الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٨

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل0%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 496

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

مؤلف: آية الله الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
تصنيف:

الصفحات: 496
المشاهدات: 220238
تحميل: 6116


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 496 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 220238 / تحميل: 6116
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء 8

مؤلف:
العربية

وتشريعي لأجل ذلك لأدركنا عظمة هذه النعمة وما لها من الفضل على بقية النعم.

ثمّ يحذر الباري جعل شأنه الإنسان من وجود سبل منحرفة كثيرة :( وَمِنْها جائِرٌ ) (1) .

وبما أن نعمة الإرادة وحرية الإختيار في الإنسان من أهم عوامل التكامل فيه ، فقد أشارت إليها الآية بجملته قصيرة :( وَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ ) ولا تستطيعون عندها غير ما يريد الله.

إلّا أنّه سبحانه لم يفعل ذلك ، لأنّ الهداية الجبرية لا تسمو بالإنسان إلى درجات التكامل والفخر ، فأعطاه حرية الإختيار ليسير في الطريق بنفسه كي يصل لأعلى ما يمكن الوصول إليه من درجات الرفعة والكمال.

كما تشير الآية إلى حقيقة أخرى مفادها أنّ سلوك البعض للطريق الجائز والصراط المنحرف ينبغي أن لا يوجد عند البعض توهما أنّ الله مغلوب (سبحانه وتعالى) أمام هؤلاء، بل إنّ مشيئته جل اسمه ومقتضى حكمته دعت لأن يكون الإنسان حرا في اختياره ما يريد من السبل.

وفي الآية التالية يعود إلى الجانب المادي بما يثير حسّ الشكر للمنعم عند الناس، ويوقد نار عشق الله في قلوبهم بدعوتهم للتقرب أكثر وأكثر لمعرفة المنعم الحق ، فيقول :( هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً ) ماء فيه سبب الحياة ، وزلالا شفافا خال من أي تلوّث( لَكُمْ مِنْهُ شَرابٌ ) ، وتخرج به النباتات والأشجار فترعى أنعامكم( وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ ) .

«تسيمون» : (من مادة الإسامة) بمعنى رعي الحيوانات ، وكما هو معلوم فإنّ الحيوانات تستفيد من النباتات الأرضية وورق الأ شجار ، و «الشجر» لغة : ذو معنى واسع يشمل إطلاقه الأشجار وغيرها من النباتات.

__________________

(1) ضمير «منها» يعود إلى السبيل. والسبيل مؤنث مجازي.

١٤١

وممّا لا شك فيه أيضا أنّ ماء المطر لا تقتصر فائدته لشرب الإنسان وإرواء النباتات ، بل ومن فوائده أيضا : تطهير الأرض ، تصفية الهواء ، إيجاد الرطوبة اللازمة لطراوة جلد الإنسان وتنفسه براحة ، وما شابه ذلك فالمذكور من فوائده في هذه الآية لا حصرا وإنّما من باب الأهم.

فيكمل الموضوع بقوله :( يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ ) .

ولا شك أنّ خلق هذه الثمار المتنوعة وكل ما هو موجود من المحاصيل الزراعية لآية للمتفكرين( إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ) .

«الزرع» : يشمل كل مزروع و «الزيتون» اسم لشجرة معروفة واسم لثمرها أيضا.

إلّا أنّ بعض المفسّرين يذهبون إلى أنّ «الزيتون» هو اسم الشجرة فقط ، واسم ثمرتها «زيتونة». في حين أنّ الآية الخامسة والثلاثين من سورة النّور تطلق كلمة «الزينونة» على الشجرة.

و «النخيل» تستعمل للمفرد والجمع و «الأعناب» جمع أعنبة ، وهي ثمرة معروفة.

وهنا يرد سؤال وهو : لما ذا اختار القرآن ذكر هذه الثمار دون غيرها (الزيتون ، التمر، العنب)؟ ستقرأ توضيح ذلك في البحوث التّفسيرية لهذه الآيات إن شاء الله.

ثمّ يشير إلى نعمة تسخير الموجودات المختلفة في العالم للإنسان بقوله :( وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّراتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ) على عظمة وقدرة الله وعظمة ما خلق.

قلنا في تفسيرنا لآيات سورتي الرعد وإبراهيم ، أنّ المفهوم الواقعي لتسخير الموجودات للإنسان أن تكون في منفعته ، ويكون ذلك من شأنها ووظيفتها مع

١٤٢

تمكين الإنسان من الاستفادة منها.

فكل من الشمس والقمر والليل والنهار والنجوم له نوع وأثر خاص في حياة الإنسان، وما أجمل عبارة (تسخير الموجودات للإنسان بأمر الله) فبالإضافة لما تظهره من شرف ورفعة شخصية الإنسان بنظر الإسلام والقرآن ، وإعطائه من الجلال ما يجعله مؤهلا لمقام خليفة الله ، فهي تذكرة للإنسان بأن لا يغفل عمّا أنعم الله عليه ، وباعثة فيه شعور لزوم الشكر لله تعالى من خلال ما يلمس ويرى ، عسى أن يتقرب لحالقه فينال حسن مآبه.

ولهذا يقول تعالى في ذيل الآية :( إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ) .

راجع تفسيرنا للآيتين (32 و 33) من سورة إبراهيم للاستزادة في معرفة أسرار التسخير المذكور.

وإضافة لكل ما تقدم( وَما ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ ) من مخلوقات سخرها لكم و( مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ ) من الأغطية والملابس والأغذية والزوجات العفيفات ووسائل الترفيه ، حتى أنواع المعادن وكنوز الأرض وسائر النعم الأخرى( إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ ) .

* * *

البحوث

1 ـ النعم المادية والمعنوية

احتوت الآيات مورد البحث على ذكر النعم المادية والمعنوية بشكل مترابط لا يقبل الفصل ، إلّا أن أسلوب ولحن التعبير يختلف بين النعم المادية والمعنوية ، فبالنسبة للنعم المادية لا نجد موردا يقول فيه القرآن الكريم : إنّ على الله رزقكم ، لكنّه في مورد الهداية يقول :( عَلَى اللهِ قَصْدُ السَّبِيلِ ) فيعطيكم كل ما تحتاجونه تكوينيا وتشريعيا للسير باقتدار في الطريق الإلهي.

١٤٣

وحينما يتحدث عن خلق الأشجار والفواكه وعن تسخير الشمس والقمر نراه سبحانه يضعها في مسير هدف معنوي( ... إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ) وذلك لإنّ الأسلوب القرآني ـ كما هو معروف ـ لا يتخذ بعدا واحدا في خطابه للناس.

2 ـ لما ذا الزّيتون والنخيل والأعناب دون غيرها؟!

يمكننا للوهلة الأولى أن نتصور أنّ ذكر القرآن للزيتون والتمر والعنب ، في الآيات مورد البحث ، لوجودها في المنطقة التي نزل فيها القرآن ولكن بملاحظة الجانب العالمي لرسالة القرآن ومع الإعتقاد ببقائها واستمرارها بالإضافة إلى التوجه لعمق التعبير القرآني يتّضح لنا خطل ذلك التصور.

يقول العلماء المتخصصون بالأغذية (ممن صرفوا السنين الطول في البحث عن فوائد وخواص الأغذية) : إنّ القليل من الفواكه التي تنفع بدن الإنسان من الناحية الغذائية هي بمستوى هذه الثمار الثلاث.

ويقولون : إنّ (زيت الزيتون) له قيمة عالية جدا لتأمين السعرات الحرارية اللازمة للبدن ، ولذلك يعتبر من الأغذية المقوية للبدن ، وعلى الذين يريدون حفظ سلامتهم أن يواظبوا على تناول هذا الإكسير.

إنّ زيت الزيتون ملائم لكبد الإنسان ، مؤثر فعال في رفع عوارض الكلى ، والقولنج الكلوي والكبدي واليبوسة.

ولهذا نجد له مدحا كثيرا في الرّوايات ، ففي حديث عن الإمام علي بن موسى الرضاعليه‌السلام أنّه قال عن الزيتون : «نعم الطعام الزيت ، يطيب النكهة ، ويذهب البلغم ، ويصفي اللون ، ويشد العصب ، ويذهب بالوصب ، ويطفئ الغضب»(1) .

والأهم من ذلك كله تسمية القرآن لشجرة الزيتون بـ «الشجرة المباركة».

__________________

(1) البحار : 66 / 183.

١٤٤

وللتمر حديث أيضا حيث ثبتت الأهميتين العلاجية والغذائية له من خلال ما بيّنه علماء الطب والأغذية فقد اتّضح وجود الكالسيوم فيه الذي يعتبر العامل الأساسي لبناء وتقوية العظام ، وكذلك الفسفور الذي يعتبر من العناصر الأساسية في تكوّن الدماغ ، بالإضافة إلى أن التمر يمنع ضعف الأعصاب ومزيل للتعب ، كما أنّ له دورا في حدة البصر.

وفيه البوتاسيوم الذي له الأهمية البالغة في بناء خلايا الجسم ، علاوة على أن فقدانه بسبب قرحة المعدة.

كما بات من المعروف عند المتخصصين في علم الأغذية أن التمر له الدور الفعال في عدم الإصابة بمرض السرطان.

وأظهرت الإحصائيات أنّ المناطق التي يكثر فيها تناول التمر هي أقل المناطق إصابة بهذا المرض الفتاك. ولهذا نجد أن البدو في الصحاري العربية مع ما يعانونه من فقر غذائي إلّا أنّهم لا يصابون بمرض السرطان. ويعزى سبب ذلك إلى وجود المغنيسيوم في التمر غذائهم الأول.

أمّا السكر الموجود في التمر فيعتبر من أفضل أنواع السكريات ، حتى أنّه لا يسبب ضررا لكثير من المصابين بمرض السكر عند تناوله.

وقد اكتشف العلماء لحدّ الآن ثلاث عشرة مادة حياتية وخمسة أنواع من الفيتامينات في التمر ، تجعله مصدرا غذائيا غنيا وذا قيمة عالية جدّا(1) .

ولهذا ورد تأكيد واسع على أهمية هذه المادة الغذائية في الرّوايات ، وممّا روي عن عليعليه‌السلام أنّه قال : «كل التمر فإنّ فيه شفاء من الأدواء».

وقد روي أيضا أنّ طعام أمير المؤمنينعليه‌السلام كثيرا ما كان الخبز والتمر.

__________________

(1) أول جامعة وآخر نبي ، الجزء السابع ، ويختص هذا الجزء بشرح الخواص الغذائية والصحية والعلاجية للتمر والعنب ويطلع الإنسان من خلاله على أهمية هذين الغذائين.

١٤٥

وفي روي أخرى : «بيت لا تمر فيه جياع أهله»(1) .

وفي سورة مريم أن الله أطعم مريم عند ما ولدت عيسىعليه‌السلام ، الرطب ، وهو إشارة إلى أن أفضل غذاء للمرأة حديثة الولادة التمر ، وعليه كان تأكيد الرّوايات بخصوص تفسير هذه الآية إنّ أفضل طعام لها هو التمر(2) .

أمّا العنب فيقول عنه علماء الأغذية : إنّ ما فيه الفوائد تدعونا إلى القول بأنّه صيدلية طبيعية متكاملة.

إضافة إلى أنّ خواص العنب شبيهة جدا بخواص حليب الأم (أي أنّه غذاء كامل) ، وفائدته ضعف فائدة اللحم ، وهو ذو سعرة حرارية عالية ، ومقاوم للسموم ، وله أثر علاجي قطعي في تصفية الدم والوقاية من الروماتيزم والنقرس ، ويزيد في الدم ، وينظف المعدة والأمعاء ، وهو : منشط ، مزيل للتعب ، مقو للأعصاب ، وتعطي الفيتامينات المختلفة التي يحتويها قوة للإنسان.

وإضافة لكونه مادة غذائية مهمّة فله القدرة على مكافحة الميكروبات بدرجة ملحوظة، حتى أعتبر من العوامل المهمّة في مكافحة مرض السرطان والوقاية منه(3) .

وروي عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «خير طعامكم الخبز ، وخير فاكهتكم العنب»(4) .

ولو أردنا ذكر كل ما أورده علماء التغذية بخصوص الفواكه الثلاث وضمّناها ما جاء بصددها من روايات لخرجنا عن طبيعة التّفسير ، وإنّما كان القصد من هذه

__________________

(1) سفينة البحار ، ج 1 ، ص 124.

(2) سفينة البحار ، ج 1 ، ص 124 كذلك.

(3) أول جامعة وآخر نبي ، الجزء السابع.

(4) الإسلام طبيب بلا دواء.

١٤٦

الإطالة بيان السبب العلمي الدقيق وراء ذكر هذه الفواكه في الآية المشار إليها ، ولعل أكثر ما ذكر من فوائد كان خافيا على أهل زمان نزول الآية.

3 ـ التفكر والتعقل والتذكر :

رأينا في الآيات المبحوثة أنّ القرآن دعا الناس بعد ذكر ثلاثة أقسام من النعم الإلهية إلى التأمل في ذلك ، فقال في المورد الأوّل :( إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ) ، وفي المورد الثّاني :( لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ) وفي الثّالث :( لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ ) .

إن الاختلاف الوارد ليس للتصوير الفني في عبارات القرآن ، لأن المعروف عن الأسلوب القرآني إشارته لكل معنى برمز خاص.

ولعل المقصود من ذلك أنّ النعم الإلهية الموجودة في الأرض من الوضوح ما يكفي معها التذكر.

أمّا فيما يخص الزراعة والزيتون والنخيل والأعناب والفاكهة فتحتاج إلى تركيز الفكر لمعرفة خواصها الغذائية والعلاجية ، ولهذا ورد التعبير بالتفكر فيها.

وأمّا تسخير الشمس والقمر والليل والنهار والنجوم فيحتاج إلى تفكير أشد وأعمق من الحالة الأولى ، فورد التعبير بالتعقل.

وعلى أية حال ، فالقرآن ـ دوما ـ يخاطب العلماء والمفكرين والعقلاء ، بالرغم من أنّ المحيط الذي نزل فيه كان متخوما بالجهل ، ومن هنا تتضح لنا عظمة عبارات القرآن بشكل جلي.

والقرآن بما يحمله يمثل ضربة قاصمة لضيقي الأفق من الذين رفضوا الأديان كلها لأنّهم اصطدموا بوجود أديان خرافية ، وعلى أساسها الهش بنوا بنيانهم المهزوز على اعتبار أنّ الدين معطل للعقل والعلم وأنّ الإيمان باللهعزوجل ناتج عن جهل الإنسان وضعفه!!

١٤٧

ومن هذه النداءات الرّبانية ما نجده في جميع السور القرآنية تقريبا ، التي تتحدث بكل وضوح عن : أنّ الدين الحق هو وليد التعقل والتفكر وليس وليد الخيال السارح والجهل الدامس.

وخطاب الإسلام موجه باستمرار إلى علماء وأولي الألباب وليس إلى الجهلة وذوي الخرافات الباطلة أو إلى أدعياء الثقافة.

* * *

١٤٨

الآيات

( وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وَتَرَى الْفُلْكَ مَواخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (14) وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهاراً وَسُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (15) وَعَلاماتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ (16) أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (17) وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصُوها إِنَّ اللهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (18) )

التّفسير

نعمة الجبال والبحار والنجوم :

تبيّن هذه الآيات قسما آخر من النعم الإلهية غير المحدودة التي تفضل بها اللهعزوجل على الإنسان ، فيبدأ القرآن الكريم بذكر البحار ، المنبع الحيوي للحياة ، فيقول :( وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ ) .

وكما هو معلوم أنّ البحار تشكل القسم الأكبر من سطح الكرة الأرضية ، وأن الماء أساس الحياة ، ولا زالت البحار باعتبارها المنبع المهم في إدامة الحياة

١٤٩

البشرية وحياة جميع الكائنات الحية على سطح الكرة الأرضية.

فما أكبرها من نعمة حين جعلت البحار في خدمة الإنسان

ثمّ يشير الباري سبحانه إلى ثلاثة أنواع من منافع البحار :( لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيًّا ) فقد جعل الله في البحار لحما ليتناوله الإنسان من غير أن يبذل أدنى جهد في تربية ، بل أوجدته ونمّته يد القدرة الإلهية ، وقد خصه بالطراوة ، فمع الأخذ بنظر الإعتبار أنّ اللحوم غير الطازجة متوفرة في ذلك الزمان وفي هذا الزمان على السّواء ندرك جيدا أهمية هذه النعمة، وفي ذلك إشارة أيضا الى أهمية اللحوم الطازجة.

ومع ما شهدته الحياة البشرية من التقدم والتمدن المدني في كافّة أصعدة الحياة لا زال البحر أحد المصادر الرئيسية للتغذية ، ويصاد سنويا مئات الآلاف من الأطنان من الأسماك الطرية التي أوجدتها ورعتها يد اللطف الإلهية لأجل الإنسان.

ونجد أنظار العلماء متجهة صوب البحار في قبال ما سيهدد البشرية من خطر نقص المواد الغذائية في المستقبل جراء الزيادة السكانية الهائلة ، آملين خيرا بأنّ البحار ستسد مقدارا ملحوظا من ذلك النقص ، بواسطة تربية وتكثير أنواع الأسماك.

ومن جهة أخرى وضعوا عدّة مقررات لمنع تلوّث مياه البحار للحد من تلف نسل الحيوانات البحرية ، وكل ذلك يوضح ما في الآية المذكورة من مسائل علمية طرحت على البشرية قبل أربعة عشر قرنا.

ومن فوائد البحار أيضا تلك المواد التجميلية المستخرجة من قاعه :( وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها ) .

الحس الجمالي من الأمور الفطرية التي فطر الإنسان عليها وهو الباعث على إثارة الشعر والفن الأصيل وما شاكلها عنده.

١٥٠

وبلا شك ، يلعب هذا البعد دورا مهمّا في حياة البشر ، وينبغي العمل على إشباعه بشكل صحيح وسالم بعيدا عن أي نوع من الإفراط والتفريط.

فلا فرق بالنتيجة بين من غرق في عبادة التجميل والزينة ، وبين من أهملها وعاش حالة الجفاف الجمالي ، لأنّ الأوّل مارس الإفراط الباعث على تلف رأسماله وبات سببا في إيجاد الفواصل الطبقية المصاحب لقتل كل ما يمت للمعنويات بصلة ، والثّاني مارس التفريط الباعث على الخمود والركود. فالإثنان معا عملا بما لا ينبغي أن يعمله أي إنسان ذو فطرة سليمة بكافة أبعادها.

ولهذا أوصى الإسلام كثيرا بالتزين المعقول الخالي من أي إسراف مثل : لبس اللباس الجيد ، التطيب بالعطور ، استعمال الأحجار الكريمة إلخ.

ثمّ يتطرق القرآن إلى الفائدة الثّالثة في البحار : حركة السفن على سطح مياهها ، كوسيلة مهمّة لتنقل الإنسان ونقل ما يحتاجه ، فيقول :( وَتَرَى الْفُلْكَ مَواخِرَ فِيهِ ) ، وما أجمل ما تقع عليه أنظار راكبي السفينة حين حركتها على سطح البحار والمحيطات.

وأعطاكم الله هذه النعمة لتستفيدوا منها في التجارة أيضا( وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ ) (1) .

وبعد ذكر هذه النعم التي تستلزم من الإنسان العاقل أن يشكر واهبها ، يأتي في ذيل الآية :( وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) .

«الفلك» : أي السفينة ، وتأتي بصيغتي المفرد والجمع.

«مواخر» جمع «ماخرة» (من مادة مخر) على وزن (فخر) بمعنى شق الماء يمينا وشمالا ، وتطلق على صوت الرياح الشديد أيضا ، وباعتبار السفن عند حركتها تشق الماء بمقدمتها فيطلق عليها اسم (الماخر) أو الماخرة.

__________________

(1) ابتدأت عبارة( وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ ) بواو العطف بما يستوجب تقدم المعطوف وهو هنا مقدرا ، تقديره «لتنتفعوا بها ولتبتغوا من فضله».

١٥١

ونتساءل : من الذي أعطى المواد التي تصنع منها السفن خاصية الطفو على سطح الماء؟

فالسفينة بما تحمل أثقل من الماء بكثير ، ولو لم تكن تلك القوّة الدافعة للماء ، هل بإمكاننا العوم على سطح المياه؟

ومن الذي يحرك الرياح على سطح البحر؟

بل من أعطى البحار القوّة لتحريك السفينة في مسيرها على سطح الماء؟

أو ليس ذلك كله من نعم الله تعالى؟

وممّا يكشف عن عظم نعمة البحار أنّها : أوسع بكثير من الطرق البرية ، أقلّ كلفة ، أكثر أهلية للحركة ، أعظم وسيلة نقلية للبشر ، وذلك بملاحظة كبر السفن المستخدمة في النقل وضخامة ما تحمله.

ثمّ يأتي الحديث عن الجبال بعد عرض فوائد البحار :( وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ ) (1) .

كما قلنا سابقا فإنّ الجبال متصلة من جذورها وتقوم بتثبيت الأرض ممّا يجعلها مانعا حصينا من الزلازل الأرضية الشديدة الناشئة من الغازات الكامنة في باطن الأرض والمهددة بالخروج في أية لحظة على شكل زلزال.

إضافة لخاصية الجبال في مد القشرة الأرضية بالمقاومة اللازمة أمام جاذبية القمر (التي تسبب ظاهرة المد والجزر) ويقلل من أثرها إلى حد كبير.

وللجبال من جانب ثالث القدرة على تقليل شدة حركة الرياح وتوجيه حركتها ، ولو لم تكن الجبال لكن سطح الأرض عرضة للعواصف الشديدة المستمرة.

ثمّ يتطرق القرآن الكريم مباشرة إلى نعمة الأنهار ، لما بين الجبال والأنهار من

__________________

(1)( أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ ) على تقدير (لئلا تميد بكم) أو (كراهة أن تميد بكم).

١٥٢

علاقة وثيقة حيث تعتبر الجبال المخازن الأصلية للمياه ، فيقول :( وَأَنْهاراً ) .

ثمّ يقطع القرآن الكريم الوهم الحاصل عند البعض من أن الجبال حاجز بين ارتباط الأراضي فيما بينها بالإضافة لكونها مانعا رهيبا أمام حركة النقل ، فيقول( وَسُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ) (1) .

وهذه المسألة ملفتة للنظر حقا ، حيث نجد طرق عبور يستطيع أن يتخذها الإنسان سبيلا لتنقلاته بين أكبر السلاسل الجبلية وعورة في العالم ، وقليلا ما يكون هناك قطع كامل بين المناطق بسبب الجبال.

ثمّ يضيف قائلا :( وَعَلاماتٍ ) لأنّ الطريق لوحدها لا يمكنها أن توصل الإنسان لمقصده دون وجود علامات فارقة ومميزات شاخصة يستهدي بها الإنسان لسلك ما يوصله لمأربه ، ولذا ذكر هذه النعمة.

ومن تلك العلامات : شكل الجبال ، الأودية ، الممرات ، الارتفاع والانخفاض ، لون الأرض والجبال وحتى طبيعة حركة الهواء.

ولمعرفة ما لوجود هذه العلامات من أهمية ، يكفينا أن نلقي نظره إلى حال الصحاري الواسعة ذات الصفة الواحدة الموجودة في بعض مناطق العالم ، حيث عملية التنقل فيها أمر صعب مستصعب إلى حد كبير ، إضافة لخطورته الكبيرة ، وكم هناك من مسافر دخل فيها ولم يعد

فلو كان سطح الأرض كله على شاكلة الصحاري ، كأن تكون الجبال كلها بشكل وحجم واحد ، وحقولها بلون واحد ، وأوديتها متشابهة تماما فهل كان من اليسير على الإنسان أن يسير عليها؟!

وأمّا في حال عدم تشخيص هذه العلامات بسبب ظلمة الليل في أيّ من

__________________

(1) تعتبر هذه الآية إحدى المعجزات العلمية للقرآن الكريم ، حيث ذكرت هذا الأمر وبما يحمل من ظواهر علمية في زمن لم يصل الإنسان لاكتشافه بعد.

ولأجل مزيد من التوضيح راجع كتابنا (القرآن وآخر نبي) ـ فصل المعجزات العلمية للقرآن.

١٥٣

سفر البر أو البحر ، فقد جعل الله تعالى علامات في السماء تعوض عن علامات الأرض في تلك الحال :( وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ ) .

بطبيعة الحال فهذه إحدى الفوائد الجملة للنجوم ، ولو لم يكن لها سوى هذه الفائدة لكان كافيا لوجودها ، خصوصا في زمن لا أسطرلاب فيه ولا مؤشرات قطبية تعين السفن في تحديد مسيرها وفق خرائط أعدت لذلك الغرض ، وقديما كانت الرحلات تتوقف إذا ما غطيت السماء بالسّحب وتلبدت بالغيوم ، ومن يجرأ على تكملة السفر فسيواجه خطر الموت.

وكما هو معلوم اليوم ، فإنّ النجوم التي تبدو لنا متحركة في السماء عبارة عن خمسة كواكب ، ويطلق عليها اسم السيارات ، والسيارات أكثر من خمسة ، إلّا أنّ البقية لا يمكن تشخيصها بالعين المجرّدة بسهولة ، أمّا بقية النجوم فإنّها تحتفظ بمكانها النسبي ، وكأنّها لآلئ خيطت على قطعة قماش أسود ، وهذه القطعة كأنّها تسحب من إحدى جهاتها فتتحرك بكاملها.

وبعبارة أخرى : إنّ حركة النجوم الثوابت جمعية ، وحركة السيارات انفرادية ، حيث تتغير المسافات بينها وبين الثوابت باستمرار.

إضافة لذلك ، فالنجوم الثوابت تشكل فيما بينها أشكالا معينة تعرف ب (الصور الفلكية) ولها الأثر الكبير في معرفة الاتجاهات الأربعة (الشمال ، الجنوب ، الشرق ، والغرب).

وبعد أن بيّن القرآن كل هذه النعم الجليلة والألطاف الإلهية الخفية ، راح يدعو الوجدان الإنساني للحكم في ذلك( أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ ) ؟!

وكما اعتدنا عليه من القرآن في أسلوبه التربوي الهادف المؤثر ، فقد طرح مسألة المحاججة بصيغة السؤال يترك الجواب عنه في عهدة الوجدان الحي للإنسان ، مستعينا بتحريك الإحساس الباطني ليجيب من أعماق روحه ، ولينشد عشقا بخالقه.

١٥٤

والثابت في الواقع النفسي للإنسان ، أن التعليم والتربية السليمة يستلزمان بذل أقصى سعي ممكن لإقناع المقابل بقبول ما يوجد إليه عن قناعة ذاتية ، أي ينبغي إشعاره بأن ما يعطى إليه ما هو في حقيقته إلّا انبعاث من داخله وليس فرضا عليه من الخارج ليتقبلها بكل وجوده ويتبناها ويدافع عنها.

ونجد من الضرورة إعادة ما قلناه سابقا من أن المشركين الذين كانوا يسجدون للأصنام كانوا يعتقدون أنّ اللهعزوجل هو الخالق ، ولهذا يتساءل القرآن الكريم من أحق بالسجود خالق كل شيء أم المخلوق؟!

وفي نهاية المطاف ، يفند الباري سبحانه مسألة حصر النعم الإلهية بما ذكر ، بقوله :( وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصُوها ) .

إنّكم غارقون في النعم الإلهية وفي كل نفس يصعد وينزل آلاف النعم (ولكل نعمة شكر واجب).

إنّ كل دقيقة تمر من عمرنا نكون فيها مدينين لفعاليات ملايين الموجودات الحيّة في داخل بدننا وملايين الموجودات الحية وغير الحية في خارجة ، والتي لا يمكننا أن نحيا ولو للحظة واحدة بدونها.

ولكنّ ضبابية الغفلة حالت دون معرفتنا لهذه النعم الجمة التي كلّما خطا العلم الحديث خطوة إلى الإمام اتّضحت لنا أبعاد واسعة وانفتحت لنا آفاقا جديدة في معرفة النعم الإلهية ، وكل ما ندركه في هذا المجال قليل جدّا ممّا قدّره الباري لنا ، فهل بإمكان المحدود أن يعد ما أعطاه المطلق؟!

ونواجه في هذا المقام سؤالا واستفسارا : كيف إذن نؤدي حق الشكر لله؟ و..ألسنا مع ما نحن فيه زمرّة الجاحدين؟

وقوله تعالى :( إِنَّ اللهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ) خير جواب لما واجهنا به.

نعم ، فهو سبحانه أرحم وأرأف من أن يؤاخذنا على عدم الاستطاعة في أداء أتمّ الشكر على نعمه.

١٥٥

ويكفينا من لطفه تعالى بأن يحسبنا من الشاكرين في حال اعتذرنا له واعترافنا بالعجز عن أداء حق الشكر الكامل.

ولكن هذا لا يمنع من أن نتتبع ونحصي النعم الرّبانية بقدر المستطاع ، لأنّ ذلك يزيدنا معرفة الله ، وعلما بعالم الخليقة ، وآفاق التوحيد الرحبة ، كما يزيد من حرارة عشقه سبحانه في أعماق قلوبنا ، وكذا يحرك فينا الشعور المتحسس بضرورة ووجوب شكر المنعم جل وعلا.

ولهذا نجد أنّ الأئمّةعليهم‌السلام يتطرقون في أقوالهم وأدعيتهم ومناجاتهم إلى النعم الإلهية ويعدون جوانب منها ، عبادة لله وتذكيرا ودرسا للآخرين.

(وقد تناولنا مسألة شكر النعمة وعدم قدرة الإنسان على إحصاء النعم الإلهية عند بحث الآية الرّابعة والثّلاثين من سورة إبراهيم).

* * *

بحث

الطريق ، العلامة ، القائد :

تحدثت الآيات أعلاه عن الطرق الأرضية بكونها إحدى النعم الإلهية باعتبارها من أهم وسائل الارتباط في طريق التمدن الإنساني.

ولهذا عند وضع الخطط العمرانية لا بد معها من رسم وبناء خطوط الطرق المناسبة للمكان المقصود ، وإلّا لا يمكن أن يقام عمران.

ومع هذا ، فلا يمكننا حصر البيان القرآني بهذا الجانب فحسب ، بل يمكننا القول بأنّه يشمل حتى جوانب الحياة المعنوية للبشرية أيضا ، لأنّ الوصول إلى هدف مقدس يستلزم سلوك الطريق الصحيح لذلك الهدف.

بالإضافة إلى الأهمية الحيوية الوجود العلامات في تشخيص السبيل من بين كثرة السبل وتشابكها ، فإضاعة السبيل الأصلي ممكن في حال عدم وجود ما يدل

١٥٦

عليه من «علامات».

وخصوصا ، ورود تسمية المؤمنين في الآيات القرآنية بالمتوسمين للتأكيد على ضرورة الانتباه إلى هذه العلامات.

فلكي يستطيعوا تشخيص الحق من الباطل لا بد من معرفة المذاهب والسنن والدعوات المختلفة ، بل حتى الأشخاص ، وذلك من خلال (العلامات).

وأمّا مسألة وجود القائد فلا تحتاج لتوضيح وبيان (الموضح لا يوضح).

وقد فسرت «النجم» برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و «العلامات» بالأئمّةعليهم‌السلام في روايات كثيرة وردت عن أهل البيتعليهم‌السلام وفي بعضها فسّر «النعم» و «العلامات» كلاهما بالأئمّةعليهم‌السلام ، ونشير هنا إلى نماذج من الرّوايات :

1 ـ في تفسير علي بن إبراهيم عن الإمام الصادقعليه‌السلام أنّه قال : «النجم رسول الله ، والعلامات الأئمّةعليهم‌السلام »(1) وورد مثله عن الإمام علي بن موسى الرضاعليه‌السلام .

2 ـ وروي عن الإمام الباقرعليه‌السلام في تفسير الآية أعلاه أنّه قال : «نحن النجم»(2) .

3 ـ وروي كذلك عن الإمام الرضاعليه‌السلام أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال لعليعليه‌السلام :«أنت نجم بني هاشم»(3) .

4 ـ وفي رواية أخرى : «أنت أحد العلامات»(4) .

وكل ذلك يشير إلى التّفسير المعنوي لهذه الآيات.

* * *

__________________

(1) تفسير نور الثقلين ، ج 3 ، ص 45.

(2) المصدر السابق.

(3) المصدر السابق.

(4) المصدر السابق.

١٥٧

الآيات

( وَاللهُ يَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ (19) وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ (20) أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (21) إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (22) لا جَرَمَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ (23) )

التّفسير

آلهة لا تشعر!

تناولت الآيات السابقة ذكر صفتين ربانيتين لا تنطبق أية منها على الأصنام وسائر المعبودات الأخرى غير الله تعالى وهما : (خلق الموجودات ، إعطاء النعم) ، أمّا الآية الأولى أعلاه فتشير إلى الصفة الثّالثة للمعبود الحقيقي (وهي العلم) ، فتقول :( وَاللهُ يَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ ) .

فلما ذا تسجدون للأصنام التي لم تكن هي الخالقة لكم ، ولم تمنّ عليكم بأية

١٥٨

نعمة ، ولا تعرف عن علنكم شيئا مضافا إلى سرّكم؟!

فهل يصح عبادة من لا يمتلك مستلزمات المعبود؟!

ثمّ يعود القرآن إلى مسألة الخالقية بأفق أوسع من الآية السابقة :( وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ ) .

وقد بحث لحد الآن في عدم صلاحية الأصنام لتكون معبودة لأنّها ليست خالقة. بل والأكثر من ذلك أنّها إضافة لكونها مخلوقة فهي فقيرة ومحتاجة في وجودها ، فكيف يلجأ إليها الإنسان لسد حوائجه؟! أو ليس ذلك السخف بعينه؟

ومع ذلك كلّه ، فإنّها( أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ ) .

أو ليس ينبغي أن يكون المعبود حيا (على أقل التقادير) ليكون مطلعا على حاجات عباده؟

إذن يلزم توفر صفة «الحياة» للمعبود الحقيقي ، وهذا ما لا يتوفر في الأصنام.

ثمّ يضيف قائلا عنها :( وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ ) .

فإذا كان الثواب والعقاب بيد الأصنام. فلا أقل من معرفتها بوقت بعث عبادهن ، ومع جهلها بيوم البعث والحساب كيف تكون لائقة للعبادة؟!

وهذه هي الصفة الخامسة التي يجب توفرها في المعبود الحقيقي وتفتقدها الأصنام.

وقلنا مرارا فيما سبق أن مفهوم الصنم وعبادة الأصنام في المنطق القرآني أوسع من أنّ يحدد بالآلهة المصنوعة من الحجر والخشب والمعادن. فكل موجود نجعله ملجأ لنا مقابل اللهعزوجل ، ونسلم له أمر مصائرنا ، فهو صنم وإنّ كان بشرا.

ولهذا فكل ما جاء في الآيات أعلاه يشمل الذين يعبدون الله بألسنتهم ، ولكن في واقع حياتهم مستسلمون لمعبود ضعيف ، وقد تبعوه لكونه المخلص لهم

١٥٩

من دون الله ، بعد أن فقد زمام استقلال المؤمن الحق.

أولئك الذين يعتقدون أن القوى العالمية الكبرى يمكن أن تكون ملجأ لهم في حياتهم ، وإن كانت كافرة بالله وجهنمية فهم من الناحية العملية الواقعية عبدة للأصنام ومشركين باللهعزوجل ، وينبغي محاججتهم ب :

هل خلقت لكم هذه المعبودات شيئا؟

هل هي مصدر النعمة؟

أهي مطلعة على شؤونكم الظاهرة والخفية؟

وهل تعلم متى ستبعثون؟

هل بيدها الثواب والعقاب؟

وإن كانت الإجابة بالنفي ، فلم تعبدونها من دون الله؟!

وبعد هذه الاستدلالات الحية والواضحة على عدم صلاحية الأصنام يخلص القرآن إلى النتيجة المنطقية لما ذكر :( إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ ) .

وبما أنّ العلاقة بين المبدأ والمعاد مترابطة ربطا لا انفصام فيه ، يضيف القرآن الكريم من غير فاصلة :( فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ ) (1) .

فأدلة التوحيد والمعاد قائمة لمن أراد الحق وطلب الحقيقة ، إلّا أن سبب عدم قبول الحق وإنكاره يرجع إلى حالة الاستكبار وعدم التسليم له ، ويصبح ملكة في وجود المنكرين خصوصا بعد أن يصل بهم الحال إلى إنكار الحقائق الحسيّة المتوفرة لديهم ، وعندها فلا ينفع معهم كلام حق أو دليل شاخص أو منطق سليم.

فالأدلة الحية التي ذكرتها الآيات السابقة بعدم صلاحية الأصنام للعبادة كافية لكل ذي لب رشيد ، إلّا أنّ هناك الكثير ممن لا يقبلها مع مالها من حقيقة

__________________

(1) إنّ حرف الفاء في كلمة «فالذين» للتفريع كما هو معلوم ، فيكون المراد : إنّ إنكار القيامة فرع لإنكار المبدأ.

١٦٠