الأكرم نصّ على إمامة عليعليه‌السلام

إنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد نصّ على إمامة علي أمير المؤمنينعليه‌السلام باسمه الصريح كما في حديث الغدير المتواتر ، وحديث الدار ، وحديث المنزلة ، وغيرها في مواطن كثيرة جداً ، فإذا ثبت هذا بشكل قاطع عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو القرآن الناطق الذي لا ينطق عن الهوى ، وقد أقام الحجّة علينا بأنّ الإمام بعده عليعليه‌السلام تثبت إمامته بلا ريب ، وإذا لم يذكر القرآن اسم عليّ

ـــــــــــــ

(١) صفة صلاة النبي ، الألباني : ص ١٧١ .

(٢) المائدة : ١٠١ .

٨٠

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

وجعلنا أرضهم وأرض قوم لوط ـ المتقدمة قصّتهم ـ على طريقكم( وَإِنَّهُما لَبِإِمامٍ مُبِينٍ ) فانظروا إليها وإلى عاقبة أمرهم ، واعتبروا يا أولي الألباب.

من هم أصحاب الأيكة؟

قال جمع من المفسّرين ، بالإضافة إلى أرباب اللغة : «الأيكة» : هي الأشجار المتشابكة مع بعضها ، و «أصحاب الأيكة» : هم قوم «شعيب» الذين عاشوا في بلدة مليئة بالماء والأشجار بين الحجاز والشام وكانت حياتهم مرفهة ثرية فأصيبوا بالغرور والغفلة ، فأدى ذلك إلى الاحتكار والفساد في الأرض.

وقد دعاهم شعيبعليه‌السلام إلى التوحيد ونهج طريق الحق ، مع تحذيره المكرر لهم من عاقبة أعمالهم السيئة فيما لو استمروا على الحال التي هي عليها.

ومن خلال ما بيّنته الآيات في سورة هود ، فإنّهم لم ينصاعوا للحق ولم ينصتوا لداعيه حتى جاءهم عذاب الله المهلك.

فبعد أن يئس من إصلاحهم أصابهم حرّ شديد استمر لعدّة أيّام متصلة ، وفي اليوم الأخير ظهرت سحابة في السماء اجتمعوا في ظلها ، ليتفيئوا من حر ذلك اليوم ، فنزلت عليهم صاعقة مهلكة فقطعت دابرهم عن آخرهم.

ولعل استعمال القرآن لعبارة «أصحاب الأيكة» في تسميتهم ، إشارة إلى النعم التي أعطاها الله لهم ، ولكنّهم استبدلوا الشكر بالكفر ، فأقاموا صرح الظلم والاستبداد ، فحقّت عليهم كلمة الله فأهلكوا بالصاعقة هم وأشجارهم.

وورد ذكرهم مفصلا ـ مع التصريح باسم شعيب ـ في الآيات (١٧٦) حتى (١٩٠) من سورة الشعراء.

وينبغي الالتفات إلى أنّ عبارة( فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ ) يمكن أن تشمل قوم لوط وأصحاب الأيكة معا ، بدليل ما يأتي بعدها مباشرة( وَإِنَّهُما لَبِإِمامٍ مُبِينٍ ) .

والمشهور عند المفسّرين أنّ الآية تشير إلى مدينة قوم لوط ومدينة أصحاب

١٠١

الأيكة.

وكلمة «إمام» بمعنى طريق وجادة ، لأنّها من مادة. «أمّ» ، بمعنى القصد ، حيث أنّ الإنسان حينما يسير في طريق ما إنّما يسير لأجل الوصول إلى غاية معينة أو قصد معين.

واحتمل البعض أنّ الإمام المبين هو اللوح المحفوظ ، بدلالة الآية (١٢) من سورة يس.

ولكن هذا الاحتمال مستبعد ، لأنّ القرآن هنا في صدد إعطاء درس العبرة للاعتبار ، ووجود اسم هذين البلدين في اللوح المحفوظ سيكون بعيدا عن التأثير في اعتبار الناس وتذكيرهم ، في حين أن وجود هذين البلدين على طريق القوافل والمارة يمكن أن يكون له الأثر البالغ فيهم.

فعند وقوف الناس قرب تلك الآثار وتذكر خبر أهلها وما جرى لهم من سوء العاقبة ، ربّما سيهمل دموع العابرين عند أرض قوم لوط مرّة ، وعند أرض أصحاب الأيكة مرّة أخرى فتكون تلك اللحظات لحظات اعتبار ، بعد ما عرفوا أو استذكروا ما حل بالقومين من دمار وهلاك نتيجة ظلمهم وظلالهم.

* * *

أمّا «أصحاب الحجر» فهم قوم عصاة عاشوا مرفهين في بلدة تدعى «الحجر» وقد بعث الله إليهم نبيّه صالحعليه‌السلام لهدايتهم.

ويقول القرآن عنهم :( وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ ) !

ولكن أين تقع هذه البلدة؟

يذكر بعض المفسّرين والمؤرخين : أنّها كانت على طريق القوافل بين المدينة والشام في منزل يسمى (وادي القرى) في جنوب (تيماء) ولا أثر لها اليوم ـ تقريبا.

١٠٢

ويذكرون أنّها كانت إحدى المدن التجارية في الجزيرة العربية ، ولها من الأهمية بحيث ذكرها (بطليموس) في مذكراتها لكنها إحدى المدن التجارية.

وكذلك ذكرها العالم الجغرافي (بلين) باسم (حجري).

ونستشف من بعض الرّوايات أنّ الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عند ما قاد جيشا لدفع جيش الروم في السنة التاسعة للهجرة ، أراد الجنود أن يتوقفوا في هذا المكان ، فمنعهم النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقال : هنا نزل عذاب الله على قوم ثمود(١) .

ومن الجدير ذكره أنّ القرآن الكريم ذكر مسألة تكذيب الأنبياء في خبر أصحاب الحجر (وكذلك قوم نوح وقوم شعيب وقوم لوط في الآيات (١٠٥ و ١٢٣ و ١٦٠) من سورة الشعراء) بالإضافة إلى أقوام أخر كذبت الأنبياءعليهم‌السلام ، والواضح من خلال ظاهر القصص أن لكل قوم كان نبيّ واحد لا أكثر.

ولعل مجيء هذا التعبير في هذه الآية (المرسلين) ، باعتبار أنّ الأنبياء لهم برنامج واحد وهدف واحد ، وبينهم من درجة من الصلة بحيث أن تكذيب أيّ منهم هو تكذيب للجميع.

واحتمل آخرون وجود أكثر من نبي وسط الأمّة الواحدة ، وذكر اسم أحدهم لأنّه أكثر شهرة.

وكما يبدو فإنّ التّفسير الأوّل أقرب إلى الصواب منه إلى الثّاني.

ويستمر القرآن بالحديث عن «أصحاب الحجر» :( وَآتَيْناهُمْ آياتِنا فَكانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ ) وموقف الأعراض المشار إليه ـ كما يبدو ـ هو عدم استعدادهم لسماع الآيات والتفكر بها.

وتشير الآية إلى أنّهم كانوا من الجد والدقّة في أمور معاشهم وحياتهم الدنيوية حتى أنّهم( وَكانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً آمِنِينَ ) .

__________________

(١) أعلام القرآن ، الخزائلي ، الصفحة ٢٩٢.

١٠٣

وهو ما يبيّن لنا أنّ منطقتهم كانت جبلية ، بالإضافة إلى ما توصلوا إليه من مدنية متقدمة ، حيث أصبحوا يبنون بيوتهم داخل الجبال ليأمنوا من السيول والعواصف والزلازل.

والعجيب من أمر الإنسان ، أنّه يحزم أمره لتجهيز وتحصين مستلزمات حياته الفانية ، ولا يعير أيّ اهتمام لحياته الباقية ، حتى يصل به المال لأن لا يكلف نفسه بسماع آيات الله والتفكر بها!!.

وأيّ عاقبة ينتظرون بعد عنادهم وكفرهم غير أن يطبق عليهم القانون الإلهي الموعدين به (البقاء للإصلاح) وعدم إعطاء حق إدامة الحياة لأقوام فاسدين ومفسدين فليس لهؤلاء سوى البلاء المهلك ، ولهذا يقول القرآن :( فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ ) .

وكانت «الصيحة» عبارة عن صوت صاعق مدمر نزل على دورهم وكان من القّوة والرهبة بحيث جعل أجسادهم تتناثر على الأرض.

والشاهد على ما قلناه ما تحدثنا به الآية الثّالثة عشر من سورة فصلت :( فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ ) .

فالعذاب الإلهي لا تقف أمامه الجبال الشاهقة ، ولا البيوت المحصنة ، ولا الأبدان القوية أو الأموال الوافرة ، ولهذا يأتي في نهاية قصتهم( فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ ) .

وجاءت الآيات (١٤١ إلى ١٥٨) من سورة الشعراء بتفصيل أكثر ، وهو ما سيأتي في محله إن شاء الله تعالى.

* * *

١٠٤

الآيات

( وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ (٨٥) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ (٨٦) وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ (٨٧) لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ (٨٨) وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ (٨٩) كَما أَنْزَلْنا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ (٩٠) الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ (٩١) )

التّفسير

يعود القرآن بعد طرح قصص الأقوام السالفة ـ كقوم لوط وقوم شعيب وصالح ـ إلى مسألة التوحيد والمعاد ، لأنّ سبب ضلال الإنسان يعود إلى عدم اعتناقه عقيدة صحيحة ، ولعدم ارتباطه بمسألة المبدأ والمعاد ، فيشير إليهما معا في آية واحدة( وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِ ) .

فنظامها محسوب ومحكم وهو حق ، وكذا هدف خلقها حقّ.

فيكون هذا النظام البديع والخلق الدقيق المنظم دليلا واضحا على الخالق

١٠٥

العالم القادر جلّ وعلا ، وهو حق أيضا ، بل هو حقيقة الحق ، وكل حق بما هو متصل بوجوده المطلق فهو حق ، وكل شيء لا يرتبط به سبحانه فهو باطل وهذا ما يخصّ التوحيد أمّا في المعاد فيقول :( وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ ) وإن تأخرت فإنّها آتية بالنتيجة.

ولا يبعد أن تكون الفقرة الأولى بمنزلة الدال على الفقرة الثّانية ، لأنّ هذا العالم إنّما يكون حقا عند ما يكون لهذه الأيّام الدنيوية المليئة بالآلام والمتاعب هدف عال يبرر خلق هذا الوجود الكبير ـ فليست الدنيا لنحياها وتنتهي ـ ولهذا فمسألة خلق السماوات والأرض وما بينهما حقّ يدل على وجود يوم القيامة والحساب ، وإلّا لكان الخلق عبثا وليس حقّا ـ فتأمل.

وبعد ذلك يأمر الله تعالى نبيّه الكريمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يقابل عناد قومه وجهلهم وتعصبهم وعداءهم بالمحبّة والعفو وغض النظر عن الذنوب ، والصفح عنهم بالصفح الجميل، أي غير مصحوب بملامة( فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ ) .

لأنّك تملك الدليل الواضح على ما أمرت بالدعوة إليه ، فلا تحتاج وإيّاهم إلى الخشونة لتثبيت عقيدة المبدأ والمعاد في قلوب الناس ، فالعقل والمنطق السليم معك.

بالإضافة إلى أنّ الخشونة مع الجهلة غالبا ما تؤدي بهم إلى الرد بالمثل ، بل وبأشد من ذلك.

الصفح : هو وجه كل شيء ، كوجه الصورة(١) ، ولهذا فقد جاءت كلمة «فاصف» بمعنى أدر وجهك وغض النظر عنهم.

وبما أنّ إدارة الوجه وصرفه عن الشيء قد تعطي معنى عدم الاهتمام والنفرة وما شابه ذلك بالإضافة لمعنى العفو والصفح ، فقد ذكرت الآية المتقدمة كلمة

__________________

(١) يقول الفيروزآبادي ، في القاموس ، ج ١ ، ص ٢٤٢ : الصفح : الجانب ، ومن الجبل مضطجعه ، ومنك جنبك ، ومن الوجه والسيف عرضه.

١٠٦

«الجميل» بعد «الصفح» لكي تحدد المعنى الثّاني.

وفي رواية عن الإمام علي بن موسى الرضاعليه‌السلام في تفسير هذه الآية أنّه قال : العفو من غير عتاب(١) .

وروي مثل ذلك عن الإمام زين العابدينعليه‌السلام (٢) .

الآية التالية ـ كما يقول جمع من المفسّرين ـ بمنزلة الدليل على وجوب العفو والصفح الجميل ، حيث يقول :( إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ ) .

فالله يعلم بأنّ الناس ليسوا سواسية من جهة الطبائع والمستويات الفكرية والعاطفية وهو سبحانه مطلع على ما تخفيه صدورهم ، وينبغي معاملتهم بروحية العفو والمسامحة ليهتدوا إلى طريق الحق بأسلوب الإصلاح المرحلي أو التدريجي.

ولا يرمز ذلك إلى الجبر في أعمال الناس وسلوكهم ، بقدر ما هو إشارة إلى أمر تربوي يأخذ بنظر الاعتبار اختلاف الناس في القابليات.

وممّا يجدر ذكره تصور البعض أنّ الأمر الإلهي مختص بفترة حياة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في مكّة قبل الهجرة ، وعند ما هاجرصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى المدينة أصبح للمسلمين القدرة والقوّة فنسخ هذا الأمر وجاء الجهاد بدله.

ولكننا نجد ورود هذا الأمر في السور المدنية أيضا (كسورة البقرة وسورة النّور والتغابن والمائدة) ، فبعض منها يأمر النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالعفو والصفح ، والبعض الآخر يأمر المؤمنين بذلك.

فيتّضح لنا أنّ أمر الصفح عام ودائم ، وهو لا يعارض أمر الجهاد أبدا ، فلكلّ محله الخاص به.

فإذا كان الموقف يستدعي العفو والتسامح ، فلم لا يؤخذ به! وإذا كان مدعاة

__________________

(١) تفسير نور الثقلين ، ج ٣ ، ص ٢٧.

(٢) المصدر السّابق.

١٠٧

للتجرؤ والجسارة من قبل الأعداء ولا ينفع معهم إلّا الشدة ، فلا مناص حينئذ من الأخذ بأمر الجهاد.

ثمّ يواسي الله تعالى نبيّه الكريمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن لا تقلق من وحشية الأعداء وكثرتهم وما يملكون من إمكانات مادية واسعة ، لأنّ الله أعطاك ما لا يقف أمامه شيء( وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ ) .

وكما هو معلوم ، فإنّ «السبع» هم العدد سبعة ، و «المثاني» هو العدد اثنان ، ولهذا اعتبر أكثر المفسّرون أنّ «سبعا من المثاني» كناية عن سورة الحمد ، والرّوايات كذلك تشير لهذا المعنى.

والداعي لذلك كونها تتألف من سبع آيات ، لأهميتها وعظمة محتواها فقد نزلت مرتين على النّبي محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أو لأنّها تتكون من قسمين (فنصفها حمد وثناء للهعزوجل والنصف الآخر دعاء عبادة) ، أو لأنّها تقرأ مرّتين في كل صلاة(١) .

واحتمل بعض المفسّرين أن «السبع» إشارة إلى السور السبع الطول التي ابتدأ بها القرآن ، و «المثاني» كناية عن نفس القرآن ، لأنّه نزل مرتين على النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مرّة بصورة كاملة ، وأخرى نزل نزولا تدريجيا حسب الاحتياج إليه في أزمنة مختلفة.

وعلى هذا يكون معنى( سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي ) سبع سور مهمات من القرآن.

ودليلهم في ذلك الآية الثّالثة والعشرون من سورة الزمر ، حيث يقول تعالى :( اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ ) ، أي مرتين على النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

ولكنّ التّفسير الأوّل يبدو أكثر صوابا ، خصوصا وأنّ روايات أهل البيتعليهم‌السلام تشير إلى أنّ «السبع المثاني» هي سورة الحمد.

واعتبر الراغب في مفرداته أنّ كلمة «المثاني» أطلقت على القرآن لما يتكرر

__________________

(١) وفي حديث عن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إنّ الله عزوجل قال : قسّمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ، نصفها لي ونصفها لعبدي» مجمع البيان ، ج ١ ، ص ١٧ ، وراجع كذلك تفسير نور الثقلين ، ج ٣ ، ص ٢٨ و ٢٩.

١٠٨

من قراءة آياته ، وهذا التكرار هو الذي يحفظه من التلاعب والتحريف (إضافة إلى أنّ حقائق القرآن تتجلى في كل زمان بشكل جديد ينبغي له أن يوصف بالمثاني).

وعلى أية حال ، فذكر عبارة «القرآن العظيم» بعد ذكر سورة الحمد ، بالرغم من أنّها جزء منه ، دليل آخر على شرف وأهمية هذه السورة المباركة ، وكثيرا ما يذكر الجزء مقابل الكل لأهميته ، وهو كثير الاستعمال في الأدب العربي وغيره.

وخلاصة المطاف أنّ الله تعالى قد صرّح لنبيّه الكريمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأنّك قد ملكت سندا عظيما (القرآن) ، ولا تستطيع أي قوة في عالم الوجود أن تصرعه.

سندا كلّه نور ، بركة ، دروس تربوية ، برامج عملية ، هداية وتسديد ، وبالذات سورة الفاتحة منه التي لها من المحتوى والأثر بحيث لو ارتبط العبد بربّه ولو للحظة واحدة لحلّقت روحه لساحة قدس الربّ ، وهي تعيش حال التعظيم والتسليم والمناجاة والدّعاء.

وبعد هذه الهبة العظيمة بأمر الله تعالى نبيّه الكريمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأربعة أوامر فيقول له أوّلا :( لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ ) (١) .

فمتع الحياة الدنيا ليست دائمة ولا خالية من التبعات ، والحفاظ عليها أمر صعب في أحسن الحالات.

ولهذا ، لا تستحق الاهتمام بها مقابل ما أعطاك اللهعزوجل من العطاء المعنوي الجزيل (أي القرآن).

ثمّ يقول في الأمر الثّاني :( وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ ) لما عندهم من أموال ونعم مادية.

فالأمر الأوّل في الحقيقة يتعلق بعدم الاهتمام والتوجه نحو النعم المادية ، والأمر الثّاني يتعلق بعدم التأثر لفقدانها.

__________________

(١) أزواجا : مفعول (متعنا). ومنهم : جار ومجرور متعلق بفعل مقدر. فيكون المعنى إجمالا : مجموعات مختلفة من الكفار.

١٠٩

وقد جاء ما يشبه هذا المضمون في الآية (١٣١) من سورة طه حيث يقول جل وعلا بتفصيل أكثر :( وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقى ) .

والأمر الثّالث : جاء بخصوص ضرورة اللين والتواضع مع المؤمنين حيث يقول :( وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ ) .

إنّ هذا التعبير ، كناية جميلة عن التواضع والمحبّة والملاطفة ، فالطيور حينما تريد إظهار حنانها لفراخها تجعلها تحت أجنحتها بعد خفظها ، فتجسّم بذلك أعلى صور العاطفة والحنان وتحفظهم من الحوادث والأعداء ، وتحميهم من التشتت.

والتعبير المذكور عبارة عن كناية مختصرة بليغة ذات مغزى ومعان كثيرة جدّا.

ويمكن أن يحمل ذكر هذه الجملة بعد الأوامر الثلاثة المتقدمة إشارة تحذير بعدم إظهار التواضع والانكسار أمام الكفار المتنعمين بزهو الحياة الدنيا ، بل لا بدّ للتواضع والحب والعاطفة الفياضة لمن آمن وإن كان محروما من مال الدنيا.

ونصل إلى الأمر الرّابع : وقل لهؤلاء الكفرة المنعمين بكل حزم( إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ ) .

قل : أنذركم من أمر الله بنزول عذابه عليكم( كَما أَنْزَلْنا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ ) (١) ، أي الذين قسّموا الآيات القرآنية أصنافا ، فما كان ينفعهم أخذوه ، وما لا ينسجم ومشتهياتهم تركوه.

فبدل أن يتخذوا كتاب الله هاديا وقائدا لهم ، جعلوه كآلة بأيديهم ووسيلة للوصول لأهدافهم الشريرة ، فلو وجدوا فيه كلمة واحدة تنفعهم لتمسكوا بها ، ولو وجدوا ألف كلمة لا تنسجم مع منافعهم الدنيوية لتركوها بأجمعها!!

* * *

__________________

(١) عضين : (جمع عضة) أي التفريق ، ويقال لكل جزء ممّا قسم عضين أيضا.

١١٠

بحوث

١ ـ القرآن عطاء إلهي عظيم

يخبر الله تعالى في الآيات المذكورة نبيّه الكريمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبعنوان تنبيه لجميع مسلمي العالم ، أن هذا القرآن جعل في اختياركم ، وفيه من العطاء ما لا يعد ، وليكن رأس مالكم الذي تتعاملون فيه في حياتكم ، ولو عملتم به لجعلتم دنياكم كلها سعادة ورفاه وأمن وصلاح.

وهذه حقيقة يعترف بها حتى غير المسلمين ، فهم يعتقدون بأنّ المسلمين إذا أخذوا القرآن وجعلوه أساس حياتهم ، وعملوا بأحكامه وهديه ، فسيكونون من القوّة والتقدم بحيث لا يسبقهم في ذلك أحد.

فنرى مثلا ، سورة الحمد «سبعا من المثاني» والتي تسمّى «خاتمة الكتاب» لوحدها تمثل مدرسة كاملة للحياة :

فأوّلها يشير إلى خالق الوجود الذي يربي جميع أهل العالم في مسيرة تكاملية شاملة، هذا الخالق الذي وسعت رحمته «خاصّة» وعامّة كل شيء ثمّ تشير إلى محكمة العدل الإلهية التي يكفل الإيمان بها خلق رقابة دقيقة على جميع سلوكيات الإنسان ونواياه.

ثمّ الإشارة إلى عدم الاتكال على غير الله ، وعدم الخضوع والتسليم لغيره لتتهيأ الأرضية الصالحة للسير على صراطه المستقيم الذي لا عوج فيه ولا ميل له إلى شرق ولا إلى غرب ، كما أنّه ليس فيه إفراط ولا تفريط ، وكذلك ليس فيه ضلال ولا غضب من اللهعزوجل .

إنّها جملة أمور ، لو تمثلها الإنسان وبنى عليها كيانه ، لكانت كفيلة بأن تجعل له شخصية سامية متكاملة.

وللأسف الشديد فقد وقع هذا العطاء الإلهي بأيدي أناس لم يعرفوا جلالة قدره ، ولم يغور والعمق معناه ، بل إنّهم من الجهل بمكان حتى وصل بهم الأمر أن

١١١

تركوا تلك الآيات الرّبانية المنجية من التيه والضلال والجهل ، وركضوا لاهثين وراء من ملكته شهواته ومن لم يصل إلى أدنى درجات النضج الفكري ، ليستجدوا منهم القوانين والبرامج التربوية التي صنعها جهلهم المتلبس بلباس العلم والتقدم! فهؤلاء المساكين يبيعون أغلى ما عندهم بثمن بخس ، ويشترون به ما يبعدهم عن بناء أخراهم!

ولا يعني هذا بأنّا ضد التقدم التقني ، بل علينا أن لا نحصر كل أنفسنا في هذا الجانب من الحياة الإنسانية ففي الوقت الذي نجد في القرآن تلك العيون الفياضة بالمعنويات ، نراه كذلك صاحب برامج حيوية في مجالات التقدم والرفاه الماديين ، وهذا ما أوضحناه في الآيات المتقدمة وما سنزيد فيه في الآيات القادمة إن شاء الله تعالى.

٢ ـ الطمع بما عند الغير مصدر الانحطاط

هناك الكثير من أصحاب العيون الضيقة الذين يلاحظون هذا وذاك باستمرار بعيون ملؤها الطمع والجشع!

لقد دأب هؤلاء على قياس حالهم وحال الآخرين ويغتمون غما شديدا فيما لو وجدوا أن شيئا من الحاجات المادية الحياتية ناقصا عندهم ، فيبذلون كل شيء في سبيل الحصول عليها حتى وإن كلفهم ذلك خسارة القيم الإنسانية وبيع كرامتهم!

هذا نمط من التفكير ينم عن حالة التخلف ، ويكشف عن الشعور بعقدة الحقارة ونقص الهمة. وهو من العوامل الفاعلة في تخلف الإنسان في حياته ، وعلى كافّة الأصعدة.

والشخص المستقل لا يتعامل مع مجريات الحياة بذلك النمط من التفكير المتخلف ، وإنّما يستعمل قواه الفكرية والجسمانية في طريق رشده وتكامله ، فهو

١١٢

كمن يحدث نفسه قائلا : بما أنّه لا ينقصني عن الآخرين شيء ، ولا يوجد دليل على عدم استطاعتي التقدم أكثر منهم أو الوصول لمصافهم فلما ذا أمد عيني لما متع به الآخرين من مال وجاه وما شاكل

فصاحب الشخصية المستقلة لا يربط هدفه ومقصده من الحياة بالجوانب المادية البحتة فقط ، بل يطلبها لإشباع ما يحتاجه روحيا وتربويا ، ويطلبها لكي يحفظ بها استقلاله وحريته ، ولكي لا يكون عالة على الآخرين ، فهو لا يطلبها بحرص ، ولا يطلبها بكل ما يملك ، لأنّ ذلك ليس بيع الأحرار ، ولا هو بيع عباد الله الصالحين.

ونختم الحديث بالحديث النّبوي الشريف : «من رمى ببصره ما في يد غيره كثر همّه ولم يشف غيظه»(١) .

٣ ـ تواضع القائد

لقد أوصي النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مرارا من خلال القرآن أن يكون مع المؤمنين متواضعا ، محبّا، سهلا ورحيما ، والوصايا ليست منحصرة بخصوص نبي الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، بل هي عامّة لكل قائد وموجّه ، سواء كانت دائرة قيادته واسعة أم محدودة ، فعليه أن يأخذ بهذا الأصل الأساسي في الإدارة والقيادة الصحيحة.

إنّ حبّ وتعلق الأفراد بقائدهم من الأسس الفاعلية لنجاح القائد ، وهذا ما لا يتحقق من دون تواضعه وطلاقه وجهه وحبّه لخير أفراده.

أمّا خشونة وقساوة القائد فلا تؤدي إلّا إلى فصم رابطة الالتحام بينه وبين الأفراد ممّا يؤدي إلى تفرق وتشتت الناس عن قائدهم.

قال أمير المؤمنين عليعليه‌السلام في رسالته إلى محمّد بن أبي بكر : «فاخفض لهم

__________________

(١) تفسير الصافي ، في تفسير الآيات مورد البحث.

١١٣

جناحك وأن لهم جانبك وابسط لهم وجهك وآس بينهم في اللحظة والنظرة»(١) .

٤ ـ من هم المقتسمون؟

إنّ التوجيهات الإلهية بلا شك تراعى فيها المصلحة العامّة ومصلحة الأفراد بصورة عامة ، ولكن البعض منها قد يوافق مصالحنا الشخصية بحسب الظاهر والبعض الآخر على خلافها. ومن خلال قبول أو رفض ما يدعونا إليه الله يمحص المؤمن الخالص من المدعي للإيمان ، فالذي يقبل كل شيء نازل من الله ويسلم له ، حتى وإنّ ظاهرة لا يتوافق مع مصلحته ، ويقول «كل من عند ربّنا» ولا يجرأ على تجزئه أو تقسيم أو تبعيض الأحكام الإلهية فذلك هو المؤمن حقّا.

أمّا الذين استفحل المرض في قلوبهم فيحاولون تسخير دين الله وأحكامه لخدمة مصالحهم الشخصية ، فيقبلون ما يدعم منافعهم ويتركون غيره ، فتراهم يجزؤون الآيات القرآنية ، بل وتراهم في بعض الأحيان يجزؤون الآية الواحدة ، فما يوافق ميولهم احتذوا به ويتركون القسم الباقي من الآية! ولكن من القبح أن نردد ما قاله بعض الأقوام السابقة( نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ ) فهذا شأن عبيد الدنيا.

أمّا معيار تشخيص أتباع الحق من أتباع الباطل فمن خلال التسليم للأوامر والتوجيهات الإلهية التي لا تنسجم مع الميول والأهواء والمنافع الدنيوية ، فمن هنا يعرف الصادق من الكذاب والمؤمن من المنافق.

وتجدر الإشارة هنا إلى وجود تفاسير أخرى لمعنى المقتسمين (غير ما ذكرناه) ، حتى أنّ القرطبي قد ذكر في تفسيره سبعة آراء في معنى هذه الكلمة ، إلّا أنّ أكثرها خال من القرينة ، والبعض الآخر لا يخلو من مناسبة وهو ما سنذكره

__________________

(١) نهج البلاغة ، قسم الرسائل ، الرسالة ٢٧.

١١٤

أدناه :

فمنها أنّ جمعا من رؤوس المشركين كانوا يقفون في أيّام الحج على رؤوس طرق وأزقة مكّة ، ويشرع كل واحد منهم بالسخرية والاستهزاء بالنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والقرآن لينفروا الناس عنه.

فبعض يقول : إنّه «مجنون» فإنّ ما يقوله ليس بموزون

وبعض يقول : إنّه «ساحر» وقرآنه نوع من السحر

وبعض يقول : إنّه «شاعر» والنغمة البلاغية للآيات السماوية هي شعر

وبعض يقول : إنّه «كاهن» وإنّ أخبار القرآن الغيبية هي نوع من الكهانة.

وقد سمي هؤلاء بالمقتسمين لتقسيمهم شوارع وأزقة مكّة ومعابرها بينهم ضمن خطة دقيقة ومحسوبة.

ولا مانع من دخول هذا التّفسير وما ذكرناه معا ضمن مفهوم الآية المبحوثة.

* * *

١١٥

الآيات

( فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (٩٢) عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (٩٣) فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (٩٤) إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (٩٥) الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (٩٦) وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ (٩٧) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (٩٨) وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (٩٩) )

التّفسير

إصدع بما تؤمر!

يبيّن القرآن في أواخر سورة الحجر مصير المقتسمين الذين ذكروا في الآيات السابقة فيقول :( فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ ) .

إنّ عالم السر والعلن ومن لا يخفى عليه ذرة ما في السماوات والأرضين لا يسأل لكشف أمر خفي عليه (سبحانه وتعالى عن ذلك) ، وإنّما السؤال لتفهيم المسؤول قبح فعله ، أو كون السؤال نوعا من العقاب الروحي ، لأنّ الجواب سيكون عن أمور قبيحة ومصحوبا باللوم والتوبيخ ، وذلك ما يكون له بالغ الأثر في ذلك المقام ، حيث أنّ الإنسان عندها أقرب ما يكون إلى الحقائق وإدراكها.

١١٦

وعلى هذا الأساس فالسؤال قسم من العقاب الروحي.

وعموم قوله تعالى :( عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ ) يرشدنا إلى أنّ السؤال سيكون عن جميع أفعال الإنسان بلا استثناء ، وهو درس بليغ كي لا نغفل عن أفعالنا.

أمّا ما اعتبره بعض المفسّرين من اختصاص السؤال عن التوحيد والإيمان بالأنبياء ، أو هو مرتبط بما يعبد المشركون فهو كلام بلا دليل ، ومفهوم الآية عام.

وقد يشكل البعض من كون الآية المتقدمة تؤكّد على أنّ الله تعالى سيسأل عباده ، في حين نقرأ في الآية التاسعة والثلاثين من سورة الرحمن( فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌ ) .

وقد أجبنا عن ذلك سابقا ، وخلاصته : في القيامة مراحل ، يسأل في بعضها ولا يسأل في البعض الآخر حيث تكون الأمور من الوضوح بحيث لا تستوجب السؤال ، أو أن لا يكون السؤال باللسان ، وهذا ما نستنتجه من الآية الخامسة والستين من سورة يس حيث تشير إلى غلق الأفواه وبدأ أعضاء البدن ـ حتى الجلد ـ بالسؤال.(١)

ثمّ يأمر الله تعالى نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقوله( فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ ) ، أي لا تخف من ضوضاء المشركين والمجرمين ، ولا تضعف أو تتردد أو تسكت ، بل أدعهم إلى رسالتك جهارا.

( وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ ) ، ولا تعتن بهم.

«فاصدع» ، من مادة (صدع) وهي لغة بمعنى «الشق» بشكل مطلق ، أو شق الأجسام المحكمة بما يكشف عمّا في داخلها ، ويقال أيضا لألم الرأس الشديد (صداع) وكأنّه من شدته يريد أن يشق الرأس!

وهي هنا بمعنى : الإظهار والإعلان والإفشاء.

__________________

(١) لمزيد من الإيضاح ، راجع ذيل تفسير الآية (٧) من سورة الأعراف.

١١٧

وعلى أية حال فالإعراض عن المشركين هنا بمعنى الإهمال ، أو ترك مجاهدتهم وحربهم ، لأنّ المسلمين في ذلك الوقت لم تصل قدرتهم ـ بعد ـ لمستوى المواجهة مع الأعداء وحربهم.

ثمّ يطمئن الله تعالى نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تقوية لقلبه :( إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ ) .

أنّ مجيء الفعل بصيغة الماضي في هذه الآية مع أنّ المراد المستقبل يشير إلى حتمية الحماية الرّبانية ، أيّ : سندفع عنك شهر المستهزئين ، حتما مقضيا.

وقد ذكر المفسّرون رواية تتحدث عن ست جماعات (أو أقل) كان منهم يمارس نوعا من الاستهزاء تجاه النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

فكلما صدع النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالدعوة قاموا بالاستهزاء تفريقا للناس من حولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، إلا أنّ الله تعالى ابتلى كلا منهم بنوع من البلاء ، حتى شغلهم عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، (وقد ورد تفصيل تلك الابتلاءات في بعض التفاسير).

ثمّ يصف المستهزئين :( الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ) .

كأن القرآن يريد أن يقول : إنّ أفكار وأعمال هؤلاء بنفسها عبث سخف حيث يعبدون ما ينحتونه بأيديهم من حجر وخشب ، ودفعهم جهلهم لأن يجعلوا مع الله ما صنعوا بأيديهم آلهة! ومع ذلك يستهزءون بك!

ولمزيد من التأكيد على اطمئنان قلب النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، يضيف تعالى قائلا :( وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ ) . فروحك اللطيفة وقلبك الطيب الرقيق لا يتحملان تلك الأقوال السيئة وأحاديث الكفر والشرك ، ولذلك يضيق صدرك.

ولكن لا تحزن من قبح أقوالهم( فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ ) .

لأنّ تسبيح الله يذهب أثر أقوالهم القبيحة من قلوب أحباء الله ، هذا أوّلا

وثانيا ، يعطيك قدرة وقوّة ونورا وصفاء ، ويخلق فيك تجليا وانفتاحا ، ويقوي ارتباطك مع الله ، ويقوي إرادتك ويثبت فيك قدرة أكبر للتحمل والثبات والمجاهدة في قبال أعداء الله.

١١٨

ولهذا نقرأ في رواية نقلا عن ابن عبّاس أنّه قال : كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا أحزنه أمر فزع إلى الصلاة.

ثمّ يعطي الله نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم آخر أمر في هذا الشأن :( وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ ) .

المعروف والمشهور بين المفسّرين أنّ المقصود من «اليقين» هنا الموت ، وسمّي باليقين لحتميته ، فربما يشك الإنسان في كل شيء ، إلّا الموت فلا يشك فيه أحد قط.

أو لأنّ الحجب تزال عن عين الإنسان عند الموت فتتّضح الحقائق أمامه ويحصل له اليقين.

وفي الآيتين السادسة والأربعين والسابعة والأربعين من سورة المدّثر نقرأ عن لسان أهل جهنم :( وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ حَتَّى أَتانَا الْيَقِينُ ) أي الموت.

ومن هنا يتّضح خطأ ما نقل عن بعض الصوفية من أنّ الآية أعلاه دليل على ترك العبادة. فقالوا : أعبد الله حتى تحصل على درجة اليقين ، فإذا حصلت عليها فلا حاجة للعبادة بعدها!

ونقول :

أوّلا : اليقين هنا بمعنى الموت بشهادة الآيات القرآنية المشار إليها ، وهو ما يحصل للمؤمن والكافر سواء.

ثانيا : المخاطب بهذه الاية هو النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ومقام اليقين للنّبي من المسلمات ، وهل يجرأ أحد أن يدّعي أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يصل لدرجة اليقين ، حتى يخاطب بالآية المذكورة؟!!

ثانيا : المقطوع به أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يترك العبادة حتى آخر لحظات عمره الشريف ، وكذا الحال بالنسبة لأمير المؤمنين عليعليه‌السلام وهو المستشهد في المحراب ، وهو ما سار عليه بقية الأئمّةعليهم‌السلام .

* * *

١١٩

بحوث

١ ـ بداية الدعوة العلنية للإسلام

المستفاد من بعض الرّوايات أنّ الآيتين :( فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ ) نزلتا في مكّة بعد أن قضى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثلاث سنوات في الدعوة السرية لرسالته ، ولم يؤمن به إلّا القليل من المقربين إليه ، وأول من آمن من النساء خديجةعليها‌السلام ومن الرجال عليعليه‌السلام .

من البديهي ، أنّ الدعوة إلى التوحيد الخالص المصاحبة لتحطيم نظام الشرك وعبادة الأصنام في تلك البيئة وفترتها كانت في الواقع عملا عجيبا ومخيفا ، واستهزاء المشركين وسخريتهم كان معلوما عند الله من قبل أن يمارس ، ولهذا أراد الله تعالى تقوية قلب نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كي لا يخشى المستهزئين ، ويعلن رسالته بكل قوّة على الملأ ويشرع بجهاد منطقي معهم(١) .

٢ ـ الأثر الرّوحي لذكر الله

إنّ حياة الإنسان (كانت وما زالت) زاخرة بالمشاكل بحسب ما تقتضيه طبيعة الحياة الدنيا ، وكلما علا الإنسان درجة كثرت مشاكله وتعددت ، ومن هنا نفهم شدة ما واجهه النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من مشاكل وصعاب في طريق دعوته الكبيرة.

ويكون العلاج الرّباني لتجاوز العقبات عبارة عن محاولة تحصيل القوة من مصدرها الحق مع التحلي بسعة الصدر ، فيأمر نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالتسبيح والذكر والدعاء والسجود ، لما للعبادة من أثر عميق في تقوية روح الإنسان وإيمانه وإرادته.

ونستفيد من روايات مختلفة أنّ الأئمّةعليهم‌السلام إذا واجهتهم المصاعب الشداد والبلاء ، لجؤوا إلى الله وشرعوا بالعبادة والدعاء ، كي يستمدوا القوة من معينها الأصيل.

__________________

(١) راجع تفسير نور الثقلين ، ج ٣ ، ص ٣٢.

١٢٠

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496