الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٨

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل12%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 496

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 496 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 231540 / تحميل: 7125
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٨

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

فقال رسول الله وهو يمسح دموعه : «لو لا أن سبقت رحمة الله غضبه لعجل الله لك العذاب»(١) .

وكذلك ما روي في (قيس بن عاصم) أحد أشرف ورؤساء قبيلة بني تميم في الجاهلية، وقد أسلم عند ظهور النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، جاء يوما إلى النّبي وقال له : أنّ آباءنا كانوا يدفنون بناتهم أحياء ، وقد دفنت أنا (١٢) بنتا ، وعند ما ولدت لي زوجتي البنت الثّالثة عشر أخفت أمرها وادّعت أنّها ماتت عند الولادة ، ثمّ أودعتها آخرين ، وعند ما علمت بذلك بعد مدّة ، أخذتها إلى مكان بعيد ودفنتها حيّة دون أن أعتني ببكائها وتضرعها.

فتأذى النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من ذلك فقال ودموعه جارية : «من لا يرحم لا يرحم» ثمّ التفت إلى قيس وقال : «إنّ لك يوما سيئا» ، فقال قيس : ما أفعل لتكفير ذنبي؟ فقال النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «حرر من العبيد بعدد ما وأدت»(٢) .

وروي أيضا أن (صعصعة بن ناجية) جد الفرزدق الشاعر المعروف ، وكان رجلا شريفا حرّا فقيل : إنّه كان في الجاهلية يحارب الكثير من العادات القبيحة حتى أنّه اشترى (٣٦٠) بنتا من آبائهن كي ينقذهن من القتل ، وقد أعطى يوما دابته مع بعيرين لأب كان يريد قتل ابنته.

وقال له الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ذات مرّة (في ما معناه): ما أحسن ما صنعت وأجرك عند الله.

وقال الفرزدق فخرا بعمل جده :

ومنّا الذي منع الوائدات

فأحيا الوئيد فلم توئد(٣)

وسنرى كيف أنّ الإسلام قد أصم تلك الفواجع العظام ، واعتبر للمرأة مكانة ما كانت تحظى بها من قبل على مر العصور.

__________________

(١) القرآن يواكب الدهر ، ج ٢ ، ص ٣١٤ (مضمونا).

(٢) الجاهلية والإسلام ، ص ٦٣٢.

(٣) قاموس الرجال ، ج ٥ ، ص ١٢٥ (مضمونا).

٢٢١

٣ ـ دور الإسلام في إعادة اعتبار المرأة :

لم يكن احتقار المرأة مختصا بعرب الجاهلية ، فلم تلق المرأة أدنى درجات الاحترام والتقدير حتى في أكثر الأمم تمدنا في ذلك الزمان ، وكانت المرأة غالبا ما يتعامل معها باعتبارها بضاعة وليست إنسانا محترما ، ولكنّ عرب الجاهلية جسدوا تحقير المرأة بأشكال أكثر قباحة ووحشية من غيرهم ، حتى أنّهم ما كانوا يدخلونهن في الأنساب كما نقرأ ذلك في الشعر الجاهلي المعروف :

بنونا بنوءابائنا وبناتنا

بنوهن أبناء الرجال الأباعد

وكانوا أيضا لا يورثون النساء ، ولم يجعلوا لتعدد الزوجات حدّا ، وعملية الزواج أو الطلاق أسهل من شربة الماء عندهم.

وعند ما ظهر الإسلام حارب بشدّة هذه المهانة من كافة أبعادها ، وبالخصوص مسألة اعتبار ولادة البنت عارا ، حتى وردت الرّوايات الكثيرة التي تؤكّد على أنّ البنت باب من أبواب رحمة الله للعائلة.

وأولى النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ابنته فاطمة الزهراءعليها‌السلام من الاحترام ما جعل الناس في عجب من أمره ، حيث كانصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مع ما يحظى به من شرف ومقام ، كان يقبل يد الزهراءعليها‌السلام ، وعند ما يعود من السفر يذهب إليها قبل أي أحد. وعند ما يريد السفر كان بيت فاطمة الزهراءعليها‌السلام آخر بيت يودّعه.

وحينما أخبر بولادة الزهراءعليها‌السلام ، رأى الانقباض في وجوه أصحابه فقال على الفور: «ما لكم! ريحانة أشمها ، ورزقها على اللهعزوجل »(١) .

وفي حديث أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «نعم الولد البنات ملطفات ، مجهزات ، مؤنسات ، مفليات»(٢) .

وفي حديث آخر : «من دخل السوق فاشترى تحفة فحملها إلى عياله كان كحامل الصدقة إلى قوم محاويج ، وليبدأ بالإناث قبل الذكور ، فإنّه من فرّح ابنته

__________________

(١) وسائل الشيعة ، ج ١٥ ص ١٠٢.

(٢) وسائل الشيعة ، ج ١٥ ، ص ١٠٠.

٢٢٢

فكأنّما أعتق رقبة من ولد إسماعيل»(١) .

فالاحترام الذي أولاه الإسلام للمرأة قد أعاد لها شخصيتها الضائعة بين حولك الجاهلية ، وحررها من العادات البالية ، وأنهى عصر تحقيرها.

وإن كان غور هذا الموضوع يستلزم التفصيل فستنطرق إلى ذلك في تفسيرنا للآيات المناسبة له ، ولكنّ ما يحز في النفوس ولا يمكن السكوت عنه ما يشاهد في كثير من مجتمعاتنا الإسلامية من آثار لنفس ذلك التوجه الجاهلي الموبوء ، فإلى الآن نرى الكثير من العوائل تفرح وتسر عند ما يأتيها مولود ذكر ، وتتأسف وتتأفف عند ما تكون المولودة بنتا! وعلى أقل التقادير ترجح ولادة الولد على البنت!.

من الممكن أن تكون الظروف الخاصة اقتصاديا واجتماعيا ، المرتبطة بوضع المرأة في مجتمعاتنا ، عاملا على وجود عادات وحالات خاطئة ، إلّا أنّه ينبغي على المؤمنين المخلصين مكافحة هذا النمط من التفكير واقتلاع جذوره الاجتماعية والاقتصادية ، فالإسلام لا يقبل من أتباعه بعد (١٤) قرن العود إلى أفكار الجاهلية المقيتة فهذا السلوك في واقعة نوع من الجاهلية الثّانية.

ولا ينبغي أن تأخذنا التصورات السارحة فنرى عن بعد أن المرأة قد نالت مناها في عالم الغرب وأنّها تحظى من الاحترام والتحرر ما تحسد عليه! فالحياة العملية في الغرب تؤكّد بما لا يقبل الشك أنّ المرأة هناك محتقرة ، وقد جعلت لعبة مبتذلة ووسيلة رخيصة لإشباع الشهوات أو وسيلة إعلان للبضائع والمنتوجات(٢) .

* * *

__________________

(١) مكارم الأخلاق ، ص ٥٤.

(٢) ومن جميل الصدف أن كتب هذا البحث في اليوم العشرين من جمادى الثّانية سنة ١٤٠١ ، وهو يوم ولادة فاطمة الزّهراءعليها‌السلام .

٢٢٣

الآيات

( وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ ما تَرَكَ عَلَيْها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ (٦١) وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ ما يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنى لا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ (٦٢) تَاللهِ لَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٦٣) وَما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٦٤) )

التّفسير

وسعت رحمته غضبه :

بعد أن تحدثت الآيات السابقة عن جرائم المشركين البشعة في وأدهم للبنات ، يطرق بعض الأذهان السؤال التالي : لما ذا لم يعذب الله المذنبين بسرعة نتيجة لما قاموا به من فعل قبيح وظلم فجيع؟!

٢٢٤

والآية الأولى (٦١) تجيب بالقول :( وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ ما تَرَكَ عَلَيْها مِنْ دَابَّةٍ ) (١) .

«الدابة» : يراد بها كل كائن حي ، ويمكن أن يراد بها هنا (الإنسان) خاصّة بقرينة (بظلمهم).

أي : إنّ الله لو يؤاخذ الناس على ما ارتكبوه من ظلم لما بقي إنسان على سطح البسيطة.

ويحتمل أيضا إرادة جميع الكائنات الحيّة ، لعلمنا بأنّ هذه الكائنات إنّما خلقت وسخرت للإنسان كما يقول القرآن في الآية (٢٩) من سورة البقرة :( هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ) ، فعند ما يذهب الإنسان فسينتفي سبب وجود الكائنات الأخرى وينقطع نسلها.

وهنا يواجهنا السؤال التالي : لو نظرنا إلى سعة مفهوم الآية وعموميتها فإنّها تدل في النتيجة على أنّه لا يوجد على الأرض إنسان غير ظالم ، فالكلّ ظالم كلّ حسب قدره وشأنه، ولو نزل العذاب الفوري السريع والحال هذه لما بقي إنسان على سطح الأرض مع إنّنا نعلم أنّ هناك من لا يصدق عليه هذا المعنى ، فالأنبياء والأئمّة المعصومونعليهم‌السلام خارجون عن شمولية هذا المعنى ، بل في كل زمان ومكان ثمة من تزيد حسناته على سيئاته من الصالحين المخلصين والمجاهدين ممن لا يستحقون العذاب المهلك أبدا

والجواب على ذلك أنّ الآية تبيّن حكما نوعيا وليس حكما عاما شاملا للجميع ونظير ذلك كثير في الأدب العربي.

ومن الشواهد على ذلك : الآية (٣٢) من سورة فاطر حيث تقول :( ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ

__________________

(١) إن ضمير «عليها» يعود إلى «الأرض» وإن لم يرد لها ذكر في الآيات المتقدمة لوضوح الأمر ، ونظائر ذلك كثيرة في لغة العرب.

٢٢٥

بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللهِ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ ) .

فنرى الآية تتطرق إلى ثلاثة أقسام : ظالم ، صاحب ذنوب خفيفة ، وسابق بالخيرات ومن المسلم به أنّ القسم الأوّل هو المقصود في الآية مورد البحث دون القسمين الآخرين ، ولا عجب من تعميم الآية ، لأنّ هذا القسم يشكل القسم الأكبر من المجتمعات البشرية.

ويتّضح من خلال ما ذكر أنّ الآية لا تنفي عصمة الأنبياء ، أمّا من يعتقد بخلاف ذلك فقد غفل عن القرائن الموجودة في العبارة من جهة ، ولم يلتفت إلى ما توحي إليه بقية الآيات القرآنية بهذا الخصوص.

ويضيف القرآن الكريم قائلا :( وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ ) .

بل يدركهم الموت في نفس اللحظة المقررة.

* * *

بحث

ما هو الأجل المسمى؟

للمفسّرين بيانات كثيرة بشأن المراد من «الأجل المسمى» ولكن بملاحظة سائر الآيات القرآنية ، ومن جملتها الآية (٢) من سورة الأنعام ، والآية (٣٤) من سورة الأعراف ، يبدو أنّ المراد منه وقت حلول الموت ، أي : إنّ اللهعزوجل يمهل الناس إلى آخر عمرهم المقرر لهم إتماما للحجة عليهم ، ولعل من ظلم يعود إلى رشده ويصلح شأنه فيكون ذلك العود سببا لرجوعه إلى بارئه الحق وإلى العدالة.

ويصدر أمر الموت بمجرّد انتهاء المهلة المقررة ، فيبدأ بعقابهم من بداية اللحظات الأولى لما بعد الموت.

ولأجل المزيد من الإيضاح حول مسألة (الأجل المسمى) راجع ذيل الآية

٢٢٦

رقم (٢) من سورة الأنعام وكذا ذيل الآية (٣٤) من سورة الأعراف.

* * *

ويعود القرآن الكريم ليستنكر بدع المشركين وخرافاتهم في الجاهلية (حول كراهية المولود الأنثى والإعتقاد بأنّ الملائكة إناثا ، فيقول :( وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ ما يَكْرَهُونَ ) .

فهذا تناقض عجيب ـ وكما جاء في الآية (٢٢) من سورة النجم( تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى ) فإن كانت الملائكة بنات الله سبحانه وتعالى فينبغي أن تكون البنات أمرا حسنا ، فلما ذا تكرهون ولادتها؟! وإن كانت شيئا سيئا فلما ذا تنسبونها إلى الله؟!

ومع كل ذلك( وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنى ) .

فبأي عمل تنتظرون حسنى الثواب؟! أبوأدكم بناتكم؟! أم بافترائكم على الله؟!

وجاءت «الحسنى» (وهي مؤنث أحسن) هنا بمعنى أفضل الثواب أو أفضل العواقب ، وذلك ما يدعيه أولئك المغرورون الضالون لأنفسهم مع كل ما جاؤوا به من جرائم!

وهنا يطرح السؤال التالي نفسه : كيف يقول عرب الجاهلية بذلك وهم لا يؤمنون بالمعاد؟

والجواب : أنّهم لم ينكروا المعاد مطلقا ، وإنّما كانوا ينكرون المعاد الجسماني ، ويستوعبون مسألة عودة الإنسان إلى حياته المادية مرّة أخرى.

إضافة إلى إمكان اعتبار قولهم قضية شرطية ، أي : إن كان هناك معاد حقّا فسيكون لنا في عالمه أفضل الجزاء! وهكذا هو تصور كثير من الجبابرة والمنحرفين فبالرغم من بعدهم عن الله تعالى يعتبرون أنفسهم أقرب الناس إليه ، ويتشدّقون بادّعاءة هزيلة مدعاة للسخرية!

٢٢٧

واحتمل بعض المفسّرين أيضا أنّ «الحسنى» تعني نعمة الأولاد الذكور ، لأنّهم يعتبرون البنات سوءا وشرّا ، والبنين نعمة وحسنى.

إلّا أنّ التّفسير الأوّل يبدو أكثر صوابا ، ولهذا يقول القرآن ، وبلا فاصلة :( لا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ ) ، أي : أنّهم ليسوا فاقدين لحسن العاقبة فقط ، بل و «لهم النّار»( وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ ) أي : من المتقدمين في دخول النّار.

والمفرط : من فرط ، على وزن (فقط) بمعنى التقدم.

وربّما يراود البعض منّا الاستغراب عند سماعة لقصة عرب الجاهلية في وأدهم للبنات ، ويسأل : كيف يصدّق أن نسمع عن إنسان ما يدفن فلذة كبده بيده وهي على قيد الحياة؟!

وكأنّ الآية التالية تجيب على ذلك :( تَاللهِ لَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ ) .

نعم ، فللشيطان وساوس يتمكن من خلالها أن يصور أقبح الأعمال وأشنعها جميلة في نظر البعض بحيث يعتبرها مجالا للتفاخر! كما كانوا يعتبرون وأد البنات شرفا وفخرا وحفظا لناموس وكرامة القبيلة! ممّا يحدو ببعض المغفلين لأن يتفاخر بالقول : لقد دفنت ابنتي اليوم بيدي كي لا تقع غدا أسيرة في يد الأعداء!

فإنّ كان الشيطان يزيّن أقبح الأعمال مثل وأد البنات بنظر بعض الناس بهذه الحال ، فحال بقية الأعمال معلوم.

ونرى في يومنا الكثير من أعمال الناس التي سيطر عليها زخرف الشيطان ، فراحوا ينعتون سرقاتهم وجرائمهم بعبارات تبدو مقبولة فيخفون حقيقتها في طي زخرف القول.

ثمّ يضيف القرآن : إن مشركي اليوم على سنّة من سبقهم من الماضين من الذين زينوا أعمالهم بزخرف ما أوحى لهم الشيطان( فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ ) ، يستفيدون ممّا يعطيهم إيّاه.

٢٢٨

ولهذا( وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ ) .

وللمفسّرين بيانات كثيرة في تفسير( فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ ) ولعل أوضحها ما قلناه أعلاه ، أي : إنّها إشارة إلى أنّ المشركين في عصر الجاهلية إنّما هم على خطى الأمم المنحرفة السابقة ، والشيطان رائد مسيرتهم والموجه لهم كما كان للماضين(١) .

ويحتمل تفسيرها أيضا بأنّ المقصود من( فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ ) أنّه لا تزال بقايا الأمم المنحرفة السابقة موجودة إلى اليوم ، ولا زالوا يعملون بطريقتهم المنحرفة ، والشيطان وليهم كما كان سابقا.

وتبيّن آخر آية من الآيات مورد البحث هدف بعث الأنبياء ، ولتؤكّد حقيقة :أنّ الأقوام والأمم لو اتبعت الأنبياء وتخلت عن أهوائها ورغباتها الشخصية لما بقي أثر لأي خرافة وانحراف ، ولزالت تناقضات الأعمال ، فتقول :( وَما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ) .

ليخرج وساوس الشيطان من قلوبهم ، ويزيل حجاب النفس الأمارة بالسوء عن الحقائق لتظهر ناصعة براقة ، ويفضح الجنايات والجرائم المختفية تحت زخرف القول ، ويمحو أيّ أثر للاختلافات الناشئة من الأهواء ، فيقضى على القساوة بنشر نور الرحمة والهداية ليعم الجميع في كل مكان.

* * *

__________________

(١) ولكن لازم هذا التّفسير وجود اختلاف في ضمير( أَعْمالَهُمْ ) وضمير( وَلِيُّهُمُ ) ، فالأوّل يعود إلى الأمم السالفة ، والثّاني إلى المشركين في صدر الإسلام. ويمكن حل هذا المشكل بتقدير جملة ، وهي ان تقول : هؤلاء يتبعون الأمم الماضية. (فتأمل).

٢٢٩

الآيات

( وَاللهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (٦٥) وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَناً خالِصاً سائِغاً لِلشَّارِبِينَ (٦٦) وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٦٧) )

التّفسير

المياه ، الثمار ، الأنعام :

مرّة أخرى ، يستعرض القرآن الكريم النعم والعطايا الإلهية الكثيرة ، تأكيدا لمسألة التوحيد ومعرفة الله ، وإشارة إلى مسألة المعاد ، وتحريكا لحس الشكر لدى العباد ليتقربوا إليه سبحانه أكثر ، ومن خلال هذا التوجيه الرّباني تتّضح علاقة الربط بين هذه الآيات وما سبقها من آيات.

فالآية الأخيرة من الآيات السابقة تناولت مسألة نزول القرآن وما فيه من حياة لروح الإنسان ، وبنفس السياق تأتي الآية الأولى من الآيات مورد البحث لتتناول نزول الأمطار وما فيها من حياة لجسم الإنسان :( وَاللهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً

٢٣٠

فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ ) .

لقد تناولت آيات قرآنية كثيرة مسألة إحياء الأرض بواسطة نزول الأمطار من السماء، فكم من أرض يابسة أو ميتة أحيانا أو أصابها الجفاف فأخرجها عن مجال الاستفادة من قبل الإنسان ، ونتيجة لما وصلت إليه من وضع قد يخيل للإنسان أنّها أرض غير منبتة أصلا ، ولا يصدّق بأنّها ستكون أرض معطاء مستقبلا ـ ولكنّ ، بتوالي سقوط المطر عليها وما يثبت عليها من أشعة الشمس ، ترى وكأنّها ميت قد تحرك حينما تدب فيه الروح من جديد ، فتسري في عروقها دماء المطر وتعادلها الحياة ، فتعمل بحيويه ونشاط وتقدم أنواع الورود والنباتات ، ومن ثمّ تتجه إليها الحشرات والطيور وأنواع الحيوانات الأخرى من كل جانب ، وبذلك تبدأ عجلة الحياة على ظهرها بالدوران من جديد.

وخلاصة المقال أنّه سيبقى الإنسان مبهوتا أمام تحول الأرض الميتة إلى مسرح جديد للحياة ، وهذا بحق من أعظم عجائب الخلقة.

وهذا المظهر من مظاهر قدرة وعظمة الخالقعزوجل يدلل بما لا يقبل الشك على إمكان المعاد ، وما ارتداء الأموات لباس الحياة الجديد إلّا أمر خاضع لقدرته سبحانه.

وإنّ نعمة الأمطار (التي لا يتحمل الإنسان أي قسط من أمر إيجادها) دليل آخر على قدرة وعظمة الخالق سبحانه.

وبعد ذكر نعمة الماء (الذي يعتبر الخطوة الأولى على طريق الحياة) يشير القرآن الكريم إلى نعمة وجود الأنعام ، وبخصوص ما يؤخذ منها من اللبن كمادة غذائية كثيرة الفائدة ، فيقول :( وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً ) .

وأية عبرة أكثر من أن :( نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَناً خالِصاً سائِغاً لِلشَّارِبِينَ ) .

«الفرث» لغة : بمعنى الأغذية المهضومة في المعدة والتي بمجرّد وصولها إلى

٢٣١

الأمعاء تزود البدن بمادتها الحياتية ، بينما يدفع الزائد منها إلى الخارج فما يهضم من غذاء داخل المعدة يسمّى «فرثا» وما يدفع إلى الخارج يسمّى (روثا).

ونعلم بأنّ جدار المعدة لا يمتص إلّا مقدارا قليلا من الغذاء (كبعض المواد السكرية) والقسم الأكبر منه ينتقل إلى الأمعاء كي يمتص الدم ما يحتاجه منه.

وكما نعلم أيضا بأنّ اللبن يترشح من غدد خاصّة داخل ثدي الإناث ، ومادته الأصلية تؤخذ من الدم والغدد الدهنية.

فهذه المادة الناصعة البياض ذات القوّة الغذائية العالية تنتج من الأغذية المهضومة المخلوطة بالفضلات ، ومن الدم.

والعجب يمكن في استخلاص هذا النتاج الخالص الرائع من عين ملوثة!

وبعد حديثه عن الأنعام وألبانها يتناول القرآن ذكر النعم النباتية ، فيقول :( وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ) .

«السكر» لغة ، له معاني مختلفة ، إلّا أنّه هنا بمعنى : المسكرات والمشروبات الكحولية (وهو المعنى المشهور من تلك المعاني).

وممّا لا يقبل الشك أنّ القرآن لا يجيز في هذه الآية صنع المسكرات من التمر والعنب أبدا ، وإنّما جاء ذكر المسكرات هنا لمقابلته ب( رِزْقاً حَسَناً ) وكإشارة صغير لتحريم الخمر ونبذه. وعلى هذا فلا حاجة للقول بأنّ هذه الآية نزلت قبل تحريم الخمر أو أنّها تشير إلى تحليله ، بل حقيقة التعبير القرآني يشير إلى التحريم ، ولعل الآية كانت تمثل الإنذار الأوّل للتحريم.

وقد تبدو العبارة وكأنّها جملة اعتراضية بين قوسين داخل الآية القرآنية.

* * *

٢٣٢

بحوث

١ ـ كيف يتكوّن اللبن؟

يقول القرآن الكريم في ذلك كما في الآيات أعلاه : إنّه يخرج من بين «فرث» ـ الأغذية المهضومة داخل المعدة ـ و «دم».

وقد أثبت ذلك فيزيولوجيا : حيث أنّه عند ما يتمّ هضم الغذاء داخل المعدة ويكون جاهزا للامتصاص ينتشر داخل المعدة والأمعاء بشكل واسع وأمام الملايين من العروق الشعيرية ، فتمتص منه العناصر المفيدة المطلوبة لتوصلها إلى تلك الشجرة ذات الجذور التي تنتهي عروقها عند عروق الثدي.

عند ما تتناول المرأة الحامل الغذاء تنتقل عصارته إلى الدم الذي يجري في عروقها حتى يصل نهاية العروق المجاورة لعروق الجنين ليتغذى الجنين بهذه الطريقة ما دام في بطن أمه ، وعند ما ينفصل عن أمّه يتحول طريق تغذيته إلى الثدي وهنا لا تستطيع الأم أن تصل دمها إلى دم ولدها ، ولذلك ينبغي تصفية الغذاء وتغيير حالته بما ينسجم والوضع الجديد للطفل ، وهنا يتكون اللبن من بين فرث ودم ، أي : من بين ما تتناوله الأم الذي يتحول إلى فرث وما ينتقل من مواده إلى الدم ليتكون منه اللبن.

فاللبن في حقيقة شيء وسط بين الفرث والدم ، فلا هو دم مصفى ولا هو غذاء مهضوم ، وهو أعلى من الثّاني ودون الأوّل!

علما بأنّ الثدي يستفيد من الحوامض الأمينية المخزونة في البدن فقط في صناعة المواد البروتينية للبن.

وثمّة مكونات أخرى للبن لا توجد في الدم وإنّما تنتجها غدد خاصّة في الثدي (كالكازوئين).

والبعض الآخر من المكونات يأتي من ترشح بلازما الدم مباشرة : ويدخل في تكوين اللبن من دون أي تغيير (كالفيتامينات وملح الطعام والفوسفات).

٢٣٣

أمّا سكر اللاكتوز الموجود في اللبن فيؤخذ من السكر الموجود في الدم بعد أن تجري عليه الغدد الخاصّة في الثدي التغييرات اللازمة لتحويله إلى نوع جديد من السكر.

ومع أنّ إنتاج اللبن يكون عن طريق جذب المواد الغذائية بواسطة الدم ، ومن خلال الارتباط المباشر بين الدم وغدد الثدي ، إلّا أنّنا لا نلاحظ أيّ أثر لرائحة الفرث أو لون الدم فيه ، بل يبدأ اللبن بالترشح من ثدي الأم بلون جديد ورائحة خاصّة به.

ومن لطيف ما ينقل عن العلماء المتخصصين أنّ إنتاج لتر واحد من اللبن في الثدي يحتاج بما لا يقل عن عبور (٥٠٠) لتر من الدم خلال الثدي ليستطيع من امتصاص المواد اللازمة لإنتاج اللبن ، كما يلزم لإنتاج لتر واحد من الدم عبور مواد غذائية كثيرة من الأمعاء وبهذا يتّضح لنا معنى( مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ ) كاملا(١) .

٢ ـ أهم ما في اللبن من مواد غذائية

اللبن مليء بالمواد الغذائية المختلفة التي تشكل مع بعضها مجموعة عذائية كاملة.

فالمواد المعدنية في اللبن ، عبارة عن : الصوديوم ، البوتاسيوم ، الكالسيوم ، المغنيسيوم، النحاس ، قليل من الحديد بالإضافة إلى الفسفور والكلور وغيرها.

ويوجد في اللبن كذلك غاز الأوكسجين وحامض الكاربونيك.

أمّا المواد السكرية فموجودة بكمية كافية على شكل (لاكتوز).

والفيتامينات المحلولة في اللبن عبارة عن : فيتامين ب ، پ ، آ ، د.

__________________

(١) مقتبس من كتابي : الكيمياء الحياتية والطبية ، وأوّل جامعة وآخر نبي ، الجزء السادس.

٢٣٤

وقد أثبت العلم الحديث أنّ الحيوان الذي يتغذى بشكل جيد يكون لبنه حاويا لكافة أنواع الفيتامينات ، وأصبح بديهيا أنّ اللبن الطازج يعتبر غذاء كاملا. ولا يمكن لنا تفصيل ذلك في هذا البحث المختصر.

ولعل ما روي عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من قوله : «ليس يجزي مكان الطعام والشراب إلّا اللبن» إشارة لهذا السبب.

ونقرأ في روايات أخرى عن اللبن أنّه يزيد في عقل الإنسان ، ويحد النظر ، ويرفع النسيان ، ويقوي القلب والظهر (كما أصبح معلوما أن هذه الآثار لها ارتباط وثيق بما في اللبن من مواد حياتية)(١) .

٣ ـ اللبن غذاء خالص وسهل الهضم

لقد أكّدت الآيات أعلاه على ميزتين مهمتين للبن ـ كونه «خالصا» ، و «سائغا» أي لذيذا وسريع الهضم ـ وكما هو المعروف عن اللبن من كونه غذاء كثير الفائدة على الرغم من قلّة حجمه. و «خالص» أي خال من المواد الزائدة وبذات الوقت فهو سهل الهضم بالشكل الذي جعل ملائما لأي إنسان وعلى مختلف الأعمار ـ منذ الطفولة حتى الشيخوخة ـ ولهذا يعتمده المرضى كغذاء ملائم ومفيد ومقبول ، وبالخصوص ما له من أثر فعال بالنسبة لنمو العظام ، ولهذا يوصى بالإكثار من تناوله في حالات كسور العظام وما شابهها.

ومن جملة معاني الخلوص هو (الربط) ، ولعل البعض اعتمد على هذا المعنى فيما جاء في التعبير القرآني «خالصا» ، واعتبارهم من كون «خالصا» إشارة إلى تأثير اللبن الخالص في بناء وربط العظام.

وكذا نجد في الإحكام الإسلامية الواردة حول الرضاعة ما يشير إلى هذا

__________________

(١) لزيادة التفصيل ، يراجع كتاب أول جامعة وآخر نبي ـ الجزء السادس.

٢٣٥

المعنى بوضوح.

ويقول الفقهاء : إنّ الطفل لو رضع من غير أمّه حتى اشتدت عظامه وزاد لحمه فإنّ مرضعته ستحرم عليه (وما يتبع ذلك في من يعود إليه النسب).

ويقولون أيضا : إن (١٥) رضاعة متوالية ، أو رضاعة يوم وليلة متصلة ، يؤدي إلى هذه الحرمة أيضا.

ولو جمعنا القولين ، ألا ينتج أن التغذية باللبن يوم وليلة لها أثر في تقوية العظام وزيادة اللحم!؟

وينبغي الالتفات إلى أن التوجيهات الإسلامية أكّدت كثيرا على لبن «اللباء» هو أو ما ينزل من اللبن بعد الولادة ، حتى لتقول بعض كتب الفقه إنّ حياة الطفل مرهونة به ، ولهذا اعتبر إعطاء الطفل من حليب اللباء واجبا(١) .

ولعل ما في الآية (٧) من سورة القصص حول موسىعليه‌السلام يتعلق بهذا الموضوع أيضا( وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِ ) .

* * *

__________________

(١) شرح اللمعة ، كتاب النكاح ، أحكام الأولاد ومنها الرضاع.

٢٣٦

الآيتان

( وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (٦٨) ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٦٩) )

التّفسير

( وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ ) !

انتقل الأسلوب القرآني بهاتين الآيتين من عرض النعم الإلهية المختلفة وبيان أسرار الخليقة إلى الحديث عن «النحل» وما يدره من منتوج (العسل) ورمز إلى ذلك الإلهام الخفي بالوحي الإلهي إلى النحل :( أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ ) .

وفي الآية المباركة جملة تعبيرات تستدعي التوقف والدقّة :

١ ـ ما هو «الوحي»

«الوحي» في الأصل (كما يقول الراغب في مفرداته) بمعنى الإشارة السريعة ،

٢٣٧

ثمّ بمعنى الإلقاء الخفي.

وقد جاءت كلمة «الوحي» في القرآن الكريم لترمز إلى عدّة أشياء ، ولكنّها بالنتيجة تعود لذلك المعنى ، منها :

وحي النّبوة : حيث نلاحظ وروده في القرآن بهذا المعنى كثيرا. كما في الآية (٥١) من سورة الشورى :( وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْياً ) .

ومنها : الوحي بمعنى «الإلهام» سواء كان الملهم منتبها لذلك (كما في الإنسان( وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِ ) (١) ، أو مع عدم انتباه الملهم كالإلهام الغريزي (كما في النحل) وهو ما ورد في الآية مورد البحث.

ومن المعروف أنّ الوحي في هذا المورد يعني الأمر الغريزي والباعث الباطني الذي أودعه الله في الكائنات الحيّة.

ومنها : أنّ الوحي بمعنى الإشارة ، كما ورد في قصّة زكريا في الآية (١١) من سورة مريم( فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا ) .

ومنها أيضا : إيصال الرسالة بشكل خفي ، كما في الآية (١١٢) من سورة الأنعام( يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً ) .

٢ ـ هل يختص الإلهام الغريزي بالنحل؟

وإذا كان وجود الغرائز (الإلهام الغريزي) غير منحصر بالنحل دون جميع الحيوانات ، فلما ذا ورد ذكره في الآية في النحل خاصّة؟

والإجابة على السؤال تتّضح من خلال المقدمة التالية : إنّ الدراسة الدقيقة التي قام بها العلماء بخصوص حياة النحل ، قد أثبتت أنّ هذه الحشرة العجيبة لها من التمدن والحياة الاجتماعية المدهشة ما يشبه لحد كبير الجانب التمدني عند

__________________

(١) القصص ، ٧.

٢٣٨

الإنسان وحياته الاجتماعية ، من عدّة جهات.

وقد توصل العلماء اليوم لاكتشاف الكثير من أسرار حياة هذه الحشرة والتي أوصلتهم بقناعة تامة إلى توحيد الخالق والإذعان لربوبيته سبحانه وتعالى.

وأشار القرآن الكريم إلى ذلك الإعجاز بكلمة «الوحي» ليبيّن أنّ حياة النحل لا تقاس بحياة الأنعام ، وليدفعنا للتعمق في عالم أسرار هذه الحشرة العجيبة ، ولنتعرف من خلالها على عظمة وقدرة خالقها ، ولعل «الوحي» هو التعبير الرمزي الذي اختصت به هذه الآية نسبة إلى الآيات السابقة.

٣ ـ المهمّة الأولى في حياة النحل :

وأوّل مهمّة أمر بها النحل في هذه الآية هي : بناء البيت ، ولعل ذلك إشارة إلى أن اتّخاذ المسكن المناسب بمثابة الشرط الأوّل للحياة ، ومن ثمّ القيام ببقية الفعاليات ، أو لعله إشارة إلى ما في بيوت النحل من دقة ومتانة ، حيث أن بناء البيوت الشمعية والسداسية الأضلاع ، والتي كانت منذ ملايين السنين وفي أماكن متعددة ومختلفة ، قد يكون أعجب حتى من عملية صنع العسل(١) .

فكيف تضع هذه المادة الشمعية الخاصة؟ وكيف تبني الخلايا السداسية بتلك الهندسة الدقيقة؟ وبيوت النحل ذات هيئة وأبعاد محسوبة بدقة فائقة وذات زوايا متساوية تماما ، ومواصفاتها تخلو من أية زيادة أو نقصان

فقد اقتضت الحكمة الربانية من جعل بيوت النحل في أفضل صورة وأحسن اختيار وأحكم طبيعة ، وسبحان الله خالق كل شيء.

__________________

(١) عرف لحد الآن (٤٥٠٠) نوعا من النحل الوحشي ، والعجيب أنّها في حال واحدة من حيث : الهجرة ، بناء الخلايا ، المكان ، تناول رحيق الأزهار ، أوّل جامعة ، الجزء الخامس.

٢٣٩

٤ ـ اين مكان النحل :

وقد عيّنت الآية المباركة مكان بناء الخلايا في الجبال ، وبين الصخور وانعطافاتها المناسبة ، وبين أغصان الأشجار ، وأحيانا في البيوت التي يصنعها لها الإنسان.

ويستفاد من تعبير الآية أن خلايا النحل يجب أن تكون في نقطة مرتفعة من الجبل أو الشجرة أو البيوت الصناعية ليستفاد منها بشكل أحسن.

ويذكر القرآن الكريم في الآية التالية المهمّة الثّانية للنحل :( ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً ) .

«الذلل» : (جمع ذلول) بمعنى التسليم والانقياد.

ووصف الطرق بالذلل لأنّها قد عينت بدقّة لتكون مسلمة ومنقادة للنحل في تنقله ، وسنشير إلى كيفية ذلك قريبا.

وأخيرا يعرض القرآن المهمّة الأخيرة للنحل (كنتيجة لما قامت به من مهام سابقة) :( يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ) في طبيعة حياتها وما تعطيه من غذاء للإنسان (فيه شفاء) ، وهو دليل على عظمة وقدرة الباريعزوجل .

* * *

بحوث

وفي الآية جملة بحوث قيمة أخرى :

١ ـ مم يتكون العسل؟

يمتص النحل بعض المواد السكرية الخاصّة الموجودة في مياسم الأوراد ، ويقول خبراء النحل : إنّ عمل النحل في واقعة لا ينحصر بأخذ المادة السكرية فقط ، بل يتعدى ذلك في بعض الأحيان للاستفادة من بعض أجزاء الورود

٢٤٠

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

ولعلّ هذه الجملة إشارة إلى القيامة الوارد ذكرها آنفا ، أو أنّها إشارة إلى القرآن ، لأنّه ورد التعبير عنه بـ «الحديث» في بعض الآيات كما في الآية ٣٤ من سورة الطور ، أو أنّ المراد من «الحديث» هو ما جاء من القصص عن هلاك الأمم السابقة أو جميع هذه المعاني.

ثمّ يقول مخاطبا :( وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ وَأَنْتُمْ سامِدُونَ ) أي في غفلة مستمرّة ولهو وتكالب على الدنيا ، مع أنّه لا مجال للضحك هنا ولا الغفلة والجهل ، بل ينبغي أن يبكى على الفرص الفائتة والطاعات المتروكة ، والمعاصي المرتكبة ، وأخيرا فلا بدّ من التوبة والرجوع إلى ظلّ الله ورحمته!

وكلمة سامدون مشتقّة من سمود على وزن جمود ـ ومعناه اللهو والانشغال ورفع الرأس للأعلى تكبّرا وغرورا ، وهي في أصل استعمالها تطلق على البعير حين يرفل في سيره ويرفع رأسه غير مكترث بمن حوله.

فهؤلاء المتكبّرون المغرورون كالحيوانات همّهم الأكل والنوم ، وهم غارقون باللذائذ جاهلون عمّا يحدق بهم من الخطر والعواقب الوخيمة والجزاء الشديد الذي سينالهم.

ويقول القرآن في آخر آية من الآيات محلّ البحث ـ وهي آخر آية من سورة النجم أيضا ـ بعد أن بيّن أبحاثا متعدّدة حول إثبات التوحيد ونفي الشرك :( فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا ) .

فإذا أردتم أن تسيروا في الصراط المستقيم والسبيل الحقّ فاسجدوا لذاته المقدّسة فحسب ، إذ لله وحده تنتهي الخطوط في عالم الوجود ، وإذا أردتم النجاة من العواقب الوخيمة التي أصابت الأمم السالفة لشركهم وكفرهم فوقعوا في قبضة عذاب الله ، فاعبدوا الله وحده.

الذي يجلب النظر ـ كما جاء في روايات متعدّدة ـ أنّ النّبي عند ما تلا هذه الآية وسمعها المؤمنون والكافرون سجدوا لها جميعا.

٢٨١

ووفقا لبعض الرّوايات أن الوحيد الذي لم يسجد لهذه الآية عند سماعها هو «الوليد بن المغيرة» [لعلّه لم يستطع أن ينحني للسجود] فأخذ قبضة من التراب ووضعها على جبهته فكان سجوده بهذه الصورة.

ولا مكان للتعجّب أن يسجد لهذه الآية حتى المشركون وعبدة الأصنام ، لأنّ لحن الآيات البليغ من جهة ، ومحتواها المؤثّر من جهة اخرى وما فيها من تهديد للمشركين من جهة ثالثة ، وتلاوة هذه الآيات على لسان النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في المرحلة الاولى من نزول الآيات عن لسان الوحي من جهة رابعة كلّ هذه الأمور كان لها دور في التأثير والنفوذ إلى القلوب حتّى أنّه لم يبق أيّ قلب إلّا اهتزّ لجلال آيات الله وألقى عنه. ستار الضلال وحجب العناد ـ ولو مؤقتا ـ ودخله نور التوحيد المشعّ!.

وإذا تلونا الآية ـ بأنفسنا ـ وأنعمنا النظر فيها بكلّ دقّة وتأمّل وحضور قلب وتصوّرنا أنفسنا أمام النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وفي جوّ نزول الآيات وبقطع النظر ـ عن اعتقادنا الإسلامي ـ نجد أنفسنا ملزمين على السجود عند تلاوتنا لهذه الآية وأنّ نحني رؤوسنا إجلالا لربّ الجلال!

وليست هذه هي المرّة الاولى التي يترك القرآن بها أثره في قلوب المنكرين ويجذبهم إليه دون اختيارهم ، إذ ورد في قصّة «الوليد بن المغيرة» أنّه لمّا سمع آيات فصّلت وبلغ النّبي (في قوله) إلى الآية :( فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ ) قام من مجلسه واهتزّ لها وجاء إلى البيت فظنّ جماعة من المشركين أنّه صبا إلى دين محمّد.

فبناء على هذا ، لا حاجة أن نقول بأنّ جماعة من الشياطين أو جماعة من المشركين الخبثاء حضروا عند النّبي ولمّا سمعوا النّبي يتلو الآية :( أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى ) بسطوا ألسنتهم وقالوا : تلك الغرانيق العلى!! ولذلك انجذب المشركون لهذه الآيات فسجدوا أيضا عند تلاوة النّبي آية السجدة!

٢٨٢

لأنّنا كما أشرنا آنفا في تفسير هذه الآيات. انّ الآيات التي تلت هذه الآيات عنّفت المشركين ولم تدع مجالا للشكّ والتردّد والخطأ لأي أحد (في مفهوم الآية) [لمزيد الإيضاح يراجع تفسير الآيتين ١٩ و٢٠ من هذه السورة].

وينبغي الالتفات أيضا إلى أنّ الآية الآنفة يجب السجود عند تلاوتها ، ولحن الآية التي جاءت مبتدئة بصيغة الأمر ـ والأمر دالّ على الوجوب ـ شاهد على هذا المعنى.

وهكذا فإنّ هذه السورة ثالثة السور الوارد فيها سجود واجب ، أي هي بعد سورة الم السجدة ، وحم السجدة وإن كان بعضهم يرى بأنّ أوّل سورة فيها سجود واجب نزلت على النّبي من الناحية التاريخية ـ هي هذه السورة.

اللهمّ أنر قلوبنا بأنوار معرفتك لئلّا نعبد سواك شيئا ولا نسجد إلّا لك.

اللهمّ إنّ مفاتيح الرحمة والخير كلّها بيد قدرتك ، فارزقنا من خير مواهبك وعطاياك ، أي رضاك يا ربّ العالمين.

اللهمّ ارزقنا بصيرة في العبر ـ لنعتبر بالأمم السالفة وعاقبة ظلمها وأن نحذر الاقتفاء على آثارهم

آمين يا ربّ العالمين.

* * *

انتهت سورة النجّم

٢٨٣
٢٨٤

سورة

القمر

مكّية

وعدد آياتها خمس وخمسون آية

٢٨٥
٢٨٦

«سورة القمر»

محتوى السورة :

تحوي هذه السّورة خصوصيات السور المكيّة التي تتناول الأبحاث الأساسيّة حول المبدأ والمعاد ، وخصوصا العقوبات التي نزلت بالأمم السالفة ، وذلك نتيجة عنادهم ولجاجتهم في طريق الكفر والظلم والفساد ممّا أدّى بها الواحدة تلو الاخرى إلى الابتلاء بالعذاب الإلهي الشديد ، وسبّب لهم الدمار العظيم.

ونلاحظ في هذه السورة تكرار قوله تعالى :( وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ ) وذلك بعد كلّ مشهد من مشاهد العذاب الذي يحلّ بالأمم لكي يكون درسا وعظة للمسلمين والكفّار.

ويمكن تلخيص أبحاث هذه السورة في عدّة أقسام هي :

١ ـ تبدأ السورة بالحديث عن قرب وقوع يوم القيامة ، وموضوع شقّ القمر ، وإصرار وعناد المخالفين في إنكار الآيات الإلهيّة.

٢ ـ والقسم الثاني يبحث بتركيز واختصار عن أوّل قوم تمرّدوا على الأوامر الإلهيّة ، وهم قوم نوح ، وكيفيّة نزول البلاء عليهم.

٣ ـ أمّا القسم الثالث فإنّه يتعرّض إلى قصّة قوم «عاد» وأليم العذاب الذي حلّ بهم.

٤ ـ وفي القسم الرابع تتحدّث الآيات عن قوم «ثمود» ومعارضتهم لنبيّهم صالحعليه‌السلام وبيان معجزة الناقة ، وأخيرا ابتلاؤهم بالصيحة السماوية.

٥ ـ تتطرّق الآيات بعد ذلك إلى الحديث عن قوم «لوط» ضمن بيان واف

٢٨٧

لانحرافهم الأخلاقي ثمّ عن السخط الإلهي عليهم وابتلائهم بالعقاب الرّباني.

٦ ـ وفي القسم السادس تركّز الآيات الكريمة ـ بصورة موجزة ـ الحديث عن آل فرعون ، وما نزل بهم من العذاب الأليم جزاء كفرهم وضلالهم.

٧ ـ وفي القسم الأخير تعرض مقارنة بين هذه الأمم ومشركي مكّة ومخالفي الرّسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمستقبل الخطير الذي ينتظر مشركي مكّة فيما إذا استمرّوا على عنادهم وإصرارهم في رفض الدعوة الإلهيّة.

وتنتهي السورة ببيان صور ومشاهد من معاقبة المشركين ، وجزاء وأجر المؤمنين والمتّقين.

وسورة القمر تتميّز آياتها بالقصر والقوّة والحركية.

وقد سمّيت هذه السورة بـ (سورة القمر) لأنّ الآية الاولى منها تتحدّث عن شقّ القمر.

فضيلة تلاوة سورة القمر :

ورد عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال :

«من قرأ سورة اقتربت الساعة في كلّ غبّ بعث يوم القيامة ووجهه على صورة القمر ليلة البدر ، ومن قرأها كلّ ليلة كان أفضل وجاء يوم القيامة ووجهه مسفر على وجوه الخلائق»(١) .

ومن الطبيعي أن تكون النورانية التي تتّسم بها هذه الوجوه تعبيرا عن الحالة الإيمانية الراسخة في قلوبهم نتيجة التأمّل والتفكّر في آيات هذه السورة المباركة والعمل بها بعيدا عن التلاوة السطحية الفارغة من التدبّر في آيات الله.

* * *

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ٩ (بداية سورة القمر).

٢٨٨

الآيات

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

( اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (١) وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ (٢) وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ (٣) )

التّفسير

شقّ القمر!!

يتناول الحديث في الآية الاولى حادثتين مهمّتين :

أحدهما : قرب وقوع يوم القيامة ، والذي يقترن بأعظم تغيير في عالم الخلق ، وبداية لحياة جديدة في عالم آخر ، ذلك العالم الذي يقصر فكرنا عن إدراكه نتيجة محدودية علمنا واستيعابنا للمعرفة الكونية.

والحادثة الثانية التي تتحدّث الآية الكريمة عنها هي معجزة انشقاق القمر العظيمة التي تدلّل على قدرة البارئعزوجل المطلقة ، وكذلك تدلّ ـ أيضا ـ على صدق دعوة الرّسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال تعالى :( اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ ) .

٢٨٩

وجدير بالذكر أنّ سورة النجم التي أنهت آياتها المباركة بالحديث عن يوم القيامة( أَزِفَتِ الْآزِفَةُ ) تستقبل آيات سورة القمر بهذا المعنى أيضا ، ممّا يؤكّد قرب وقوع اليوم الموعود رغم أنّه عند ما يقاس بالمقياس الدنيوي فقد يستغرق آلاف السنين ويتوضّح هذا المفهوم ، حينما نتصوّر مجموع عمر عالمنا هذا من جهة ، ومن جهة اخرى عند ما نقارن جميع عمر الدنيا في مقابل عمر الآخرة فانّها لا تكون سوى لحظة واحدة.

إنّ اقتران ذكر هاتين الحادثتين في الآية الكريمة : «انشقاق القمر واقتراب الساعة» دليل على قرب وقوع يوم القيامة ، كما ذكر ذلك قسم من المفسّرين حيث أنّ ظهور الرّسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ وهو آخر الأنبياء ـ قرينة على قرب وقوع اليوم المشهود قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «بعثت أنا والساعة كهاتين»(١) مشيرا إلى إصبعيه الكريمين.

ومن جهة اخرى ، فإنّ انشقاق القمر دليل على إمكانية اضطراب النظام الكوني ، ونموذج مصغّر للحوادث العظيمة التي تسبق وقوع يوم القيامة في هذا العالم ، حيث اندثار الكواكب والنجوم والأرض يعني حدوث عالم جديد ، استنادا إلى الرّوايات المشهورة التي ادّعى البعض تواترها.

قال ابن عبّاس : اجتمع المشركون إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقالوا : إن كنت صادقا فشقّ لنا القمر فلقتين ، فقال لهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إن فعلت تؤمنون؟» قالوا : نعم ، وكانت ليلة بدر فسأل رسول الله ربّه أن يعطيه ما قالوا ، فانشقّ القمر فلقتين ورسول الله ينادي : «يا فلان يا فلان ، اشهدوا»(٢) .

ولعلّ التساؤل يثار هنا عن كيفية حصول هذه الظاهرة الكونية : (انشقاق هذا الجرم السماوي العظيم) وعن مدى تأثيره على الكرة الأرضية والمنظومة

__________________

(١) تفسير الفخر الرازي ، ج ٢٩ ، ص ٢٩.

(٢) ذكر في مجمع البيان وكتب تفسير اخرى في هامش تفسير الآية مورد البحث.

٢٩٠

الشمسية ، وكذلك عن طبيعة القوّة الجاذبة التي أعادت فلقتي القمر إلى وضعهما السابق ، وعن كيفيّة حصول مثل هذا الحدث؟ ولماذا لم يتطرّق التاريخ إلى ذكر شيء عنه؟ بالإضافة إلى مجموعة تساؤلات اخرى حول هذا الموضوع والتي سنجيب عليها بصورة تفصيليّة في هذا البحث إن شاء الله.

والنقطة الجديرة بالذكر هنا أنّ بعض المفسّرين الذين تأثّروا بوجهات نظر غير سليمة ، وأنكروا كلّ معجزة لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عدا القرآن الكريم ، عند ما التفتوا إلى وضوح الآية الكريمة محلّ البحث والرّوايات الكثيرة التي وردت في كتب علماء الإسلام في هذا المجال ، واجهوا عناءا في توجيه هذه المعجزة الربّانية ، وحاولوا نفي الظاهرة الإعجازية لهذا الحادث

والحقيقة أنّ مسألة «انشقاق القمر» كانت معجزة ، والآيات اللاحقة تحمل الدلائل الواضحة على صحّة هذا الأمر كما سنرى ذلك إن شاء الله.

لقد كان جديرا بهؤلاء أن يصحّحوا وجهات نظرهم تلك ، ليعلموا أنّ للرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم معجزات عديدة أيضا.

وإذا أريد الاستفادة من الآيات القرآنية لنفي المعجزات فإنّها تنفي المعجزات المقترحة من قبل المشركين المعاندين الذين لم يقصدوا قبول دعوة الحقّ من أوّل الأمر ولم يستجيبوا للرسول الأكرم بعد إنجاز المعجز ، لكن المعجزات التي تطلب من الرّسول من أجل الاطمئنان إلى الحقّ والإيمان به كانت تنجز من قبله ، ولدينا دلائل عديدة على هذا الأمر في تأريخ حياة الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

يقول سبحانه :( وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ ) .

والمراد من قوله تعالى «مستمر» أنّهم شاهدوا من الرّسول الكريمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم معجزات عديدة ، وشقّ القمر هو استمرار لهذه المعاجز ، وأنّهم كانوا يبرّرون إعراضهم عن الإيمان وعدم الاستسلام لدعوة الحقّ وذلك بقولهم : إنّ هذه المعاجز كانت «سحر مستمر».

٢٩١

وهنالك بعض المفسّرين من فسّر «مستمر» بمعنى «قوي» كما قالوا : (حبل مرير) أي : محكم ، والبعض فسّرها بمعنى : الطارئ وغير الثابت ، ولكن التّفسير الأنسب هو التّفسير الأوّل.

أمّا قوله تعالى :( وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ ) فإنّه يشير إلى سبب مخالفتهم وعنادهم وسوء العاقبة التي تنتظرهم نتيجة لهذا الإصرار.

إنّ مصدر خلاف هؤلاء وتكذيبهم للرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو تكذيب معاجزه ودلائله ، وكذلك تكذيب يوم القيامة ، هو اتّباع هوى النفس.

إنّ حالة التعصّب والعناد وحبّ الذات لم تسمح لهم بالاستسلام للحقّ ، ومن جهة اخرى فإنّ المشركين ركنوا للملذّات الرخيصة بعيدا عن ضوابط المسؤولية ، وذلك إشباعا لرغباتهم وشهواتهم ، وكذلك فإنّ تلوّث نفوسهم بالآثام حال دون استجابتهم لدعوة الحقّ ، لأنّ قبول هذه الدعوة يفرض عليهم التزامات ومسئوليات الإيمان والاستجابة للتكاليف

نعم إنّ هوى النفس كان وسيبقى السبب الرئيسي في إبعاد الناس عن مسير الحقّ

وبالنسبة لقوله تعالى :( وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ ) ، يعني أنّ كلّ إنسان يجازى بعمله وفعله ، فالصالحون سيكون مستقرّهم صالحا ، والأشرار سيكون مستقرّهم الشرّ.

ويحتمل أن يكون المراد في هذا التعبير هو أنّ كلّ شيء في هذا العالم لا يفنى ولا يزول ، فالأعمال الصالحة أو السيّئة تبقى مع الإنسان حتّى يرى جزاء ما فعل.

ويحتمل أن يكون تفسير الآية السابقة أنّ الأكاذيب والاتّهامات لا تقوى على الاستمرار الأبدي في إطفاء نور الحقّ والتكتّم عليه ، حيث إنّ كلّ شيء (خير أو شرّ) يسير بالاتّجاه الذي يصبّ في المكان الملائم له ، حيث إنّ الحقّ سيظهر وجهه الناصح مهما حاول المغرضون إطفاءه ، كما أنّ وجه الباطل القبيح سيظهر قبحه كذلك ، وهذه سنّة إلهيّة في عالم الوجود.

٢٩٢

وهذه التفاسير لا تتنافى فيما بينها ، حيث يمكن جمعها في مفهوم هذه الآية الكريمة.

* * *

بحوث

١ ـ شقّ القمر معجزة كبيرة للرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومع ذلك فإنّ بعض الأشخاص السطحيين يصرّون على إخراج هذا الحادث من حالة الإعجاز ، حيث قالوا : إنّ الآية الكريمة تحدّثنا فقط عن المستقبل وعن أشراط الساعة ، وهي الحوادث التي تسبق وقوع يوم القيامة

لقد غاب عن هؤلاء أنّ الأدلّة العديدة الموجودة في الآية تؤكّد على حدوث هذه المعجزة ، ومن ضمنها ذكر الفعل (انشقّ) بصيغة الماضي ، وهذا يعني أنّ (أشقّ القمر) شيء قد حدث كما أنّ قرب وقوع يوم القيامة قد تحقّق ، وذلك بظهور آخر الأنبياء محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

بالإضافة إلى ذلك ، إن لم تكن الآية قد تحدّثت عن وقوع معجزة ، فلا يوجد أي تناسب أو انسجام بينها وبين ما ورد في الآية اللاحقة حول افترائهم على الرّسول بأنّه (ساحر) وكذلك قوله :( وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ ) والتي تخبر الآية هنا عن تكذيبهم للرسالة والرّسول ومعاجزه.

إضافة إلى ذلك فإنّ الرّوايات العديدة المذكورة في الكتب الإسلامية ، والتي بلغت حدّ التواتر نقلت وقوع هذه المعجزة ، وبذلك أصبحت غير قابلة للإنكار.

ونشير هنا إلى روايتين منها :

الاولى : أوردها الفخر الرازي أحد المفسّرين السنّة ، والاخرى للعلّامة الطبرسي أحد المفسّرين الشيعة.

يقول الفخر الرازي : «والمفسّرون بأسرهم على أنّ المراد أنّ القمر انشقّ

٢٩٣

وحصل فيه الإنشقاق ، ودلّت الأخبار على حديث الإنشقاق ، وفي الصحيح خبر مشهور رواه جمع من الصحابة والقرآن أدلّ دليل وأقوى مثبت له وإمكانه لا يشكّ فيه ، وقد أخبر عنه الصادق فيجب إعتقاد وقوعه»(١) .

أمّا عن نظرية بطليموس والقائلة بأنّ (الأفلاك السماوية ليس بإمكانها أن تنفصل أو تلتئم) فإنّها باطلة وليس لها أي أساس أو سند علمي ، حيث إنّه ثبت من خلال الأدلّة العقليّة أنّ انفصال الكواكب في السماء أمر ممكن.

ويقول العلّامة الطبرسي في (مجمع البيان) : لقد أجمع المفسّرون والمحدّثون سوى عطاء والحسين والبلخي الذين ذكرهم ذكرا عابرا ، أنّ معجزة شقّ القمر كانت في زمن الرّسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

ونقل أنّ حذيفة ـ وهو أحد الصحابة المعروفين ـ ذكر قصّة شقّ القمر في جمع غفير في مسجد المدائن ولم يعترض عليه أحد من الحاضرين ، مع العلم أنّ كثيرا منهم قد عاصر زمن الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (ونقل هذا الحديث في هامش الآية المذكورة في الدرّ المنثور والقرطبي).

وممّا تقدّم يتّضح جيّدا أنّ مسألة شقّ القمر أمر غير قابل للإنكار ، سواء من الآية نفسها والقرائن الموجودة فيها ، أو من خلال الأحاديث والرّوايات ، أو أقوال المفسّرين ، ومن الطبيعي أن تطرح أسئلة اخرى حول الموضوع سنجيب عنها إن شاء الله فيما بعد.

٢ ـ مسألة شقّ القمر والعلم الحديث :

السؤال المهمّ المطروح في هذا البحث هو : هل أنّ الأجرام السماوية يمكنها أن تنفصل وتنشقّ؟ وما موقف العلم الحديث من ذلك؟

__________________

(١) التّفسير الكبير ، الفخر الرازي ، ج ٢٩ ، ص ٢٨ ، أوّل سورة القمر.

٢٩٤

وللإجابة على هذا السؤال وبناء على النتائج التي توصّل إليها العلماء الفلكيون ، فإنّ مثل هذا الأمر في نظرهم ليس بدرجة من التعقيد بحيث يستحيل تصوّره إنّ الاكتشافات العلمية التي توصّل إليها الباحثون تؤكّد أنّ مثل هذه الحوادث مضافا إلى أنّها ليست مستحيلة فقد لوحظت نماذج عديدة من هذا القبيل ولعدّة مرّات مع اختلاف العوامل المؤثّرة في كلّ حالة.

وبعبارة اخرى : فقد لوحظ أنّ مجموعة انفجارات وانشقاقات قد وقعت في المنظومة الشمسية ، بل في سائر الأجرام السماوية.

ويمكن ذكر بعض النماذج كشواهد على هذه الظواهر

أ ـ ظهور المنظومة الشمسية :

إنّ هذه النظرية المقبولة لدى جميع العلماء تقول : إنّ جميع كرات المنظومة الشمسية كانت في الأصل جزءا من الشمس ثمّ انفصلت عنها ، حيث أصبحت كلّ واحدة منها تدور في مدارها الخاصّ بها غاية الأمر هناك كلام في السبب لهذا الانفصال

يعتقد (لا پلاس) أنّ العامل المسبّب لانفصال القطع الصغيرة من الشمس هي : (القوّة الطاردة) التي توجد في المنطقة الإستوائية لها ، حيث أنّ الشمس كانت تعتبر ولحدّ الآن كتلة ملتهبة ، وضمن دورانها حول نفسها فإنّ السرعة الموجودة في المنطقة الإستوائية لها تسبّب تناثر بعض القطع منها في الفضاء ممّا يجعل هذه القطع تدور حول مركزها الأصلي (الشمس).

ولكن العلماء الذين جاءوا بعد (لا پلاس) توصّلوا من خلال تحقيقاتهم إلى فرضية اخرى تقول : إنّ السبب الأساس لحدوث الانفصال في الأجرام السماوية عن الشمس هو حالة المدّ والجزر الشديدين التي حدثت على سطح الشمس نتيجة عبور نجمة عظيمة بالقرب منها.

٢٩٥

الأشخاص المؤيّدون لهذه النظرية الذين يرون أنّ الحركة الوضعية للشمس في ذلك الوقت لا تستطيع أن تعطي الجواب الشافعي لأسباب هذا الانفصال ، قالوا : إنّ حالة المدّ والجزر الحاصلة في الشمس أحدثت أمواجا عظيمة على سطحها. كما في سقوط حجر كبير في مياه المحيط ، وبسبب ذلك تناثرت قطع من الشمس الواحدة تلو الاخرى إلى الخارج ، ودارت ضمن مدار الكرة الامّ (الشمس).

وعلى كلّ حال فإنّ العامل المسبّب لهذا الانفصال أيّا كان لا يمنعنا من الإعتقاد أنّ ظهور المنظومة الشمسية كان عن طريق الإنشقاق والانفصال.

ب ـ (الأستروئيدات):

الأستروئيدات : هي قطع من الصخور السماوية العظيمة تدور حول المنظومة الشمسية ، ويطلق عليها في بعض الأحيان بـ (الكرات الصغيرة) و (شبه الكواكب السيارة) يبلغ قطر كبراها (٢٥) كم ، لكن الغالبية منها أصغر من ذلك.

ويعتقد العلماء أنّ «الأستروئيدات» هي بقايا كوكب عظيم كان يدور في مدار بين مداري المريخ والمشتري تعرّض إلى عوامل غير واضحة ممّا أدّى إلى انفجاره وتناثره.

لقد ثمّ اكتشاف ومشاهدة أكثر من خمسة آلاف من (الأستروئيدات) لحدّ الآن ، وقد تمّ تسمية عدد كثير من هذه القطع الكبيرة ، وتمّ حساب حجمها ومقدار ومدّة حركتها حول الشمس ، ويعلّق علماء الفضاء أهميّة بالغه على الأستروئيدات ، حيث يعتقدون أنّ بالإمكان الاستفادة منها في بعض الأحيان كمحطّات للسفر إلى المناطق الفضائية النائية.

كان هذا نموذج آخر لانشقاق الأجرام السماوية.

٢٩٦

ج ـ الشهب :

الشهب : أحجار سماوية صغيرة جدّا ، حتّى أنّ البعض منها لا يتجاوز حجم (البندقة) ، وهي تسير بسرعة فائقة في مدار خاصّ حول الشمس وقد يتقاطع مسيرها مع مدار الأرض أحيانا فتنجذب إلى الأرض ، ونظرا لسرعتها الخاطفة التي تتميّز بها ـ تصطدم بشدّة مع الهواء المحيط بالأرض ، فترتفع درجة حرارتها بشدّة فتشتعل وتتبيّن لنا كخطّ مضيء وهّاج بين طبقات الجوّ ويسمّى بالشهاب.

وأحيانا نتصوّر أنّ كلّ واحدة منها تمثّل نجمة نائية في حالة سقوط ، إلّا أنّها في الحقيقة عبارة عن شهاب صغير مشتعل على مسافة قريبة يتحوّل فيما بعد إلى رماد.

ويلتقي مداري الشهب والكرة الأرضية في نقطتين هما نقطتا تقاطع المدارين وذلك في شهري (آب وكانون الثاني) حيث يصبح بالإمكان رؤية الشهب بصورة أكثر في هذين الشهرين.

ويقول العلماء : إنّ الشهب هي بقايا نجمة مذنّبة انفجرت وتناثرت أجزاؤها بسبب جملة عوامل غير واضحة وهذا نموذج آخر من الإنشقاق في الأجرام السماوية.

وعلى كلّ حال ، فإنّ الإنفجار والإنشقاق في الكرات السماوية ليس بالأمر الجديد ، وليس بالأمر المستحيل من الناحية العلمية ، ومن هنا فلا معنى حينئذ للقول بأنّ الإعجاز لا يمكن أن يتعلّق بالحال.

هذا كلّه عن مسألة الإنشقاق.

أمّا موضوع رجوع القطعتين المنفصلتين إلى وضعهما الطبيعي السابق تحت تأثير قوى الجاذبية التي تربط القطعتين فهو الآخر أمر ممكن.

ورغم أنّ الإعتقاد السائد قديما في علم الهيئة القديم طبق نظرية (بطليموس) واعتقاده بالأفلاك التسعة التي هي بمثابة قشور البصل في تركيبها ـ الواحدة على

٢٩٧

الاخرى ـ فأيّ جسم لا يستطيع أن يخترقها صعودا أو نزولا ، ولذلك فانّ أتباع هذه النظرية ينكرون المعراج الجسماني واختراقه للأفلاك التسعد ، كما أنّه لا يمكن وفقا لهذه النظريات انشقاق القمر ، ومن ثمّ التئامه ، ولذلك أنكروا مسألة شقّ القمر ، ولكن اليوم أصبحت فرضية (بطليموس) أقرب للخيال والأساطير منها للواقع ، ولم يبق أثر للأفلاك التسعة ، وأصبحت الأجواء لا تساعد لتقبّل مثل هذه الآراء.

وغني عن القول أنّ ظاهرة شقّ القمر كانت معجزة ، ولذا فإنّها لم تتأثّر بعامل طبيعي اعتيادي ، والشيء الذي يراد توضيحه هنا هو بيان إمكانية هذه الحادثة ، لأنّ المعجزة لا تتعلّق بالأمر المحال.

٣ ـ شقّ القمر تاريخيّا :

لقد طرح البعض من غير المطّلعين إشكالا آخر على مسألة شقّ القمر ، حيث ذكروا أنّ مسألة شقّ القمر لها أهميّة بالغة ، فإذا كانت حقيقيّة فلما ذا لم تذكر في كتب التأريخ؟

ومن أجل أن تتوضّح أهميّة هذا الإشكال لا بدّ من الإلمام والدراسة الدقيقة لمختلف جوانب هذا الموضوع ، وهو كما يلي :

أ ـ يجب الالتفات إلى أنّ القمر يرى في نصف الكرة الأرضية فقط ، وليس في جميعها ، ولذا فلا بدّ من إسقاط نصف مجموع سكّان الكرة الأرضية من إمكانية رؤية حادثة شقّ القمر وقت حصولها.

ب ـ وفي نصف الكرة الأرضية التي يرى فيها القمر فإنّ أكثر الناس في حالة سبات وذلك لحدوث هذه الظاهرة بعد منتصف الليل.

ج ـ ليس هنالك ما يمنع من أن تكون الغيوم قد حجبت قسما كبيرا من السماء ، وبذلك يتعذّر رؤية القمر لسكّان تلك المناطق.

٢٩٨

د ـ إنّ الحوادث السماوية التي تلفت انتباه الناس تكون غالبا مصحوبة بصوت أو عتمة كما في الصاعقة التي تقترن بصوت شديد أو الخسوف والكسوف الكليين الذي يقترن كلّ منها بانعدام الضوء تقريبا ولمدّة طويلة.

لذلك فإنّ الحالات التي يكون فيها الخسوف جزئيا أو خفيفا نلاحظ أنّ الغالبية من الناس لم تحط به علما ، اللهمّ إلّا عن طريق التنبيه المسبق عنه من قبل المنجّمين ، بل يحدث أحيانا خسوف كلّي وقسم كبير من الناس لا يعلمون به.

لذا فإنّ علماء الفلك الذين يقومون بر صد الكواكب أو الأشخاص الذين يتّفق وقوع نظرهم في السماء وقت الحادث هم الذين يطّلعون على هذا الأمر ويخبرون الآخرين به.

وبناء على هذا ونظرا لقصر مدّة المعجزة (شقّ القمر) فلن يكون بالمقدور أن تلفت الأنظار إليها على الصعيد العالمي ، خصوصا وأنّ غالبية الناس في ذلك الوقت لم تكن مهتّمة بمتابعة الأجرام السماوية.

ه ـ وبالإضافة إلى ذلك فإنّ الوسائل المستخدمة في تثبيت نشر الحوادث التأريخية في ذلك الوقت ، ومحدودية الطبقة المتعلّمة ، وكذلك طبيعة الكتب الخطيّة التي لم تكن بصورة كافية كما هو الحال في هذا العصر حيث تنشر الحوادث المهمّة بسرعة فائقة بمختلف الوسائل الإعلامية في كلّ أنحاء العالم عن طريق الإذاعة والتلفزيون والصحف كلّ هذه الأمور لا بدّ من أخذها بنظر الإعتبار في محدودية الاطلاع على حادثة (شقّ القمر).

ومع ملاحظة هذا الأمر والأمور الاخرى السابقة فلا عجب أبدا من عدم تثبيت هذه الحادثة في التواريخ غير الإسلامية ، ولا يمكن اعتبار ذلك دليلا على نفيها.

٢٩٩

٤ ـ تأريخ وقوع هذه المعجزة :

من الواضح أنّه لا خلاف بين المفسّرين ورواة الحديث حول حدوث ظاهرة شقّ القمر في مكّة وقبل هجرة الرّسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لكن الذي يستفاد من بعض الرّوايات هو أنّ حدوث هذا الأمر كان في بداية بعثة الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (١) . في حين يستفاد من البعض الآخر أنّ حدوث هذا الأمر قد وقع قرب هجرة الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وفي آخر عهده بمكّة ، وكان استجابة لطلب جماعة قدموا من المدينة لمعرفة الحقّ وأتباعه ، إذ أنّهم بعد رؤيتهم لهذه المعجزة آمنوا وبايعوا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في العقبة(٢) .

ونقرأ في بعض الرّوايات أيضا أنّ سبب اقتراح شقّ القمر كان من أجل المزيد من الاطمئنان بمعاجز الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأنّها لم تكن سحرا لأنّ السحر عادة يكون في الأمور الأرضية(٣) . ومع ذلك فإنّ قسما من المتعصّبين والمعاندين لم يؤمنوا برغم مشاهدتهم لهذا الإعجاز ، وتتعلّلوا بأنّهم ينتظرون قوافل الشام واليمن ، فإنّ أيّدوا هذا الحادث ورؤيتهم له آمنوا ومع إخبار المسافرين لهم بذلك ، إلّا أنّهم بقوا مصرّين على الكفر رافضين للإيمان(٤) .

والنقطة الأخيرة الجديرة بالذكر أنّ هذه المعجزة العظيمة والكثير من المعاجز الاخرى ذكرت في التواريخ والرّوايات الضعيفة مقترنة ببعض الخرافات والأساطير ، ممّا أدّى إلى حصول تشويش في أذهان العلماء بشأنها ، كما في نزول قطعة من القمر إلى الأرض. لذا فإنّ من الضروري فصل هذه الخرافات وعزلها بدقّة وغربلة الصحيح من غيره ، حتّى تبقى الحقائق بعيدة عن التشويش ومحتفظة بمقوّماتها الموضوعية.

* * *

__________________

(١) بحار الأنوار ، ج ١٧ ، ص ٣٥٤ حديث (٨).

(٢) بحار الأنوار ، ج ١٧ ، ص ٣٥٢ حديث (١).

(٣) بحار الأنوار ، ج ١٧ ، ص ٣٥٥ حديث (١٠).

(٤) الدرّ المنثور ، ج ٦ ، ص ١٢٣.

٣٠٠

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496