الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٨

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل12%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 496

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 496 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 231502 / تحميل: 7122
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٨

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

٣ ـ العبادة والتكامل

وكما هو معلوم فإنّ الإنسان قد بدأ انطلاقته في الحياة من نقطة العدم ولا يزال يسير نحو المطلق ، ولن تتوقف عجلة تكامله (ما دام مداوما على الطريق) كما أنّه يمتلك مقومات السير ويمتاز بقابلية فائقة واستعداد كامل في طلبه للتكامل ، هذا من جهة.

ومن جهة أخرى ـ تعتبر العبادة مدرسة عالية للتربية ، لأنّها توقظ عقل الإنسان ، وتوجه فكره نحو المطلق ، وتغسل غبار الذنوب والغفلة من قلبه وروحه ، وتنمي فيه الصفات الإنسانية الرفيعة ، وتقوي إيمانه وتجعله أكثر وعيا واكبر مسئولية.

فلا يمكن للإنسان الواقعي أن يستغني عن هذه المدرسة الراقية ، أمّا الذين يعتقدون بأنّ الإنسان قد يصل إلى درجة معينة لا يحتاج عندها إلى العبادة ، فأولئك إمّا أنّهم يعتبرون عملية تكامل الإنسان محدودة وتنتهي بحدّ معين ، أو أنّهم لم يدركوا معنى العبادة حقّا.

وللعلّامة الطّباطبائيرحمه‌الله في تفسير الميزان بيان بهذا الشأن ، إليك ملخصه ، (إن كل نوع من أنواع الموجودات له غاية كمالية ، وكذلك الإنسان له غاية تكاملية لا ينالها إلّا بالاجتماع المدني ، ولهذا فهو اجتماعي بالطبع ، وإن تحقق هذا الاجتماع فسيحتاج أفراد المجتمع إلى أحكام وقوانين ينتظم باحترامها والعمل بها شتات أمورهم ، وترتفع بهذا اختلافاتهم الضرورية ، ويقف بها كل منهم في موقفه الذي ينبغي له ، ويحوز بها سعادته وكماله الوجودية.

وبعبارة أخرى : إن كان المجتمع الإنساني صالحا أمكن لأفراده الوصول إلى هدفهم النهائي في الكمال ، وإن فسد المجتمع تخلف أفراده عن هذا التكامل.

وإنّ هذه الأحكام والقوانين سواء كانت اجتماعية أو عبادية ، لا تكون مؤثرة إلّا إذا أخذت من طريق النّبوة والوحي السماوي لا غير.

١٢١

ونعلم أيضا أنّ الأحكام العبادية تشكل جزءا من هذا التكامل الفردي والاجتماعي.

وبهذا يتبيّن أنّ التكليف الإلهي يلازم الإنسان ما عاش في هذه النشأة الدنيوية ، وأن تجويز ارتفاع التكليف ملازم لتجويز تخلفه عن الأحكام والقوانين ، وهذا يوجب فساد المجتمع!

ومن الجدير بالملاحظة أنّ الأعمال الصالحة والعبادات منبع للملكات النفسانية الفاضلة فإذا أديت هذه الأعمال بقدر كاف ، وقويت تلك الملكات الفاضلة في نفس الإنسان ، فستكون نفسها منبعا جديدا لأعمال صالحة أكثر وطاعات وعبادات أفضل.

ومن هنا يظهر فساد ما ربّما يتوهّم أنّ الغرض من التكليف هو تكميل الإنسان فإذا كمل لم يكن لبقاء التكليف معنى ، وما ذلك إلّا مغالطة ليس أكثر ، لأنّ الإنسان لو تخلف عن التكليف الإلهي فإنّ المجتمع سيسير نحو الفساد فورا ، فكيف يتسنى للفرد الكامل أن يعيش في هكذا مجتمع!

وكذلك فرضية تخلف الإنسان عند امتلاكه الملكات الفاضلة عن العبادات وطاعة الله، فإنّها تعني تخلف هذه الملكات عن آثارها(١) ـ فتأمل.

* * *

__________________

(١) تفسير الميزان ، ج ١٢ ، ص ١٩٩.

١٢٢

سورة النّحل

مكّية

وعدد آياتها مائة وثمان وعشرون آية

١٢٣
١٢٤

«سورة النحل »

محتويات السّورة :

يذهب أكثر المفسّرين إلى أنّ قسما من آيات هذه السورة مكيّة ، وقسمها الآخر آيات مدنيّة ، في حين يعتبر بعضهم أنّ آياتها مكية على الإطلاق. وعند ملاحظة طبيعة السورة المكية والمدنية يتبيّن لنا أنّ الرأي الأوّل أكثر صوابا ، ويعزز ذلك ما تبحثه الآية (٤١)( وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللهِ ) ، والآية (١١٠)( ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا ثُمَّ جاهَدُوا وَصَبَرُوا ) حيث أنّها تناولت بوضوح موضوع الهجرة والجهاد معا وكما هو بيّن فإنّ الموضوعين يتناسبان مع الحوادث التي جرت بعد هجرة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من مكّة إلى المدينة.

وإذا اعتبرنا الهجرة المشار إليها في الآية (٤١) هي هجرة المسلمين الأولى حين هاجر جمع منهم من مكّة إلى الحبشة برئاسة جعفر بن أبي طالب رضى الله عنه ، فيستبعد أن تكون الهجرة والجهاد المشار إليهما في الآية (١١٠) الهجرة الأولى ، ولا تنطبق الآية المباركة إلّا على هجرة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى المدينة.

بالإضافة إلى أنّ الآية (١٢٦)( وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ ) قد نزلت في غزوة أحد التي وقعت بعد الهجرة الثّانية ، وهذا معروف عند المفسّرين.

وقال بعض المفسّرين : إنّ الآيات الأربعين الأوّل من السورة نزلت في مكّة وبقية الآيات نزلت في المدينة ، في حين يعتبر البعض الآخر منهم جميع آياتها

١٢٥

مكّية سوى الآيات المتعلقة بغزوة أحد (الآيات الثلاثة الأخيرة).

فالمتيقن بخصوص السورة أنّ آياتها مكّية ومدينة ، إلّا أنّه لا يمكن تشخيص ما هو مكي أو مدني بالدقة الكافية سوى الموارد المذكورة.

وعلى أية حال ، فمن خلال ملاحظة السورة يبدو لنا أنّ بحوثها تتناول ما تتناوله الآيات المكّية تارة مثل : التوحيد ، المعاد ، محاربة الشرك وعبادة الأصنام ، وتارة أخرى ما تتناوله الآيات المدينة مثل : الأحكام الاجتماعية ومسائل الجهاد والهجرة.

ويمكننا إجمال محتويات السورة المسبوكة بعناية وإحكام بما يلي :

١ ـ ذكر النعم الإلهية ، وتفصيلها بما يثير دافع الشكر عند كل ذي حس حي ، ليقترب الإنسان من خالق هذه النعم وواهبها.

ومن النعم المذكورة في السورة : نعمة المطر ، نور الشمس ، أنواع النباتات والثمار ، المواد الغذائية الأخرى ، الحيوانات الداجنة بما تقدمه من خدمات ومنافع للإنسان ، مستلزمات وسائل الحياة وحتى نعمة الولد والزوجة ، وبعبارة شاملة (أنواع الطيبات).

ولهذا أطلق البعض عليها (سورة النعم).

وعرفت بسورة النحل لورود تلك الإشارة القصيرة ذات المعاني الجليلة والعجيبة للنحل، ضمن ما ذكر من النعم الإلهية الواسعة ، وبخصوص اعتبار النحل مصدرا لغذاء مهم من أغذية الإنسان ، وباعتبار حياة هذه الحشرة تعبير ناطق لتوحيد الله.

٢ ـ الحديث عن أدلة التوحيد ، عظمة ما خلق الخالق ، المعاد ، إنذار المشركين والمجرمين.

٣ ـ تناول الأحكام الإسلامية المختلفة ، من قبيل : الأمر بالعدل والإحسان ، الهجرة والجهاد ، النهي عن الفحشاء والمنكر والظلم والاستبداد وخلف العهد ،

١٢٦

بالإضافة إلى الدعوة لشكر الله تعالى على نعمة الجزيلة ، وتأتي الإشارة في آيات عديدة إلى أنّ إبراهيمعليه‌السلام رجل التوحيد لأنه كان من الشاكرين.

٤ ـ الحديث عن بدع المشركين مع ذكر أمثلة جميلة حية.

٥ ـ وأخيرا تحذير الإنسانية من وساوس الشيطان.

فضيلة السّورة :

روي عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، في فضل سورة النحل ، أنّه قال : «من قرأها لم يحاسبه الله تعالى بالنعم التي أنعمها عليه من دار الدنيا»(١) .

فقراءة الآيات ـ التي تتناول جانبا كبيرا من النعم الإلهية ـ بتدبر وتفكر مع وجود العزم على العمل والسير وفق الشكر للمنعم ، تكون سبيلا لأن يستعمل الإنسان كل نعمة بما ينبغي عليه أن يستعمل ، فلا يحبس ولا يهمل ، ويكون من الشاكرين فإن أصبح كذلك فهل سيتعرض لمحاسبة بعد؟

* * *

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ٦ ، ص ٣٢٧.

١٢٧

الآيتان

( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ )

( أَتى أَمْرُ اللهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (١) يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاتَّقُونِ (٢) )

التّفسير

أتى أمرالله:

ذكرنا سابقا أن قسما مهمّا من الآيات التي جاءت في أوّل السورة هي آيات مكّية نزلت حينما كان النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يخوض صراعا مشتدا مع المشركين وعبدة الأصنام ، وما يمر يوم حتى يطلع أعداء الرسالة بمواجهة جديدة ضد الدعوة الإسلامية المباركة ، لأنّها تريد بناء صرح الحرية ، بل كل الحياة من جديد.

ومن جملة مواجهاتهم اليائسة قولهم للنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حينما يهددهم وينذرهم بعذاب الله:إن كان ذلك حقا فلم لا يحل العذاب والعقاب بنا إذن؟!

ولعلهم يضيفون : وحتى لو نزل العذاب فسنلتجئ إلى الأصنام لتشفع لنا عند الله في رفع العذاب ولم لا يكون ذلك ، أو لسن شفيعات؟!

وأوّل آية من السورة تبطل أوهام أولئك بقوله تعالى :( أَتى أَمْرُ اللهِ فَلا

١٢٨

تَسْتَعْجِلُوهُ ) ، وإن اعتقدتم أنّ الأصنام شافعة لكم عند الله فقد أخطأتم الظن( سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ ) .

ف «أمر الله» هنا : أمر العذاب للمشركين ، أمّا الفعل «أتى» فالمراد منه المستقبل الحتمي الوقوع على الرّغم من وقوعه بصيغة الماضي ، ومثل هذا كثير في الأسلوب البلاغي للقرآن.

واحتمل بعض المفسّرين أنّ «أمر الله» إشارة إلى نفس العذاب وليس الأمر به.

واحتمل بعض آخر أنّ المراد به يوم القيامة.

ويبدو لنا أنّ التّفسير الذي ذكرناه أقرب من غيره ، والله العالم.

وبما أنّ مستلزمات العدل الإلهي اقتضت عدم العقاب إلّا بعد البيان الكافي والحجّة التامة ، فقد أضاف سبحانه :( يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ (١) عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا ) بناء على هذا الإنذار والتذكير( فَاتَّقُونِ ) .

أما المقصود من «الروح» في الآية فهناك كلام كثير بين المفسّرين في ذلك إلّا أنّ الظاهر منها هو : الوحي والقرآن والنّبوة والتي هي مصدر الحياة المعنوية للبشرية.

وقد فصل بعض المفسّرين الوحي عن القرآن وعن النّبوة ، معتبرا ذلك ثلاثة تفاسير مستقلة للكلمة ولكنّ الظاهر رجوع الجميع إلى حقيقة واحدة.

وعلى أية حال فكلمة «الروح» في هذا الموضوع ذات جانب معنوي وإشارة إلى كل ما هو سبب لإحياء القلوب وتهذيب النفوس وهداية العقول ، كما نقرأ في الآية الرّابعة والعشرين من سورة الأنفال :( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ

__________________

(١) «من» في عبارة «من أمره» جاءت بمعنى «ب» السببية.

١٢٩

وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ ) وفي الآية الخامسة عشر من سورة غافر :( يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ ) وفي الآية والثانية الخمسين من سورة الشورى :( وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ ) .

وجليّ أنّ «الرّوح» في الآيات المتقدمة ترمز إلى «القرآن» و «الوحي» و «أمر النّبوة».

وقد وردت «الرّوح» بمعاني أخر في مواضع من القرآن الكريم ، ولكن مع الأخذ بنظر الإعتبار ما ذكر من قرائن نخلص إلى أنّ المراد من مفهوم «الروح» في الآية مورد البحث هو القرآن وما تضمنه الوحي.

وجدير بالملاحظة أنّ عبارة( عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ ) لا تعني أن هداية الوحي والنّبوة لا حساب فيها ، لأنّه لا انفصام ولا ضدية بين مشيئة الله وحكمته ، كما تحدثنا في ذلك الآية (١٢٤) من سورة الأنعام :( اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ ) .

ولا ينبغي غض الطرف من كون الإنذار من أوائل الأوامر الربانية الموجهة إلى الأنبياءعليهم‌السلام بدليل عبارة( أَنْ أَنْذِرُوا ) ، لأنّ من طبيعة الإنذار أن يعقبه انتباه فنهوض وحركة.

صحيح أنّ الإنسان طالب للمنفعة ودافع للضرر ، ولكنّ التجربة أظهرت أنّ للترغيب أثر بالغ لمن يمتلك أسس وشرائط قبول الهداية ، أما من أعمت بصيرتهم ملهيات الحياة الدنيا فلا ينفع معهم إلّا التهديد والوعيد ، وفي بداية دعوة النّبي كان من الضروري استخدام أسلوب الإنذار الشديد.

* * *

١٣٠

الآيات

( خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (٣) خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (٤) وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ وَمَنافِعُ وَمِنْها تَأْكُلُونَ (٥) وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ (٦) وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ إِلى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (٧) وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ (٨) )

التّفسير

الحيوان ذلك المخلوق المعطاء :

بعد أن تحدثت الآيات السابقة عن نفي الشرك ، جاءت هذه الآيات لتقلع جذوره بالكامل ، وتوجه الإنسان نحو خالقة بطريقين :

الأوّل : عن طريق الأدلة العقلية من خلال فهم ومحاولة استيعاب ما في الخلائق من نظام عجيب.

الثّاني : عن طريق العاطفة ببيان نعم الله الواسعة على الإنسان ، عسى أن

١٣١

يتحرك فيه حس الشكر على النعم فيتقرب من خلاله إلى المنعم سبحانه.

فيقول :( خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِ ) .

وتتّضح حقّانيّة السماوات والأرض من نظامها المحكم وخلقها المنظم وكذلك من هدف خلقها وما فيها من منافع.

ثمّ يضيف :( تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ ) .

فهل تستطيع الأصنام إيجاد ما أوجده الله؟!

بل هل تستطيع أن تخلق بعوضة صغيرة أو ذرة تراب؟!

فكيف إذن جعلوها شريكة الله سبحانه!!

والمضحك المبكي في حال المشركين أنّهم يعتبرون الله هو الخالق عن علم وقدرة لهذا النظام العجيب والخلق البديع ومع ذلك فهم يسجدون للأصنام!

وبعد الإشارة إلى خلق السماوات والأرض وما فيها من أسرار لا متناهية يعرّج القرآن الكريم إلى بعض تفاصيل خلق الإنسان من الناحية التكوينية فيقول :( خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ ) .

«النطفة» (في الأصل) بمعنى : الماء القليل ، أو الماء الصافي ، ثمّ أطلقت على قطرات الماء التي تكون سببا لوجود الإنسان بعد تلقيحها.

وحقيقة التعبير يراد به تبيان عظمة وقدرة اللهعزوجل ، حيث يخلق هذا المخلوق العجيب من قطرة ماء حقيرة مع ما له من قيمة وتكريم وشرف بين باقي المخلوقات وعند الله أيضا.

هذا إذا ما اعتبرنا «الخصيم» بمعنى المدافع والمعبر عمّا في نفسه ، كما تخبرنا الآية (١٠٥) من سورة النساء بذلك :( وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً ) كما ذهب إليه جمع من المفسّرين.

وهناك من يذهب إلى تفسير آخر ، خلاصته : بقدرة الله التامة خلق الإنسان من نطفة حقيرة ، ولكنّ هذا المخلوق غير الشكور يقف في كثير من المواضع

١٣٢

مجادلا خصيما أمام خالقه ، واعتبروا الآية السابعة والسبعين من سورة يس شاهدا على ما ذهبوا إليه.

إلّا أنّ التّفسير الأوّل كما يبدو ـ أقرب من الثّاني ، لأنّ الآيات أعلاه في مقام بيان عظمة الله وقدرته ، وتتبيّن عظمته بشكل جلي حين يخلق كائنا شريفا جدا من مادة ليست بذي شأن في ظاهرها.

وجاء في تفسير علي بن إبراهيم : (خلقه من قطرة من ماء منتن فيكون خصيما متكلما بليغا)(١) .

ثمّ يشير القرآن الكريم إلى نعمة خلق الحيوانات وما تدر من فوائد كثير للإنسان فيقول:( وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ وَمَنافِعُ وَمِنْها تَأْكُلُونَ ) .

فخلق الأنعام الدال على علم وقدرة الباري سبحانه ، فيها من الفوائد الكثيرة للإنسان ، وقد أشارت الآية إلى ثلاث فوائد :

أوّلا : «الدفء» ويشمل كل ما يتغطى به (بالاستفادة من وبرها وجلودها) كاللباس والأغطية والأخذية والأخبية.

ثانيا : «المنافع» إشارة إلى اللبن ومشتقاته.

ثالثا : «منها تأكلون» أي ، اللحم.

ويلاحظ تقديم الملابس والأغطية والمسكن ، في عرض منافع الأنعام دون المنافع الأخرى ، وهذا دليل على أهميتها وضروريتها في الحياة.

ويلاحظ أيضا مجيء كلمة «الدفء» قبل «المنافع» إشارة إلى أنّ ما تدفع به الضرر مقدم على ما يجلب لك فيه المنفعة.

ويمكن للبعض ممن يخالفون أكل اللحوم أن يستدلوا بظاهر هذه الآية ، حيث لم يعتبر الباري جل شأنه مسألة أكل لحومها ضمن منافعها ، ولهذا نرى قد جاءت

__________________

(١) تفسير نور الثقلين ، ج ٣ ، ص ٣٩.

١٣٣

( وَمِنْها تَأْكُلُونَ ) بعد ذكر كلمة «المنافع» ، وأقل ما يستنتج من الآية اعتبارها لأهمية الألبان أكثر بكثير من اللحوم.

ولم يكتف بذكر منافعها المادية ، بل أشار إلى المنافع النفسية والمعنوية كذلك حين قال :( وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ ) .

«تريحون» : (من مادة الإراحة) بمعنى إرجاع الحيوانات عند الغروب إلى محل استراحتها ، ولهذا يطلق على ذلك المحل اسم (المراح).

و «تسرحون» : (من مادة السروح) بمعنى خروج الحيوانات صباحا إلى مراعيها.

عبّر القرآن بكلمة «جمال» عن تلك الحركة الجمالية للأنعام حين تسرع إلى مراعيها وتعود إلى مراحها ، لما لها من جمال ورونق خاص يغبط الإنسان ، والمعبر عن حقيقة راسخة في عمق المجتمع.

فحركة الإبل إضافة إلى روعتها فإنّها تطمئن المجتمع بأنّ ما تحتاجه من مستلزمات حياتك ها هو يسير بين عينيك ، فتمتع به وخذ منه ما تحتاجه ، ولا داعي لأن ترتبط بهذا أو ذاك فتسضعف ، وكأنّها تخاطبه : فأنت مكتف ذاتيا بواسطتي.

ف «الجمال» جمال استغناء واكتفاء ذاتي ، وجمال إنتاج وتأمين متطلبات أمّة كاملة، وبعبارة أوضح : جمال الاستقلال الاقتصادي وقطع كل تبعية للغير!

والحقيقة التي يدركها القرويون وأبناء الريف أكثر من غيرهم ، هي ما تعطيه حركة تلك الأنعام من راحة نفسية للإنسان ، راحة الإحساس بعدم الحاجة والاستغناء ، راحة تأدية إحدى الوظائف الاجتماعية الهامة.

ومن لطيف الإشارة أنّ بدأت الآية أعلاه بذكر عودة الأنعام إلى مراحلها ، حيث الملاحظ عليها في هذه الحال أثديتها ملأى باللبن ، بطونها ممتلئة ، يشاهد على وجوهها علائم الرضا والارتياح ولا يرى فيها ذلك الحرص والولع والعجلة

١٣٤

التي تظهر عليها حين خروجها في الصباح ، بل تسير هادئة مطمئنة نحو محل استراحتها ، ويكفيك الشعور بالغنى من خلال رؤية أثدائها.

ثمّ يشير تعالى في الآية التي تليها إلى إحدى المنافع المهمّة الأخرى فيقول :( وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ إِلى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ ) وهذا مظهر من مظاهر رحمة اللهعزوجل ورأفته حيث سخر لنا هذه الحيوانات مع ما تملك من قدرة وقوّة( إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ ) .

«الشق» : (من مادة المشقة) ، ولكنّ بعض المفسّرين احتمل أنّها بمعنى الشق والقطع ، أي أنّكم لا تستطيعون حمل هذه الأثقال وإيصالها إلى مقاصدكم إلّا بعد أن تخسروا نصف قوتكم.

ويبدو أنّ التّفسير الأوّل أقرب من الثّاني.

فالأنعام إذن : تعطي للإنسان ما يلبسه ويدفع عنه الحر والبرد. وكذلك تعطيه الألبان واللحوم ليتقوت بها. وتترك في نفس الإنسان آثارا نفسية طيبة. وأخيرا تحمل أثقاله.

وبالرغم ممّا وصل إليه التقدم التقني في مدنية الإنسان وتهيئة وسائل النقل الحديثة ، إلّا أن سلوك كثير من الطرق لا زال منحصرا بالدواب.

ثمّ يعرج على نوح آخر من الحيوانات ، يستفيد الإنسان منها في تنقلاته ، فيقول :( وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً ) .

و «زينة» هنا ليست كلمة زائدة أو عابرة بقدر ما تعبر عن واقع الزينة في مفهومها الصحيح ، وما لها من أثر على ظاهر الحياة الاجتماعية.

ولأجل الإيضاح بشكل أقرب نقول : لو قطع شخص طريقا صحراويا طويلا مشيا على الأقدام ، فكيف سيصل مقصده؟ سيصله وهو متعب خائر القوى ، ولا يقوى على القيام بأي نشاط.

أمّا إذا ما استعمل وسيلة مريحة سريعة في سفره ، فإنّه ـ والحال هذه ـ سيصل

١٣٥

إلى مقصده وقد كسب الوقت ، ولم يهدر طاقاته ، وحافظ على النشاط والقدرة على قضاء حوائجه بعد كل هذا ، أو ليس ذلك زينة؟!

وتأتي الإشارة في ذيل الآية إلى ما سيصل إليه مآل الإنسان في الحصول على الوسائط النقلية المدنية من غير الحيوانات ، فيقول :( وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ ) من المراكب ووسائل النقل.

وبعض قدماء المفسّرين اعتبر هذا المقطع من الآية إشارة إلى الحيوانات ستخلق في المستقبل ليستعملها الإنسان في تنقلاته.

وورد في تفسير (المراغي) وتفسير (في ظلال القرآن) أنّ درك مفهوم هذه الجملة أسهل لنا ونحن نعيش في عصر السيارة ووسائل النقل السريعة الأخرى.

وعند ما تعبّر الآية بكلمة «يخلق» فذلك لأنّ الإنسان في اختراعه لتلك الوسائل ليس هو الخالق لها ، بل إنّ المواد الأولية اللازمة للاختراعات ، مخلوقة وموجودة بين أيدينا وما على الإنسان إلّا أن يستعمل ما وهبه الله من قدرة على الاختراع لما أودع فيه من استعداد وقابلية بتشكيل وتركيب تلك المواد على هيئة يمكن من خلالها أن تعطي شيئا آخر يفيد الإنسان.

أهمية الزراعة والثروة الحيوانية :

على الرغم من انتشار الآلات الإنتاجية في جميع مرافق الحياة ، كما هو حاصل في يومنا ، إلّا أن الزراعة وتربية الحيوانات تبقى متصدرة لقائمة المنتوجات من حيث الأهمية في حياة الإنسان ، لأنّها مصدر الغذاء ، ولا حياة بدونه.

حتى أنّ الاكتفاء الذاتي في مجالي الزراعة والثروة الحيوانية يعتبر الدعامة الرئيسية لضمان الاستقلالين الاقتصادي والسياسي إلى حدّ كبير.

ولذلك نرى شعوب العالم تسعى جاهدة لإيصال زراعتها وثروتها الحيوانية

١٣٦

لأعلى المستويات مستفيدة من التقدم التقني الحاصل.

والحاجة لأي من هذين الإنتاجين الأساسيين من الخطورة والأهمية البالغة ما يجعل دولة عظمى كروسيا تمديد العوز وتعطي بعض التنازلات السياسية لدول متباينة معها في الخط السياسي العقائدي لاضطرارها لتأمين احتياجاتها!

وأعطت التعاليم الإسلامية أهمية خاصة للإنتاج الحيواني والزراعة بالحث والترغيب لغور غمار هذه العملية المعطاءة.

فقد رأينا كيف عرضت الآيات السابقة وبلحن مشوق حركة الأنعام ومنافعها للترغيب فيها.

وسيأتي الحديث إن شاء الله في الآيات القادمة عن أهمية الزراعة ومنافع الثمار المختلفة.

ونورد هنا (ومن مصادر مختلفة) بعض الرّوايات التي تخص موضوعنا وما جاءت به من تعبيرات جميلة.

١ ـ عن أبي جعفرعليه‌السلام أنّه قال : «قال النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعمته : ما يمنعك من أن تتخذي في بيتك ببركة؟

فقالت : يا رسول الله ما البركة؟

فقال : شاة تحلب ، فإنّه من كانت في داره شاة تحلب أو نجعة أو بقرة فبركات كلّهن»(١) .

٢ ـ وروي عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال في الغنم : «نعم المال الشاة»(٢) .

٣ ـ وفي تفسير نور الثقلين ، في تفسير الآيات مورد البحث ، روي عن أمير المؤمنين عليعليه‌السلام أنّه قال : «أفضل ما يتخذه الرجل في منزله لعياله الشاة ، فمن كان

__________________

(١) بحار الأنوار ، ج ٦٤ ، ص ١٣٠ ، ورد ذكر النجعة (في هذا الحديث) إضافة إلى الشاة والبقرة ، وهي في اللغة : البقر الوحشي والأغنام الجبلية وأنثى الغنم.

(٢) بحار الأنوار ، ج ٦٤ ، ص ١٢٩.

١٣٧

في منزلة شاة قدست عليه الملائكة مرّتين في كل يوم».

ولا ينبغي الغفلة عن أنّ الكثير من بيوت المدن غير صالحة لتربية الأغنام ، والهدف الأصلي من إشارة الرّوايات هو إنتاج ما يحتاج إليه الناس على الدوام ـ فتأمل.

٤ ـ ويكفينا ما قال أمير المؤمنين عليعليه‌السلام في أهمية الزّراعة : «من وجد ماء وترابا ثمّ افتقر فأبعده الله»(١) .

وبديهي انطباق هذا الحديث على الفرد والأمّة معا ، فالشعب الذي لديه مستلزمات الزراعة بشكل كاف ومع ذلك يمد يده لطلب المساعدة إلى الآخرين ، فهو مبعد عن رحمة الله بلا إشكال.

٥ ـ روي عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «عليكم بالغنم والحرث فإنّهما يروحان بخير ويغدوان بخير»(٢) .

٦ – وروي عن الإمام الصادقعليه‌السلام أنّه قال : «ما في الأعمال شيء أحبّ إلى الله من الزراعة»(٣) .

٧ ـ وأخيرا نقرأ في حديث روي عن الإمام الصادقعليه‌السلام ما يلي : «الزارعون كنوز الأنام يزرعون طيبا أخرجه اللهعزوجل ، وهم يوم القيامة أحسن الناس مقاما وأقربهم منزلة ، يدعون المباركين»(٤) .

* * *

__________________

(١) بحار الأنوار ، ج ٢٣ ، ص ١٩.

(٢) بحار الأنوار ، ج ١٤ ، ص ٣٠٤.

(٣) بحار الأنوار ، ج ٢٣ ، ص ٢٠.

(٤) وسائل الشيعة ، ج ١٣ ، ص ١٩٤.

١٣٨

الآيات

( وَعَلَى اللهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْها جائِرٌ وَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ (٩) هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً لَكُمْ مِنْهُ شَرابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ (١٠) يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (١١) وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّراتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (١٢) وَما ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (١٣) )

التّفسير

كل شيء في خدمة الإنسان!

بعد ذكر مختلف النعم في الآيات السابقة ، تشير هذه الآيات إلى نعم أخرى

فتشير أوّلا إلى نعمة معنوية عالية في مرماها( وَعَلَى اللهِ قَصْدُ السَّبِيلِ ) أي عليه سبحانه سلامة الصراط المستقيم وهو الحافظ له من كل انحراف ، وقد وضعه في

١٣٩

متناول الإنسان.

«القصد» : بمعنى صفاء واستواء الطريق ، فيكون معنى «قصد السبيل» الصراط المستقيم الذي ليس فيه ضلال ولا انحراف(١) .

ولكن أي النحوين من الصراط المستقيم هو المراد ، التكويني أم التشريعي؟

اختلف المفسّرون في ذلك ، إلّا أنّه لا مانع من قصد الجانبين معا.

توضيح :

جهّز الله الإنسان بقوى متنوعة وأعطاه من القوى والقابليات المختلفة ما يعينه على سلوكه نحو الكمال الذي هو الهدف من خلقه.

وكما أنّ بقية المخلوقات قد أودعت فيها قوى وغرائز توصلها إلى هدفها ، إلّا أنّ الإنسان يمتاز عليها بالإرادة وبحرية الإختيار فيما يريده ، ولهذا فلا قياس بين الخط التصاعدي لتكامل الإنسان وبقية الأحياء الأخرى.

فقد هدى الله الإنسان بالعقل والقدرة وبقية القوى التكوينية التي تعينه للسير على الصراط المستقيم.

كما أرسل له الأنبياء والوحي السماوي وأعطاه التعليمات الكافية والقوانين اللازمة للمضي بهدي التشريع الرّباني في تكملة مشوار المسيرة ، وترك باقي السبل المنحرفة.

ومن لطيف الأسلوب القرآني جعل الأمر المذكور في الآية فريضة عليه جل شأنه فقال:( عَلَى اللهِ ) ، وكثيرا ما نجد مثل هذه الصيغة في الآيات القرآنية ، كما في الآية (١٢) من سورة الليل( إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى ) ، ولو دققنا النظر في سعة مدلول( عَلَى اللهِ قَصْدُ السَّبِيلِ ) وما أودع في الإنسان من هدي تكويني

__________________

(١) ذكر بعض كبار المفسّرين كالعلّامة الطباطبائي في الميزان أن «القصد» بمعنى (القاصد) في قبال «الجائر» أي المنحرف عن الحق.

١٤٠

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

محمّد البدر، آخر أئمة الزيديّة، فليرجع إلى كتابنا (بحوث في الملل والنحل). (1)

فكما قامت للزيديّة دولة في المغرب واليمن، فهكذا قامت دولة زيديّة في طبرستان بين الأعوام (250 - 360هـ)؛ حيث ظهر الحسن بن زيد بن محمّد بن إسماعيل بن زيد بن الحسين في طبرستان أيّام المستعين الله، وتمكّن من بسط نفوذه على طبرستان وجُرجان، وقام بعده أخوه محمّد بن زيد، ودخل بلاد الديلم عام 277هـ، ثُمَّ ملك طبرستان بعد ذلك الناصر للحق الحسن بن عليّ المعروف بالأطروش، وجاء بعده الحسن بن القاسم، وبعده محمّد بن الحسن بن القاسم المتوفّى 360هـ.

هذه إلمامة موجزة وضعتها أمام القارئ عن ثوّارهم ودولهم.

عقائد الزيديّة

لم يكن زيد الشهيد صاحب نهج كلامي ولا فقهي، فلو كان يقول بالعدل والتوحيد ويكافح الجبر والتشبيه، فلأجل أنّه ورثهما عن آبائه (عليهم السّلام)، وإن كان يفتي في مورد أو موارد، فهو يصدر عن الحديث الّذي يرويه عن آبائه.

نعم، جاء بعد زيد مفكّرون وعاة، وهم بين دعاة للمذهب، أو بناة للدولة في اليمن وطبرستان، فساهموا في إرساء مذهب باسم المذهب الزيدي، متفتّحين في الأُصول والعقائد مع المعتزلة، وفي الفقه وكيفيّة الاستنباط مع الحنفيّة، ولكن الصلة بين ما كان عليه زيد الشهيد في الأُصول والفروع وما أرساه

____________________

(1) بحوث في الملل والنحل: 7/371 - 386.

٢٤١

هؤلاء في مجالي العقيدة والشريعة منقطعة إلاّ في القليل منهما.

ولا أُغالي إذا قلت: إنّ المذهب الزيدي مذهب ممزوج ومنتزع من مذاهب مختلفة في مجالي العقيدة والشريعة، ساقتهم إلى ذلك الظروف السائدة عليهم، وصار مطبوعاً بطابع مذهب زيد، وإن لم يكن له صلة بزيد إلاّ في القسم القليل.

ومن ثَمَّ التقت الزيديّة في العدل والتوحيد مع شيعة أهل البيت جميعاً، إذ شعارهم في جميع الظروف والأدوار رفض الجبر والتشبيه، والجميع في التديّن بذينك الأصلين عيال على الإمام عليّ بن أبي طالب (عليه السّلام)، كما أنّهم التقوا في الأُصول الثلاثة: ـ

1 - الوعد والوعيد.

2 - المنزلة بين المنزلتين.

3 - الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. - مع المعتزلة حيث أدخلوا هذه الأُصول في مذهبهم ورتّبوا عليه:

1 - خلود مرتكب الكبيرة في النار إذا مات بلا توبة، وحرمانه من الشفاعة؛ لأنّها للعدول دون الفسّاق.

2 - الشفاعة؛ بمعنى ترفيع الدرجة، لا الحطّ من الذنوب.

3 - الفاسق في منزلة بين المنزلتين؛ فهو عندهم لا مؤمن ولا كافر بل فاسق.

فاستنتجوا الأمرين الأوّلين من الأصل الأوّل، والثالث من الأصل الثاني.

٢٤٢

وأمّا الأصل الثالث، فهو ليس من خصائص الاعتزال، ولا الزيديّة، بل يشاركهم الإماميّة. هذه عقائدهم في الأُصول.

وأمّا الفروع فقد التفّت الزيديّة حول القياس والاستحسان والإجماع، وجعلوا الثالث بما هو هو حجّة، كما قالوا بحجيّة قول الصحابي وفعله، وبذلك صاروا أكثر فِرق الشيعة انفتاحاً على أهل السنّة.

ولكن العلامة الفارقة والنقطة الشاخصة الّتي تميّز هذا المذاهب عمّا سواه من المذاهب، ويسوقهم إلى الانفتاح على الإماميّة والإسماعيليّة، هو القول بإمامة عليّ والحسنين بالنصّ الجليّ أو الخفيّ عن النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، والقول بأنّ تقدّم غيرهم عليهم كان خطأ وباطلاً.

وها نحن نأتي برؤوس عقائدهم الّتي يلتقون في بعضها مع المعتزلة والإماميّة:

1 - صفاته سبحانه عين ذاته، خلافاً للأشاعرة.

2 - إنّ الله سبحانه لا يُرى ولا تجوز عليه الرؤية.

3 - العقل يدرك حسن الأشياء وقبحها.

4 - الله سبحانه مريد بإرادة حادثة.

5 - إنّه سبحانه متكلّم بكلام، وكلامه سبحانه فعله: وهو الحروف والأصوات.

6 - أفعال العباد ليست مخلوقة لله سبحانه.

7 - تكليف ما يطاق قبيح، خلافاً للمجبّرة والأشاعرة.

8 - المعاصي ليس بقضاء الله.

٢٤٣

9 - الإمامة تجب شرعاً لا عقلاً، خلافاً للإمامية.

10 - النصّ على إمامة زيد والحسنين عند الأكثريّة.

11 - القضاء في فدك صحيح، خلافاً للإماميّة.

12 - خطأ المتقدّمين على عليّ في الخلافة قطعيّ.

13 - خطأ طلحة والزبير وعائشة قطعيّ.

14 - توبة الناكثين صحيحة.

15 - معاوية بن أبي سفيان فاسق لبغيه لم تثبت توبته.

هذه رؤوس عقائد الزيديّة استخرجناها من كتاب (القلائد في تصحيح الاعتقاد)، المطبوع في مقدّمة البحر الزخّار. (1)

فرق الزيديّة:

قد ذكر مؤرّخو العقائد للزيديّة فِرقاً، بين مقتصر على الثلاث، وإلى مفيض إلى ست، وإلى ثمان، منهم: الجاروديّة والسليمانيّة والبتريّة والنعيميّة، إلى غير ذلك من الفِرق، وبما أنّ هذه الفِرق كلّها قد بادت وذهبت أدراج الريح، مع بقاء الزيديّة في اليمن، ولا يوجد اليوم في اليمن بين الزيديّة من المفاهيم الكلاميّة المنسوبة إلى الفِرق كالجاروديّة أو السليمانيّة أو البتريّة أو الصالحيّة إلاّ مفهوم واحد، وهو المفهوم العام الّذي تعرفت عليه، وهو القول بإمامة زيد والخروج

____________________

(1) البحر الزخّار: 52 - 96.

٢٤٤

على الظلمة، واستحقاق الإمامة بالطلب والفضل، لا بالوراثة، مع القول بتفضيل عليّ - كرم الله وجهه - وأولويتّه بالإمامة، وقصرها من بعده في البطنين الحسن والحسين.

وأمّا أسماء تلك الفِرق والعقائد المنسوب إليهم، فلا توجد اليوم إلاّ في بطون الكتب والمؤلَّفات في الفِرق الإسلاميّة كالمِلل والنحل ونحوها، فإذا كان الحال في اليمن كما ذكره الفضيل شرف الدين، فالبحث عن هذه الفِرق من ناحية إيجابيّاتها وسلبيّاتها ليس مهمّاً بعد ما أبادهم الدهر، وإنّما اللاّزم دراسة المفهوم الجامع بين فِرقهم.

٢٤٥

15

الإسماعيليّة

الإسماعيليّة فِرقة من الشيعة القائلة بأنّ الإمامة بالتنصيص من النبيّ أو الإمام القائم مقامه، غير أنّ هناك خلافاً بين الزيديّة والإماميّة والإسماعيليّة في عدد الأئمّة ومفهوم التنصيص.

فالأئمّة المنصوصة خلافتهم وإمامتهم بعد النبيّ عند الزيديّة لا يتجاوز عن الثلاثة: عليّ أمير المؤمنين (عليه السّلام)، والسبطين الكريمين: الحسن والحسين (عليهما السّلام)، وبشهادة الأخير أغلقت دائرة التنصيص وجاءت مرحلة الانتخاب بالبيعة كما تقدم.

وأمّا الأئمّة المنصوصون عند الإماميّة فاثنا عشر إماماً آخرهم غائبهم يظهره الله سبحانه عندما يشاء، وقد حوّل أمر الأُمّة - في زمان غيبته - إلى الفقيه العارف بالأحكام والسنن والواقف على مصالح المسلمين على النحو المقرّر في كتبهم وتآليفهم.

وأمّا الإمامة عند الإسماعيليّة فهي تنتقل عندهم من الآباء إلى الأبناء، ويكون انتقالها عن طريق الميلاد الطبيعي، فيكون ذلك بمثابة نصّ من الأب بتعيين الابن، وإذا كان للأب عدّة أبناء فهو بما أُوتي من معرفة خارقة للعادة يستطيع أن يعرف من هو الإمام الّذي وقع عليه النص، فالقول بأنّ الإمامة عندهم بالوراثة أولى من القول بالتنصيص.

٢٤٦

وعلى كلّ حال فهذه الفِرقة منشقّة عن الشيعة، معتقدة بإمامة إسماعيل بن جعفر بن الإمام الصادق (عليه السّلام)، وإليك نبذة مختصرة عن سيرة إسماعيل بن جعفر الصادق (عليه السّلام) (110 - 145هـ).

الإمام الأوّل للدعوة الإسماعيليّة:

إنّ إسماعيل هو الإمام الأوّل والمؤسّس للمذهب، فوالده الإمام الصادق (عليه السّلام) غنيّ عن التعريف وفضله أشهر من أن يُذكر، وأُمّه فاطمة بنت الحسين بن عليّ بن الحسين الّتي أنجبت أولاداً ثلاثة هم:

1 - إسماعيل بن جعفر.

2 - عبد الله بن جعفر.

3 - أُم فروة.

وكان إسماعيل أكبرهم، وكان أبو عبد الله (عليه السّلام) شديد المحبّة له والبرَّ به والإشفاق عليه، مات في حياة أبيه (عليه السلام) (بالعريض) وحمل على رقاب الرّجال إلى أبيه بالمدينة حتّى دفنه بالبقيع. (1)

استشهاد الإمام الصادق (عليه السّلام) على موته:

كان الإمام الصادق حريصاً على إفهام الشيعة بأنّ الإمامة لم تُكتب لإسماعيل، فليس هو من خلفاء الرسول الاثني عشر الّذين كُتبت لهم الخلافة والإمامة بأمر السماء وإبلاغ الرسول الأعظم.

____________________

(1) إرشاد المفيد: 284.

٢٤٧

ومن الدواعي الّتي ساعدت على بثّ بذر الشبهة والشكّ في نفوس الشيعة في ذلك اليوم؛ هو ما اشتهر من أنّ الإمامة للولد الأكبر، وكان إسماعيل أكبر أولاده، فكانت أماني الشيعة معقودة عليه، ولأجل ذلك تركّزت جهود الإمام الصادق (عليه السّلام) على معالجة الوضع واجتثاث جذور تلك الشبهة وأنّ الإمامة لغيره، فتراه تارة ينصّ على ذلك، بقوله وكلامه، وأُخرى بالاستشهاد على موت إسماعيل وأنّه قد انتقل إلى رحمة الله ولن يصلح للقيادة والإمامة.

وإليك نموذجاً يؤيّد النهج الّذي انتهجه الإمام لتحقيق غرضه في إزالة تلك الشبهة.

روى النعماني عن زرارة بن أعين، أنّه قال: دخلت على أبي عبد الله (عليه السّلام) وعند يمينه سيّد ولده موسى (عليه السّلام) وقدّامه مرقد مغطّى، فقال لي: «يا زرارة جئني بداود بن كثير الرقي وحمران وأبي بصير» ودخل عليه المفضّل بن عمر، فخرجت فأحضرت من أمرني بإحضاره، ولم يزل الناس يدخلون واحداً إثر واحد حتّى صرنا في البيت ثلاثين رجلا.

فلمّا حشد المجلس قال: «يا داود اكشف لي عن وجه إسماعيل»، فكشف عن وجهه، فقال أبو عبد الله (عليه السلام): «يا داود أحيٌّ هو أم ميّت؟» ، قال داود: يا مولاي هو ميّت، فجعل يعرض ذلك على رجل رجل، حتّى أتى على آخر من في المجلس، وانتهى عليهم بأسرهم، وكل يقول: هو ميّت يا مولاي، فقال: «اللّهم اشهد» ثُمَّ أمر بغسله وحنوطه، وإدراجه في أثوابه.

فلمّا فرغ منه قال للمفضّل: (يا مفضّل أحسر عن وجهه)، فحسر عن وجهه، فقال: «أحيُّ هو أم ميّت؟» فقال له: ميّت، قال(عليه السّلام): «اللّهم اشهد عليهم» ، ثُمَّ

٢٤٨

حمل إلى قبره، فلمّا وضع في لحده، قال: «يا مفضّل اكشف عن وجهه»، وقال للجماعة: (أحيّ هو أم ميّت؟)، قلنا له: ميّت، فقال: «اللّهم اشهد، واشهدوا فانّه سيرتاب المبطلون، يريدون إطفاء نور الله بأفواههم - ثُمَّ أومأ إلى موسى - والله متمّ نوره ولو كره المشركون»، ثُمَّ حثونا عليه التراب، ثُمَّ أعاد علينا القول، فقال: «الميّت، المحنّط، المكفّن المدفون في هذا اللحد من هو؟» قلنا: إسماعيل، قال: «اللّهم اشهد». ثُمَّ أخذ بيد موسى (عليه السّلام) وقال: «هو حقّ، والحقّ منه، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها». (1)

هل كان عمل الإمام تغطية لستره؟

إنّ الإسماعيليّة تدّعي أنّ ما قام به الإمام الصادق (عليه السّلام) كان تغطية؛ لستره عن أعين العباسيّين، الّذين كانوا يطاردونه بسبب نشاطه المتزايد في نشر التعاليم الّتي اعتبرتها الدولة العباسيّة منافية لقوانينها. والمعروف أنّه توجّه إلى سلمية ومنها إلى دمشق فعلم به عامل الخليفة، وهذا ما جعله يغادرها إلى البصرة ليعيش فيها متستّراً بقيّة حياته.

مات في البصرة سنة 143هـ، وكان أخوه موسى بن جعفر الكاظم حجاباً عليه، أمّا وليّ عهده محمّد فكان له من العمر أربع عشرة سنة عند موته. (2)

ما ذكره أُسطورة حاكتها يدُ الخيال، ولم يكن الإمام الصادق (عليه السّلام) ولا أصحابه الأجلاّء، ممّن تتلمذوا في مدرسة الحركات السريّة، حتّى يفتعل موت ابنه بمرأى ومسمع من الناس وهو بعد حيّ يرزق، ولم يكن عامل الخليفة

____________________

(1) غيبة النعماني: 327، الحديث 8، ولاحظ؛ بحار الأنوار: 48/21.

(2) عارف تامر: الإمامة في الإسلام: 180.

٢٤٩

بالمدينة المنوّرة بليداً، يكتفي بالتمويه، حتّى يتسلّم المحضر ويبعث به إلى دار الخلافة العبّاسيّة.

والظاهر أنّ إصرارهم بعدم موت إسماعيل في حياة أبيه جعفر الصادق (عليه السّلام)، لأجل تصحيح إمامة ابنه عبد الله بن إسماعيل؛ حتّى يتسنّى له أخذ الإمامة من أبيه الحيّ بعد حياة الإمام الصادق (عليه السّلام).

لكن الحقّ أنّه توفّي أيّام حياة أبيه، بشهادة الأخبار المتضافرة الّتي تعرّفت عليها، وهل يمكن إغفال أُمّة كبيرة وفيهم جواسيس الخليفة وعمّالها؟!، وستْر رحيل إسماعيل إلى البصرة بتمثيل جنازة بطريقة مسرحيّة يُعلن بها موته، فإنّه منهج وأُسلوب السياسيّين المخادعين، المعروفين بالتخطيط والمؤامرة، ومن يريد تفسير فعل الإمام عن هذا الطريق فهو من هؤلاء الجماعة (وكلّ إناء بالّذي فيه ينضح). وأين هذا من وضع الجنازة مرّات وكشف وجهه والاستشهاد على موته وكتابة الشهادة على كفنه؟!

والتاريخ يشهد على أنّه لم يكن لإسماعيل ولا لولَده الإمام الثاني، أيّة دعوة في زمان أبي جعفر المنصور ولا ولَده المهدي العبّاسي، بشهادة أنّ ابن المفضّل كتب كتاباً ذكر فيه صنوف الفِرق، ثُمَّ قرأ الكتاب على الناس، فلم يذكر فيه شيئاً من تلك الفِرقة مع أنّه ذكر سائر الفِرق الشيعيّة البائدة.

والحق إنّ إسماعيل كان رجلاً ثقة، محبوباً للوالد، وتوفّي في حياة والده وهو عنه راض، ولم تكن له أي دعوة للإمامة، ولم تظهر أي دعوة باسمه أيّام خلافة المهدي العبّاسي الّذي توفّي عام 169هـ، وقد مضى على وفاة الإمام الصادق (عليه السّلام) إحدى وعشرون سنة.

٢٥٠

الخطوط العريضة للمذهب الإسماعيلي

إنّ للمذهب الإسماعيلي آراء وعقائداً:

الأُولى: انتماؤهم إلى بيت الوحي والرسالة:

كانت الدعوة الإسماعيليّة يوم نشوئها دعوة بسيطة لا تتبنّى سوى: إمامة المسلمين، وخلافة الرسول (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) واستلام الحكم من العباسيّين بحجة ظلمهم وتعسّفهم، غير أنّ دعوة بهذه السذاجة لا يُكتب لها البقاء إلاّ باستخدام عوامل تضمن لها البقاء، وتستقطب أهواء الناس وميولهم.

ومن تلك العوامل الّتي لها رصيد شعبي كبير هو ادّعاء انتماء أئمّتهم إلى بيت الوحي والرسالة وكونهم من ذريّة الرسول وأبناء بنته الطاهرة فاطمة الزهراء (عليها السّلام)، وكان المسلمون منذ عهد الرسول يتعاطفون مع أهل بيت النبيّ، وقد كانت محبّتهم وموالاتهم شعار كلّ مسلم واع.

وممّا يشير إلى ذلك أنّ الثورات الّتي نشبت ضد الأُمويّين كانت تحمل شعار حبّ أهل البيت (عليهم السّلام) والاقتداء بهم والتفاني دونهم، ومن هذا المنطلق صارت الإسماعيليّة تفتخر بانتماء أئمّتهم إلى النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، حتّى إذا تسلّموا مقاليد الحكم وقامت دولتهم اشتهروا بالفاطميّين، وكانت التسمية يومذاك تهزّ المشاعر وتجذب العواطف بحجّة أنّ الأبناء يرثون ما للآباء من الفضائل والمآثر، وأنّ

٢٥١

تكريم ذريّة الرسول (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) تكريم له (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، فشتّان ما بين بيت أُسّس بنيانه على تقوى من الله ورضوانه وبيت أُسّس بنيانه على شفا جرف هار فانهار به في نار جهنم.

الثانية: تأويل الظواهر:

إنّ تأويل الظواهر وإرجاعها إلى خلاف ما يتبادر منها في عرف المتشرّعة هي السمة البارزة الثانية للدعوة الإسماعيليّة، وهي إحدى الدعائم الأساسيّة؛ بحيث لو انسلخت الدعوة عن التأويل واكتفت بالظواهر لم تتميّز عن سائر الفِرق الشيعيّة إلاّ بصرف الإمامة عن الإمام الكاظم (عليه السّلام) إلى أخيه إسماعيل بن جعفر، وقد بنوا على هذه الدعامة مذهبهم في مجالي العقيدة والشريعة، وخصوصاً فيما يرجع إلى تفسير الإمامة وتصنيفها إلى أصناف.

إنّ تأويل الظواهر والتلاعب بآيات الذكر الحكيم وتفسيرها بالأهواء والميول جعل المذهب الإسماعيلي يتطوّر مع تطوّر الزمان، ويتكيّف بمكيّفاته، ولا ترى الدعوة أمامها أي مانع من مماشاة المستجدات وإن كانت على خلاف الشارع أو الضرورة الدينيّة.

الثالثة: تطعيم مذهبهم بالمسائل الفلسفيّة:

إنّ ظاهرة الجمود على النصوص والظواهر ورفض العقل في مجالات العقائد، كانت من أهم ميّزات العصر العبّاسي، هذه الظاهرة ولّدت رد فعل عند أئمّة الإسماعيليّة، فانجرفوا في تيّارات المسائل الفلسفيّة وجعلوها من صميم

٢٥٢

الدّين وجذوره، وانقلب المذهب إلى منهج فلسفي يتطوّر مع تطوّر الزمن، ويتبنّى أُصولاً لا تجد منها في الشريعة الإسلاميّة عيناً ولا أثراً.

يقول المؤرّخ الإسماعيلي المعاصر مصطفى غالب: إنّ كلمة (إسماعيليّة) كانت في بادئ الأمر تدلّ على أنّها من إحدى الفِرق الشيعيّة المعتدلة، لكنّها صارت مع تطوّر الزمن حركة عقليّة تدلّ على أصحاب مذاهب دينيّة مختلفة، وأحزاب سياسيّة واجتماعيّة متعدّدة، وآراء فلسفيّة وعلميّة متنوّعة. (1)

الرابعة: تنظيم الدعوة:

ظهرت الدعوة الإسماعيليّة في ظروف ساد فيها سلطان العبّاسيّين شرق الأرض وغربها، ونشروا في كلِّ بقعة جواسيس وعيوناً ينقلون الأخبار إلى مركز الخلافة الإسلاميّة، ففي مثل هذه الظروف العصيبة لا يُكتب النجاح لكلّ دعوة تقوم ضدّ السلطة إلاّ إذا امتلكت تنظيماً وتخطيطاً متقناً يضمن استمرارها، ويصون دعاتها وأتباعها من حبائل النظام الحاكم وكشف أسرارهم.

وقد وقف الدعاة على خطورة الموقف، وأحسّوا بلزوم إتقان التخطيط والتنظيم، وبلغوا فيه الذروة؛ بحيث لو قُورنت مع أحدث التنظيمات الحزبيّة العصريّة، لفاقتها وكانت لهم القدح المعلّى في هذا المضمار، وقد ابتكروا أساليب دقيقة يقف عليها من سبر تراجمهم وقرأ تاريخهم، ولم يكتفوا بذلك فحسب بل جعلوا تنظيمات الدعوة من صميم العقيدة وفلسفتها.

____________________

(1) تاريخ الدعوة الإسماعيليّة: 14.

٢٥٣

الخامسة: تربية الفدائيّين للدفاع عن المذهب:

إنّ الأقلّية المعارضة من أجل الحفاظ على كيانها لا مناص لها من تربية فدائيّين مضحّين بأنفسهم في سبيل الدعوة؛ لصيانة أئمتهم ودعاتهم من تعرّض الأعداء، فينتقون من العناصر المخلصة المعروفة بالتضحية والإقدام، والشجاعة النادرة، والجرأة الخارقة ويكلّفون بالتضحيات الجسديّة، وتنفيذ أوامر الإمام أو نائبه، وإليك هذا النموذج:

في سنة 500 هـ فكّر فخر الملك بن نظام وزير السلطان سنجر، أن يُهاجم قلاع الإسماعيليّة، فأوفد إليه الحسن بن الصباح أحد فدائيّيه فقتله بطعنة خنجر، ولقد كانت قلاعه في حصار مستمر من قبل السلجوقيّين.

السادسة: كتمان الوثائق:

إنّ استعراض تاريخ الدعوات الباطنيّة السرّيّة وتنظيماتها رهن الوقوف على وثائقها ومصادرها الّتي تنير الدرب لاستجلاء كنهها، وكشف حقيقتها وما غمض من رموزها ومصطلحاتها، ولكن للأسف الشديد أنّ الإسماعيليّة كتموا وثائقهم وكتاباتهم ومؤلّفاتهم وكلّ شيء يعود لهم، ولم يبذلوها لأحد سواهم، فصار البحث عن الإسماعيليّة بطوائفها أمراً مستعصياً، إلاّ أن يستند الباحث إلى كتب خصومهم وما قيل فيهم، ومن المعلوم أنّ القضاء في حقّ طائفة استناداً إلى كلمات مخالفيهم خارج عن أدب البحث النزيه.

٢٥٤

السابعة: الأئمّة المستورون والظاهرون:

إنّ الإسماعيليّة أعطت للإمامة مركزاً شامخاً، وصنّفوا الإمامة إلى رُتب ودرجات، وزوّدوها بصلاحيّات واختصاصات واسعة، غير أنّ المهمَّ هنا الإشارة إلى تصنيفهم الإمام إلى مستور دخل كهف الاستتار، وظاهر يملك جاهاً وسلطاناً في المجتمع، فالأئمّة المستورون هم الّذين نشروا الدعوة سرّاً وكتماناً، وهم:

1 - إسماعيل بن جعفر الصادق (عليه السّلام) (110 - 145هـ).

2 - محمّد بن إسماعيل الملقّب بـ (الحبيب) (132 - 193هـ)، ولد في المدينة المنوّرة وتسلّم شؤون الإمامة واستتر عن الأنظار خشية وقوعه بيد الأعداء. ولقّب بالإمام المكتوم لأنّه لم يعلن دعوته وأخذ في بسطها خفية.

3 - عبد الله بن محمّد بن إسماعيل الملقّب بـ (الوافي) (179 - 212هـ)، ولد في مدينة محمّد آباد، وتولّى الإمامة عام 193هـ بعد وفاة أبيه، وسكن السلمية عام 194هـ مصطَحباً بعدد من أتباعه؛ وهو الّذي نظّم الدعوة تنظيماً دقيقاً.

4 - أحمد بن عبد الله بن محمّد بن إسماعيل الملقّب بـ (التقي) (198 - 265هـ)، وتولّى الإمامة عام 212هـ، سكن السلمية سرّاً حيث أصبحت مركزاً لنشر الدعوة.

5 - الحسين بن أحمد بن عبد الله بن محمّد بن إسماعيل الملقّب بـ (الرضي) (212 - 289هـ) تولّى الإمامة عام 265هـ، ويقال أنّه اتّخذ عبد الله بن ميمون القدّاح حجّة له وحجاباً عليه.

٢٥٥

الأئمّة الظاهرون:

6 - عبيد الله المهدي (260 - 322هـ) والمعروف بين الإسماعيليّة أنّ عبيد الله المهدي الّذي هاجر إلى المغرب وأسّس هناك الدولة الفاطميّة كان ابتداءً لعهد الأئمّة الظاهرين الّذين جهروا بالدعوة وأخرجوها عن الاستتار.

7 - محمّد بن عبيد الله القائم بأمر الله (280 - 334هـ)، ولد بالسلمية، ارتحل مع أبيه عبيد الله المهدي إلى المغرب وعهد إليه بالإمامة من بعده.

8 - إسماعيل المنصور بالله (303 - 346هـ)، ولد بالقيروان، تسلّم شؤون الإمامة بعد وفاة أبيه سنة 334هـ.

9 - معد بن إسماعيل المعزّ لدين الله (319 - 365هـ)، مؤسس الدولة الفاطميّة في مصر.

10 - نزار بن معد العزيز بالله (344 - 386هـ)، ولي العهد بمصر سنة 365هـ، واستقلّ بالأمر بعد وفاة أبيه، وكانت خلافته إحدى وعشرين سنة وخمسة أشهر ونصفاً.

11 - منصور بن نزار الحاكم بأمر الله (375 - 411هـ)، بويع بالخلافة سنة 386هـ وكان عمره أحد عشر عاماً ونصف العام، وهو من الشخصيّات القليلة الّتي لم تتجلّ شخصيّته بوضوح، وقام بأعمال إصلاحيّة زعم مناوئوه أنّها من البدع.

وأمّا عن مصير الحاكم، فمجمل القول فيه أنّه فُقد في سنة 411هـ، ولم يُعلم مصيره، وحامت حول كيفيّة اغتياله أساطير لا تتلاءم مع الحاكم المقتدر.

٢٥٦

وبعد اختفائه انشقّت فِرقة من الإسماعيليّة ذهبت إلى إلوهيّة الحاكم وغيبته، وهم المعروفون اليوم بـ (الدروز) يقطنون لبنان.

12 - عليّ بن منصور الظاهر لإعزاز دين الله (395 - 427هـ)، بويع بالخلافة وعمره ستة عشر عاماً، وشنّ حرباً على الدروز محاولاً إرجاعهم إلى العقيدة الفاطميّة الأصيلة.

13 - معد بن عليّ المستنصر بالله (420 - 487هـ)، بويع بالخلافة عام 427هـ، وكان له من العمر سبعة أعوام، وقد ظلّ في الحكم ستّين عاماً، وهي أطول مدّة في تاريخ الخلافة الإسلاميّة.

إلى هنا تمّت ترجمة الأئمّة الثلاثة عشر الّذين اتّفقت كلمة الإسماعيليّة على إمامتهم وخلافتهم، ولم يشذّ منهم سوى الدروز الّذين انشقوا عن الإسماعيليّة في عهد خلافة الحاكم بأمر الله، وصار وفاة المستنصر بالله سبباً لانشقاق آخر وظهور طائفتين من الإسماعيليّة، بين مستعلية تقول بإمامة أحمد المستعلي بن المستنصر بالله، ونزاريّة تقول بإمامة نزار بن المستنصر.

وسنأتي بالحديث عن الإسماعيليّة المستعلية والنزاريّة فيما يلي.

٢٥٧

الإسماعيليّة المستعلية

صارت وفاة المستنصر بالله سبباً لانشقاق الإسماعيليّة مرّة ثانية - بعد انشقاق الدروز في المرّة الأُولى - فمنهم من ذهب إلى إمامة أحمد المستعلي بن المستنصر بالله، ومنهم من ذهب إلى إمامة نزار من المستنصر بالله، وإليك الكلام في أئمّة المستعلية في هذا الفصل مقتصرين على أسمائهم وتاريخ ولادتهم ووفاتهم:

1 - الإمام أحمد بن معد بن عليّ المستعلي بالله (467 - 495هـ).

2 - الإمام منصور بن أحمد الآمر بأحكام الله (490 - 524هـ).

قال ابن خلّكان: مات الآمر بأحكام الله ولم يعقب، وربّما يقال: أنّ الآمر مات وامرأته حامل بالطيّب. فلأجل ذلك عهد الآمر بأحكام الله الخلافة إلى الحافظ، الظافر، الفائز، ثُمَّ إلى العاضد، وبما أنّ هؤلاء لم يكونوا من صلب الإمام السابق، بل كانوا من أبناء عمّه صاروا دعاة؛ حيث لم يكن في الساحة إمام، ودخلت الدعوة المستعلية بعد اختفاء الطيّب بالستر، وما تزال تنتظر عودته، وتوقّفت عن السير وراء الركب الإمامي واتّبعت نظام الدعاة المطلقين.

3 - الداعي عبد المجيد بن أبي القاسم محمّد بن المستنصر الحافظ لدين الله (467 - 544هـ).

4 - الداعي إسماعيل بن عبد المجيد الظافر بأمر الله (527 - 549 هـ).

٢٥٨

5 - الداعي عيسى بن إسماعيل الفائز بنصر الله (544 - 555هـ).

6 - عبد الله بن يوسف العاضد لدين الله (546 - 567هـ).

ثُمَّ إنّ العاضد فوّض الوزارة إلى صلاح الدين الأيّوبي الّذي بذل الأموال على أصحابه وأضعف العاضد باستنفاد ما عنده من المال، فلم يزل أمره في ازدياد وأمر العاضد في نقصان، حتّى تلاشى العاضد وانحلّ أمره، ولم يبق له سوى إقامة ذكره في الخطبة، وتتبّع صلاح الدين جُند العاضد، وأخذ دور الأمراء وإقطاعاتهم فوهبها لأصحابه، وبعث إلى أبيه وإخوته وأهله، فقدموا من الشام عليه، وعزل قُضاة مصر الشيعة، واختفى مذهب الشيعة إلى أنّ نُسي من مصر، وقد زادت المضايقات على العاضد وأهل بيته، حتّى مرض ومات وعمره إحدى وعشرون سنة إلاّ عشرة أيام، وهو آخر الخلفاء الفاطميّين بمصر، وكانت مدّتهم بالمغرب ومصر منذ قام عبيد الله المهدي إلى أن مات العاضد 272 سنة، منها بالقاهرة 208 سنين.(1)

تتابع الدعاة عند المستعلية:

قد عرفت أنّ ركب الإمامة قد توقّف عند المستعلية وانتهى الأمر إلى الدعاة الّذين تتابعوا إلى زمان 999هـ، وعند ذلك افترقت المستعلية إلى فِرقتين: داوديّة، وسليمانيّة، وذلك بعد وفاة الداعي المطلق داود بن عجب شاه، انتخبت مستعلية كجرات داود بن قطب شاه خلفاً له، ولكن اليمانيّين عارضوا ذلك وانتخبوا داعياً آخر، يُدعى سليمان بن

____________________

(1) انظر الخطط المقريزيّة: 1/358 - 359.

٢٥٩

الحسن، ويقولون: إنّ داود قد أوصى له بموجب وثيقة ما تزال محفوظة.

إنّ الداعي المطلق للفِرقة الإسماعيليّة المستعلية الداوديّة اليوم هو طاهر سيف الدّين، ويُقيم في بومباي الهند، أمّا الداعي المطلق للفِرقة المستعلية السليمانيّة فهو عليّ بن الحسين، ويقيم في مقاطعة نجران بالحجاز. (1)

جناية التاريخ على الفاطميّين:

لاشكّ أنّ كلّ دولة يرأسها غير معصوم لا تخلو من أخطاء وهفوات، وربّما تنتابها بين آونة وأُخرى حوادث وفتن تضعضع كيانها وتشرفها على الانهيار.

والدولة الفاطميّة غير مستثناة عن هذا الخط السائد؛ فقد كانت لديها زلاّت وعثرات، إلاّ أنّها قامت بأعمال ومشاريع كبيرة لا تقوم بها إلاّ الدولة المؤمنة بالله سبحانه وشريعته، كالجامع الأزهر الّذي ظلّ عبر الدهور يُنير الدرب لأكثر من ألف سنة، كما أنّهم أنشأوا جوامع كبيرة ومدارس عظيمة مذكورة في تاريخهم، وبذلك رفعوا الثقافة الإسلاميّة إلى مرتبة عالية، وتلك الأعمال جعلت لهم في قلوب الناس مكانة عالية.

غير أنّا نرى أنّ أكثر المؤرّخين يصوّرها بأنّها من أكثر العصور ظلاماً في التاريخ؛ شأنها في ذلك شأن سائر الفراعنة، وليس هذا إلاّ حدسيّات وتخمينات أخذها أصحاب أقلام السِّير والتاريخ من رُماة القول على عواهنه دون أن يُمعنوا فيه.

____________________

(1) عارف تامر: الإمامة في الإسلام: 162.

٢٦٠

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496