الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٨

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل12%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 496

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 496 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 231541 / تحميل: 7125
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٨

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

٣ ـ العبادة والتكامل

وكما هو معلوم فإنّ الإنسان قد بدأ انطلاقته في الحياة من نقطة العدم ولا يزال يسير نحو المطلق ، ولن تتوقف عجلة تكامله (ما دام مداوما على الطريق) كما أنّه يمتلك مقومات السير ويمتاز بقابلية فائقة واستعداد كامل في طلبه للتكامل ، هذا من جهة.

ومن جهة أخرى ـ تعتبر العبادة مدرسة عالية للتربية ، لأنّها توقظ عقل الإنسان ، وتوجه فكره نحو المطلق ، وتغسل غبار الذنوب والغفلة من قلبه وروحه ، وتنمي فيه الصفات الإنسانية الرفيعة ، وتقوي إيمانه وتجعله أكثر وعيا واكبر مسئولية.

فلا يمكن للإنسان الواقعي أن يستغني عن هذه المدرسة الراقية ، أمّا الذين يعتقدون بأنّ الإنسان قد يصل إلى درجة معينة لا يحتاج عندها إلى العبادة ، فأولئك إمّا أنّهم يعتبرون عملية تكامل الإنسان محدودة وتنتهي بحدّ معين ، أو أنّهم لم يدركوا معنى العبادة حقّا.

وللعلّامة الطّباطبائيرحمه‌الله في تفسير الميزان بيان بهذا الشأن ، إليك ملخصه ، (إن كل نوع من أنواع الموجودات له غاية كمالية ، وكذلك الإنسان له غاية تكاملية لا ينالها إلّا بالاجتماع المدني ، ولهذا فهو اجتماعي بالطبع ، وإن تحقق هذا الاجتماع فسيحتاج أفراد المجتمع إلى أحكام وقوانين ينتظم باحترامها والعمل بها شتات أمورهم ، وترتفع بهذا اختلافاتهم الضرورية ، ويقف بها كل منهم في موقفه الذي ينبغي له ، ويحوز بها سعادته وكماله الوجودية.

وبعبارة أخرى : إن كان المجتمع الإنساني صالحا أمكن لأفراده الوصول إلى هدفهم النهائي في الكمال ، وإن فسد المجتمع تخلف أفراده عن هذا التكامل.

وإنّ هذه الأحكام والقوانين سواء كانت اجتماعية أو عبادية ، لا تكون مؤثرة إلّا إذا أخذت من طريق النّبوة والوحي السماوي لا غير.

١٢١

ونعلم أيضا أنّ الأحكام العبادية تشكل جزءا من هذا التكامل الفردي والاجتماعي.

وبهذا يتبيّن أنّ التكليف الإلهي يلازم الإنسان ما عاش في هذه النشأة الدنيوية ، وأن تجويز ارتفاع التكليف ملازم لتجويز تخلفه عن الأحكام والقوانين ، وهذا يوجب فساد المجتمع!

ومن الجدير بالملاحظة أنّ الأعمال الصالحة والعبادات منبع للملكات النفسانية الفاضلة فإذا أديت هذه الأعمال بقدر كاف ، وقويت تلك الملكات الفاضلة في نفس الإنسان ، فستكون نفسها منبعا جديدا لأعمال صالحة أكثر وطاعات وعبادات أفضل.

ومن هنا يظهر فساد ما ربّما يتوهّم أنّ الغرض من التكليف هو تكميل الإنسان فإذا كمل لم يكن لبقاء التكليف معنى ، وما ذلك إلّا مغالطة ليس أكثر ، لأنّ الإنسان لو تخلف عن التكليف الإلهي فإنّ المجتمع سيسير نحو الفساد فورا ، فكيف يتسنى للفرد الكامل أن يعيش في هكذا مجتمع!

وكذلك فرضية تخلف الإنسان عند امتلاكه الملكات الفاضلة عن العبادات وطاعة الله، فإنّها تعني تخلف هذه الملكات عن آثارها(١) ـ فتأمل.

* * *

__________________

(١) تفسير الميزان ، ج ١٢ ، ص ١٩٩.

١٢٢

سورة النّحل

مكّية

وعدد آياتها مائة وثمان وعشرون آية

١٢٣
١٢٤

«سورة النحل »

محتويات السّورة :

يذهب أكثر المفسّرين إلى أنّ قسما من آيات هذه السورة مكيّة ، وقسمها الآخر آيات مدنيّة ، في حين يعتبر بعضهم أنّ آياتها مكية على الإطلاق. وعند ملاحظة طبيعة السورة المكية والمدنية يتبيّن لنا أنّ الرأي الأوّل أكثر صوابا ، ويعزز ذلك ما تبحثه الآية (٤١)( وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللهِ ) ، والآية (١١٠)( ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا ثُمَّ جاهَدُوا وَصَبَرُوا ) حيث أنّها تناولت بوضوح موضوع الهجرة والجهاد معا وكما هو بيّن فإنّ الموضوعين يتناسبان مع الحوادث التي جرت بعد هجرة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من مكّة إلى المدينة.

وإذا اعتبرنا الهجرة المشار إليها في الآية (٤١) هي هجرة المسلمين الأولى حين هاجر جمع منهم من مكّة إلى الحبشة برئاسة جعفر بن أبي طالب رضى الله عنه ، فيستبعد أن تكون الهجرة والجهاد المشار إليهما في الآية (١١٠) الهجرة الأولى ، ولا تنطبق الآية المباركة إلّا على هجرة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى المدينة.

بالإضافة إلى أنّ الآية (١٢٦)( وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ ) قد نزلت في غزوة أحد التي وقعت بعد الهجرة الثّانية ، وهذا معروف عند المفسّرين.

وقال بعض المفسّرين : إنّ الآيات الأربعين الأوّل من السورة نزلت في مكّة وبقية الآيات نزلت في المدينة ، في حين يعتبر البعض الآخر منهم جميع آياتها

١٢٥

مكّية سوى الآيات المتعلقة بغزوة أحد (الآيات الثلاثة الأخيرة).

فالمتيقن بخصوص السورة أنّ آياتها مكّية ومدينة ، إلّا أنّه لا يمكن تشخيص ما هو مكي أو مدني بالدقة الكافية سوى الموارد المذكورة.

وعلى أية حال ، فمن خلال ملاحظة السورة يبدو لنا أنّ بحوثها تتناول ما تتناوله الآيات المكّية تارة مثل : التوحيد ، المعاد ، محاربة الشرك وعبادة الأصنام ، وتارة أخرى ما تتناوله الآيات المدينة مثل : الأحكام الاجتماعية ومسائل الجهاد والهجرة.

ويمكننا إجمال محتويات السورة المسبوكة بعناية وإحكام بما يلي :

١ ـ ذكر النعم الإلهية ، وتفصيلها بما يثير دافع الشكر عند كل ذي حس حي ، ليقترب الإنسان من خالق هذه النعم وواهبها.

ومن النعم المذكورة في السورة : نعمة المطر ، نور الشمس ، أنواع النباتات والثمار ، المواد الغذائية الأخرى ، الحيوانات الداجنة بما تقدمه من خدمات ومنافع للإنسان ، مستلزمات وسائل الحياة وحتى نعمة الولد والزوجة ، وبعبارة شاملة (أنواع الطيبات).

ولهذا أطلق البعض عليها (سورة النعم).

وعرفت بسورة النحل لورود تلك الإشارة القصيرة ذات المعاني الجليلة والعجيبة للنحل، ضمن ما ذكر من النعم الإلهية الواسعة ، وبخصوص اعتبار النحل مصدرا لغذاء مهم من أغذية الإنسان ، وباعتبار حياة هذه الحشرة تعبير ناطق لتوحيد الله.

٢ ـ الحديث عن أدلة التوحيد ، عظمة ما خلق الخالق ، المعاد ، إنذار المشركين والمجرمين.

٣ ـ تناول الأحكام الإسلامية المختلفة ، من قبيل : الأمر بالعدل والإحسان ، الهجرة والجهاد ، النهي عن الفحشاء والمنكر والظلم والاستبداد وخلف العهد ،

١٢٦

بالإضافة إلى الدعوة لشكر الله تعالى على نعمة الجزيلة ، وتأتي الإشارة في آيات عديدة إلى أنّ إبراهيمعليه‌السلام رجل التوحيد لأنه كان من الشاكرين.

٤ ـ الحديث عن بدع المشركين مع ذكر أمثلة جميلة حية.

٥ ـ وأخيرا تحذير الإنسانية من وساوس الشيطان.

فضيلة السّورة :

روي عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، في فضل سورة النحل ، أنّه قال : «من قرأها لم يحاسبه الله تعالى بالنعم التي أنعمها عليه من دار الدنيا»(١) .

فقراءة الآيات ـ التي تتناول جانبا كبيرا من النعم الإلهية ـ بتدبر وتفكر مع وجود العزم على العمل والسير وفق الشكر للمنعم ، تكون سبيلا لأن يستعمل الإنسان كل نعمة بما ينبغي عليه أن يستعمل ، فلا يحبس ولا يهمل ، ويكون من الشاكرين فإن أصبح كذلك فهل سيتعرض لمحاسبة بعد؟

* * *

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ٦ ، ص ٣٢٧.

١٢٧

الآيتان

( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ )

( أَتى أَمْرُ اللهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (١) يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاتَّقُونِ (٢) )

التّفسير

أتى أمرالله:

ذكرنا سابقا أن قسما مهمّا من الآيات التي جاءت في أوّل السورة هي آيات مكّية نزلت حينما كان النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يخوض صراعا مشتدا مع المشركين وعبدة الأصنام ، وما يمر يوم حتى يطلع أعداء الرسالة بمواجهة جديدة ضد الدعوة الإسلامية المباركة ، لأنّها تريد بناء صرح الحرية ، بل كل الحياة من جديد.

ومن جملة مواجهاتهم اليائسة قولهم للنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حينما يهددهم وينذرهم بعذاب الله:إن كان ذلك حقا فلم لا يحل العذاب والعقاب بنا إذن؟!

ولعلهم يضيفون : وحتى لو نزل العذاب فسنلتجئ إلى الأصنام لتشفع لنا عند الله في رفع العذاب ولم لا يكون ذلك ، أو لسن شفيعات؟!

وأوّل آية من السورة تبطل أوهام أولئك بقوله تعالى :( أَتى أَمْرُ اللهِ فَلا

١٢٨

تَسْتَعْجِلُوهُ ) ، وإن اعتقدتم أنّ الأصنام شافعة لكم عند الله فقد أخطأتم الظن( سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ ) .

ف «أمر الله» هنا : أمر العذاب للمشركين ، أمّا الفعل «أتى» فالمراد منه المستقبل الحتمي الوقوع على الرّغم من وقوعه بصيغة الماضي ، ومثل هذا كثير في الأسلوب البلاغي للقرآن.

واحتمل بعض المفسّرين أنّ «أمر الله» إشارة إلى نفس العذاب وليس الأمر به.

واحتمل بعض آخر أنّ المراد به يوم القيامة.

ويبدو لنا أنّ التّفسير الذي ذكرناه أقرب من غيره ، والله العالم.

وبما أنّ مستلزمات العدل الإلهي اقتضت عدم العقاب إلّا بعد البيان الكافي والحجّة التامة ، فقد أضاف سبحانه :( يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ (١) عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا ) بناء على هذا الإنذار والتذكير( فَاتَّقُونِ ) .

أما المقصود من «الروح» في الآية فهناك كلام كثير بين المفسّرين في ذلك إلّا أنّ الظاهر منها هو : الوحي والقرآن والنّبوة والتي هي مصدر الحياة المعنوية للبشرية.

وقد فصل بعض المفسّرين الوحي عن القرآن وعن النّبوة ، معتبرا ذلك ثلاثة تفاسير مستقلة للكلمة ولكنّ الظاهر رجوع الجميع إلى حقيقة واحدة.

وعلى أية حال فكلمة «الروح» في هذا الموضوع ذات جانب معنوي وإشارة إلى كل ما هو سبب لإحياء القلوب وتهذيب النفوس وهداية العقول ، كما نقرأ في الآية الرّابعة والعشرين من سورة الأنفال :( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ

__________________

(١) «من» في عبارة «من أمره» جاءت بمعنى «ب» السببية.

١٢٩

وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ ) وفي الآية الخامسة عشر من سورة غافر :( يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ ) وفي الآية والثانية الخمسين من سورة الشورى :( وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ ) .

وجليّ أنّ «الرّوح» في الآيات المتقدمة ترمز إلى «القرآن» و «الوحي» و «أمر النّبوة».

وقد وردت «الرّوح» بمعاني أخر في مواضع من القرآن الكريم ، ولكن مع الأخذ بنظر الإعتبار ما ذكر من قرائن نخلص إلى أنّ المراد من مفهوم «الروح» في الآية مورد البحث هو القرآن وما تضمنه الوحي.

وجدير بالملاحظة أنّ عبارة( عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ ) لا تعني أن هداية الوحي والنّبوة لا حساب فيها ، لأنّه لا انفصام ولا ضدية بين مشيئة الله وحكمته ، كما تحدثنا في ذلك الآية (١٢٤) من سورة الأنعام :( اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ ) .

ولا ينبغي غض الطرف من كون الإنذار من أوائل الأوامر الربانية الموجهة إلى الأنبياءعليهم‌السلام بدليل عبارة( أَنْ أَنْذِرُوا ) ، لأنّ من طبيعة الإنذار أن يعقبه انتباه فنهوض وحركة.

صحيح أنّ الإنسان طالب للمنفعة ودافع للضرر ، ولكنّ التجربة أظهرت أنّ للترغيب أثر بالغ لمن يمتلك أسس وشرائط قبول الهداية ، أما من أعمت بصيرتهم ملهيات الحياة الدنيا فلا ينفع معهم إلّا التهديد والوعيد ، وفي بداية دعوة النّبي كان من الضروري استخدام أسلوب الإنذار الشديد.

* * *

١٣٠

الآيات

( خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (٣) خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (٤) وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ وَمَنافِعُ وَمِنْها تَأْكُلُونَ (٥) وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ (٦) وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ إِلى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (٧) وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ (٨) )

التّفسير

الحيوان ذلك المخلوق المعطاء :

بعد أن تحدثت الآيات السابقة عن نفي الشرك ، جاءت هذه الآيات لتقلع جذوره بالكامل ، وتوجه الإنسان نحو خالقة بطريقين :

الأوّل : عن طريق الأدلة العقلية من خلال فهم ومحاولة استيعاب ما في الخلائق من نظام عجيب.

الثّاني : عن طريق العاطفة ببيان نعم الله الواسعة على الإنسان ، عسى أن

١٣١

يتحرك فيه حس الشكر على النعم فيتقرب من خلاله إلى المنعم سبحانه.

فيقول :( خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِ ) .

وتتّضح حقّانيّة السماوات والأرض من نظامها المحكم وخلقها المنظم وكذلك من هدف خلقها وما فيها من منافع.

ثمّ يضيف :( تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ ) .

فهل تستطيع الأصنام إيجاد ما أوجده الله؟!

بل هل تستطيع أن تخلق بعوضة صغيرة أو ذرة تراب؟!

فكيف إذن جعلوها شريكة الله سبحانه!!

والمضحك المبكي في حال المشركين أنّهم يعتبرون الله هو الخالق عن علم وقدرة لهذا النظام العجيب والخلق البديع ومع ذلك فهم يسجدون للأصنام!

وبعد الإشارة إلى خلق السماوات والأرض وما فيها من أسرار لا متناهية يعرّج القرآن الكريم إلى بعض تفاصيل خلق الإنسان من الناحية التكوينية فيقول :( خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ ) .

«النطفة» (في الأصل) بمعنى : الماء القليل ، أو الماء الصافي ، ثمّ أطلقت على قطرات الماء التي تكون سببا لوجود الإنسان بعد تلقيحها.

وحقيقة التعبير يراد به تبيان عظمة وقدرة اللهعزوجل ، حيث يخلق هذا المخلوق العجيب من قطرة ماء حقيرة مع ما له من قيمة وتكريم وشرف بين باقي المخلوقات وعند الله أيضا.

هذا إذا ما اعتبرنا «الخصيم» بمعنى المدافع والمعبر عمّا في نفسه ، كما تخبرنا الآية (١٠٥) من سورة النساء بذلك :( وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً ) كما ذهب إليه جمع من المفسّرين.

وهناك من يذهب إلى تفسير آخر ، خلاصته : بقدرة الله التامة خلق الإنسان من نطفة حقيرة ، ولكنّ هذا المخلوق غير الشكور يقف في كثير من المواضع

١٣٢

مجادلا خصيما أمام خالقه ، واعتبروا الآية السابعة والسبعين من سورة يس شاهدا على ما ذهبوا إليه.

إلّا أنّ التّفسير الأوّل كما يبدو ـ أقرب من الثّاني ، لأنّ الآيات أعلاه في مقام بيان عظمة الله وقدرته ، وتتبيّن عظمته بشكل جلي حين يخلق كائنا شريفا جدا من مادة ليست بذي شأن في ظاهرها.

وجاء في تفسير علي بن إبراهيم : (خلقه من قطرة من ماء منتن فيكون خصيما متكلما بليغا)(١) .

ثمّ يشير القرآن الكريم إلى نعمة خلق الحيوانات وما تدر من فوائد كثير للإنسان فيقول:( وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ وَمَنافِعُ وَمِنْها تَأْكُلُونَ ) .

فخلق الأنعام الدال على علم وقدرة الباري سبحانه ، فيها من الفوائد الكثيرة للإنسان ، وقد أشارت الآية إلى ثلاث فوائد :

أوّلا : «الدفء» ويشمل كل ما يتغطى به (بالاستفادة من وبرها وجلودها) كاللباس والأغطية والأخذية والأخبية.

ثانيا : «المنافع» إشارة إلى اللبن ومشتقاته.

ثالثا : «منها تأكلون» أي ، اللحم.

ويلاحظ تقديم الملابس والأغطية والمسكن ، في عرض منافع الأنعام دون المنافع الأخرى ، وهذا دليل على أهميتها وضروريتها في الحياة.

ويلاحظ أيضا مجيء كلمة «الدفء» قبل «المنافع» إشارة إلى أنّ ما تدفع به الضرر مقدم على ما يجلب لك فيه المنفعة.

ويمكن للبعض ممن يخالفون أكل اللحوم أن يستدلوا بظاهر هذه الآية ، حيث لم يعتبر الباري جل شأنه مسألة أكل لحومها ضمن منافعها ، ولهذا نرى قد جاءت

__________________

(١) تفسير نور الثقلين ، ج ٣ ، ص ٣٩.

١٣٣

( وَمِنْها تَأْكُلُونَ ) بعد ذكر كلمة «المنافع» ، وأقل ما يستنتج من الآية اعتبارها لأهمية الألبان أكثر بكثير من اللحوم.

ولم يكتف بذكر منافعها المادية ، بل أشار إلى المنافع النفسية والمعنوية كذلك حين قال :( وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ ) .

«تريحون» : (من مادة الإراحة) بمعنى إرجاع الحيوانات عند الغروب إلى محل استراحتها ، ولهذا يطلق على ذلك المحل اسم (المراح).

و «تسرحون» : (من مادة السروح) بمعنى خروج الحيوانات صباحا إلى مراعيها.

عبّر القرآن بكلمة «جمال» عن تلك الحركة الجمالية للأنعام حين تسرع إلى مراعيها وتعود إلى مراحها ، لما لها من جمال ورونق خاص يغبط الإنسان ، والمعبر عن حقيقة راسخة في عمق المجتمع.

فحركة الإبل إضافة إلى روعتها فإنّها تطمئن المجتمع بأنّ ما تحتاجه من مستلزمات حياتك ها هو يسير بين عينيك ، فتمتع به وخذ منه ما تحتاجه ، ولا داعي لأن ترتبط بهذا أو ذاك فتسضعف ، وكأنّها تخاطبه : فأنت مكتف ذاتيا بواسطتي.

ف «الجمال» جمال استغناء واكتفاء ذاتي ، وجمال إنتاج وتأمين متطلبات أمّة كاملة، وبعبارة أوضح : جمال الاستقلال الاقتصادي وقطع كل تبعية للغير!

والحقيقة التي يدركها القرويون وأبناء الريف أكثر من غيرهم ، هي ما تعطيه حركة تلك الأنعام من راحة نفسية للإنسان ، راحة الإحساس بعدم الحاجة والاستغناء ، راحة تأدية إحدى الوظائف الاجتماعية الهامة.

ومن لطيف الإشارة أنّ بدأت الآية أعلاه بذكر عودة الأنعام إلى مراحلها ، حيث الملاحظ عليها في هذه الحال أثديتها ملأى باللبن ، بطونها ممتلئة ، يشاهد على وجوهها علائم الرضا والارتياح ولا يرى فيها ذلك الحرص والولع والعجلة

١٣٤

التي تظهر عليها حين خروجها في الصباح ، بل تسير هادئة مطمئنة نحو محل استراحتها ، ويكفيك الشعور بالغنى من خلال رؤية أثدائها.

ثمّ يشير تعالى في الآية التي تليها إلى إحدى المنافع المهمّة الأخرى فيقول :( وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ إِلى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ ) وهذا مظهر من مظاهر رحمة اللهعزوجل ورأفته حيث سخر لنا هذه الحيوانات مع ما تملك من قدرة وقوّة( إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ ) .

«الشق» : (من مادة المشقة) ، ولكنّ بعض المفسّرين احتمل أنّها بمعنى الشق والقطع ، أي أنّكم لا تستطيعون حمل هذه الأثقال وإيصالها إلى مقاصدكم إلّا بعد أن تخسروا نصف قوتكم.

ويبدو أنّ التّفسير الأوّل أقرب من الثّاني.

فالأنعام إذن : تعطي للإنسان ما يلبسه ويدفع عنه الحر والبرد. وكذلك تعطيه الألبان واللحوم ليتقوت بها. وتترك في نفس الإنسان آثارا نفسية طيبة. وأخيرا تحمل أثقاله.

وبالرغم ممّا وصل إليه التقدم التقني في مدنية الإنسان وتهيئة وسائل النقل الحديثة ، إلّا أن سلوك كثير من الطرق لا زال منحصرا بالدواب.

ثمّ يعرج على نوح آخر من الحيوانات ، يستفيد الإنسان منها في تنقلاته ، فيقول :( وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً ) .

و «زينة» هنا ليست كلمة زائدة أو عابرة بقدر ما تعبر عن واقع الزينة في مفهومها الصحيح ، وما لها من أثر على ظاهر الحياة الاجتماعية.

ولأجل الإيضاح بشكل أقرب نقول : لو قطع شخص طريقا صحراويا طويلا مشيا على الأقدام ، فكيف سيصل مقصده؟ سيصله وهو متعب خائر القوى ، ولا يقوى على القيام بأي نشاط.

أمّا إذا ما استعمل وسيلة مريحة سريعة في سفره ، فإنّه ـ والحال هذه ـ سيصل

١٣٥

إلى مقصده وقد كسب الوقت ، ولم يهدر طاقاته ، وحافظ على النشاط والقدرة على قضاء حوائجه بعد كل هذا ، أو ليس ذلك زينة؟!

وتأتي الإشارة في ذيل الآية إلى ما سيصل إليه مآل الإنسان في الحصول على الوسائط النقلية المدنية من غير الحيوانات ، فيقول :( وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ ) من المراكب ووسائل النقل.

وبعض قدماء المفسّرين اعتبر هذا المقطع من الآية إشارة إلى الحيوانات ستخلق في المستقبل ليستعملها الإنسان في تنقلاته.

وورد في تفسير (المراغي) وتفسير (في ظلال القرآن) أنّ درك مفهوم هذه الجملة أسهل لنا ونحن نعيش في عصر السيارة ووسائل النقل السريعة الأخرى.

وعند ما تعبّر الآية بكلمة «يخلق» فذلك لأنّ الإنسان في اختراعه لتلك الوسائل ليس هو الخالق لها ، بل إنّ المواد الأولية اللازمة للاختراعات ، مخلوقة وموجودة بين أيدينا وما على الإنسان إلّا أن يستعمل ما وهبه الله من قدرة على الاختراع لما أودع فيه من استعداد وقابلية بتشكيل وتركيب تلك المواد على هيئة يمكن من خلالها أن تعطي شيئا آخر يفيد الإنسان.

أهمية الزراعة والثروة الحيوانية :

على الرغم من انتشار الآلات الإنتاجية في جميع مرافق الحياة ، كما هو حاصل في يومنا ، إلّا أن الزراعة وتربية الحيوانات تبقى متصدرة لقائمة المنتوجات من حيث الأهمية في حياة الإنسان ، لأنّها مصدر الغذاء ، ولا حياة بدونه.

حتى أنّ الاكتفاء الذاتي في مجالي الزراعة والثروة الحيوانية يعتبر الدعامة الرئيسية لضمان الاستقلالين الاقتصادي والسياسي إلى حدّ كبير.

ولذلك نرى شعوب العالم تسعى جاهدة لإيصال زراعتها وثروتها الحيوانية

١٣٦

لأعلى المستويات مستفيدة من التقدم التقني الحاصل.

والحاجة لأي من هذين الإنتاجين الأساسيين من الخطورة والأهمية البالغة ما يجعل دولة عظمى كروسيا تمديد العوز وتعطي بعض التنازلات السياسية لدول متباينة معها في الخط السياسي العقائدي لاضطرارها لتأمين احتياجاتها!

وأعطت التعاليم الإسلامية أهمية خاصة للإنتاج الحيواني والزراعة بالحث والترغيب لغور غمار هذه العملية المعطاءة.

فقد رأينا كيف عرضت الآيات السابقة وبلحن مشوق حركة الأنعام ومنافعها للترغيب فيها.

وسيأتي الحديث إن شاء الله في الآيات القادمة عن أهمية الزراعة ومنافع الثمار المختلفة.

ونورد هنا (ومن مصادر مختلفة) بعض الرّوايات التي تخص موضوعنا وما جاءت به من تعبيرات جميلة.

١ ـ عن أبي جعفرعليه‌السلام أنّه قال : «قال النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعمته : ما يمنعك من أن تتخذي في بيتك ببركة؟

فقالت : يا رسول الله ما البركة؟

فقال : شاة تحلب ، فإنّه من كانت في داره شاة تحلب أو نجعة أو بقرة فبركات كلّهن»(١) .

٢ ـ وروي عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال في الغنم : «نعم المال الشاة»(٢) .

٣ ـ وفي تفسير نور الثقلين ، في تفسير الآيات مورد البحث ، روي عن أمير المؤمنين عليعليه‌السلام أنّه قال : «أفضل ما يتخذه الرجل في منزله لعياله الشاة ، فمن كان

__________________

(١) بحار الأنوار ، ج ٦٤ ، ص ١٣٠ ، ورد ذكر النجعة (في هذا الحديث) إضافة إلى الشاة والبقرة ، وهي في اللغة : البقر الوحشي والأغنام الجبلية وأنثى الغنم.

(٢) بحار الأنوار ، ج ٦٤ ، ص ١٢٩.

١٣٧

في منزلة شاة قدست عليه الملائكة مرّتين في كل يوم».

ولا ينبغي الغفلة عن أنّ الكثير من بيوت المدن غير صالحة لتربية الأغنام ، والهدف الأصلي من إشارة الرّوايات هو إنتاج ما يحتاج إليه الناس على الدوام ـ فتأمل.

٤ ـ ويكفينا ما قال أمير المؤمنين عليعليه‌السلام في أهمية الزّراعة : «من وجد ماء وترابا ثمّ افتقر فأبعده الله»(١) .

وبديهي انطباق هذا الحديث على الفرد والأمّة معا ، فالشعب الذي لديه مستلزمات الزراعة بشكل كاف ومع ذلك يمد يده لطلب المساعدة إلى الآخرين ، فهو مبعد عن رحمة الله بلا إشكال.

٥ ـ روي عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «عليكم بالغنم والحرث فإنّهما يروحان بخير ويغدوان بخير»(٢) .

٦ – وروي عن الإمام الصادقعليه‌السلام أنّه قال : «ما في الأعمال شيء أحبّ إلى الله من الزراعة»(٣) .

٧ ـ وأخيرا نقرأ في حديث روي عن الإمام الصادقعليه‌السلام ما يلي : «الزارعون كنوز الأنام يزرعون طيبا أخرجه اللهعزوجل ، وهم يوم القيامة أحسن الناس مقاما وأقربهم منزلة ، يدعون المباركين»(٤) .

* * *

__________________

(١) بحار الأنوار ، ج ٢٣ ، ص ١٩.

(٢) بحار الأنوار ، ج ١٤ ، ص ٣٠٤.

(٣) بحار الأنوار ، ج ٢٣ ، ص ٢٠.

(٤) وسائل الشيعة ، ج ١٣ ، ص ١٩٤.

١٣٨

الآيات

( وَعَلَى اللهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْها جائِرٌ وَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ (٩) هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً لَكُمْ مِنْهُ شَرابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ (١٠) يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (١١) وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّراتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (١٢) وَما ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (١٣) )

التّفسير

كل شيء في خدمة الإنسان!

بعد ذكر مختلف النعم في الآيات السابقة ، تشير هذه الآيات إلى نعم أخرى

فتشير أوّلا إلى نعمة معنوية عالية في مرماها( وَعَلَى اللهِ قَصْدُ السَّبِيلِ ) أي عليه سبحانه سلامة الصراط المستقيم وهو الحافظ له من كل انحراف ، وقد وضعه في

١٣٩

متناول الإنسان.

«القصد» : بمعنى صفاء واستواء الطريق ، فيكون معنى «قصد السبيل» الصراط المستقيم الذي ليس فيه ضلال ولا انحراف(١) .

ولكن أي النحوين من الصراط المستقيم هو المراد ، التكويني أم التشريعي؟

اختلف المفسّرون في ذلك ، إلّا أنّه لا مانع من قصد الجانبين معا.

توضيح :

جهّز الله الإنسان بقوى متنوعة وأعطاه من القوى والقابليات المختلفة ما يعينه على سلوكه نحو الكمال الذي هو الهدف من خلقه.

وكما أنّ بقية المخلوقات قد أودعت فيها قوى وغرائز توصلها إلى هدفها ، إلّا أنّ الإنسان يمتاز عليها بالإرادة وبحرية الإختيار فيما يريده ، ولهذا فلا قياس بين الخط التصاعدي لتكامل الإنسان وبقية الأحياء الأخرى.

فقد هدى الله الإنسان بالعقل والقدرة وبقية القوى التكوينية التي تعينه للسير على الصراط المستقيم.

كما أرسل له الأنبياء والوحي السماوي وأعطاه التعليمات الكافية والقوانين اللازمة للمضي بهدي التشريع الرّباني في تكملة مشوار المسيرة ، وترك باقي السبل المنحرفة.

ومن لطيف الأسلوب القرآني جعل الأمر المذكور في الآية فريضة عليه جل شأنه فقال:( عَلَى اللهِ ) ، وكثيرا ما نجد مثل هذه الصيغة في الآيات القرآنية ، كما في الآية (١٢) من سورة الليل( إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى ) ، ولو دققنا النظر في سعة مدلول( عَلَى اللهِ قَصْدُ السَّبِيلِ ) وما أودع في الإنسان من هدي تكويني

__________________

(١) ذكر بعض كبار المفسّرين كالعلّامة الطباطبائي في الميزان أن «القصد» بمعنى (القاصد) في قبال «الجائر» أي المنحرف عن الحق.

١٤٠

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

ولعلّ هذه الجملة إشارة إلى القيامة الوارد ذكرها آنفا ، أو أنّها إشارة إلى القرآن ، لأنّه ورد التعبير عنه بـ «الحديث» في بعض الآيات كما في الآية ٣٤ من سورة الطور ، أو أنّ المراد من «الحديث» هو ما جاء من القصص عن هلاك الأمم السابقة أو جميع هذه المعاني.

ثمّ يقول مخاطبا :( وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ وَأَنْتُمْ سامِدُونَ ) أي في غفلة مستمرّة ولهو وتكالب على الدنيا ، مع أنّه لا مجال للضحك هنا ولا الغفلة والجهل ، بل ينبغي أن يبكى على الفرص الفائتة والطاعات المتروكة ، والمعاصي المرتكبة ، وأخيرا فلا بدّ من التوبة والرجوع إلى ظلّ الله ورحمته!

وكلمة سامدون مشتقّة من سمود على وزن جمود ـ ومعناه اللهو والانشغال ورفع الرأس للأعلى تكبّرا وغرورا ، وهي في أصل استعمالها تطلق على البعير حين يرفل في سيره ويرفع رأسه غير مكترث بمن حوله.

فهؤلاء المتكبّرون المغرورون كالحيوانات همّهم الأكل والنوم ، وهم غارقون باللذائذ جاهلون عمّا يحدق بهم من الخطر والعواقب الوخيمة والجزاء الشديد الذي سينالهم.

ويقول القرآن في آخر آية من الآيات محلّ البحث ـ وهي آخر آية من سورة النجم أيضا ـ بعد أن بيّن أبحاثا متعدّدة حول إثبات التوحيد ونفي الشرك :( فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا ) .

فإذا أردتم أن تسيروا في الصراط المستقيم والسبيل الحقّ فاسجدوا لذاته المقدّسة فحسب ، إذ لله وحده تنتهي الخطوط في عالم الوجود ، وإذا أردتم النجاة من العواقب الوخيمة التي أصابت الأمم السالفة لشركهم وكفرهم فوقعوا في قبضة عذاب الله ، فاعبدوا الله وحده.

الذي يجلب النظر ـ كما جاء في روايات متعدّدة ـ أنّ النّبي عند ما تلا هذه الآية وسمعها المؤمنون والكافرون سجدوا لها جميعا.

٢٨١

ووفقا لبعض الرّوايات أن الوحيد الذي لم يسجد لهذه الآية عند سماعها هو «الوليد بن المغيرة» [لعلّه لم يستطع أن ينحني للسجود] فأخذ قبضة من التراب ووضعها على جبهته فكان سجوده بهذه الصورة.

ولا مكان للتعجّب أن يسجد لهذه الآية حتى المشركون وعبدة الأصنام ، لأنّ لحن الآيات البليغ من جهة ، ومحتواها المؤثّر من جهة اخرى وما فيها من تهديد للمشركين من جهة ثالثة ، وتلاوة هذه الآيات على لسان النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في المرحلة الاولى من نزول الآيات عن لسان الوحي من جهة رابعة كلّ هذه الأمور كان لها دور في التأثير والنفوذ إلى القلوب حتّى أنّه لم يبق أيّ قلب إلّا اهتزّ لجلال آيات الله وألقى عنه. ستار الضلال وحجب العناد ـ ولو مؤقتا ـ ودخله نور التوحيد المشعّ!.

وإذا تلونا الآية ـ بأنفسنا ـ وأنعمنا النظر فيها بكلّ دقّة وتأمّل وحضور قلب وتصوّرنا أنفسنا أمام النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وفي جوّ نزول الآيات وبقطع النظر ـ عن اعتقادنا الإسلامي ـ نجد أنفسنا ملزمين على السجود عند تلاوتنا لهذه الآية وأنّ نحني رؤوسنا إجلالا لربّ الجلال!

وليست هذه هي المرّة الاولى التي يترك القرآن بها أثره في قلوب المنكرين ويجذبهم إليه دون اختيارهم ، إذ ورد في قصّة «الوليد بن المغيرة» أنّه لمّا سمع آيات فصّلت وبلغ النّبي (في قوله) إلى الآية :( فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ ) قام من مجلسه واهتزّ لها وجاء إلى البيت فظنّ جماعة من المشركين أنّه صبا إلى دين محمّد.

فبناء على هذا ، لا حاجة أن نقول بأنّ جماعة من الشياطين أو جماعة من المشركين الخبثاء حضروا عند النّبي ولمّا سمعوا النّبي يتلو الآية :( أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى ) بسطوا ألسنتهم وقالوا : تلك الغرانيق العلى!! ولذلك انجذب المشركون لهذه الآيات فسجدوا أيضا عند تلاوة النّبي آية السجدة!

٢٨٢

لأنّنا كما أشرنا آنفا في تفسير هذه الآيات. انّ الآيات التي تلت هذه الآيات عنّفت المشركين ولم تدع مجالا للشكّ والتردّد والخطأ لأي أحد (في مفهوم الآية) [لمزيد الإيضاح يراجع تفسير الآيتين ١٩ و٢٠ من هذه السورة].

وينبغي الالتفات أيضا إلى أنّ الآية الآنفة يجب السجود عند تلاوتها ، ولحن الآية التي جاءت مبتدئة بصيغة الأمر ـ والأمر دالّ على الوجوب ـ شاهد على هذا المعنى.

وهكذا فإنّ هذه السورة ثالثة السور الوارد فيها سجود واجب ، أي هي بعد سورة الم السجدة ، وحم السجدة وإن كان بعضهم يرى بأنّ أوّل سورة فيها سجود واجب نزلت على النّبي من الناحية التاريخية ـ هي هذه السورة.

اللهمّ أنر قلوبنا بأنوار معرفتك لئلّا نعبد سواك شيئا ولا نسجد إلّا لك.

اللهمّ إنّ مفاتيح الرحمة والخير كلّها بيد قدرتك ، فارزقنا من خير مواهبك وعطاياك ، أي رضاك يا ربّ العالمين.

اللهمّ ارزقنا بصيرة في العبر ـ لنعتبر بالأمم السالفة وعاقبة ظلمها وأن نحذر الاقتفاء على آثارهم

آمين يا ربّ العالمين.

* * *

انتهت سورة النجّم

٢٨٣
٢٨٤

سورة

القمر

مكّية

وعدد آياتها خمس وخمسون آية

٢٨٥
٢٨٦

«سورة القمر»

محتوى السورة :

تحوي هذه السّورة خصوصيات السور المكيّة التي تتناول الأبحاث الأساسيّة حول المبدأ والمعاد ، وخصوصا العقوبات التي نزلت بالأمم السالفة ، وذلك نتيجة عنادهم ولجاجتهم في طريق الكفر والظلم والفساد ممّا أدّى بها الواحدة تلو الاخرى إلى الابتلاء بالعذاب الإلهي الشديد ، وسبّب لهم الدمار العظيم.

ونلاحظ في هذه السورة تكرار قوله تعالى :( وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ ) وذلك بعد كلّ مشهد من مشاهد العذاب الذي يحلّ بالأمم لكي يكون درسا وعظة للمسلمين والكفّار.

ويمكن تلخيص أبحاث هذه السورة في عدّة أقسام هي :

١ ـ تبدأ السورة بالحديث عن قرب وقوع يوم القيامة ، وموضوع شقّ القمر ، وإصرار وعناد المخالفين في إنكار الآيات الإلهيّة.

٢ ـ والقسم الثاني يبحث بتركيز واختصار عن أوّل قوم تمرّدوا على الأوامر الإلهيّة ، وهم قوم نوح ، وكيفيّة نزول البلاء عليهم.

٣ ـ أمّا القسم الثالث فإنّه يتعرّض إلى قصّة قوم «عاد» وأليم العذاب الذي حلّ بهم.

٤ ـ وفي القسم الرابع تتحدّث الآيات عن قوم «ثمود» ومعارضتهم لنبيّهم صالحعليه‌السلام وبيان معجزة الناقة ، وأخيرا ابتلاؤهم بالصيحة السماوية.

٥ ـ تتطرّق الآيات بعد ذلك إلى الحديث عن قوم «لوط» ضمن بيان واف

٢٨٧

لانحرافهم الأخلاقي ثمّ عن السخط الإلهي عليهم وابتلائهم بالعقاب الرّباني.

٦ ـ وفي القسم السادس تركّز الآيات الكريمة ـ بصورة موجزة ـ الحديث عن آل فرعون ، وما نزل بهم من العذاب الأليم جزاء كفرهم وضلالهم.

٧ ـ وفي القسم الأخير تعرض مقارنة بين هذه الأمم ومشركي مكّة ومخالفي الرّسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمستقبل الخطير الذي ينتظر مشركي مكّة فيما إذا استمرّوا على عنادهم وإصرارهم في رفض الدعوة الإلهيّة.

وتنتهي السورة ببيان صور ومشاهد من معاقبة المشركين ، وجزاء وأجر المؤمنين والمتّقين.

وسورة القمر تتميّز آياتها بالقصر والقوّة والحركية.

وقد سمّيت هذه السورة بـ (سورة القمر) لأنّ الآية الاولى منها تتحدّث عن شقّ القمر.

فضيلة تلاوة سورة القمر :

ورد عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال :

«من قرأ سورة اقتربت الساعة في كلّ غبّ بعث يوم القيامة ووجهه على صورة القمر ليلة البدر ، ومن قرأها كلّ ليلة كان أفضل وجاء يوم القيامة ووجهه مسفر على وجوه الخلائق»(١) .

ومن الطبيعي أن تكون النورانية التي تتّسم بها هذه الوجوه تعبيرا عن الحالة الإيمانية الراسخة في قلوبهم نتيجة التأمّل والتفكّر في آيات هذه السورة المباركة والعمل بها بعيدا عن التلاوة السطحية الفارغة من التدبّر في آيات الله.

* * *

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ٩ (بداية سورة القمر).

٢٨٨

الآيات

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

( اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (١) وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ (٢) وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ (٣) )

التّفسير

شقّ القمر!!

يتناول الحديث في الآية الاولى حادثتين مهمّتين :

أحدهما : قرب وقوع يوم القيامة ، والذي يقترن بأعظم تغيير في عالم الخلق ، وبداية لحياة جديدة في عالم آخر ، ذلك العالم الذي يقصر فكرنا عن إدراكه نتيجة محدودية علمنا واستيعابنا للمعرفة الكونية.

والحادثة الثانية التي تتحدّث الآية الكريمة عنها هي معجزة انشقاق القمر العظيمة التي تدلّل على قدرة البارئعزوجل المطلقة ، وكذلك تدلّ ـ أيضا ـ على صدق دعوة الرّسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال تعالى :( اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ ) .

٢٨٩

وجدير بالذكر أنّ سورة النجم التي أنهت آياتها المباركة بالحديث عن يوم القيامة( أَزِفَتِ الْآزِفَةُ ) تستقبل آيات سورة القمر بهذا المعنى أيضا ، ممّا يؤكّد قرب وقوع اليوم الموعود رغم أنّه عند ما يقاس بالمقياس الدنيوي فقد يستغرق آلاف السنين ويتوضّح هذا المفهوم ، حينما نتصوّر مجموع عمر عالمنا هذا من جهة ، ومن جهة اخرى عند ما نقارن جميع عمر الدنيا في مقابل عمر الآخرة فانّها لا تكون سوى لحظة واحدة.

إنّ اقتران ذكر هاتين الحادثتين في الآية الكريمة : «انشقاق القمر واقتراب الساعة» دليل على قرب وقوع يوم القيامة ، كما ذكر ذلك قسم من المفسّرين حيث أنّ ظهور الرّسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ وهو آخر الأنبياء ـ قرينة على قرب وقوع اليوم المشهود قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «بعثت أنا والساعة كهاتين»(١) مشيرا إلى إصبعيه الكريمين.

ومن جهة اخرى ، فإنّ انشقاق القمر دليل على إمكانية اضطراب النظام الكوني ، ونموذج مصغّر للحوادث العظيمة التي تسبق وقوع يوم القيامة في هذا العالم ، حيث اندثار الكواكب والنجوم والأرض يعني حدوث عالم جديد ، استنادا إلى الرّوايات المشهورة التي ادّعى البعض تواترها.

قال ابن عبّاس : اجتمع المشركون إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقالوا : إن كنت صادقا فشقّ لنا القمر فلقتين ، فقال لهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إن فعلت تؤمنون؟» قالوا : نعم ، وكانت ليلة بدر فسأل رسول الله ربّه أن يعطيه ما قالوا ، فانشقّ القمر فلقتين ورسول الله ينادي : «يا فلان يا فلان ، اشهدوا»(٢) .

ولعلّ التساؤل يثار هنا عن كيفية حصول هذه الظاهرة الكونية : (انشقاق هذا الجرم السماوي العظيم) وعن مدى تأثيره على الكرة الأرضية والمنظومة

__________________

(١) تفسير الفخر الرازي ، ج ٢٩ ، ص ٢٩.

(٢) ذكر في مجمع البيان وكتب تفسير اخرى في هامش تفسير الآية مورد البحث.

٢٩٠

الشمسية ، وكذلك عن طبيعة القوّة الجاذبة التي أعادت فلقتي القمر إلى وضعهما السابق ، وعن كيفيّة حصول مثل هذا الحدث؟ ولماذا لم يتطرّق التاريخ إلى ذكر شيء عنه؟ بالإضافة إلى مجموعة تساؤلات اخرى حول هذا الموضوع والتي سنجيب عليها بصورة تفصيليّة في هذا البحث إن شاء الله.

والنقطة الجديرة بالذكر هنا أنّ بعض المفسّرين الذين تأثّروا بوجهات نظر غير سليمة ، وأنكروا كلّ معجزة لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عدا القرآن الكريم ، عند ما التفتوا إلى وضوح الآية الكريمة محلّ البحث والرّوايات الكثيرة التي وردت في كتب علماء الإسلام في هذا المجال ، واجهوا عناءا في توجيه هذه المعجزة الربّانية ، وحاولوا نفي الظاهرة الإعجازية لهذا الحادث

والحقيقة أنّ مسألة «انشقاق القمر» كانت معجزة ، والآيات اللاحقة تحمل الدلائل الواضحة على صحّة هذا الأمر كما سنرى ذلك إن شاء الله.

لقد كان جديرا بهؤلاء أن يصحّحوا وجهات نظرهم تلك ، ليعلموا أنّ للرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم معجزات عديدة أيضا.

وإذا أريد الاستفادة من الآيات القرآنية لنفي المعجزات فإنّها تنفي المعجزات المقترحة من قبل المشركين المعاندين الذين لم يقصدوا قبول دعوة الحقّ من أوّل الأمر ولم يستجيبوا للرسول الأكرم بعد إنجاز المعجز ، لكن المعجزات التي تطلب من الرّسول من أجل الاطمئنان إلى الحقّ والإيمان به كانت تنجز من قبله ، ولدينا دلائل عديدة على هذا الأمر في تأريخ حياة الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

يقول سبحانه :( وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ ) .

والمراد من قوله تعالى «مستمر» أنّهم شاهدوا من الرّسول الكريمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم معجزات عديدة ، وشقّ القمر هو استمرار لهذه المعاجز ، وأنّهم كانوا يبرّرون إعراضهم عن الإيمان وعدم الاستسلام لدعوة الحقّ وذلك بقولهم : إنّ هذه المعاجز كانت «سحر مستمر».

٢٩١

وهنالك بعض المفسّرين من فسّر «مستمر» بمعنى «قوي» كما قالوا : (حبل مرير) أي : محكم ، والبعض فسّرها بمعنى : الطارئ وغير الثابت ، ولكن التّفسير الأنسب هو التّفسير الأوّل.

أمّا قوله تعالى :( وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ ) فإنّه يشير إلى سبب مخالفتهم وعنادهم وسوء العاقبة التي تنتظرهم نتيجة لهذا الإصرار.

إنّ مصدر خلاف هؤلاء وتكذيبهم للرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو تكذيب معاجزه ودلائله ، وكذلك تكذيب يوم القيامة ، هو اتّباع هوى النفس.

إنّ حالة التعصّب والعناد وحبّ الذات لم تسمح لهم بالاستسلام للحقّ ، ومن جهة اخرى فإنّ المشركين ركنوا للملذّات الرخيصة بعيدا عن ضوابط المسؤولية ، وذلك إشباعا لرغباتهم وشهواتهم ، وكذلك فإنّ تلوّث نفوسهم بالآثام حال دون استجابتهم لدعوة الحقّ ، لأنّ قبول هذه الدعوة يفرض عليهم التزامات ومسئوليات الإيمان والاستجابة للتكاليف

نعم إنّ هوى النفس كان وسيبقى السبب الرئيسي في إبعاد الناس عن مسير الحقّ

وبالنسبة لقوله تعالى :( وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ ) ، يعني أنّ كلّ إنسان يجازى بعمله وفعله ، فالصالحون سيكون مستقرّهم صالحا ، والأشرار سيكون مستقرّهم الشرّ.

ويحتمل أن يكون المراد في هذا التعبير هو أنّ كلّ شيء في هذا العالم لا يفنى ولا يزول ، فالأعمال الصالحة أو السيّئة تبقى مع الإنسان حتّى يرى جزاء ما فعل.

ويحتمل أن يكون تفسير الآية السابقة أنّ الأكاذيب والاتّهامات لا تقوى على الاستمرار الأبدي في إطفاء نور الحقّ والتكتّم عليه ، حيث إنّ كلّ شيء (خير أو شرّ) يسير بالاتّجاه الذي يصبّ في المكان الملائم له ، حيث إنّ الحقّ سيظهر وجهه الناصح مهما حاول المغرضون إطفاءه ، كما أنّ وجه الباطل القبيح سيظهر قبحه كذلك ، وهذه سنّة إلهيّة في عالم الوجود.

٢٩٢

وهذه التفاسير لا تتنافى فيما بينها ، حيث يمكن جمعها في مفهوم هذه الآية الكريمة.

* * *

بحوث

١ ـ شقّ القمر معجزة كبيرة للرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومع ذلك فإنّ بعض الأشخاص السطحيين يصرّون على إخراج هذا الحادث من حالة الإعجاز ، حيث قالوا : إنّ الآية الكريمة تحدّثنا فقط عن المستقبل وعن أشراط الساعة ، وهي الحوادث التي تسبق وقوع يوم القيامة

لقد غاب عن هؤلاء أنّ الأدلّة العديدة الموجودة في الآية تؤكّد على حدوث هذه المعجزة ، ومن ضمنها ذكر الفعل (انشقّ) بصيغة الماضي ، وهذا يعني أنّ (أشقّ القمر) شيء قد حدث كما أنّ قرب وقوع يوم القيامة قد تحقّق ، وذلك بظهور آخر الأنبياء محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

بالإضافة إلى ذلك ، إن لم تكن الآية قد تحدّثت عن وقوع معجزة ، فلا يوجد أي تناسب أو انسجام بينها وبين ما ورد في الآية اللاحقة حول افترائهم على الرّسول بأنّه (ساحر) وكذلك قوله :( وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ ) والتي تخبر الآية هنا عن تكذيبهم للرسالة والرّسول ومعاجزه.

إضافة إلى ذلك فإنّ الرّوايات العديدة المذكورة في الكتب الإسلامية ، والتي بلغت حدّ التواتر نقلت وقوع هذه المعجزة ، وبذلك أصبحت غير قابلة للإنكار.

ونشير هنا إلى روايتين منها :

الاولى : أوردها الفخر الرازي أحد المفسّرين السنّة ، والاخرى للعلّامة الطبرسي أحد المفسّرين الشيعة.

يقول الفخر الرازي : «والمفسّرون بأسرهم على أنّ المراد أنّ القمر انشقّ

٢٩٣

وحصل فيه الإنشقاق ، ودلّت الأخبار على حديث الإنشقاق ، وفي الصحيح خبر مشهور رواه جمع من الصحابة والقرآن أدلّ دليل وأقوى مثبت له وإمكانه لا يشكّ فيه ، وقد أخبر عنه الصادق فيجب إعتقاد وقوعه»(١) .

أمّا عن نظرية بطليموس والقائلة بأنّ (الأفلاك السماوية ليس بإمكانها أن تنفصل أو تلتئم) فإنّها باطلة وليس لها أي أساس أو سند علمي ، حيث إنّه ثبت من خلال الأدلّة العقليّة أنّ انفصال الكواكب في السماء أمر ممكن.

ويقول العلّامة الطبرسي في (مجمع البيان) : لقد أجمع المفسّرون والمحدّثون سوى عطاء والحسين والبلخي الذين ذكرهم ذكرا عابرا ، أنّ معجزة شقّ القمر كانت في زمن الرّسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

ونقل أنّ حذيفة ـ وهو أحد الصحابة المعروفين ـ ذكر قصّة شقّ القمر في جمع غفير في مسجد المدائن ولم يعترض عليه أحد من الحاضرين ، مع العلم أنّ كثيرا منهم قد عاصر زمن الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (ونقل هذا الحديث في هامش الآية المذكورة في الدرّ المنثور والقرطبي).

وممّا تقدّم يتّضح جيّدا أنّ مسألة شقّ القمر أمر غير قابل للإنكار ، سواء من الآية نفسها والقرائن الموجودة فيها ، أو من خلال الأحاديث والرّوايات ، أو أقوال المفسّرين ، ومن الطبيعي أن تطرح أسئلة اخرى حول الموضوع سنجيب عنها إن شاء الله فيما بعد.

٢ ـ مسألة شقّ القمر والعلم الحديث :

السؤال المهمّ المطروح في هذا البحث هو : هل أنّ الأجرام السماوية يمكنها أن تنفصل وتنشقّ؟ وما موقف العلم الحديث من ذلك؟

__________________

(١) التّفسير الكبير ، الفخر الرازي ، ج ٢٩ ، ص ٢٨ ، أوّل سورة القمر.

٢٩٤

وللإجابة على هذا السؤال وبناء على النتائج التي توصّل إليها العلماء الفلكيون ، فإنّ مثل هذا الأمر في نظرهم ليس بدرجة من التعقيد بحيث يستحيل تصوّره إنّ الاكتشافات العلمية التي توصّل إليها الباحثون تؤكّد أنّ مثل هذه الحوادث مضافا إلى أنّها ليست مستحيلة فقد لوحظت نماذج عديدة من هذا القبيل ولعدّة مرّات مع اختلاف العوامل المؤثّرة في كلّ حالة.

وبعبارة اخرى : فقد لوحظ أنّ مجموعة انفجارات وانشقاقات قد وقعت في المنظومة الشمسية ، بل في سائر الأجرام السماوية.

ويمكن ذكر بعض النماذج كشواهد على هذه الظواهر

أ ـ ظهور المنظومة الشمسية :

إنّ هذه النظرية المقبولة لدى جميع العلماء تقول : إنّ جميع كرات المنظومة الشمسية كانت في الأصل جزءا من الشمس ثمّ انفصلت عنها ، حيث أصبحت كلّ واحدة منها تدور في مدارها الخاصّ بها غاية الأمر هناك كلام في السبب لهذا الانفصال

يعتقد (لا پلاس) أنّ العامل المسبّب لانفصال القطع الصغيرة من الشمس هي : (القوّة الطاردة) التي توجد في المنطقة الإستوائية لها ، حيث أنّ الشمس كانت تعتبر ولحدّ الآن كتلة ملتهبة ، وضمن دورانها حول نفسها فإنّ السرعة الموجودة في المنطقة الإستوائية لها تسبّب تناثر بعض القطع منها في الفضاء ممّا يجعل هذه القطع تدور حول مركزها الأصلي (الشمس).

ولكن العلماء الذين جاءوا بعد (لا پلاس) توصّلوا من خلال تحقيقاتهم إلى فرضية اخرى تقول : إنّ السبب الأساس لحدوث الانفصال في الأجرام السماوية عن الشمس هو حالة المدّ والجزر الشديدين التي حدثت على سطح الشمس نتيجة عبور نجمة عظيمة بالقرب منها.

٢٩٥

الأشخاص المؤيّدون لهذه النظرية الذين يرون أنّ الحركة الوضعية للشمس في ذلك الوقت لا تستطيع أن تعطي الجواب الشافعي لأسباب هذا الانفصال ، قالوا : إنّ حالة المدّ والجزر الحاصلة في الشمس أحدثت أمواجا عظيمة على سطحها. كما في سقوط حجر كبير في مياه المحيط ، وبسبب ذلك تناثرت قطع من الشمس الواحدة تلو الاخرى إلى الخارج ، ودارت ضمن مدار الكرة الامّ (الشمس).

وعلى كلّ حال فإنّ العامل المسبّب لهذا الانفصال أيّا كان لا يمنعنا من الإعتقاد أنّ ظهور المنظومة الشمسية كان عن طريق الإنشقاق والانفصال.

ب ـ (الأستروئيدات):

الأستروئيدات : هي قطع من الصخور السماوية العظيمة تدور حول المنظومة الشمسية ، ويطلق عليها في بعض الأحيان بـ (الكرات الصغيرة) و (شبه الكواكب السيارة) يبلغ قطر كبراها (٢٥) كم ، لكن الغالبية منها أصغر من ذلك.

ويعتقد العلماء أنّ «الأستروئيدات» هي بقايا كوكب عظيم كان يدور في مدار بين مداري المريخ والمشتري تعرّض إلى عوامل غير واضحة ممّا أدّى إلى انفجاره وتناثره.

لقد ثمّ اكتشاف ومشاهدة أكثر من خمسة آلاف من (الأستروئيدات) لحدّ الآن ، وقد تمّ تسمية عدد كثير من هذه القطع الكبيرة ، وتمّ حساب حجمها ومقدار ومدّة حركتها حول الشمس ، ويعلّق علماء الفضاء أهميّة بالغه على الأستروئيدات ، حيث يعتقدون أنّ بالإمكان الاستفادة منها في بعض الأحيان كمحطّات للسفر إلى المناطق الفضائية النائية.

كان هذا نموذج آخر لانشقاق الأجرام السماوية.

٢٩٦

ج ـ الشهب :

الشهب : أحجار سماوية صغيرة جدّا ، حتّى أنّ البعض منها لا يتجاوز حجم (البندقة) ، وهي تسير بسرعة فائقة في مدار خاصّ حول الشمس وقد يتقاطع مسيرها مع مدار الأرض أحيانا فتنجذب إلى الأرض ، ونظرا لسرعتها الخاطفة التي تتميّز بها ـ تصطدم بشدّة مع الهواء المحيط بالأرض ، فترتفع درجة حرارتها بشدّة فتشتعل وتتبيّن لنا كخطّ مضيء وهّاج بين طبقات الجوّ ويسمّى بالشهاب.

وأحيانا نتصوّر أنّ كلّ واحدة منها تمثّل نجمة نائية في حالة سقوط ، إلّا أنّها في الحقيقة عبارة عن شهاب صغير مشتعل على مسافة قريبة يتحوّل فيما بعد إلى رماد.

ويلتقي مداري الشهب والكرة الأرضية في نقطتين هما نقطتا تقاطع المدارين وذلك في شهري (آب وكانون الثاني) حيث يصبح بالإمكان رؤية الشهب بصورة أكثر في هذين الشهرين.

ويقول العلماء : إنّ الشهب هي بقايا نجمة مذنّبة انفجرت وتناثرت أجزاؤها بسبب جملة عوامل غير واضحة وهذا نموذج آخر من الإنشقاق في الأجرام السماوية.

وعلى كلّ حال ، فإنّ الإنفجار والإنشقاق في الكرات السماوية ليس بالأمر الجديد ، وليس بالأمر المستحيل من الناحية العلمية ، ومن هنا فلا معنى حينئذ للقول بأنّ الإعجاز لا يمكن أن يتعلّق بالحال.

هذا كلّه عن مسألة الإنشقاق.

أمّا موضوع رجوع القطعتين المنفصلتين إلى وضعهما الطبيعي السابق تحت تأثير قوى الجاذبية التي تربط القطعتين فهو الآخر أمر ممكن.

ورغم أنّ الإعتقاد السائد قديما في علم الهيئة القديم طبق نظرية (بطليموس) واعتقاده بالأفلاك التسعة التي هي بمثابة قشور البصل في تركيبها ـ الواحدة على

٢٩٧

الاخرى ـ فأيّ جسم لا يستطيع أن يخترقها صعودا أو نزولا ، ولذلك فانّ أتباع هذه النظرية ينكرون المعراج الجسماني واختراقه للأفلاك التسعد ، كما أنّه لا يمكن وفقا لهذه النظريات انشقاق القمر ، ومن ثمّ التئامه ، ولذلك أنكروا مسألة شقّ القمر ، ولكن اليوم أصبحت فرضية (بطليموس) أقرب للخيال والأساطير منها للواقع ، ولم يبق أثر للأفلاك التسعة ، وأصبحت الأجواء لا تساعد لتقبّل مثل هذه الآراء.

وغني عن القول أنّ ظاهرة شقّ القمر كانت معجزة ، ولذا فإنّها لم تتأثّر بعامل طبيعي اعتيادي ، والشيء الذي يراد توضيحه هنا هو بيان إمكانية هذه الحادثة ، لأنّ المعجزة لا تتعلّق بالأمر المحال.

٣ ـ شقّ القمر تاريخيّا :

لقد طرح البعض من غير المطّلعين إشكالا آخر على مسألة شقّ القمر ، حيث ذكروا أنّ مسألة شقّ القمر لها أهميّة بالغة ، فإذا كانت حقيقيّة فلما ذا لم تذكر في كتب التأريخ؟

ومن أجل أن تتوضّح أهميّة هذا الإشكال لا بدّ من الإلمام والدراسة الدقيقة لمختلف جوانب هذا الموضوع ، وهو كما يلي :

أ ـ يجب الالتفات إلى أنّ القمر يرى في نصف الكرة الأرضية فقط ، وليس في جميعها ، ولذا فلا بدّ من إسقاط نصف مجموع سكّان الكرة الأرضية من إمكانية رؤية حادثة شقّ القمر وقت حصولها.

ب ـ وفي نصف الكرة الأرضية التي يرى فيها القمر فإنّ أكثر الناس في حالة سبات وذلك لحدوث هذه الظاهرة بعد منتصف الليل.

ج ـ ليس هنالك ما يمنع من أن تكون الغيوم قد حجبت قسما كبيرا من السماء ، وبذلك يتعذّر رؤية القمر لسكّان تلك المناطق.

٢٩٨

د ـ إنّ الحوادث السماوية التي تلفت انتباه الناس تكون غالبا مصحوبة بصوت أو عتمة كما في الصاعقة التي تقترن بصوت شديد أو الخسوف والكسوف الكليين الذي يقترن كلّ منها بانعدام الضوء تقريبا ولمدّة طويلة.

لذلك فإنّ الحالات التي يكون فيها الخسوف جزئيا أو خفيفا نلاحظ أنّ الغالبية من الناس لم تحط به علما ، اللهمّ إلّا عن طريق التنبيه المسبق عنه من قبل المنجّمين ، بل يحدث أحيانا خسوف كلّي وقسم كبير من الناس لا يعلمون به.

لذا فإنّ علماء الفلك الذين يقومون بر صد الكواكب أو الأشخاص الذين يتّفق وقوع نظرهم في السماء وقت الحادث هم الذين يطّلعون على هذا الأمر ويخبرون الآخرين به.

وبناء على هذا ونظرا لقصر مدّة المعجزة (شقّ القمر) فلن يكون بالمقدور أن تلفت الأنظار إليها على الصعيد العالمي ، خصوصا وأنّ غالبية الناس في ذلك الوقت لم تكن مهتّمة بمتابعة الأجرام السماوية.

ه ـ وبالإضافة إلى ذلك فإنّ الوسائل المستخدمة في تثبيت نشر الحوادث التأريخية في ذلك الوقت ، ومحدودية الطبقة المتعلّمة ، وكذلك طبيعة الكتب الخطيّة التي لم تكن بصورة كافية كما هو الحال في هذا العصر حيث تنشر الحوادث المهمّة بسرعة فائقة بمختلف الوسائل الإعلامية في كلّ أنحاء العالم عن طريق الإذاعة والتلفزيون والصحف كلّ هذه الأمور لا بدّ من أخذها بنظر الإعتبار في محدودية الاطلاع على حادثة (شقّ القمر).

ومع ملاحظة هذا الأمر والأمور الاخرى السابقة فلا عجب أبدا من عدم تثبيت هذه الحادثة في التواريخ غير الإسلامية ، ولا يمكن اعتبار ذلك دليلا على نفيها.

٢٩٩

٤ ـ تأريخ وقوع هذه المعجزة :

من الواضح أنّه لا خلاف بين المفسّرين ورواة الحديث حول حدوث ظاهرة شقّ القمر في مكّة وقبل هجرة الرّسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لكن الذي يستفاد من بعض الرّوايات هو أنّ حدوث هذا الأمر كان في بداية بعثة الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (١) . في حين يستفاد من البعض الآخر أنّ حدوث هذا الأمر قد وقع قرب هجرة الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وفي آخر عهده بمكّة ، وكان استجابة لطلب جماعة قدموا من المدينة لمعرفة الحقّ وأتباعه ، إذ أنّهم بعد رؤيتهم لهذه المعجزة آمنوا وبايعوا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في العقبة(٢) .

ونقرأ في بعض الرّوايات أيضا أنّ سبب اقتراح شقّ القمر كان من أجل المزيد من الاطمئنان بمعاجز الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأنّها لم تكن سحرا لأنّ السحر عادة يكون في الأمور الأرضية(٣) . ومع ذلك فإنّ قسما من المتعصّبين والمعاندين لم يؤمنوا برغم مشاهدتهم لهذا الإعجاز ، وتتعلّلوا بأنّهم ينتظرون قوافل الشام واليمن ، فإنّ أيّدوا هذا الحادث ورؤيتهم له آمنوا ومع إخبار المسافرين لهم بذلك ، إلّا أنّهم بقوا مصرّين على الكفر رافضين للإيمان(٤) .

والنقطة الأخيرة الجديرة بالذكر أنّ هذه المعجزة العظيمة والكثير من المعاجز الاخرى ذكرت في التواريخ والرّوايات الضعيفة مقترنة ببعض الخرافات والأساطير ، ممّا أدّى إلى حصول تشويش في أذهان العلماء بشأنها ، كما في نزول قطعة من القمر إلى الأرض. لذا فإنّ من الضروري فصل هذه الخرافات وعزلها بدقّة وغربلة الصحيح من غيره ، حتّى تبقى الحقائق بعيدة عن التشويش ومحتفظة بمقوّماتها الموضوعية.

* * *

__________________

(١) بحار الأنوار ، ج ١٧ ، ص ٣٥٤ حديث (٨).

(٢) بحار الأنوار ، ج ١٧ ، ص ٣٥٢ حديث (١).

(٣) بحار الأنوار ، ج ١٧ ، ص ٣٥٥ حديث (١٠).

(٤) الدرّ المنثور ، ج ٦ ، ص ١٢٣.

٣٠٠

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496