الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٨

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل0%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 496

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

مؤلف: آية الله الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
تصنيف:

الصفحات: 496
المشاهدات: 220204
تحميل: 6116


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 496 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 220204 / تحميل: 6116
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء 8

مؤلف:
العربية

ولهذا يقول تعالى مباشرة :( كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ ) يعني.

أوّلا : أن تقولوا أنّ الله سكت عن أعمالنا! فإنّ الله قد بعث إليكم الأنبياء ، ودعوكم إلى التوحيد ونفي الشرك.

ثانيا : إنّ وظيفة الله تعالى والنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليس هي هدايتكم بالجبر ، بل بإراءتكم السبيل الحق والطريق المستقيم ، وهذا ما حصل فعلا.

أمّا عبارة( كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ) فمواساة لقلب النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، بأن لا يحزن ويثبت في قبال ما يواجه من قبل المشركين ، وأنّ الله معه وناصره.

وبعد ذكر وظيفة الأنبياء (البلاغ المبين) ، تشير الآية التالية باختصار جامع إلى دعوة الأنبياء السابقين ، بقولها :( وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً ) .

«الأمّة» : من الأم بمعنى الوالدة ، أو بمعنى : كل ما يتضمّن شيئا آخر في دخله ، (ومن هنا يطلق على جماعة تربطها وحدة معينة من حيث الزمان أو المكان أو الفكر أو الهدف «أمّة».

ويتأكد هذا المعنى من خلال دراسة جميع موارد استعمال هذه الكلمة في القرآن والبالغة (64) موردا.

ويبيّن القرآن محتوى دعوة الأنبياءعليهم‌السلام ، بالقول :( أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ ) (1) .

فأساس دعوة جميع الأنبياء واللبنة الأولى لتحركهم هي الدعوة إلى التوحيد ومحاربة الطاغوت ، وذلك لأنّ أسس التوحيد إذا لم تحكم ولم يطرد الطواغيت من بين المجتمعات البشرية فلا يمكن إجراء أيّ برنامج إصلاحي.

«الطاغوت» : (كما قلنا سابقا) صيغة مبالغة للطغيان أي التجاوز والتعدي

__________________

(1) تقدير هذه الجملة : ليقولوا لهم اعبدوا

١٨١

وعبور الحد ، فتطلق على كل ما يكون سببا لتجاوز الحد المعقول ، ولهذا يطلق اسم الطاغوت على الشيطان ، الصنم ، الحاكم المستبد ، المستكبر وعلى كل مسير يؤدي إلى غير طريق الحق.

وتستعمل الكلمة للمفرد والجمع أيضا وإن جمعت أحيانا ب (الطواغيت).

ونعود لنرى ما وصلت إليه دعوة الأنبياءعليهم‌السلام إلى التوحيد من نتائج ، فالقرآن الكريم يقول :( فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ ) .

وهنا علت أصوات من يعتقد بالجبر استنادا إلى هذه الآية باعتبارها المؤيدة لعقيدتهم!

ولكن قلنا مرارا إنّ آيات الهداية والضلال إذا جمعت وربط فيما بينها فلن يبقى هناك أيّ إبهام فيها ، ويرتفع الالتباس من أنّها تشير إلى الجبر ويتّضح تماما أن الإنسان مختار في تحكيم إرادته وحريته في سلوكه أي طريق شاء.

فالهداية والإضلال الإلهيين إنّما يكونا بعد توفر مقدمات الأهلية للهداية أو عدمها في أفكار وممارسة الإنسان نفسه ، وهو ما تؤكّده الكثير من آيات القرآن الكريم.

فاللهعزوجل (وفق صريح آيات القرآن) لا يهدي الظالمين والمسرفين والكاذبين ومن شابههم ، أما الذين يجاهدون في سبيل الله ويستجيبون للأنبياءعليهم‌السلام فمشمولون بألطافهعزوجل ويهديهم إلى صراطه المستقيم ويوفقهم إلى السير في طريق التكامل ، بينما يوكل القسم الأوّل إلى أنفسهم حتى تصيبهم نتائج أعمالهم بضلالهم عن السبيل.

وحيث أنّ خواص الأفعال وآثارها ـ الحسنة منها أو القبيحة ـ من اللهعزوجل ، فيمكن نسبة نتائجها إليه سبحانه ، فتكون الهداية والإضلال إلهيين.

فالسنّة الإلهية اقتضت في البداية جعل الهداية التشريعية ببعث الأنبياء ليدعوا الناس إلى التوحيد ورفض الطاغوت تماشيا مع الفطرة الإنسانية ، ومن ثمّ فمن

١٨٢

يبدي اللياقة والتجاوب مع الدعوة فردا كان أم جماعة يكون جديرا باللطف الإلهي وتدركه الهداية التكوينية.

نعم ، فها هي السنّة الإلهية ، لا كما ذهب إليه الفخر الرازي وأمثاله من أنصار مذهب الجبر من أنّ الله يدعوا الناس بواسطة الأنبياء ، ومن ثمّ يخلق الإيمان والكفر جبرا في قلوب الأفراد (من دون أيّ سبب) والعجيب أنّه لإجمال للتساؤل ولا يسمح في الاستفهام عن سبب ذلك من اللهعزوجل .

فما أوحش ما نسبوا اليه سبحانه إنّما صورة لا تتفق مع العقل والعاطفة والمنطق؟!

والتعبير الموارد في الآية مورد البحث يختلف في مورد الهداية والضلال ، ففي مسألة الهداية ، يقول :( فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللهُ ) ، أمّا بالنسبة للقسم الثّاني ، فلا يقول : إنّ الله أضلهم ، بل إنّ الضلالة ثبتت عليهم والتصقت بهم :( وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ ) .

وهذا الاختلاف في التعبير يمكن أن يكون الإشارة لما في بعض الآيات الأخرى ، والمنسجم مع ما ورد من روايات وخلاصته :

إنّ القسم الأعظم من هداية الإنسان يتعلق بالمقدمات التي خلقها الله تعالى لذلك ، فقد أعطى تعالى : العقل ، وفطرة التوحيد ، وبعث الأنبياء ، وإظهار الآيات التشريعية والتكوينية ، ويكفي الإنسان أن يتخذ قراره بحرية وصولا للهدف المنشود.

أمّا في حال الضلال فالأمر كلّه يرجع إلى الضالين أنفسهم ، لأنّهم اختاروا السير خلاف الوضعين التشريعي والتكويني الذي جعلهم الله عليه ، وجعلوا حول الفطرة حجابا داكنا وأغفلوا قوانينها ، وجعلوا الآيات التشريعية والتكوينية وراء ظهورهم ، وأغلقوا أعينهم وصموا أذانهم أمام دعوة الأنبياءعليهم‌السلام ، فكان أن آل المآل بهم إلى وادي التيه والضلال أو ليس كل ذلك منهم؟

١٨٣

والآية (79) من سورة النساء تشير إلى المعنى المذكور بقولها :( ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ ) .

وروي في أصول الكافي عن الأمام علي بن موسى الرضاعليه‌السلام ، في إجابته على سؤال لأحد أصحابه حول مسألة الجبر والإختيار ، أنّه قال : «أكتب : بسم الله الرحمن الرحيم قال علي بن الحسين ، قال اللهعزوجل : يا ابن آدم بمشيئتي كنت أنت الذي تشاء ، وبقوتي أديت فرائضي ، وبنعمتي قويت على معصيتي ، جعلتك سميعا بصيرا ، ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك ، وذلك أنّي أولى بحسناتك منك ، وأنت أولى بسيئاتك منّي»(1) .

وفي نهاية الآية يصدر الأمر العام لأجل إيقاظ الضالين وتقوية روحية المهتدين ، بالقول :( فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ ) .

فالآية دليل ناطق على حرية إرادة الإنسان ، فإن كانت الهداية والضلال أمرين إجباريين ، لم يكن هناك معنى للسير في الأرض والنظر إلى عاقبة المكذبين ، فالأمر بالسير بحد ذاته تأكيد على اختيار الإنسان في تعيين مصيره بنفسه وليس هو مجبر على ذلك.

وثمّة بحوث كثيرة وشيقة في القرآن الكريم بخصوص مسألة السير في الأرض مع التأمل في عاقبة الأمور ، وقد شرح ذلك مفصلا في تفسيرنا للآية (137) من سورة آل عمران.

الآية الأخير من الآيات مورد البحث تؤكّد التسلية لقلب النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بتبيان ما وصلت إليه حال الضّالين :( إِنْ تَحْرِصْ عَلى هُداهُمْ فَإِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ ) .

«تحرص» من مادة (حرص) ، وهو طلب الشيء بجدّية وسعي شديد.

__________________

(1) أصول الكافي ، ج 1 ، ص 160 (باب الجبر والقدر ـ الحديث 12).

١٨٤

بديهي ، أنّ الآية لا تشمل كل المنحرفين ، لأنّ الشمول يتعارض مع وظيفة النّبي (هداية وتبليغ) ، وللتاريخ شواهد كثيرة على ما لهداية الناس وإرشادهم من أثر بالغ ، وكم أولئك الذين انتشلوا من وحل الضلال ليصبحوا من خلص أنصار الحق ، بل ودعاته.

فعليه تكون الجملة المتقدمة خاصة بمجموعة معينة من الضالين الذين وصل بهم العناد واللجاجة في الباطل لأقصى درجات الضلال ، وأصبحوا غرقى في بحر الاستكبار والغرور والغفلة والمعصية فأغلقت أمامهم أبواب الهداية ، فهؤلاء لا ينفع معهم محاولات النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لهديهم حتى وإن طالت المدّة لأنّهم قد انحرفوا عن الحق بسبب أعمالهم الى درجة أنّهم باتوا غير قابلين للهداية.

ومن الطبيعي أن لا يكون لهكذا أناس من ناصرين وأعوان ، لأنّ الناصر لا يتمكن من تقديم نصرته وعونه إلّا في أرضية مناسبة ومساعدة.

وهذا التعبير أيضا دليل على نفي الجبر ، لأنّ الناصر إنّما ينفع سعيه فيما لو كان هناك تحرك من داخل الإنسان نحو الصلاح والهداية فيعينه ويأخذ بيده ـ فتأمل.

ولعل استعمال «ناصرين» بصيغة الجمع للإشارة إلى أنّ المؤمنين على العكس من الضالين ، لهم أكثر من ناصر ، فالله تعالى ناصرهم و.. الأنبياء ، وعباد الله الصالحين ، وملائكة الرحمة كذلك.

ويشير القرآن الكريم إلى هذه النصرة في الآية (51) من سورة المؤمن :( إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ ) .

وكذلك في الآية (30) من سورة فصلت :( إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ ) .

* * *

١٨٥

بحثان

1 ـ ما هو البلاغ المبين؟

رأينا في الآيات مورد البحث أنّ الوظيفة الرئيسية للأنبياء هي البلاغ المبين( فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ ) .

أي لا بدّ من الدعوة علنا ، وإذا كانت ثمّة ظروف موضوعية تستدعي من الأنبياء أن تكون دعوتهم سرية ، فهذا لا يكون إلّا لمدّة محدودة ، لإنّ الأسلوب السري في عصر دعوة الأنبياءعليهم‌السلام غير مستساغ من قبل المجتمع ، فلا يكون له الأثر المطلوب والحال هذه.

فلا بدّ للدعوة إذن من الإعلان السليم القاطع المصحوب بالتخطيط والتدبير كشرط أساسي في إنجاح الدعوة بين المجتمع.

وبمطالعة تأريخ جميع الأنبياءعليهم‌السلام نرى أنّهم كانوا يعلنون دعوتهم ببيان صريح معلن ، بالرغم من قلة الناصر من قومهم بالذات.

وهذا هو خط جميع دعاة الحق (من الأنبياء وغيرهم) فهم : لا يداهنون في دعوتهم أبدا ولا يجاملون الباطل وأهله ، متحملين كل عواقب هذه الصراحة والقاطعية.

2 ـ لكل أمّة رسول

عند قولهعزوجل :( وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً ) يواجهنا السؤال التالي : لو كان لكل أمّة رسول لظهر الأنبياء في جميع مناطق العالم ، ولكنّ التأريخ لا يحكي لنا ذلك ، فيكف التوجيه؟!

وتتضح الإجابة من خلال الالتفات إلى أن الهدف من بعث الأنبياء لإيصال الدعوة الإلهية إلى أسماع كل الأمم ، فعلى سبيل المثال عند ما بعث النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في مكّة أو المدينة لم يكن في بقية مدن الحجاز الأخرى نبي ، ولكنّ رسل النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

١٨٦

كانوا يصلون إليها وبوصولهم يصل صوت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إليها أسماع الجميع ، بالإضافة إلى كتبه ورسائله العديدة التي أرسلها إلى الدول المختلفة (إيران ، الروم ، الحبشة) ليبلغهم الرسالة الإلهية.

وها نحن اليوم كأمّة قد سمعنا دعوة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالرغم من بعد الشقّة التاريخية بيننا وبينهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وذلك بواسطة العلماء الرساليين الذين حملوا رسالته إلينا عبر القرون ولا يقصد من بعثة رسول لكل أمّة إلّا هذا المعنى.

* * *

١٨٧

الآيات

( وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللهُ مَنْ يَمُوتُ بَلى وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (38) لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كانُوا كاذِبِينَ (39) إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (40) )

سبب النّزول

ذكر المفسّرون في شأن نزول الآية الأولى (الآية 38) أنّ رجلا من المسلمين كان له دين على مشترك فتقاضاه فكان تتعلل في بتسديده ، فتأثر المسلم بذلك ، فوقع في كلامه القسم بيوم القيامة وقال : والذي أرجوه بعد الموت إنّه لكذا ، فقال المشرك : وإنّك لتزعم أنّك تبعث بعد الموت وأقسم بالله ، لا يبعث الله من يموت. فأنزل الله الآية(1) .

فأجاب الله فيها الرجل المشرك وأمثاله ، وعرض المعاد بدليل واضح ، وكان حديث الرجلين سببا لطرح هذه المسألة من جديد.

__________________

(1) مجمع البيان ، ذيل الآية مورد البحث.

١٨٨

التّفسير

المعاد و.. نهاية الاختلافات :

تعرض الآيات أعلاه جانبا من موضوع «المعاد» تكميلا لما بحث في الآيات السابقة ضمن موضوع التوحيد ورسالة الأنبياء.

فتقول الآية الأولى :( وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللهُ مَنْ يَمُوتُ ) .

وهذا الإنكار الخالي من الدليل والذي ابتدءوه بالقسم المؤكّد ، ليؤكّد بكل وضوح على جهلهم ، ولهذا يجيبهم القرآن بقوله :( بَلى وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ) .

إنّ الكلمات الواردة في المقطع القرآني مثل «بلى» ، «وعدا» ، «حقّا» لتظهر بكل تأكيد حتمية المعاد.

وعموما ـ ينبغي مواجهة من ينكر الحقّ بحجم ما أنكر بل وأقوى ، كي يمحو الأثر النفسي السيء للنفي القاطع ، ولا بدّ من إظهار أن نكران الحق جهل حتى يمحى أثره تماما( وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ) .

ثمّ يتطرق القرآن الكريم إلى ذكر أحد أهداف المعاد وقدرة اللهعزوجل على ذلك ، ليرد الاشتباه القائل بعدم إعادة الحياة بعد الموت ، أو بعيشة المعاد

فيقول :( لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كانُوا كاذِبِينَ ) في إنكارهم للمعاد وبأنّ الله لا يبعث من يموت

! لأنّ ذلك عالم الشهود ، عالم رفع الحجب وكشف الغطاء ، عالم تجلي الحقائق ، كما نقرأ في الآية (22) من سورة ق :( لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ ) .

وفي الآية (9) من سورة الطارق :( يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ ) أي تظهر وتعلن.

وكذا الآية (48) من سورة إبراهيم :( وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ ) .

ففي يوم الشهود وكشف السرائر وإظهارها لا معنى فيه لاختلاف العقيدة ،

١٨٩

وإن كان من الممكن أن يقوم بعض المنكرين اللجوجين بإطلاق الأكاذيب في بعض مواقف يوم القيامة لأجل تبرئة أنفسهم ، إلّا أنّ ذلك سيكون أمرا استثنائيا عابرا.

وهذا يشبه إلى حد ما إنكار المجرم لجريمته ابتداء عند المحاكمة ، ولكنّه سرعان ما ينهار ويرضخ للحقيقة عند ما تعرض عليه مستمسكات جريمته المادية التي لا تقبل إدانة غيره أبدا ، وهكذا فإنّ ظهور الحقائق في يوم القيامة يكون أوضح وأجلى من ذلك.

ومع أنّ أهداف حياة ما بعد الموت (عالم الآخرة) عديدة وقد ذكرتها الآيات القرآنية بشكل متفرق مثل : تكامل الإنسان ، إجراء العدالة الإلهية ، تجسيد هدف الحياة الدنيا ، الفيض واللطف الإلهيين وما شابه ذلك إلّا أنّ الآية مورد البحث أشارت إلى هدف آخر غير الذي ذكر وهو : رفع الاختلافات وعودة الجميع إلى التوحيد.

ونعتقد أنّ أصل التوحيد من أهم الأصول التي تحكم العالم ، وهو شامل يصدق على : ذات وصفات وأفعال اللهعزوجل ، عالم الخليقة والقوانين التي تحكمه ، وكل شيء في النهاية يجب أن يعود إلى هذا الأصل.

ولهذا فنحن نعتقد بوجود نهاية لكل ما تعانيه البشرية على الأرض ـ الناشئة من الاختلافات المنتجة للحروب والصدامات ـ من خلال قيام حكومة واحدة تحت ظلال قيادة الإمام المهدي «عجل الله تعالى فرجه الشريف» لأنّه يجب في نهاية الأمر رفع ما يخالف روح عالم الوجود (التوحيد).

أمّا اختلاف العقيدة فسوف لا يرتفع من هذه الدنيا تماما لوجود عالم الحجب والأستار ، ولا ينتهي إلّا يوم البروز والظهور (يوم القيامة).

فالرجوع إلى الوحدة وانتهاء الخلافات العقائدية من أهداف المعاد الذي أشارت إليه الآية مورد البحث.

١٩٠

وثمّة آيات قرآنية كثيرة كررت مسألة أنّ اللهعزوجل سيحكم بين الناس يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون(1) .

ثمّ يشير القرآن إلى الفقرة الثّانية من بيان حقيقة المعاد ، للرد على من يرى عدم إمكان إعادة الإنسان من جديد إلى الحياة من بعد موته :( إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ) .

فمع هذه القدرة التامّة هل ثمّة شك أو ترديد في قدرتهعزوجل على إحياء الموتى؟!

ولعل لا حاجة لتبيان أنّ «كن» إنّما ذكرت لضرورة اللفظ ، وإلّا لا حاجة في أمر الله لـ «كن» أيضا ، فإرادته سبحانه وتعالى كافية في تحقق ما يريد.

ولو أردنا أن نضرب مثلا صغيرا ناقصا من حياتنا (ولله المثل الأعلى) ، فنستطيع أن نشبهه بانطباع صورة الشيء في أذهاننا لمجرد إرادته ، فإنّنا لا نعاني من أية مشكلة في تصور جبل شامخ أو بحر متلاطم أو روضة غناء ، ولا نحتاج في ذلك لجملة أو كلمة نطلقها حتى نتخيل ما نريد ، فبمجرّد إرادة التصور تظهر الصورة في ذهننا.

ونقرأ سوية الحديث المروي عن الإمام علي بن موسى الرضاعليه‌السلام إنّ صفوان بن يحيى سأله : أخبرني عن الإرادة من الله تعالى ومن الخلق ، فقال : «الإرادة من المخلوق الضمير وما يبدو له بعد ذلك من الفعل ، وأمّا من اللهعزوجل فإرادته إحداثه لا غير ذلك ، لأنّه لا يروّي ولا يهم ولا يتفكر ، وهذه الصفات منفية عنه وهي من صفات الخلق ، فإرادة الله تعالى هي الفعل لا غير ذلك ، يقول له : كن فيكون ، بلا لفظ ولا نطق بلسان ولا همة ولا تفكر ولا كيف كذلك كما أنّه بلا كيف»(2) .

* * *

__________________

(1) راجع الآيات : (55) آل عمران ، (48) المائدة ، (164) الأنعام ، (92) النحل و (69) الحج.

(2) عيون الأخبار ، ج 1 ، ص 119.

١٩١

الآيتان

( وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللهِ مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (41) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (42) )

سبب النّزول

ذكر بعض المفسّرين في شأن نزول الآية الأولى (41) : نزلت في المعذبين بمكّة مثل صهيب وعمار وبلال وخباب وغيرهم مكّنهم الله في المدينة ، وذكر أن صهيبا قال لأهل مكّة : أنا رجل كبير إن كنت معكم لم أنفعكم وإن كنت عليكم لم أضركم فخذوا مالي ودعوني ، فأعطاهم ماله وهاجر إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال له أحدهم : ربح البيع يا صهيب.

ويروى أنّ أحد الخلفاء كان إذا أعطى أحدا من المهاجرين عطاء قال له :خذ هذا ما وعدك الله في الدنيا ، وما أخّره لك أفضل. ثمّ تلى هذه الآية(1) .

__________________

(1) مجمع البيان ، ذيل الآية 41.

١٩٢

التّفسير

ثواب المهاجرين :

قلنا مرارا : إنّ القرآن الكريم يستخدم أسلوب المقايسة والمقارنة كأهم أسلوب للتربية والتوجيه ، فما يريد أن يعرضه للناس يطرح معه ما يقابله لتتشخص الفروق ويستوعب الناس معناه بشكل أكثر وضوحا.

فنرى في الآيات السابقة الحديث عن المشركين ومنكري يوم القيامة ، وينقل الحديث في الآيات مورد البحث إلى المهاجرين المخلصين ، ليقارن بين المجموعتين ويبيّن طبيعتهما

فيقول أوّلا :( وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللهِ مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً ) أمّا في الآخرة( وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ ) .

ثمّ يصف في الآية التالية المهاجرين المؤمنين الصالحين بصفتين ، فيقول :( الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ) .

* * *

بحوث

1 ـ كما هو معروف فإنّ للمسلمين هجرتين ، الأولى : كانت محدودة نسبيا (هجرة جمع من المسلمين على رأسهم جعفر بن أبي طالب إلى الحبشة) ، والثّانية :الهجرة العامة للنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمسلمين من مكّة إلى المدينة.

وظاهر الآية يشير إلى الهجرة الثّانية ، كما يؤيد ذلك شأن النّزول.

وقد بحثنا أهمية دور الهجرة في حياة المسلمين في الماضي والحاضر واستمرار هذا الأمر في كل عصر وزمان بشكل مفصل ضمن تفسيرنا للآية (100) من سورة النساء ، والآية (75) من سورة الأنفال.

وعلى أية حال ، فللمهاجرين مقام سام في الإسلام ، وقد اهتم النّبي

١٩٣

الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بهم كثيرا وكذا المسلمون من بعد ، وذلك لأنّهم جعلوا حياتهم المادية وما يملكون في خدمة الدعوة الإسلامية المباركة ، ممّا حدا بالبعض أن يعرض حياته للمخاطر ، والبعض الآخر ترك كل أمواله (كصهيب) معتبرا نفسه رابحا في هذه الصفقة المباركة.

ولو لم تكن تلك التضحيات لأولئك المهاجرين لما سمح المحيط الفاسد في مكّة وتحكم الشياطين عليها بأن يخرج صوت الإسلام ليعم أسماع الجميع ، ولكتم الصوت وقبر في صدور المؤمنين إلى الأبد ، ولكنّ المهاجرين بتحولهم المدروس الواعي وهجرتهم المباركة لم يفتحوا مكّة فحسب ، وإنّما أوصلوا صوت الإسلام إلى أسماع العالم ، فأصبحت الهجرة سنّة إسلامية تجري على مرّ التأريخ إذا ما واجهت ما يشبه ظروف مكّة قبل الهجرة.

2 ـ التعبير ب( هاجَرُوا فِي اللهِ ) من دون ذكر كلمة «سبيل» إشارة إلى ذروة الإخلاص الذي كان يحملونه أولئك المهاجرون الأول ، فهم هاجروا لله وفي سبيله وطلبا لرضاه وحماية لدينه ودفاعا عنه ، وليس لنجاتهم من القتل أو طلبا لمكاسب مادية أخرى.

3 ـ وتظهر لنا جملة( مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا ) عدم ترك الميدان فورا ، بل لا بدّ من الصبر والتحمل قدر الإمكان.

أمّا عند ما يصبح تحمل العذاب من العدو باعثا على زيادة جرأته وجسارته ، وإضعاف المؤمنين فهنا تجب الهجرة لأجل كسب القدرة اللازمة وتهيئة خنادق المواجهة المحكمة ، ويستمر بالجهاد على كافة الأصعدة من موقع أفضل ، حتى تنتهي الحال إلى نصر أهل الحق في الساحات العسكرية والعلمية والتبليغية

4 ـ أمّا قوله تعالى :( لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً ) «نبوئنهم» من (بوأت له مكانا) أي هيأته له ووضعته فيه ـ فيشير إلى أن المهاجرين في الله وإن كانوا ابتداء يفتقدون إلى الإمكانيات المادية المستلزمة للمواجهة ، إلّا أنّهم في النهاية ـ حتى

١٩٤

في الجانب الدنيوي ـ منتصرون(1) .

فلما ذا بعد ذلك يتحمل الإنسان ضربات الأعداء المتوالية ويموت منها ذليلا؟! لما ذا لا يهاجر وبكل شجاعة ليجاهد عدوّه من موضع جديد فيأخذ منه حقّه؟!

وقد عرض هذا الموضوع بوضوح أكثر في الآية (100) من سورة النساء ، حيث تقول :( وَمَنْ يُهاجِرْ فِي سَبِيلِ اللهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُراغَماً كَثِيراً وَسَعَةً ) .

5 ـ إن سبب انتخاب صفتين للمهاجرين «الصبر» و «التوكل» واضح ، لما يواجه من ظروف صعبة ومتعبة ، تحتاج الثبات والصبر على مرارة تلك الظروف في الدرجة الأولى ، ثمّ الاعتماد الكامل على الله سبحانه وتعالى. وأساسا فإنّ الإنسان لو افتقد في الحوادث العصبية والشدائد القاسية المعتمد المطمئن والسند المعنوي المحكم ، فإنّ الصبر والاستقامة والثبات تكون مستحيلة.

وقال البعض : إنّ انتخاب «الصبر» هنا ، لأنّ ابتداء السير في طريق الهجرة إلى الله يحتاج إلى المقاومة والثبات أمام رغبات النفس ، أما انتخاب «التوكل» فلأجل أنّ نهاية السير هي الانقطاع عن كل شيء غير اللهعزوجل والارتباط به.

وعلى هذا ، تكون الصفة الأولى لأوّل الطريق والثانية لآخره(2) .

وعلى أية حال فلا سبيل الى الهجرة الخارجية دون الهجرة الباطنية ، فعلى الإنسان أن يقطع علائقة المادية الباطنية أوّلا بهجرته نحو الفضائل الأخلاقية ، ليستطيع أن يهاجر ويترك دار الكفر ـ مع كل ما له فيها ـ منتقلا إلى دار الإيمان.

* * *

__________________

(1) «لنبوئنهم» : في الأصل من (بوأ) بمعنى تساوي أجزاء مكان ما على عكس «نبوء» على وزن (مبدأ) بمعنى عدم تساوي أجزاء المكان. وعلى هذا فـ «بوّأت له مكانا» أي ساويت له مكانا ، ثمّ بمعنى هيأته له.

(2) التّفسير الكبير للفخر الرازي ، في تفسير الآية مورد البحث.

١٩٥

الآيتان

( وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (43) بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (44) )

التّفسير

إسألو إن كنتم لا تعلمون!

بعد أن عرض القرآن في الآيتين السابقتين حال المهاجرين في سياق حديثه عن المشركين ، يعود إلى بيان المسائل السابقة فيما يتعلق بأصول الدين من خلال إجابته لأحد الإشكالات المعروفة ، حين يتقول المشركون : لماذا لم ينزل الله ملائكة لإبلاغ رسالته؟ أو يقولون : لم لم يجهز النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقدرة خارقة ليجبرنا على ترك أعمالنا!؟

فيجيبهم اللهعزوجل بقوله :( وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ ) .

نعم. فإنّ أنبياء اللهعليهم‌السلام جميعهم من البشر ، وبكل ما يحمل البشر من غرائز وعواطف إنسانيته ، حتى يحس بالألم ويدرك الحاجة كما يحس ويدرك الآخرون.

في حين أن الملائكة لا تتمكن من إدراك هذه الأمور جيدا والاطلاع على ما

١٩٦

يدور في أعماق الإنسان بوضوح.

إنّ وظيفة الأنبياء إبلاغ رسالة السماء والوحي الإلهي ، وإيصال دعوة الله إلى الناس والسعي الحثيث وبالوسائل الطبيعية لتحقيق أهداف الوحي ، وليس باستعمال قوى إلهية خارقة للسنن الطبيعية لإجبار الناس بقبول الدعوة وترك الانحرافات ، وإلّا فما كان هناك فخر للإيمان ولا كان هناك تكامل.

ثمّ يضيف القول (تأكيدا لهذه الحقيقة) :( فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ) .

«الذكر» : بمعنى العلم والاطلاع ، و «أهل الذكر» له من شمولية المفهوم بحيث يستوعب جميع العالمين والعارفين في كافة المجالات. وإذا فسّر البعض كلمة «أهل الذكر» في هذا المورد بمعنى (أهل الكتاب) ، فهو لا يعني حصر هذا المصطلح بمفهوم معين ، وما تفسيرهم في واقعة إلّا تطبيق لعنوان كلي على أحد مصاديقه.

لأنّ السؤال عن الأنبياء والمرسلين السابقين وهل أنّهم من جنس البشر وذوي رسالات ووظائف ربانية ، يجب أن يكون من علماء أهل الكتاب.

وبالرّغم من عدم وجود الوفاق التام بين علماء اليهود والنصارى من جهة والمشركين من جهة أخرى ، إلّا أنّهم مشتركون في مخالفتهم للإسلام ، ولهذا فيمكن أن يكون علماء أهل الكتاب مصدرا جيدا بالنسبة للمشركين في معرفة أحوال الأنبياء السابقين.

يقول الراغب في مفرداته : إنّ الذكر على معنيين ، الأوّل : الحفظ. والثّاني : التذكر واستحضار الشيء في القلب. ولذلك قيل : الذكر ذكران ، ذكر بالقلب وذكر باللسان ولذا رأينا أنّ الذكر يطلق على القرآن لأنّه يعرض الحقائق ويكشفها.

ثمّ تقول الآية التالية :( بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ ) (1) .

__________________

(1) أعطى المفسّرون احتمالات متعددة في الفعل الذي تتعلق به عبارة( بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ ) فقال بعضهم:إنّها متعلقة بـ «لا

١٩٧

«البينات» : جمع بيّنة ، بمعنى الدلائل الواضحة. ويمكن أن تكون هنا إشارة إلى معاجز وأدلة إثبات صدق الأنبياءعليهم‌السلام في دعوتهم.

«الزبر» : جمع زبور ، بمعنى الكتاب.

فالبينات تتحدث عن دلائل إثبات النّبوة ، والزّبر إشارة إلى الكتب التي جمعت فيها تعليمات الأنبياء.

ومن ثمّ يتوجه الخطاب إلى النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ) ، ليبيّن للناس مسئوليتهم تجاه آيات ربّهم الحق.

فدعوتك ورسالتك ليست بجديدة من الناحية الأساسية ، وكما أنزلنا على الذين من قبلك من الرسل كتبا ليعلموا الناس تكاليفهم الشرعية ، فقد أنزلنا عليك القرآن لتبيّن تعاليمه ومفاهيمه ، وتوقظ به الفكر الإنساني ليسيروا في طريق الحق بعد شعورهم بالمسؤولية الملقاة على عاتقهم ، وليتجهوا صوب الكمال (وليس بطريق الجبر والقوة).

بحث

من هم أهل الذكر؟

ذكرت الرّوايات الكثيرة المروية عن أهل البيتعليهم‌السلام أنّ «أهل الذكر» هم الأئمّة المعصومونعليهم‌السلام ، ومن هذه الرّوايات :

روي عن الإمام علي بن موسى الرضاعليه‌السلام في جوابه عن معنى الآية أنّه قال : «نحن أهل الذكر ونحن المسؤولون»(1) .

__________________

ـ تعلمون» كما قلنا وهو ينسجم مع ظاهر الآيات ، وبملاحظة أن الفعل (علم) يتعدى بالباء وبدونها ، وقال بعض آخر : أنّها متعلقة بجملة تقديرها «أرسلنا» وهي في الأصل «أرسلناهم بالبينات والزبر». وقال آخرون : إنّها متعلقة بجملة «وما أرسلنا» في الآية السابقة ، وقال غيرهم : إنّها متعلقة بجملة «نوحي إليهم» ، والواضح أنّ جميع الآراء المطروحة كل منها يحدد مفهوما معينا للآية ، ولكنّها في المجموع العام فالتفاوت غير كبير فيما بينها.

(1) تفسير نور الثقلين ، ج 3 ، ص 55.

١٩٨

وعن الإمام الباقرعليه‌السلام في تفسير الآية أنّه قال : «الذكر القرآن وآل الرّسول أهل الذكر وهم المسؤولون»(1) .

وفي روايات أخرى : أنّ «الذكر» هو النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، و «أهل الذكر» هم أهل البيتعليهم‌السلام (2) .

وثمّة روايات متعددة أخرى تحمل نفس هذا المعنى.

وفي تفاسير وكتب أهل السنّة روايات تحمل نفس المعنى أيضا ، منها : ما في التّفسير الاثنى عشري : روي عن ابن عباس في تفسير هذه الآية ، قال : هو محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسينعليهم‌السلام هم أهل الذكر والعقل والبيان(3) .

فهذه ليست هي المرّة الأولى في تفسير الرّوايات للآيات القرآنية ببيان أحد مصاديقها دون أن تقيد مفهوم الآية المطلق.

وكما قلنا فـ «الذكر» يعني كل أنواع العلم والمعرفة والاطلاع ، و «أهل الذكر» هم العلماء والعارفون في مختلف المجالات ، وباعتبار أن القرآن نموذج كامل وبارز للعلم والمعرفة أطلق عليه اسم «الذكر» ، وكذلك شخص النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فهو مصداق واضح «للذكر» والأئمّة المعصومون باعتبارهم أهل بيت النّبوة ووارثو علمهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فهمعليهم‌السلام أفضل مصداق لـ «أهل الذكر».

وهذا لا ينافي عمومية مفهوم الآية ، ولا ينافي مورد نزولها أيضا (علماء أهل الكتاب) ولهذا اتجه علماؤنا في الفقه والأصول عند بحثهم موضوع الاجتهاد

__________________

(1) تفسير نور الثقلين ، ج 3 ، ص 56.

(2) تفسير نور الثقلين ، ج 3 ص 55 و 56.

(3) إحقاق الحق ، ج 3 ، ص 428 ـ والمقصود من تفسير الاثنى عشر ، هو تفاسير كل من : أبي يوسف ، ابن حجر ، مقاتل بن سليمان ، وكيع بن جراح ، يوسف بن موسى ، قتادة ، حرب الطائي ، السدي ، مجاهد ، مقاتل بن حيان ، أبي صالح ومحمد بن موسى الشيرازي.

وروي حديث آخر عن جابر الجعفي في تفسير الآية ، في كتاب الثعلبي أنّه قال : لما نزلت هذه الآية قال علي عليه‌السلام : «نحن أهل الذكر» ـ راجع المصدر أعلاه ـ.

١٩٩

والتقليد إلى ضرورة ووجوب أتباع العلماء لمن ليست له القدرة على استنباط الأحكام الشرعية ، ويستدلون بهذه الآية على صحة منحاهم.

وقد يتساءل فيما ورد عن الإمام علي بن موسى الرضاعليه‌السلام في كتاب (عيون أخبار الرضاعليه‌السلام ): أنّ علماء في مجلس المأمون قالوا في تفسير الآية : إنما عني بذلك اليهود والنصارى ، فقال الرضاعليه‌السلام : «سبحان الله وهل يجوز ذلك ، إذا يدعونا إلى دينهم ويقولون : إنّه أفضل من الإسلام ...» ثمّ قال : «الذكر رسول الله ونحن أهله»(1) .

وتتخلص الإجابة بقولنا : إنّ الإمام قال ذلك لمن كان يعتقد أن تفسير الآية منحصر بمعنى الرجوع إلى علماء أهل الكتاب في كل عصر وزمان ، وبدون شك أنّه خلاف الواقع ، فليس المقصود بالرجوع إليهم على مر العصور والأيّام ، بل لكل مقام مقال ، ففي عصر الإمام علي بن موسى الرضاعليه‌السلام لا بدّ من الرجوع إليه على أساس إنّه مرجع علماء الإسلام ورأسهم.

وبعبارة أخرى : إذا كانت وظيفة المشركين في صدر الإسلام لدى سؤالهم عن الأنبياء السابقين ، وهل أنّهم من جنس البشر هي الرجوع إلى علماء أهل الكتاب لا إلى النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فهذا لا يعني أن على جميع الناس في أي عصر ومصر أن يرجعوا إليهم ، بل يجب الرجوع إلى علماء كل زمان.

وعلى أية حال فالآية مبيّنة لأصل إسلامي يتعيّن الأخذ به في كل مجالات الحياة المادية والمعنوية ، وتؤكّد على المسلمين ضرورة السؤال فيما لا يعلمونه ممن يعلمه ، وأن لا يورطوا أنفسهم فيما لا يعلمون.

وعلى هذا فإنّ «مسألة التخصص» لم يقررها القرآن الكريم ويحصرها في المسائل الدينية بل هي شاملة لكل المواضيع والعلوم المختلفة ، ويجب أن يكون

__________________

(1) تفسير نور الثقلين ، ج 3 ، ص 57.

٢٠٠