الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٨

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل0%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 496

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

مؤلف: آية الله الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
تصنيف:

الصفحات: 496
المشاهدات: 220213
تحميل: 6116


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 496 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 220213 / تحميل: 6116
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء 8

مؤلف:
العربية

ووضوح!!!

ثمّ تتطرق فى الآية الأخيرة إلى علم الله في الغيب والشهادة :( لا جَرَمَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ ) .

والآية في واقعها تهديد للكفار وأعداء الحق ، بأنّ اللهعزوجل ليس بغافل عنهم ، سرهم وعلانيتهم ، وكل سينال جزاءه بما غرفت يداه.

فهم مستكبرون و( إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ ) ، والاستكبار على الحق من علامات الجهل باللهعزوجل .

إنّ كلمة «لا جرم» متكون من «لا» و «جرم» وتستعمل عادة للتأكيد بمعنى (قطعا) ، وأحيانا بمعنى (لا بد) ، وفي بعض الأحيان تستعمل كقسم مثل : (لا جرم لأفعلن).

أمّا كيف أمكن استخراج هذه المعاني من كلمة «لا جرم» فذلك لأنّ «جرم» في الأصل بمعنى القطف وقطع الثمار من الأشجار ، وعند ما تدخل عليها «لا» يكون مفهومها : أن لا شيء يستطيع قطع هذا الموضوع ومنعه من التحقق ، ولهذا يستفاد منها معاني : قطعا ، ولا بدّ ، وأحيانا القسم.

* * *

بحث

من هم المستكبرون؟

وردت كلمة الاستكبار في آيات كثيرة من القرآن الكريم باعتبارها إحدى الصفات الذميمة الخاصّة بالكفار ، ولتعطي معنى التكبر عن قبول الحق.

ففي الآية السابقة من سورة نوح :( وَإِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْباراً ) .

وفي الآية الخامسة من سورة المنافقين :( وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ

١٦١

رَسُولُ اللهِ لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ ) .

وكذلك في الآية الثّامنة من سورة الجاثية :( يَسْمَعُ آياتِ اللهِ تُتْلى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها ) .

ومن أقبح ألوان التكبر ذلك الذي يقف أمام قبول الحق فيرفضه ، لأنّه يغلق على الإنسان جميع سبل الهداية ويتركه يتخبط في متاهات المعاصي والضلال.

ويصف أمير المؤمنينعليه‌السلام الشيطان بأنّه : «سلف المستكبرين»(1) لأنه أوّل من خطا في طريق مخالفة الحق بعدم تسليمه للحقيقة الرّبانية التي تقول : إنّ أدم أكمل منه.

صحيح أنّ زهو المال قد يوقع الإنسان في حالة الاستكبار ، إلّا أنّ المسألة أكبر من ذلك وأشمل ، فكل رافض لقبول الحق مستكبر وإن كان فقيرا.

ونختم البحث برواية عن الإمام الصادقعليه‌السلام أنّه قال : «ومن ذهب يرى أنّ له على الآخر فضلا فهو المستكبرين ، فقلت : إنّما يرى أن له عليه فضلا بالعافية إذا رآه مرتكبا للمعاصي؟ فقال : هيهات هيهات! فلعله أن يكون قد غفر له ما أتى وأنت موقوف تحاسب ، أما تلوت قصّة سحرة موسىعليهم‌السلام »(2) .

(حين وقف السحرة يوما في مقابل موسىعليه‌السلام إرضاء لفرعون وطمعا في جوائزه ، ولكنّهم انقلبوا فجأة لما تبيّن لهم الحق واعتنقوه وما هابوا تهديد فرعون ، وبقوا على رفضهم في عديم التسليم للطاغية ، فكانت النتيجة أن عفا الله عنهم ورحمهم).

* * *

__________________

(1) نهج البلاغة ، الخطبة القاصعة.

(2) تفسير نور الثقلين ، ج 3 ، ص 48 عن (روضة الكافي).

١٦٢

الآيات

( وَإِذا قِيلَ لَهُمْ ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (24) لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ (25) قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (26) ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكافِرِينَ (27) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ ما كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلى إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28) فَادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (29) )

سبب النّزول

جاء في تفسير مجمع البيان : يروى أنّها نزلت في المقتسمين وهم ستة عشر

١٦٣

رجلا خرجوا إلى عقاب مكّة أيام الحج على طريق الناس على كل عقبة أربعة منهم ليصدوا الناس عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإذا سألهم الناس عمّا أنزل على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قالوا : أحاديث الأولين وأباطيلهم.

التّفسير

حمل أوزار الآخرين :

دار الحديث في الآيات السابقة حول عناد المستكبرين واستكبارهم أمام الحق ، وسعيهم الحثيث في التنصل عن المسؤولية وعدم التسليم للحق.

أمّا في هذه الآيات فيدور الحديث حول منطق المستكبرين الدائم ، فيقول القرآن :( وَإِذا قِيلَ لَهُمْ ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ ) فليس هو وحي الهي ، بل أكاذيب القدماء.

وكانوا يرمون بكلامهم المؤدي هذا إلى أمرين :

الأوّل : الإيحاء بأن مستوى تفكيرهم وعلميتهم أرقى ممّا أنزل الله!

الثّاني : ما جاء به النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إن هو إلّا أساطير الأولين قد صيغت بعبارات جذابة لتنطلي على عوام الناس ، وهذا ليس بالجديد ، وما محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلّا معيد لما جاء به الأوّلون من أساطير.

«الأساطير»(1) : جمع أسطورة ، وتطلق على الحكايات والقصص الخرافية والكاذبة، وقد وردت هذه الكلمة تسع مرات في القرآن الكريم نقلا عن لسان الكفار ضد الأنبياء تبريرا لمخالفتهم الدعوة إلى اللهعزوجل .

وفي جميع المواطن ذكروا معها كلمة «الأوّلين» ليؤكدوا أنّها ليست بجديدة وأنّ الأيّام ستتجاوزها! حتى وصل بهم الحال ليغالوا فيما يقولون ، كما جاء عن

__________________

(1) يعتبرها البعض جمع الجمع ، فالأساطير جمع أسطار ، والأساطير جمع سطر ويعتبرها البعض الآخر جمعا ليس له مفرد من جنسه إلّا أنّ المشهور ما ذكرناه أعلاه.

١٦٤

لسانهم في الآية (31) من سورة الأنفال :( قَدْ سَمِعْنا لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا ) .

والملاحظ على مستكبري يومنا توسلهم بنفس تلك التهم الباطلة هروبا من الحق وإضلالا للآخرين ، ووصلت بهم الحماقة لأن يعتبروا منشأ الدين من الجهل البشري ، وما الآراء الدينية إلّا أساطير وخرافات! حتى أنّهم اثبتوا ذلك في كتب (علم الاجتماع ودوّنوه بصياغة (علمية) كما يدّعون).

أمّا لو نفذنا في أعماق تفكيرهم لوجدنا صورة أخرى : فهم لم يحاربوا الأديان والمذاهب الخرافية المجعولة أبدا ، فهم مؤسسوها والداعون لنشرها ، إنّما محاربتهم للأصالة والدين الحق الذي يوقظ الفكر الإنساني ويحطم الأغلال الاستعمارية ويقطع دابر المنحرفين عن جادة الصواب.

إنهم يرون عدم انسجام دعوة الدين إلى الأخلاق الحميدة ، لأنّها تعارض أهواءهم الطائشة ورغباتهم غير المشروعة.

لذلك يجدون في دعوة الحق مانعا أمام ما يطمحون الحصول عليه ، ونراهم يستعملون مختلف الأساليب لتوهين هذا الدين القيم وإسقاطه من أنظار الآخرين كي تخلو الساحة لهم ليفعلوا ما يشاءون.

ومن المؤسف أنّ طرح بعض الخرافات والأفكار الخاطئة في قالب ديني من قبل الجهلة، كان بمثابة العامل المساعد في تجرّي هؤلاء ودفعهم لإلصاق تهمة الخرافات بالدين. ولا بدّ للمؤمنين الواعين أمام هذه الحال من الوقوف بكل صلابة أمام الخرافات ليبطلوا هذا السلاح في أيدي أعدائهم ويذكروا هذه الحقيقة في كل مكان وأن هذه الخرافات لا ترتبط بالدين الحق أبدا ولا ينبغي للداعية المخلص أن يجعل الخرافات ذريعة لأعداء الدين في محاربته ومحاربتنا ، لأنّ عملية انسجام التعليمات الربانية مع العقل بحدّ من المتانة والوضوح لا يفسح أيّ مجال لأنّ توجه إليه هكذا أباطيل.

توضح الآية الأخرى أعمالهم بالقول :( لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ

١٦٥

وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ ) .

لأنّ أقوالهم الباطلة لها الأثر السلبي بتضليل أعداد كبيرة من الآخرين. فمن أسوأ ممن حمّل أوزار آلاف البشر إلى وزره! والأكثر من ذلك أن أقوالهم ستركد في مخيلة من يأتي بعدهم من الأجيال لتكون منبعا لإضلالهم ، ممّا يزيد في حمل الأوزار باطراد.

وقد جاءت عبارة «ليحملوا» بصيغة الأمر ، أمّا مفهومها فلبيان نتيجة وعاقبة أعمال أولئك المظلين ، كما نقول لشخص ما : لكونك قمت بهذا العمل غير المشروع فعليك أن تتحمل عاقبة ما فعلت بتذوقك لمرارة عملك القبيح. (واحتمل بعض المفسّرين أن لام (ليحملوا ، لام نتيجة).

والأوزار : جمع وزر ، بمعنى الحمل الثقيل ، وجاءت بمعنى الذنب أيضا ، ويقال للوزير لعظم ما يحمل من مسئولية.

ويواجهنا السؤال التالي لما ذا قال القرآن : يحملون من أوزار الذين يضلونهم ولم يقل كل أوزارهم ، في حين أن الرّوايات تؤكد أن «من سنّ سنّة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة»؟

أجاب بعض المفسّرين بوجود نوعين من الذنوب عند المضلّلين ، نوع ناتج من أتباعهم لأئمّة الضلال ، والنوع الآخر من أنفسهم ، فما يحمله أئمّتهم ، وقادتهم هو من النوع الأوّل دون الثّاني.

واعتبر البعض الآخر من المفسّرين أنّ «من» في هذه الجملة ليست تبعيضية ، بل جاءت لبيان أنّ ذنوب الأتباع على عاتق المتبوعين.

وثمّة تفسير آخر قد يكون أقرب إلى القبول من غيره ، يقول : إنّ الاتباع الضالين لهم حالتان من التبعية

فتارة يكونون أتباعا للمنحرفين على علم وبيّنة منهم ، والتأريخ حافل بهكذا صور ، فيكون سبب الذنب أوامر القادة من جهة ، وتصميم الأتباع من جهة أخرى

١٦٦

فيقع على عاتق القادة قسم من المسؤولية المترتبة على هذه الذنوب «ولا يقلل من وزر الأتباع شيء».

وتارة أخرى تكون التبعية نتيجة الاستغفال والوقوع تحت شراك وساوس المنحرفين من دون حصول الرغبة عند المتبوعين فيما لو أدركوا حقيقة الأمر ، وهو ما يشاهد في عوام الناس عند الكثير من المجتمعات البشرية ، (وقد يسلك طريق الضلال بعنوان التقرب إلى الله) وفي هذه الحال يكون وزر ذنوبهم على عاتق مضلّيهم بالكامل ، ولا وزر عليهم إن لم يقصّروا بالتحقق من الأمر.

ولا شك أنّ المجموعة الأولى التي سارت في طريق الضلال عن علم وبيّنة من أمرها سوف لا يخفف من ذنوبهم شيء مع ما يلحق أئمّتهم من ذنوبهم.

وهنا يلزم ملاحظة أنّ التعبير «بغير علم» في الآية ليس دليلا على الغفلة الدائمة للمضلّلين ، ولا يعبّر عن سقوط المسؤولية ـ في جميع الحالات ـ على غير المطلعين بحال وشأن أئمّة السوء والضلالة بل يشير إلى سقوط عوام الناس لجهلهم بشكل أسرع من علمائهم في شراك أو شباك المضلّلين.

ولهذا نرى القرآن في آيات أخرى لا يبرئ هؤلاء الأتباع ويحملهم قسطا من المسؤولية كما في الآيتين (47 و 48) من سورة غافر :( وَإِذْ يَتَحاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِنَ النَّارِ قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيها إِنَّ اللهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبادِ ) .

ثمّ تذكر الآية الأخرى أن تهمة وصف الوحي الإلهي بأساطير الأوّلين ليست بالأمر المستجد :( قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ ) .

مع أنّ بعض المفسّرين قد ذهب بالآية إلى قصة «النمرود» وصرحه الذي أراد من خلاله محاربة رب السماء! والبعض الآخر فسرها بقصة «بخت نصر» إلّا أن الظاهر من مفهوم الآية شمول جميع مؤامرات ودسائس المستكبرين وأئمّة

١٦٧

الضلال.

ومن لطيف دقّة العبارة القرآنية ، أنّ الآية أشارت إلى أنّ اللهعزوجل لا يدمّر البناء العلوي للمستكبرين فحسب ، بل سيدمره من القواعد لينهار بكله عليهم.

وقد يكون تخريب القواعد وإسقاط السقف إشارة إلى أبنيتهم الظاهرية ، من خلال الزلازل والصواعق لتنهار على رؤوسهم ، وقد يكون إشارة إلى قلع جذور تجمعاتهم وأحزابهم بأمر اللهعزوجل ، بل لا مانع من شمول الأمرين معا.

وممّا يلفت النظر أنّ القرآن ذكر كلمة «السقف» بعد ذكر «من فوقهم» ، فـ «السقف» عادة في الطرف الأعلى من البناء ، فما الذي استلزم ذكر «من فوقهم»؟ ويمكن حمله للتأكيد ، وكذلك لبيان أنّ السقوط سيتحقق بوجودهم أسفله لهلاكهم ، حيث أنّ السقوط قد يحدث بوجود أصحاب الدار أو عدم وجودهم.

وقدم لنا التأريخ قديمه وحديثه بوضوح صورا شتى للعقاب الإلهي ، فإحكام الطغاة والجبابرة لما يعيشون ويتمتعون في كنفه من حصون وقلاع ، إضافة لخططهم المحبوكة كي يستمر لهم ولنسلهم الحال ، وما قاموا به من تهيئة وإعداد كل مستلزمات بقاء قدرة التسلط ودوام نظام الحكم كل ذلك لا يعبر في الحقيقة إلّا عن ظواهر خاوية من كل معاني القدرة والاقتدار والدوام ، حيث تحكي لنا قصص التاريخ أنّ هؤلاء يأتيهم العذاب الإلهي وهم بذروة ما يتمتعون به ، وإذا بالقلاع والحصون تتهاوى على رؤوسهم فيفنون ولا تبقى لهم باقية.

وعذابهم في الحياة الدنيا لا يعني تمام الجزاء ، بل تكملته ستكون يوم الجزاء الأكبر( ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يُخْزِيهِمْ ) .

فيسألهم الله تعالى :( وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ ) أي تجادلون وتعادون فيهم(1) ، فلا يتمكنون من الإجابة ، ولكن :( قالَ الَّذِينَ أُوتُوا

__________________

(1) تشاقون : من مادة الشقاق ، بمعنى المخالفة والعداء ، وأصلها من (شق ، أي قطعه نصفين).

١٦٨

الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكافِرِينَ ) .

ويظهر من خلال ذلك أنّ المتحدثين يوم القيامة هم العلماء ، ولا ينبغي في ذلك المحضر المقدس الحديث بالباطل.

وإذا رأينا في بعض الرّوايات عن أهل البيتعليهم‌السلام التأكيد على أنّ العلماء في ذلك المحضر هم الأئمّة المعصومونعليهم‌السلام لأنّهم أفضل وأكمل مصداق لذلك(1) .

ونعاود الذكر لنقول : إنّ المقصود من السؤال والجواب في يوم القيامة ليس لكشف أمر خفي ، بل هو نوع من العذاب الروحي ، وذلك إحقاقا للمؤمنين الذين لاقوا اللوم والتوبيخ الشديدين في الحياة الدنيا من المشركين المغرورين.

ويصف ذيل الآية السابقة حال الكافرين بالقول :( الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ ) .

لأنّ ممارسة الظلم في حقيقتها ظلم للنفس قبل الآخرين ، لأنّ الظالم يتلف ملكاته الوجدانية ، ويهتك حرمة الصفات الفطرية الكامنة فيه.

بالإضافة إلى أنّ الظلم متى ما شاع وانتشر في أي مجتمع ، فالنتيجة الطبيعية له أن يعود على الظالمين أنفسهم ليشملهم الحال.

أمّا حين تحين ساعة الموت ويزول حجاب الغفلة عن العيون( فَأَلْقَوُا السَّلَمَ ما كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ ) .

لما ذا ينكرون عملهم القبيح؟ فهل يكذبون لأنّ الكذب أصبح صفة ذاتية لهم من كثرة تكراره ، أم يريدون القول : إننا نعلم سوء أعمالنا ، ولكننا أخطأنا ولم تكن لدينا نوايا سيئة فيه؟؟.

يمكن القول بإرادة كلا الأمرين.

ولكن الجواب يأتيهم فورا : إنّكم تكذبون فقد ارتكبتم ذنوبا كثيرة :( بَلى إِنَّ

__________________

(1) راجع تفسير نور الثقلين ، ج 3 ، ص 50.

١٦٩

اللهَ عَلِيمٌ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) حتى بنيّاتكم.

وليس المقام محلا للإنكار أو التبرير( فَادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ ) .

* * *

بحثان

1 ـ السنّة سنتان حسنة وسيئة :

القيام بأي عمل يحتاج بلا شك إلى مقدمات كثيرة ، وتعتبر السنن السائدة في المجتمع سواء كانت حسنة أم سيئة من ممهدات الأرضية الفكرية والاجتماعية التي تساعد القائد (سواء كان مرشدا أم مضلا) للقيام بدوره بكل فاعلية ، وحتى أنّه قد يفوق دور الموجهين وواضعي السنن على جميع العاملين في بضع الأحيان.

ولهذا لا يمكن فصل دور واضعي السنن عن العاملين بتلك السنن ، فهم شركاء في العمل الصالح إذا ما سنوا سنة حسنة ، وشركاء في جرم المنحرفين إذا ما سنوا لهم سنة سيئة.

وقد اهتم القرآن الكريم ، وكذا الأحاديث الشريفة كثيرا بمسألة السنّة الحسنة والسنّة السيئة وواضعيها.

كما طالعتنا الآيات أعلاه بأنّ المستكبرين المضلّين يحملون أوزارهم وأوزار الذين يضلونهم (دون أن ينتقص من أوزارهم شيء).

وهذا الأمر من الأهمية بمكان حتى قال عنه النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «الدال على الخير كفاعله»(1) .

وفي تفسير هذه الآية روي عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «أيما داع دعا إلى الهدى

__________________

(1) وسائل الشيعة ، ج 11 ، ص 436.

١٧٠

فاتبع ، فله مثل أجورهم ، من غير أن ينقص من أجورهم شيئا ، وأيما داع دعا إلى ضلالة فاتبع عليه ، فإنّ عليه مثل أوزار من اتبعه ، من غير أن ينقص من أوزارهم شيئا»(1) .

وكذلك روي عن الباقرعليه‌السلام أنّه قال : «من استنّ بسنّة عدل فاتبع كان له أجر من عمل بها ، من غير أن ينتقص من أجورهم شيء ، ومن استنّ سنّة جور فاتبع كان عليه مثل وزر من عمل به ، من غير أن ينتقص من أوزارهم شيء»(2) .

وثمّة روايات أخرى تحمل نفس هذا المضمون رويت عن الأئمّة الأطهارعليهم‌السلام وقد جمعها الشّيخ الحر العاملي قدّس سره ، في المجلد الحادي عشر من كتابه الموسوم بالوسائل (تاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، الباب السّادس عشر).

وفي صحيح مسلم ورد حديث عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مرفوعا عن المنذر بن جرير عن أبيه قال : كنّا عند رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في صدر النهار قال : فجاءه قوم حفاة عراة مجتابي النمار أو العباء ومتقلدي السيوف فتمعر وجه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لما رأى بهم من الفاقة ، فدخل ثمّ خرج فأمر بدلا فأذّن وأقام فصلّى وخطب فقال :( يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ إِنَّ اللهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً ) والآية التي في الحشر( اتَّقُوا اللهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللهَ ) ، تصدق رجل من ديناره ، من درهمه ، من ثوبه ، من صاع بره ، من صاع تمره (حتى قال) ولو بشق تمرة ، قال : فجاء رجل من الأنصار بصرّة كادت كفّه تعجز عنها بل قد عجزت ، قال : ثمّ تتابع الناس حتى رأيت كومين من طعام ثياب حتى رأيت وجه رسول الله يتهلل كأنّه مذهبة ، فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من سنّ في الإسلام سنّة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيء ، ومن سنّ في

__________________

(1) مجمع البيان ، في تفسير الآية مورد البحث.

(2) وسائل الشيعة ، ج 11 ، ص 437.

١٧١

الإسلام سنّة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شيء»(1) .

وهنا ، يواجهنا سؤال كيف تنسجم هذه الرّوايات مع ما يعاضدها من آيات مع الآية (164) من سورة الأنعام( وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ) ؟

وتتّضح الإجابة من خلال ملاحظة أنّ هؤلاء ليسوا عن ذنوب الأخرى بل عن ذنوبهم فقط ، ولكنّهم من خلال اشتراكهم في تحقق ذنوب الآخرين يشاركوهم فيها ، اي ان تلك الذنوب تعتبر من ذنوبهم بهذا اللحاظ.

2 ـ التّسليم بعد فوات الأوان :

قليل أولئك الذين ينكرون الحقيقة بعد رؤيتها في مرحلة الشهود ، ولهذا نجد المذنبين والظالمين يظهرون الإيمان فورا بعد أن تزال عن أعينهم حجب الغفلة والغرور وحصول العين البرزخية في حال ما بعد الموت ، كما بيّنت لنا الآيات السابقة( فَأَلْقَوُا السَّلَمَ ) .

وغاية ما في الأمر أنّ الكلّ مستسلم ، ولكنّ الحديث يختلف من بعض إلى بعض ، فقسم منهم يتبرأ من أعماله القبيحة بقولهم :( ما كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ ) أي إنّهم من كثرة ممارستهم للكذب فقد اختلط بلحمهم ودمهم والتبس عليهم الأمر تماما ، فمع علمهم بعدم فائدة الكذب في ذلك المشهد العظيم ولكنّهم يكذبون!

ويستفاد من بعض الآيات القرآنية أنّ هناك من يكذب حتى في يوم القيامة ، كما في الآية الثّالثة والعشرين من سورة الأنعام :( قالُوا وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ ) !

وقسم آخر يظهر الندامة ويطلب العودة إلى لحياة الدنيا لإصلاح أمره ، كما

__________________

(1) صحيح مسلم ، ج 2 ، ص 704 (باب الحث على الصدقة ولو بشق تمرة).

١٧٢

جاء في الآية (12) من سورة السجدة.

وقسم يكتفي بإظهار الإيمان كفرعون ، كما جاء في الآية (90) من سورة يونس.

وعلى أيّة حال سوف لا تقبل كل تلك الأقوال لأنها قد جاءت في غير وقتها بعد أن انتهت مدّتها ، ولا أثر لهكذا إيمان صادر عن اضطرار.

* * *

١٧٣

الآيات

( وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا خَيْراً لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دارُ الْمُتَّقِينَ (30) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ كَذلِكَ يَجْزِي اللهُ الْمُتَّقِينَ (31) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمْ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (32) )

التّفسير

عاقبة المتقين والمحسنين :

قرأنا في الآيات السابقة أقول المشركين حول القرآن وعاقبة ذلك ، والآن فندخل مع المؤمنين في اعتقادهم وعاقبته فيقول القرآن :( وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا خَيْراً ) .

وروي في تفسير القرطبي : كان يرد الرجل من العرب مكّة في أيّام الموسم فيسأل المشركين عن محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيقولون : ساحر أو شاعر أو كاهن أو مجنون

١٧٤

ويسأل المؤمنين فيقولون : أنزل الله عليه الخير والهدى.

ما أجمل هذا التعبير وأكمله «خيرا» خير مطلق يشمل كل : صلاح ، سعادة ، رفاه ، تقدم مادي ومعنوي ، خير للدنيا والآخرة ، خير للإنسان الفرد والمجتمع ، وخير في:التربية والتعليم ، السياسة والإقتصاد ، الأمن والحرية والخلاصة : خير في كل شيء (لأنّ حذف المتعلق يوجب عموم المفهوم).

وقد وصفت الآيات القرآنية القرآن الكريم بأوصاف كثيرة مثل : النّور ، الشفاء ، الهداية ، الفرقان (يفرق الحق عن الباطل) ، الحق ، التذكرة ، وما شابه ذلك ولكن في هذه الآية وردت صفة «الخير» التي يمكن أن تكون مفهوما عاما جامعا لكل تلك المفاهيم الخاصة.

والفرق واضح في نعت القرآن بين المشركين والمؤمنين ، فالمؤمنون قالوا :«خيرا» أي أنزل الله خيرا ، وبذلك يظهر اعتقادهم بأنّ القرآن وحي إلهي(1) .

بينما نجد المشركين عند ما( قِيلَ لَهُمْ ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ؟ قالُوا : أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ ) وهذا إنكار واضح لكون القرآن وحي إلهي(2) .

وتبيّن الآية مورد البحث نتيجة وعاقبة ما أظهره المؤمنون من اعتقاد ، كما عرضت الآيات السابقة عاقبة ما قاله المشركين من عقاب دنيوي وأخروي ، ومادي ومعنوي مضاعف :( لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ ) .

وقد أطلق الجزاء بال «حسنة» كما أطلقوا القول «خيرا» ، ليشمل كل أنواع الحسنات والنعم في الحياة الدنيا ، بالإضافة إلى :( وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دارُ الْمُتَّقِينَ ) .

وتشارك عبارة «نعم دار المتقين» الإطلاق مرّة أخرى وكلمة «خيرا» ، لأنّ الجزاء بمقدار العمل كمّا وكيفا.

__________________

(1) خيرا : مفعول لفعل محذوف تقديره (أنزل الله).

(2) أساطير الأولين : خبر لمبتدأ محذوف ، تقديره (هذه أساطير الأولين).

١٧٥

فيتّضح لنا ممّا قلنا إنّ الآية( لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا ) إلى آخرها تعبر عن كلام اللهعزوجل ،ويقوى هذا المعنى عند مقابلتها مع الآيات السابقة.

واحتمل بعض المفسّرين أنّ الظاهر من الكلام يتضمّن احتمالين :الأوّل : أنّه كلام الله.

الثّاني : أنّه استمرار لقول المتقين.

ثمّ تصف الآية التالية ـ بشكل عام ـ محل المتقين في الآخرة بالقول :( جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ ) .

فهل ثمّة أوسع وصفا من هذا أم أشمل مفهوما لبيان نعم الجنّة.

حتى أنّ التعبير يبدو أوسع ممّا ورد في الآية (71) من سورة الزخرف( وَفِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ ) ، فالحديث في الآية عن( ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ ) ، في حين الحديث في الآية مورد البحث عن مطلق الإشاءة( ما يَشاؤُنَ ) .

واستفاد بعض المفسّرين من تقديم( لَهُمْ فِيها ) على( ما يَشاؤُنَ ) الحصر ، أي يمكن للإنسان أن يحصل على كل ما يشاء في الجنّة فقط دون الدنيا.

وقلنا أنّ الآيات مورد البحث توضح كيفية حياة وموت المتقين مقارنة مع ما ورد في الآيات السابقة حول المشركين والمستكبرين ، وقد مرّ علينا هناك أنّ الملائكة عند ما تقبض أرواحهم يكون موتهم بداية لمرحلة جديدة من العذاب والمشقة ، ثمّ يقال لهم «ادخلوا أبواب جهنم ..».

وأمّا عن المتقين :( الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ ) طاهرين من كل تلوثات الشرك والظلم والاستكبار ، ومخلصين من كل ذنب ـ( يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمْ ) السّلام الذي هو رمز الأمن والنجاة.

ثمّ يقال لهم :( ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) .

والتعبير عن موتهم ب( تَتَوَفَّاهُمُ ) يحمل بين طياته اللطف ، ويشير إلى أن الموت لا يعني الفناء والعدم أو نهاية كل شيء ، بل هو مرحلة انتقالية إلى عالم

١٧٦

آخر.

وفي تفسير الميزان : أنّ في هذه الآية ثلاثة مسائل :

1 ـ طهارة المؤمنين من خبث الظلم.

2 ـ يقولون لهم( سَلامٌ عَلَيْكُمْ ) وهو تأمين قولي لهم.

3 ـ( ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) وهو هداية لهم إليها.

وهذه المواهب الثلاث هي التي ذكرت في الآية (82) من سورة الأنعام( الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ ) .

* * *

١٧٧

الآيات

( هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَما ظَلَمَهُمُ اللهُ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (33) فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (34) وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (35) وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (36) إِنْ تَحْرِصْ عَلى هُداهُمْ فَإِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (37) )

التّفسير

البلاغ المبين وظيفة الأنبياء :

يعود القرآن الكريم مرّة أخرى ليعرض لنا واقع وأفكار المشركين

١٧٨

والمستكبرين ويقول بلهجة وعيد وتهديد : ما ذا ينتظرون؟( هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ ) أي ملائكة الموت فتغلق أبواب التوبة أمامهم حيث لا سبيل للرجوع بعد إغلاق صحائف الأعمال!

أو هل ينتظرون أن يأتي أمر الله بعذابهم :( أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ) حيث تغلق أبواب التوبة أيضا ولا سبيل عندها للإصلاح.

فأي فكر يسيرهم ، وأي عناد ولجاجة تحكمهم؟!

كلمة «الملائكة» وإن كانت ترمز إلى عنوان عام ، إلّا أنّها في هذا الموقع يقصد منها ملائكة قبض الأرواح انسجاما مع الآيات السابقة التي كانت تتحدث عنهم.

أمّا عبارة( يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ ) فمع قبولها لاحتمالات كثيرة في تفسيرها ، إلّا أنّ المعنى الراجح هو نزول العذاب ، لورود هذا المعنى بالخصوص في آيات مختلفة من القرآن.

ومجموع الجملتين يعني تقريع المستكبرين بأنّ المواعظ الإلهية وتذكير الأنبياء إن كانت لا توقظكم من غفلتكم فإنّ الموت والعذاب الإلهي سيوقظكم ، ولكن حينئذ لا ينفعكم ذلك الإيقاظ.

ثمّ يضيف : إنّ هؤلاء ليس أوّل من كانوا على هذه الحال والصفة وإنّما( كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَما ظَلَمَهُمُ اللهُ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ) .

وسوف يلاقون نتيجة ما كسبت أيديهم من أعمال.

والآية تؤكد مرّة أخرى على حقيقة عود الظلم والاستبداد والشر على الظالم المستبد الشرير في آخر المطاف ، لأنّ الفعل القبيح يترك آثاره السيئة على روح ونفسية فاعله ، فيسوّد قبله ويلوّث روحه فيفقده الأمان والاطمئنان.

ثمّ يذكر عاقبة أمرهم بقوله :( فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ ) .

«حاق بهم» : بمعنى أصابهم ، إلّا أنّ بعض المفسّرين كالقرطبي وفريد وجدي

١٧٩

في تفسير لهذه الآية اعتبر معناها (أحاط بهم).

ويمكن الجمع بين المعنيين ، فيكون المعنى : نزول العذاب عليهم ، وكذلك محيطا بهم.

وعلى أية حال ، فتعبير الآية ب( فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا ) يؤكد مرّة أخرى على عودة الأعمال على فاعلها سواء في الدنيا أو في الآخرة ، وتتجسم له بصور شتى ، وتعذبه وتؤلمه وليس غير ذلك(1) .

وتشير الآية التالية إلى أحد أقوال المشركين الخاوية ، فتقول :( وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ ) .

إنّ قولهم( وَلا حَرَّمْنا ) إشارة إلى بعض أنواع الحيوانات التي حرّم لحومها المشركون في عصر الجاهلية ، والتي أنكرها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بشدة.

والخلاصة : أنّهم أرادوا الادعاء بأنّ كلّ ما عملوه من عبادة للأصنام إلى تحليل وتحريم الأشياء ، إنما كان وفقا لرضا الله تعالى وبإذنه!

ولعل قولهم يكشف عن وجود عقيدة (الجبر) ضمن ما كانوا به يعتقدون ، معتبرين كل ما يصدر منهم إن هو إلّا من القضاء المحتوم عليهم (كما فهم ذلك جمع كثير من المفسّرين).

وثمّة احتمال آخر : إنّهم لم يقولوا ذلك اعتقادا منهم بالجبر ، وإنّما أرادوا الإحتجاج على الله سبحانه ، وكأنّهم يقولون : إن كانت أعمالنا لا ترضي الله تعالى فلما ذا لم يرسل إلينا الأنبياء لينهونا عمّا نقوم به ، فسكوته وعدم منعه ما كنّا نعمل دليل على رضاه.

وهذا الاحتمال ينسجم مع ذيل الآية والآيات التالية.

__________________

(1) وعلى هذا ، فلا داعي لتقدير كلمة «جزاء» قبل «سيئات» في الآية.

١٨٠