الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٨

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل12%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 496

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 496 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 230218 / تحميل: 7056
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٨

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

الفصل الثالث : الإمام الصادق في ظل جدّه وأبيهعليهم‌السلام

ملامح عصر الإمام زين العابدين ومواقفه

لقد واجه الإمام زين العابدينعليه‌السلام بعد استشهاد أبيه الحسينعليه‌السلام ما يلي :

١ ـ التعاطف مع أهل البيتعليهم‌السلام تعاطفاً كان يفتقد الوعي ويقتصر على الشعور الإيجابي بالولاء مع خلوّه عن الموقف العملي الجادّ .

٢ ـ ثورات انتقاميّة كانت تتحرّك نحو هدف محدود ، وثورات نفعية مصلحيّة ، ونشوء حركات منافقة ، وظهور وعّاظ السلاطين لإسباغ الشرعية على السلطة القائمة .

٣ ـ بروز ظاهرة الشعور بالإثم عند الأمة بسبب ما ارتكبته من خذلان لأبيه الحسين السبطعليه‌السلام لكن هذا الشعور كما هو معروف كان بلا ترشيد واضح ، والعقليات المدبّرة للثورة على الوضع القائم كانت تفكر بالثأر فحسب وهنا خطط الإمام زين العابدينعليه‌السلام لعمله على مرحلتين أو خطوتين :

الخطوة الأولى : تناول الإمامعليه‌السلام ظاهرة الشعور بالإثم وعمل على ترشيدها بعد أن عمّقها بشكل متواصل عبر تذكيره الأمة بمأساة كربلاء والمظالم التي لحقت بآل البيتعليهم‌السلام وقد استغرق هذا التذكير زمناً طويلاً ،

٤١

حيث حاول إعطاء ظاهرة الشعور بالإثم بُعداً فكرياً صحيحاً ليجعل منه أداة دفع وتأثير في عملية البناء والتغيير .

وبعد أن تراكم هذا الشعور شكّل في نهاية الأمر خزيناً داخلياً كانت لا تقوى الأمة أن تصبر عليه طويلاً ، وأصبح الإلحاح على مخرج تعبّر به الأمّة عن ألمها أمراً جدّياً ، حتَّى حدثت الثورة الكبرى وطبيعي أنّ هذا الجو المشحون الذي كان ينبئ بالثورة والإطاحة بالأمويين جعلهم يشددّون الرقابة على الإمام زين العابدينعليه‌السلام باعتباره الرأس المدبّر لهذه المطالبة ولكونه الوريث الشرعي للخلافة بعد أبيه الحسينعليه‌السلام ومن هنا كانت الحكومة الأموية تفسّر أيّ حركة تصدر من الإمامعليه‌السلام على أنّها تمهيد للثورة .

الخطوة الثانية : توزّع نشاط الإمامعليه‌السلام في هذه الخطوة على عدّة اتّجاهات .

الاتجاه الأوّل : قام الإمامعليه‌السلام ببلورة العواطف الهائجة وحاول أن يدفعها باتّجاه الفكر الصحيح ويضع لها الأسس العقائديّة ويجعل منها مقدمة لعملية التغيير التي ينشدها الإمامعليه‌السلام ، وقد تمثّلت في إيجاد الفكر الإسلامي الصحيح الذي طالما تعرّض للتشويه والتحريف ثم إعداد الطليعة الواعية التي تشعر بالمسؤولية وتكون أهلاً لحمل الأمانة الإلهيّة .

الاتّجاه الثاني : تحرّك الإمام زين العابدينعليه‌السلام انطلاقاً من مسؤوليته في حماية الإسلام وبقائه كشريعة دون تحريف وتشويه لمحتواه ضمن عدة نشاطات :

١ ـ النشاط الأول : واجه الإمامعليه‌السلام الحركات الانحرافية والفرق الضالّة والمغالية التي كانت تستهدف الفكر الإسلامي وتعتمد الإسرائيليات والنظريات الهندية واليونانية حول الكون والحياة في فهم القرآن والحديث

٤٢

الشريف ، وقام بنشر مختلف العلوم والفنون وتبيان الصيغة الصحيحة للعلاقات الاجتماعية والسياسية والأخلاقية التي كان قد أصابها الفساد ، كما يتّضح ذلك بجلاء في رسالته المعروفة برسالة الحقوق ، كما ساهم في حل المشاكل التي كانت تهدّد كرامة الدولة الإسلامية كما يلاحظ ذلك جليّاً فيما حدث في جوابه على رسالة ملك الروم حين هدّد الخليفة بالحصار الاقتصادي(١) .

النشاط الثاني : إنّ الأمويين كانوا قد ضيّقوا على حركة الإمامعليه‌السلام ونشاطه مع الأمة إلاَّ أنّ الإمامعليه‌السلام استخدم الدعاء سلاحاً للارتباط الفكري والمعنوي بها ، وحيث إنّ هذا السلاح لم يستهدف الأمويين مباشرة ، توفّر للإمامعليه‌السلام مجالٌ أوسع لمعالجة الظواهر المرضية والانحرافات الأخلاقية .

الاتّجاه الثالث : التأكيد على أهمية العمل الثوري ومكافحة الظلم والانحراف ، وإيقاد روح الجهاد التي كانت خمدت في الأمة عبر سنوات الانحراف ، كما يتجلّى ذلك في دعائه للمختار الذي طالب بثأر الحسين وكان على اتصال دائم بالإمامعليه‌السلام أثناء ثورته من خلال عمّه محمد ابن الحنفيّة .

الاتّجاه الرابع : لم يكن موقف الإمامعليه‌السلام من الحكّام موقف المواجهة والتحدّي المباشر ; إذ لو كان قد فعل الإمام زين العابدينعليه‌السلام ؛ ذلك لما كان يستطيع أن يحقق ما حققه من مكاسب في الأمة في مجال التربية ، ولما توفّرت أجواء سليمة وفرص واسعة لنشاط الإمام الباقرعليه‌السلام من بعده وللجماعة الصالحة التي ربّاها .

لكن هذا لا يعني أن الإمامعليه‌السلام لم يوضح رأيه في الحكومة فلم يترك

ـــــــــــــــــ

(١) البداية والنهاية : ٩/١٢٢ .

٤٣

الأمر ملتبساً على شيعته ، بل كانت للإمام زين العابدينعليه‌السلام مواقف مع الحكّام سوف نشير إلى بعض منها ، وكان هدفه منها إعطاء خطّ في التربية والتغيير حفاظاً على الشيعة من الضياع ; إذ لم تكن الجماعة الصالحة على سبيل المواجهة ولكنها كانت كافية في التحصين في تلك المرحلة على مستوى التربية والإعداد وتأسيساً لمستقبل سياسي أفضل .

ونستطيع أن نلاحظ موقف الإمامعليه‌السلام مع السلطة من خلال رسالته الجوابية إلى عبد الملك حين لامَ عبد الملك الإمامعليه‌السلام على زواجه بأمته التي كان قد أعتقها .

إنّ ردّ الإمامعليه‌السلام على عبد الملك كان يتضمّن تحدّياً للخليفة الذي كان يفكرّ بعقلية جاهلية ; فإنّ الإمامعليه‌السلام وضّح فيها الموقف الإسلامي الذي يلغي كل الامتيازات التي وضعتها الجاهلية بقولهعليه‌السلام :( فلا لؤم على امرئ مسلم إنَّما اللؤمُ لؤم الجاهلية ) .

يظهر هذا التحدّي ممَّا جاء في مصادر التأريخ من أن الخليفة الأموي بعد أن قرأها هو وابنه سليمان ، قال الابن : يا أمير المؤمنين لَشدَّ ما فخر عليك علي بن الحسين !! فردّ الخليفة على ابنه قائلاً : ( يا بنيّ لا تَقل ذلك فإنّها ألسن بني هاشم التي تَفلق الصخر وتغرف من بحر ، إنّ عليّ بن الحسين يا بني يرتفع من حيث يتّضع الناس(١) .

وفي هذا الجواب إشارة إلى أنّ المواجهة مع الإمام من قبل الخليفة لا تخدم سلطان بني أمية .

ومن مواقف الإمام زين العابدينعليه‌السلام تجاه السلطة أيضاً موقفه من

ـــــــــــــــــ

(١) بحار الأنوار : ٤٦/١٦٥ ، والعقد الفريد : ٧/١٢١ .

٤٤

الزهري ذلك المحدث الذي كان مرتبطاً بالبلاط الأموي ـ فقَد أرسل إليه الإمامعليه‌السلام رسالة قَرعه فيها على شنيع فعله(١) ، وان كان قد علم الإمام بأنّه غارق إلى هامته في موائد السلطان ولهوه ، إلاَّ أنّها رسالة للأجيال .

ومن الأحاديث التي وضعها هذا الرجل دعماً لسياسة بني أمية حينما منعوا حج بيت الله الحرام لمّا كان ابن الزبير مسيطراً على الحرمين الشريفين ما رواه عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقوله : لا تشد الرحال إلاَّ إلى ثلاثة : مسجدي هذا والمسجد الحرام والمسجد الأقصى .

ملامح عصر الإمام محمد الباقرعليه‌السلام

استشهد الإمام زين العابدينعليه‌السلام سنة ( ٩٥ هـ ) في أيام حكم الوليد ابن عبد الملك وتوّلى الإمام محمد بن علي الباقرعليه‌السلام مسؤولية الإمامة بوصية من أبيه حيث أعلن عن إمامته أمام سائر أبنائه وعشيرته حين سلّمه صندوقاً فيه سلاح رسول اللهعليه‌السلام وقال له :( يا محمَّد هذا الصندوق فاذهب به إلى بيتك ، ثم قالعليه‌السلام :أما إنّه لم يكن فيه دينار ولا درهم ولكنه مملوءٌ علم ) (٢) .

إذن فهو صندوق يرمز لمسؤولية القيادة الفكرية والعلمية كما أنّ السلاح يرمز لمسؤولية القيادة الثورية .

وبالرغم من توالي الثورات التي تلت واقعة الطف والتي كان الإمام الباقرعليه‌السلام قد عاصرها جميعاً مع أبيهعليه‌السلام بقي موقف الأعمّ الأغلب من الناس الاستجابة لمنطق السيف الأموي إلى جانب القسم الآخر الذي آمن بأنّ الحكّام الأمويين يمثّلون الخلافة الإسلامية .

ـــــــــــــــــ

(١) تحف العقول : ٢٧٢ ـ ٢٧٧ .

(٢) بصائر الدرجات ٤/٤٤ و٤٨ ، وأصول الكافي ١/٣٠٥ وعنهما في بحار الأنوار : ٤٦/٢٢٩ .

٤٥

كما أنّه عاصر عمليات الهدم الفكري والتحريف والمسخ الثقافي الذي مارسه الأمويون بحق الرسالة والقيم الإسلامية .

وعند مجيء سليمان بن عبد الملك إلى الحكم بعد وفاة أخيه الوليد بن عبد الملك سنة ( ٩٦ هـ ) أصدر قرارات جديدة استراحت الأمة بسببها قليلاً حيث أمر بالتَنكيل ( بآل ) الحجاج بن يوسف الثقفي وطرد كلّ عمّاله وولاته(١) كما أطلق سراح المسجونين في سجون الحجّاج(٢) .

وفي سنة ( ٩٩ هـ ) تقلّد الحكم الأموي عمر بن عبد العزيز فازدادت الحريّات في مدّة خلافته القصيرة ، كما يراه بعض المؤرّخين ، كما أنّه عالج مشكلة الخراج التي قال عنها بأنّها سنّة خبيثة سنّها عمّال السوء(٣) .

وعامل العلويين معاملة خالف فيها أسلافه فقد جاء في كتابه لعامله على المدينة : ( فأقسم في ولد علي من فاطمة رضوان الله عليهم عشرة آلاف دينار فطالما تخطّتهم حقوقهم )(٤) ورَدَّ فدكاً ـ التي كان قد صادرها الخليفة الأوّل ـ على الإمام الباقرعليه‌السلام (٥) ورفع سبّ الإمام عليّعليه‌السلام الذي كان قد سنّه معاوية(٦) .

أمّا الناحية الفكرية : فتبعاً للتغيّرات السياسية نلمس تطوّراً في الجانب الفكري أيضاً ؛ فقد برزت في هذا الظرف تيارات فكريّة جديدة واتجّه الناس

ـــــــــــــــــ

(١) الكامل ، ابن الأثير : ٤/١٣٨ .

(٢) تاريخ ابن عساكر : ٤/٨٠ .

(٣) الكامل : ٥/٢٩ وتاريخ الطبري : ٨/١٣٩ .

(٤) مروج الذهب : ٣/١٩٤ .

(٥) الكامل : ٤/١٦٤ والمناقب : ٤/٢٠٧ وسفينة البحار : ٢/٣٧٢ .

(٦) انظر الفكر السامي ١/٢٧٦ عن صحيح مسلم ، وتاريخ اليعقوبي ٢/٢٢٣ و٢٣٠ و٢٣٥ و٣٠٥ ، وشرح النهج للمعتزلي ٥/٩٨ تاريخ الخميس : ٢/٣١٧ .

٤٦

للبحث والدرس وتلقّي المعرفة الإسلامية ورفع المنع الحكومي عن تدوين الحديث النبوي وبدأت تتميّز مدرسة أهل الحديث عن مدرسة أهل الرأي ومال الموالي من غير العرب إلى مدرسة أهل الرأي في الكوفة ، وتزعّم أبو حنيفة هذه المدرسة في حينها ضد مدرسة أهل الحديث في المدينة(١) .

وكنتيجة طبيعية للإخفاق الذي سجّلته الحركات الفكرية ، ظهرت فكرة الاعتزال التي نادى بها ( واصل بن عطاء ) في البصرة عندما اعتزل حلقة درس أستاذه ( الحسن البصري ) وهي تعتبر تعديلاً لفكرة الخوارج التي لم تلقَ رواجاً حينما قالت بكفر مرتكب الكبيرة(٢) ، والمرجئة التي قالت بأنّه لا تضر مع الإيمان معصية(٣) فقال واصل ( مؤسس اتّجاه الاعتزال والمتوفى في ١٣١هـ ) : إنّ صاحب الكبيرة ليس بمؤمن بإطلاق بل هو في منزلة بين منزلتين أي إنّ مرتكب الكبيرة ليس بمؤمن ولا كافر لكنّه فاسق والفاسق يستحق النار بفسقه(٤) .

هذه صورة مجملة عن الواقع الذي عايشه الإمام الصادقعليه‌السلام خلال مرحلة قيادة أبيه الباقرعليه‌السلام .

متطلّبات عصر الإمام الباقرعليه‌السلام

ونلخّص دور الإمام الباقرعليه‌السلام في ثلاثة خطوط أساسية :

الخط السياسي ، وإكمال بناء الجماعة الصالحة ، وتأسيس جامعة أهل البيتعليه‌السلام العلمية .

ـــــــــــــــــ

(١) ضحى الإسلام لأحمد أمين : ٢/١٧٨ .

(٢) الملل والنحل : ١/١٥٨ .

(٣) تاج العروس ، مادة رجأ .

(٤) الأغاني : ٧ / ١٥ .

٤٧

١ ـ الخط السياسي للإمام الباقر عليه‌السلام

لقد كان الخيار السياسي للإمام الباقرعليه‌السلام في فترة تصدّيه للإمامة هو الابتعاد عن الصدام والمواجهة مع الأمويين وهذا واضح من خلال تصريحه الذي تضمّن بياناً للجوّ السائد وحالة الأمة ومستوى وعيها آنذاك :( إنْ دَعَوْناهم لم يستجيبوا لنا ) (١) .

كما نجده فيما بعد يستوعب سياسة الانفتاح والاعتدال التي أبداها عمر ابن عبد العزيز ، سواء كان هذا الاعتدال بدافع ذاتي لعلاقته بالإمامعليه‌السلام ، أم بدافع الضغوط الخارجيّة وخوفه من انهيار الدولة الأموية .

إنّ الإمام قد رسم خطّه السياسي في هذه المرحلة بأسلوبين :

الأسلوب الأول : تصريح الإمامعليه‌السلام برأيه حول عمر بن عبد العزيز وحكومته قبل تصدّي عمر للخلافة فعن أبي بصير ، قال : كنت مع أبي جعفر الباقرعليه‌السلام في المسجد ودخل عمر بن عبد العزيز وعليه ثوبان ممصّران متكئاً على مولى له فقالعليه‌السلام :( لَيَلِيَنَّ هذا الغلام [ أي سوف يتولّى السُلطة ]فيظهر العدل ) (٢) .

ولكن الإمامعليه‌السلام قدح في ولايته باعتبار وجود مَن هو أولى منه .

الأسلوب الثاني : أسلوب المراسلة واللقاء فقد روي أنّ عمر بن

ـــــــــــــــــ

(١) الإرشاد ، للشيخ المفيد : ٢٨٤ .

(٢) سفينة البحار : ٢/١٢٧ .

٤٨

عبد العزيز كرّم الإمام أبا جعفرعليه‌السلام وعظّمه وقد أرسل خلفه فنون ابن عبد الله بن عتبة بن مسعود وكان من عُبّاد أهل الكوفة فاستجاب له الإمامعليه‌السلام وسافر إلى دمشق فاستقبله عمر استقبالاً رائعاً واحتفى به وجَرَت بينهما أحاديث وبقي الإمام أيّاماً في ضيافته(١) .

ومن المراسلات ما جاء أنّه : كتب عمر للإمامعليه‌السلام بقصد الاختبار فأجابه الإمام برسالة فيها موعظة ونصيحة له(٢) ، ولكن سياسة الابتعاد عن الصدام المباشر لم تمنع الإمام الباقرعليه‌السلام من أن يقف من الأمة بشكل عام ومن الأمويين وهشام بن عبد الملك بشكل خاص موقف التحدّي الفكري والعقائدي والعلمي لبيان الحق المغتصب وكشف ستار الباطل الذي كان قد أسدله الحكّام على الحق ورموزه .

وحين حجّ هشام بن عبد الملك بن مروان سنة من السنين وكان قد حجّ في تلك السنة محمّد بن علي الباقرعليه‌السلام وابنه جعفر ، قال جعفر بن محمدعليه‌السلام في بعض كلامه :( الحمد لله الذي بعث محمّداً نبيّاً وأكرمنا به ، فنحن صفوة الله على خلقه وخيرته من عباده فالسعيد مَن اتّبعنا والشقيّ مَن خالفَنَا ، ومن الناس مَن يقول : إنّه يتولاَّنا وهو يتولّى أعدائنا ومَن يليهم من جلسائهم وأصحابهم ، فهو لم يسمع كلام ربّنا ولم يعمل به ) (٣) .

فبيّنعليه‌السلام مفهوم القيادة الإلهية ومصداقها الحقيقي الذي يمثّلها آنئذ .

وهذا الطرح وان كان فيه نوع مجابهة صريحة للحاكم وما يدور في

ـــــــــــــــــ

(١) تاريخ دمشق : ٥١/٣٨ .

(٢) تاريخ اليعقوبي ٢/٣٠٥ .

(٣) دلائل الإمامة : ١٠٤ ـ ١٠٩ ، بحار الأنوار : ٤٦/٣٠٦ .

٤٩

أذهان الناس لكنّه لم يكن مغامرة ; لأنّ الظرف كان بحاجة إلى مثل هذا الطرح والتوضيح ، بالرغم من أنّه قد أدّى إلى أن يستدعي هشام الإمامين الباقر والصادقعليهما‌السلام إلى الشام فيما بعد .

٢ ـ إكمال بناء الجماعة الصالحة

لم تكن عملية بناء الجماعة الصالحة وليدة عصر الإمام الباقرعليه‌السلام فقد باشرها الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثم لإمام عليعليه‌السلام ، حيث نجد لأشخاص أمثال مالك الأشتر وهاشم المرقال ، ومحمد بن أبي بكر ، وحجر بن عدي ، وميثم التمّار ، وكميل بن زياد ، وعبد الله بن العباس ، دوراً كبيراً في الصراع الذي خاضه الإمام عليعليه‌السلام مع مناوئيه .

واستمرت عملية البناء بشكل فاعل في عصر الإمامين الحسن والحسينعليهما‌السلام ، ثم تقلّص النشاط المباشر في بناء هذه القاعدة وتوسيعها ، ثم استمرّت عملية البناء في العقود الأخيرة من حياة الإمام زين العابدينعليه‌السلام وتكاملت في عصر الإمام الباقرعليه‌السلام حيث سنحت الفرصة له بأن يتحرك نحو تطوير الجماعة الصالحة بتوضيح أهدافها التي تمثّلت في الدفاع عن المجتمع الإسلامي وحفظ الشريعة الإسلامية من التحريف إلى جانب توسيع القاعدة كمّاً مع تطويرها كيفاً .

ونقتصر فيما يلي على بعض ما قام به الإمام الباقرعليه‌السلام من خطوات :

الخطوة الأولى : أخذ الإمامعليه‌السلام يعمّق ويوضّح صفات الجماعة الصالحة الموالية لأهل البيتعليهم‌السلام ودورها في المجتمع ، فقد جاء في وصفه لهذه الجماعة قولهعليه‌السلام :( إنّما شيعتنا ـ شيعة علي ـالمتباذلون في ولايتنا المتحابّون في

٥٠

مودّتنا ، المتزاورون لإحياء أمرنا ، الذين إذا غضبوا لم يظلموا ، وإذا رضوا لم يسرفوا ، بركة على مَنْ جاوروا ، سلم لمَن خالطوا ) (١) ، وقال أيضاً :( شيعتنا من أطاع الله ) (٢) .

وبهذا أراد الإمامعليه‌السلام أن يرسّخ الكمالات الإنسانية في جانبي الأخلاق والعبادة التي تعرّضت للضياع طيلة سنوات المحنة ، ويوضّح أن الانتماء لخطّ أهل البيتعليهم‌السلام هو بالعمل والتحلّي بهذه الصفات .

الخطوة الثانية : قام الإمامعليه‌السلام ـ بالإضافة إلى توضيح مستوى الروح الإيمانية التي ينبغي أن يتَمتّع بها أفراد الجماعة الصالحة ـ بشحذِ هممها وتربيتها على روح الصبر والمقاومة لكي تمتلك القدرة على مواصلة العمل في سبيل الله ومواجهة التحدّيات المستمرّة وعدم التنازل أمام الإغراءات أو الضغوط الظالمة ، فقد جاء في كلامهعليه‌السلام لرجل حين قال له : والله إنّي لأحبّكم أهل البيت فقالعليه‌السلام :( فاتّخذ للبلاء ، جلباباً ، فو الله إنّه لأسرع إلينا وإلى شيعتنا من السيل في الوادي ، وبنا يبدو البلاء ثم بكم ، وبنا يبدو الرخاء ثم بكم ) (٣) .

هكذا رسم الإمامعليه‌السلام معالم الطريق الشائك أمامه ، إنّه طريق مفروش بالدماء والدموع ، والإمام رائد المسيرة على هذا الطريق يصيبه البلاء أوّلاً قبل أن يصيب شيعتَه .

وقد كان الإمامعليه‌السلام يذكّرهم بمعاناة الشيعة قبل هذا الظرف بقولهعليه‌السلام :( قتلت شيعتنا بكلّ بلدة وقُطِعت الأيدي والأرجل على الظنة وكان مَن يذكر بحبّنا والانقطاع إلينا سُجن ونُهب مالُه وهُدِمَت داره ) (٤) .

ومن الأعمال التي قام بها الإمامعليه‌السلام في بناء الجماعة الصالحة هو إلزام

ـــــــــــــــــ

(١) تحف العقول : ٢٩٥و ٣٠٠ .

(٢) تحف العقول : ٢٩٥و ٣٠٠ .

(٣) بحار الأنوار : ٤٦/٣٦٠ ، وأمالي الشيخ الطوسي : ٩٥ .

(٤) حياة الإمام الحسنعليه‌السلام دراسة وتحليل : ٢/٢٥٧ .

٥١

أتباعه وخاصّته بمبدأ التقية ؛ حفاظاً عليهم من القمع والإرهاب والإبادة التي طالما تعرّضوا لها وقد اعتبر هذا المبدأ من الواجبات الشرعية ذات العلاقة بالإيمان ، فكان يوصيِهم بالتقية قائلاً :( التقيّة ديني ودين آبائي ، ومَن لا إيمان له لا تقيّة له ) (١) .

ومن المبادئ التي تتداخل مع التقيّة : كتمان السرّ ، فقد جاء عنهعليه‌السلام في وصيّته لجابر بن يزيد الجعفي في أوّل لقاء له بالإمامعليه‌السلام : أن لا يقول لأحد أنّه من أهالي الكوفة ، وليظهر بمظهر رجل من أهل المدينة وجابر الجعفي هذا قد أصبح فيما بعد صاحب سرّ الإمامعليه‌السلام ، ولشدّة فاعليّته وتأثيره في الأمة أمر هشام بن عبد الملك واليه في الكوفة بأن يأتيه برأس جابر ، لكنّ جابراً قد تظاهر بالجنون قبل أن يصدر الأمر بقتله حسب إرشادات الإمام الباقرعليه‌السلام التي كانت تصله سرّاً ، فقد جاء في كتاب هشام إلى واليه : أن أُنظر رجلاً يقال له جابر بن يزيد الجعفي فاضرب عنقه وابعث إليَّ برأسه .

فالتفت إلى جلسائه فقال لهم : مَن جابر بن يزيد الجعفي ؟ قالوا : أصلحك الله ، كان رجلاً له علم وفضل وحديث وحجّ فجنّ وهو ذا في الرحبة مع الصبيان على القصب يلعب معهم .

قال : فأشرف عليه فإذا هو مع الصبيان يلعب على القصب فقال : الحمد لله الذي عافاني من قتله(٢) .

وكان في هذه المرحلة رجال كتموا تشيّعهم وما رسوا نشاطات مؤثرة في حياة الأمة فكرية وعسكرية وفقهية مع الاحتفاظ بعلاقاتهم ، فمن فقهاء الشيعة : سعيد بن المسيّب ، والقاسم بن محمد ، فقد كانا بارزين بين علماء ذلك العصر

ـــــــــــــــــ

(١) أصول الكافي : ٢/١٧٤ .

(٢) بحار الأنوار : ٤٦/٢٨٢ ، والكافي : ١/٣٩٦ .

٥٢

في الفقه وغيره إلاَّ أنّه لم تكن لهم صبغة التشيّع الصريح ، فقد شاع عن سعيد بن المسيّب أنّه كان يجيب أحياناً برأي غيره من علماء عصره أو برأي مَن سبقه من الصحابة ؛ مخافة أن يصيبه ما أصاب سعيد بن جبير ويحيى بن أم الطويل وغيرهما ممّن تعرّضوا للقتل والتشريد بسبب تشيّعهم .

وهذا موسى بن نصير من رجالات الكوفة العسكريين وزهّادها المؤمنين ممّن عرف بولائه لأهل البيتعليهم‌السلام هو وأبوه نصير ، ولقد غضب عليه معاوية إذ لم يخرج معه لصفِّين ، وموسى هو الذي فتح الفتوحات العظيمة في بلاد المغرب وكان تحت إمرته مولاه طارق بن زياد وولده عبد العزيز وبسبب تشيّعه غضب عليه سليمان بن عبد الملك وقبل أن يقتله عرّضه لأنواع العذاب فقتل ولده أمامه وألزمه بدفع مبلغ كبير(١) .

وكان لجابر الجعفي وزرارة وأبان بن تغلب وغيرهم دور بالغ في نجاح حركة الإمام الفكريّة ، وأصبحوا ـ فيما بعد ـ النواة لجامعته ، وبقي هؤلاء بعد وفاة الإمام الباقرعليه‌السلام بصحبة ولده الصادقعليه‌السلام ليمارسوا مسؤولياتهم بحجم أكبر كما سيأتي توضيحه .

٣ ـ تأسيس جامعة أهل البيت عليهم‌السلام

جاءت فكرة زرع البذرة الفكرية وتشكيل النواة الأولى لجامعة علمية إسلامية في هذهِ المرحلة كضرورة حضارية لمواجهة التحدّي الحاضر ونسف البنى الفكرية لكل الأطروحات السابقة التي وجدت من ظروف المحنة مناخاً مناسباً لبثّ أفكارها .

كما تأتي ضرورة وجود تيّار فكري يبلور الأفكار الإسلامية الأصيلة

ـــــــــــــــــ

(١) تاريخ اليعقوبي : ٢/٢٩٤ .

٥٣

ويعبّئ بها ذهن الأمة ويفوّت الفرصة على الظالمين في حالة تبدّل الظروف .

ويمكن تلخيص الأسباب التي شكّلت عاملاً مهمّاً في التهيئة لنجاح هذه الجامعة فيما يلي :

١ ـ لقد عُزلت الأمة عن تبني أفكار الأئمة من أهل البيتعليهم‌السلام وفقههم أكثر من قرن وبقيت تتناقله الخواص في هذه الفترة عن طريق الكتابة والحفظ شفاهاً وبالطرق السرّية .

٢ ـ في هذه الفترة طرحت على العالم الإسلامي تساؤلات فكريّة ومستجدّات كثيرة لم تمتلك الأمة لها حلاًّ بسبب اتّساع البلاد الإسلامية وتبدّل الظروف وحاجات المسلمين .

٣ ـ شعر المسلمون في هذا الظرف بأهمية البحث عن مبدأ فكري يتكفّل حلّ مشكلاتهم ; لأنّ النصّ المحرّف واجتهادات الصحابة أصبح متخلّفاً عن المواكبة ، بل أصبح بنفسه مشكلة أمام المسلم لتعارضه مع العقل والحياة .

٤ ـ في هذا العصر ظهرت مدارس فكرية متطرّفة مثل مدرسة الرأي القائلة بالقياس والاستحسان ، زاعمة أنّ للنصوص التي نقلت عن الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قليلة(١) لا تفي بالغرض ، الأمر الذي تسرّب فيه العنصر الذاتي للمجتهد ودخل الإنسان بذوقه الخاص إلى التشريع(٢) ، كما ظهرت مدرسة الحديث قِبال

ـــــــــــــــــ

(١) هذا في غير مدرسة أهل البيتعليهم‌السلام الذين حرصوا على نقل تراث الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وواجهوا منع تدوين السنّة النبوية بالحث على التدوين والنقل والتعليم ؛ لئلاَّ تندرس معالم الدين .

(٢) فقد عرف حسن أبي حنيفة أنّه لم يصح عنده من أحاديث الرسول الفقهية سوى سبعة حشر حديثاً راجع مقدمة ابن خلدون : ٣٧٢ .

٥٤

مدرسة الرأي والتي عرفت بالجمود على ظاهر النص ولم تتفرّغ لتمييز صحيح النصوص من غيره .

٥ ـ غياب القدوة الحسنة والجماعة الصالحة التي تشكّل مناخاً لنمو الفضيلة وزرع الأمل في نفوس الأمة باتّجاه الأهداف الربّانيّة .

في هذا الظرف الذي ذهب فيه الخوف واستطاع المسلم أن يبحث عن المعرفة وعن حل لمشكلاته الفكرية ، قام الإمام الباقرعليه‌السلام بتشكيل حلقاته العلمية في مسجد الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ؛ فكان وجودهعليه‌السلام مركز جذب لقلوب طلاب الحقيقة فالتفّ حوله صحابة أبيه الإمام زين العابدينعليه‌السلام ، وبدأ منذ ذلك الحين بالتركيز على بناء الكادر العلمي آملاً أن يواجه به المشكلات الفكرية التي بدأت تغزو الأمة المسلمة وكان يشكّل هذا الكادر فيما بعد الأرضية اللازمة لمشروع الإمام الصادقعليه‌السلام المرتقب ، فتناول الإمامعليه‌السلام أهمّ المشكلات الفكرية التي كان لها ارتباط وثيق بحياة الناس العقائدية والأخلاقية والسياسية .

وزجّ الإمام بكادره العلمي وسط الأمة بعد أن عبّأه بكل المؤهّلات التي تمكّنهُ من خوض المعركة الفكرية حينما قال لأبان بن تغلب :( اجلس في مسجد المدينة وافت الناس فإنّي أحبّ أن أرى في شيعتي مثلك ) (١) .

وعندما يدرك الأصحاب مغزى هدف الإمام من هذا التوجيه وضرورة الحضور مع الناس ؛ يتصدّى هؤلاء بأنفسهم لمعالجة المشكلات الفكرية وإبطال الشبه عن طريق الحوار والمناظرة حسب الخط الذي رسمه لهم الإمامعليه‌السلام في وقت سابق .

ـــــــــــــــــ

(١) اختيار معرفة الرجال للكشي ٢/٦٢٢ ، ح ٦٠٣ .

٥٥

قال عبد الرحمن بن الحجاج : كنّا في مجلس أبان بن تغلب فجاء شاب فقال له : يا أبا سعيد أخبرني كم شهد مع علي بن أبي طالب من أصحاب النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؟ وأدرك أبان مراده فانبرى قائلاً : كأنّك تريد أن تعرف عليّاً بمَن تبعه من أصحاب رسول الله ؟ فقال هو ذاك .

فأجابه أبان : والله ما عرفنا فضلهم ـ أي الصحابة ـ إلاَّ باتّباعهم إيّاه .

وتعميقاً لهذا التوجيه وبنفس السياق يبادر محبوب أهل البيت ولسانهم مؤمن الطاق ليواجه أفكار حركة الخوارج ويردّ على جرأتها في التشكيك بموقف الإمام عليعليه‌السلام من مسألة التحكيم(١) .

يدخل مؤمن الطاق على بعض زعماء الخوارج في الكوفة فيقول له : أنا على بصيرة من ديني وقد سمعتك تصف العدل فأحببت الدخول معك ، فيقول الخارجي لأصحابه إن دخل هذا معكم نفعكم.

فيقول له مؤمن الطاق : لِمَ تبرّأتم من عليّ بن أبي طالب واستحللتم قتله وقتاله ؟

يجيبه الخارجي : لأنّه حكّم الرجال في دين الله .

فيقول له : وكلَّ من حكّم في دين الله استحللتم قتله ؟

فيجيب الخارجي : نعم .

فيقول له : أخبرني عن الدين الذي جئت أُنظارك به لأدخل معك فيه ، إن غَلَبَتْ حجّتي حجّتك ، من يوقِفُ المخطئ منّا عن خطئه ويحكم للمصيب بصوابه ؟

فيشير الضحّاك إلى رجل من أصحابه ويقول : هذا هو الحكم بيننا .

ـــــــــــــــــ

(١) معجم رجال الحديث : ١/٢١ ـ ٢٢ وتنقيح المقال : ١/٤ .

٥٦

هنا يتوجّه مؤمن الطاق إلى مَن كان حاضراً من الخوارج ويقول : زعيمكم هذا قد حكّم في دين الله(١) وهكذا يفحمهم بحجّته البالغة ومنطقه القويم .

وقبل أن ننتهي من حياة الإمامعليه‌السلام نشير إلى ثلاث وقائع تاريخية لها صلة بالمرحلة التي سوف يتصدّى لها الإمام الصادقعليه‌السلام .

الواقعة الأولى : إنّ هشام بن عبد الملك هو واحد من الحكّام الأمويين الَّذين نصبوا العداوة لأهل البيت ، بل نراه قد زاد على غيره حتَّى أنّه على أثر الخطبة التي خطبها الإمام الصادقعليه‌السلام في مكة والتي أوضح فيها معنى القيادة ولمَن تكون القيادة ، يأمر هشام فور رجوعه إلى الشام بجلب الإمامين الباقر والصادقعليهما‌السلام إلى دمشق لغرض التنكيل بهما .

وبعد اللقاء بهشام تفوّق الإمام الباقرعليه‌السلام في البلاط الأموي في الحوار الذي أجراه مع هشام ثم حواره مع عالم النصارى في الشام ، يسمح لهما هشام بالرجوع إلى المدينة ولكنّه يأمر أمير ( مدين ) ـ وهي المدينة الواقعة في طريقهما ـ بإيذائهما فقد جاء في رسالته : إنّ ابن أبي تراب الساحر محمّد بن علي وابنه جعفر الكذابين فيما يظهران من الإسلام ، قد وردا عليّ فلمّا صرفتهما إلى يوم الدين مالا إلى القسسين والرهبان ، وتقربّا إليهم بالنصرانية فكرهت النكال لقربهما ، فإذا مرّا بانصرافهما عليكم فليناد في الناس : برئت الذمّة ممّن باعهما وشاراهما وصافحهما وسلّم عليهما ، ورأى أمير المؤمنين قتلهما ودوابّهما وغلمانهما لارتدادهما والسلام(٢) .

ولم يترك هشام الإمام الباقرعليه‌السلام حُرّاً يتحرّك في المدينة ، ولم يسترح

ـــــــــــــــــ

(١) الإمام الصادق والمذاهب الأربعة : ٢/ ٧٢ .

(٢) دلائل الإمامة : ١٠٤ ـ ١٠٩ وبحار الأنوار : ٤٦ ـ ٣٠٦ .

٥٧

من تواجده في الساحة الإسلامية حتَّى أقدم على قتله غيلةً بالسمّ سنة (١١٤هـ)(١) .

الواقعة الثانية : في هذهِ الفترة تحفّز زيد بن علي بن الحسينعليه‌السلام وصمّم على الثورة ضد هشام بن عبد الملك على أثر تصرّفات الأمويين ، ولا سيّما تصرّف هشام المهين بحق زيد ، والنيل من كرامته ، وما كان يفعله هشام بحق الشيعة بشكل خاص .

لقد دخل زيد على هشام فسلّم عليه بالإمرة فلم يردّ السلام إهانةً له ، بل أغلظ في الكلام ولم يفسح له في المجلس .

فقال زيد : السلام عليك يا أحول ، فإنّك ترى نفسك أهلاً لهذا الاسم فغضب هشام وجرت بينهما محاورة كان نصيب هشام فيها الفشل ، وخرج زيد وهو يقول : ما كره قومٌ حرّ السيوف إلاَّ ذلّوا .

وأمر هشام بردّه وقال له : اُذكر حوائجك ، فقال زيد : أما وأنت ناظر على أمور المسلمين فلا وخرج من عنده وقال : مَن أحبّ الحياة ذلّ(٢) .

ومضى زيد إلى الكوفة ثمّ خطّط للثورة واستشار بذلك الإمام الباقرعليه‌السلام .

قال الإمام الصادقعليه‌السلام :إنّ عمّي أتى أبي فقال إنّي أريد الخروج على هذا الطاغية .

ولمّا أزمع على الخروج أتاه جابر بن يزيد الجعفي فقال له : إنّي سمعت أخاك أبا جعفر يقول :إنّ أخي زيد بن علي خارج ومقتول وهو على الحق فالويل لمَن خذله ، والويل لمَن حاربه ، والويل لمَن يقتله فقال له زيد : يا جابر لم يسعني أن أسكت وقد خولف كتاب الله تعالى

ـــــــــــــــــ

(١) شذرات الذهب : ١/١٤٩ ، تاريخ بن الأثير : ٤/٢١٧ ، طبقات الفقهاء : ٣٦ .

(٢) تاريخ الطبري : حوادث سنة ( ١٢١ ) ، وتاريخ ابن عساكر : ٦ / ٢٢ ـ ٢٣ .

٥٨

وتحوكم بالجبت والطاغوت(١) .

الواقعة الثالثة : ولمّا قربت وفاة الإمام محمّد الباقرعليه‌السلام دعا بأبي عبد الله جعفر الصادقعليه‌السلام فقال له :إنّ هذه الليلة التي وُعدت فيها ثم سلّم إليه الاسم الأعظم ومواريث الأنبياء والسلاح وقال له :يا أبا عبد الله ، الله الله في الشيعة فقال أبو عبد الله :لا تركتهم يحتاجون إلى أحد ... (٢) .

بهذا العرض ننتهي من تصوير حياة الإمام الصادق مع أبيه لتبدأ مرحلة تصدّيه للإمامة ، وبها يبدأ عصر جديد من العمل والجهاد والإصلاح .

ـــــــــــــــــ

(١) راجع تيسير المطالب : ١٠٨ ـ ١٠٩ .

(٢) إثبات الهداة : ٥/٣٣٠ .

٥٩

الباب الثالث :

وفيه فصول :

الفصل الأوّل : ملامح عصر الإمام الصادقعليه‌السلام .

الفصل الثاني : دور الإمامعليه‌السلام في تثبيت معالم الرسالة .

الفصل الثالث : دور الإمامعليه‌السلام في بناء الجماعة الصالحة .

٦٠

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

فقال رسول الله وهو يمسح دموعه : «لو لا أن سبقت رحمة الله غضبه لعجل الله لك العذاب»(١) .

وكذلك ما روي في (قيس بن عاصم) أحد أشرف ورؤساء قبيلة بني تميم في الجاهلية، وقد أسلم عند ظهور النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، جاء يوما إلى النّبي وقال له : أنّ آباءنا كانوا يدفنون بناتهم أحياء ، وقد دفنت أنا (١٢) بنتا ، وعند ما ولدت لي زوجتي البنت الثّالثة عشر أخفت أمرها وادّعت أنّها ماتت عند الولادة ، ثمّ أودعتها آخرين ، وعند ما علمت بذلك بعد مدّة ، أخذتها إلى مكان بعيد ودفنتها حيّة دون أن أعتني ببكائها وتضرعها.

فتأذى النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من ذلك فقال ودموعه جارية : «من لا يرحم لا يرحم» ثمّ التفت إلى قيس وقال : «إنّ لك يوما سيئا» ، فقال قيس : ما أفعل لتكفير ذنبي؟ فقال النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «حرر من العبيد بعدد ما وأدت»(٢) .

وروي أيضا أن (صعصعة بن ناجية) جد الفرزدق الشاعر المعروف ، وكان رجلا شريفا حرّا فقيل : إنّه كان في الجاهلية يحارب الكثير من العادات القبيحة حتى أنّه اشترى (٣٦٠) بنتا من آبائهن كي ينقذهن من القتل ، وقد أعطى يوما دابته مع بعيرين لأب كان يريد قتل ابنته.

وقال له الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ذات مرّة (في ما معناه): ما أحسن ما صنعت وأجرك عند الله.

وقال الفرزدق فخرا بعمل جده :

ومنّا الذي منع الوائدات

فأحيا الوئيد فلم توئد(٣)

وسنرى كيف أنّ الإسلام قد أصم تلك الفواجع العظام ، واعتبر للمرأة مكانة ما كانت تحظى بها من قبل على مر العصور.

__________________

(١) القرآن يواكب الدهر ، ج ٢ ، ص ٣١٤ (مضمونا).

(٢) الجاهلية والإسلام ، ص ٦٣٢.

(٣) قاموس الرجال ، ج ٥ ، ص ١٢٥ (مضمونا).

٢٢١

٣ ـ دور الإسلام في إعادة اعتبار المرأة :

لم يكن احتقار المرأة مختصا بعرب الجاهلية ، فلم تلق المرأة أدنى درجات الاحترام والتقدير حتى في أكثر الأمم تمدنا في ذلك الزمان ، وكانت المرأة غالبا ما يتعامل معها باعتبارها بضاعة وليست إنسانا محترما ، ولكنّ عرب الجاهلية جسدوا تحقير المرأة بأشكال أكثر قباحة ووحشية من غيرهم ، حتى أنّهم ما كانوا يدخلونهن في الأنساب كما نقرأ ذلك في الشعر الجاهلي المعروف :

بنونا بنوءابائنا وبناتنا

بنوهن أبناء الرجال الأباعد

وكانوا أيضا لا يورثون النساء ، ولم يجعلوا لتعدد الزوجات حدّا ، وعملية الزواج أو الطلاق أسهل من شربة الماء عندهم.

وعند ما ظهر الإسلام حارب بشدّة هذه المهانة من كافة أبعادها ، وبالخصوص مسألة اعتبار ولادة البنت عارا ، حتى وردت الرّوايات الكثيرة التي تؤكّد على أنّ البنت باب من أبواب رحمة الله للعائلة.

وأولى النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ابنته فاطمة الزهراءعليها‌السلام من الاحترام ما جعل الناس في عجب من أمره ، حيث كانصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مع ما يحظى به من شرف ومقام ، كان يقبل يد الزهراءعليها‌السلام ، وعند ما يعود من السفر يذهب إليها قبل أي أحد. وعند ما يريد السفر كان بيت فاطمة الزهراءعليها‌السلام آخر بيت يودّعه.

وحينما أخبر بولادة الزهراءعليها‌السلام ، رأى الانقباض في وجوه أصحابه فقال على الفور: «ما لكم! ريحانة أشمها ، ورزقها على اللهعزوجل »(١) .

وفي حديث أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «نعم الولد البنات ملطفات ، مجهزات ، مؤنسات ، مفليات»(٢) .

وفي حديث آخر : «من دخل السوق فاشترى تحفة فحملها إلى عياله كان كحامل الصدقة إلى قوم محاويج ، وليبدأ بالإناث قبل الذكور ، فإنّه من فرّح ابنته

__________________

(١) وسائل الشيعة ، ج ١٥ ص ١٠٢.

(٢) وسائل الشيعة ، ج ١٥ ، ص ١٠٠.

٢٢٢

فكأنّما أعتق رقبة من ولد إسماعيل»(١) .

فالاحترام الذي أولاه الإسلام للمرأة قد أعاد لها شخصيتها الضائعة بين حولك الجاهلية ، وحررها من العادات البالية ، وأنهى عصر تحقيرها.

وإن كان غور هذا الموضوع يستلزم التفصيل فستنطرق إلى ذلك في تفسيرنا للآيات المناسبة له ، ولكنّ ما يحز في النفوس ولا يمكن السكوت عنه ما يشاهد في كثير من مجتمعاتنا الإسلامية من آثار لنفس ذلك التوجه الجاهلي الموبوء ، فإلى الآن نرى الكثير من العوائل تفرح وتسر عند ما يأتيها مولود ذكر ، وتتأسف وتتأفف عند ما تكون المولودة بنتا! وعلى أقل التقادير ترجح ولادة الولد على البنت!.

من الممكن أن تكون الظروف الخاصة اقتصاديا واجتماعيا ، المرتبطة بوضع المرأة في مجتمعاتنا ، عاملا على وجود عادات وحالات خاطئة ، إلّا أنّه ينبغي على المؤمنين المخلصين مكافحة هذا النمط من التفكير واقتلاع جذوره الاجتماعية والاقتصادية ، فالإسلام لا يقبل من أتباعه بعد (١٤) قرن العود إلى أفكار الجاهلية المقيتة فهذا السلوك في واقعة نوع من الجاهلية الثّانية.

ولا ينبغي أن تأخذنا التصورات السارحة فنرى عن بعد أن المرأة قد نالت مناها في عالم الغرب وأنّها تحظى من الاحترام والتحرر ما تحسد عليه! فالحياة العملية في الغرب تؤكّد بما لا يقبل الشك أنّ المرأة هناك محتقرة ، وقد جعلت لعبة مبتذلة ووسيلة رخيصة لإشباع الشهوات أو وسيلة إعلان للبضائع والمنتوجات(٢) .

* * *

__________________

(١) مكارم الأخلاق ، ص ٥٤.

(٢) ومن جميل الصدف أن كتب هذا البحث في اليوم العشرين من جمادى الثّانية سنة ١٤٠١ ، وهو يوم ولادة فاطمة الزّهراءعليها‌السلام .

٢٢٣

الآيات

( وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ ما تَرَكَ عَلَيْها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ (٦١) وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ ما يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنى لا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ (٦٢) تَاللهِ لَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٦٣) وَما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٦٤) )

التّفسير

وسعت رحمته غضبه :

بعد أن تحدثت الآيات السابقة عن جرائم المشركين البشعة في وأدهم للبنات ، يطرق بعض الأذهان السؤال التالي : لما ذا لم يعذب الله المذنبين بسرعة نتيجة لما قاموا به من فعل قبيح وظلم فجيع؟!

٢٢٤

والآية الأولى (٦١) تجيب بالقول :( وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ ما تَرَكَ عَلَيْها مِنْ دَابَّةٍ ) (١) .

«الدابة» : يراد بها كل كائن حي ، ويمكن أن يراد بها هنا (الإنسان) خاصّة بقرينة (بظلمهم).

أي : إنّ الله لو يؤاخذ الناس على ما ارتكبوه من ظلم لما بقي إنسان على سطح البسيطة.

ويحتمل أيضا إرادة جميع الكائنات الحيّة ، لعلمنا بأنّ هذه الكائنات إنّما خلقت وسخرت للإنسان كما يقول القرآن في الآية (٢٩) من سورة البقرة :( هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ) ، فعند ما يذهب الإنسان فسينتفي سبب وجود الكائنات الأخرى وينقطع نسلها.

وهنا يواجهنا السؤال التالي : لو نظرنا إلى سعة مفهوم الآية وعموميتها فإنّها تدل في النتيجة على أنّه لا يوجد على الأرض إنسان غير ظالم ، فالكلّ ظالم كلّ حسب قدره وشأنه، ولو نزل العذاب الفوري السريع والحال هذه لما بقي إنسان على سطح الأرض مع إنّنا نعلم أنّ هناك من لا يصدق عليه هذا المعنى ، فالأنبياء والأئمّة المعصومونعليهم‌السلام خارجون عن شمولية هذا المعنى ، بل في كل زمان ومكان ثمة من تزيد حسناته على سيئاته من الصالحين المخلصين والمجاهدين ممن لا يستحقون العذاب المهلك أبدا

والجواب على ذلك أنّ الآية تبيّن حكما نوعيا وليس حكما عاما شاملا للجميع ونظير ذلك كثير في الأدب العربي.

ومن الشواهد على ذلك : الآية (٣٢) من سورة فاطر حيث تقول :( ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ

__________________

(١) إن ضمير «عليها» يعود إلى «الأرض» وإن لم يرد لها ذكر في الآيات المتقدمة لوضوح الأمر ، ونظائر ذلك كثيرة في لغة العرب.

٢٢٥

بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللهِ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ ) .

فنرى الآية تتطرق إلى ثلاثة أقسام : ظالم ، صاحب ذنوب خفيفة ، وسابق بالخيرات ومن المسلم به أنّ القسم الأوّل هو المقصود في الآية مورد البحث دون القسمين الآخرين ، ولا عجب من تعميم الآية ، لأنّ هذا القسم يشكل القسم الأكبر من المجتمعات البشرية.

ويتّضح من خلال ما ذكر أنّ الآية لا تنفي عصمة الأنبياء ، أمّا من يعتقد بخلاف ذلك فقد غفل عن القرائن الموجودة في العبارة من جهة ، ولم يلتفت إلى ما توحي إليه بقية الآيات القرآنية بهذا الخصوص.

ويضيف القرآن الكريم قائلا :( وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ ) .

بل يدركهم الموت في نفس اللحظة المقررة.

* * *

بحث

ما هو الأجل المسمى؟

للمفسّرين بيانات كثيرة بشأن المراد من «الأجل المسمى» ولكن بملاحظة سائر الآيات القرآنية ، ومن جملتها الآية (٢) من سورة الأنعام ، والآية (٣٤) من سورة الأعراف ، يبدو أنّ المراد منه وقت حلول الموت ، أي : إنّ اللهعزوجل يمهل الناس إلى آخر عمرهم المقرر لهم إتماما للحجة عليهم ، ولعل من ظلم يعود إلى رشده ويصلح شأنه فيكون ذلك العود سببا لرجوعه إلى بارئه الحق وإلى العدالة.

ويصدر أمر الموت بمجرّد انتهاء المهلة المقررة ، فيبدأ بعقابهم من بداية اللحظات الأولى لما بعد الموت.

ولأجل المزيد من الإيضاح حول مسألة (الأجل المسمى) راجع ذيل الآية

٢٢٦

رقم (٢) من سورة الأنعام وكذا ذيل الآية (٣٤) من سورة الأعراف.

* * *

ويعود القرآن الكريم ليستنكر بدع المشركين وخرافاتهم في الجاهلية (حول كراهية المولود الأنثى والإعتقاد بأنّ الملائكة إناثا ، فيقول :( وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ ما يَكْرَهُونَ ) .

فهذا تناقض عجيب ـ وكما جاء في الآية (٢٢) من سورة النجم( تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى ) فإن كانت الملائكة بنات الله سبحانه وتعالى فينبغي أن تكون البنات أمرا حسنا ، فلما ذا تكرهون ولادتها؟! وإن كانت شيئا سيئا فلما ذا تنسبونها إلى الله؟!

ومع كل ذلك( وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنى ) .

فبأي عمل تنتظرون حسنى الثواب؟! أبوأدكم بناتكم؟! أم بافترائكم على الله؟!

وجاءت «الحسنى» (وهي مؤنث أحسن) هنا بمعنى أفضل الثواب أو أفضل العواقب ، وذلك ما يدعيه أولئك المغرورون الضالون لأنفسهم مع كل ما جاؤوا به من جرائم!

وهنا يطرح السؤال التالي نفسه : كيف يقول عرب الجاهلية بذلك وهم لا يؤمنون بالمعاد؟

والجواب : أنّهم لم ينكروا المعاد مطلقا ، وإنّما كانوا ينكرون المعاد الجسماني ، ويستوعبون مسألة عودة الإنسان إلى حياته المادية مرّة أخرى.

إضافة إلى إمكان اعتبار قولهم قضية شرطية ، أي : إن كان هناك معاد حقّا فسيكون لنا في عالمه أفضل الجزاء! وهكذا هو تصور كثير من الجبابرة والمنحرفين فبالرغم من بعدهم عن الله تعالى يعتبرون أنفسهم أقرب الناس إليه ، ويتشدّقون بادّعاءة هزيلة مدعاة للسخرية!

٢٢٧

واحتمل بعض المفسّرين أيضا أنّ «الحسنى» تعني نعمة الأولاد الذكور ، لأنّهم يعتبرون البنات سوءا وشرّا ، والبنين نعمة وحسنى.

إلّا أنّ التّفسير الأوّل يبدو أكثر صوابا ، ولهذا يقول القرآن ، وبلا فاصلة :( لا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ ) ، أي : أنّهم ليسوا فاقدين لحسن العاقبة فقط ، بل و «لهم النّار»( وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ ) أي : من المتقدمين في دخول النّار.

والمفرط : من فرط ، على وزن (فقط) بمعنى التقدم.

وربّما يراود البعض منّا الاستغراب عند سماعة لقصة عرب الجاهلية في وأدهم للبنات ، ويسأل : كيف يصدّق أن نسمع عن إنسان ما يدفن فلذة كبده بيده وهي على قيد الحياة؟!

وكأنّ الآية التالية تجيب على ذلك :( تَاللهِ لَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ ) .

نعم ، فللشيطان وساوس يتمكن من خلالها أن يصور أقبح الأعمال وأشنعها جميلة في نظر البعض بحيث يعتبرها مجالا للتفاخر! كما كانوا يعتبرون وأد البنات شرفا وفخرا وحفظا لناموس وكرامة القبيلة! ممّا يحدو ببعض المغفلين لأن يتفاخر بالقول : لقد دفنت ابنتي اليوم بيدي كي لا تقع غدا أسيرة في يد الأعداء!

فإنّ كان الشيطان يزيّن أقبح الأعمال مثل وأد البنات بنظر بعض الناس بهذه الحال ، فحال بقية الأعمال معلوم.

ونرى في يومنا الكثير من أعمال الناس التي سيطر عليها زخرف الشيطان ، فراحوا ينعتون سرقاتهم وجرائمهم بعبارات تبدو مقبولة فيخفون حقيقتها في طي زخرف القول.

ثمّ يضيف القرآن : إن مشركي اليوم على سنّة من سبقهم من الماضين من الذين زينوا أعمالهم بزخرف ما أوحى لهم الشيطان( فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ ) ، يستفيدون ممّا يعطيهم إيّاه.

٢٢٨

ولهذا( وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ ) .

وللمفسّرين بيانات كثيرة في تفسير( فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ ) ولعل أوضحها ما قلناه أعلاه ، أي : إنّها إشارة إلى أنّ المشركين في عصر الجاهلية إنّما هم على خطى الأمم المنحرفة السابقة ، والشيطان رائد مسيرتهم والموجه لهم كما كان للماضين(١) .

ويحتمل تفسيرها أيضا بأنّ المقصود من( فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ ) أنّه لا تزال بقايا الأمم المنحرفة السابقة موجودة إلى اليوم ، ولا زالوا يعملون بطريقتهم المنحرفة ، والشيطان وليهم كما كان سابقا.

وتبيّن آخر آية من الآيات مورد البحث هدف بعث الأنبياء ، ولتؤكّد حقيقة :أنّ الأقوام والأمم لو اتبعت الأنبياء وتخلت عن أهوائها ورغباتها الشخصية لما بقي أثر لأي خرافة وانحراف ، ولزالت تناقضات الأعمال ، فتقول :( وَما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ) .

ليخرج وساوس الشيطان من قلوبهم ، ويزيل حجاب النفس الأمارة بالسوء عن الحقائق لتظهر ناصعة براقة ، ويفضح الجنايات والجرائم المختفية تحت زخرف القول ، ويمحو أيّ أثر للاختلافات الناشئة من الأهواء ، فيقضى على القساوة بنشر نور الرحمة والهداية ليعم الجميع في كل مكان.

* * *

__________________

(١) ولكن لازم هذا التّفسير وجود اختلاف في ضمير( أَعْمالَهُمْ ) وضمير( وَلِيُّهُمُ ) ، فالأوّل يعود إلى الأمم السالفة ، والثّاني إلى المشركين في صدر الإسلام. ويمكن حل هذا المشكل بتقدير جملة ، وهي ان تقول : هؤلاء يتبعون الأمم الماضية. (فتأمل).

٢٢٩

الآيات

( وَاللهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (٦٥) وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَناً خالِصاً سائِغاً لِلشَّارِبِينَ (٦٦) وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٦٧) )

التّفسير

المياه ، الثمار ، الأنعام :

مرّة أخرى ، يستعرض القرآن الكريم النعم والعطايا الإلهية الكثيرة ، تأكيدا لمسألة التوحيد ومعرفة الله ، وإشارة إلى مسألة المعاد ، وتحريكا لحس الشكر لدى العباد ليتقربوا إليه سبحانه أكثر ، ومن خلال هذا التوجيه الرّباني تتّضح علاقة الربط بين هذه الآيات وما سبقها من آيات.

فالآية الأخيرة من الآيات السابقة تناولت مسألة نزول القرآن وما فيه من حياة لروح الإنسان ، وبنفس السياق تأتي الآية الأولى من الآيات مورد البحث لتتناول نزول الأمطار وما فيها من حياة لجسم الإنسان :( وَاللهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً

٢٣٠

فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ ) .

لقد تناولت آيات قرآنية كثيرة مسألة إحياء الأرض بواسطة نزول الأمطار من السماء، فكم من أرض يابسة أو ميتة أحيانا أو أصابها الجفاف فأخرجها عن مجال الاستفادة من قبل الإنسان ، ونتيجة لما وصلت إليه من وضع قد يخيل للإنسان أنّها أرض غير منبتة أصلا ، ولا يصدّق بأنّها ستكون أرض معطاء مستقبلا ـ ولكنّ ، بتوالي سقوط المطر عليها وما يثبت عليها من أشعة الشمس ، ترى وكأنّها ميت قد تحرك حينما تدب فيه الروح من جديد ، فتسري في عروقها دماء المطر وتعادلها الحياة ، فتعمل بحيويه ونشاط وتقدم أنواع الورود والنباتات ، ومن ثمّ تتجه إليها الحشرات والطيور وأنواع الحيوانات الأخرى من كل جانب ، وبذلك تبدأ عجلة الحياة على ظهرها بالدوران من جديد.

وخلاصة المقال أنّه سيبقى الإنسان مبهوتا أمام تحول الأرض الميتة إلى مسرح جديد للحياة ، وهذا بحق من أعظم عجائب الخلقة.

وهذا المظهر من مظاهر قدرة وعظمة الخالقعزوجل يدلل بما لا يقبل الشك على إمكان المعاد ، وما ارتداء الأموات لباس الحياة الجديد إلّا أمر خاضع لقدرته سبحانه.

وإنّ نعمة الأمطار (التي لا يتحمل الإنسان أي قسط من أمر إيجادها) دليل آخر على قدرة وعظمة الخالق سبحانه.

وبعد ذكر نعمة الماء (الذي يعتبر الخطوة الأولى على طريق الحياة) يشير القرآن الكريم إلى نعمة وجود الأنعام ، وبخصوص ما يؤخذ منها من اللبن كمادة غذائية كثيرة الفائدة ، فيقول :( وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً ) .

وأية عبرة أكثر من أن :( نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَناً خالِصاً سائِغاً لِلشَّارِبِينَ ) .

«الفرث» لغة : بمعنى الأغذية المهضومة في المعدة والتي بمجرّد وصولها إلى

٢٣١

الأمعاء تزود البدن بمادتها الحياتية ، بينما يدفع الزائد منها إلى الخارج فما يهضم من غذاء داخل المعدة يسمّى «فرثا» وما يدفع إلى الخارج يسمّى (روثا).

ونعلم بأنّ جدار المعدة لا يمتص إلّا مقدارا قليلا من الغذاء (كبعض المواد السكرية) والقسم الأكبر منه ينتقل إلى الأمعاء كي يمتص الدم ما يحتاجه منه.

وكما نعلم أيضا بأنّ اللبن يترشح من غدد خاصّة داخل ثدي الإناث ، ومادته الأصلية تؤخذ من الدم والغدد الدهنية.

فهذه المادة الناصعة البياض ذات القوّة الغذائية العالية تنتج من الأغذية المهضومة المخلوطة بالفضلات ، ومن الدم.

والعجب يمكن في استخلاص هذا النتاج الخالص الرائع من عين ملوثة!

وبعد حديثه عن الأنعام وألبانها يتناول القرآن ذكر النعم النباتية ، فيقول :( وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ) .

«السكر» لغة ، له معاني مختلفة ، إلّا أنّه هنا بمعنى : المسكرات والمشروبات الكحولية (وهو المعنى المشهور من تلك المعاني).

وممّا لا يقبل الشك أنّ القرآن لا يجيز في هذه الآية صنع المسكرات من التمر والعنب أبدا ، وإنّما جاء ذكر المسكرات هنا لمقابلته ب( رِزْقاً حَسَناً ) وكإشارة صغير لتحريم الخمر ونبذه. وعلى هذا فلا حاجة للقول بأنّ هذه الآية نزلت قبل تحريم الخمر أو أنّها تشير إلى تحليله ، بل حقيقة التعبير القرآني يشير إلى التحريم ، ولعل الآية كانت تمثل الإنذار الأوّل للتحريم.

وقد تبدو العبارة وكأنّها جملة اعتراضية بين قوسين داخل الآية القرآنية.

* * *

٢٣٢

بحوث

١ ـ كيف يتكوّن اللبن؟

يقول القرآن الكريم في ذلك كما في الآيات أعلاه : إنّه يخرج من بين «فرث» ـ الأغذية المهضومة داخل المعدة ـ و «دم».

وقد أثبت ذلك فيزيولوجيا : حيث أنّه عند ما يتمّ هضم الغذاء داخل المعدة ويكون جاهزا للامتصاص ينتشر داخل المعدة والأمعاء بشكل واسع وأمام الملايين من العروق الشعيرية ، فتمتص منه العناصر المفيدة المطلوبة لتوصلها إلى تلك الشجرة ذات الجذور التي تنتهي عروقها عند عروق الثدي.

عند ما تتناول المرأة الحامل الغذاء تنتقل عصارته إلى الدم الذي يجري في عروقها حتى يصل نهاية العروق المجاورة لعروق الجنين ليتغذى الجنين بهذه الطريقة ما دام في بطن أمه ، وعند ما ينفصل عن أمّه يتحول طريق تغذيته إلى الثدي وهنا لا تستطيع الأم أن تصل دمها إلى دم ولدها ، ولذلك ينبغي تصفية الغذاء وتغيير حالته بما ينسجم والوضع الجديد للطفل ، وهنا يتكون اللبن من بين فرث ودم ، أي : من بين ما تتناوله الأم الذي يتحول إلى فرث وما ينتقل من مواده إلى الدم ليتكون منه اللبن.

فاللبن في حقيقة شيء وسط بين الفرث والدم ، فلا هو دم مصفى ولا هو غذاء مهضوم ، وهو أعلى من الثّاني ودون الأوّل!

علما بأنّ الثدي يستفيد من الحوامض الأمينية المخزونة في البدن فقط في صناعة المواد البروتينية للبن.

وثمّة مكونات أخرى للبن لا توجد في الدم وإنّما تنتجها غدد خاصّة في الثدي (كالكازوئين).

والبعض الآخر من المكونات يأتي من ترشح بلازما الدم مباشرة : ويدخل في تكوين اللبن من دون أي تغيير (كالفيتامينات وملح الطعام والفوسفات).

٢٣٣

أمّا سكر اللاكتوز الموجود في اللبن فيؤخذ من السكر الموجود في الدم بعد أن تجري عليه الغدد الخاصّة في الثدي التغييرات اللازمة لتحويله إلى نوع جديد من السكر.

ومع أنّ إنتاج اللبن يكون عن طريق جذب المواد الغذائية بواسطة الدم ، ومن خلال الارتباط المباشر بين الدم وغدد الثدي ، إلّا أنّنا لا نلاحظ أيّ أثر لرائحة الفرث أو لون الدم فيه ، بل يبدأ اللبن بالترشح من ثدي الأم بلون جديد ورائحة خاصّة به.

ومن لطيف ما ينقل عن العلماء المتخصصين أنّ إنتاج لتر واحد من اللبن في الثدي يحتاج بما لا يقل عن عبور (٥٠٠) لتر من الدم خلال الثدي ليستطيع من امتصاص المواد اللازمة لإنتاج اللبن ، كما يلزم لإنتاج لتر واحد من الدم عبور مواد غذائية كثيرة من الأمعاء وبهذا يتّضح لنا معنى( مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ ) كاملا(١) .

٢ ـ أهم ما في اللبن من مواد غذائية

اللبن مليء بالمواد الغذائية المختلفة التي تشكل مع بعضها مجموعة عذائية كاملة.

فالمواد المعدنية في اللبن ، عبارة عن : الصوديوم ، البوتاسيوم ، الكالسيوم ، المغنيسيوم، النحاس ، قليل من الحديد بالإضافة إلى الفسفور والكلور وغيرها.

ويوجد في اللبن كذلك غاز الأوكسجين وحامض الكاربونيك.

أمّا المواد السكرية فموجودة بكمية كافية على شكل (لاكتوز).

والفيتامينات المحلولة في اللبن عبارة عن : فيتامين ب ، پ ، آ ، د.

__________________

(١) مقتبس من كتابي : الكيمياء الحياتية والطبية ، وأوّل جامعة وآخر نبي ، الجزء السادس.

٢٣٤

وقد أثبت العلم الحديث أنّ الحيوان الذي يتغذى بشكل جيد يكون لبنه حاويا لكافة أنواع الفيتامينات ، وأصبح بديهيا أنّ اللبن الطازج يعتبر غذاء كاملا. ولا يمكن لنا تفصيل ذلك في هذا البحث المختصر.

ولعل ما روي عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من قوله : «ليس يجزي مكان الطعام والشراب إلّا اللبن» إشارة لهذا السبب.

ونقرأ في روايات أخرى عن اللبن أنّه يزيد في عقل الإنسان ، ويحد النظر ، ويرفع النسيان ، ويقوي القلب والظهر (كما أصبح معلوما أن هذه الآثار لها ارتباط وثيق بما في اللبن من مواد حياتية)(١) .

٣ ـ اللبن غذاء خالص وسهل الهضم

لقد أكّدت الآيات أعلاه على ميزتين مهمتين للبن ـ كونه «خالصا» ، و «سائغا» أي لذيذا وسريع الهضم ـ وكما هو المعروف عن اللبن من كونه غذاء كثير الفائدة على الرغم من قلّة حجمه. و «خالص» أي خال من المواد الزائدة وبذات الوقت فهو سهل الهضم بالشكل الذي جعل ملائما لأي إنسان وعلى مختلف الأعمار ـ منذ الطفولة حتى الشيخوخة ـ ولهذا يعتمده المرضى كغذاء ملائم ومفيد ومقبول ، وبالخصوص ما له من أثر فعال بالنسبة لنمو العظام ، ولهذا يوصى بالإكثار من تناوله في حالات كسور العظام وما شابهها.

ومن جملة معاني الخلوص هو (الربط) ، ولعل البعض اعتمد على هذا المعنى فيما جاء في التعبير القرآني «خالصا» ، واعتبارهم من كون «خالصا» إشارة إلى تأثير اللبن الخالص في بناء وربط العظام.

وكذا نجد في الإحكام الإسلامية الواردة حول الرضاعة ما يشير إلى هذا

__________________

(١) لزيادة التفصيل ، يراجع كتاب أول جامعة وآخر نبي ـ الجزء السادس.

٢٣٥

المعنى بوضوح.

ويقول الفقهاء : إنّ الطفل لو رضع من غير أمّه حتى اشتدت عظامه وزاد لحمه فإنّ مرضعته ستحرم عليه (وما يتبع ذلك في من يعود إليه النسب).

ويقولون أيضا : إن (١٥) رضاعة متوالية ، أو رضاعة يوم وليلة متصلة ، يؤدي إلى هذه الحرمة أيضا.

ولو جمعنا القولين ، ألا ينتج أن التغذية باللبن يوم وليلة لها أثر في تقوية العظام وزيادة اللحم!؟

وينبغي الالتفات إلى أن التوجيهات الإسلامية أكّدت كثيرا على لبن «اللباء» هو أو ما ينزل من اللبن بعد الولادة ، حتى لتقول بعض كتب الفقه إنّ حياة الطفل مرهونة به ، ولهذا اعتبر إعطاء الطفل من حليب اللباء واجبا(١) .

ولعل ما في الآية (٧) من سورة القصص حول موسىعليه‌السلام يتعلق بهذا الموضوع أيضا( وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِ ) .

* * *

__________________

(١) شرح اللمعة ، كتاب النكاح ، أحكام الأولاد ومنها الرضاع.

٢٣٦

الآيتان

( وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (٦٨) ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٦٩) )

التّفسير

( وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ ) !

انتقل الأسلوب القرآني بهاتين الآيتين من عرض النعم الإلهية المختلفة وبيان أسرار الخليقة إلى الحديث عن «النحل» وما يدره من منتوج (العسل) ورمز إلى ذلك الإلهام الخفي بالوحي الإلهي إلى النحل :( أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ ) .

وفي الآية المباركة جملة تعبيرات تستدعي التوقف والدقّة :

١ ـ ما هو «الوحي»

«الوحي» في الأصل (كما يقول الراغب في مفرداته) بمعنى الإشارة السريعة ،

٢٣٧

ثمّ بمعنى الإلقاء الخفي.

وقد جاءت كلمة «الوحي» في القرآن الكريم لترمز إلى عدّة أشياء ، ولكنّها بالنتيجة تعود لذلك المعنى ، منها :

وحي النّبوة : حيث نلاحظ وروده في القرآن بهذا المعنى كثيرا. كما في الآية (٥١) من سورة الشورى :( وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْياً ) .

ومنها : الوحي بمعنى «الإلهام» سواء كان الملهم منتبها لذلك (كما في الإنسان( وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِ ) (١) ، أو مع عدم انتباه الملهم كالإلهام الغريزي (كما في النحل) وهو ما ورد في الآية مورد البحث.

ومن المعروف أنّ الوحي في هذا المورد يعني الأمر الغريزي والباعث الباطني الذي أودعه الله في الكائنات الحيّة.

ومنها : أنّ الوحي بمعنى الإشارة ، كما ورد في قصّة زكريا في الآية (١١) من سورة مريم( فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا ) .

ومنها أيضا : إيصال الرسالة بشكل خفي ، كما في الآية (١١٢) من سورة الأنعام( يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً ) .

٢ ـ هل يختص الإلهام الغريزي بالنحل؟

وإذا كان وجود الغرائز (الإلهام الغريزي) غير منحصر بالنحل دون جميع الحيوانات ، فلما ذا ورد ذكره في الآية في النحل خاصّة؟

والإجابة على السؤال تتّضح من خلال المقدمة التالية : إنّ الدراسة الدقيقة التي قام بها العلماء بخصوص حياة النحل ، قد أثبتت أنّ هذه الحشرة العجيبة لها من التمدن والحياة الاجتماعية المدهشة ما يشبه لحد كبير الجانب التمدني عند

__________________

(١) القصص ، ٧.

٢٣٨

الإنسان وحياته الاجتماعية ، من عدّة جهات.

وقد توصل العلماء اليوم لاكتشاف الكثير من أسرار حياة هذه الحشرة والتي أوصلتهم بقناعة تامة إلى توحيد الخالق والإذعان لربوبيته سبحانه وتعالى.

وأشار القرآن الكريم إلى ذلك الإعجاز بكلمة «الوحي» ليبيّن أنّ حياة النحل لا تقاس بحياة الأنعام ، وليدفعنا للتعمق في عالم أسرار هذه الحشرة العجيبة ، ولنتعرف من خلالها على عظمة وقدرة خالقها ، ولعل «الوحي» هو التعبير الرمزي الذي اختصت به هذه الآية نسبة إلى الآيات السابقة.

٣ ـ المهمّة الأولى في حياة النحل :

وأوّل مهمّة أمر بها النحل في هذه الآية هي : بناء البيت ، ولعل ذلك إشارة إلى أن اتّخاذ المسكن المناسب بمثابة الشرط الأوّل للحياة ، ومن ثمّ القيام ببقية الفعاليات ، أو لعله إشارة إلى ما في بيوت النحل من دقة ومتانة ، حيث أن بناء البيوت الشمعية والسداسية الأضلاع ، والتي كانت منذ ملايين السنين وفي أماكن متعددة ومختلفة ، قد يكون أعجب حتى من عملية صنع العسل(١) .

فكيف تضع هذه المادة الشمعية الخاصة؟ وكيف تبني الخلايا السداسية بتلك الهندسة الدقيقة؟ وبيوت النحل ذات هيئة وأبعاد محسوبة بدقة فائقة وذات زوايا متساوية تماما ، ومواصفاتها تخلو من أية زيادة أو نقصان

فقد اقتضت الحكمة الربانية من جعل بيوت النحل في أفضل صورة وأحسن اختيار وأحكم طبيعة ، وسبحان الله خالق كل شيء.

__________________

(١) عرف لحد الآن (٤٥٠٠) نوعا من النحل الوحشي ، والعجيب أنّها في حال واحدة من حيث : الهجرة ، بناء الخلايا ، المكان ، تناول رحيق الأزهار ، أوّل جامعة ، الجزء الخامس.

٢٣٩

٤ ـ اين مكان النحل :

وقد عيّنت الآية المباركة مكان بناء الخلايا في الجبال ، وبين الصخور وانعطافاتها المناسبة ، وبين أغصان الأشجار ، وأحيانا في البيوت التي يصنعها لها الإنسان.

ويستفاد من تعبير الآية أن خلايا النحل يجب أن تكون في نقطة مرتفعة من الجبل أو الشجرة أو البيوت الصناعية ليستفاد منها بشكل أحسن.

ويذكر القرآن الكريم في الآية التالية المهمّة الثّانية للنحل :( ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً ) .

«الذلل» : (جمع ذلول) بمعنى التسليم والانقياد.

ووصف الطرق بالذلل لأنّها قد عينت بدقّة لتكون مسلمة ومنقادة للنحل في تنقله ، وسنشير إلى كيفية ذلك قريبا.

وأخيرا يعرض القرآن المهمّة الأخيرة للنحل (كنتيجة لما قامت به من مهام سابقة) :( يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ) في طبيعة حياتها وما تعطيه من غذاء للإنسان (فيه شفاء) ، وهو دليل على عظمة وقدرة الباريعزوجل .

* * *

بحوث

وفي الآية جملة بحوث قيمة أخرى :

١ ـ مم يتكون العسل؟

يمتص النحل بعض المواد السكرية الخاصّة الموجودة في مياسم الأوراد ، ويقول خبراء النحل : إنّ عمل النحل في واقعة لا ينحصر بأخذ المادة السكرية فقط ، بل يتعدى ذلك في بعض الأحيان للاستفادة من بعض أجزاء الورود

٢٤٠

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496