الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٨

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل16%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 496

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 496 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 231511 / تحميل: 7122
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٨

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

وهذه النظرية اختارها ابن البطريق (ت ٥٣٣ ـ ٦٠٠ هـ)(١) ، ووافقه عليها غيره .

وإذا ثبت أنّ معنى المولى هو الأولى بالشيء ، يكون ذلك هو المراد من آية الولاية ؛ لأنّه المعنى الوحداني والأصل للفظ الولي ، وتختلف الموارد بحسبها ، فيكون مفاد آية الولاية مفاد قوله تعالى :( النّبِيّ أَوْلَى‏ بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ ) (٢) ، الأولى بالتصرّف ، ويشهد لذلك ما نقله ابن منظور في لسان العرب ، عن ابن الأثر قوله : ( وكأن الولاية تشعر بالتدبير والقدرة والفعل ، وما لم يجتمع ذلك فيها لم ينطلق عليه اسم الوالي )(٣) ، وقريب من هذا المعنى ما ذكره بعض اللغويين في معاجمهم اللغوية .

الاستدلال على المستوى القرآني :

إنّ الآية المباركة :( إِنّمَا وَلِيّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالّذِينَ آمَنُوا ) تضمّنت دلالات وافرة لإثبات المطلوب ، ومراعاة للاختصار نكتفي بالإشارة المفهمة لبعض منها :

١ – إنّ صيغة التعبير في الآية الشريفة جعلت الولاية بمعنى واحد ، حيث قال :( إِنّمَا وَلِيّكُمُ اللهُ و ) فلو كانت ولاية الله تعالى تختلف عن ولاية( الّذِينَ آمَنُوا الّذِينَ يُقِيمُونَ الصّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ ) لكان الأنسب في التعبير أن تفرد بالذكر ولاية أخرى للمؤمنين ؛ لكي تحول

ـــــــــــــ

(١) عمدة عيون الأخبار ، ابن البطريق : ص ١١٤ ـ ١١٥ .

(٢) الأحزاب : ٦ .

(٣) لسان العرب : ابن منظور : ج ١٥ ص ٤٠٧ ؛ النهاية في غريب الحديث ، ابن الأثير : ج ٥ ص ٢٢٧ .

٦١

دون وقوع الالتباس ، نظير قوله تعالى :( قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ ) (١) ، فكرّر لفظ الإيمان في الموضعين ؛ بسبب تكرّر معنى الإيمان وتغايره فيهما .

إذن لابد أن تكون الولاية في الآية المباركة بمعنى واحد في جميع الموارد التي ذكرت فيها ، وهي الأصالة لله تعالى ، وبالتبع لرسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وللذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون .

وولاية الله تعالى في الآية المباركة ولاية عامّة وشاملة لولاية التصرف ، والتدبير ، والنصرة وغيرها ، قال تعالى حكاية عن نبيّه يوسفعليه‌السلام :( أنت وليّي في الدّنيا والآخرة ) (٢) ، وقال عزّ وجلّ :( فَمَا لَهُ مِن وَلِيّ مِن بَعْدِهِ ) (٣) ، وغيرها من الآيات الدالة على ذلك .

٢ ـ إنّ الولاية التي هي بالأصل لله عزّ وجلّ جعلها لنبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالتبع ، فلرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الولاية العامّة على الأمة ، من الحكم فيهم ، والقضاء في جميع شؤونهم ، وعلى الأمة التسليم والطاعة المطلقة بلا ضيق أو حرج ، كما في قوله تعالى :( أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرّسُولَ ) (٤) ، وقوله تعالى :( وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ) (٥) .

خصوصاً وإنّنا لا نجد القرآن يعدّ النبي ناصراً للمؤمنين ولا في آية واحدة .

ـــــــــــــ

(١) التوبة : ٦١ .

(٢) يوسف : ١٠١ .

(٣) الشورى : ٤٤ .

(٤) النساء : ٥٩ .

(٥) الأحزاب : ٣٦ .

٦٢

وهذا المعنى من الولاية الثابتة لله تعالى ورسوله ، عُطفت عليه ولاية :( الذين آمنوا ) ، وهذا يعني أنّ الولاية في الجميع واحدة ؛ لوحدة السياق وهي ثابتة لله عزّ وجلّ بالأصالة ، ولرسوله وللذين آمنوا بالتبع والتفضّل والامتنان .

إذن الولاية الثابتة في الآية لعليعليه‌السلام هي ولاية التصرّف ، وإنّ معنى الولي في الآية تعني الأولى بالتصرّف ، وممّا يؤكّد ذلك مجيء لفظ ( وليّكم ) مفرداً ونسب إلى الجميع بمعنى واحد ، والوجه الذي ذكره المفسّرون لذلك هو أنّ الولاية ذات معنى واحد ، لله تعالى أصالة ولغيره بالتبع .

الاستدلال على المستوى الروائي :

هناك عدّة من القرائن والشواهد الروائية لإثبات المطلوب :

أوّلاً : لو كانت الولاية الثابتة لعلي بن أبي طالبعليه‌السلام بمعنى النصرة ، لما وجد فيها مزيد عناية ومزيّة ومدح لعليعليه‌السلام ؛ لأنّها موجودة بين جميع المؤمنين :( وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضَهُمْ أَولِياءُ بَعْضٍ ) (١) ، وعليعليه‌السلام كان متصفاً بهذه المحبّة والنصرة للمؤمنين منذ أن رضع ثدي الإيمان مع صنوه المصطفىصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

ولكن لو أمعنّا النظر في الروايات الواردة عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عقيب

ـــــــــــــ

(١) التوبة : ٧١ .

٦٣

نزول آية الولاية ، لوجدنا أنها تثبت مويّة ومنقبة عظيمة لعليعليه‌السلام ، ففي الرواية أنّ الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال بعد نزول الآية :( الحمد لله الذي أتمّ لعلي نعمه ، وهيّأ لعلي بفضل الله إيّاه ) (١) .

وقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد نزول الآية أيضاً :( مَن كنت مولاه فعلي مولاه ، اللّهمّ والِ مَن والاه وعاد مَن عاداه ) (٢) ، إذاً في الآية الكريمة مزيد عناية تفترق عن تولّي المؤمنين بعضهم لبعض ، وليس تلك المزيّة العظيمة إلاّ ولاية التصرّف والإمرة .

ثانياً : إنّ الولاية التي خصّها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعليعليه‌السلام يوم غدير خم ، هي ولاية تدبير وتصرّف ؛ لأنّها نفس ولاية النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهذا ما نلمسه من كيفية إعلان الولاية من قِبلهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، حيث قال :( ألست أولى بكم من أنفسكم ) ، وهذه الولاية ـ التي هي ولاية تصرّف ـ هي نفسها الولاية التي تثبتها الآية الشريفة :( إنّما وليّكم ... ) لعليعليه‌السلام .

من هنا نجد أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عقّب ـ بعد نزول آية الولاية في حقّ عليعليه‌السلام ـ بقوله :( مَن كنت مولاه فعلي مولاه اللّهم والِ مَن والاه وعاد مَن عاداه ) ،

ـــــــــــــ

(١) الدر المنثور ، السيوطي : ج ٣ ص ١٠٦ .

(٢) مسند أحمد : ج ١ ص ٨٤ ، ص ١١٨ ، ص ١١٩ ، ص ١٥٢ ، ص ٣٣١ ، ج ٤ ص ٢٨١ ، ص ٣٧٠ ، ص ٣٧٢ ، ج ٥ ص ٣٤٧ ، ص ٣٦٦ ، ص ٣٧٠ ، سنن ابن ماجه : ج ١ ، ص ٤٣ ح ١١٦ ؛ الترمذي : ج ٥ ص ٢٩٧ ؛ المستدرك ، الحاكم النيسابوري : ج ٣ ص ١٠٩ ـ ١١٦ ، ص ١٣٤ ، ص ٣٧١ ، ص ٥٣٣ ؛ مجمع الزوائد ، الهيثمي : ج ٧ ص ١٧ ، ج ٩ ص ١٠٤ ـ ص ١٠٨ ص ١٦٤ ؛ وقال فيه : ( عن سعيد بن وهب رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح ) ؛ فتح الباري : ج ٧ ص ٦١؛ وقال فيه : ( فقد أخرجه الترمذي والنسائي وهو كثير الطرق جداً ، وقد استوعبها ابن عقدة في كتاب مفرد ، وكثير من أسانيدها صحاح وحسان ) ؛ صحيح ابن حبان : ج ١٥ ص ٣٧٦ وما بعد ، وغير ذلك من المصادر الكثيرة جداً ؛ فراجع .

٦٤

وهذا يكشف عن كون الولاية ولاية تصرّف ، لا سيّما إذا أخذنا بنظر الاعتبار ذلك الحشد المتنوع من الروايات الذي يؤكّد على علي بن أبي طالبعليه‌السلام ، ويقرن طاعته بطاعة الله ورسوله ، كل ذلك يكشف عن أن ولايتهعليه‌السلام هي ولاية التصرّف ، وأنّه الأولى بالتصرّف ؛ لذا قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حق عليعليه‌السلام :( مَن أطاعني فقد أطاع الله ، ومَن عصاني فقد عصى الله ، ومَن أطاعك فقد أطاعني ، ومَن عصاك فقد عصاني ) ، قال الحاكم : هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه(١) .

وعنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال :( مَن يريد أن يحيا حياتي ويموت موتي ويسكن جنّة الخلد التي وعدني ربّي ؛ فليتولّ علي بن أبي طالب فإنّه لن يخرجكم من هدى ولن يدخلكم في ضلالة ) ، قال الحاكم أيضاً : هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه(٢) .

وعن عبد الرحمان بن عثمان قال : سمعت جابر بن عبد الله يقول : سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو آخذ بضبع علي بن أبي طالب ، وهو يقول : (هذا أمير البررة ، قاتل الفجرة ، منصور مَن نصره مخذول مَن خذله ، ثم مدّ بها صوته ) ، قال الحاكم : هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه(٣) .

وغيرها الكثير من الروايات التي تشاركها بالمضمون ذاته .

ثالثاً : إنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم طلب من الله تعالى أن يشدّ عضده بأخيه

ـــــــــــــ

(١) المستدرك على الصحيحين ، الحاكم النيسابوري : ج٣ ص ١٢٨ ، تاريخ مدينة دمشق : ابن عساكر : ٤٢ : ص ٣٠٧ .

(٢) المستدرك على الصحيحين ، الحاكم النيسابوري : ج ٣ ص ١٢٨ ـ ١٢٩ .

(٣) المستدرك على الصحيحين ، الحاكم النيسابوري : ج ٣ ص ١٢٩ .

٦٥

عليعليه‌السلام ، كما شدّ الله تعالى عضد موسىعليه‌السلام بأخيه هارونعليه‌السلام ، فنزلت الآية :( إنّما وليّكم ) بشرى لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، بجعل عليعليه‌السلام وليّاً وخليفة من بعده ، وهذا يدلل على أنّ الولاية لعليعليه‌السلام لم تكن مجرّد نصرة ومحبّة ، بل كانت ولاية أولوية بالأمر بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، كما هو الحال في هارونعليه‌السلام ، باعتبار أولويته بالأمر والإمرة بعد موسىعليه‌السلام ، عندما خلّفه في قومه .

رابعاً : احتجاج أمير المؤمنينعليه‌السلام على أولويته بالأمر بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بآية الولاية ، حيث قالعليه‌السلام مخاطباً لجمع من الصحابة في مسجد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( أنشدكم الله : أتعلمون حيث نزلت : ( يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ ) ، وحيث نزلت : ( إِنّمَا وَلِيّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالّذِينَ آمَنُوا الّذِينَ يُقِيمُونَ الصّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ ) ، وحيث نزلت : ( وَلَمْ يَتّخِذُوا مِن دُونِ اللهِ وَلاَ رَسُولِهِ وَلاَ الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً ) ، قال الناس : يا رسول الله : أخاصّة في بعض المؤمنين ، أم عامة لجميعهم ؟ فأمر الله عزّ وجل نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يعلمهم ولاة أمرهم ، وأن يفسّر لهم من الولاية ما فسّر لهم من صلاتهم ، وزكاتهم ، وحجّهم ، فنصبني للناس بغدير خم ) (١) وهذا يكشف عن كون المراد بالآية هو الأولى .

وبذلك يتحصّل أنّ معنى الولي هو الأولى بالتصرّف ، وأنّ الآية بصدد جعل الولاية لعليعليه‌السلام بعد الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

ـــــــــــــ

(١) المناقب ، ابن المغازلي الشافعي : ص ٢٢٢ ، فرائد السمطين : ج ١ ص ٣١٢ ، ينابيع المودّة للقندوزي : ج ١ ص ٣٤٦ ، شواهد التنزيل ، الحسكاني : ج ٢ ص ٢٩٥ ، فرائد السمطين : ج ١ ص ٣١٢ .

٦٦

كيف تستدلّ الشيعة بشأن النزول ؟

الشبهة :

الشيعة يستدلّون بشأن نزول آية الولاية على الإمامة ؟

الجواب :

بعد أن أطبقت الأمّة وأجمع المحدّثون والمفسّرون على نزول الآية المباركة في الإمام عليعليه‌السلام مع صراحة الآية في إثبات الولاية ، ومباركة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للإمام عليعليه‌السلام بقوله :( الحمد لله الذي أتمّ لعلي النعمة ) ، لا يبقى أي مجال لمثل هذه التشكيكات والشبهات ، سواء كان الاستدلال بالآية استدلالاً مباشراً ، أم كان عن طريق شأن النزول ، الذي هو عبارة عن الأحاديث المتواترة والصحيحة والصريحة عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم التي أمرنا الله تعالى بالتمسّك بها بقوله :( وَمَا آتَاكُمُ الرّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا ) (١) ، وعليه فلا ينبغي التهاون والتقليل من شأن هذه الأحاديث القطعيّة ، كما يظهر ذلك من كلام صاحب الشبهة .

ويمكن أن نحقق استيعاباً جيداً لمسألة ولاية علي بن أبي طالبعليه‌السلام ؛ وذلك من خلال الآيات القرآنية والنصوص النبوية التي تعرّضت لبيان هذا المعنى ، فضلاً عمّا أشاعته آية الولاية من مناخ سائد حيال هذه المسألة ، من تقديم التهاني والتبريكات من قِبل الصحابة إلى عليعليه‌السلام الصحابة وإنشاد الشعر والمديح بهذه المناسبة العظيمة ، وهذا يكفي لسدّ كل منافذ الريب والتشكيك ، ومعالجة ما يطرأ على الأذهان من التباسات .

ـــــــــــــ

(١) الحشر : ٧ .

٦٧

الخلاصة

لا مجال لمثل هذه التشكيكات ، بعد أن أجمعت الأمة على نزول الآية في شأن عليعليه‌السلام ، وسواء كان الاستدلال بالآية ذاتها أم من طريق شأن النزول الثابت قطعاً كونه بخصوص عليعليه‌السلام فهو يثبت المطلوب ، ولا معنى للإصغاء لمثل هذه الأوهام .

المعروف أنّ عليّاً فقير فكيف يتصدّق ؟

الشبهة :

إنّ علياً كان فقيراً فكيف يتصدّق بالخاتم إيتاءً للزكاة ؟

الجواب :

ما أكثر المدّعيات التي تُرفع من دون أي دليل ولا برهان يدعمها ، ومن أغرب المدّعيات التي تُثار للتشكيك في صحّة نزول آية الولاية في الإمام عليعليه‌السلام هذا الإشكال الآنف الذكر ، إلا أنّنا توخّياً لدرء مثل هذه التشكيكات التي تطرأ على بعض الأذهان نقول :

أوّلاً : إنّ لفظ الزكاة لغةً شامل لكل إنفاق لوجه الله تعالى ، ونلمس هذا المعنى في عدّة من الآيات المباركة ، وكقوله تعالى:( وَأَوْصَانِي بِالصّلاَةِ وَالزّكَاةِ مَادُمْتُ حَيّاً ) (١) ، وكذا ما قاله القرآن بحق إبراهيم وإسحاق ويعقوبعليهم‌السلام :( وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصّلاَةِ وَإِيتَاءَ الزّكَاةِ ) (٢) ، وغيرها من الآيات التي تشاركها في المضمون ، ومن المعلوم أنّه ليس في شرائعهمعليهم‌السلام الزكاة المالية المصطلحة في الإسلام .

ـــــــــــــ

(١) مريم : ٣١ .

(٢) الأنبياء : ٧٣ .

٦٨

ومن هنا فقد استعمل القرآن لفظ الزكاة في الآية الشريفة بمعناها اللغوي الشامل لكل إنفاق لوجه الله تعالى أي الزكاة المستحبّة ( زكاة تطوّع ) ؛ ولذا نرى أنّ الجصاص ـ في أحكام القرآن ـ فهم أنّ المراد بالزكاة في الآية ، هي زكاة التطوّع ، حيث قال : ( قوله تعالى :( وَيُؤْتُونَ الزّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ ) ، يدلّ على أنّ صدقة التطوّع تسمّى زكاة ؛ لأنّ عليّاً تصدّق بخاتمه تطوّعاً ، وهو نظير قوله تعالى :( وَما آتَيْتُم مِن زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ ) (١) .

ثانياً : لو فرضنا أنّ المراد من الزكاة في الآية هي الزكاة الواجبة ، فليس من الغريب أن يمتلك الإمام عليعليه‌السلام أوّل نصاب من مال الزكاة وهو مقدار (٢٠٠ درهم) ، ومَن ملك ذلك لا يعدّ غنيّاً ، ولا يُطلق عليه اسم الغني شرعاً .

ثالثاً : بعد أن ثبت نزول الآية في الإمام عليعليه‌السلام بإجماع الأمة واتفاق المفسّرين والمحدّثين ، ولم ينكر أحد على الإمام عليعليه‌السلام تصدّقه بالخاتم ، وإنّما الكل فهم المزيّة والكرامة لهعليه‌السلام لا يبقى أي مجال للإنكار والتشكيك .

ومن هنا نلاحظ أنّ الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بادر المباركة للإمام عليعليه‌السلام عقيب نزول الآية الكريمة ، وقام الشعراء بإنشاء القصائد الطافحة بالمديح والثناء على الإمام عليعليه‌السلام ، كل ذلك نتيجة طبيعية للمناخ الذي أشاعته الآية في أوساط المسلمين ، من إثبات الولاية للإمام عليعليه‌السلام ، فإذا ثبت نزول الآية في الإمام عليعليه‌السلام بالدلائل والبيّنات القاطعة لا معنى للاستنكار والتشكيك ، خصوصاً وأنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حمد الله على هذه النعمة التي اتمّها لعليعليه‌السلام ، وبارك الصحابة بأقوالهم وأشعارهم للإمام عليعليه‌السلام تلك المنقبة .

ـــــــــــــ

(١) أحكام القرآن ، الجصاص : ج ٢ ص ٥٥٨ .

٦٩

الخلاصة

١ – إنّ لفظ الزكاة شامل لكلّ إنفاق لوجه الله تعالى واستعملها القرآن بذلك .

٢ ـ لو سلّمنا أنّ لفظ الزكاة في الآية استعمل في الزكاة الواجبة التي هي أقلّ نصابها ٢٠٠ درهم ، فإنّ مَن يملك هذا المبلغ لا يُعدّ غنيّاً شرعاً .

٣ – قام الإجماع على نزول آية الولاية في حق الإمام عليعليه‌السلام ، ولم ينكر أحد آنذاك ما استنكره صاحب الشبهة ، بل أنشد الشعر والمديح والثناء على الإمام عليعليه‌السلام ، مع مباركة الصحابة .

آية البلاغ تدلّ على أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يبلّغ سابقاً

الشبهة :

إنّ استدلال الشيعة بآية البلاغ على الإمامة يبطل كل الاستدلالات السابقة التي يستدلّون بها ؛ لأنّ آية البلاغ مدنية ، فتدل على أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يبلّغ سابقاً .

الجواب :

أوّلاً : لابد أن نفهم كيفية تعاطي الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مع المفاهيم والمبادئ الإسلامية المهمّة التي تمثّل الأساس في منظومة الدين الإسلامي ، والتي ينبغي التأكيد عليها من قِبلهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أكثر من غيرها ، ومن جملة المفاهيم الأساسية هي الإمامة ، حيث نلمس غاية الانسجام ومنتهى الملائمة بين جميع البيانات السابقة لإثبات الإمامة والتنصيص عليها ، فكل تلك المواقف والبيانات كانت تتناسب مع خطورة وأهميّة مبدأ كمبدأ الإمامة والولاية بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فلابد من تأسيسه وتشييد أركانه وجعله وعياً إسلامياً عاماً ، وآية البلاغ جاءت ضمن ذلك السياق وتلك الخلفية ، فهي نزلت في ذلك الظرف لتحمل في طيّاتها العديد من الأمور المهمّة التي تتعلّق بحقيقة الإمامة ، منها :

٧٠

١ ـ أنّها جاءت لتصرّح بقضية مهمة جداً ، وهي أنّ ترك تنصيب علي بن أبي طالبعليه‌السلام للولاية مساوق لترك تبليغ الرسالة بأكملها ، وهذا ما يتجلّى واضحاً عند التأمّل في الآية :( وَإِن لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النّاسِ ) (١) ، وعلى ضوء ذلك تعرف السر في نزول هذه الآية المباركة في أواخر حياة الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، حيث تكشف عن أهمية الإمامة والولاية في المنظومة الدينية ، ومن هذا المنطلق يظهر لك سبب ذلك الحشد المتنوّع من النصوص القرآنية والروائية التي تؤكّد على ضرورة وأهمية موقع الإمامة في الإسلام بأجمعه ؛ ذلك لكي ينطلق الإسلام في قيادة جديدة تكون في جميع مجالاتها وآفاقها امتداداً للقيادة النبوية ، لتبقى المسيرة مستمرة والرسالة محفوظة .

وممّا يؤكّد أهمية الإمامة والولاية هو ما نجده واضحاً في أقوال الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد تبليغ مقام الولاية وتعيين الولي للناس ، حيث قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( فليبلّغ الشاهد الغائب ) (٢) ، فإنّ اهتمامهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الشديد في إيصال خطابه الشريف إلى جميع المسلمين يكشف عن خطورة الأمر ، وأنّه ممّا تتوقّف عليه ديمومة الإسلام .

بالإضافة إلى ما يكتنف الآية المباركة من القرائن الحالية الكثيرة والواضحة الدالة على أهمية هذا الأمر ، وتأثيره المباشر على مسيرة الإسلام ، كنزولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حرّ الهجير والسماء صافية ، والمسلمون واقفون على الحصباء والرمضاء التي كادت تتوقّد من حرارة الشمس ، حتى أنّه نقل الرواة من حفّاظ الحديث وأئمّة التاريخ أنّه لشدّة الحر وضع بعض الناس ثوبه على رأسه ، وبعضهم استظلّ بمركبه ، وبعضهم استظلّ بالصخور ، ونحو ذلك .

ـــــــــــــ

(١) المائدة : ٦٧ .

(٢) كما جاء ذلك في أكثر المصادر الروائية والتفسيرية التي نقلت حديث الغدير ، وقد ذكر ابن حجر أنها (قد بلغت التواتر) ، لسان الميزان ، ابن حجر العسقلاني : ج ١ ص ٣ .

٧١

وكذلك أمرهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم برجوع مَن تقدّم ، وتقدّم مَن تأخّر .

مضافاً إلى حضور ذلك الجمع الغفير من الصحابة والمسلمين الذين حضروا لأداء مناسك الحج من سائر أطراف البلاد الإسلامية ، وغير ذلك من الأمور التي تدل على خطورة الأمر وأهميته .

٢ ـ إنّ آية البلاغ التي بلّغها الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في أواخر حياته ، جاءت تحمل في طيّاتها الإشارة إلى قضية مهمة جداً في الدين الإسلامي ، وهي تحديد معالم أطروحة الإمامة في الإسلام ، مؤكّدة على أنّ الإمامة شاملة لكل الأبعاد القيادية السياسية منها والحكومية والمرجعية وغيرها ، وأنّ منصب الخلافة والحكومة يمثّل أحد أبعاد الإمامة ، وهذا هو موضع النزاع مع أتباع مدرسة الخلفاء ، حيث إنّهم يختزلون دور الإمام في الحاكمية فقط ، فإذا لم يستلم الحكومة لا يكون إماماً ، على خلاف معتقد الشيعة الإمامية الاثني عشرية ، التي تعتقد أنّ منصب الحاكمية يمثّل أحد أبعاد الإمامة لا جميعها .

٣ ـ إنّ آية البلاغ جاء تبليغها بصيغة الإعلان الرسمي للولاية والإمامة والتتويج العام للإمام عليعليه‌السلام أمام المسلمين ، ويشهد لذلك كيفية التبليغ ، حيث جمع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الناس وأمر أن يردّ مَن تقدم منهم ومَن تأخّر عنهم في ذلك المكان ، وجمعت لهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أقتاب الإبل وارتقاها آخذاً بيد أخيه عليعليه‌السلام معمّماً له أمام الملأ صادعاً بإبلاغ الولاية ، ثم إنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم طلب بنفسه البيعة من الناس لعليعليه‌السلام ، وبادر الناس لبيعتهعليه‌السلام وسلّموا عليه بإمرة

٧٢

المؤمنين ، وهنّأوا النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعليّاًعليه‌السلام ، وأوّل مَن تقدّم بالتهنئة والبخبخة ، أبو بكر ثم عمر بن الخطاب وعثمان و...(١) ، وقد روى الطبري في كتابه الولاية بإسناده عن زيد بن أرقم أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال :( قولوا أعطيناك على ذلك عهداً من أنفسنا ، وميثاقاً بألسنتنا ، وصفقة بأيدينا ، نؤدّيه إلى أولادنا وأهلنا لا نبتغي بذلك بدلا ) (٢) .

ثم استئذان حسان بن ثابت من الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لنظم أبيات في الواقعة تدل على أنّه لم يفهم من الحديث غير معنى الخلافة والولاية .

وكذلك يؤكّد كل ما قلناه احتجاج أمير المؤمنين عليعليه‌السلام بحديث الغدير في مواضع عديدة ، حيث كان يحتج على أولئك الذين تركوا وصيّة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقولهعليه‌السلام : (أنشدكم بالله أمنكم مَن نصّبه رسول الله يوم غدير خُم للولاية غيري ؟ قالوا : اللهم ، لا ) ، وفي موضع آخر ( قال :أنشدكم بالله هل فيكم أحد قال له رسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مَن كنت مولاه ، فعلي مولاه ، اللّهمّ والِ مَن والاه وعاد مَن عاداه ، وانصر مَن نصره ، ليبلغ الشاهد الغائب ، غيري ؟ قالوا : اللّهمّ ، لا )(٣) .

ـــــــــــــ

(١) مسند أحمد : ج ٤ ص ٢٨١ ؛ المعيار والموازنة ، الإسكافي : ص ٢١٢ ؛ المعجم الكبير ، الطبراني : ج ٥ ص ٢٠٣ ؛ فيض القدير شرح الجامع الصغير : ج ٦ ص ٢٨٢ ح ١٢٠ ؛ تذكرة الخواص ، ابن الجوزي : ص ٣٦ ؛ نظم درر السمطين : ص ١٠٩ ؛ كنز العمال ، المتقي الهندي : ج ١٣ ص ١٣٤ ؛ شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ج ٥ ص ٨ ؛ المصنف لابن أبي شيبة الكوفي : ج ٧ ص ٥٠٣ ؛ شواهد التنزيل : الحاكم الحسكاني : ج ١ ص ٢٠٠ ؛ ثمار القلوب : ص ٦٣٧ ؛ وغيرها .

(٢) كتاب الولاية : محمد بن جرير الطبري : ص ٢١٤ ـ ٢١٦ .

(٣) انظر : مسند أحمد : ج ١ ص ٨٤ ؛ ج ٤ ص ٣٧٠ ؛ ج ٥ ص ٣٧٠ ؛ مجمع الزوائد ، الهيثمي : ج ٩ ص ١٠٤ ، ص ١٠٧ ؛ المصنف ، أبي شيبة الكوفي : ج ٧ ص ٤٩٩ ؛ كتاب السنّة : عمرو بن أبي عاصم : ص ٥٩١ ، ص ٥٩٣ ؛ خصائص أمير المؤمنين ، النسائي : ص ٩٦ ؛ مسند أبي يعلى : ج ١ ص ٤٢٨ ـ ٤٢٩ ح ٥٦٧ ؛ ج ١١ ص ٣٠٧ ح ٦٤٢٣ ؛ المعجم الصغير : الطبراني : ج ١ ص ٦٤ ـ ٦٥ ؛ المعجم الأوسط : ج ٢ ص ٣٢٤ ؛ المعجم الكبير : ج ٥ ص ١٧١ ؛ كنز العمال ، المتقي الهندي : ج ١١ ص ٣٣٢ ؛ الصواعق المحرقة ، ابن حجر الهيتمي : ص ١٩٥ ؛ وغيرها .

٧٣

٤ ـ لم يكتف الله تبارك وتعالى بكل البيانات السابقة من النبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتى أنزل في ولاية عليعليه‌السلام تلك الآيات الكريمة تتلى على مرّ الأجيال بكرةً وعشيّاً ؛ ليكون المسلمون على ذكر من هذه القضية في كل حين ، وليعرفوا رشدهم والمرجع الذي يجب عليهم أن يأخذوا عنه معالم دينهم ويتبعوه في قيادته .

٥ ـ لو اقتصر في تبليغ الإمامة على تلك البيانات الخاصة للرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمقتصرة على حضور بعض الصحابة ؛ لضاعت وأصبحت روايات ضعافاً ، ولما وصلت إلينا بشكل واضح ومتواتر كما جاءتنا آيات وروايات البلاغ ؛ وذلك بسبب منع تدوين حديث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في عهد الخلفاء ، ولتولّي بني أمية وأعداء أهل البيتعليه‌السلام تدوين الحديث فيما بعد .

الخلاصة

أوّلاً : إنّ تعاطي القرآن الكريم والرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مع المفاهيم الأساسية في الإسلام ـ كالإمامة ـ يختلف عن غيرها من المفاهيم الأخرى ؛ ولذا نجد أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أكّد عليها مراراً وشيّد أركانها ، مستثمراً كل مناسبة يمكن استثمارها في ذلك ، ومن هنا نلتمس أسباب كثرة البيانات والتصريحات المتكرّرة من الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؛ وذلك لكي يكون الاهتمام والتبليغ متناسباً مع أهمية ذلك الأمر ؛ ولذا نرى الانسجام والملائمة بين التبليغات النبوية ، والآيات القرآنية الواردة في هذا الصدد ، وبالخصوص آية البلاغ التي جاءت ضمن الاهتمامات القرآنية بمسألة الإمامة ، وقد حملت آية البلاغ العديد من المعطيات المهمة في مسألة الإمامة ، منها:

١ ـ إنّ الآية المباركة جاءت لتبيّن أنّ ترك تنصيب الإمام عليعليه‌السلام للولاية مساوق لترك تبليغ الرسالة بأجمعها ، كما هو واضح من قوله تعالى :( وَإِن لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلّغْتَ رِسَالَتَهُ ... ) وممّا يؤكّد أهمية هذا التبليغ للإمامة ملاحظة الظروف التي رافقت عملية التبليغ من شدّة الحرّ ، وأمر الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم برجوع المتقدّم ولحوق المتأخّر ، والجمع الغفير الذي حضرها ، كل ذلك يدل على أهمية الأمر وخطورته .

٧٤

٢ ـ إنّ تبليغ الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للآية في أواخر حياته جاء مؤكّداً على بيان أطروحة الإمامة في الإسلام ، وأنّها شاملة لكل الأبعاد القيادية السياسية والدينية والحقوقية والقضائية ، وأنّ منصب الخلافة والحكومة يمثّل أحد أبعاد الإمامة ، وهذا هو محل النزاع بين السنّة والشيعة ، حيث إنّ السنّة يختزلون دور الإمام في الحاكمية فقط .

٣ ـ إنّ آية البلاغ جاءت بصيغة الإعلان الرسمي لولاية الإمام عليعليه‌السلام كما هو واضح من خلال عملية التنصيب وطريقته ومباركة الصحابة له بالولاية وإنشاء الشعر ونحوها ، وكذلك احتجاجهعليه‌السلام بحديث الغدير في مناسبات عديدة على أحقّيّتهعليه‌السلام في الخلافة .

ثانياً : إنّ الله تعالى لم يقتصر على أمر الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالتبليغ لولاية الإمام عليعليه‌السلام ، بل هنالك عدّة من الآيات جاءت مؤكّدة لتلك الولاية لتتلى بكرةً وعشياً على مرّ الأجيال ، وتكون شاهدة وحجّة عليهم .

ثالثاً : لو اقتصر في تبليغ الولاية على البيانات الخاصة المقتصرة على حضور بعض الصحابة ، سوف يُعرّضها ذلك للضياع ، لا سيّما مع ملاحظة منع تدوين السنّة ، أو تكون من الأخبار الضعاف ، ولذا كان تبليغها في واقعة الغدير كفيلاً بأن يجعلها تصل إلى حدّ التواتر وإجماع المسلمين ، الذي لا يمكن تجاوزه .

لا وجود لاسم علي في القرآن

الشبهة :

إنّ القرآن الكريم لم ينص على إمامة عليعليهم‌السلام وإلاّ لذكر اسمه فيه .

٧٥

تمهيد:

لكي تكون الإجابة واضحة لابد من الالتفات إلى نقطتين أساسيتين ، هما :

الأُولى : القرآن تبيان لكل شيء

لا ريب أن القرآن هو الكتاب المنزل لهداية الناس فيه تبيان كل شيء ، والسنّة النبوية مفصّلة ومبيّنة له ، قال تعالى :( وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذّكْرَ لِتُبَيّنَ لِلنّاسِ مَا نُزّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلّهُمْ يَتَفَكّرُونَ ) (١) ، فأحدهما مكمّل للآخر ، والإسلام كلّه ، من عقائد وأحكام وسائر علومه وأُصوله موجود في القرآن الكريم ، أمّا شرحه وتفسيره وتجسيده ، فنجده في سنّة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من خلال حديثه وسيرته المباركة ؛ ولذا نجد أنّ الله تعالى قرن طاعته بطاعة رسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، كما في قوله تعالى :( يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ ) (٢) ، وقوله عزّ وجلّ :( يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَوَلّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ ) (٣) ، وكذلك قرن معصية الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بمعصيته تعالى ، حيث

ـــــــــــــ

(١) النحل : ٤٤ .

(٢) النساء : ٥٩ .

(٣) الأنفال : ٢٠ .

٧٦

قال :( وَمَن يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَإِنّ لَهُ نَارَ جَهَنّمَ خَالِدِينَ فَيهَا أَبَداً ) (١) ، وقوله تعالى :( فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنّي بَرِي‏ءٌ مّمّا تَعْمَلُونَ ) (٢) ، وقال تعالى أيضاً :( فَلاَ وَرَبّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتّى‏ يُحَكّمُوكَ فِيَما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمّا قَضَيْتَ وَيُسَلّمُوا تَسْلِيماً ) (٣) ، وغيرها من الآيات الكريمة .

الثانية : يجب اتباع ما أمر به الله ورسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

إنّ الله تعالى لم يجعل الخيرة للمؤمنين فيما يقضي الله ورسوله به ، كما في قوله تعالى :( وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلّ ضَلاَلاً مّبِيناً ) (٤) ، وبيّن الله تعالى أنّ الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حجّة على الخلق في قوله وفعله ، وأنّ الله جعله إماماً يقتدى به ، فقال تعالى :( وَمَا آتَاكُمُ الرّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا ) (٥) ، وقال أيضاً :( وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاّ وَحْيٌ يُوحَى ) (٦) ، وهذه مفردة مهمة جداً يجب الالتفات إليها جيداً .

وهناك روايات كثيرة متضافرة تؤكّد وتحث على الأخذ بسنّة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وتنهى عن الإعراض عن سنّتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والاكتفاء بالقرآن وحده ، وكان ذلك رائجاً ومعرفاً في أقوال الصحابة وتعاملهم ، من ذلك ما ورد في صحيح البخاري عن علقمة ، عن عبد الله قال : ( لعن الله الواشمات

ـــــــــــــ

(١) الجن : ٢٣ .

(٢) الشعراء : ٢١٦ .

(٣) النساء : ٦٥ .

(٤) الأحزاب : ٣٦ .

(٥) الحشر : ٧ .

(٦) النجم : ٣ ـ ٤ .

٧٧

الموتشمات والمتنمصات والمتفلجات للحسن ، المغيّرات خلق الله ، فبلغ ذلك امرأة من بني أسد يقال لها : أم يعقوب ، فجاءت فقالت : إنّه بلغني أنّك لعنت كيت وكيت ، فقال : ومالي لا ألعن مَن لعن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومَن هو في كتاب الله ، فقالت : لقد قرأت ما بين اللوحين فما وجدت فيه ما تقول ، قال : لئن كنت قرأتيه لقد وجدتيه ، أما قرأت :( وَمَا آتَاكُمُ الرّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا ) (١) ؟ قالت : بلى ، قال : فإنّه قد نهى عنه )(٢) ، وكذا وردت هذه الرواية بنصها في صحيح مسلم(٣) .

ومن الروايات التي وردت عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في هذا المجال ، ما جاء في سنن أبي داود والترمذي وابن ماجه ، ومسند أحمد عن أبي عبد الله بن أبي رافع عن أبيه أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال :( لا ألفين أحدكم متكئاً على أريكته يأتيه الأمر من أمري ممّا أمرت به أو نهيت عنه فيقول : لا ندري ، ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه ) (٤) ، وفي مسند أحمد بلفظ( ما أجد هذا في كتاب الله ) (٥) .

ومنها ما ورد في مسند أحمد أيضاً ، عن أبي هريرة قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( لا أعرفنّ أحداً منكم أتاه عنّي حديث وهو متكئ في أريكته ،

ـــــــــــــ

(١) الحشر : ٧ .

(٢) صحيح البخاري : ج ٣ ص ٢٨٤ ح ٤٨٨٦ .

(٣) صحيح مسلم : ج ٣ ص ١٦٧٨ ح ٢١٢٥ باب تحريم فعال الواصلة والمستوصلة .

(٤) انظر : سنن أبي داود السجستاني ، باب لزوم السنّة : ج ٤ ص ٢٠٥ ح ٤٦٠٥ ؛ سنن الترمذي : ج ٤ ص ١٤٤ ح ٢٨٠١ ، كتاب العلم ؛ باب ما نهى عنه ؛ سنن ابن ماجه ، المقدّمة : ج ١ ص ٦ ـ ٧ ، باب تعظيم حديث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والتغليظ على مَن عارضه .

(٥) مسند أحمد : ج ٦ ص ٨ .

٧٨

فيقول : أتلوا عليّ به قرآناً ) (١) ، وقال حسان بن ثابت ، كما في مقدّمة الدارمي : ( كان جبريل ينزل على النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالسنّة كما ينزل عليه بالقرآن )(٢) ، إلى غير ذلك من الروايات والأقوال ، وإنّما هذه نبذة عمّا ورد في الحثّ على الأخذ بسنّة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والنهي عن مخالفته والتشديد على مَن يهمل السنّة بحجة الاكتفاء بكتاب الله .

وعلى هذا الأساس يتضح أنّ جميع أحكام الإسلام موجودة في القرآن الكريم ، إلاّ أنّه لا يمكن معرفة تفاصيلها والوقوف على حقائقها من دون الرجوع إلى سنّة الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فإنّنا في إقامة الصلاة ـ مثلاً ـ لا نعرف كيف نصلّي من دون أن نأخذ من حديث الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كيفيّتها وشروطها وعدد ركعاتها وسجداتها وأذكارها ومبطلاتها ، وكذلك في الحج ، حيث لا يمكن أداء مناسكه من دون الرجوع إلى سنّتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واستيضاح شروطه وواجباته ومواقيته وأشواط الطواف وصلاته ، وتفاصيل السعي والتقصير وسائر مناسك الحج الأخرى .

إذن لابدّ من الرجوع إلى القرآن والسنّة النبوية معاً لأخذ تعاليم الإسلام منهما ، أمّا مَن أراد الاكتفاء بالقرآن وحده دون السنّة ، فأدنى ما نقول بحقّه : إنّه جاهل بما ورد في القرآن نفسه ، الذي يدعو لإطاعة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ( وَمَا آتَاكُمُ الرّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا ) (٣) ، وقد قال الألباني في هذا المجال : ( فحذار أيّها المسلم أن تحاول فهم القرآن مستقلاً

ـــــــــــــ

(١) مسند أحمد : ج ٢ ص ٣٦٧ ؛ سنن ابن ماجه ، المقدمة : ج ١ ص ٩ ـ ١٠ ح ٢١ ، باب تعظيم حديث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والتغليظ على مَن عارضه .

(٢) سنن الدارمي ، المقدّمة : ج ١ ص ١٤٥ ، باب السنّة قاضية على كتاب الله .

(٣) الحشر : ٧ .

٧٩

عن السنّة ، فإنّك لن تستطيع ذلك ولو كنت في اللغة سيبويه زمانك )(١) ، فمقولة حسبنا كتاب الله مقولة مخالفة لصريح القرآن الكريم .

الجواب :

بعد تلك الإطلالة السريعة نقول لصاحب الشبهة بأنّ عدم ذكر اسم عليعليه‌السلام صريحاً في القرآن يرجع إلى الأسباب التالية :

أوّلاً : عدم ذكر الاسم لحكمة إلهيّة

إنّ عدم ذكر اسم علي في القرآن لعلّه لحكمة إلهية خفيت علينا ، إذ ما قيمة عقولنا كي تحيط بكل جوانب الحكم والمصالح الإلهية ، فكم من الأمور التي قد خفيت أو أُخفيت علينا مصالحها ، قال تعالى :( يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا لاَ تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ ) (٢) ، والاعتراض على حكم الله تعالى خلاف التسليم والخضوع لأمره عزّ وجلّ .

ثانياً : الرسول الأكرم نصّ على إمامة عليعليه‌السلام

إنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد نصّ على إمامة علي أمير المؤمنينعليه‌السلام باسمه الصريح كما في حديث الغدير المتواتر ، وحديث الدار ، وحديث المنزلة ، وغيرها في مواطن كثيرة جداً ، فإذا ثبت هذا بشكل قاطع عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو القرآن الناطق الذي لا ينطق عن الهوى ، وقد أقام الحجّة علينا بأنّ الإمام بعده عليعليه‌السلام تثبت إمامته بلا ريب ، وإذا لم يذكر القرآن اسم عليّ

ـــــــــــــ

(١) صفة صلاة النبي ، الألباني : ص ١٧١ .

(٢) المائدة : ١٠١ .

٨٠

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

فقال رسول الله وهو يمسح دموعه : «لو لا أن سبقت رحمة الله غضبه لعجل الله لك العذاب»(١) .

وكذلك ما روي في (قيس بن عاصم) أحد أشرف ورؤساء قبيلة بني تميم في الجاهلية، وقد أسلم عند ظهور النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، جاء يوما إلى النّبي وقال له : أنّ آباءنا كانوا يدفنون بناتهم أحياء ، وقد دفنت أنا (١٢) بنتا ، وعند ما ولدت لي زوجتي البنت الثّالثة عشر أخفت أمرها وادّعت أنّها ماتت عند الولادة ، ثمّ أودعتها آخرين ، وعند ما علمت بذلك بعد مدّة ، أخذتها إلى مكان بعيد ودفنتها حيّة دون أن أعتني ببكائها وتضرعها.

فتأذى النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من ذلك فقال ودموعه جارية : «من لا يرحم لا يرحم» ثمّ التفت إلى قيس وقال : «إنّ لك يوما سيئا» ، فقال قيس : ما أفعل لتكفير ذنبي؟ فقال النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «حرر من العبيد بعدد ما وأدت»(٢) .

وروي أيضا أن (صعصعة بن ناجية) جد الفرزدق الشاعر المعروف ، وكان رجلا شريفا حرّا فقيل : إنّه كان في الجاهلية يحارب الكثير من العادات القبيحة حتى أنّه اشترى (٣٦٠) بنتا من آبائهن كي ينقذهن من القتل ، وقد أعطى يوما دابته مع بعيرين لأب كان يريد قتل ابنته.

وقال له الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ذات مرّة (في ما معناه): ما أحسن ما صنعت وأجرك عند الله.

وقال الفرزدق فخرا بعمل جده :

ومنّا الذي منع الوائدات

فأحيا الوئيد فلم توئد(٣)

وسنرى كيف أنّ الإسلام قد أصم تلك الفواجع العظام ، واعتبر للمرأة مكانة ما كانت تحظى بها من قبل على مر العصور.

__________________

(١) القرآن يواكب الدهر ، ج ٢ ، ص ٣١٤ (مضمونا).

(٢) الجاهلية والإسلام ، ص ٦٣٢.

(٣) قاموس الرجال ، ج ٥ ، ص ١٢٥ (مضمونا).

٢٢١

٣ ـ دور الإسلام في إعادة اعتبار المرأة :

لم يكن احتقار المرأة مختصا بعرب الجاهلية ، فلم تلق المرأة أدنى درجات الاحترام والتقدير حتى في أكثر الأمم تمدنا في ذلك الزمان ، وكانت المرأة غالبا ما يتعامل معها باعتبارها بضاعة وليست إنسانا محترما ، ولكنّ عرب الجاهلية جسدوا تحقير المرأة بأشكال أكثر قباحة ووحشية من غيرهم ، حتى أنّهم ما كانوا يدخلونهن في الأنساب كما نقرأ ذلك في الشعر الجاهلي المعروف :

بنونا بنوءابائنا وبناتنا

بنوهن أبناء الرجال الأباعد

وكانوا أيضا لا يورثون النساء ، ولم يجعلوا لتعدد الزوجات حدّا ، وعملية الزواج أو الطلاق أسهل من شربة الماء عندهم.

وعند ما ظهر الإسلام حارب بشدّة هذه المهانة من كافة أبعادها ، وبالخصوص مسألة اعتبار ولادة البنت عارا ، حتى وردت الرّوايات الكثيرة التي تؤكّد على أنّ البنت باب من أبواب رحمة الله للعائلة.

وأولى النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ابنته فاطمة الزهراءعليها‌السلام من الاحترام ما جعل الناس في عجب من أمره ، حيث كانصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مع ما يحظى به من شرف ومقام ، كان يقبل يد الزهراءعليها‌السلام ، وعند ما يعود من السفر يذهب إليها قبل أي أحد. وعند ما يريد السفر كان بيت فاطمة الزهراءعليها‌السلام آخر بيت يودّعه.

وحينما أخبر بولادة الزهراءعليها‌السلام ، رأى الانقباض في وجوه أصحابه فقال على الفور: «ما لكم! ريحانة أشمها ، ورزقها على اللهعزوجل »(١) .

وفي حديث أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «نعم الولد البنات ملطفات ، مجهزات ، مؤنسات ، مفليات»(٢) .

وفي حديث آخر : «من دخل السوق فاشترى تحفة فحملها إلى عياله كان كحامل الصدقة إلى قوم محاويج ، وليبدأ بالإناث قبل الذكور ، فإنّه من فرّح ابنته

__________________

(١) وسائل الشيعة ، ج ١٥ ص ١٠٢.

(٢) وسائل الشيعة ، ج ١٥ ، ص ١٠٠.

٢٢٢

فكأنّما أعتق رقبة من ولد إسماعيل»(١) .

فالاحترام الذي أولاه الإسلام للمرأة قد أعاد لها شخصيتها الضائعة بين حولك الجاهلية ، وحررها من العادات البالية ، وأنهى عصر تحقيرها.

وإن كان غور هذا الموضوع يستلزم التفصيل فستنطرق إلى ذلك في تفسيرنا للآيات المناسبة له ، ولكنّ ما يحز في النفوس ولا يمكن السكوت عنه ما يشاهد في كثير من مجتمعاتنا الإسلامية من آثار لنفس ذلك التوجه الجاهلي الموبوء ، فإلى الآن نرى الكثير من العوائل تفرح وتسر عند ما يأتيها مولود ذكر ، وتتأسف وتتأفف عند ما تكون المولودة بنتا! وعلى أقل التقادير ترجح ولادة الولد على البنت!.

من الممكن أن تكون الظروف الخاصة اقتصاديا واجتماعيا ، المرتبطة بوضع المرأة في مجتمعاتنا ، عاملا على وجود عادات وحالات خاطئة ، إلّا أنّه ينبغي على المؤمنين المخلصين مكافحة هذا النمط من التفكير واقتلاع جذوره الاجتماعية والاقتصادية ، فالإسلام لا يقبل من أتباعه بعد (١٤) قرن العود إلى أفكار الجاهلية المقيتة فهذا السلوك في واقعة نوع من الجاهلية الثّانية.

ولا ينبغي أن تأخذنا التصورات السارحة فنرى عن بعد أن المرأة قد نالت مناها في عالم الغرب وأنّها تحظى من الاحترام والتحرر ما تحسد عليه! فالحياة العملية في الغرب تؤكّد بما لا يقبل الشك أنّ المرأة هناك محتقرة ، وقد جعلت لعبة مبتذلة ووسيلة رخيصة لإشباع الشهوات أو وسيلة إعلان للبضائع والمنتوجات(٢) .

* * *

__________________

(١) مكارم الأخلاق ، ص ٥٤.

(٢) ومن جميل الصدف أن كتب هذا البحث في اليوم العشرين من جمادى الثّانية سنة ١٤٠١ ، وهو يوم ولادة فاطمة الزّهراءعليها‌السلام .

٢٢٣

الآيات

( وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ ما تَرَكَ عَلَيْها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ (٦١) وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ ما يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنى لا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ (٦٢) تَاللهِ لَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٦٣) وَما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٦٤) )

التّفسير

وسعت رحمته غضبه :

بعد أن تحدثت الآيات السابقة عن جرائم المشركين البشعة في وأدهم للبنات ، يطرق بعض الأذهان السؤال التالي : لما ذا لم يعذب الله المذنبين بسرعة نتيجة لما قاموا به من فعل قبيح وظلم فجيع؟!

٢٢٤

والآية الأولى (٦١) تجيب بالقول :( وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ ما تَرَكَ عَلَيْها مِنْ دَابَّةٍ ) (١) .

«الدابة» : يراد بها كل كائن حي ، ويمكن أن يراد بها هنا (الإنسان) خاصّة بقرينة (بظلمهم).

أي : إنّ الله لو يؤاخذ الناس على ما ارتكبوه من ظلم لما بقي إنسان على سطح البسيطة.

ويحتمل أيضا إرادة جميع الكائنات الحيّة ، لعلمنا بأنّ هذه الكائنات إنّما خلقت وسخرت للإنسان كما يقول القرآن في الآية (٢٩) من سورة البقرة :( هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ) ، فعند ما يذهب الإنسان فسينتفي سبب وجود الكائنات الأخرى وينقطع نسلها.

وهنا يواجهنا السؤال التالي : لو نظرنا إلى سعة مفهوم الآية وعموميتها فإنّها تدل في النتيجة على أنّه لا يوجد على الأرض إنسان غير ظالم ، فالكلّ ظالم كلّ حسب قدره وشأنه، ولو نزل العذاب الفوري السريع والحال هذه لما بقي إنسان على سطح الأرض مع إنّنا نعلم أنّ هناك من لا يصدق عليه هذا المعنى ، فالأنبياء والأئمّة المعصومونعليهم‌السلام خارجون عن شمولية هذا المعنى ، بل في كل زمان ومكان ثمة من تزيد حسناته على سيئاته من الصالحين المخلصين والمجاهدين ممن لا يستحقون العذاب المهلك أبدا

والجواب على ذلك أنّ الآية تبيّن حكما نوعيا وليس حكما عاما شاملا للجميع ونظير ذلك كثير في الأدب العربي.

ومن الشواهد على ذلك : الآية (٣٢) من سورة فاطر حيث تقول :( ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ

__________________

(١) إن ضمير «عليها» يعود إلى «الأرض» وإن لم يرد لها ذكر في الآيات المتقدمة لوضوح الأمر ، ونظائر ذلك كثيرة في لغة العرب.

٢٢٥

بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللهِ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ ) .

فنرى الآية تتطرق إلى ثلاثة أقسام : ظالم ، صاحب ذنوب خفيفة ، وسابق بالخيرات ومن المسلم به أنّ القسم الأوّل هو المقصود في الآية مورد البحث دون القسمين الآخرين ، ولا عجب من تعميم الآية ، لأنّ هذا القسم يشكل القسم الأكبر من المجتمعات البشرية.

ويتّضح من خلال ما ذكر أنّ الآية لا تنفي عصمة الأنبياء ، أمّا من يعتقد بخلاف ذلك فقد غفل عن القرائن الموجودة في العبارة من جهة ، ولم يلتفت إلى ما توحي إليه بقية الآيات القرآنية بهذا الخصوص.

ويضيف القرآن الكريم قائلا :( وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ ) .

بل يدركهم الموت في نفس اللحظة المقررة.

* * *

بحث

ما هو الأجل المسمى؟

للمفسّرين بيانات كثيرة بشأن المراد من «الأجل المسمى» ولكن بملاحظة سائر الآيات القرآنية ، ومن جملتها الآية (٢) من سورة الأنعام ، والآية (٣٤) من سورة الأعراف ، يبدو أنّ المراد منه وقت حلول الموت ، أي : إنّ اللهعزوجل يمهل الناس إلى آخر عمرهم المقرر لهم إتماما للحجة عليهم ، ولعل من ظلم يعود إلى رشده ويصلح شأنه فيكون ذلك العود سببا لرجوعه إلى بارئه الحق وإلى العدالة.

ويصدر أمر الموت بمجرّد انتهاء المهلة المقررة ، فيبدأ بعقابهم من بداية اللحظات الأولى لما بعد الموت.

ولأجل المزيد من الإيضاح حول مسألة (الأجل المسمى) راجع ذيل الآية

٢٢٦

رقم (٢) من سورة الأنعام وكذا ذيل الآية (٣٤) من سورة الأعراف.

* * *

ويعود القرآن الكريم ليستنكر بدع المشركين وخرافاتهم في الجاهلية (حول كراهية المولود الأنثى والإعتقاد بأنّ الملائكة إناثا ، فيقول :( وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ ما يَكْرَهُونَ ) .

فهذا تناقض عجيب ـ وكما جاء في الآية (٢٢) من سورة النجم( تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى ) فإن كانت الملائكة بنات الله سبحانه وتعالى فينبغي أن تكون البنات أمرا حسنا ، فلما ذا تكرهون ولادتها؟! وإن كانت شيئا سيئا فلما ذا تنسبونها إلى الله؟!

ومع كل ذلك( وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنى ) .

فبأي عمل تنتظرون حسنى الثواب؟! أبوأدكم بناتكم؟! أم بافترائكم على الله؟!

وجاءت «الحسنى» (وهي مؤنث أحسن) هنا بمعنى أفضل الثواب أو أفضل العواقب ، وذلك ما يدعيه أولئك المغرورون الضالون لأنفسهم مع كل ما جاؤوا به من جرائم!

وهنا يطرح السؤال التالي نفسه : كيف يقول عرب الجاهلية بذلك وهم لا يؤمنون بالمعاد؟

والجواب : أنّهم لم ينكروا المعاد مطلقا ، وإنّما كانوا ينكرون المعاد الجسماني ، ويستوعبون مسألة عودة الإنسان إلى حياته المادية مرّة أخرى.

إضافة إلى إمكان اعتبار قولهم قضية شرطية ، أي : إن كان هناك معاد حقّا فسيكون لنا في عالمه أفضل الجزاء! وهكذا هو تصور كثير من الجبابرة والمنحرفين فبالرغم من بعدهم عن الله تعالى يعتبرون أنفسهم أقرب الناس إليه ، ويتشدّقون بادّعاءة هزيلة مدعاة للسخرية!

٢٢٧

واحتمل بعض المفسّرين أيضا أنّ «الحسنى» تعني نعمة الأولاد الذكور ، لأنّهم يعتبرون البنات سوءا وشرّا ، والبنين نعمة وحسنى.

إلّا أنّ التّفسير الأوّل يبدو أكثر صوابا ، ولهذا يقول القرآن ، وبلا فاصلة :( لا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ ) ، أي : أنّهم ليسوا فاقدين لحسن العاقبة فقط ، بل و «لهم النّار»( وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ ) أي : من المتقدمين في دخول النّار.

والمفرط : من فرط ، على وزن (فقط) بمعنى التقدم.

وربّما يراود البعض منّا الاستغراب عند سماعة لقصة عرب الجاهلية في وأدهم للبنات ، ويسأل : كيف يصدّق أن نسمع عن إنسان ما يدفن فلذة كبده بيده وهي على قيد الحياة؟!

وكأنّ الآية التالية تجيب على ذلك :( تَاللهِ لَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ ) .

نعم ، فللشيطان وساوس يتمكن من خلالها أن يصور أقبح الأعمال وأشنعها جميلة في نظر البعض بحيث يعتبرها مجالا للتفاخر! كما كانوا يعتبرون وأد البنات شرفا وفخرا وحفظا لناموس وكرامة القبيلة! ممّا يحدو ببعض المغفلين لأن يتفاخر بالقول : لقد دفنت ابنتي اليوم بيدي كي لا تقع غدا أسيرة في يد الأعداء!

فإنّ كان الشيطان يزيّن أقبح الأعمال مثل وأد البنات بنظر بعض الناس بهذه الحال ، فحال بقية الأعمال معلوم.

ونرى في يومنا الكثير من أعمال الناس التي سيطر عليها زخرف الشيطان ، فراحوا ينعتون سرقاتهم وجرائمهم بعبارات تبدو مقبولة فيخفون حقيقتها في طي زخرف القول.

ثمّ يضيف القرآن : إن مشركي اليوم على سنّة من سبقهم من الماضين من الذين زينوا أعمالهم بزخرف ما أوحى لهم الشيطان( فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ ) ، يستفيدون ممّا يعطيهم إيّاه.

٢٢٨

ولهذا( وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ ) .

وللمفسّرين بيانات كثيرة في تفسير( فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ ) ولعل أوضحها ما قلناه أعلاه ، أي : إنّها إشارة إلى أنّ المشركين في عصر الجاهلية إنّما هم على خطى الأمم المنحرفة السابقة ، والشيطان رائد مسيرتهم والموجه لهم كما كان للماضين(١) .

ويحتمل تفسيرها أيضا بأنّ المقصود من( فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ ) أنّه لا تزال بقايا الأمم المنحرفة السابقة موجودة إلى اليوم ، ولا زالوا يعملون بطريقتهم المنحرفة ، والشيطان وليهم كما كان سابقا.

وتبيّن آخر آية من الآيات مورد البحث هدف بعث الأنبياء ، ولتؤكّد حقيقة :أنّ الأقوام والأمم لو اتبعت الأنبياء وتخلت عن أهوائها ورغباتها الشخصية لما بقي أثر لأي خرافة وانحراف ، ولزالت تناقضات الأعمال ، فتقول :( وَما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ) .

ليخرج وساوس الشيطان من قلوبهم ، ويزيل حجاب النفس الأمارة بالسوء عن الحقائق لتظهر ناصعة براقة ، ويفضح الجنايات والجرائم المختفية تحت زخرف القول ، ويمحو أيّ أثر للاختلافات الناشئة من الأهواء ، فيقضى على القساوة بنشر نور الرحمة والهداية ليعم الجميع في كل مكان.

* * *

__________________

(١) ولكن لازم هذا التّفسير وجود اختلاف في ضمير( أَعْمالَهُمْ ) وضمير( وَلِيُّهُمُ ) ، فالأوّل يعود إلى الأمم السالفة ، والثّاني إلى المشركين في صدر الإسلام. ويمكن حل هذا المشكل بتقدير جملة ، وهي ان تقول : هؤلاء يتبعون الأمم الماضية. (فتأمل).

٢٢٩

الآيات

( وَاللهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (٦٥) وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَناً خالِصاً سائِغاً لِلشَّارِبِينَ (٦٦) وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٦٧) )

التّفسير

المياه ، الثمار ، الأنعام :

مرّة أخرى ، يستعرض القرآن الكريم النعم والعطايا الإلهية الكثيرة ، تأكيدا لمسألة التوحيد ومعرفة الله ، وإشارة إلى مسألة المعاد ، وتحريكا لحس الشكر لدى العباد ليتقربوا إليه سبحانه أكثر ، ومن خلال هذا التوجيه الرّباني تتّضح علاقة الربط بين هذه الآيات وما سبقها من آيات.

فالآية الأخيرة من الآيات السابقة تناولت مسألة نزول القرآن وما فيه من حياة لروح الإنسان ، وبنفس السياق تأتي الآية الأولى من الآيات مورد البحث لتتناول نزول الأمطار وما فيها من حياة لجسم الإنسان :( وَاللهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً

٢٣٠

فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ ) .

لقد تناولت آيات قرآنية كثيرة مسألة إحياء الأرض بواسطة نزول الأمطار من السماء، فكم من أرض يابسة أو ميتة أحيانا أو أصابها الجفاف فأخرجها عن مجال الاستفادة من قبل الإنسان ، ونتيجة لما وصلت إليه من وضع قد يخيل للإنسان أنّها أرض غير منبتة أصلا ، ولا يصدّق بأنّها ستكون أرض معطاء مستقبلا ـ ولكنّ ، بتوالي سقوط المطر عليها وما يثبت عليها من أشعة الشمس ، ترى وكأنّها ميت قد تحرك حينما تدب فيه الروح من جديد ، فتسري في عروقها دماء المطر وتعادلها الحياة ، فتعمل بحيويه ونشاط وتقدم أنواع الورود والنباتات ، ومن ثمّ تتجه إليها الحشرات والطيور وأنواع الحيوانات الأخرى من كل جانب ، وبذلك تبدأ عجلة الحياة على ظهرها بالدوران من جديد.

وخلاصة المقال أنّه سيبقى الإنسان مبهوتا أمام تحول الأرض الميتة إلى مسرح جديد للحياة ، وهذا بحق من أعظم عجائب الخلقة.

وهذا المظهر من مظاهر قدرة وعظمة الخالقعزوجل يدلل بما لا يقبل الشك على إمكان المعاد ، وما ارتداء الأموات لباس الحياة الجديد إلّا أمر خاضع لقدرته سبحانه.

وإنّ نعمة الأمطار (التي لا يتحمل الإنسان أي قسط من أمر إيجادها) دليل آخر على قدرة وعظمة الخالق سبحانه.

وبعد ذكر نعمة الماء (الذي يعتبر الخطوة الأولى على طريق الحياة) يشير القرآن الكريم إلى نعمة وجود الأنعام ، وبخصوص ما يؤخذ منها من اللبن كمادة غذائية كثيرة الفائدة ، فيقول :( وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً ) .

وأية عبرة أكثر من أن :( نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَناً خالِصاً سائِغاً لِلشَّارِبِينَ ) .

«الفرث» لغة : بمعنى الأغذية المهضومة في المعدة والتي بمجرّد وصولها إلى

٢٣١

الأمعاء تزود البدن بمادتها الحياتية ، بينما يدفع الزائد منها إلى الخارج فما يهضم من غذاء داخل المعدة يسمّى «فرثا» وما يدفع إلى الخارج يسمّى (روثا).

ونعلم بأنّ جدار المعدة لا يمتص إلّا مقدارا قليلا من الغذاء (كبعض المواد السكرية) والقسم الأكبر منه ينتقل إلى الأمعاء كي يمتص الدم ما يحتاجه منه.

وكما نعلم أيضا بأنّ اللبن يترشح من غدد خاصّة داخل ثدي الإناث ، ومادته الأصلية تؤخذ من الدم والغدد الدهنية.

فهذه المادة الناصعة البياض ذات القوّة الغذائية العالية تنتج من الأغذية المهضومة المخلوطة بالفضلات ، ومن الدم.

والعجب يمكن في استخلاص هذا النتاج الخالص الرائع من عين ملوثة!

وبعد حديثه عن الأنعام وألبانها يتناول القرآن ذكر النعم النباتية ، فيقول :( وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ) .

«السكر» لغة ، له معاني مختلفة ، إلّا أنّه هنا بمعنى : المسكرات والمشروبات الكحولية (وهو المعنى المشهور من تلك المعاني).

وممّا لا يقبل الشك أنّ القرآن لا يجيز في هذه الآية صنع المسكرات من التمر والعنب أبدا ، وإنّما جاء ذكر المسكرات هنا لمقابلته ب( رِزْقاً حَسَناً ) وكإشارة صغير لتحريم الخمر ونبذه. وعلى هذا فلا حاجة للقول بأنّ هذه الآية نزلت قبل تحريم الخمر أو أنّها تشير إلى تحليله ، بل حقيقة التعبير القرآني يشير إلى التحريم ، ولعل الآية كانت تمثل الإنذار الأوّل للتحريم.

وقد تبدو العبارة وكأنّها جملة اعتراضية بين قوسين داخل الآية القرآنية.

* * *

٢٣٢

بحوث

١ ـ كيف يتكوّن اللبن؟

يقول القرآن الكريم في ذلك كما في الآيات أعلاه : إنّه يخرج من بين «فرث» ـ الأغذية المهضومة داخل المعدة ـ و «دم».

وقد أثبت ذلك فيزيولوجيا : حيث أنّه عند ما يتمّ هضم الغذاء داخل المعدة ويكون جاهزا للامتصاص ينتشر داخل المعدة والأمعاء بشكل واسع وأمام الملايين من العروق الشعيرية ، فتمتص منه العناصر المفيدة المطلوبة لتوصلها إلى تلك الشجرة ذات الجذور التي تنتهي عروقها عند عروق الثدي.

عند ما تتناول المرأة الحامل الغذاء تنتقل عصارته إلى الدم الذي يجري في عروقها حتى يصل نهاية العروق المجاورة لعروق الجنين ليتغذى الجنين بهذه الطريقة ما دام في بطن أمه ، وعند ما ينفصل عن أمّه يتحول طريق تغذيته إلى الثدي وهنا لا تستطيع الأم أن تصل دمها إلى دم ولدها ، ولذلك ينبغي تصفية الغذاء وتغيير حالته بما ينسجم والوضع الجديد للطفل ، وهنا يتكون اللبن من بين فرث ودم ، أي : من بين ما تتناوله الأم الذي يتحول إلى فرث وما ينتقل من مواده إلى الدم ليتكون منه اللبن.

فاللبن في حقيقة شيء وسط بين الفرث والدم ، فلا هو دم مصفى ولا هو غذاء مهضوم ، وهو أعلى من الثّاني ودون الأوّل!

علما بأنّ الثدي يستفيد من الحوامض الأمينية المخزونة في البدن فقط في صناعة المواد البروتينية للبن.

وثمّة مكونات أخرى للبن لا توجد في الدم وإنّما تنتجها غدد خاصّة في الثدي (كالكازوئين).

والبعض الآخر من المكونات يأتي من ترشح بلازما الدم مباشرة : ويدخل في تكوين اللبن من دون أي تغيير (كالفيتامينات وملح الطعام والفوسفات).

٢٣٣

أمّا سكر اللاكتوز الموجود في اللبن فيؤخذ من السكر الموجود في الدم بعد أن تجري عليه الغدد الخاصّة في الثدي التغييرات اللازمة لتحويله إلى نوع جديد من السكر.

ومع أنّ إنتاج اللبن يكون عن طريق جذب المواد الغذائية بواسطة الدم ، ومن خلال الارتباط المباشر بين الدم وغدد الثدي ، إلّا أنّنا لا نلاحظ أيّ أثر لرائحة الفرث أو لون الدم فيه ، بل يبدأ اللبن بالترشح من ثدي الأم بلون جديد ورائحة خاصّة به.

ومن لطيف ما ينقل عن العلماء المتخصصين أنّ إنتاج لتر واحد من اللبن في الثدي يحتاج بما لا يقل عن عبور (٥٠٠) لتر من الدم خلال الثدي ليستطيع من امتصاص المواد اللازمة لإنتاج اللبن ، كما يلزم لإنتاج لتر واحد من الدم عبور مواد غذائية كثيرة من الأمعاء وبهذا يتّضح لنا معنى( مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ ) كاملا(١) .

٢ ـ أهم ما في اللبن من مواد غذائية

اللبن مليء بالمواد الغذائية المختلفة التي تشكل مع بعضها مجموعة عذائية كاملة.

فالمواد المعدنية في اللبن ، عبارة عن : الصوديوم ، البوتاسيوم ، الكالسيوم ، المغنيسيوم، النحاس ، قليل من الحديد بالإضافة إلى الفسفور والكلور وغيرها.

ويوجد في اللبن كذلك غاز الأوكسجين وحامض الكاربونيك.

أمّا المواد السكرية فموجودة بكمية كافية على شكل (لاكتوز).

والفيتامينات المحلولة في اللبن عبارة عن : فيتامين ب ، پ ، آ ، د.

__________________

(١) مقتبس من كتابي : الكيمياء الحياتية والطبية ، وأوّل جامعة وآخر نبي ، الجزء السادس.

٢٣٤

وقد أثبت العلم الحديث أنّ الحيوان الذي يتغذى بشكل جيد يكون لبنه حاويا لكافة أنواع الفيتامينات ، وأصبح بديهيا أنّ اللبن الطازج يعتبر غذاء كاملا. ولا يمكن لنا تفصيل ذلك في هذا البحث المختصر.

ولعل ما روي عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من قوله : «ليس يجزي مكان الطعام والشراب إلّا اللبن» إشارة لهذا السبب.

ونقرأ في روايات أخرى عن اللبن أنّه يزيد في عقل الإنسان ، ويحد النظر ، ويرفع النسيان ، ويقوي القلب والظهر (كما أصبح معلوما أن هذه الآثار لها ارتباط وثيق بما في اللبن من مواد حياتية)(١) .

٣ ـ اللبن غذاء خالص وسهل الهضم

لقد أكّدت الآيات أعلاه على ميزتين مهمتين للبن ـ كونه «خالصا» ، و «سائغا» أي لذيذا وسريع الهضم ـ وكما هو المعروف عن اللبن من كونه غذاء كثير الفائدة على الرغم من قلّة حجمه. و «خالص» أي خال من المواد الزائدة وبذات الوقت فهو سهل الهضم بالشكل الذي جعل ملائما لأي إنسان وعلى مختلف الأعمار ـ منذ الطفولة حتى الشيخوخة ـ ولهذا يعتمده المرضى كغذاء ملائم ومفيد ومقبول ، وبالخصوص ما له من أثر فعال بالنسبة لنمو العظام ، ولهذا يوصى بالإكثار من تناوله في حالات كسور العظام وما شابهها.

ومن جملة معاني الخلوص هو (الربط) ، ولعل البعض اعتمد على هذا المعنى فيما جاء في التعبير القرآني «خالصا» ، واعتبارهم من كون «خالصا» إشارة إلى تأثير اللبن الخالص في بناء وربط العظام.

وكذا نجد في الإحكام الإسلامية الواردة حول الرضاعة ما يشير إلى هذا

__________________

(١) لزيادة التفصيل ، يراجع كتاب أول جامعة وآخر نبي ـ الجزء السادس.

٢٣٥

المعنى بوضوح.

ويقول الفقهاء : إنّ الطفل لو رضع من غير أمّه حتى اشتدت عظامه وزاد لحمه فإنّ مرضعته ستحرم عليه (وما يتبع ذلك في من يعود إليه النسب).

ويقولون أيضا : إن (١٥) رضاعة متوالية ، أو رضاعة يوم وليلة متصلة ، يؤدي إلى هذه الحرمة أيضا.

ولو جمعنا القولين ، ألا ينتج أن التغذية باللبن يوم وليلة لها أثر في تقوية العظام وزيادة اللحم!؟

وينبغي الالتفات إلى أن التوجيهات الإسلامية أكّدت كثيرا على لبن «اللباء» هو أو ما ينزل من اللبن بعد الولادة ، حتى لتقول بعض كتب الفقه إنّ حياة الطفل مرهونة به ، ولهذا اعتبر إعطاء الطفل من حليب اللباء واجبا(١) .

ولعل ما في الآية (٧) من سورة القصص حول موسىعليه‌السلام يتعلق بهذا الموضوع أيضا( وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِ ) .

* * *

__________________

(١) شرح اللمعة ، كتاب النكاح ، أحكام الأولاد ومنها الرضاع.

٢٣٦

الآيتان

( وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (٦٨) ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٦٩) )

التّفسير

( وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ ) !

انتقل الأسلوب القرآني بهاتين الآيتين من عرض النعم الإلهية المختلفة وبيان أسرار الخليقة إلى الحديث عن «النحل» وما يدره من منتوج (العسل) ورمز إلى ذلك الإلهام الخفي بالوحي الإلهي إلى النحل :( أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ ) .

وفي الآية المباركة جملة تعبيرات تستدعي التوقف والدقّة :

١ ـ ما هو «الوحي»

«الوحي» في الأصل (كما يقول الراغب في مفرداته) بمعنى الإشارة السريعة ،

٢٣٧

ثمّ بمعنى الإلقاء الخفي.

وقد جاءت كلمة «الوحي» في القرآن الكريم لترمز إلى عدّة أشياء ، ولكنّها بالنتيجة تعود لذلك المعنى ، منها :

وحي النّبوة : حيث نلاحظ وروده في القرآن بهذا المعنى كثيرا. كما في الآية (٥١) من سورة الشورى :( وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْياً ) .

ومنها : الوحي بمعنى «الإلهام» سواء كان الملهم منتبها لذلك (كما في الإنسان( وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِ ) (١) ، أو مع عدم انتباه الملهم كالإلهام الغريزي (كما في النحل) وهو ما ورد في الآية مورد البحث.

ومن المعروف أنّ الوحي في هذا المورد يعني الأمر الغريزي والباعث الباطني الذي أودعه الله في الكائنات الحيّة.

ومنها : أنّ الوحي بمعنى الإشارة ، كما ورد في قصّة زكريا في الآية (١١) من سورة مريم( فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا ) .

ومنها أيضا : إيصال الرسالة بشكل خفي ، كما في الآية (١١٢) من سورة الأنعام( يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً ) .

٢ ـ هل يختص الإلهام الغريزي بالنحل؟

وإذا كان وجود الغرائز (الإلهام الغريزي) غير منحصر بالنحل دون جميع الحيوانات ، فلما ذا ورد ذكره في الآية في النحل خاصّة؟

والإجابة على السؤال تتّضح من خلال المقدمة التالية : إنّ الدراسة الدقيقة التي قام بها العلماء بخصوص حياة النحل ، قد أثبتت أنّ هذه الحشرة العجيبة لها من التمدن والحياة الاجتماعية المدهشة ما يشبه لحد كبير الجانب التمدني عند

__________________

(١) القصص ، ٧.

٢٣٨

الإنسان وحياته الاجتماعية ، من عدّة جهات.

وقد توصل العلماء اليوم لاكتشاف الكثير من أسرار حياة هذه الحشرة والتي أوصلتهم بقناعة تامة إلى توحيد الخالق والإذعان لربوبيته سبحانه وتعالى.

وأشار القرآن الكريم إلى ذلك الإعجاز بكلمة «الوحي» ليبيّن أنّ حياة النحل لا تقاس بحياة الأنعام ، وليدفعنا للتعمق في عالم أسرار هذه الحشرة العجيبة ، ولنتعرف من خلالها على عظمة وقدرة خالقها ، ولعل «الوحي» هو التعبير الرمزي الذي اختصت به هذه الآية نسبة إلى الآيات السابقة.

٣ ـ المهمّة الأولى في حياة النحل :

وأوّل مهمّة أمر بها النحل في هذه الآية هي : بناء البيت ، ولعل ذلك إشارة إلى أن اتّخاذ المسكن المناسب بمثابة الشرط الأوّل للحياة ، ومن ثمّ القيام ببقية الفعاليات ، أو لعله إشارة إلى ما في بيوت النحل من دقة ومتانة ، حيث أن بناء البيوت الشمعية والسداسية الأضلاع ، والتي كانت منذ ملايين السنين وفي أماكن متعددة ومختلفة ، قد يكون أعجب حتى من عملية صنع العسل(١) .

فكيف تضع هذه المادة الشمعية الخاصة؟ وكيف تبني الخلايا السداسية بتلك الهندسة الدقيقة؟ وبيوت النحل ذات هيئة وأبعاد محسوبة بدقة فائقة وذات زوايا متساوية تماما ، ومواصفاتها تخلو من أية زيادة أو نقصان

فقد اقتضت الحكمة الربانية من جعل بيوت النحل في أفضل صورة وأحسن اختيار وأحكم طبيعة ، وسبحان الله خالق كل شيء.

__________________

(١) عرف لحد الآن (٤٥٠٠) نوعا من النحل الوحشي ، والعجيب أنّها في حال واحدة من حيث : الهجرة ، بناء الخلايا ، المكان ، تناول رحيق الأزهار ، أوّل جامعة ، الجزء الخامس.

٢٣٩

٤ ـ اين مكان النحل :

وقد عيّنت الآية المباركة مكان بناء الخلايا في الجبال ، وبين الصخور وانعطافاتها المناسبة ، وبين أغصان الأشجار ، وأحيانا في البيوت التي يصنعها لها الإنسان.

ويستفاد من تعبير الآية أن خلايا النحل يجب أن تكون في نقطة مرتفعة من الجبل أو الشجرة أو البيوت الصناعية ليستفاد منها بشكل أحسن.

ويذكر القرآن الكريم في الآية التالية المهمّة الثّانية للنحل :( ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً ) .

«الذلل» : (جمع ذلول) بمعنى التسليم والانقياد.

ووصف الطرق بالذلل لأنّها قد عينت بدقّة لتكون مسلمة ومنقادة للنحل في تنقله ، وسنشير إلى كيفية ذلك قريبا.

وأخيرا يعرض القرآن المهمّة الأخيرة للنحل (كنتيجة لما قامت به من مهام سابقة) :( يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ) في طبيعة حياتها وما تعطيه من غذاء للإنسان (فيه شفاء) ، وهو دليل على عظمة وقدرة الباريعزوجل .

* * *

بحوث

وفي الآية جملة بحوث قيمة أخرى :

١ ـ مم يتكون العسل؟

يمتص النحل بعض المواد السكرية الخاصّة الموجودة في مياسم الأوراد ، ويقول خبراء النحل : إنّ عمل النحل في واقعة لا ينحصر بأخذ المادة السكرية فقط ، بل يتعدى ذلك في بعض الأحيان للاستفادة من بعض أجزاء الورود

٢٤٠

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496