الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٨

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل12%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 496

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 496 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 231444 / تحميل: 7121
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٨

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

وهذه الآيات ـ التي نبحثها ـ في الحقيقة تقف على نماذج للأمم السابقة ممّن شاهدوا أنواع المعاجز والأعمال غير العادية ، إلّا أنّهم استمروا في الإنكار وعدم الإيمان.

في البدء يقول تعالى :( وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ ) . سنشير في نهاية هذا البحث إلى هذه الآيات التسع وماهيتها.

ولأجل التأكيد على الموضوع اسأل ـ والخطاب موّجه إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ بني إسرائيل (اليهود) أمام قومك المعارضين والمنكرين :( فَسْئَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ إِذْ جاءَهُمْ ) .

إلّا أنّ الطاغية الجبار فرعون ـ برغم الآيات ـ لم يستسلم للحق ، بل أكثر من ذلك اتّهم موسى( فَقالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا مُوسى مَسْحُوراً ) .

وفي بيان معنى «مسحور» ذكر المفسّرون تفسيرين ، فالبعض قالوا : إنّها تعني الساحر بشهادة آيات قرآنية أخرى ، تقول بأنّ فرعون وقومه اتّهموا موسى بالساحر ، ومثل هذا الاستخدام وارد وله نظائر في اللغة العربية ، حيث يكون اسم المفعول بمعنى الفاعل ، كما في (مشؤوم) التي يمكن أن تأتي بمعنى «شائم» و (ميمون) بمعنى «يامن».

ولكن قسم آخر من المفسّرين أبقى كلمة «مسحور» بمعناها المفعولي والتي تعني الشخص الذي أثّر فيه الساحر ، كما يستفاد من الآية (39) من سورة الذاريات التي نسبت السحر إليه ، والجنون أيضا ،( فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقالَ ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ ) .

على أي حال ، فإنّ التعبير القرآني يكشف عن الأسلوب الدعائي التحريضي الذي يستخدمه المستكبرون ويتهمون فيه الرجال الإلهيين بسبب حركتهم الإصلاحية الربانية ضدّ الفساد والظلم ، إذ يصف الظالمون والطغاة معجزاتهم بالسحر أو ينعتونهم بالجنون كي يؤثروا من هذا الطريق في قلوب الناس

١٦١

ويفرّقوهم عن الأنبياء.

ولكن موسىعليه‌السلام لم يسكت أمام اتّهام فرعون له ، بل أجابه بلغة قاطعة يعرف فرعون مغزاها الدقيق ، إذ قال له :( قالَ لَقَدْ عَلِمْتَ ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بَصائِرَ ) .

لذا فإنّك ـ يا فرعون ـ تعلم بوضوح أنّك تتنكر للحقائق ، برغم علمك بأنّها من الله! فهذه «بصائر» أي أدلة واضحة للناس كي يتعرفوا بواسطتها على طريق الحق. وعند ما سيسلكون طريق السعادة. وبما أنّك ـ يا فرعون ـ تعرف الحق وتنكره ، لذا :( وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً ) .

(مثبور) من (ثبور) وتعني الهلاك.

ولأنّ فرعون لم يستطع أن يقف بوجه استدلالات موسى القوية ، فإنّه سلك طريقا يسلكه جميع الطواغيت عديمي المنطق في جميع القرون وكافة الأعصار ، وذاك قوله تعالى:( فَأَرادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْناهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعاً ) .

«يستفز» من «استفزاز» وتعني الإخراج بقوة وعنف.

ومن بعد هذا النصر العظيم :( وَقُلْنا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنا بِكُمْ لَفِيفاً ) . فتأتون مجموعات يوم القيامة للحساب.

«لفيف» من مادة «لفّ» وهنا تعني المجموعة المتداخلة المعقّدة بحيث لا يعرف الأشخاص ، ولا من أي قبيلة هم!

* * *

بحوث

1 ـ المقصود من الآيات التسع

لقد ذكر القرآن الكريم آيات ومعجزات كثيرة لموسىعليه‌السلام منها ما يلي :

1 ـ تحوّل العصا إلى ثعبان عظيم يلقف أدوات الساحرين ، كما في الآية

١٦٢

(20) من سورة طه :( فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى ) .

2 ـ اليد البيضاء لموسىعليه‌السلام والتي تشع نورا :( وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلى جَناحِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرى ) (1) .

3 ـ الطوفان :( فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ ) (2) .

4 ـ الجراد الذي أباد زراعتهم وأشجارهم( وَالْجَرادَ ) (3) .

5 ـ والقمل الذي هو نوع من الأمراض والآفات التي تصيب النبات : و( الْقُمَّلَ ) (4) .

6 ـ (الضفادع) التي جاءت من النيل وتكاثرت وأصبحت وبالا على حياتهم:( وَالضَّفادِعَ ) (5) .

7 ـ الدم ، أو الابتلاء العام بالرعاف ، أو تبدّل نهر النيل إلى لون الدم ، بحيث أصبح ماؤه غير صالح لا للشرب ولا للزراعة :( وَالدَّمَ آياتٍ مُفَصَّلاتٍ ) (6) .

8 ـ فتح طريق في البحر بحيث استطاع بنو إسرائيل العبور منه :( وَإِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ ) (7) .

9 ـ نزول ال (منّ) و (السلوى) من السماء ، وقد شرحنا ذلك في نهاية الآية (57) من سورة البقرة( وَأَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى ) (8) .

10 ـ انفجار العيون من الأحجار :( فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً ) (9) .

11 ـ انفصال جزء من الجبل ليظلّلهم :( وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ

__________________

(1) طه ، 22.

(2) و (3) و (4) و (5) و (6) ـ الأعراف ، 133.

(7) البقرة ، 50.

(8) البقرة ، 57.

(9) البقرة ، 60.

١٦٣

ظُلَّةٌ ) (1) .

12 ـ الجفاف ونقص الثمرات :( وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ ) (2) .

13 ـ عودة الحياة إلى المقتول والذي أصبح قتله سببا للاختلاف بين بني إسرائيل:( فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها كَذلِكَ يُحْيِ اللهُ الْمَوْتى ) (3) .

14 ـ الاستفادة من ظل الغمام في الاحتماء من حرارة الصحراء بشكل إعجازي :( وَظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ ) (4) .

ولكن الكلام هنا هو : ما هو المقصود من (الآيات التسع) المذكورة في الآيات التي نبحثها؟

يظهر من خلال التعابير المستخدمة في هذه الآيات أنّ المقصود هو المعاجز المرتبطة بفرعون وأصحابه ، وليست تلك المتعلقة ببني إسرائيل من قبيل نزول المنّ والسلوى وتفجّر العيون من الصخور وأمثال ذلك.

لذا يمكن القول أنّ الآية (133) من سورة الأعراف تتعرض إلى خمسة مواضيع من الآيات التسع وهي : (الطوفان ، القمّل ، الجراد ، الضفادع ، والدم).

كذلك اليد البيضاء والعصا تدخل في الآيات التسع ، يؤيد ذلك ورود تعبير (الآيات التسع) في الآيات (10 ـ 12) من سورة النمل بعد ذكر هاتين المعجزتين الكبيرتين.

وبذلك يصبح مجموع هذه المعاجز ـ الآيات ـ سبعا ، فما هي الآيتان الأخيرتان؟

بلا شك إنّنا لا نستطيع اعتبار غرق فرعون وقومه في عداد الآيات التسع ،

__________________

(1) الأعراف ، 171.

(2) الأعراف ، 130.

(3) البقرة ، 73.

(4) البقرة ، 57.

١٦٤

لأنّ الهدف من الآيات أن تكون دافعا لهدايتهم وسببا لقبولهم بنبوة موسىعليه‌السلام ، لا أن تقوم بهلاك فرعون وقومه.

عند التدقيق في آيات سورة الأعراف التي جاء فيها ذكر العديد من هذه الآيات يظهر أنّ الآيتين الأخريتين هما : (الجفاف) و (نقص الثمرات) حيث أننا نقرأ بعد معجزة العصا واليد البيضاء وقبل تبيان الآيات الخمس (الجراد ، والقمل ...) قوله تعالى :( وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ ) .

وبالرغم من أنّ البعض يتصوّر أنّ الجفاف لا يمكن فصله عن نقص الثمرات وبذا تعتبر الآيتان آية واحدة ، إلّا أنّ الجفاف المؤقت والمحدود ـ كما قلنا في تفسير الآية (130) من سورة الأعراف ـ لا يؤثّر تأثيرا كبيرا في الأشجار ، أمّا عند ما يكون جفافا طويلا فإنّه سيؤدي إلى إبادة الأشجار ، لذا فإنّ الجفاف لوحده لا يؤدي دائما إلى نقص الثمرات.

إضافة إلى ما سبق يمكن أن يكون السبب في نقص الثمرات هو الأمراض والآفات وليس الجفاف.

والنتيجة أنّ الآيات التسع التي وردت الإشارة إليها في الآيات التي نبحثها هي:العصا، اليد البيضاء ، الطوفان ، الجراد ، القمل ، الضفادع ، الدم ، الجفاف ، ونقص الثمرات.

ومن نفس سورة الأعراف نعرف أنّ هؤلاء ـ برغم الآيات التسع هذه ـ لم يؤمنوا ، لذلك انتقمنا منهم وأغرقناهم في اليم بسبب تكذيبهم(1) .

هناك روايات عديدة وردت في مصادرنا حول تفسير هذه الآية ، ولاختلافها فيما بينها لا يمكن الاعتماد عليها في إصدار الحكم.

__________________

(1) الأعراف ، 136.

١٦٥

2 ـ هل أنّ السائل هو الرّسول نفسه؟

ظاهر الآيات أعلاه يدل على أنّ الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان قد أمر بسؤال بني إسرائيل حول الآيات التسع التي نزلت على موسى ، وكيف أنّ فرعون وقومه صدّوا عن حقانية موسىعليه‌السلام بمختلف الذرائع رغم الآيات.

ولكن بما أنّ لدى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من العلم والعقل بحيث أنّه لا يحتاج إلى السؤال ، لذا فإنّ بعض المفسّرين ذهب الى أن المأمور بالسؤال هم المخاطبون الآخرون.

ولكن يمكن أن يقال : إنّ سؤال الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يكن لنفسه ، بل للمشركين ، لذلك فما المانع من أن يكون شخص الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو الذي يسأل حتى يعلم المشركون أنّه عند ما لم يوافق على اقتراحاتهم ، فذلك لأنّها اقتراحات باطلة قائمة على التعصّب والعناد ، كما قرأنا في قصّة موسى وفرعون ونظير ذلك.

3 ـ ما المراد ب (الأرض) المذكورة في الآيات؟

قرأنا في الآيات أعلاه أنّ الله أمر بني إسرائيل بعد أن انتصروا على فرعون وجنوده أن يسكنوا الأرض ، فهل الغرض من الأرض هي مصر (نفس الكلمة وردت في الآية السابقة والتي بيّنت أنّ فرعون أراد أن يخرجهم من تلك الأرض.

وبنفس المعنى أشارت آيات أخرى إلى أنّ بني إسرائيل ورثوا فرعون وقومه) أو أنّها إشارة إلى الأرض المقدّسة فلسطين ، لأنّ بني إسرائيل بعد هذه الحادثة اتجهوا نحو أرض فلسطين وأمروا أن يدخلوها.

بالنسبة لنا فإنّنا لا نستبعد أيّا من الاحتمالين ، لأنّ بني إسرائيل ـ بشهادة الآيات القرآنية ـ ورثوا أراضي فرعون وقومه ، وامتلكوا أرض فلسطين أيضا.

١٦٦

4 ـ هل تعني كلمة (وعد الآخرة) يوم البعث والآخرة؟

ظاهرا إنّ الإجابة بالإيجاب ، حيث أنّ جملة( جِئْنا بِكُمْ لَفِيفاً ) قرينة على هذا الموضوع ، ومؤيّدة لهذا الرأي. إلّا أنّ بعض المفسّرين احتملوا أنّ (وعد الآخرة) إشارة إلى ما أشرنا إليه في بداية هذه السورة ، من أنّ الله تبارك وتعالى قد توعّد بني إسرائيل بالنصر والهزيمة مرّتين ، وقد سمى الأولى بـ «وعد الأولى» والثّانية بـ «وعد الآخرة» ، إلّا أنّ هذا الاحتمال ضعيف مع وجود قوله تعالى :( جِئْنا بِكُمْ لَفِيفاً ) (فدقق في ذلك).

* * *

١٦٧

الآيات

( وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً (105) وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلاً (106) قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً (107) وَيَقُولُونَ سُبْحانَ رَبِّنا إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولاً (108) وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً (109) )

التّفسير

عشاق الحق

مرّة أخرى يشير القرآن العظيم إلى أهمية وعظمة هذا الكتاب السماوي ويجيب على بعض ذرائع المعارضين.

في البداية تقول الآيات :( وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ ) ، ثمّ تضيف بلا أدنى فاصلة( وَبِالْحَقِّ نَزَلَ ) .

ثمّ تقول :( وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا مُبَشِّراً وَنَذِيراً ) إذ ليس لك الحق في تغيير محتوى القرآن.

١٦٨

لقد ذكر المفسّرون آراء مختلفة في الفرق بين الجملة الأولى :( وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ ) والجملة الثّانية :( وَبِالْحَقِّ نَزَلَ ) منها :

1 ـ المراد من الجملة الأولى : إنّنا قدّرنا أن ينزل القرآن بالحق. بينما تضيف الجملة الثّانية أنّ هذا الأمر أو التقدير قد تحقق ، لذا فإنّ التعبير الأوّل يشير إلى التقدير ، بينما يشير الثّاني إلى مرحلة الفعل والتحقق(1) .

2 ـ الجملة الأولى تشير إلى أنّ مادة القرآن ومحتواه هو الحق ، أمّا التعبير الثّاني فانّه يبيّن أن نتيجته وثمرته هي الحق أيضا(2) .

3 ـ الرأي الثّالث يرى أنّ الجملة الأولى تقول : إنّنا نزّلنا هذا القرآن بالحق بينما الثّانية تقول : إنّ الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يتدخل في الحق ولم يتصرف به ، لذا فقد نزل الحقّ.

وثمّة احتمال آخر قد يكون أوضح من هذه التّفاسير ، وهو أنّ الإنسان قد يبدأ في بعض الأحيان بعمل ما ، ولكنّه لا يستطيع إتمامه بشكل صحيح وذلك بسبب من ضعفه ، أمّا بالنسبة للشخص الذي يعلم بكل شيء ويقدر على كل شيء ، فإنّه يبدأ بداية صحيحة ، وينهي العمل نهاية صحيحة. وكمثال على ذلك الشخص الذي يخرج ماء صافيا من أحد العيون ، ولكن خلال مسير هذا الماء لا يستطيع ذلك الشخص أن يحافظ على صفاء هذا الماء ونظافته أو يمنعه من التلوث ، فيصل الماء في هذه الحالة إلى الآخرين وهو ملوّث. إلّا أنّ الشخص القادر والمحيط بالأمور ، يحافظ على بقاء الماء صافيا وبعيدا عن عوامل التلوث حتى يصل إلى العطاشى والمحتاجين له.

القرآن كتاب نزل بالحق من قبل الخالق ، وهو محفوظ في جميع مراحله سواء في المرحلة التي كان الوسيط فيها جبرائيل الأمين ، أو المرحلة التي كان

__________________

(1) يراجع تفسير القرطبي ، ج 6 ، ص 3955.

(2) في ظلال القرآن ، أننا تفسير الآية.

١٦٩

الرّسول فيها هو المتلقي ، وبمرور الزمن له تستطيع يد التحريف والتزوير أن تمتد إليه بمقتضى قوله تعالى :( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ ) فالله هو الذي يتكفل حمايته وحراسته.

لذا فإنّ هذا الماء النقي الصافي الوحي الإلهي القويم لم تناله يد التحريف والتبديل منذ عصر الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وحتى نهاية العالم.

الآية التي تليها ترد على واحدة من ذرائع المعارضين وحججهم ، إذ كانوا يقولون: لماذا لم ينزل القرآن دفعة واحدة على الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولماذا كان نزوله تدريجيا؟ كما تشير إلى ذلك الآية (32) من سورة الفرقان التي تقول :( وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً ، كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلاً ) فيقول الله في جواب هؤلاء:( وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ ) (1) حتى يدخل القلوب والأفكار ويترجم عمليا بشكل كامل.

ومن أجل التأكيد أكثر تبيّن الآية ـ بشكل قاطع ـ أنّ جميع هذا القرآن أنزلناه نحن:( وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلاً ) .

إنّ القرآن كتاب السماء إلى الأرض ، وهو أساس الإسلام ودليل لجميع البشر ، والقاعدة المتينة لجميع الشرائع القانونية والاجتماعية والسياسية والعبادية لدنيا المسلمين ، لذلك فإنّ شبهة هؤلاء في عدم نزوله دفعة واحدة على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يجاب عليها من خلال النقاط الآتية :

أوّلا : بالرغم من أنّ القرآن هو كتاب ، إلّا أنّه ليس ككتب الإنسان المؤلّفة حيث يجلس المؤلّف ويفكّر ويكتب موضوعا ، ثمّ ينظّم فصول الكتاب وأبوابه لينتهي من تحرير الكتاب ، بل القرآن له ارتباط دقيق بعصره ، أي ارتباط ب (23) سنة ، هي عصر نبوة نبي الإسلام بكل ما كانت تتمخض به من حوادث وقضايا.

__________________

(1) مجيء كلمة (قرآن) منصوبة في الآية أعلاه يفسّره المفسّرين بأنّه مفعول لفعل مقدّر تقديره (فرقناه) ، وبذلك تصبح الجملة هكذا : (وفرقناه قرآنا).

١٧٠

لذا كيف يمكن لكتاب يتحدث عن حوادث (23) سنة متزامنا لها أن ينزل في يوم واحد؟

هل يمكن جمع حوادث (23) سنة نفسها في يوم واحد ، حتى ينزل القرآن في يوم واحد؟

إنّ في القرآن آيات تتعلق بالغزوات الإسلامية ، وآيات تختص بالمنافقين ، وأخرى ترتبط بالوفود التي كانت تفد على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . فهل يمكن أن يكتب مجموع كل ذلك منذ اليوم الأوّل؟

ثانيا : ليس القرآن كتابا ذا طابع تعليمي وحسب ، بل ينبغي لكل آية فيه أن تنفّذ بعد نزولها ، فإذا كان القرآن قد نزل مرّة واحدة ، فينبغي أن يتمّ العمل به مرّة واحدة أيضا ، ونعلم بأنّ هذا محال ، لأنّ إصلاح مجتمع مليء بالفساد لا يتمّ في يوم واحد ، إذ لا يمكن إرسال الطفل الأمي دفعة واحدة من الصف الأوّل إلى الصفوف المتقدمة في الجامعة في يوم واحد. لهذا السبب نزل القرآن نجوما ـ أي بشكل تدريجي ـ كي ينفذ بشكل جيّد ويستوعبه الجميع وكي يكون للمجتمع قابلية قبوله واستيعابه وتمثله عمليا.

ثالثا : بدون شك ، إنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كقائد هذه النهضة العظيمة سيكون ذا قدرات وإمكانيات أكبر عند ما يقوم بتطبيق القرآن جزءا جزءا ، بدلا من تنفيذه دفعة واحدة. صحيح أنّه مرسل من الخالق وذو عقل واستعداد كبيرين ليس لهما مثيل ، إلّا أنّه برغم ذلك فإنّ تقبّل الناس للقرآن وتنفيذ تعاليمه بصورة تدريجية سيكون أكمل وأفضل ممّا لو نزل دفعة واحدة.

رابعا : النّزول التدريجي يعني الارتباط الدائمي للرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مع مصدر الوحي ، إلّا أنّ النّزول الدفعي يتمّ بمرحلة واحدة لا يتسنى للرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الارتباط بمصدر الوحي لأكثر من مرّة واحدة.

آخر الآية (32) من سورة الفرقان تقول :( كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَرَتَّلْناهُ

١٧١

تَرْتِيلاً ) وهي إشارة إلى السبب الثّالث ، بينما الآية التي نبحثها تشير إلى السبب الثّاني من مجموع الأسباب الأربعة التي أوردناها. ولكن الحصيلة أنّ مجموع هذه العوامل تكشف بشكل حي وواضح أسباب وثمار النّزول التدريجي للقرآن.

الآية التي تليها استهدفت غرور المعارضين الجهلة حيث تقول :( قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً ) .

* * *

ملاحظات

في هذه الآية ينبغي الالتفات إلى الملاحظات الآتية :

أوّلا : يعتقد المفسّرون أنّ جملة( آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا ) يتبعها جملة محذوفة قدّروها بأوجه متعدّدة ، إذ قال بعضهم : إن المعنى هو : سواء آمنتم أم لم تؤمنوا فلا يضر ذلك بإعجاز القرآن ونسبته إلى الخالق.

بينما قال البعض : إنّ التقدير يكون : سواء آمنتم به أو لم تؤمنوا فإنّ نفع ذلك وضرره سيقع عليكم.

لكن يحتمل أن تكون الجملة التي بعدها مكمّلة لها ، وهي كناية عن أنّ عدم الإيمان هو سبب عدم العلم والمعرفة ، فلو كنتم تعلمون لآمنتم به. وبعبارة أخرى : يكون المعنى : إذا لم تؤمنوا به فإنّ الأفراد الواعين وذوي العلم يؤمنون به.

ثانيا : إنّ المقصود من( الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ ) هم مجموعة من علماء اليهود والنصارى من الذين آمنوا بعد أن سمعوا آيات القرآن ، وشاهدوا العلائم التي قرءوها في التوراة والإنجيل ، والتحقوا بصف المؤمنين الحقيقيين ، وأصبحوا من علماء الإسلام.

وفي آيات أخرى من القرآن تمت الإشارة إلى هذا الموضوع ، كما في قوله

١٧٢

تعالى في الآية (113) من سورة آل عمران :( لَيْسُوا سَواءً مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ يَتْلُونَ آياتِ اللهِ آناءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ ) .

ثالثا : «يخرّون» بمعنى يسقطون على الأرض بدون إرادتهم ، واستخدام هذه الكلمة بدلا من السجود ينطوي على إشارة لطيفة ، هي أنّ الواعين وذوي القلوب اليقظة عند ما يسمعون آيات القرآن وكلام الخالقعزوجل ينجذبون إليه ويولهون به الى درجة أنّهم يسقطون على الأرض ويسجدون خشية بدون وعي واختيار(1) .

رابعا : (أذقان) جمع (ذقن) ومن المعلوم أن ذقن الإنسان عند السجود لا يلمس الأرض ، إلّا أن تعبير الآية إشارة إلى أنّ هؤلاء يضعون كامل وجههم على الأرض قبال خالقهم حتى أنّ ذقنهم قد يلمس الأرض عند السجود.

بعض المفسّرين احتمل أنّ الإنسان عند سجوده يضع أوّلا جبهته على الأرض ، ولكن الشخص المدهوش عند ما يسقط على الأرض يضع ذقنه أولا ، فيكون استخدام هذا التعبير في الآية تأكيدا لمعنى (يخرون)(2) .

الاية التي بعدها توضح قولهم عند ما يسجدون :( وَيَقُولُونَ سُبْحانَ رَبِّنا إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولاً ) (3) . هؤلاء يعبرون بهذا الكلام عن عمق إيمانهم واعتقادهم بالله وبصفاته وبوعده. فهذا الكلام يشمل الإيمان بالتوحيد والصفات الحقة والإيمان بنبوة الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبالمعاد. والكلام على هذا الأساس يجمع أصول الدين في جملة واحدة.

وللتأكيد ـ أكثر ـ على تأثّر هؤلاء بآيات ربّهم ، وعلى سجدة الحب التي

__________________

(1) يقول الراغب في (المفردات) : «يخرون» من مادة «خرير» ويقال لصوت الماء والريح وغير ذلك ممّا يسقط من علّو. وقوله تعالى :( خَرُّوا لَهُ سُجَّداً ) تنبيه على اجتماع أمرين : السقوط وحصول الصوت منهم بالتسبيح ، والتنبيه أنّ ذلك الخرير كان صوت تسبيحهم بحمد الله لا بشيء آخر. ودليله قوله تعالى فيما بعد:( وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ ) .

(2) تفسير المعاني ، ج 15 ، ص 175.

(3) (إنّ) في قوله :( إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا ) غير شرطية ، بل هي تأكيدية ، وهي مخففة من الثقيلة.

١٧٣

يسجدونها تقول الآية التي بعدها :( وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً ) .

إنّ تكرار جملة( يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ ) دليل على التأكيد ، وعلى الاستمرار أيضا.

الفعل المضارع (يبكون) دليل على استمرار البكاء بسبب حبّهم وعشقهم لخالقهم.

واستخدام الفعل المضارع في جملة( يَزِيدُهُمْ خُشُوعاً ) دليل على أنّهم لا يتوقفون أبدا على حالة واحدة ، بل يتوجهون باستمرار نحو ذروة التكامل ، وخشوعهم دائما في زيادة (الخشوع هو حالة من التواضع والأدب الجسدي والروحي للإنسان في مقابل شخصية معينة أو حقيقة معينة).

* * *

بحثان :

1 ـ التخطيط للتربية والتعلم

من الدروس المهمّة التي نستفيدها من الآيات أعلاه ، هو ضرورة التخطيط لأي ثورة أو نهضة ثقافية أو فكرية أو اجتماعية أو تربوية ، فإذا لم يتمّ تنظيم مثل هذا البرنامج فالفشل سيكون النتيجة الحتمية لمثل هذه الجهود. إنّ القرآن الكريم لم ينزل على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مرّة واحدة بالرغم من أنّه كان موجودا في مخزون علم الله كاملا ، وقد تمّ عرضه في ليلة القدر على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دفعة واحدة ، إلّا أنّ النّزول التدريجي استمرّ طوال (23) سنة ، وضمن مراحل زمنية مختلفة وفي إطار برنامج عملي دقيق.

وعند ما يقوم الخالق جلّ وعلا بهذا العمل بالرغم من عمله وقدرته المطلقة وغير المتناهية عند ذلك سيتّضح دورنا وتكليفنا نحن إزاء هذا المبدأ. وعادة ما يكون هذا قانونا وتكليفا إلهيا ، حيث أنّ وجوده العيني لا يختص بعالم التشريع

١٧٤

وحسب ، بل في عالم التكوين أيضا. إنّه من غير المتوقع أن تنصلح أمور مجتمع في مرحلة البناء خلال ليلة واحدة لأنّ البناء الحضاري الفكري والثقافي والاقتصادي والسياسي يحتاج إلى المزيد من الوقت.

وهذا الكلام يعني أنّنا إذا لم نصل إلى النتيجة المطلوبة في وقت قصير فعلينا أن لا نيأس ونترك بذل الجهد أو المثابرة. وينبغي أن نلتفت إلى أنّ الانتصارات النهائية والكاملة تكون عادة لأصحاب النفس الطويل.

2 ـ علاقة العلم بالإيمان

الموضوع الآخر الذي يمكن أن نستفيده من الآيات أعلاه هو علاقة العلم بالإيمان، إذ تقول الآيات : إنّكم سواء آمنتم بالله أو لم تؤمنوا فإنّ العلماء سيؤمنون بالله إلى درجة أنّهم يعشقون الخالق ويسقطون أرضا ساجدين من شدّة الوله والحبّ ، وتجري الدّموع من أعينهم، وإنّ هذا الخشوع والتأدّب يتصف بالاستمرار في كل عصر وزمان.

إنّ الجهلة ـ فقط ـ هم الذين لا يعيرون أهمية للحقائق ويواجهونها بالاستهزاء والسخرية ، وإذا أثّر فيهم الإيمان في بعض الأحيان فإنّه سيكون تأثيرا ضعيفا خاليا من الحبّ والحرارة.

إضافة إلى ذلك ، فإنّ في الآية ما يؤكّد خطأ وخطل النظرية التي تربط بين الدين والجهل أو الخوف من المجهول. أمّا القرآن فإنّه يؤكّد على عكس ذلك تماما ، إذ يقول في مواقع متعدّدة : إنّ العلم والإيمان توأمان ، إذ لا يمكن أن يكون هناك إيمان عميق ثابت من دون علم ، والعلم في مراحلة المتقدمة يحتاج إلى الإيمان. (فدقق في ذلك).

* * *

١٧٥

الآيتان

( قُلِ ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً (110) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً (111) )

سبب النّزول

وردت آراء متعدّدة في سبب نزول هاتين الآيتين منها ما نقله صاحب مجمع البيان عن ابن عباس الذي قال : كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ساجدا ذات ليلة بمكّة يدعو : يا رحمن يا رحيم ، فقال المشركون متهمين رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّه يدعونا إلى إله واحد ، بينما يدعو هو مثنى مثنى. يقصدون بذلك قول رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يا رحمن يا رحيم. فنزلت الآية الكريمة أعلاه(1) .

__________________

(1) يراجع مجمع البيان أثناء تفسير الآية.

١٧٦

التّفسير

آخر الذرائع والأغذار

بعد سلسلة من الذرائع التي تشبث بها المشركون امام دعوة الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، نصل مع الآيات التي بين أيدينا إلى آخر ذريعة لهم ، وهي قولهم : لماذا يذكر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الخالق بأسماء متعدّدة بالرغم من أنّه يدّعي التوحيد. القرآن ردّ على هؤلاء بقوله :( قُلِ ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى ) . إنّ هؤلاء عميان البصيرة والقلب ، غافلون عن أحداث ووقائع حياتهم اليومية حيث كانوا يذكرون أسماء مختلفة لشخص واحد أو لمكان واحد ، وكل اسم من هذه الأسماء كان يعرّف بشطر أو بصفة من صفات ذلك الشخص أو المكان.

بعد ذلك ، هل من العجيب أن تكون للخالق أسماء متعدّدة تتناسب مع أفعاله وكمالاته وهو المطلق في وجوده وفي صفاته والمنبع لكل صفات الكمال وجميع النعم ، وهو وحدهعزوجل الذي يدير دفة هذا العالم والوجود؟

أساسا ، فانّ الله تعالى لا يمكن معرفته ومناجاته باسم واحد إذ ينبغي أن تكون أسماؤه مثل صفاته غير محدودة حتى تعبّر عن ذاته ، ولكن لمحدودية ألفاظنا ـ كما هي أشياؤنا الأخرى أيضا ـ لا نستطيع سوى ذكر أسماء محدودة له ، وإنّ معرفتنا مهما بلغت فهي محدودة أيضا ، حتى أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو من هو في منزلته وروحه وعلو شأنه ، نراه يقول : «ما عرفناك حق معرفتك».

إنّ الله تعالى في قضية معرفتنا إيّاه لم يتركنا في أفق عقولنا ودرايتنا الخاصّة ، بل ساعدنا كثيرا في معرفة ذاته ، وذكر نفسه بأسماء متعدّدة في كتابه العظيم ، ومن خلال كلمات أوليائه تصل أسماؤه ـ تقدس وتعالى ـ إلى ألف اسم.

وطبيعي أنّ كل هذه أسماء الله ، وأحد معاني الأسماء العلّامة ، لذا فإنّ هذه علامات على ذاته الطاهرة ، وجميع هذه الخطوط والعلامات تنتهي إلى نقطة

١٧٧

واحدة ، وهي لا تقلّل من شأن توحيد الذات والصفات.

وهناك قسم من هذه الأسماء ذو أهمية وعظمة أكثر ، حيث تعطينا معرفة ووعيا أعظم، تسمى في القرآن الكريم وفي الرّوايات الإسلامية ، بالأسماء الحسنى ، وهناك رواية معروفة عن رسول الهدىصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما مضمونها : «إن الله تسعا وتسعين اسما ، من أحصاها دخل الجنّة».

وهناك شرح مفصل للأسماء الحسنى ، والأسماء التسعة والتسعين بالذات ، أوردناه في نهاية الحديث عن الآية (180) من سورة الأعراف ، في قوله تعالى :( وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها ) .

لكن علينا أن نفهم أنّ الغرض من عد الأسماء الحسنى ليس ذكرها على اللسان وحسب ، حتى يصبح الإنسان من أهل الجنّة ومستجاب الدعوة ، بل إنّ الهدف هو التخلّق بهذه الأسماء وتطبيق شذرات من هذه الأسماء ، مثل (العالم ، والرحمن ، والرحيم ، والجواد،والكريم) في وجودنا حتى نصبح من أهل الجنّة ومستجابي الدعوة.

وهناك كلام ينقله الشيخ الصدوقرحمه‌الله في كتاب التوحيد عن هشام بن الحكم جاء فيه :

يقول هشام بن الحكم : سألت أبا عبد الله الصادقعليه‌السلام عن أسماء الله عزّ ذكره واشتقاقها فقلت : الله ممّا هو مشتق؟

قالعليه‌السلام : «يا هشام ، الله مشتق من إله ، وإله يقتضي مألوها ، والاسم غير المسمّى ، فمن عبد الاسم دون المعنى فقد كفر ولم يعبد شيئا ، ومن عبد الاسم والمعنى فقد أشرك وعبد الاثنين ، ومن عبد المعنى دون الاسم فذاك التوحيد.

أفهمت يا هشام؟».

قال هشام : قلت : زدني.

قالعليه‌السلام : «للهعزوجل تسعة وتسعون اسما ، فلو كان الاسم هو المسمى لكان

١٧٨

كلّ اسم منها هو إلها ، ولكن اللهعزوجل معنى يدلّ عليه بهذه الأسماء وكلّها غيره.

يا هشام ، الخبز اسم للمأكول ، والماء اسم للمشروب ، والثوب اسم للملبوس ، والنار اسم للمحرق»(1) .

والآن لنعد إلى الآيات. ففي نهاية الآية التي نبحثها نرى المشركين يتحدّثون عن صلاة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويقولون : إنّه يؤذينا بصوته المرتفع في صلاته وعبادته ، فما هذه العبادة؟ فجاءت التعليمات لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عبر قوله تعالى :( وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً ) .

لذلك فإنّ الآية أعلاه لا علاقة لها بالصلوات الجهرية والإخفاتية في اصطلاح الفقهاء، بل إنّ المقصود منها يتعلق بالإفراط والتفريط في الجهر والإخفات ، فهي تقول : لا تقرأ بصوت مرتفع بحيث يشبه الصراخ ، ولا أقل من الحد الطبيعي بحيث تكون حركة شفاه وحسب ولا صوت فيها.

أسباب النّزول الواردة ـ حول الآية ـ التي يرويها الكثير من المفسّرين نقلا عن ابن عباس تؤيّد هذا المعنى.(2)

وهناك آيات عديدة من طرق أهل البيت نقلا عن الإمام الباقر والصادقعليهما‌السلام وتؤيد هذا المعنى وتشير إليه(3) .

لذا فإنا نستبعد التفاسير الأخرى الواردة حول الآية.

أمّا ما هو حد الاعتدال ، وما هو الجهر والإخفات المنهي عنهما؟ الظاهر أنّ الجهر هو بمعنى (الصراخ) ، و (الإخفات) هو من السكون بحيث لا يسمعه حتى فاعله.

وفي تفسير علي بن إبراهيم عن الإمام الصادقعليه‌السلام أنّه قال في تفسير الآية :

__________________

(1) توحيد الصدوق نقلا عن تفسير الميزان أثناء تفسير الآية.

(2) ـ يمكن مراجعة نور الثقلين ، ج 3 ، ص 233 فما بعد.

١٧٩

«الجهر بها رفع الصوت ، والتخافت بها ما لم تسع نفسك ، واقرأ بين ذلك»(1) .

أمّا الإخفات والجهر في الصلوات اليومية ، فهو ـ كما أشرنا لذلك ـ له حكم آخر، أو مفهوم آخر ، أي له أدلة منفصلة ، حيث ذكرها فقهاؤنا رضوان الله عليهم في (كتاب الصلاة) وبحثوا عنها.

* * *

ملاحظة

هذا الحكم الإسلامي في الدعوة إلى الاعتدال بين الجهر والإخفات يعطينا فهما وإدراكا من جهتين :

الأولى : لا تؤدوا العبادات بشكل تكون فيه ذريعة بيد الأعداء ، فيقومون بالاستهزاء والتحجج ضدكم ، إذ الأفضل أن تكون مقرونة بالوقار والهدوء والأدب ، كي تعكس بذلك نموذجا لعظمة الأدب الإسلامي ومنهج العبادة في الإسلام.

فالذين يقومون في أوقات استراحة الناس بإلقاء المحاضرات الدينية بواسطة مكبرات الصوت ، ويعتقدون أنّهم بذلك يوصلون صوتهم إلى الآخرين ، هم على خطأ ، وعملهم هذا لا يعكس أدب الإسلام في العبادات ، وستكون النتيجة عكسية على قضية التبليغ الديني.

الثّانية : يجب أن يكون هذ التوجيه مبدأ لنا في جميع أعمالنا وبرامجنا الاجتماعية والسياسية والاقتصادية ، وتكون جميع هذه الأمور بعيدة عن الإفراط والتفريط ، إذ الأساس هو :( وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً ) .

أخيرا نصل إلى الآية الأخيرة من سورة الإسراء ، هذه الآية تنهي السورة المباركة بحمد الله ، كما افتتحت بتسبيحه وتنزيه ذاتهعزوجل . إنّ هذه الآية ـ في

__________________

(1) نور الثقلين ، ج 3 ، ص 234.

١٨٠

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

الأخرى ، وكذا الحال مع الأثمار ، وهو ما يشير إليه القرآن بقوله :( مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ ) .

وقد نقل قول عالم البيئة (مترلينك) بما يوضح التعبير القرآني بشكل أوضح : (لو قدّر أن تفنى أنواع النحل ـ الوحشي والأهلي ـ فإنّ مائة ألف نوع من النباتات والثمار والأوراد ستفنى ، أي أنّ تمدننا سيفنى أيضا)(١) . ذلك لأنّ دور النحل في نقل حبوب اللقاح من ذكر الأشجار إلى مياسم إناثها من الأهمية بحيث يجعل بعض العلماء يعتقدون أن ذلك أهم من إنتاج العسل نفسه.

والحقيقة أنّ ما يتناوله النحل من أنواع الثمار إنّما هو بالقوّة لا بالفعل ، ولهذا فهو يساهم في عملية تكوينها ، فما أشمل وأدق التعبير القرآني( مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ ) !

٢ ـ السّبل المذللة!

لقد توصل العلماء المتخصصون بدراسة حياة النحل إلى ما يلي : تخرج في كل صباح مجموعة من النحل لمعرفة أماكن وجود الأوراد وتعيينها ، ثمّ تعود إلى الخلية لتخبر بقية النحل عن أماكن الورود والجهات التي ينبغي التوجه إليها ، ومقدار الفاصلة بين الورود والخلية.

ويستعمل النحل أحيانا لأجل تعيين طرق وصوله إلى الأوراد علامات خاصّة كأن يشخص طبيعة الروائح المنتشرة على طول الطريق أو ما شابه ذلك ، وذلك لضمان عدم إضاعة الطريق ذهابا وإيابا.

ولعل عبارة( فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً ) إشارة لهذه الحركة.

__________________

(١) أول جامعة ، الجز الخامس ، ص ٥٥.

٢٤١

٣ ـ أين يصنع العسل؟

ربّما ، إلى الآن يوجد من يتصور بأنّ النحل يمتص رحيق الأوراد ويجمعه في فمه ثمّ يخزنه في الخلية ، وهذا خلاف الواقع ، فالنحلة تجمع الرحيق في حفر خاصّة داخل بدنها يطلق عليها علميا اسم (الحوصلة) وهي بمثابة معامل مختبرات كيمياوية خاصّة تقوم بعمليات تحويل وتغيير مختلفة لرحيق الأزهار ، حتى يصل إلى إنتاج العسل ، الذي تقوم النحلة بإخراجه وجمعه في الخلية.

والمدهش أن سورة النحل مكية ، وكما هو معلوم بأنّ مكّة منطقة جافة ليس فيها نحل لعدم توفر النباتات والأوراد التي يحتاجها ومع ذلك فالقرآن الكريم يتحدث بكل دقة عن النحل ويشير إلى أدق أعماله (إنتاج العسل) :( يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ ) .

٤ ـ ألوان العسل المختلفة

تتفاوت ألوان العسل وفقا لتنوع الأوراد التي يؤخذ رحيقها منها فيبدو أحيانا بلون اللبن القاتم ، وأحيانا أخرى يكون أصفر اللون ، أو أبيض فضي ، أو ليس له لون ، وتارة تراه شفافا ، وتارة أخرى ذهبي أو تمري وقد تراه مائلا إلى السواد!

ولهذا التفاوت في اللون حكمة بالغة قد تبيّنت أخيرا مفادها : إنّ للون الغذاء أثّر بالغ في تحريك رغبة الإنسان إليه.

وهذه الحقيقة ما كانت خافية على القدماء أيضا ، فكانوا يعتنون بإظهار لون الغذاء المشهي لدرجة كانوا يضيفون إليه بعض المواد تحصيلا لما يريدون كإضافة الزعفران وما شابهه.

ولهذا الموضوع بحوث مفصلة في كتب التغذية لا يسمح لنا المجال بعرضها كاملة خوفا من الابتعاد عن مجال التّفسير.

٢٤٢

٥ ـ العسل والشفاء من الأمراض :

كما نعلم بأنّ للنباتات والأوراد استعمالات علاجية فعالة لكثير من الأمراض ، ولا زلنا نجهل الكثير من فوائدها على الرغم من كثرة ما عرفناه ، والشيء المهم في موضوعنا ما توصل إليه العلماء من خلال تجاربهم التي أكّدت على أنّ للنحل من المهارة بحيث أنّه في علمية صنعه للعسل لم يبذر فيما تحويه النباتات والأوراد من خواص علاجية ، فالنحل ينقل تلك الخواص بالكامل ويجعلها في العسل!

وقد صرّح العلماء بكثير من تلك الخواص الوقائية والعلاجية والمقوية.

فالعسل : سريع الامتصاص من قبل الدم ، ولهذا فهو غذاء مقوّ ومؤثر جدّا في تكوين الدم.

والعسل : ينقي المعدة والأمعاء من العفونة.

والعسل : رافع لليبوسة.

وهو علاج ضد الأرق (على أن لا يتناول الكثير منه ، لأن الإكثار منه يقلل النوم).

وللعسل : رافع لليبوسة.

وهو علاج ضد الأرق (على أن لا يتناول الكثير منه ، لأن الإكثار منه يقلل النوم).

وللعسل : أثر مهم في رفع التعب وتشنج العضلات.

والعسل : يقوي الشبكية العصبية للأطفال (إذا ما أطعمت الأم أثناء الحمل).

ويرفع نسبة الكالسيوم في الدم.

ونافع لتقوية الجهاز الهضمي (وبالخصوص لمن أبتلي بنفخ البطن).

وبما أنّه سريع الاحتراق فهو يعمل على توليد الطاقة بسرعة فائقة بالإضافة لترميمه للقوى.

والعسل أيضا : مقوّ للقلب ، مساعد في علاج أمراض الرئة ، نافع للإسهال لخاصيته في قتل المكروبات.

ويعتبر العسل عاملا مهما من عوامل معالجة قرحة المعدة والاثنى عشري.

٢٤٣

وهو دواء نافع لعلاج الروماتيزم ، ونقصان قوّة نمو العضلات ، ورفع الآلام العصبية.

وبالإضافة إلى ذلك فهو نافع في رفع السعال وعامل مهم لتصفية الصوت.

والخلاصة : إنّ خواص العسل العلاجية أكثر من أن يحيط بها هذا المختصر.

ومع ذلك كله فإنّه يدخل في صناعة الأدوية لتلطيف الجلد وللتجميل ، ويستعمل لطول العمر ، ولعلاج ورم الفم واللسان والعين ، ويستعمل أيضا لمعالجة الإرهاق ، وتشقق الجلد ، وما شابه ذلك.

أمّا المواد والفيتامينات الموجودة في العسل فكثيرة جدّا. وفيه من المواد المعدنية : الحديد ، الفسفور ، البوتاسيوم ، اليود ، المغنيسيوم ، الرصاص ، النحاس ، السلفور ، النيكل ، الصوديوم وغيرها.

ومن المواد الآلية فيه : الصمغ ، حامض اللاكتيك ، حامض الفورميك ، حامض السيتريك والتاتاريك والدهون العطرية.

أمّا ما يحويه من الفيتامينات ، ففيه ، فيتامينات (أ، ب ، ث ، د ، ك)

( K ,D ,C ,B ,A ).

ويعتقد البعض باحتوائه على فيتامين (پ ب) ( P B ) أيضا.

وأخيرا : فالعسل علاج لصحة وجمال الإنسان.

وصرحت الرّوايات كذلك بخواص العسل العلاجية ، وورد الكثير عن أمير المؤمنينعليه‌السلام والإمام الصادقعليه‌السلام وبعض الأئمّة المعصومينعليهم‌السلام من أنّهم قالوا : «ما استشفى الناس بمثل العسل»(١) .

وبرواية أخرى : «لم يستشف مريض بمثل شربة عسل»(٢) .

وروي عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «من شرب العسل في كل شهر مرّة يريد ما

__________________

(١) وسائل الشيعة ، ج ١٧ ، ص ٧٣ ، إلى ٧٥.

(٢) المصدر السابق.

٢٤٤

جاء به القرآن ، عوفي من سبعة وسبعين داء»(١) .

وثمّة أحاديث أخرى حول أهمية العسل في علاج آلام البطن.

ونذكر أنّ لكل حكم عام أو قاعدة كلية استثناء ، ولهذا فقد ورد النهي عن تناول العسل في بعض الحالات النادرة.

٦ ـ( لِلنَّاسِ ) :

وممّا يجذب النظر أن خبراء النحل يرون كفاية امتصاص وردتين أو ثلاث لسد جوع النحلة ، إلّا أنّها تحط على (٢٥٠) وردة في كل ساعة (كمعدل) ولأجل ذلك تقطع مسافة كيلومترات ، وعلى الرغم من قصر عمر النحلة ، إلّا أنّها تنتج كمية لا بأس بها من العسل ، وقد لا يصدق كثرة ما تنتجه قياسا لما تعيشه من عمر ، ولكنّ ما تقوم به من مثابرة وعمل دؤوب لا يعرف الكلل والملل قد هيأها لأن تقوم بهذا العمل الكبير العجيب.

وكل ذلك السعي وتلك المثابرة ليس في واقعه لملء بطنها بقدر ما عبّر عنه القرآن الكريم ب( لِلنَّاسِ ) .

٧ ـ ملاحظات مهمّة بخصوص العسل :

أثبت العلم الحديث أنّ العسل من المواد الغذائية التي تبقى على الدوام طازجة وسالمة ومحافظة على كل ما تحويه في فيتامينات مهما طالت المدّة لأنّه من المواد غير القابلة للفساد.

ويعزو العلماء سبب ذلك لوجود نسبة البوتاسيوم الوافية فيه المانع من نمو الجراثيم ، بالإضافة لاحتوائه على بعض المواد المقاومة للعفونة كحامض الفورميك فمضافا لكون العسل مانع من نمو الجراثيم ، فهو قاتل لها أيضا ولهذا السبب فقد استعمله المصريون القدماء في عملية التحنيط.

__________________

(١) سفينة البحار ، ج ٢ ، ص ١٩٠.

٢٤٥

ويقول العلماء : لا ينبغي حفظ العسل في أواني فلزية.

ويقول القرآن في هذا الجانب :( ... مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ ) ، أي : إنّ بيوت النحل لا ينبغي أن تكون إلّا بين الأحجار والأخشاب.

وملاحظة مهمّة أخرى : للاستفادة من خواصه الصّحيحة والعلاجية ينبغي عدم تعريضه لحرارة الطبخ. يعتقد البعض أنّ تعبير القرآن بكلمة «شراب» إشارة لهذه المسألة ، فهو من المشروبات وليس من المأكولات كي يعرض لحرارة الطبخ.

وثمة ملاحظة أخرى : على الرغم ممّا تسببه لسعة النحل من الألم ، إلّا أن لهذا أثر علاجي أيضا ، ومع ذلك ونتيجة لطبع النحل اللطيف فإنّه لا يلسع أحدا بلا سبب ، بل نحن ندفعه إلى ذلك ونضطره ليلسعنا عن علم أو جهل.

ومن الأسباب التي تدفع النحل للسع الإنسان : عدم ارتياحه للروائح الكريهة ، وعند ما يقترب الإنسان من الخلية لجني نتاج النحل فهي لا تلسعه إلّا إذا كانت يده ملوّثة أو أن في لباسه رائحة كريهة ، أو عند ما يمدّ الإنسان يده إلى خلية ما وبدون أن يغسل يده يمدّها إلى خلية أخرى ، فإن نحل الثّانية ستسرع في لسعه لأنه قد نقل إليها رائحة خلية أجنبية!

وعلى الرغم من أنّ اللسع يحمل أهدافا دفاعية ، إلّا أنّه بالنسبة للنحل يعني الانتحار لأنّه بمجرّد أن تقوم النحلة باللسع فإنّها قد كتبت على نفسها مصير الموت!

وقد وضع العلماء المتخصصون برنامجا معينا لمعالجة الأمراض كالروماتيزم والمالاريا والآلام العصبية وغيرها عن طريق لسعات النحل ، وإلّا فإنّ لسع النحل قد يؤدي إلى آلام مؤذية تصل في بعض حالاتها إلى مخاطر كبيرة.

وقد يتحمل الإنسان لسعة أو عدّة لسعات ، ولكنّ الأمر حينما يصل إلى (٢٠٠ ـ ٣٠٠) لسعة فإنّ ذلك سيؤدي إلى التسمم واضطرابات في القلب ، وإذا ما وصل العدد إلى (٥٠٠) لسعة فسوف يؤدي إلى شلل الجهاز التنفسي ، وربّما يؤدي إلى الموت.

٢٤٦

٨ ـ عجائب حياة النحل

كان القدماء يعرفون القدر اليسير عن حياة النحل ، أمّا اليوم ونتيجة لدراسات العلماء الواسعة فقد تبيّن أن للنحل حياة منظمة جدّا ويتخللها : تقسيم أعمال ، توزيع مسئوليات وبرنامج عمل دقيق جدّا.

ومدينة النحل : أكثر المدن نظافة ، وأكثرها نظاما ، كلّها عمل إنّها مدينة على خلاف كل مدن البشر ، فليس فيها بطالة ولا فقر ، والكل يعيش حياة تمدن جميل وكل أفراد المدينة يخضعون لقوانينها ولا ترى مخالفا للضوابط القانونية ولا مقصرا في عمله إلّا ما ندر ، وإذا ما حدث ذلك كأن تذهب إحدى النحلات إلى وردة كريهة الرائحة وتمتص رحيقها ، فإنّها ستخضع للتفتيش عند أعتاب المدينة ثمّ تحاكم في محكمة صحراوية ، والإعدام بالموت هو المعروف عن ارتكاب مثل هذه الأخطاء!

يقول (مترلينك) عالم البيئة البلجيكي الذي أجرى العديد من الدراسات حول حياة النحل والنظام العجيب الذي يحكم مدنها : إنّ ملكة النحل (أو على الأصح أمّ الخلية) لا تعيش في مدينتها ، كما نتصور من سلطتها وإصدارها الأوامر ، بل هي كسائر أفراد هذه المدينة في إطاعتها للقواعد والأنظمة الكلية السائدة إنّنا لا نعلم كيف وضعت هذه القوانين والأنظمة ، وننتظر أن نفهم هذا الأمر يوما ما ، ونعرف واضع هذه المقررات ، إلّا أنّنا نسميه مؤقتا (روح الخلية)!!

إنّ الملكة تطيع روح الخلية شأنها شأن بقية الأفراد.

إنّنا لا نعلم أين توجد روح هذه الخلية؟ وفي أي فرد من سكنة مدينة النحل قد حلّت؟

إلّا أنّنا نعلم أن روح الخلية ليست شبيهة بغريزة الطيور ، ونعلم أيضا أنّ روح الخلية ليست عادة وإرادة عمياء تحكم عنصر ونوع النحل ، إنّ روح الخلية تقوم بتحديد وظيفة كل فرد من أفراد الخلية وفق استعداده ، وتوجه كل واحد منها نحو عمل معين.

٢٤٧

إنّ روح الخلية تأمر النحل المهندس والبناء والعامل ببناء البيوت ، وهي التي تأمر سكنة المدينة جميعا بالهجرة منها في يوم معين وساعة معينة ، وتتجه نحو حوادث ومشاق غير معلومة من أجل تحصيل مسكن ومأوى جديد!

إنّنا لا نستطيع أن نفهم في أي مجمع شورى قد طرحت قوانين مدينة النحل التي وضعتها روح الخلية واتخذ قرارها بتنفيذها ، من يصدر الأمر بالحركة في اليوم المعين؟

نعم ، إنّ في الخلية مقدمات هجرة من أجل إطاعة الإله الذي بيده مصير النحل(١) .

إنّ العالم المذكور قد واجه الإبهام في فهم هذه المسألة ، لما علقت في ذهنه من ترسبات الفكر المادي!

ولكننا نفهم بيسر من أين جاءت تلك القوانين والبرامج؟ ومن الآمر بها؟ وذلك من خلال الاستهداء بنور القرآن.

ما أجمل ما عبّر عنه القرآن حين قوله :( وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ ) !

أو هل ثمة تعبير أوسع وأشمل وأنطق من هذا؟!

لم نذكر فيما قلناه عن النحل إلّا النزر اليسير لأنّ منهج التّفسير لا يسمع لذا بمواصلة هذا الموضوع(٢) .

ونظن كفاية هذا القدر للمتفكر السائر نحو معرفة عظمة الله :( إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ) .

* * *

__________________

(١) تلخيص من كتاب (النحل) ، تأليف مترلينك.

(٢) اعتمدنا في بحثنا عن النحل وخواص العسل على جملة كتب منها : أوّل جامعة وآخر نبي ، والنحل ، تأليف مترلينك ، وعجائب عالم الحيوانات.

٢٤٨

الآيات

( وَاللهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (٧٠) وَاللهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلى ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَواءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللهِ يَجْحَدُونَ (٧١) وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللهِ هُمْ يَكْفُرُونَ (٧٢) )

التّفسير

سبب اختلاف الأرزاق :

بيّنت الآيات السابقة قسما من النعم الإلهية المجعولة في عالمي النبات والحيوان ، لتكون دليلا حسيا لمعرفته جل شأنه ، وتواصل هذه الآيات مسألة إثبات الخالق جل وعلا بأسلوب آخر ، وذلك بأن تغيير النعم خارج عن اختيار الإنسان ، وذلك كاشف بقليل من الدقة والتأمل على وجود المقدّر لذلك.

٢٤٩

فيبتدأ القول ب( وَاللهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ ) .

فمنه الممات كما كانت الحياة منه ، ولتعلموا بأنّكم لستم خالقين لأي من الطرفين (الحياة والموت).

ومقدار عمركم ليس باختياركم أيضا ، فمنكم من يموت في شبابه أو في كهولته( وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ ) (١) .

ونتيجة هذا العمر الموغل في سني الحياة( لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً ) (٢) .

فيكون كما كان في مرحلة الطفولة من الغفلة والنسيان وعدم الفهم نعم ف( إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ ) فكل القدرات بيده جل وعلا ، وعطاؤه بما يوافق الحكمة والمصلحة ، وكذا أخذه لا يكون إلّا عند ما يلزم ذلك.

ويواصل القرآن الكريم استدلاله في الآية التالية من خلال بيان أنّ مسألة الرزق ليست بيد الإنسان وإنّما( وَاللهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ ) فأصحاب الثروة والطول غير مستعدين لإعطاء عبيدهم منها ومشاركتهم فيها خوفا أن يكونوا معهم على قدم المساواة:( فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلى ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَواءٌ ) .

واحتمل بعض المفسّرين أنّ الآية تشير إلى بعض أعمال المشركين الناتجة عن حماقتهم ، حينما كانوا يجعلون لآلهتهم من الأصنام سهما من مواشيهم ومحاصيلهم الزراعية ، بالرغم من عدم وجود أيّ أثر لتلك الأحجار والأخشاب

__________________

(١) «أرذل» : من (رذل) بمعنى الحقارة وعدم المرغوبية ، والمقصود من «أرذل العمر» : السنين المتقدمة جدّا من عمر الإنسان حيث الضعف والنسيان ، ولا يستطيع تأمين احتياجاته الأولية ، ولهذا سماها القرآن بأرذل العمر، وقد اعتبر بعض المفسّرين أنّها تبدأ من عمر (٧٥) عامّا ، وبعض آخر من (٩٠) وآخرون اعتبروها من (٩٥) والحق أنّها لا تحدد بعمر ، وإنّما تختلف من شخص لآخر.

(٢) عبارة( لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً ) يمكن أن تكون غاية ونتيجة للسنين المتقدمة من حياة الإنسان ، فيكون مفهومها أنّ دماغ الإنسان وأعصابه في هذه السنين تفقد القدرة على التركيز والحفظ فيسيطر على الإنسان النسيان والغفلة. ويمكن أن يكون معناها العلّة ، أي أنّ الله تعالى يوصل الإنسان إلى هذا العمر لكي يصاب بالنسيان ، فيفهم الناس بأنّهم لا يملكون شيئا من أنفسهم.

٢٥٠

على حياتهم! بل كان الأولى بهم لو التفتوا إلى خدمهم وعبيدهم ليعطوهم شيئا جزاء ما يقدمونه لهم من خدمات ليل نهار!

هل التفاضل في الرّزق من العدالة؟!

وهنا يواجهنا سؤال يطرح نفسه : هل أنّ إيجاد التفاوت والاختلاف في الأرزاق بين الناس ، ينسجم مع عدالة اللهعزوجل ومساواته بين خلقه ، التي ينبغي أن تحكم نظام المجتمع البشري؟

لأجل الإجابة ، ينبغي الالتفات إلى الملاحظتين التاليتين :

١ ـ إنّ الاختلاف الموجود بين البشر في جانب الموارد المادية يرتبط بالتباين الناشئ بين الناس جزاء اختلاف استعداداتهم وقابليتهم من واحد لآخر.

والتفاوت في الاستعدادين الجسمي والروحي يستلزم الاختلاف في مقدار ونوعية الفعالية الاقتصادية للأفراد ، ممّا يؤدي إلى زيادة وارد بعض وقلّة وارد البعض الآخر.

ولا شك أنّ بعض الحوادث والاتفاقات لها دخل في اشراء بعض الناس ، الّا أنّه لا يمكن أن نعوّل عليها عند البحث لأنّها ليست أكثر من استثناء ، أمّا الضابط في أكثر الحالات فهو التفاوت الموجود في كمية وكيفية السعي (ومن الطبيعي أن بحثنا يتناول المجتمع السليم والبعيد عن الظلم والاستغلال ، ولا نقصد به تلك المجتمعات المنحرفة التي تركت قوانين التكوين والنظام الإنساني جانبا وانزلقت في طرق الظلم والاستغلال).

وقد يساورنا التعجب حينما نجد بعض الفاقدين لأي مؤهل أو استعداد يتمتعون برزق وافر وجيد ، ولكننا عند ما نتجرّد عن الحكم من خلال الظواهر ونتوغل في أعماق مميزات ذلك البعض جسميا ونفسيا وأخلاقيا ، نجد أنّهم يتمتعون بنقاط قوة أوصلتهم إلى ذلك (ونكرر القول بأنّ بحثنا ضمن إطار مجتمع

٢٥١

سليم خال من الاستغلال).

وعلى أية حال فالتفاوت بين دخل الأفراد ينبع من التفاوت بالاستعدادات ، وهو من المواهب والنعم الإلهية أيضا ، وإن أمكن أن يكون بعض ذلك اكتسابيا ، فالبعض الآخر غير اكتسابي قطعا. فإذن وجود التفاوت في الأرزاق أمر غير قابل للإنكار من الناحية الاقتصادية ، ويتمّ ذلك حتى داخل المجتمعات السليمة إلّا إذا افترضنا وجود مجموعة أفراد كلهم في هيئة واحدة من حيث : الشكل ، اللون ، الاستعداد ولا يعتريهم أيّ اختلاف! وإذا ما افترضنا حدوث ذلك فإنّه بداية المشاكل والويلات!

٢ ـ لو نظرنا إلى بدن إنسان ما ، أو إلى هيكل شجرة أو باقة ورد ، فهل سنجد التساوي بين أجزاء كل منها ومن جميع الجهات؟

وهل أنّ قدرة ومقاومة واستعداد جذور الشجرة مساوية لقدرة ومقاومة واستعداد أوراق الوردة الظريفة؟ وهل أن عظم قدم الإنسان لا يختلف عن شبكية عينه؟

وهل من الصواب أن نعبر كل ذلك شيئا واحدا؟!

ولو تركنا الشعارات الكاذبة والفارغة من أيّ معنى ، وافترضنا تساوي الناس من جميع النواحي ، فنملأ الأرض بخمسة مليارات من الأفراد ذوي : الشكل الواحد ، الذوق الواحد ، الفكر الواحد ، بل والمتحدين في كل شيء كعلبة السجائر فهل نستطيع أن نضمن أنّ حياة هؤلاء ستكون جيدة؟ ستكون الإجابة بالنفي قطعا ، وسيحرق الجميع بنار التشابه المفرط والرتيب الكئيب ، لأنّ الكل يتحرك في جهة واحدة ، والكل يريد شيئا واحدا ، ويحبون غذاء واحدا ، ولا يرغبون إلّا بعمل واحد!

وبديهيا ستكون حياة كهذه سريعة الانقراض ، ولو افترض لها الدوام ، فإنّها ستكون متعبة ورتيبة وفاقدة لكل روح. وبعبارة أشمل سوف لا يبعدها عن الموت

٢٥٢

بون شاسع.

وعلى هذا فحكمة وجود التفاوت في الاستعدادات المستتبعة لهذا التفاوت قد ألزمتها ضرورة حفظ النظام الاجتماعي ، وليكون التفاوت في الاستعدادات دافعا لتربية وإنماء الاستعدادات المختلفة للأفراد. ولا يمكن للشعارات الكاذبة أن تقف في وجه هذه الحقيقة التي يفرضها الواقع الموضوعي أبدا.

ولا ينبغي أن نفهم من هذا الكلام أنّنا نريد منه إيجاد مجتمع طبقي أو نظام استغلالي واستعماري ، لا. أبدا وإنّما نقصد بالاختلافات التفاوت الطبيعي بين الأفراد (وليس المصطنع) الذي يعاضد بعضه الآخر ويكمله (وليس الذي يكون حجر عثرة في طريق تقدم الأفراد ويدعو إلى التجاوز والتعدي على الحقوق).

إنّ الاختلاف الطبقي (والمقصود من الطبقات هنا : ذلك المفهوم الاصطلاحي الذي يعني وجود طبقة مستغلة وأخرى مستغلة) لا ينسجم مع نظام الخليقة أبدا ، ولكنّ الموافق لنظام الخليقة هو ذلك التفاوت في الاستعدادات والسعي وبذل الجهد ، والفرق بين الأمرين كالفرق بين السماء والأرض ـ فتأمل.

وبعبارة أخرى ، إن الاختلاف في الاستعدادات ينبغي أن يوظف لخدمة مسيرة البناء ، كما في اختلاف طبيعة أعضاء بدن الإنسان أو أجزاء الوردة ، فمع تفاوتها إلّا أنّها ليست متزاحمة ، بل إنّ البعض يعاضد البعض الآخر وصولا للعمل التام على أكمل وجه.

وخلاصة القول : ينبغي أن لا يكون وجود التفاوت والاختلاف في الاستعدادات وفي الدخل اليومي للأفراد دافعا لسوء الاستفادة وذلك بتشكيل مجتمع طبي(١) .

ولهذا يقول القرآن الكريم في ذيل الآية مورد البحث :( أَفَبِنِعْمَةِ اللهِ

__________________

(١) لقد بحثنا بشكل مفصل موضوع فلسفة الاختلاف في الاستعدادات والفوائد الناتجة عن ذلك في ذيل الآية (٣٢) من سورة النساء ـ فيراجع.

٢٥٣

يَجْحَدُونَ ) .

وذلك إشارة إلى أن هذه الاختلافات في حالتها الطبيعية (وليس الظالمة المصطنعة) إنّما هي من النعم الإلهية التي أوجدها لحفظ النظام الاجتماعي البشري.

وتبدأ الآية الأخيرة من الآيات مورد البحث بلفظ الجلالة «الله» كما كان في الآيتين السابقتين ، ولتتحدث عن النعم الإلهية في إيجاد القوى البشرية ، ولتتحدث عن الأرزاق الطيبة أيضا تكميلا للحلقات الثلاثة من النعم المذكورة في آخر ثلاث آيات ، حيث استهلت البحث بنظام الحياة والموت ، ثمّ التفاوت في الأرزاق والاستعدادات الكاشف لنظام (تنوع الحياة) لتنتهي بالآية مورد البحث ، حيث النظر إلى نظام تكثير النسل البشري و.. الأرزاق الطيبة.

وتقول الآية :( وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً ) لتكون سكنا لأرواحكم وأجسادكم وسببا لبقاء النسل البشري.

ولهذا تقول وبلا فاصلة :( وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً ) .

«الحفدة» بمعنى (حافد) وهي في الأصل بمعنى الإنسان الذي يعمل بسرعة ونشاط دون انتظار أجر وجزاء ، أمّا في هذه الآية ـ كما ذهب إلى ذلك أكثر المفسّرين ـ فالمقصود منها أولاد الأولاد ، واعتبرها بعض المفسّرين بأنّها خاصّة بالإناث دون الذكور من الأولاد.

ويعتقد قسم آخر من المفسّرين : أن «بنون» تطلق على الأولاد الصغار ، و «الحفدة» تطلق على الأولاد الكبار الذين يستطيعون إعانة ومساعدة آبائهم.

واعتبر بعض المفسّرين أنّها شاملة لكل معين ومساعد ، من الأبناء كان أم من غيرهم(١) .

__________________

(١) وفي هذه الحال يجب أن لا تكون «حفدة» معطوفة على «بنين» بل على «أزواجا» ، ولكنّ هذا العطف خلاف الظاهر الذي يشير إلى عطفها على «بنين» ـ فتأمل.

٢٥٤

ويبدو أن المعنى الأوّل (أولاد الأولاد) أقرب من غيره ، بالرغم ممّا تقدم من سعة مفهوم «حفدة» في الأصل.

وعلى أية حال فوجود القوى الإنسانية من الأبناء والأحفاد والأزواج للإنسان من النعم الإلهية الكبيرة التي أنعمها جل اسمه على الإنسان ، لأنّهم يعينون ماديا ومعنويا في حياته الدنيا.

ثمّ يقول القرآن الكريم :( وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ ) .

«الطيبات» هنا لها من سعة المفهوم بحيث تشمل كل رزق طاهر نظيف ، سواء كان ماديا أو معنويا ، فرديا أو اجتماعيا.

وبعد كل العرض القرآني لآثار وعظمة قدرة الله ، ومع كل ما أفاض على البشرية من نعم ، نرى المشركين بالرغم من مشاهدتهم لكل ما أعطاهم مولاهم الحق ، يذهبون إلى الأصنام ويتركون السبيل التي توصلهم إلى جادة الحق( أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللهِ هُمْ يَكْفُرُونَ ) .

فما أعجب هذا الزيغ! وأية حال باتوا عليها! عجبا لهم وتعسا لنسيانهم مسبب الأسباب ، وذهابهم لما لا ينفع ولا يضر ليقدسوه معبودا!!!

* * *

بحثان

١ ـ أسباب الرزق :

على الرغم ممّا ذكر بخصوص التفاوت من حيث الاستعداد والمواهب عند الناس ، إلّا أنّ أساس النجاح يمكن في السعي والمثابرة والجد ، فالأكثر سعيا أكثر نجاحا في الحياة والعكس صحيح.

ولهذا جعل القرآن الكريم ارتباطا بين ما يحصل عليه الإنسان وبين سعيه ،

٢٥٥

فقال بوضوح :( وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى ) (١) .

ومن الأمور المهمّة والمؤثرة في مسألة استحصال الرزق الالتزام بالمبادي من قبيل:التقوى، الأمانة ، إطاعة القوانين الإلهية والالتزام بأصول العدل ، كما أشارت إلى ذلك الآية (٩٦) من سورة الأعراف :( وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ ) .

وكما في الآيتين (٢ و ٣) من سورة الطلاق :( وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ ) .

وكما أشارت الآية (١٧) من سورة التغابن بخصوص أثر الإنفاق في سعة الرزق ـ :( إِنْ تُقْرِضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعِفْهُ لَكُمْ ) .

ولعلنا لا حاجة لنا بالتذكير أن فقدان فرد أو جمع من الناس يضر بالمجتمع ولهذا فحفظ سلامة الأفراد وإعانتهم يعود بالنفع على كل الناس (بغض النظر عن الجوانب الإنسانية والروحية لذلك).

وخلاصة القول إنّ اقتصاد المجتمع إن بني على أسس التقوى والصلاح والتعاون والإنفاق فالنتيجة أن ذلك المجتمع سيكون قويا مرفوع الرأس ، أمّا لو بني على الاستغلال والظلم والاعتداء وعدم الاهتمام بالآخرين ، فسيكون المجتمع متخلفا اقتصاديا وتتلاش فيه أواصر الحياة والاجتماعية.

ولذلك فقد أعطت الأحاديث والرّوايات أهمية استثنائية للسعي في طلب الرزق المصحوب بالتقوى ، وحتى روي عن الإمام الصادقعليه‌السلام أنّه قال : «لا تكسلوا في طلب معايشكم ، فإن أباءنا كانوا يركضون فيها ويطلبونها»(٢) .

وروي عنه أيضا : «الكاد على عياله كالمجاهد في سبيل الله»(٣) .

__________________

(١) سورة النجم ، ٣٩.

(٢) الوسائل ، ج ١٢ ، ص ٤٨.

(٣) الوسائل ج ١٢ ، ص ٤٣.

٢٥٦

وحتى أنّ الأمر قد وجّه إلى المسلمين بالتبكير في الخروج لطلب الرزق(١) وذكر أنّ من جملة من لا يستجاب لهم الدعاء أولئك الذين تركوا طلب الرزق على ما لهم من استطاعة ، انزووا في زوايا بيوتهم يدعون الله أن يرزقهم!

وهنا يتبادر الى الذهن تساؤل عن الآيات القرآنية والرّوايات التي تؤكد على أنّ الرزق بيد الله ، وذم السعي فيه ، فكيف يتمّ تفسير ذلك؟!

وللاجابة نذكر الملاحظتين التاليتين :

١ ـ دقة النظر والتحقق في المصادر الإسلامية يوضح أنّ الآيات أو الرّوايات التي يبدو التضاد في ظاهر ألفاظها ـ سواء في هذا الموضوع أو غيره ـ إنّما ينتج من النظرة البسيطة السطحية ، لأنّ حقيقة تناولها لموضوع ما إنّما يشمل جوانب متعددة من الموضوع ، فكل آية أو رواية إنّما تنظر إلى بعد معين من أبعاد الموضوع ، فتوهم غير المتابع بوجود التضاد.

فحيث يسعى الناس بولع وحرص نحو الدنيا وزخرف الحياة المادية ، ويقومون بارتكاب كل منكر للوصول إلى ما يريدونه ، تأتي الآيات والرّوايات لتوضح لهم تفاهة الدنيا وعدم أهمية المال.

وإذا ما ترك الناس السعي في طلب الرزق بحجة الزهد ، تأتيهم الآيات والرّوايات لتبيّن لهم أهمية السعي وضرورته.

فالقائد الناجح والمرشد الرشيد هو الذي يتمكن من منع انتشار حالتي الإفراط والتفريط في مجتمعه.

فغاية الآيات والرّوايات التي تؤكّد على أنّ الرزق بيد الله هي غلق أبواب الحرص والشر وحبّ الدنيا والسعي بلا ضوابط شرعية ، وليس هدفها إطفاء شعلة

__________________

(١) الوسائل ، ج ١٢ ، ص ٥٠.

٢٥٧

الحيوية والنشاط في الإعمال والاكتساب وصولا لحياة كريمة ومستقلة.

وبهذا يتّضح تفسير الرّوايات التي تقول : إنّ كثيرا من الأرزاق إن لم تطلبوها تطلبكم.

٢ ـ إنّ كلّ شيء من الناحية العقائدية تنتهي نسبته إلى اللهعزوجل ، وكل موحد يعتقد أن منبع وأصل كل شيء منه سبحانه وتعالى ، ويردد ما تقوله الآية (٢٦) من سورة آل عمران :( بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) .

وينبغي عدم الغفلة عن هذه الحقيقة وهي أنّ كل شيء من سعي ونشاط وفكر وخلاقية الإنسان إنّما هي في حقيقتها من اللهعزوجل .

ولو توقف لطف الله (فرضا) عن الإنسان ـ ولو للحظة واحدة ـ لما كان ثمّة شيء اسمه الإنسان.

ويقول الإنسان الموحد حينما يركب وسيلة : «سبحان الذي سخر لنا هذا».

وعند ما يحصل على نعمة ما ، يقول : «وما بنا من نعمة فمنك»(١) .

ويقول عند ما يخطو في سبيل الإصلاح ـ كما هو حال الأنبياء في طريق هدايتهم للناس ـ :( وَما تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ ) (٢) .

وإلى جانب كل ما ذكر فالسعي والعمل الصحيح البعيد عن أي إفراط أو تفريط ، هو أساس كسب الرزق ، وما يوصل إلى الإنسان من رزق بغير سعي وعمل إنّما هو ثانوي فرعي وليس بأساسي ، ولعل هذا الأمر هو الذي دفع أمير المؤمنينعليه‌السلام في كلماته القصار في تقديم ذكر الرزق الذي يطلبه الإنسان على الرزق الذي يطلب الإنسان ، حيث قال : «يا ابن آدم ، الرزق رزقان : رزق تطلبه ، ورزق يطلبك»(٣) .

__________________

(١) من أدعية التعقيبات لصلاة العصر ، كما في كتب الدعاء.

(٢) سورة هود ، ٨٨.

(٣) نهج البلاغة ، الكلمات القصار ، رقم ٣٧٩.

٢٥٨

٢ ـ مواساة الآخرين :

أشارت الآيات إلى بخل كثير من الناس ممن لم يتّبعوا سلوك وهدي الأنبياء والأئمّةعليهم‌السلام ، وقد أكّدت الرّوايات في تفسيرها لهذه الآيات على المساواة والمواساة ومنها : ما جاء في تفسير علي بن إبراهيم في ذيل الآية : «لا يجوز الرجل أن يخص نفسه بشيء من المأكول دون عياله»(١) .

وروي أيضا عن أبي ذر أنّه سمع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول عن العبيد : «إنّما هم إخوانكم فاكسوهم ممّا تكسون وأطعموهم ممّا تطعمون» فما رؤي عبده بعد ذلك إلّا ورداؤه وإزاره من غير تفاوت(٢) .

والذي نستفيده من الرّوايات المذكورة والآية المبحوثة حين تقول :( فَهُمْ فِيهِ سَواءٌ ) أنّ الإسلام يوصي بمراعاة المساواة كبرنامج أخلاقي بين أفراد العائلة الواحدة ومن يكون تحت التكفل قدر الإمكان ، وأن لا يجعلوا لأنفسهم فضلا عليهم.

* * *

__________________

(١) تفسير نور الثقلين ، ج ٣ ، ص ٦٨.

(٢) تفسير نور الثقلين ، ج ٣ ، ص ٦٨

٢٥٩

الآيتان

( وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ شَيْئاً وَلا يَسْتَطِيعُونَ (٧٣) فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثالَ إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٧٤) )

التّفسير

لا تجعلوا لله شبيها :

تواصل هاتان الآيتان بحوث التوحيد السابقة ، وتشير إلى موضوع الشرك ، وتقول بلهجة شديدة ملؤها اللوم والتوبيخ :( وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ شَيْئاً ) .

وليس لا يملك شيئا فقط ، بل( وَلا يَسْتَطِيعُونَ ) أن يخلقوا شيئا.

وهذه إشارة إلى المشركين بأن لا أمل لكم في عبادتكم للأصنام ، لأنّها لا تضرّكم ولا تنفعكم وليس لها أيّ أثر على مصيركم ، فالرزق مثلا والذي به تدور عجلة الحياة سواء كان من السماء (كقطرات المطر وأشعة الشمس وغير ذلك) أو ما يستخرج من الأرض ، إنّما هو خارج عن اختيار الأصنام ، لأنّها موجودات فاقدة لأية قيمة ولا تملك الإرادة ، وإن هي إلّا خرافات صنعتها العصبية الجاهلية

٢٦٠

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496