الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٨

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل16%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 496

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 496 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 231168 / تحميل: 7117
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٨

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

لم يكن جيش فرعون مانعا من العذاب الإلهي ، ولم تكن سعة مملكتهم وأموالهم وثراؤهم سببا لرفع هذا العذاب ، ففي النهاية أغرقوا في أمواج النيل المتلاطمة إذ أنّهم كانوا يتباهون بالنيل ، فبماذا تفكرون لأنفسكم وأنتم أقل عدّة وعددا من فرعون وأتباعه وأضعف؟! وكيف تغترون بأموالكم وأعدادكم القليلة؟!

«الوبيل» : من (الوبل) ويراد به المطر الشديد والثقيل ، وكذا يطلق على كل ما هو شديد وثقيل بالخصوص في العقوبات ، والآية تشير إلى شدّة العذاب النازل كالمطر.

ثمّ وجه الحديث إلى كفّار عصر بنيّ الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويحذرهم بقوله :( فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً ) (١) (٢) .

بلى إنّ عذاب ذلك اليوم من الشدّة والثقيل بحيث يجعل الولدان شيبا ، وهذه كناية عن شدّة ذلك اليوم.

هذا بالنسبة لعذاب الآخرة ، وهناك من يقول : إنّ الإنسان يقع أحيانا في شدائد العذاب في الدنيا بحيث يشيب منها الرأس في لحظة واحدة.

على أي حال فإنّ الآية تشير إلى أنّكم على فرض أنّ العذاب الدنيوي لا ينزل عليكم كما حدث للفراعنة؟ فكيف بكم وعذاب يوم القيامة؟

في الآية الاخرى يبيّن وصفا أدقّ لذلك اليوم المهول فيضيف :( السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً ) .

إنّ الكثير من الآيات الخاصّة بالقيامة وأشراط الساعة تتحدث عن

__________________

(١) يوما مفعول به لتتقون ، و «تتقون» ذلك اليوم يراد به تتقون عذاب ذلك اليوم ، وقيل (يوم) ظرف لـ (تتقون) أو مفعول به لـ (كفرتم) والاثنان بعيدان.

(٢) «شيب» جمع (أشيب) ويراد به المسن ، وهي من أصل مادة شيب ـ على وزن عيب ـ والمشيب يعني تغير لون الشعر إلى البياض.

١٤١

انفجارات عظيمة وزلازل شديدة ومتغيرات سريعة ، والآية أعلاه تشير إلى جانب منها.

فما حيلة الإنسان الضعيف العاجز عند ما يرى تفطر السموات بعظمتها لشدّة ذلك اليوم؟!(١)

وفي النّهاية يشير القرآن إلى جميع التحذيرات والإنذارات السابقة فيقول تعالى :( إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ ) .

إنّكم مخيرون في اختيار السبيل ، فمن شاء اتّخذ إلى ربّه سبيلا ، ولا فضيلة في اتّخاذ الطريق إلى الله بالإجبار والإكراه ، بل الفضيلة أن يختار الإنسان السبيل بنفسه وبمحض إرادته.

والخلاصة أنّ الله تعالى هدى الإنسان إلى النجدين ، وجعلهما واضحين كالشمس المضيئة في وضح النهار ، وترك الإختيار للإنسان نفسه حتى يدخل في طاعته سبحانه بمحض إرادته ، وقد احتملت احتمالات متعددة في سبب الإشارة إلى التذكرة ، فقد قيل أنّها إشارة إلى المواعظ التي وردت في الآيات السابقة ، وقيل هي إشارة إلى السورة بكاملها ، أو إشارة إلى القرآن المجيد.

ولعلها إشارة إلى إقامة الصلاة وقيام الليل كما جاء في الآيات من السورة ، والمخاطب هو النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والآية تدل على توسعة الخطاب وتعميمه لسائر المسلمين ، ولهذا فإنّ المراد من «السبيل» في الآية هو صلاة الليل ، والتي تعتبر سبيل خاصّ ومهمّة تهدي إلى الله تعالى ، كما ذكرت في الآية (٢٦) من سورة الدهر بعد أن أشير إلى صلاة الليل بقوله تعالى :( وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً ) .

ويقول بعد فاصلة قصيرة :( إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً )

__________________

(١) «المنفطر» : من الانفطار بمعنى الإنشقاق ، والضمير (به) يعود لليوم ، والمعنى السماء منشقة بسبب ذلك اليوم والسماء جائزة للوجهين أي أنّه تذكر وتؤنث.

١٤٢

وهي بعينها الآية التي نحن بصدد البحث فيها(١) .

وبالطبع هذا التّفسير مناسب ، والأنسب منه أن تكون الآية ذات مفهوم أوسع حيث تستوعب هذه السورة جميع مناهج صنع الإنسان وتربيته كما أشرنا إلى ذلك سابقا.

* * *

ملاحظة

المراحل الأربع للعذاب الإلهي

الآيات السابقة تهدد المكذبين المغرورين بأربعة أنواع من العذاب الأليم : النكال ، الجحيم ، الطعام ذو الغصّة ، والعذاب الأليم ، هذه العقوبات في الحقيقة هي تقع في مقابل أحوالهم في هذه الحياة الدنيا.

فمن جهة كانوا يتمتعون بالحرية المطلقة.

الحياة المرفهة ثانيا.

لما لهم من الأطعمة السائغة من جهة ثالثة.

والجهة الرابعة لما لهم من وسائل الراحة ، وهكذا سوف يجزون بهذه العقوبات لما قابلوا هذه النعم بالظلم وسلب الحقوق والكبر والغرور والغفلة عن الله تعالى.

* * *

__________________

(١) تفسير الميزان ، ج ٢٠ ، ص ١٤٧.

١٤٣

الآية

( إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللهِ وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَقْرِضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٠) )

التّفسير

فاقرؤوا ما تيسر من القرآن :

هذه الآية هي من أطول آيات هذه السورة وتشتمل على مسائل كثيرة ، وهي مكملة لمحتوى الآيات السابقة ، وهناك أقوال كثيرة للمفسّرين حول ما إذا كانت

١٤٤

هذه الآية ناسخة لحكم صدر السورة أم لا ، وكذلك في مكّيتها أو مدنيتها ، ويتّضح لنا جواب هذه الأسئلة بعد تفسير الآية.

فيقول تعالى :( إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ ) (١) .

الآية تشير إلى نفس الحكم الذي أمر به الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في صدر السورة من قيام الليل والصلاة فيه ، وما أضيف في هذه الآية هو اشتراك المؤمنين في العبادة مع النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (بصيغة حكم استحبابي أو باحتمال حكم وجوبي لأنّ ظروف صدر الإسلام كانت تتجاوب مع بناء ذواتهم والاستعداد للتبليغ والدفاع عنه بالدروس العقائدية المقتبسة من القرآن المجيد ، وكذا بالعمل والأخلاق وقيام الليل ، ولكن يستفاد من بعض الرّوايات أنّ المؤمنين كانوا قد وقعوا في إشكالات ضبط الوقت للمدة المذكورة (الثلث والنصف والثلثين) ولذا كانوا يحتاطون في ذلك ، وكان ذلك يستدعي استيقاظهم طول الليل والقيام حتى تتورم أقدامهم ، ولذا بني هذا الحكم على التخفيف ، فقال :( عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ ) .

«لن تحصوه» : من (الإحصاء) وهو عد الشيء ، أي علم أنّكم لا تستطيعون إحصاء مقدار الليل الذي أمرتم بقيامه والإحاطة بالمقادير الثلاثة.

وقال البعض : إنّ معنى الآية أنّكم لا تتمكنون من المداومة على هذا العمل طيلة أيّام السنة ، ولا يتيسر لعامّة المكلّفين إحصاء ذلك لاختلاف الليالي طولا وقصرا ، مع وجود الوسائل التي توقظ الإنسان.

والمراد بـ( فَتابَ عَلَيْكُمْ ) خفف عليكم التكاليف ، وليس التوبة من الذنب ، ويحتمل أنّه في حال رفع الحكم الوجوبي لا يوجد ذنب من الأساس ، والنتيجة

__________________

(١) يجب الالتفات إلى أنّ (نصفه) و (ثلثه) معطوف على أدنى وليس على (ثلثي الليل) فيكون المعنى أنّه يعلم أنّك تقوم بعض الليالي أدنى من ثلثي الليل أو نصفه أو ثلثه ،. كذا الالتفات إلى أن أدنى تقال لما يقرب من الشيء ، وهنا إشارة إلى الزمن التقريبي.

١٤٥

تكون مثل المغفرة الإلهية.

وأمّا عن معنى الآية :( فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ ) فقد قيل في تفسيرها أقوال ، فقال بعضهم : إنّها تعني صلاة الليل التي تتخللها قراءة الآيات القرآنية ، وقال الآخرون : إنّ المراد منها قراءة القرآن ، وإن لم تكن في أثناء الصلاة ، وفسّرها البعض بخمسين آية ، وقيل مائة آية ، وقيل مائتان ، ولا دليل على ذلك ، بل إنّ مفهوم الآية هو قراءة ما يتمكن عليه الإنسان.

وبديهي أنّ المراد من قراءة القرآن هو تعلم الدروس لبناء الذات وتقوية الإيمان والتقوى.

ثمّ يبيّن دليلا آخرا للتخفيف فيضيف تعالى :( عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللهِ وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ ) ، وهذا تخفيف آخر كما قلنا في الحكم ، ولذا يكرر قوله «فاقرؤوا ما تيسر منه» ، والواضح أنّ المرض والأسفار والجهاد في سبيل الله ذكرت بعنوان ثلاثة أمثلة للأعذار الموجهة ولا تعني الحصر ، والمعنى هو أنّ الله يعلم أنّكم سوف تلاقون ، كثيرا من المحن والمشاكل الحياتية ، وبالتالي تؤدي إلى قطع المنهج الذي أمرتم به ، فلذا خفف عليكم الحكم.

وهنا يطرح هذا السؤال ، وهو : هل أنّ هذا الحكم ناسخ للحكم الذي ورد في صدر السورة ، أم هو حكم استثنائي؟ طاهر الآيات يدل على النسخ ، وفي الحقيقة أنّ الغرض من الحكم الأوّل في صدر السورة هو إقامة المنهج العبادي ، وهذا ما حصل لمدّة معينة ثمّ نسخ بعد ذلك بهذه الآية ، وأصبح أخف من ذي قبل ، لأنّ ظاهر الآية يدل على وجود معذورين ، فلذا حفف الحكم على الجميع ، وليس للمعذورين فحسب ، ولذا لا يمكن أن يكون حكما استثنائيا بل هو حكم ناسخ.

ويرد سؤال آخر ، هو : هل أنّ الحكم المذكور بقراءة ما تيسّر من القرآن واجب أم مستحب؟ إنّه مستحب ، واحتمل البعض الآخر الوجوب ، لأنّ قراءة القرآن تبعث على معرفة دلائل التوحيد ، وإرسال الرسل ، وواجبات الدين ، وعلى

١٤٦

هذا الأساس تكون القراءة واجبة.

ولكن يجب الالتفات إلى أنّ الإنسان لا يلزم بقراءة القرآن ليلا أثناء صلاة الليل ، بل يجب على المكلّف أن يقرأ بمقدار ما يحتاجه للتعليم والتربية لمعرفة اصول وفروع الإسلام وحفظه وإيصاله إلى الأجيال المقبلة ، ولا يختص ذلك بزمان ومكان معينين ، والحقّ هو وجوب القراءة لما في ظاهر الأمر (فاقرؤا كما هو مبيّن في اصول الفقه) إلّا أن يقال بقيام الإجماع على عدم الوجوب ، فيكون حينها مستحبا ، والنتيجة هي وجوب القراءة في صدر الإسلام لوجود الظروف الخاصّة لذلك ، واعطي التخفيف بالنسبة للمقدار والحكم ، وظهر الاستحباب بالنسبة للمقدار الميسّر ، ولكن صلاة الليل بقيت واجبة على الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم طيلة حياته (بقرينة سائر الآيات والرّوايات).

ونقرأ في حديث ورد عن الإمام الباقرعليه‌السلام حيث يقول : «... متى يكون النصف والثلث نسخت هذه الآية( فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ ) واعلموا أنّه لم يأت نبيّ قط إلّا خلا بصلاة الليل ، ولا جاء نبي قط صلاة الليل في أوّل الليل»(١) .

والملاحظ في الآية ذكر ثلاثة نماذج من الأعذار ، أحدها يتعلق بالجسم (المرض) ، والآخر بالمال (السفر) ، والثالث بالدين (الجهاد في سبيل الله) ، ولذا قال البعض : إنّ المستفاد من الآية هو السعي للعيش بمثابة الجهاد في سبيل الله! وقالوا : إنّ هذه الآية مدنيّة بدليل سياقها في وجوب الجهاد ، إلّا أنّ الجهاد لم يكن في مكّة ، ولكن بالالتفات إلى قوله :( سَيَكُونُ ) يمكن أن تكون الآية مخبرة على تشريع الجهاد في المستقبل ، أي بسبب ما لديكم من الأعذار وما سيكون من الأعذار ، لم يكن هذا الحكم دائميا ، وبهذا الصورة يمكن أن تكون الآية مكّية ولا منافاة في ذلك.

ثمّ يشير إلى أربعة أحكام اخرى ، وبهذه الطريقة يكمل البناء الروحي للإنسان فيقول:( وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَقْرِضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً وَما

__________________

(١) تفسير نور الثقلين ، ج ٥ ، ٤٥١.

١٤٧

تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) .

هذه الأوامر الأربعة (الصلاة ، الزكاة ، القروض المستحبة ، الاستغفار) مع الأمر بالقراءة والتدبر في القران الذي ورد من قبل تشكّل بمجموعها منهجا للبناء الروحي ، وهذا مهم للغاية بالخصوص لمن كان في عصر صدر الإسلام.

والمراد من «الصلاة» هنا الصلوات الخمس المفروضة ، والمراد من «الزكاة» الزكاة المفروضة ومن إقراض الله تعالى هو إقراض الناس ، وهذه من أعظم العبارات المتصورة في هذا الباب ، فإنّ مالك الملك يستقرض بمن لا يملك لنفسه شيئا ، ليرغبهم بهذه الطريقة للإنفاق والإيثار واكتساب الفضائل منها وليتربى ويتكامل بهذه الطريقة.

وذكر «الاستغفار» في آخر هذه الأوامر يمكن أن يكون إشارة إلى هذا المعنى وإيّاكم والغرور إذا ما أنجزتم هذه الطاعات ، وبأنّ تتصوروا بأنّ لكم حقّا على الله ، بل اعتبروا أنفسكم مقصرين على الدوام واعتذروا لله.

ويرى البعض أنّ التأكيد على هذه الأوامر هو لئلا يتصور المسلّم أنّ التخفيف سار على جميع المناهج والأوامر الدينية كما هو الحال في التخفيف الذي امر به النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأصحابه في قيام وقراءة القرآن ، بل إنّ المناهج والأوامر الدينية باقية على متانتها وقوّتها(١) .

وقيل إنّ ذكر الزكاة المفروضة في هذه الآية هو دليل آخر على مدنيّة هذه الآية ، لأنّ حكم الزكاة نزل بالمدينة وليس في مكّة ، ولكن البعض قال : إنّ حكم الزكاة نزل في مكّة من غير تعيين نصاب ومقدار لها ، والذي فرض بالمدينة تعيين الأنصاب والمقادير.

* * *

__________________

(١) تفسير الميزان ، ج ٢٠ ، ص ١٥٦.

١٤٨

ملاحظات

١ ـ ضرورة الاستعداد العقائدي والثقافي

لغرض إيجاد ثورة واسعة في جميع الشؤون الحياتية أو إنجاز عمل اجتماعي ذي أهمية لا بدّ من وجود قوّة عزم بشرية قبل كل شيء ، وذلك مع الإعتقاد الراسخ ، والمعرفة الكاملة ، والتوجيه والفكري والثقافي الضروري والتربوي ، والتربية الأخلاقية ، وهذا ما قام به النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في مكّة في السنوات الاولى للبعثة ، بل في مدّة حياتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولوجود هذا الأساس المتين للبناء أخذ الإسلام بالنمو السريع والرشد الواسع من جميع الجهات.

وما جاء في هذه السورة هو نموذج حي ومنطقي لهذا المنهج المدروس ، فقد خلّف القيام لثلثي الليل أو ثلثه وقراءة القرآن والتمعن فيه أثرا بالغا في أرواح المؤمنين ، وهيأهم لقبول القول الثقيل والسبح الطويل ، وتطبيق هذه الأوامر التي هي أشدّ وطأ وأقوم قيلا كما يعبّر عنه القرآن ، هي التي أعطتهم هذه الموفقية ، وجهزت هذه المجموعة المؤمنة القليلة ، والمستضعفة والمحرومة بحيث أهلتهم لإدارة مناطق واسعة من العالم ، وإذا ما أردنا نحن المسلمين إعادة هذه العظمة والقدرة القديمة علينا أن نسلك هذا الطريق وهذا المنهج ، ولا يجب علينا إزالة حكومة الصهاينة بالاعتماد على أناس عاجزين وضعفاء لم يحصلوا على ثقافة أخلاقية.

٢ ـ قراءة القرآن والتفكر

يستفاد من الرّوايات الإسلامية أنّ فضائل قراءة القرآن ليس بكثرة القراءة ، بل في حسن القراءة والتدبر والتفكر فيها ، ومن الطريف أنّ هناك رواية

وردت عن الإمام الرضاعليه‌السلام في تفسير ذيل الآية :( فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ ) رواها عن

١٤٩

جدّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ما تيسّر منه لكم فيه خشوع القلب وصفاء السر»(١) ، لم لا يكون كذلك والهدف الأساس للقراءة هو التعليم والتربية.

والرّوايات في هذا المعنى كثيرة.

٣ ـ السعي للعيش كالجهاد في سبيل الله

كما عرفنا من الآية السابقة فإنّ السعي لطلب الرزق جعل مرادفا للجهاد في سبيل الله ، وهذا يشير إلى أنّ الإسلام يعير أهمية بالغه لهذا الأمر ، ولم لا يكون كذلك فلأمّة الفقيرة والجائعة المحتاجة للأجنبي لا يمكن لها أن تحصل على الاستقلال والرفاه ، والمعروف أنّ الجهاد الاقتصادي هو قسم من الجهاد مع الأعداء ، وقد نقل في هذا الصدد قول عن الصحابي المشهور عبد الله بن مسعود : «أيما رجل جلب شيئا إلى مدينة من مدائن المسلمين صابرا محتسبا فباعه بسعر يومه كان عند الله بمنزلة الشهداء» ثمّ قرأ :( وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ ) (٢) .

اللهم! وفقنا للجهاد بكلّ أبعاده.

ربّنا! وفقنا لقيام الليل وقراءة القرآن الكريم وتهذيب أنفسنا بواسطة هذا النور السماوي.

ربّنا! منّ على مجتمعنا الإسلامي بمقام الرفعة والعظمة بالإلهام من هذه السورة العظيمة.

آمين ربّ العالمين

نهاية سورة المزّمل

* * *

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ١٠ ، ص ٣٨٢.

(٢) مجمع البيان ، وتفسير أبي الفتوح ، وتفسير القرطبي ، ذيل الآية مورد البحث وقد نقل القرطبي حديثا عن الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يشابه هذه الحديث ، فيستفاد من ذلك أنّ عبد الله بن مسعود قد ذكر الحديث عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وليس هو من قوله.

١٥٠
١٥١

سورة

المدّثّر

مكيّة

وعدد آياتها ستّ وخمسون آية

١٥٢

«سورة المدّثّر»

محتوى السورة :

لا شك أنّ هذه السورة هي من السور المكّية ولكن هناك تساؤل عن أنّ هذه السورة هل هي الاولى النازلة على النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أم نزلت بعد سورة العلق؟

يتّضح من التمعن في محتوى سورة العلق والمدثر أنّ سورة العلق نزلت في بدء الدعوة ، وأنّ سورة المدثر نزلت في زمن قد امر النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيه بالدعوة العلنية ، وانتهاء فترة الدعوة السرّية ، لذا قال البعض أنّ سورة العلق هي أوّل سورة نزلت في صدر البعثة ، والمدثر هي السورة الاولى التي نزلت بعد الدعوة العلنية ، وهذا الجمع هو الصحيح.

ومهما يكن فإنّ سياق السور المكّية التي تشير إلى الدعوة وإلى المبدأ والمعاد ومقارعة الشرك وتهديد المخالفين وإنذارهم بالعذاب الإلهي واضح الوضوح في هذه السورة.

يدور البحث في هذه السورة حول سبعة محاور وهي :

١ ـ يأمر الله تعالى رسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بإعلان الدعوة العلنية ، ويأمر أن ينذر المشركين ، وتمسك بالصبر والاستقامة في هذا الطريق والاستعداد الكامل لخوض هذا الطريق.

٢ ـ تشير إلى المعاد وأوصاف أهل النّار الذين واجهوا القرآن بالتكذيب والإعراض عنه.

١٥٣

٣ ـ الإشارة إلى بعض خصوصيات النّار مع إنذار الكافرين.

٤ ـ التأكيد على المعاد بالأقسام المكررة.

٥ ـ ارتباط عاقبة الإنسان بعمله ، ونفي كل أنواع التفكر غير المنطقي في هذا الإطار.

٦ ـ الإشارة إلى قسم من خصوصيات أهل النّار وأهل الجنّة وعواقبهما.

٧ ـ كيفية فرار الجهلة والمغرورين من الحقّ.

فضيلة السورة :

ورد في حديث عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «من قرأ سورة المدثر اعطي من الأجر عشر حسنات بعدد من صدق بمحمّد وكذب به بمكّة»(١) .

وورد في حديث آخر عن الإمام الباقرعليه‌السلام قال : «من قرأ في الفريضة سورة المدثر كان حقّا على الله أن يجعله مع مجمّد في درجته ، ولا يدركه في حياة الدنيا شقاء أبدا»(٢)

وبديهي أنّ هذه النتائج العظيمة لا تتحقق بمجرّد قراءة الألفاظ فحسب ، بل لا بدّ من التمعن في معانيها وتطبيقها حرفيا.

* * *

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ١٠ ، ص ٣٨٣.

(٢) المصدر السابق.

١٥٤

الآيات

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

( يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (١) قُمْ فَأَنْذِرْ (٢) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (٣) وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ (٤) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (٥) وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (٦) وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ (٧) فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ (٨) فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (٩) عَلَى الْكافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ (١٠) )

التّفسير

قم وانذر النّاس :

لا شك من أنّ المخاطب في هذه الآيات هو النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإن لم يصرح باسمه ، ولكن القرائن تشير إلى ذلك ، فيقول أوّلا :( يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ ) فلقد ولى زمن النوم الاستراحة ، وحان زمن النهوض والتبليغ ، وورد التصريح هنا بالإنذار مع أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مبشر ونذير ، لأنّ الإنذار له أثره العميق في إيقاظ الأرواح النائمة خصوصا في بداية العمل.

وأورد المفسّرون احتمالات كثيرة عن سبب تدثرهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ودعوته إلى القيام والنهوض.

١ ـ اجتمع المشركون من قريش في موسم الحج وتشاور الرؤساء منهم

١٥٥

كأبي جهل وأبي سفيان والوليد بن المغيرة والنضر بن الحارث وغيرهم في ما يجيبون به عن أسئلة القادمين من خارج مكّة وهم يناقشون أمر النّبي الذي قد ظهر بمكّة ، وفكروا في وأن يسمّي كلّ واحد منهم النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم باسم ، ليصدوا الناس عنه ، لكنّهم رأوا في ذلك فساد الأمر لتشتت أقوالهم ، فاتفقوا في أن يسمّوه ساحرا ، لأنّ أحد آثار السحرة الظاهرة هي التفريق بين الحبيب وحبيبه ، وكانت دعوة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد أثّرت هذا الأثر بين الناس! فبلغ ذلك النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فتأثر واغتم لذلك ، فأمر بالدثار وتدثر ، فأتاه جبرئيل بهذه الآيات ودعاه إلى النهوض ومقابلة الأعداء.

٢ ـ إنّ هذه الآيات هي الآيات الأولى التي نزلت على النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لما نقله جابر بن عبد الله قال : جاوزت بحراء فلمّا قضيت جواري نوديت يا محمّد ، أنت رسول الله ، فنظرت عن يميني فلم أر شيئا ، ونظرت عن شمالي فلم أر شيئا ، ونظرت خلفي فلم أر شيئا ، فرفعت رأسي فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالس على كرسي بين السماء والأرض ، فملئت منه رعبا ، فرجعت إلى خديجة وقلت : «دثروني دثروني ، واسكبوا عليّ الماء البارد» ، فنزل جبرئيل بسورة :( يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ ) .

ولكن بلحاظ أن آيات هذه السورة نظرت للدعوة العلنية ، فمن المؤكّد أنّها نزلت بعد ثلاث سنوات من الدعوة الخفية ، وهذا لا ينسجم والروية المذكورة ، إلّا أن يقال بأنّ بعض الآيات التي في صدر السورة قد نزلت في بدء الدعوة ، والآيات الأخرى مرتبطة بالسنوات التي تلت الدعوة.

٣ ـ إنّ النّبي كان نائما وهو متدثر بثيابه فنزل عليه جبرائيلعليه‌السلام موقظا إيّاه ، ثمّ قرأ عليه الآيات أن قم واترك النوم واستعد لإبلاغ الرسالة.

٤ ـ ليس المراد بالتدثر التدثر بالثياب الظاهرية ، بل تلبسهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالنبوّة والرسالة كما قيل في لباس التقوى.

١٥٦

٥ ـ المراد به اعتزالهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وانزواؤه واستعد لإنذار الخلق وهداية العباد(١) والمعني الأوّل هو الأنسب ظاهرا.

ومن الملاحظ أنّ جملة (فانذر) لم يتعين فيها الموضوع الذي ينذر فيه ، وهذا يدل على العمومية ، يعني إنذار الناس من الشرك وعبادة الأصنام والكفر والظلم والفساد ، وحول العذاب الإلهي والحساب المحشر إلخ (ويصطلح على ذلك بأن حذف المتعلق يدل على العموم). ويشمل ضمن ذلك العذاب الدنيوي والعذاب الاخروي والنتائج السيئة لأعمال الإنسان التي سيبتلى بها في المستقبل.

ثم يعطي للنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خمسة أوامر مهمّة بعد الدعوة إلى القيام والإنذار ، تعتبر منهاجا يحتذي به الآخرون ، والأمر الأوّل هو في التوحيد ، فيقول :( وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ ) (٢) .

ذلك الربّ الذي هو مالكك مربيك ، وجميع ما عندك فمنه تعالى ، فعليك أن تضع غيره في زاوية النسيان وتشجب على كلّ الآلهة المصطنعة ، وامح كلّ آثار الشرك وعبادة الأصنام.

ذكر كلمة (ربّ) وتقديمها على (كبّر) الذي هو يدل على الحصر ، فليس المراد من جملة «فكبر» هو (الله أكبر) فقط ، مع أنّ هذا القول هو من مصاديق التكبير كما ورد من الرّوايات ، بل المراد منه أنسب ربّك إلى الكبرياء والعظمة اعتقادا وعملا ، قولا فعلا وهو تنزيهه تعالى من كلّ نقص وعيب ، ووصفه

__________________

(١) أورد الفخر الرازي هذه التفاسير الخمسة بالإضافة إلى احتمالات أخرى في تفسيره الكبير ، واقتبس منه البعض الآخر من المفسّرين (تفسير الفخر الرازي ، ج ٣٠ ، ص ١٨٩ ـ ١٩٠).

(٢) الفاء من (فكبر) زائدة للتأكيد بقول البعض ، وقيل لمعنى الشرط ، والمعنى هو : لا تدع التكبير عند كلّ حادثة تقع ، (يتعلق هذا القول بالآيات الاخرى الآتية أيضا).

١٥٧

بأوصاف الجمال ، بل هو أكبر من أن يوصف ، ولذا ورد في الرّوايات عن أئمّة أهل البيت عليهم‌السلام في معنى الله أكبر : «الله أكبر من أن يوصف» ، ولذا فإنّ التكبير له مفهوم أوسع من التسبيح الذي هو تنزيهه من كل عيب ونقص.

ثمّ صدر الأمر الثّاني بعد مسألة التوحيد ، ويدور حول الطهارة من الدنس فيضيف :( وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ ) ، التعبير بالثوب قد يكون كناية عن عمل الإنسان ، لأنّ عمل الإنسان بمنزلة لباسه ، وظاهره مبين لباطنه ، وقيل المراد منه القلب والروح ، أي طهر قلبك وروحك من كلّ الأدران ، فإذا وجب تطهير الثوب فصاحبه اولى بالتطهير.

وقيل هو اللباس الظاهر ، لأنّ نظافة اللباس دليل على حسن التربية والثقافة ، خصوصا في عصر الجاهلية حيث كان الاجتناب من النجاسة قليلا وإن ملابسهم وسخة غالبا ، وكان الشائع عندهم تطويل أطراف الملابس (كما هو شائع في هذا العصر أيضا) بحيث كان يسحل على الأرض ، وما ورد عن الإمام الصّادقعليه‌السلام في معنى أنّه : «ثيابك فقصر»(١) ، ناظر إلى هذا المعنى.

وقيل المراد بها الأزواج لقوله تعالى :( هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَ ) (٢) ، والجمع بين هذه المعاني ممكن ، والحقيقة أنّ الآية تشير إلى أنّ القادة الإلهيين يمكنهم إبلاغ الرسالة عند طهارة جوانبهم من الأدران وسلامة تقواهم ، ولذا يستتبع أمر إبلاغ الرسالة ولقيام بها أمر آخر ، هو النقاء والطهارة.

ويبيّن تعالى الأمر الثّالث بقوله :( وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ ) المفهوم الواسع للرجز كان سببا لأن تذكر في تفسيره أقوال مختلفة ، فقيل : هو الأصنام ، وقيل : المعاصي ، وقيل : الأخلاق الرّذيلة الذميمة ، وقيل : حبّ الدنيا الذي هو رأس كلّ خطيئة ، وقيل هو العذاب الإلهي النازل بسبب الترك والمعصية ، وقيل : كل ما يلهي

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ١٠ ، ص ٣٨٥.

(٢) البقرة ، ١٨٧.

١٥٨

عن ذكر الله.

والأصل أنّ معنى «الرجز» يطلق على الاضطراب والتزلزل(١) ثمّ اطلق على كل أنواع الشرك ، عبادة الأصنام ، والوساوس الشيطانية والأخلاق الذميمة والعذاب الإلهي التي تسبب اضطراب الإنسان ، فسّره البعض بالعذاب(٢) ، وقد اطلق على الشرك والمعصية والأخلاق السيئة وحبّ الدّنيا تجلبه من العذاب.

وما تجدر الإشارة إليه أنّ القرآن الكريم غالبا ما استعمل لفظ «الرجز» بمعنى العذاب(٣) ، ويعتقد البعض أنّ كلمتي الرجز والرجس مرادفان(٤) .

وهذه المعاني الثلاثة ، وإن كانت متفاوتة ، ولكنّها مرتبطة بعضها بالآخر ، وبالتالي فإنّ للآية مفهوما جامعا ، وهو الانحراف والعمل السيء ، وتشمل الأعمال التي لا ترضي اللهعزوجل ، والباعثة على سخر الله في الدنيا والآخرة ، ومن المؤكّد أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد هجر واتقى ذلك حتى قبل البعثة ، وتاريخه الذي يعترف به العدو والصديق شاهد على ذلك ، وقد جاء هذا الأمر هنا ليكون العنوان الأساس في مسير الدعوة إلى الله ، وليكون للناس أسوة حسنة.

ويقول تعالى في الأمر الرّابع :( وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ ) .

هنا التعلق محذوف أيضا ، ويدل على سعة المفهوم كليته ، ويشمل المنّة على الله والخلائق ، أي فلا تمنن على الله بسعيك واجتهادك ، لأنّ الله تعالى هو الذي منّ عليك بهذا المقام المنيع.

ولا تستكثر عبادتك وطاعتك وأعمالك الصالحة ، بل عليك أن تعتبر نفسك مقصرا وقاصرا ، واستعظم ما وفقت إليه من العبادة.

__________________

(١) مفردات الراغب.

(٢) الميزان ، في ظلال القرآن.

(٣) راجع الآيات ، ١٣٤ ـ ١٣٥ من سورة الأعراف ، والآية ٥ من سورة سبأ ، والآية ١١ من سورة الجاثية ، والآية ٥٩ من سورة البقرة ، والآية ١٦٢ من سورة الأعراف ، والآية ٣٤ من سورة العنكبوت.

(٤) وذكر ذلك في تفسير الفخر الرازي بصورة احتمال ، ج ٣٠ ، ص ١٩٣.

١٥٩

وبعبارة أخرى : لا تمنن على الله بقيامك بالإنذار ودعوتك إلى التوحيد وتعظيمك لله وتطهيرك ثيابك وهجرك الرجز ، ولا تستعظم كل ذلك ، بل أعلم أنّه لو قدمت خدمة للناس سواء في الجوانب المعنوية كالإرشاد والهداية ، أم في الجوانب المادية كالإنفاق والعطاء فلا ينبغي أن تقدمها مقابل منّة ، أو توقع عوض أكبر ممّا أعطيت ، لأنّ المنّة تحبط الأعمال الصالحة :( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى ) (١) .

«لا تمنن» من مادة «المنّة» وتعني في هذه الموارد الحديث عن تبيان أهمية النعم المعطاة للغير ، وهنا يتّضح لنا العلاقة بينه وبين الاستكثار ، لأنّ من يستصغر عمله لا ينتظر المكافأة ، فكيف إذن بالاستكثار ، فإنّ الامتنان يؤدي دائما إلى الاستكثار ، وهذا ممّا يزيل قيمة النعم ، وما جاء من الرّوايات يشير لهذا المعنى : «لا تعط تلتمس أكثر منها»(٢) كما جاء في حديث آخر عن الإمام الصادقعليه‌السلام في تفسير الآية : «لا تستكثر ما عملت من خير لله»(٣) وهذا فرع من ذلك المفهوم.

ويشير في الآية الأخرى إلى الأمر الأخير في هذا المجال فيقول :( وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ ) ، ونواجه هنا مفهوما واسعا عن الصبر الذي يشمل كلّ شيء ، أي اصبر في طريق أداء الرسالة ، واصبر على أذى المشركين الجهلاء ، واستقم في طريق عبودية الله وطاعته ، واصبر في جهاد النفس وميدان الحرب مع الأعداء.

ومن المؤكّد أنّ الصبر هو ضمان لإجراء المناهج السابقة ، والمعروف أنّ الصبر هو الثروة الحقيقية لطريق الإبلاغ والهداية ، وهذا ما اعتمده القرآن الكريم

__________________

(١) البقرة ، ٢٦٤.

(٢) نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ٤٥٤ ، وتفسير البرهان ، ج ٤ ، ص ٤٠٠.

(٣) المصدر السابق.

١٦٠

ووضوح!!!

ثمّ تتطرق فى الآية الأخيرة إلى علم الله في الغيب والشهادة :( لا جَرَمَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ ) .

والآية في واقعها تهديد للكفار وأعداء الحق ، بأنّ اللهعزوجل ليس بغافل عنهم ، سرهم وعلانيتهم ، وكل سينال جزاءه بما غرفت يداه.

فهم مستكبرون و( إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ ) ، والاستكبار على الحق من علامات الجهل باللهعزوجل .

إنّ كلمة «لا جرم» متكون من «لا» و «جرم» وتستعمل عادة للتأكيد بمعنى (قطعا) ، وأحيانا بمعنى (لا بد) ، وفي بعض الأحيان تستعمل كقسم مثل : (لا جرم لأفعلن).

أمّا كيف أمكن استخراج هذه المعاني من كلمة «لا جرم» فذلك لأنّ «جرم» في الأصل بمعنى القطف وقطع الثمار من الأشجار ، وعند ما تدخل عليها «لا» يكون مفهومها : أن لا شيء يستطيع قطع هذا الموضوع ومنعه من التحقق ، ولهذا يستفاد منها معاني : قطعا ، ولا بدّ ، وأحيانا القسم.

* * *

بحث

من هم المستكبرون؟

وردت كلمة الاستكبار في آيات كثيرة من القرآن الكريم باعتبارها إحدى الصفات الذميمة الخاصّة بالكفار ، ولتعطي معنى التكبر عن قبول الحق.

ففي الآية السابقة من سورة نوح :( وَإِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْباراً ) .

وفي الآية الخامسة من سورة المنافقين :( وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ

١٦١

رَسُولُ اللهِ لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ ) .

وكذلك في الآية الثّامنة من سورة الجاثية :( يَسْمَعُ آياتِ اللهِ تُتْلى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها ) .

ومن أقبح ألوان التكبر ذلك الذي يقف أمام قبول الحق فيرفضه ، لأنّه يغلق على الإنسان جميع سبل الهداية ويتركه يتخبط في متاهات المعاصي والضلال.

ويصف أمير المؤمنينعليه‌السلام الشيطان بأنّه : «سلف المستكبرين»(١) لأنه أوّل من خطا في طريق مخالفة الحق بعدم تسليمه للحقيقة الرّبانية التي تقول : إنّ أدم أكمل منه.

صحيح أنّ زهو المال قد يوقع الإنسان في حالة الاستكبار ، إلّا أنّ المسألة أكبر من ذلك وأشمل ، فكل رافض لقبول الحق مستكبر وإن كان فقيرا.

ونختم البحث برواية عن الإمام الصادقعليه‌السلام أنّه قال : «ومن ذهب يرى أنّ له على الآخر فضلا فهو المستكبرين ، فقلت : إنّما يرى أن له عليه فضلا بالعافية إذا رآه مرتكبا للمعاصي؟ فقال : هيهات هيهات! فلعله أن يكون قد غفر له ما أتى وأنت موقوف تحاسب ، أما تلوت قصّة سحرة موسىعليهم‌السلام »(٢) .

(حين وقف السحرة يوما في مقابل موسىعليه‌السلام إرضاء لفرعون وطمعا في جوائزه ، ولكنّهم انقلبوا فجأة لما تبيّن لهم الحق واعتنقوه وما هابوا تهديد فرعون ، وبقوا على رفضهم في عديم التسليم للطاغية ، فكانت النتيجة أن عفا الله عنهم ورحمهم).

* * *

__________________

(١) نهج البلاغة ، الخطبة القاصعة.

(٢) تفسير نور الثقلين ، ج ٣ ، ص ٤٨ عن (روضة الكافي).

١٦٢

الآيات

( وَإِذا قِيلَ لَهُمْ ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (٢٤) لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ (٢٥) قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (٢٦) ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكافِرِينَ (٢٧) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ ما كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلى إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٢٨) فَادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (٢٩) )

سبب النّزول

جاء في تفسير مجمع البيان : يروى أنّها نزلت في المقتسمين وهم ستة عشر

١٦٣

رجلا خرجوا إلى عقاب مكّة أيام الحج على طريق الناس على كل عقبة أربعة منهم ليصدوا الناس عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإذا سألهم الناس عمّا أنزل على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قالوا : أحاديث الأولين وأباطيلهم.

التّفسير

حمل أوزار الآخرين :

دار الحديث في الآيات السابقة حول عناد المستكبرين واستكبارهم أمام الحق ، وسعيهم الحثيث في التنصل عن المسؤولية وعدم التسليم للحق.

أمّا في هذه الآيات فيدور الحديث حول منطق المستكبرين الدائم ، فيقول القرآن :( وَإِذا قِيلَ لَهُمْ ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ ) فليس هو وحي الهي ، بل أكاذيب القدماء.

وكانوا يرمون بكلامهم المؤدي هذا إلى أمرين :

الأوّل : الإيحاء بأن مستوى تفكيرهم وعلميتهم أرقى ممّا أنزل الله!

الثّاني : ما جاء به النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إن هو إلّا أساطير الأولين قد صيغت بعبارات جذابة لتنطلي على عوام الناس ، وهذا ليس بالجديد ، وما محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلّا معيد لما جاء به الأوّلون من أساطير.

«الأساطير»(١) : جمع أسطورة ، وتطلق على الحكايات والقصص الخرافية والكاذبة، وقد وردت هذه الكلمة تسع مرات في القرآن الكريم نقلا عن لسان الكفار ضد الأنبياء تبريرا لمخالفتهم الدعوة إلى اللهعزوجل .

وفي جميع المواطن ذكروا معها كلمة «الأوّلين» ليؤكدوا أنّها ليست بجديدة وأنّ الأيّام ستتجاوزها! حتى وصل بهم الحال ليغالوا فيما يقولون ، كما جاء عن

__________________

(١) يعتبرها البعض جمع الجمع ، فالأساطير جمع أسطار ، والأساطير جمع سطر ويعتبرها البعض الآخر جمعا ليس له مفرد من جنسه إلّا أنّ المشهور ما ذكرناه أعلاه.

١٦٤

لسانهم في الآية (٣١) من سورة الأنفال :( قَدْ سَمِعْنا لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا ) .

والملاحظ على مستكبري يومنا توسلهم بنفس تلك التهم الباطلة هروبا من الحق وإضلالا للآخرين ، ووصلت بهم الحماقة لأن يعتبروا منشأ الدين من الجهل البشري ، وما الآراء الدينية إلّا أساطير وخرافات! حتى أنّهم اثبتوا ذلك في كتب (علم الاجتماع ودوّنوه بصياغة (علمية) كما يدّعون).

أمّا لو نفذنا في أعماق تفكيرهم لوجدنا صورة أخرى : فهم لم يحاربوا الأديان والمذاهب الخرافية المجعولة أبدا ، فهم مؤسسوها والداعون لنشرها ، إنّما محاربتهم للأصالة والدين الحق الذي يوقظ الفكر الإنساني ويحطم الأغلال الاستعمارية ويقطع دابر المنحرفين عن جادة الصواب.

إنهم يرون عدم انسجام دعوة الدين إلى الأخلاق الحميدة ، لأنّها تعارض أهواءهم الطائشة ورغباتهم غير المشروعة.

لذلك يجدون في دعوة الحق مانعا أمام ما يطمحون الحصول عليه ، ونراهم يستعملون مختلف الأساليب لتوهين هذا الدين القيم وإسقاطه من أنظار الآخرين كي تخلو الساحة لهم ليفعلوا ما يشاءون.

ومن المؤسف أنّ طرح بعض الخرافات والأفكار الخاطئة في قالب ديني من قبل الجهلة، كان بمثابة العامل المساعد في تجرّي هؤلاء ودفعهم لإلصاق تهمة الخرافات بالدين. ولا بدّ للمؤمنين الواعين أمام هذه الحال من الوقوف بكل صلابة أمام الخرافات ليبطلوا هذا السلاح في أيدي أعدائهم ويذكروا هذه الحقيقة في كل مكان وأن هذه الخرافات لا ترتبط بالدين الحق أبدا ولا ينبغي للداعية المخلص أن يجعل الخرافات ذريعة لأعداء الدين في محاربته ومحاربتنا ، لأنّ عملية انسجام التعليمات الربانية مع العقل بحدّ من المتانة والوضوح لا يفسح أيّ مجال لأنّ توجه إليه هكذا أباطيل.

توضح الآية الأخرى أعمالهم بالقول :( لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ

١٦٥

وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ ) .

لأنّ أقوالهم الباطلة لها الأثر السلبي بتضليل أعداد كبيرة من الآخرين. فمن أسوأ ممن حمّل أوزار آلاف البشر إلى وزره! والأكثر من ذلك أن أقوالهم ستركد في مخيلة من يأتي بعدهم من الأجيال لتكون منبعا لإضلالهم ، ممّا يزيد في حمل الأوزار باطراد.

وقد جاءت عبارة «ليحملوا» بصيغة الأمر ، أمّا مفهومها فلبيان نتيجة وعاقبة أعمال أولئك المظلين ، كما نقول لشخص ما : لكونك قمت بهذا العمل غير المشروع فعليك أن تتحمل عاقبة ما فعلت بتذوقك لمرارة عملك القبيح. (واحتمل بعض المفسّرين أن لام (ليحملوا ، لام نتيجة).

والأوزار : جمع وزر ، بمعنى الحمل الثقيل ، وجاءت بمعنى الذنب أيضا ، ويقال للوزير لعظم ما يحمل من مسئولية.

ويواجهنا السؤال التالي لما ذا قال القرآن : يحملون من أوزار الذين يضلونهم ولم يقل كل أوزارهم ، في حين أن الرّوايات تؤكد أن «من سنّ سنّة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة»؟

أجاب بعض المفسّرين بوجود نوعين من الذنوب عند المضلّلين ، نوع ناتج من أتباعهم لأئمّة الضلال ، والنوع الآخر من أنفسهم ، فما يحمله أئمّتهم ، وقادتهم هو من النوع الأوّل دون الثّاني.

واعتبر البعض الآخر من المفسّرين أنّ «من» في هذه الجملة ليست تبعيضية ، بل جاءت لبيان أنّ ذنوب الأتباع على عاتق المتبوعين.

وثمّة تفسير آخر قد يكون أقرب إلى القبول من غيره ، يقول : إنّ الاتباع الضالين لهم حالتان من التبعية

فتارة يكونون أتباعا للمنحرفين على علم وبيّنة منهم ، والتأريخ حافل بهكذا صور ، فيكون سبب الذنب أوامر القادة من جهة ، وتصميم الأتباع من جهة أخرى

١٦٦

فيقع على عاتق القادة قسم من المسؤولية المترتبة على هذه الذنوب «ولا يقلل من وزر الأتباع شيء».

وتارة أخرى تكون التبعية نتيجة الاستغفال والوقوع تحت شراك وساوس المنحرفين من دون حصول الرغبة عند المتبوعين فيما لو أدركوا حقيقة الأمر ، وهو ما يشاهد في عوام الناس عند الكثير من المجتمعات البشرية ، (وقد يسلك طريق الضلال بعنوان التقرب إلى الله) وفي هذه الحال يكون وزر ذنوبهم على عاتق مضلّيهم بالكامل ، ولا وزر عليهم إن لم يقصّروا بالتحقق من الأمر.

ولا شك أنّ المجموعة الأولى التي سارت في طريق الضلال عن علم وبيّنة من أمرها سوف لا يخفف من ذنوبهم شيء مع ما يلحق أئمّتهم من ذنوبهم.

وهنا يلزم ملاحظة أنّ التعبير «بغير علم» في الآية ليس دليلا على الغفلة الدائمة للمضلّلين ، ولا يعبّر عن سقوط المسؤولية ـ في جميع الحالات ـ على غير المطلعين بحال وشأن أئمّة السوء والضلالة بل يشير إلى سقوط عوام الناس لجهلهم بشكل أسرع من علمائهم في شراك أو شباك المضلّلين.

ولهذا نرى القرآن في آيات أخرى لا يبرئ هؤلاء الأتباع ويحملهم قسطا من المسؤولية كما في الآيتين (٤٧ و ٤٨) من سورة غافر :( وَإِذْ يَتَحاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِنَ النَّارِ قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيها إِنَّ اللهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبادِ ) .

ثمّ تذكر الآية الأخرى أن تهمة وصف الوحي الإلهي بأساطير الأوّلين ليست بالأمر المستجد :( قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ ) .

مع أنّ بعض المفسّرين قد ذهب بالآية إلى قصة «النمرود» وصرحه الذي أراد من خلاله محاربة رب السماء! والبعض الآخر فسرها بقصة «بخت نصر» إلّا أن الظاهر من مفهوم الآية شمول جميع مؤامرات ودسائس المستكبرين وأئمّة

١٦٧

الضلال.

ومن لطيف دقّة العبارة القرآنية ، أنّ الآية أشارت إلى أنّ اللهعزوجل لا يدمّر البناء العلوي للمستكبرين فحسب ، بل سيدمره من القواعد لينهار بكله عليهم.

وقد يكون تخريب القواعد وإسقاط السقف إشارة إلى أبنيتهم الظاهرية ، من خلال الزلازل والصواعق لتنهار على رؤوسهم ، وقد يكون إشارة إلى قلع جذور تجمعاتهم وأحزابهم بأمر اللهعزوجل ، بل لا مانع من شمول الأمرين معا.

وممّا يلفت النظر أنّ القرآن ذكر كلمة «السقف» بعد ذكر «من فوقهم» ، فـ «السقف» عادة في الطرف الأعلى من البناء ، فما الذي استلزم ذكر «من فوقهم»؟ ويمكن حمله للتأكيد ، وكذلك لبيان أنّ السقوط سيتحقق بوجودهم أسفله لهلاكهم ، حيث أنّ السقوط قد يحدث بوجود أصحاب الدار أو عدم وجودهم.

وقدم لنا التأريخ قديمه وحديثه بوضوح صورا شتى للعقاب الإلهي ، فإحكام الطغاة والجبابرة لما يعيشون ويتمتعون في كنفه من حصون وقلاع ، إضافة لخططهم المحبوكة كي يستمر لهم ولنسلهم الحال ، وما قاموا به من تهيئة وإعداد كل مستلزمات بقاء قدرة التسلط ودوام نظام الحكم كل ذلك لا يعبر في الحقيقة إلّا عن ظواهر خاوية من كل معاني القدرة والاقتدار والدوام ، حيث تحكي لنا قصص التاريخ أنّ هؤلاء يأتيهم العذاب الإلهي وهم بذروة ما يتمتعون به ، وإذا بالقلاع والحصون تتهاوى على رؤوسهم فيفنون ولا تبقى لهم باقية.

وعذابهم في الحياة الدنيا لا يعني تمام الجزاء ، بل تكملته ستكون يوم الجزاء الأكبر( ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يُخْزِيهِمْ ) .

فيسألهم الله تعالى :( وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ ) أي تجادلون وتعادون فيهم(١) ، فلا يتمكنون من الإجابة ، ولكن :( قالَ الَّذِينَ أُوتُوا

__________________

(١) تشاقون : من مادة الشقاق ، بمعنى المخالفة والعداء ، وأصلها من (شق ، أي قطعه نصفين).

١٦٨

الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكافِرِينَ ) .

ويظهر من خلال ذلك أنّ المتحدثين يوم القيامة هم العلماء ، ولا ينبغي في ذلك المحضر المقدس الحديث بالباطل.

وإذا رأينا في بعض الرّوايات عن أهل البيتعليهم‌السلام التأكيد على أنّ العلماء في ذلك المحضر هم الأئمّة المعصومونعليهم‌السلام لأنّهم أفضل وأكمل مصداق لذلك(١) .

ونعاود الذكر لنقول : إنّ المقصود من السؤال والجواب في يوم القيامة ليس لكشف أمر خفي ، بل هو نوع من العذاب الروحي ، وذلك إحقاقا للمؤمنين الذين لاقوا اللوم والتوبيخ الشديدين في الحياة الدنيا من المشركين المغرورين.

ويصف ذيل الآية السابقة حال الكافرين بالقول :( الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ ) .

لأنّ ممارسة الظلم في حقيقتها ظلم للنفس قبل الآخرين ، لأنّ الظالم يتلف ملكاته الوجدانية ، ويهتك حرمة الصفات الفطرية الكامنة فيه.

بالإضافة إلى أنّ الظلم متى ما شاع وانتشر في أي مجتمع ، فالنتيجة الطبيعية له أن يعود على الظالمين أنفسهم ليشملهم الحال.

أمّا حين تحين ساعة الموت ويزول حجاب الغفلة عن العيون( فَأَلْقَوُا السَّلَمَ ما كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ ) .

لما ذا ينكرون عملهم القبيح؟ فهل يكذبون لأنّ الكذب أصبح صفة ذاتية لهم من كثرة تكراره ، أم يريدون القول : إننا نعلم سوء أعمالنا ، ولكننا أخطأنا ولم تكن لدينا نوايا سيئة فيه؟؟.

يمكن القول بإرادة كلا الأمرين.

ولكن الجواب يأتيهم فورا : إنّكم تكذبون فقد ارتكبتم ذنوبا كثيرة :( بَلى إِنَّ

__________________

(١) راجع تفسير نور الثقلين ، ج ٣ ، ص ٥٠.

١٦٩

اللهَ عَلِيمٌ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) حتى بنيّاتكم.

وليس المقام محلا للإنكار أو التبرير( فَادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ ) .

* * *

بحثان

١ ـ السنّة سنتان حسنة وسيئة :

القيام بأي عمل يحتاج بلا شك إلى مقدمات كثيرة ، وتعتبر السنن السائدة في المجتمع سواء كانت حسنة أم سيئة من ممهدات الأرضية الفكرية والاجتماعية التي تساعد القائد (سواء كان مرشدا أم مضلا) للقيام بدوره بكل فاعلية ، وحتى أنّه قد يفوق دور الموجهين وواضعي السنن على جميع العاملين في بضع الأحيان.

ولهذا لا يمكن فصل دور واضعي السنن عن العاملين بتلك السنن ، فهم شركاء في العمل الصالح إذا ما سنوا سنة حسنة ، وشركاء في جرم المنحرفين إذا ما سنوا لهم سنة سيئة.

وقد اهتم القرآن الكريم ، وكذا الأحاديث الشريفة كثيرا بمسألة السنّة الحسنة والسنّة السيئة وواضعيها.

كما طالعتنا الآيات أعلاه بأنّ المستكبرين المضلّين يحملون أوزارهم وأوزار الذين يضلونهم (دون أن ينتقص من أوزارهم شيء).

وهذا الأمر من الأهمية بمكان حتى قال عنه النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «الدال على الخير كفاعله»(١) .

وفي تفسير هذه الآية روي عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «أيما داع دعا إلى الهدى

__________________

(١) وسائل الشيعة ، ج ١١ ، ص ٤٣٦.

١٧٠

فاتبع ، فله مثل أجورهم ، من غير أن ينقص من أجورهم شيئا ، وأيما داع دعا إلى ضلالة فاتبع عليه ، فإنّ عليه مثل أوزار من اتبعه ، من غير أن ينقص من أوزارهم شيئا»(١) .

وكذلك روي عن الباقرعليه‌السلام أنّه قال : «من استنّ بسنّة عدل فاتبع كان له أجر من عمل بها ، من غير أن ينتقص من أجورهم شيء ، ومن استنّ سنّة جور فاتبع كان عليه مثل وزر من عمل به ، من غير أن ينتقص من أوزارهم شيء»(٢) .

وثمّة روايات أخرى تحمل نفس هذا المضمون رويت عن الأئمّة الأطهارعليهم‌السلام وقد جمعها الشّيخ الحر العاملي قدّس سره ، في المجلد الحادي عشر من كتابه الموسوم بالوسائل (تاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، الباب السّادس عشر).

وفي صحيح مسلم ورد حديث عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مرفوعا عن المنذر بن جرير عن أبيه قال : كنّا عند رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في صدر النهار قال : فجاءه قوم حفاة عراة مجتابي النمار أو العباء ومتقلدي السيوف فتمعر وجه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لما رأى بهم من الفاقة ، فدخل ثمّ خرج فأمر بدلا فأذّن وأقام فصلّى وخطب فقال :( يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ إِنَّ اللهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً ) والآية التي في الحشر( اتَّقُوا اللهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللهَ ) ، تصدق رجل من ديناره ، من درهمه ، من ثوبه ، من صاع بره ، من صاع تمره (حتى قال) ولو بشق تمرة ، قال : فجاء رجل من الأنصار بصرّة كادت كفّه تعجز عنها بل قد عجزت ، قال : ثمّ تتابع الناس حتى رأيت كومين من طعام ثياب حتى رأيت وجه رسول الله يتهلل كأنّه مذهبة ، فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من سنّ في الإسلام سنّة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيء ، ومن سنّ في

__________________

(١) مجمع البيان ، في تفسير الآية مورد البحث.

(٢) وسائل الشيعة ، ج ١١ ، ص ٤٣٧.

١٧١

الإسلام سنّة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شيء»(١) .

وهنا ، يواجهنا سؤال كيف تنسجم هذه الرّوايات مع ما يعاضدها من آيات مع الآية (١٦٤) من سورة الأنعام( وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ) ؟

وتتّضح الإجابة من خلال ملاحظة أنّ هؤلاء ليسوا عن ذنوب الأخرى بل عن ذنوبهم فقط ، ولكنّهم من خلال اشتراكهم في تحقق ذنوب الآخرين يشاركوهم فيها ، اي ان تلك الذنوب تعتبر من ذنوبهم بهذا اللحاظ.

٢ ـ التّسليم بعد فوات الأوان :

قليل أولئك الذين ينكرون الحقيقة بعد رؤيتها في مرحلة الشهود ، ولهذا نجد المذنبين والظالمين يظهرون الإيمان فورا بعد أن تزال عن أعينهم حجب الغفلة والغرور وحصول العين البرزخية في حال ما بعد الموت ، كما بيّنت لنا الآيات السابقة( فَأَلْقَوُا السَّلَمَ ) .

وغاية ما في الأمر أنّ الكلّ مستسلم ، ولكنّ الحديث يختلف من بعض إلى بعض ، فقسم منهم يتبرأ من أعماله القبيحة بقولهم :( ما كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ ) أي إنّهم من كثرة ممارستهم للكذب فقد اختلط بلحمهم ودمهم والتبس عليهم الأمر تماما ، فمع علمهم بعدم فائدة الكذب في ذلك المشهد العظيم ولكنّهم يكذبون!

ويستفاد من بعض الآيات القرآنية أنّ هناك من يكذب حتى في يوم القيامة ، كما في الآية الثّالثة والعشرين من سورة الأنعام :( قالُوا وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ ) !

وقسم آخر يظهر الندامة ويطلب العودة إلى لحياة الدنيا لإصلاح أمره ، كما

__________________

(١) صحيح مسلم ، ج ٢ ، ص ٧٠٤ (باب الحث على الصدقة ولو بشق تمرة).

١٧٢

جاء في الآية (١٢) من سورة السجدة.

وقسم يكتفي بإظهار الإيمان كفرعون ، كما جاء في الآية (٩٠) من سورة يونس.

وعلى أيّة حال سوف لا تقبل كل تلك الأقوال لأنها قد جاءت في غير وقتها بعد أن انتهت مدّتها ، ولا أثر لهكذا إيمان صادر عن اضطرار.

* * *

١٧٣

الآيات

( وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا خَيْراً لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دارُ الْمُتَّقِينَ (٣٠) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ كَذلِكَ يَجْزِي اللهُ الْمُتَّقِينَ (٣١) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمْ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٣٢) )

التّفسير

عاقبة المتقين والمحسنين :

قرأنا في الآيات السابقة أقول المشركين حول القرآن وعاقبة ذلك ، والآن فندخل مع المؤمنين في اعتقادهم وعاقبته فيقول القرآن :( وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا خَيْراً ) .

وروي في تفسير القرطبي : كان يرد الرجل من العرب مكّة في أيّام الموسم فيسأل المشركين عن محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيقولون : ساحر أو شاعر أو كاهن أو مجنون

١٧٤

ويسأل المؤمنين فيقولون : أنزل الله عليه الخير والهدى.

ما أجمل هذا التعبير وأكمله «خيرا» خير مطلق يشمل كل : صلاح ، سعادة ، رفاه ، تقدم مادي ومعنوي ، خير للدنيا والآخرة ، خير للإنسان الفرد والمجتمع ، وخير في:التربية والتعليم ، السياسة والإقتصاد ، الأمن والحرية والخلاصة : خير في كل شيء (لأنّ حذف المتعلق يوجب عموم المفهوم).

وقد وصفت الآيات القرآنية القرآن الكريم بأوصاف كثيرة مثل : النّور ، الشفاء ، الهداية ، الفرقان (يفرق الحق عن الباطل) ، الحق ، التذكرة ، وما شابه ذلك ولكن في هذه الآية وردت صفة «الخير» التي يمكن أن تكون مفهوما عاما جامعا لكل تلك المفاهيم الخاصة.

والفرق واضح في نعت القرآن بين المشركين والمؤمنين ، فالمؤمنون قالوا :«خيرا» أي أنزل الله خيرا ، وبذلك يظهر اعتقادهم بأنّ القرآن وحي إلهي(١) .

بينما نجد المشركين عند ما( قِيلَ لَهُمْ ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ؟ قالُوا : أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ ) وهذا إنكار واضح لكون القرآن وحي إلهي(٢) .

وتبيّن الآية مورد البحث نتيجة وعاقبة ما أظهره المؤمنون من اعتقاد ، كما عرضت الآيات السابقة عاقبة ما قاله المشركين من عقاب دنيوي وأخروي ، ومادي ومعنوي مضاعف :( لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ ) .

وقد أطلق الجزاء بال «حسنة» كما أطلقوا القول «خيرا» ، ليشمل كل أنواع الحسنات والنعم في الحياة الدنيا ، بالإضافة إلى :( وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دارُ الْمُتَّقِينَ ) .

وتشارك عبارة «نعم دار المتقين» الإطلاق مرّة أخرى وكلمة «خيرا» ، لأنّ الجزاء بمقدار العمل كمّا وكيفا.

__________________

(١) خيرا : مفعول لفعل محذوف تقديره (أنزل الله).

(٢) أساطير الأولين : خبر لمبتدأ محذوف ، تقديره (هذه أساطير الأولين).

١٧٥

فيتّضح لنا ممّا قلنا إنّ الآية( لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا ) إلى آخرها تعبر عن كلام اللهعزوجل ،ويقوى هذا المعنى عند مقابلتها مع الآيات السابقة.

واحتمل بعض المفسّرين أنّ الظاهر من الكلام يتضمّن احتمالين :الأوّل : أنّه كلام الله.

الثّاني : أنّه استمرار لقول المتقين.

ثمّ تصف الآية التالية ـ بشكل عام ـ محل المتقين في الآخرة بالقول :( جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ ) .

فهل ثمّة أوسع وصفا من هذا أم أشمل مفهوما لبيان نعم الجنّة.

حتى أنّ التعبير يبدو أوسع ممّا ورد في الآية (٧١) من سورة الزخرف( وَفِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ ) ، فالحديث في الآية عن( ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ ) ، في حين الحديث في الآية مورد البحث عن مطلق الإشاءة( ما يَشاؤُنَ ) .

واستفاد بعض المفسّرين من تقديم( لَهُمْ فِيها ) على( ما يَشاؤُنَ ) الحصر ، أي يمكن للإنسان أن يحصل على كل ما يشاء في الجنّة فقط دون الدنيا.

وقلنا أنّ الآيات مورد البحث توضح كيفية حياة وموت المتقين مقارنة مع ما ورد في الآيات السابقة حول المشركين والمستكبرين ، وقد مرّ علينا هناك أنّ الملائكة عند ما تقبض أرواحهم يكون موتهم بداية لمرحلة جديدة من العذاب والمشقة ، ثمّ يقال لهم «ادخلوا أبواب جهنم ..».

وأمّا عن المتقين :( الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ ) طاهرين من كل تلوثات الشرك والظلم والاستكبار ، ومخلصين من كل ذنب ـ( يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمْ ) السّلام الذي هو رمز الأمن والنجاة.

ثمّ يقال لهم :( ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) .

والتعبير عن موتهم ب( تَتَوَفَّاهُمُ ) يحمل بين طياته اللطف ، ويشير إلى أن الموت لا يعني الفناء والعدم أو نهاية كل شيء ، بل هو مرحلة انتقالية إلى عالم

١٧٦

آخر.

وفي تفسير الميزان : أنّ في هذه الآية ثلاثة مسائل :

١ ـ طهارة المؤمنين من خبث الظلم.

٢ ـ يقولون لهم( سَلامٌ عَلَيْكُمْ ) وهو تأمين قولي لهم.

٣ ـ( ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) وهو هداية لهم إليها.

وهذه المواهب الثلاث هي التي ذكرت في الآية (٨٢) من سورة الأنعام( الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ ) .

* * *

١٧٧

الآيات

( هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَما ظَلَمَهُمُ اللهُ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٣٣) فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٣٤) وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (٣٥) وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (٣٦) إِنْ تَحْرِصْ عَلى هُداهُمْ فَإِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٣٧) )

التّفسير

البلاغ المبين وظيفة الأنبياء :

يعود القرآن الكريم مرّة أخرى ليعرض لنا واقع وأفكار المشركين

١٧٨

والمستكبرين ويقول بلهجة وعيد وتهديد : ما ذا ينتظرون؟( هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ ) أي ملائكة الموت فتغلق أبواب التوبة أمامهم حيث لا سبيل للرجوع بعد إغلاق صحائف الأعمال!

أو هل ينتظرون أن يأتي أمر الله بعذابهم :( أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ) حيث تغلق أبواب التوبة أيضا ولا سبيل عندها للإصلاح.

فأي فكر يسيرهم ، وأي عناد ولجاجة تحكمهم؟!

كلمة «الملائكة» وإن كانت ترمز إلى عنوان عام ، إلّا أنّها في هذا الموقع يقصد منها ملائكة قبض الأرواح انسجاما مع الآيات السابقة التي كانت تتحدث عنهم.

أمّا عبارة( يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ ) فمع قبولها لاحتمالات كثيرة في تفسيرها ، إلّا أنّ المعنى الراجح هو نزول العذاب ، لورود هذا المعنى بالخصوص في آيات مختلفة من القرآن.

ومجموع الجملتين يعني تقريع المستكبرين بأنّ المواعظ الإلهية وتذكير الأنبياء إن كانت لا توقظكم من غفلتكم فإنّ الموت والعذاب الإلهي سيوقظكم ، ولكن حينئذ لا ينفعكم ذلك الإيقاظ.

ثمّ يضيف : إنّ هؤلاء ليس أوّل من كانوا على هذه الحال والصفة وإنّما( كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَما ظَلَمَهُمُ اللهُ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ) .

وسوف يلاقون نتيجة ما كسبت أيديهم من أعمال.

والآية تؤكد مرّة أخرى على حقيقة عود الظلم والاستبداد والشر على الظالم المستبد الشرير في آخر المطاف ، لأنّ الفعل القبيح يترك آثاره السيئة على روح ونفسية فاعله ، فيسوّد قبله ويلوّث روحه فيفقده الأمان والاطمئنان.

ثمّ يذكر عاقبة أمرهم بقوله :( فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ ) .

«حاق بهم» : بمعنى أصابهم ، إلّا أنّ بعض المفسّرين كالقرطبي وفريد وجدي

١٧٩

في تفسير لهذه الآية اعتبر معناها (أحاط بهم).

ويمكن الجمع بين المعنيين ، فيكون المعنى : نزول العذاب عليهم ، وكذلك محيطا بهم.

وعلى أية حال ، فتعبير الآية ب( فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا ) يؤكد مرّة أخرى على عودة الأعمال على فاعلها سواء في الدنيا أو في الآخرة ، وتتجسم له بصور شتى ، وتعذبه وتؤلمه وليس غير ذلك(١) .

وتشير الآية التالية إلى أحد أقوال المشركين الخاوية ، فتقول :( وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ ) .

إنّ قولهم( وَلا حَرَّمْنا ) إشارة إلى بعض أنواع الحيوانات التي حرّم لحومها المشركون في عصر الجاهلية ، والتي أنكرها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بشدة.

والخلاصة : أنّهم أرادوا الادعاء بأنّ كلّ ما عملوه من عبادة للأصنام إلى تحليل وتحريم الأشياء ، إنما كان وفقا لرضا الله تعالى وبإذنه!

ولعل قولهم يكشف عن وجود عقيدة (الجبر) ضمن ما كانوا به يعتقدون ، معتبرين كل ما يصدر منهم إن هو إلّا من القضاء المحتوم عليهم (كما فهم ذلك جمع كثير من المفسّرين).

وثمّة احتمال آخر : إنّهم لم يقولوا ذلك اعتقادا منهم بالجبر ، وإنّما أرادوا الإحتجاج على الله سبحانه ، وكأنّهم يقولون : إن كانت أعمالنا لا ترضي الله تعالى فلما ذا لم يرسل إلينا الأنبياء لينهونا عمّا نقوم به ، فسكوته وعدم منعه ما كنّا نعمل دليل على رضاه.

وهذا الاحتمال ينسجم مع ذيل الآية والآيات التالية.

__________________

(١) وعلى هذا ، فلا داعي لتقدير كلمة «جزاء» قبل «سيئات» في الآية.

١٨٠

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496