الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٨

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل12%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 496

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 496 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 231555 / تحميل: 7125
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٨

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

وتجد هذه المزيّة ظاهرة كمال الظُهور في رُكن الدولة، حين كَتب له المرزبان ابن بختيار ابن أخيه مُعزّ الدولة بقبض عضُد الدولة وأبي الفتح بن العميد على والده وعَمّيه سَنة أربع وستّين وثلاثمئة، ويذكر له الحيلة الّتي تمّت عليه، فألقى بنفسه عن سريره إلى الأرض وتمرّغ عليها، وامتنع مِن الأكل والشُرب عدّة أيّام، ومَرِض مرضاً لم يستقلّ منه باقي حياته، ولمّا كاتب ابن بقية رُكن الدولة بحاله وحال بختيار كَتب رُكن الدولة إليه وإلى المرزبان وغيرهما ممَّن احتمى لبختيار يأمرهم بالثبات والصبر، ويُعرّفهم أنّه على المسير إلى العراق لإخراج عضُد الدولة وإعادة بختيار، فاضطربت النواحي على عضُد الدولة، وتجاسر عليه الأعداء حيث علموا إنكار أبيه عليه، وانقطعت عنه مواد فارس والبحر، وسترى ذلك مبسوطاً في ترجمة عضُد الدولة - إن شاء الله - وجواب رسول عضُد الدولة الّذي أرسله لوالده يدلي إليه بعُذره ويُبيّن له أسباب قبضه على بختيار، فردّ رُكن الدولة الرسول ردّاً قبيحاً ولم يقبل لابنه عُذراً، وكان الرسول أبا الفتح بن العميد الّذي اتخذ شتّى الوسائط لاسترضائه عليه، وما ذنبه إلاّ أداؤه رسالة ابنه، ولم يرضَ إلاّ بإعادة عضُد الدولة إلى فارس مملكته وتقرير العراق لبختيار، فأنت ترى أنّ رُكن الدولة عرّض مملكة ولده، بل حياته للخطر في سبيل صلته لرحمِه، ومُراعاته لابن أخيه مُعزّ الدولة الّذي كان يُحبّه محبّة شديدة؛ لأنّه رباه فكان عنده بمنزلة الولد.

وفاة رُكن الدولة ومُلك عضُد الدولة:

في المُحرّم سَنة ستّ وستّين وثلاثمئة تُوفّي رُكن الدولة أبو علي الحسن بن بويه واستخلف على ممالكه ابنه عضُد الدولة، وكان ابتداء مرضه حين سمع بقبض بختيار ابن أخيه مُعزّ الدولة، وكان ابنه عضُد الدولة قد عاد مِن بغداد بعد أن أطلق بختيار على الوجه الّذي قد تقرّر، وظهر عند الخاصّ والعامّ غَضَب والده عليه، فخاف أنْ يموت أبوه وهو على حال غضبه فيختلّ مُلكه، وتزول طاعته، فأرسل إلى أبي الفتح بن العميد وزير والده يطلب منه أنْ يتوصّل مع أبيه وإحضاره عنده، وأنْ يعهد إليه بالمُلك بعده، فسعى أبو الفتح في ذلك فأجابه إليه رُكن الدولة، وكان قد وجد في نفسه خِفّة، فسار مِن الريّ إلى أصبهان، فوصلها في جمادى الأُولى سنة خمس وستّين وثلاثمئة،

١٨١

وأحضر ولده عضُد الدولة مِن فارس، وجمع عنده أيضاً سائر أولاده بأصبهان، فعمِل أبو الفتح بن العميد دعوة عظيمة حضرها رُكن الدولة وأولاده والقوّاد والأجناد، فلمّا فَرِغوا مِن الطعام عهِد رُكن الدولة إلى ولده عضُد الدولة بالمُلك بعده، وجعل لولده فَخر الدولة أبي الحسن علي همذان وأعمال الجبل، ولولده مؤيّد الدولة أصبهان وأعمالها، وجعلهما في هذه البلاد بحُكم أخيما عضُد الدولة، وخلع عضُد الدولة على سائر الناس ذلك اليوم الأقبية والأكسية على زيّ الديلم، وحيّاه القوّاد وإخوته بالريحان على عادتهم مع مُلوكهم، وأوصى رُكن الدولة أولاده بالاتّفاق، وترك الاختلاف وخلع عليهم، ثُمّ سار عن أصبهان في رجب نحو الريّ فدام مرضه إلى أنْ تُوفّي فأُصيب به الدين والدُنيا جميعاً لاستكمال جميع خلال الخير فيه، وكان عُمره قد زاد على سبعين سَنة، وكانت إمارته أربعاً وأربعين سَنة.

بعض سيرته:

قال ابن الأثير:

بعد هذا الّذي نقلنا عن تاريخه الكامل - ذاكراً بعض سيرته - كان حليماً، كريماً، واسع الكرم، كثير البذل، حَسِن السياسة لرعاياه وجُنده، رؤوفاً بهم، عادلاً في الحُكم بينهم، وكان بعيد الهمّة، عظيم الجدّ والسعادة، مُتحرّجاً مِن الظُلم، مانعاً لأصحابه منه، عفيفاً عن الدِماء، يرى حقنها واجباً، إلاّ فيما لا بُدّ مِنه، وكان يُحامي على أهل البيوتات، أو كان يُجري عليهم الأرزاق، ويصونهم عن التبذل، وكان يَقصد المساجد الجامعة في أشهر الصيام للصلاة، وينتصب لردِّ المظالم، ويتعهّد العلويّين بالأموال الكثيرة، ويتصدّق بالأموال الجليلة على ذوي الحاجات، ويُلين جانبه للخاصّ والعام.

قال له بعض أصحابه في ذلك، وذَكر له شدّة مرداويج على أصحابه، فقال:

انظر كيف اخترم ووثب عليه أخصّ أصحابه به وأقربهم منه؛ لعُنفه وشدّته، وكيف عمرتُ وأحبّني الناس للين جانبي. وحُكي عنه أنّه سار في سفر، فنزل في خركاه قد ضُربت له قِبَل أصحابه، وقُدّم إليه طعام، فقال لبعض أصحابه:

لأيّ شيء قيل في المثل: خيرُ الأشياءِ في القريةِ الإمارة.

فقال صاحبه: لقعودك في الخركاه وهذا الطعام بين يديك، وأنا لا خركاه ولا طعام، فضحك وأعطاه الخركاه والطعام.

فانظر إلى هذا الخُلُق ما

١٨٢

أحسنه ما أجمله، وفي فعله في حادثة بختيار ما يَدلّ على كمال مروءته وحُسن عهده وصلته لرحمه، رضي الله عنه وأرضاه، وكان له حُسن عهد ومودّة وإقبال.

قال ابن خلكان في وَفَياته:

وكان مسعوداً ورُزق السعادة في أولاده الثلاثة، وقَسّم عليهم الممالك، فقاموا بها أحسن قيام، وتُوفّي رُكن الدولة ليلة السبت لاثنتي عشرة ليلة بقيت مِن المُحرّم سَنة ستّ وستّين وثلاثمئة بالري، ودُفن في مشهده، ومولده تقديراً في سَنة أربع وثمانين، قال أبو إسحاق الصابي: ومَلك أربعاً وأربعين سَنة وشهراً وتسعة أيّام، وتولّى بعده ولده مؤيّد الدولة رحمهما الله تعالى.

وقال ابن كثير في حوادث سنة ٣٥٦:

فيها قَسّم رُكن الدولة بن بويه ممالكه بين أولاده (الثلاثة) عندما كَبُرت سِنّه، فجعل لولده عضُد الدولة بلاد فارس وكرمان وأرجان، ولولده مؤيَّد الدولة الري وأصبهان، ولفخر الدولة همذان والدينور، وجعل ولده أبا العبّاس في كنف عضُد الدولة وأوصاه به.

أمّا ذكره بلاد فارس فيما اختص به ولده عضُد الدولة، فإنّ بلاد فارس لم تكن مِن ممالكه، بل كانت مملكة أخيه عِماد الدولة الّذي لم يُرزق وَلداً ذَكراً يرثها منه، بل عهِد بها لعضُد الدولة كما مرّ بيان ذلك في ترجمة عِماد الدولة.

وقال في حوادث سنة (٣٦٦):

فيها توفّي رُكن الدولة بن علي بن بويه، وقد جاوز التسعين سَنة، ثُمّ ذَكر بعد ذلك قَصد عضُد الدولة العراق ليأخذها مِن ابن عمّه بختيار، والتقائه به في الأهواز، وانهزامه منه، واستظهاره عليه وإذلاله، ثُمّ القبض على وزيره ابن بقية إلى أنْ قال: وكذلك أمرُ رُكن الدولة بالقبض على وزير أبيه أبي الفتح بن العميد لموجدة تقدّمت منه إليه.

وفي ذلك أغلاط نربأ بابن كثير أنْ يرتكبها:

الأول: جعله عليّاً أباً لرُكن الدولة، وعلي وهو عماد الدولة أكبر الأُخوة الثلاثة أخو رُكن الدولة.

الثاني: قوله: إنّ رُكن الدولة قد جاوز التسعين، وقد عرفتَ ممّا نقلناه عن ابن الأثير وابن خلكان، أمّا الأوّل فيقول إنّ عُمره قد زاد على السبعين، والثاني يُقدّر عُمره باثنتين وثمانين سَنة، فقول ابن كثير قولاً ثالث، إنْ كانت التسعين غير مُحرّفة عن السبعين.

الثالث: قوله: إنّ رُكن الدولة أمرَ بالقبض

١٨٣

على وزير أبيه أبي الفتح، فإنّ أبا رُكن الدولة وهو بويه لم يكن مَلكاً ليستوزر، وإنّما كان أولاده الثلاثة مُلوكاً، وأوسطهم سِنّاً رُكن الدولة، وأبو الفتح كان وزير رُكن الدولة بعد أبيه أبي الفضل بن العميد، والآمر بالقبض عليه هو عضُد الدولة، وكان ذلك بعد وفاة أبيه رُكن الدولة، وإنّنا لَنَحسَب هذه الأغلاط مِن تحريف الناسخين؛ لأنّه مِن المُستبعد أنْ تقع مِن هذا المؤرّخ الكبير.

الثالث: أبو الحسين أحمد بن أبي شجاع بويه مُعزّ الدولة:

هو أصغر الأُخوة الثلاثة مُؤسّسي الدولة البويهيّة، وقد كنّاه بعضُ المُؤرّخين بأبي الحسن، وهي كُنية أخيه عماد الدولة والحسن اسم رُكن الدولة.

قال ابن خلكان:

وهو عمُّ عضُد الدولة وأحد مُلوك الديلم، كان صاحب العراق والأهواز، وكان يُقال له الأقطع؛ لأنّه كان مقطوع اليد اليُسرى وبعض أصابع اليُمنى.

مولده ووفاته:

وُلد في سَنة ثلاث وثلاثمئة، وتُوفّي يوم الاثنين سابع عشر شهر ربيع الآخر سَنة ستّ وخمسين وثلاثمئة ببغداد، ودفن في داره، ثُمّ نُقل إلى مشهد بُني له في مقابر قُريش.

أوّل عهده في المُلك:

قال ابن خلكان في سبب تلقيبه بالأقطع:

إنّه كان في مَبدأ عُمره وحداثة سِنّه تَبَعاً لأخيه عِماد الدولة، وكان قد توجّه إلى كرمان بإشارة أخَويه عِماد الدولة ورُكن الدولة، فلمّا وصلها سمِع به صاحبها، فتركها ورَحل إلى سجستان مِن غَير حَرب فملكها، وكان بتلك الأعمال طائفة مِن الأكراد قد تغلّبوا عليها، وكانوا يحملون لصاحب كرمان في كلّ سَنة شيئاً مِن المال بشرط أنْ لا يطأوا بِساطه، فلمّا وصلَ مُعزّ الدولة سَيّر إليه رئيس القوم، وأخذ عُهوده ومواثيقه بإجرائهم على عادتهم، ففعل ذلك، ثُمّ أشار عليه كاتبه بنقض العهد، وأنْ يسري إليهم على غَفلة، ويأخذ أموالهم وذخائرهم ففعل

١٨٤

مُعزّ الدولة ذلك، وقصدهم في الليل في طريق مُتوعّرة فأحسّوا به، فقعدوا له على مَضيق، فلمّا وصل إليهم بعسكره ثاروا عليهم مِن جميع الجوانب، فقتلوا وأسروا، ولم يَفلُت منهم إلاّ اليسير، ووقع بمُعزّ الدولة ضربات كثيرة، وطاحت يدُه اليُسرى وبعض أصابع يده اليمنى، وأُثخن بالضرب في رأسه وسائر جسده، وسقط بين القتلى، ثُمّ سَلُم بعد ذلك.

قال ابن الأثير في حوادث سنة ٣٢٤:

في هذه السَنة سار أبو الحُسين أحمد بن بويه المُلقَّب بمُعزّ الدولة إلى كرمان، وسببُ ذلك أنّ عِماد الدولة بن بويه وأخاه رُكن الدولة لمّا تمكّنا مِن بلاد فارس وبلاد الجبل، وبقي أخوهما الأصغر أبو الحسين أحمد بغير ولاية يستبدّ بها، رأيا أنْ يُسيّراه إلى كرمان ففعلا ذلك، وسار إلى كرمان في عسكرٍ ضَخم شثجعان، فلمّا بَلغَ السيرجان استولى عليها وجبى أموالها وأنفقها في عسكره، وكان إبراهيم بن سيمجور والدواني يُحاصِر محمّد بن غلياس بن اليسع بقلعة هُناك بعساكر نصر بن أحمد صاحب خُراسان، فلمّا بَلغَه إقبال مُعزّ الدولة سار عن كرمان إلى خُراسان، ونَفّس عن محمّد بن إلياس، فتَخلّص مِن القلعة، وسار إلى مدينته بَم، وهي على طرف المفازة بين كرمان وسجستان، فسار إليه أحمد بن بويه، فرَحل مِن مكانه إلى سجستان بغير قتال، فسار أحمد إلى جيرفت - وهي قصبة كرمان - واستخلف على بَم بعض أصحابه، فلمّا قارب جيرفت أتاه رسول عليّ بن الزنجي المعروف بعلي كلويه، وهو رئيس القفص والبلوص، وكان هو وأسلافه مُتغلّبين على تلك الناحية، إلاّ أنّهم يُجاملون كلّ سلطان يَرِد البلاد، ويُطيعونه ويَحملون إليه مالاً مَعلوماً ولا يطؤون بساطه، فبذل لابن بويه ذلك المال، فامتنع أحمد مِن قبوله إلاّ بعد دُخول جيرفت، فتأخّر عليّ بن كلويه نحو عشرة فراسخ، ونَزل بمكان صَعِب المَسلك، ودخل أحمد بن بويه جيرفت، واصطلح هو وعلي وأخذ رهائنه وخَطَب له، فلمّا استقرّ الصُلح وانفصل الأمر أشار بعضُ أصحاب ابن بويه عليه بأنْ يَقصد عليّاً ويَغدر به، ويَسري إليه سرّاً على غَفلة، وأطمعه في أمواله وهوّن عليه أمره بسكونه إلى الصُلح، فأصغى الأمير أبو الحسين أحمد إلى ذلك لحداثة سِنّه، وجمع أصحابه وأسرى نحوهم جريدة، وكان عليّ مُحترزاً، ومَن معه قد وضعوا العيون على ابن بويه، فساعة تَحرّك بلغته الأخبار، فجمع أصحابه ورتَبَهُم بمضيق على الطريق، فلمّا اجتاز بهم ابن بويه ثاروا به ليلاً مِن

١٨٥

جوانبه، فقتلوا في أصحابه وأسروا، ولم يُفلِت منهم إلاّ اليسير، ووقعت بالأمير أبي الحسين ضربات كثيرة، ووقعت ضربة منها في يَده اليُسرى فقطعتها مِن نصف الذراع، وأصاب يده اليُمنى ضَربة أُخرى سقط منها بعض أصابعه، وسقط مثخناً بالجراح بين القتلى، وبلغ الخَبر بذلك إلى جيرفت فهرب كلّ مَن بها مِن أصحابه، ولمّا أصبح علي كلويه تتبّع القتلى، فرأى الأمير أبا الحسين قد أشرف على التلف، فحمله إلى جيرفت، وأحضر له الأطبّاء، وبالغ في علاجه، واعتذر إليه، وأنفذ رُسله يَعتذر إلى أخيه عماد الدولة بن بويه، ويُعرّفه غدر أخيه، ويَبذل مِن نفسه الطاعة، فأجابه عماد الدولة إلى ما بذله، واستقرّ بينهما الصُلح، وأطلق عليّ كلّ مَن عنده مِن الأسرى وأحسن إليهم، ووصل الخبر إلى محمّد بن إلياس بما جرى على أحمد بن بويه، فسار مِن سجستان إلى البلد المعروف بجنابة، فتوجّه إليه ابن بويه وواقعه، ودامت الحرب بينهما عِدّة أيّام، فانهزم ابن إلياس، وعاد أحمد بن بويه ظافراً، وسار نحو علي كلويه لينتقم منه، فلمّا قاربه أسرى إليه في أصحابه الرجّالة، فكبسوا عسكره ليلاً في ليلة شديدة المَطر ن فأثّروا فيهم، وقتلوا ونهبوا وعادوا، وبقي ابن بويه باقي ليلته، فلمّا أصبح سار نحوهم فقَتَل منهم عدداً كثيراً، وانهزم علي كلويه، وكتب ابن بويه إلى أخيه عِماد الدولة بما جرى له مَعه ومع ابن إلياس وهزيمته، فأجابه أخوه يأمره بالوقوف بمكانه ولا يتجاوزه، وأنفذ إليه قائداً مِن قوّاده يأمره بالعودة إلى فارس ويُلزمه بذلك. فعاد إلى أخيه، وأقام عنده باصطخر إلى أن قصدهم أبو عبد الله البريدي منهزماً مِن ابن رائق وبجكم، فأطمع عماد الدولة في العراق وسهّل عليه مُلكه.

استيلاء مُعزّ الدولة على الأهواز:

كان مِن نتيجة إطماع البريدي عِماد الدولة في العراق، وتسهيله عليه مُلكه أنْ سار مُعزّ الدولة في سَنة ستّ وعشرين إلى الأهواز وتلك البلاد، فملكها واستولى عليها ومعه البريدي، وترك البريدي ولديه أبا الحسن محمّداً وأبا جعفر الفياض عند عماد الدولة رهينة وساروا، فبلغ الخبر إلى بجكم بنزولهم أرجان، فسار لحربهم فانهزم مِن بين أيديهم، وكان سَبَب الهزيمة أنّ المطر اتّصل أيّاماً كثيرة، فعطلت أوتار قُسي الأتراك، فلم يقدروا على رمي

١٨٦

النشّاب، فعاد بجكم وأقام بالأهواز، وجعل بعض عسكره بعسكر مكرم، فقاتلوا مُعزّ الدولة بها ثلاثة عشر يوماً، ثُمّ انهزموا إلى تستر، فاستولى مُعزّ الدولة على عسكر مكرم، وسار بجكم إلى تستر مِن الأهواز، وأخذ معه جماعة مِن أعيان الأهواز، وسار هو وعسكره إلى واسط، وأرسل مِن الطرق إلى ابن رائق يُعلمه الخبر، ويقول له:

إن العسكر مُحتاج إلى المال، فإن كان معك مائتا ألف دينار فتُقيم بواسط حتّى نَصل إليك ونُنفق فيهم المال، وقد مرّ تفصيل ذلك كلّه في أخبار عِماد الدولة، فليُرجَع إليها.

مُخالفة البريدي على مُعزّ الدولة:

في أخبار عِماد الدولة في تلك الصفحات - الّتي ذَكر فيها استيلاء مُعزّ الدولة - خبر خلاف البريدي عليه بعد تمهيده لأخيه عِماد الدولة، وله أمر الاستيلاء على العراق وإبقاء ولديه رهينة عند عماد الدولة، واستقرار البريدي أخيراً في البصرة، وبقاء مُعزّ الدولة في الأهواز، ثُمّ تقلّبت على البريدي أُمور وأحوال، وهو لم يكن يَثبُت على حال، ولا يُبرم عهداً إلاّ، وهو يَضمر في دخيلة نفسه نقضه.

ذهاب مُعزّ الدولة إلى البصرة وعوده منها على غير ما يُريد:

في المُحرّم سَنة إحدى وثلاثين وثلاثمئة وصل مُعزّ الدولة إلى البصرة، فحارب البريدييّن وأقام عليهم مدّة، ثُمّ استأمن جماعة مِن قوّاد إلى البريديّين، فاستوحش مِن الباقين فانصرف عنهم.

وصول مُعزّ الدولة إلى واسط وعوده عنها:

في آخر رجب سنة ٣٣٣هـ وصل مُعزّ الدولة إلى مدينة واسط، فسمع تورون به، فسار هو والمُستكفي بالله مِن بغداد إلى واسط، فلمّا سَمِع مُعزّ الدولة بمسيرهم إليه فارقها سادس رمضان.

استيلاء مُعزّ الدولة على بغداد:

لمّا مات تورون ووُلّي مكانه شيرزاد، وزاد هذا الأجناد زيادة ضاقت عليه الأموال بسببها، فكثر الظُلم والاعتداء على الناس كَاتبَ ينال كوشة - وكان يلي لشيرزاد عمل واسط - مُعزّ الدولة وهو بالأهواز يَستقدِمه، ودخل

١٨٧

في طاعته، فسار مُعزّ الدولة نحوه، فاضطرب الناس ببغداد، فلمّا وصل إلى باجسرى اختفى المُستكفي بالله وابن شيرزاد، فلمّا استَتر شيرزاد سار الأتراك إلى الموصل، فلمّا أبعدوا ظهر المُستكفي، وعاد إلى بغداد إلى دار الخلافة، وقدم أبو محمّد الحسن بن محمّد المهلبي صاحب مُعزّ الدولة إلى بغداد، فاجتمع بابن شيرزاد بالمكان الّذي استتر فيه، ثُمّ اجتمع بالمُستكفي، فأظهر المُستكفي السُرور بقدوم مُعزّ الدولة، وأعلمه أنّه إنّما استَتَر مِن الأتراك ليتَفرّقوا فيحصل الأمر لمُعزّ الدولة بلا قِتال، ووصل مُعزّ الدولة إلى بغداد حادي عشر جمادى الأولى سنة ٣٣٤، فنزل بباب الشماسيّة، ودخل مِن الغد إلى الخليفة المُستكفي وبايعه وحَلف له المُستكفي، وسأله مُعزّ الدولة أنْ يأذن لابن شيرزاد بالظُهور، وأنْ يأذن أنْ يَستكتبه، فأجابه إلى ذلك، فظَهر ابن شيرزاد، ولقي مُعزّ الدولة فولاّه الخراج وجباية الأموال، وخَلعَ الخليفة على مُعزّ الدولة، ولقّبه ذلك اليوم مُعزّ الدولة، ولقّب أخاه عليّاً عِماد الدولة، ولقّب أخاه الحسن رُكن الدولة، وأمَر أنْ تُضرب ألقابهم وكُناهم على الدنانير والدراهم، ونَزَل مُعزّ الدولة بدار مؤنس، ونزل أصحابه في دور الناس، فلحِق الناس مِن ذلك شدّة عظيمة، وصار - نزول الجيش في دور الناس - رسماً عليهم بعد ذلك، وهو أوّل مَن فعله ببغداد، ولم يُعرف بها قبله، وأُقيم للمُستكفي بالله كلّ يوم خمسة آلاف درهم لنفقاته، وكان ربما تأخرت عنه، فأُقرّت له مع ذلك ضياع سُلّمت إليه تولاّها أبو أحمد الشيرازي كاتبه.

خَلْعُ المُستكفي بالله:

وفي هذه السنة خُلِعَ المُستكفي بالله لثمان بقين مِن جمادى الآخرة؛ وكان سبَبُ ذلك أنّ علم القهرمانة صنعتْ دعوةً عظيمةً حضرها جماعةٌ مِن قوّاد الديلم والأتراك، فاتّهمها مُعزّ الدولة أنّها فعلت ذلك لتأخذ عليهم البيعة للمُستكفي، ويُزيلوا مُعزّ الدولة، فساء ظنّه لذلك لمّا رأى مِن إقدام عَلَم، وحضر اسفهدوت عند مُعزّ الدولة، وقال:

قد راسلني الخليفة في أنْ ألقاه مُتنكّراً، فلمّا مضى اثنتان وعشرون يوماً مِن جمادى الآخرة حضر مُعزّ الدولة والناس عند الخليفة، وحضر رسول صاحب خُراسان، ومُعزّ الدولة جالس، ثُمّ حَضَر رجلان مِن نُقباء الدَيلم يصيحان، فتناولا يد المُستكفي بالله، فظّن أنّهما يُريدان تقبيلهُا، فمدّها إليهما فجذباه عن سريره

١٨٨

وجعلا عِمامته في حَلقه، ونهض مُعزّ الدولة، واضطرب الناس، ونهبت الأموال، وساق الديلميّان المُستكفي بالله ماشياً إلى دار مُعزّ الدولة، فاعتُقل بها، ونُهبت دار الخلافة حتّى لم يبقَ بها شيء، وقُبض على أبي أحمد الشيرازي كاتب المُستكفي، وأُخذت عَلَم القهرمانة فقُطع لسانها.

خلافة المُطيع واستيلاء مُعزّ الدولة على أُمور الخلافة:

لمّا وُلّي المُستكفي بالله الخلافة خافه المُطيع واستَتَرَ منه، فطلبه المُستكفي أشدّ الطَلَب، فلم يظفر به، فلمّا قدِم مُعزّ الدولة بغداد قيل إنّ المطيع انتقل إليه واستتر عنده، وأغراه بالمُستكفي حتّى قبض عليه وسَمله، فلمّا قُبِض المُستكفي بويعَ للمُطيع لله بالخلافة، ولقُب المطيع لله، وأُحضر المُستكفي عنده فسلّم عليه بالخلافة، وأُشهد على نفسه بالخَلع، وازداد أمر الخلافة إدباراً، ولم يبقَ لهم مِن الأمر شيء البتّة، وكانوا يُراجَعون ويؤخذ أمرهم فيما يُفعل والحرمةُ قائمةٌ بعض الشيء، فلمّا كان أيّام مُعزّ الدولة زال ذلك جميعه، بحيث إنّ الخليفة لم يبقَ له وزير، إنّما كان له كاتب يُدير إقطاعه وإخراجاته لا غير، وصارت الوزارة لمُعزّ الدولة يستوزر لنفسه مَن يريد، وكان مِن أعظم الأسباب في ذلك أنّ الديلم كانوا يتشيّعون ويُغالون في التشيّع، ويعتقدون أنّ العباسيّين قد غصبوا الخلافة وأخذوها مِن مُستحقّيها، فلم يكنْ عِندهم باعث ديني يَحثّهم على الطاعة، حتّى لقد بلغني أنّ مُعزّ الدولة استشار جماعة مِن خواصّ أصحابه في إخراج الخلافة مِن العباسيّين، والبيعة للمُعزّ لدين الله العلوي، أو لغيره مِن العلويّين، فكلّهم أشار عليه بذلك ما عدا بعض خواصّه، فإنّه قال :

ليس هذا برأي، فإنك اليوم مع خليفة تعتقد أنت وأصحابك أنّه ليس مِن أهل الخلافة ولو أمرتهم بقتله لقتلوه مُستحلّين دمه، ومتى أجلست بعض العلويين خليفة كان معك مَن تعتقد أنت وأصحابك صحّة خلافته، فلو أمرهم بقتلك لفعلوه، فأعرض عن ذلك، وتسلم مُعزّ الدولة العراق بأسره، ولم يبقَ بيد الخليفة منه شيء البتة، إلاّ ما أقطعه مُعزّ الدولة ممّا يقوم ببعض حاجته.

هذا ما جاء في كامل ابن الأثير، أمّا ما جاء مِن تعليله عَدم إخلاص الديلم الطاعة للعباسيّين، واستشارة مُعزّ الدولة خواصّ أصحابه في إخراج الخلافة منهم إلى المُعزّ لدين الله العلوي أو لغيره مِن العلويين، ففي ذلك

١٨٩

بَعْد:

(١) إنّ الديلم مِن الشيعة الإماميّة، والإماميّة كما لا يَرون صحّة الخلافة العباسيّة ووجوب طاعة الخُلفاء العباسيّين، لا يرون وجوب طاعة مَن يليها مِن العلويّين أيضاً، سواء أكانوا سُنّة أم شيعة، ومذهبهم في الإمامة والخلافة مَعروف، وهي أنّها لا تكون إلاّ بالنصّ.

(٢) إنّ مُعزّ الدولة الّذي يَركن إليه أخوه عِماد الدولة، وهو مؤسّس الدولة البويهيّة، والداهية المُحنّك في الاستيلاء على العراق، ويفوض إليه هذا الأمر، وهو جدّ عليم أنّ ذلك لا يَتطلّب الشجاعة وقوّة الجيش وكثرة العدد فحسب، بل يَتطلّب الحكمة والتدبير وبراعة السياسة، ولا سيّما في قُطر كقُطر العراق، والطامحون في الاستيلاء عليه والنُفوذ على سُلطان الخلافة مِن التُرك والأكراد والعرب والديلم كثيرون، فهل يخفى على مُعزّ الدولة أنّ مِثل هذه المُحاولة لا تتمّ له إنْ قصد إليها، وهل يَجهل أنّ صرف الخلافة عن العباسيّين ليست مِن الأُمور الهيّنة، وحتّى مِن الشيعة العَرب مَن يتعصّب لها، دع ما لها مِن العصبيّة السنيّة مِن مُختلف العناصر، على أنّه لا يجهل أنّ إفريقيا قاعدة الخُلفاء العلويّين لا تَزيد في نُفوذ سلطانه، بل هي أحوج إلى مَن يردّ عنها أيدي المُتغلّبين، دع ما بين ممالك أخَويه وبين العراق مِن قُرب المسافات، والبُعد ما بينها وبين إفريقية، ولِقُربِ المواصلات وبُعدها أثرها البيِّن في سَوق الجيوش، ونقل العَتاد إذا احتاج إلى نجدتهم.

(٣) على افتراض صحَّة الخلافة العلويّة عند الإماميّة الاثني عشريّة، ومُعزّ الدولة والديالمة منهم، فهل يَرون صحّة خلافة مَن لم يكن على طريقتهم ومَذهبهم؟ فهل والحالة هذه لا يرون خلافة العلوي الإسماعيلي أو غيره أصحّ مِن خلافة العبّاسي السُنّي؟

فأنت ترى أنّ مُحاولة مِثل هذا الأمر لا تنطبق على المذهب الإماميّ، ولا على السياسة الملكيّة الرشيدة، وهُما ممّا لا يجهلهما مُعزّ الدولة ومُستشاروه.

الحربُ بين مُعزّ الدولة وناصر الدولة الحمداني:

في رجب سنة ٣٣٤ جرت حربٌ بين مُعزّ الدولة وناصر الدولة الحمداني انتهت بفوز مُعزّ الدولة في المُحرّم سَنة ٣٣٥ فاستقرار الصُلح بينه وبين ناصر الدولة. وقد بسطنا ذلك في تاريخ بني حَمدان وأخبار ناصر الدولة.

١٩٠

إقطاع البلاد وتخريبها واضطراب الأُمور:

وفي هذه السَنة شَغَبَ الجُند على مُعزّ الدولة وأسمعوه المكروه، فضمن لهم إيصال أرزاقهم في مُدّة ذكرها لهم، فاضطرّ إلى خبط الناس وأخذ الأموال مِن غير وجوهها، وأقطع قوّاده وأصحاب القُرى جميعها الّتي للسلطان وأصحاب الأملاك، فبطل لذلك أكثر الدواوين، وزالت أيدي العُمّال، وكانت البلاد قد خَرِبَت مِن الاختلاف والغلاء والنَهب، فأخذ القوّاد القُرى العامرة، وزادت عِمارتها معهم، وتَوفّر دخلها بسَبَب الجاه، فلم يُمكن مُعزّ الدولة العود عليهم بذلك.

وأما الأتباع، فإنّ الّذي أخذوه ازداد خَراباً فردّوه، وطلبوا العوض عنه فعُوّضوا، وترك الأجناد الاهتمام بمشارب القُرى وتسوية طُرقها، فهلكت وبطل الكثير منها، وأخذ غُلمّان المُقطعين في ظُلم وتحصيل العاجل، فكان أحدُهم إذا عجز الحاصل تمّمه بمُصادراتها.

ثُمّ إنّ مُعزّ الدولة فوّض حماية كلّ موضع إلى بعض أكابر أصحابه، فاتّخذه مُسكناً وأطمعه، فاجتمع إليهم الأُخوة وصار القوّاد يَدّعون الخسارة في الحاصل، فلا يقدر وزيره ولا غيره على تحقيق ذلك، فإنْ اعترضهم مُعترض صاروا أعداءً له، فتُركوا وما يُريدون، فازداد طَمعهم ولم يقِفوا عند غاية، فتَعذّر على مُعزّ الدولة جَمعُ ذخيرة تكون للنوائب والحوادث، وأكثَرَ مِن إعطاء غُلمانه الأتراك والزيادة لهم في الإقطاع، فحسدهم الديلم، وتولّد مِن ذلك الوحشة والمُنافرة، فكان منهُما البلاء على مُعزّ الدولة.

صُلح مُعزّ الدولة وأبي القاسم البريدي:

في هذه السنة اصطلح مُعزّ الدولة وأبو القاسم البريدي، وضَمِن أبو القاسم مدينة واسط وأعمالها منه.

استقرار مُعزّ الدولة ببغداد وإعادة المُطيع إلى دار الخلافة وصُلح مُعزّ الدولة وناصر الدولة:

في المُحرّم سَنة ٣٣٥ استقرّ مُعزّ الدولة ببغداد، وأعاد المُطيع لله إلى دار الخلافة بعد أن استوثق منه، وفيها اصطلح مُعزّ الدولة وناصر الدولة

١٩١

كما سبق بيان ذلك، وكانت الرُسل تَتردّد بينهما بغير عِلمٍ مِن الأتراك التورونيّة.

اختلاف مُعزّ الدولة وأبي القاسم البريدي:

في هذه السَنة اختلف مُعزّ الدولة وأبو القاسم بن البريدي والي البصرة، فأرسل مُعزّ الدولة جيشاً إلى واسط، فسيَّر إليهم ابن البريدي جيشاً مِن البصرة في المّاء وعلى الظَهر، فالتقوا واقتتلوا فانهزم أصحاب البريدي، وأُسِر مِن أعيانهم جماعة كثيرة.

استيلاء مُعزّ الدولة على البصرة:

في سنة ٣٣٦ سار مُعزّ الدولة ومعه المُطيع لله إلى البصرة؛ لاستنقاذها مِن يد أبي القاسم عبد الله بن أبي عبد الله البريدي، وسلكوا البريّة إليها، فأرسل القرامطة مِن هَجَر إلى مُعزّ الدولة يُنكرون عليه مسيره إلى البريّة بغير أمرهم وهي لهم، فلم يُجبهم عن كتابهم، وقال للرسول:

قل لهم: مَن أنتم حتّى تستأمروا، وليس قصدي مِن أخذ البصرة غيركم، وستعلمون ما تقولون منّي.

ولمّا وصل مُعزّ الدولة إلى الدرهميّة استأمن إليه عساكر أبي القاسم البريدي، وهرب أبو القاسم في الرابع والعشرين مِن ربيع الآخر إلى هَجَر والتجأ إلى القرامطة، ومَلَك مُعزّ الدولة البصرة، فانحلّت الأسعار ببغداد انحلالاً كثيراً، وسار مُعزّ الدولة مِن البصرة إلى الأهواز ليلقى أخاه عِماد الدولة، وأقام الخليفة وأبو جعفر الصيمري بالبصرة، وخالف كوركير - وهو مِن أكابر القوّاد - على مُعزّ الدولة، فسيّر إليه الصيمري فقاتله فانهزم كوركير، وأُخذ أسيراً فحبسه مُعزّ الدولة بقلعة رامهرمز، ولقي مُعزّ الدولة أخاه عِماد الدولة بأرجان في شعبان، وقبَّلَ الأرض بين يديه، وكان يقف قائماً عنده فيأمره بالجلوس فلا يفعل، ثُمّ عاد إلى بغداد، وعاد المُطيع أيضاً إليها، وأظهر مُعزّ الدولة أنّه يُريد أنْ يسيرَ إلى الموصل، فتردّدت الرُسل بينه وبين ناصر الدولة واستقر الصُلح، وحَمل المّال إلى مُعزّ الدولة فسكت عنه.

مِلكُ مُعزّ الدولة الموصل وعوده منها:

في سنة سبع وثلاثين وثلاثمئة سار مُعزّ الدولة مِن بغداد إلى الموصل

١٩٢

قاصداً ناصر الدولة، وانتهى الأمر مَعه إلى ما مرَّ في ترجمة رُكن الدولة.

حرب الصيمري وزير مُعزّ الدولة لعِمران بن شاهين وعوده بأمر مُعزّ الدولة بعد تَضييقه على عِمران:

في سنة ٣٣٨ استفحل أمرُ عِمران بن شاهين وقوي شأنه، وخافته القوافل حتّى انتهى الأمر بتسيير مُعزّ الدولة وزيره أبي جعفر الصيمري لمُحاربته، فعودته بأمره مِن محاربته، بسبب موت أخيه عماد الدولة، واضطراب جيشه بفارس، وإرسال الصيمري إلى شيراز لإصلاح الأُمور فيها، وقد ذكرنا ذلك في تاريخ بني عِمران بن شاهين، كما استوفينا جميع أخبارهم مِن مُبتدأ أمرهم إلى انتهائه، فليُطلَب في موضعه مِن هذا التاريخ.

وفي سنة ٣٣٩ توفّي أبو جعفر محمّد بن أحمد الصيمري بأعمال الجامدة الّتي كانت تحت سلطة عِمران بن شاهين، وكان قد عاد مِن فارس مُحاصِراً لابن شاهين، فاستوزر مُعزّ الدولة بعده أبا محمّد الحسن بن محمّد المهلبي، وكان يَخلُف الصيمري بحضرة مُعزّ الدولة، فعرف أحوال الدواوين، فامتحنه مُعزّ الدولة، فرأى فيه ما يُريد مِن الأمانة والكفاية والمَعرفة بمصالح الدولة وحُسن السيرة، فاستوزره ومكّنه مِن وزارته فأحسن السيرة، وأزال كثيراً مِن المظالم خُصوصاً بالبصرة، فإنّ البريديّين كانوا قد أظهروا فيها كثيراً مِن المظالم، فأزالها وقرّب أهل العِلم والأدب وأحسن إليهم، وتنقّل في البلاد لكشف ما فيها مِن المظالم وتخليص الأموال، فحَسُن أثره رحمه الله.

مُعاودة مُعزّ الدولة حرب عِمران بن شاهين:

في هذه السنة بعد موت الصيمري ازداد ابن شاهين قوّة وجُرأة، فسيّر إليه مُعزّ الدولة جيشاً يقوده المهلبي، فانهزم جيش المهلبي، وجرتْ أُمور انتهت بمُصالحة مُعزّ الدولة لابن شاهين، وتقليده له أعمال البطائح ممّا زاد في استفحال أمره، ولا يُفيد تفاصيل هذه الأخبار؛ لأنّها مبسوطة في تاريخ دولة بني شاهين مِن هذا الكتاب.

١٩٣

حِصار يوسف بن وجيه البصرة وانهزامه:

في سنة ٣٤١ سار يوسف بن وجيه صاحب عمان في البحر والبرّ إلى البصرة فحصرها، وكان سَبَب ذلك أنْ مُعزّ الدولة لمّا سلك البريّة إلى البصرة، وأرسل القرامطة يُنكرون عليه ذلك، وأجابهم بما سبق ذِكره في غير هذا المكان، عَلِم يوسف بن وجيه استيحاشهم مِن مُعزّ الدولة، فكَتب إليهم يُطمعهم في البصرة، وطلب منهم أنْ يَمدّوه مِن ناحية البر، فأمدّوه بجمع كثير منهم، وسار يوسف في البحر فبلغَ الخبر إلى الوزير المهلبي، وقد فرغ مِن الأهواز والنظر فيها، فسار مُجدّاً في العساكر إلى البصرة، فدخلها قَبل وصول يوسف إليها وشحنها بالرجال، وأمدَّه مُعزّ الدولة بالعساكر وما يحتاج إليه، وتحارب هو وابن وجيه أيّاماً، ثُمّ انهزم ابن وجيه وظَفرَ المهلبي بمراكبه وما معه مِن سلاح وغيره.

ضَربُ مُعزّ الدولة وزيره المهلبي بالمقارع:

وفي هذه السنة في ربيع الأوّل ضَربَ مُعزّ الدولة وزيره أبا محمّد المهلبي بالمقارع مئةً وخمسين مقرعة، ووكّل به في داره ولم يَعزله مِن وزارته، وكان نَقِم عليه أُموراً ضربه بسببها.

الخطبة لمُعزّ الدولة في مكة:

في سنة ٣٤٢ سيَّر الحجّاج الشريفين أبا الحسن محمّد بن عبد الله وأبا عبد الله أحمد بن عمر بن يحيى العلويّين، فجرى بينهما وبين عساكر المصريّين مِن أصحاب ابن طغج حَرب شديدة، وكان الظفر لهُما فُخطِب لمُعزّ الدولة بمكّة، فلمّا خرجا مِن مكّة لحقهما عسكر مصر فقاتلهما، فظفرا به أيضاً.

وفي سنة ٣٤٣ وقعت الحرب بمكّة بين أصحاب مُعزّ الدولة، فخُطب بمكة والحجاز لرُكن الدولة ومُعزّ الدولة وولده عزّ الدولة بختيار وبعدهم لابن طغج.

١٩٤

إرسالُ مُعزّ الدولة سبكتكين في جيش لشهرزور:

وفي هذه السَنة أرسل مُعزّ الدولة سبكتكين في جيش إلى شهرزور في رجب، ومعه المنجنيقات لفتحها، فسار إليها وأقام بتلك الولاية إلى المُحرّم مِن سَنة أربع وأربعين وثلاثمئة، فعاد ولم يُمكنه فتحها؛ لأنّه اتّصل به خروج عساكر خُراسان إلى الري.

مَرض مُعزّ الدولة وانتقاض ابن شاهين:

في سنة ٣٤٣ في ذي القعدة عرض لمُعزّ الدولة مَرض، وهو دوام الإنعاظ - يُسمى فريافسمس - مع وجع شديد في ذَكَرِه مع تَوتُّر أعصابه، وكان مُعزّ الدولة خوّاراً في أمراضه، فأرجف الناس به، واضطربت بغداد، فاضطرّ إلى الرُكوب فركب في ذي الحجّة على ما به مِن شِدّة المرض، فلمّا كان في المُحرّم مِن سنة ٣٤٤ أوصى إلى ابنه بختيار، وقلَّده الأمر بعده وجعله أمير الأُمراء، وبلغَ عِمران بن شاهين أنّ مُعزّ الدولة قد مات، فجرتْ منه أُمور أدّت إلى انفساخ الصُلح، وقد ذُكِر هذا في دولة بني شاهين.

إنجاده أخاه رُكن الدولة بعسكر لمُدافعة الخُراسانيّة:

وفي هذه السَنة استمدّ أخوه رُكن الدولة لمُدافعة الخُراسانيّة الخارجين إلى مملكته في الري، فأمدّه بعسكر مُقدّمهم الحاجب سبكتكين، وقد مرَّ خَبر ذلك في ترجمة رُكن الدولة.

عصيان روزبهان على مُعزّ الدولة:

في سَنة ٣٤٥ خَرج روزبهان بن ونداد خرشيد الديلمي على مُعزّ الدولة، وعصى عليه، وخرج أخوه بلكا بشيراز، وخرج أخوهما أسفار بالأهواز، ولحق به روزبهان إلى الأهواز، وكان يُقاتل عِمران بالبطيحة، فعاد إلى واسط وسار إلى الأهواز في رَجب وبها الوزير المهلبي، فأراد مُحاربة روزبهان فاستأمن رجاله إلى روزبهان، فانحاز المهلبي عنه، وورد الخبر بذلك إلى مُعزّ الدولة فلم يُصدّق به، لإحسانه إليه، لأنّه رفعه بعد الضِعَة ونَوّه

١٩٥

بذِكره بعد الخُمول، فتجّهز مُعزّ الدولة إلى محاربته، ومال الديلم بأسرهم إلى روزبهان، ولقوا مُعزّ الدولة بما يَكره، واختلفوا عليه وتتابعوا على المسير إلى روزبهان، وسار مُعزّ الدولة عن بغداد خامس شعبان، وخرج الخليفة المُطيع لله مُنحدراً إلى مُعزّ الدولة؛ لأنّ ناصر الدولة لمّا بَلغه الخبر سيَّر العساكر مِن الموصل مع ولده أبي المرجا جابر لقصد بغداد والاستيلاء عليها، فلمّا بَلغَ ذلك الخليفة انحدر مِن بغداد، فأعاد مُعزّ الدولة الحاجب سبكتكين وغيره ممَّن يثقُ بهم مِن عسكره إلى بغداد، فشَغبَ الديلم الّذين ببغداد، فوُعِدوا بأرزاقهم فسكنوا، وهُم على قنوط مِن مُعزّ الدولة.

وأمّا مُعزّ الدولة، فإنّه سار إلى أنْ بلغ قنطرة أدبق فنزل هُناك، وجعل على الطرق مَن يحفظ أصحاب الديلم مِن الاستئمان إلى روزبهان؛ لأنّهم كانوا يأخذون العطاء منه ثُمّ يهربون عنه، وكان اعتماد مُعزّ الدولة على أصحابه الأتراك ومماليكه ونَفَرٌ يسيرٌ مِن الديلم، فلمّا كان سلخ رمضان أراد مُعزّ الدولة العُبور هو وأصحابه الّذين يثقُ بهم إلى مُحاربة روزبهان، فاجتمع الديلم وقالوا لمُعزّ الدولة:

إنْ كُنّا رجالك فأخرجنا معك نقاتل بين يديك، فإنّه لا صبر لنا على القعود مع الصبيان والغُلمّان، فإنْ ظفرت كان الاسم لهؤلاء دوننا، وإنْ ظفرَ عدوّك لَحِقنا العار. وإنّما قالوا هذا الكلام خديعة ليُمكّنهم مِن العبور معه فيتمكّنون منه، فلمّا سمع قولهم سألهم التوقّف، وقال:

إنّما أُريد أنْ أذوق حَربهم ثُمّ أعود، فإذا كان الغد لقيناهم بأجمعنا وناجزناهم. وكان يُكثر لهم العطاء فأمسكوا عنه، وعبر مُعزّ الدولة وعبر أصحابه كراديس تتناوب الحملات، فما زالوا كذلك إلى غروب الشمس، ففني نشّاب الأتراك وتعبوا، وشكوا إلى مُعزّ الدولة ما أصابهم مِن التَعب، وقالوا:

نَستريح الليلة ونعود غَداً، فعلِم مُعزّ الدولة أنّه إنْ رجِع رجف إليه روزبهان والديلم، وثار معهم أصحابه الدَيلم يهلُك ولا يُمكنه الهَرب، فبكى بين يَدَي أصحابه وكان سريع الدمعة، ثُمّ سألهم أنْ تُجمع الكراديس كلّها ويحملوا حَملة واحدة، وهو في أوّلهم فإمّا أنْ يَظفروا، وإمّا أنْ يُقتل أوّل مَن يُقتل، فطالبوه بالنشاب، فقال:

قد بقيَ مع صغار الغُلمّان نشّاب فخذوه واقسّموه، وكان جماعة صالحة مِن الغُلمّان الأصاغر تحتهم الخيل الجياد وعليهم اللبس الجيّد، كانوا سألوا مُعزّ الدولة أنْ يأذن لهم في الحرب فلم يَفعل، وقال:

إذا جاء وقت يَصلح لكم أذنت لكُم في القتال، فوجّه إليهم

١٩٦

تلك الساعة مَن يأخذ منهم النشّاب، وأومأ مُعزّ الدولة إليهم بيده أنْ اقبلوا منه، وسلّموا إليه النشّاب، فظنّوا أنّه يأمرهم بالحملة، فحملوا وهُم مستريحون، فصدموا صفوف روزبهان فخرقوها، وألقوا بعضها فوق بعض فصاروا خَلفهم، وحمل مُعزّ الدولة فيمَن معه باللتوت، فكانت الهزيمة على روزبهان وأصحابه، وأُخذ روزبهان أسيراً وجماعة مِن قوّاده، وقتَل مِن أصحابه خَلق كثير، وكَتب مُعزّ الدولة بذلك، فلمْ يُصدِق الناس لما علموا مِن قُوّة روزبهان وضعف مُعزّ الدولة، وعاد إلى بغداد ومَعَه روزبهان يراه الناس، وسَيَّر سبكتكين إلى أبي المرجا بن ناصر الدولة، وكان بعكبرا فلم يَلحقه؛ لأنّه لمّا بلغه الخبر عاد إلى الموصل، وسَجن مُعزّ الدولة روزبهان، فبلغه أنْ الديلم قد عزموا على إخراجه قهراً، والمُبايعة له فأخرجه ليلاً وغَرّقه.

وأمّا أخو روزبهان الّذي خرج بشيراز، فإنّ الأُستاذ أبا الفضل بن العميد سار إليه في الجيوش فقاتله فظفرَ به، وأعاد عضُد الدولة بن رُكن الدولة إلى مُلكه، وانطوى خبَر روزبهان وأخوته، وكان قد اشتعل اشتعال النار، فقَبض مُعزّ الدولة على جماعة مِن الديلم وترك مَن سواهم، واصطنع الأتراك وقدّمهم، وأمرهم بتوبيخ الديلم والاستطالة عليهم، ثُمّ أطلق للأتراك إطلاقات زائدة على واسط والبصرة، فساروا لقبضها مُدلين بما صنعوا، فأخربوا البلاد ونهبوا الأموال، وصار ضرَرُهم أكثر مِن نفعهم.

استيلاء مُعزّ الدولة على الموصل:

لم يكن ناصر الدولة يَثبت مع مُعزّ الدولة على عَهد وصلح، فما يَبرم معه عهداً وصُلحاً حتّى يُنقضه ما بين عشيّة، كلمّا لاحت له فرصة الخروج فقد اختلفا كثيراً، وانتهى اختلافهما إلى اتّفاق وسُرعان ما يعود ناصر الدولة فينسخ ذلك الاتّفاق، وقد عرفت في خَبر خُروج روزبهان وأخَوَيه أنْ ناصر الدولة انتهزها فُرصة فسيّر ولده أبا المرجا إلى بغداد، وكان ذلك بعد صُلح معقود على ألفَي ألف درهم كلّ سَنة، ولكنّ ناصر الدولة أخّر حمل المال مُضافاً إلى ما أساء إليه في وقت الشدّة، وكان ذلك في سنة ٣٤٧، ممّا اضطرّ مُعزّ الدولة للتجهُّز إلى الموصل، فسار نحوها في مُنتصف جمادى الأولى ومعه وزيره المهلبي، وانتهى الأمر بعد مواقع وحُروب بينهما إلى فِرار ناصر الدولة إلى أخيه سيف الدين في

١٩٧

حلب، وتوسّط سيف الدولة في الصُلح وكفالته المال المُرتّب عليه، إلى غير ذلك ممّا بسطناه في تاريخ الحمدانيّين أحد أجزاء هذا الكتاب.

زواجُ مُؤيّد الدولة بن رُكن الدولة بابنة عمّه مُعزّ الدولة:

في سنة ٣٤٨ سار مؤيّد الدولة بن رُكن الدولة مِن الريّ إلى بغداد، فتَزوّج بابنة عمّه مُعزّ الدولة، ونقلها معه إلى الري، ثُمّ عاد إلى أصبهان.

بِناءُ مُعزّ الدولة دورَه ببغداد بعد إبلاله مِن مرض أقلقه:

في المُحرّم سنة ٣٥٠هـ مرض مُعزّ الدولة وامتنع عليه البول، ثُمّ كان يبول بعد جُهد ومشقّة دماً، وتبعه البول والحصار، فاشتدّ جَزعه وقلقه، وأحضر الوزير المهلبي والحاجب سبكتكين، فأصلح بينهما ووصّاهما بابنه بختيار، وسلّم جميع ماله إليه، ثُمّ إنّه عوفي، فعَزِم على المسير إلى الأهواز؛ لأنّه اعتقد أنّ ما اعتاده مِن الأمراض إنّما هو بسبب مقامه ببغداد، وظنّ أنّه إنْ عاد إلى الأهواز عاوده ما كان فيه مِن الصحّة ونَسيَ الكِبَر والشباب، فلمّا انحدر إلى كلواذا ليتوجّه إلى الأهواز أشار عليه أصحابه بالمَقام، وأنْ يُفكّر في هذه الحَركة ولا يَعجل، فأقام بها، ولم يُؤثِر أحدٌ مِن أصحابه انتقاله لمُفارَقة أوطانهم، وأسَفَاً على بغداد كيف تَخرب بانتقال دار المَلك عنها، فأشاروا عليه بالعود إلى بغداد، وأنْ يبني بها له داراً في أعلى بغداد لتكون أرقّ هواء وأصفى ماء ففعل، وشَرع في بناء داره في موضع المسناة المُعزيّة، فكان مَبلَغ ما خَرَجَ عليها إلى أنْ مات: ثلاثة عشر ألف ألف درهم، فاحتاج بسَبَب ذلك إلى مُصادرة جماعة مِن أصحابه.

تَوليتهُ القضاءِ بالضمان:

في هذه السَنة تولّى قضاء القضاة أبو العبّاس بن عبد الله بن الحسن بن أبي الشوارب، وضَمِن أنْ يؤدّي كلّ سَنة مئتي ألف دِرهم، وهو أوّل مَن ضَمِن القضاء، وكان ذلك أيام مُعزّ الدولة، ولم يُسمع بذلك قبله، فلم يأذن له الخليفة المُطيع لله بالدخول عليه، وأمر بأنْ لا يحضر الموكب لِما ارتكبه مِن ضمان القضاء، ثُمّ ضُمِنَت بعدُ الحُسبة والشَرطة ببغداد.

١٩٨

استئمانُ أبي القاسم أخي عِمران بن شاهين إلى مُعزّ الدولة:

في هذه السَنة وصل أبو القاسم أخو عِمران بن شاهين إلى مُعزّ الدولة مُستأمِناً.

ما كُتِبَ على مساجد بغداد بأمر مُعزّ الدولة:

في ربيع الآخر مِن سنة ٣٥١هـ كَتب عامّة الشيعة ببغداد بأمر مُعزّ الدولة على المساجد ما هذه صورته:(لُعِن معاوية بن أبي سفيان، ولُعِن مَن غَصب فاطمة (رضي الله عنها) فَدكاً، ومَن مَنع مِن أنْ يُدفن الحسن عند قبر جدّه (عليه السلام)، ومَن نفى أبا ذرٍّ الغفاري، ومَن أخرج العبّاس مِن الشورى).

فأمّا الخليفة، فكان مَحكوماً عليه لا يقدر على المَنع، وأمّا مُعزّ الدولة، فبأمره كان ذلك، فلمّا كان الليل حكّه بعضُ الناس، فأراد مُعزّ الدولة إعادته، فأشار عليه الوزير أبو محمّد المهلبي بأنْ يَكتب مكان ما مُحي:(لعن الله الظالمين لآل رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)) ، ولا يَذكر أحداً في اللعن إلاّ معاوية، ففعل ذلك.

وفاةُ المهلبي وأُمور غريبة صدرت مِن مُعزّ الدولة:

في جمادى الآخرة سن ٣٥٢هـ سار الوزير المهلبي وزير مُعزّ الدولة في جيش كَثيف إلى عُمان ليفتحها، فلمّا بلغَ البحر اعتلّ واشتدّت عِلّته فأُعيد إلى بغداد فدُفن بها، وقبضَ مُعزّ الدولة أمواله وذخائره وكلّ ما كان له، وأخذ أهله وأصحابه وحواشيه حتّى ملاّحه ومَن خدمه يوماً واحداً، فقبض عليهم وحبسهم، فاستعظم الناس ذلك واستقبحوه، وكانت مُدّة وزارته ثلاث عشرة سَنة وثلاثة أشهر، وكان كريماً فاضلاً ذا عقل ومروءة فمات بموته الكرم، ونظر في الأُمور بعده أبو الفضل العبّاس بن الحسين الشيرازي، وأبو الفَرَج محمّد بن العبّاس بن فسانجس مِن غير تسمية لأحدهما بوزارة.

أمرُ مُعزّ الدولة الناس بإبطال أعمالهم وإقامة عزاء الحسين بن علي (عليه السلام):

في عاشر المُحرّم مِن هذه السَنة أمر مُعزّ الدولة الناس أنْ يُغلقوا دكاكينهم، ويُبطلوا الأسواق والبيع والشراء، وأنْ يُظهروا النياحة ويلبسوا قباباً

١٩٩

عملوها بالمسوح، وأنْ يَخرُج النساء مُنشرات الشُعور، مُسودّات الوجوه، قد شققنَ ثيابهنّ، يَدرن في البلد بالنوائح، ويلطمن وجوههن على الحسين بن علي رضي الله عنهما، ففعل الناس ذلك، ولم يكن للسُنّة قُدرة على المنع منه؛ لكثرة الشيعة، ولأنّ السلطان معهم.

ومُعزّ الدولة هو أوّل مَن سنَّ هذه السُنّة، وألزم الناس بها في كلِّ يوم عاشر مِن مُحرّم كلّ سَنة، وكانت مَثارة فِتن بين السُنّة والشيعة.

مِلكُ مُعزّ الدولة الموصل وعوده منها:

وفي رجب سنة ٣٥٣هـ سار مُعزّ الدولة مِن بغداد إلى الموصل وملكها، وبعد تضييقه على ناصر الدولة وفراره منه أعاده إليه، وقرّر بينهما الصُلح، وقد استوفينا خَبر ذلك في أخبار الحمدانيّين فلا نُعيده.

طاعةُ أهل عُمان مُعزّ الدولة وما كان مِنهم:

وفي سنة ٣٥٤هـ سيَّر مُعزّ الدولة عسكراً إلى عُمان، فلقوا أميرها وهو نافع مولى يوسف بن وجيه، وكان يوسف قد هَلك ومَلكَ نافع البلد بعده، وكان أسود، فدخل نافع في طاعة مُعزّ الدولة، وخطب له وضرب له اسمه على الدينار والدرهم، فلمّا عادَ العسكر عنه وثب به أهل عُمان فأخرجوه عنهم، وأدخلوا القرامطة الهَجريّين إليهم، وتَسلّموا البَلد فكانوا يُقيمون فيها نهاراً ويَخرجون ليلاً إلى مُعسكرهم، وكتبوا إلى أصحابهم بهَجَر يُعرّفونهم الخبر ليأمروهم بما يفعلون.

ما تَجدّد لعُمان واستيلاء مُعزّ الدولة عليها:

بعد هرب نافع عن عُمان واستيلاء القرامطة عليها، كان معهم كاتب يُعرَف بعلي بن أحمد ينظر في أُمور البلد، وكان بعُمان قاضٍ له عشيرة وجاه، فاتّفق هو وأهل البلد أنْ يَنصبوا في الإمرة رجلاً يُعرف بابن طغان، وكان مِن صِغار القوّاد بعُمان وأدناهم مَرتبة، فلمّا استقرّ في الإمرة خافَ ممَّن فوقه مِن القوّاد، فقبضَ على ثمانين قائداً، فقتل بعضهم وغَرّق بعضهم، وقَدِم البلد ابنا أُخت رجُل ممَّن قد غرَّقهم فأقاما مُدّة، ثُمّ إنّهما دخلا على طغان يوماً مِن أيّام السلام، فسلما عليه فلمّا تقوّض المجلس قتلاه، فاجتمع

٢٠٠

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

«السرابيل» : جمع «سربال» (على وزن مثقال) ، بمعنى الثوب من أيّ جنس كان (على ما يقول الراغب في مفرداته) ، ويؤيده في ذلك أكثر المفسّرين ، ولكنّ البعض منهم قد اعتبر معنى السربال هو : لباس وغطاء لبدن الإنسان ، إلّا أنّ المشهور هو المعنى الأوّل.

وكما هو معلوم ، فإنّ فائدة الألبسة لا تنحصر في حفظ الإنسان من الحر والبرد ، بل تلبس الإنسان ثوب الكرامة وتقي بدنه من الأخطار الموجهة إليه ، فلو تعرى الإنسان لكان أكثر عرضه للجراحات وما شابهها ، واستناد الآية المباركة على الخاصية الأولى دون غيرها لأهميتها المميزة.

ولعل ذكر خصوص الحر في الآية جاء تماشيا مع ما شاع في لغة العرب من ذكر أحد المتضادين اختصارا ، فيكون الثّاني واضحا بقرينة وجود الأوّل ، أو لأنّ المنطقة التي نزل فيها القرآن الكريم كان دفع الحرّ فيها ذا أهمية بالغة عند أهلها.

وثمّة احتمال آخر : أن يكون ذلك بلحاظ خطورة الإصابة بمرض ضربة الشمس المعروفة ، وبتعبير آخر : إنّ تحمل الإنسان لحر أشعة الشمس الشديدة أقل من تحمله ومقاومته للبرد ، لأنّ حرارة البدن الداخلية يمكن لها أن تعين الإنسان على تحمل البرودة لحد ما.

وفي ذيل الآية يقول القرآن مذكّرا :( كَذلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ ) أي تطيعون أمره.

وطبيعي جدّا أن يفكر الإنسان بخالق النعم ، خصوصا عند تنبّهه للنعم المختلفة التي تحيط بوجوده ، وأنّ ضميره سيستيقظ ويتجه نحو المنعم قاصدا زيادة معرفته به إذا ما امتلك أدنى درجات حسن الشكر.

ومع أنّ بعض المفسّرين قد حصروا لكلمة «النعمة» في الآية ببعض النعم : كنعمة الخلق ، وتكامل العقل ، أو التوحيد ، أو نعمة وجود النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلّا أنّ معنى الكلمة أوسع من ذلك ، ليشمل كل النعم (المذكور منها أو غير المذكور) ، وما

٢٨١

التخصيص في حقيقته إلّا من قبيل التّفسير بالمصداق الواضح.

وبعد ذكر هذه النعم الجليلة يقولعزوجل أنّهم لو اعرضوا ولم يسلموا للحق فلا تحزن ولا تقلق ، لأنّ وظيفتك إبلاغهم :( فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ الْمُبِينُ ) .

ومع كل ما يمتلكه المتكلم من منطق سليم ومدعمّ بالاستدلال الحق والجاذبية ، إلّا أنّه لا يؤثر في المخاطب ما لم يكن مستعدا لاستماع وقبول كلام المتكلم ، وبعبارة أخرى : إنّ (قابلية المحل) شرط في حصول التأثر.

وعلى هذا ، فإن لم يسلم لك أصحاب القلوب العمياء ومن امتاز بالتعصب والعناد ، فذلك ليس بالأمر الجديد ، وما عليك إلّا أن تصدع ببلاغ مبين وأن لا تقصر في ذلك والمراد من هذا المقطع القرآني هو مواساة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتسليته.

وتكميلا للحديث يضيف القرآن الكريم القول :( يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَها ) .

فعلّة كفرهم ليست في عدم معرفتهم بالنعم الإلهية وإنّما بحملهم تلك الصفات القبيحة التي تمنعهم من الإيمان كالتعصب الأعمى والعناد في معاداة الحق ، وتقديم منافعهم المادية على كل شيء ، وتلوّثهم بمختلف الشهوات ، بالإضافة إلى مرض التكبّر الغرور.

ولعل ما جاء في آخر الآية( وَأَكْثَرُهُمُ الْكافِرُونَ ) إشارة لهذه الأسباب المذكورة.

وقد جذبت كلمة «أكثرهم» انتباه واهتمام المفسّرين وراحوا يبحثون في سبب ذكرها حتى توصل المفسّرون إلى أسباب كثيرة كلّ حسب زاوية اهتمامه في البحث ، ولكنّ ما ذكرناه يبدو أقرب من كلّ ما ذكروه ، وخلاصته : إنّ أكثرية الكفار هم من أهل التعصب والعناد ، والذين كفروا نتيجة جهلهم أو غفلتهم فهم القلّة قياسا إلى أولئك.

٢٨٢

ويشاهد في القرآن الكريم مقاطع قرآنية تطلق الكفر على ذلك النوع الناشئ من التكّبر والعناد ، ومنها ما يتحدث عن الشيطان كما جاء في الآية (٣٤) من سورة البقرة( أَبى وَاسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ ) .

واحتمل البعض : أنّ المقصودين بـ «أكثرهم» من تمّت عليهم الحجّة في قبال أقلية لم تتم عليهم الحجّة بعد ، وهذا المعنى يمكن أن يعود إلى المعنى الأوّل.

* * *

بحثان

١ ـ كلمات المفسّرين

ما نطالعه في كلمات المفسّرين المتعددة بخصوص تفسير( نِعْمَتَ اللهِ ) في الآية لا يعدو غالبا من قبيل التّفسير بالمصداق ، في حين أنّ مفهوم «نعمة الله» من السعة بحيث يشمل جميع النعم المادية والمعنوية ، حتى أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يعتبر أحد المصاديق الحيّة لنعمه سبحانه وتعالى.

وروايات أهل البيتعليهم‌السلام تؤكّد على أنّ المقصود بـ «نعمة الله» هو وجود الأئمّة المعصومينعليهم‌السلام .

وفي رواية عن الإمام الصادقعليه‌السلام أنّه قال : «نحن والله نعمة الله التي أنعم بها على عباده ، وبنا فاز من فاز»(١) .

فواضحّ أنّ السعادة والنجاح لا يمكن إدراكهما إلّا عن طريق قادة الحق وهم الأئمّةعليهم‌السلام فوجودهم إذن من أوضح وأفضل النعم الإلهية (وقد ذكر هنا لأنّه أحد المصاديق الجلية لنعم الله سبحانه).

__________________

(١) نور الثقلين ، ج ٣ ، ص ٧٢.

٢٨٣

٢ ـ صراع الحقّ مع الباطل

لقد توقف بعض المفسّرين عند كلمة «ثمّ» من قوله تعالى :( يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَها ) ، لأنّ استعمالها عادة كأداة عطف مع وجود فاصلة بين أمرين ، ولذلك فثمّة فاصلة بين معرفتهم لنعم الله وبين إنكارهم للنعم ، فقالوا : إنّ الهدف من هذا التعبير تبيان ما ينبغي عليهم من الاعتراف بالتوحيد بعد معرفتهم بنعمة الله ، وكان عليهم أن يذعنوا لذلك الاعتراف ، إلّا أنّهم ساروا في طريق الباطل! فاستبعد القرآن عملهم وعبر عن ذلك بكلمة «ثمّ».

ونحتمل أنّ «ثمّ» هنا إشارة إلى معنى خفي ، خلاصته : أنّ دعوة الحقّ عند ما تتوغل إلى دواخل الروح الإنسانية عن طريق أصولها المنطقية السليمة ، فإنّها ستصطدم مع عوامل السلب والإنكار الموجود فيه أحيانا ، فيستغرق ذلك الجدال أو الصراع الداخلي مدّة تتناسب مع حجم قوّة وضعف تلك العوامل ، فإن كانت عوامل النهي والإنكار أقوى فإنّها ستغلبها بعد مدّة وعبّر القرآن عن تلك الحالة بكلمة «ثمّ».

والآيتان (٦٤ و ٦٥) ، من سورة الأنبياء ضمن عرضهما لقصة إبراهيمعليه‌السلام تتحدثان عن قوّة احتجاج نبي الله إبراهيمعليه‌السلام بعد أن حطم أصنامهم جميعها إلّا كبيرها ممّا تركهم في الوهلة الأولى يغوصون في تفكير عميق ، ممّا حدا بهم لأنّ يلوموا أنفسهم وكادوا أن يهتدوا إلى الحقّ لو لا وجود تلك الرواسب من العوامل السلبية في نفوسهم (التعصب ، الكبر، العناد) التي أمالت كفة انحرافهم على قبول دعوة الحق ، فعادوا من جديد إلى ما كانوا عليه، ولوصف تلك الحالة نرى القرآن قد استعمل كلمة «ثم» أيضا :( فَرَجَعُوا إِلى أَنْفُسِهِمْ فَقالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ ثُمَّ نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ ما هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ ) .

وعلى هذا فمعنى «الكافرون» يتوضح بشكل أدق عند وجود كلمة «ثم».

* * *

٢٨٤

الآيات

( وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً ثُمَّ لا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (٨٤) وَإِذا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذابَ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (٨٥) وَإِذا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكاءَهُمْ قالُوا رَبَّنا هؤُلاءِ شُرَكاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكاذِبُونَ (٨٦) وَأَلْقَوْا إِلَى اللهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٨٧) الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ بِما كانُوا يُفْسِدُونَ (٨٨) وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنا بِكَ شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ (٨٩) )

التّفسير

عند ما تغلق الأبواب أمام المجرمين :

بعد أن عرض القرآن الكريم في الآيات السابقة جحود منكري الحق وعدم

٢٨٥

اعترافهم بالنعم الإلهية ، يتطرق في هذه الآيات إلى جانب من العقاب الإلهي الشديد الذي ينتظر أولئك في عالم الآخرة ، لينبه الغافل من سباته ، فعسى أن يعيد النظر في مواقفه المنحرفة قبل فوات الأوان ، فيقول أوّلا :( وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً ) (١) .

وهل ثمّة حاجة إلى شاهد مع وجود علم الله المطلق؟

قد يتبادر إلى الأذهان هذا السؤال عند قراءة الآية ، وتتّضح الإجابة على ذلك من خلال التدقيق في الملاحظة التالية : إنّ الأمور غالبا ما يقصد فيها الجانب النفسي والروحي، والإنسان كلما أيقن بوجود الشهود والمراقبين عليه من قبل الله سبحانه ازداد في محاسبة نفسه، وأقلّ ما يمكن أن يذكر بهذا الصدد ما سيصيبه من خجل يوم مواجهتهم مع ما اقترفت يداه.

وبخصوص تلك المحكمة ، تأتي الآية لتقول :( ثُمَّ لا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ) .

وهل من الممكن أن لا يأذن الله للمجرمين في الدفاع عن أنفسهم؟

نعم ، وذلك لعدم الحاجة للسان في ذلك اليوم العظيم ، لأنّ الجوارح من رجل وأذن وعين وكذلك الجلد ، بل وحتى الأرض التي أطاع الإنسان عليها أو عصى ، كلها ستشهد عليه ، ويمكن استفادة هذا المعنى من آيات قرآنية أخرى كالآية (٦٥) من سورة يس والآية (٣٦) من سورة المرسلات.

بل ويزداد على عدم السماح لهم بالكلام ب( وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ ) (٢) .

لأنّ هناك محل مواجهة نتائج الأعمال وليس يوم العمل والإصلاح ، وهم حينها كالثمرة المقطوفة التي انتهى زمن نموها.

__________________

(١) أل «يوم» هنا ظرف متعلق بفعل مقدّر ، وأصل العبارة : (وليذكروا) أو (واذكروا).

(٢) يستعتبون : من الاستعتاب ، وهي في الأصل من (العتاب) وهو التحدث بلهجة شديدة ولوم ، فيكون مفهوم الاستعتاب : أن يطلب المذنب من صاحب الحق عقابه فيصبح سببا لسكون غضبه وحصول رضاه ، ولهذا اعتبر البعض ، أنّ الاستعتاب بمعنى الاسترضاء في حين أنّ حقيقة مفهومه ليس الاسترضاء ، وإنّما هو لازم له.

٢٨٦

وتشرح الآية التالية حال الظالمين بعد انتهاء مرحلة حسابهم ودخولهم في العذاب ، وكيف أنّهم يطلبون تخفيف شدة العذاب تارة ، ويطلبون إمهالهم مدّة تارة أخرى ، فتقول :( وَإِذا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذابَ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ ) .

والآيتان أشارتا إلى أربع مراحل لأهوال المجرمين (وهو ما نشاهد شبيهه في حياتنا الدنيا) :

المرحلة الأولى : سعي المجرم للتنصل والتزوير لتبرئة نفسه ، وإن لم يحصل على هدفه يسعى إلى المرحلة التالية.

المرحلة الثّانية : يستعتب صاحب الحق ويمتص غضبه وصولا لرضاه ، وإذا لم ينفعه ذلك يتنقل إلى المرحلة الثّالثة.

المرحلة الثّالثة : يطلب تخفيف العذاب ، فيقول : عاقبني ولكن خفف العذاب! وإن لم يستجاب له لعظم ذنبه فإنّه سيطلب الطلب الأخير

المرحلة الرّابعة : يطلب الإمهال والتأجيل ، وهو المحاولة الأخيرة للنجاة من العقاب

إلّا أنّ القرآن الكريم يجيب عن طلبات المجرمين بعدم حصول إذن الدفاع عنهم ، ولا يمكنهم تحصيل رضا المولى جل وعلا ، ولا يخفف عنهم العذاب ، ولا هم ينظرون ، لأن أعمالهم من القباحة وذنوبهم من العظمة تسد كل أبواب الاستجابة.

وفي الآية التالية يستمر الحديث عن عاقبة المشركين ، وكيف أنّهم سيحشرون في جهنّم مع ما أشركوا من معبوداتهم الحجرية والبشرية ، فتقول الآية المباركة واصفة حالهم :( وَإِذا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكاءَهُمْ قالُوا رَبَّنا هؤُلاءِ شُرَكاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ ) ، فهذه المعبودات هي التي وسوست لنا للوقوع في درك العمل القبيح ، وهي شريكنا في الجرم أيضا ، فارفع عنّا بعض العذاب واجعله لها!

٢٨٧

وعندها تبدأ تلك الأصنام بالتكلم (بإذن الله) :( فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكاذِبُونَ ) ، فلم نكن شركاء لله ، ومهما وسوسنا لكم فلا نستحق حمل بعض أوزاركم.

* * *

وهنا ينبغي التذكير ببعض الملاحظات :

١ ـ إنّ استعمال كلمة «شركاءهم» بدلا من «شركاء الله» للدلالة على أنّ الأصنام ما كانت في حقيقتها شريكة للهعزوجل ، بل إنّ عبدة الأصنام والمشركين هم الذين نسبوها بهذا النسب خيالا وكذبا ، فمن الحري أن تنسب لهم وليس إلى الله سبحانه.

ويؤيد ذلك ما مرّ علينا فيما سبق من تخصيص عبدة الأصنام بعض مواشيهم ومحصولاتهم الزراعية مشاركة بينهم وبين الأصنام أي أنّهم جعلوا الأصنام شريكة لهم في هذه الأنعام.

٢ ـ يستفاد من الآية أنّ الأصنام تحضر عرصة يوم القيامة أيضا ، وليس المعبودات البشرية فقط كفرعون والنمرود.

والآية (٩٨) من سورة الأنبياء :( إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ ) تؤيد ذلك.

٣ ـ وتظهر الآية قول المشركين يوم القيامة من أنّهم كانوا يعبدون هذه الأصنام :( هؤُلاءِ شُرَكاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ ) وهذا القول يتضمن صدقهم في قولهم فلا معنى لتكذيب الأصنام لهم في هذه المقولة.

ولكن من الممكن أن يكون التكذيب بمعنى عدم لياقة الأصنام لأن تكون معبودة من دون الله. أو أنّ المشركين قد أضافوا جملة أخرى مفادها أنّ هذه المعبودات قد دعتنا ووسوست لنا لنعبدها ، فتكذبهم الأصنام بأنّها لا تملك القدرة أصلا على الوسوسة والإيحاء.

٢٨٨

٤ ـ لعل ورود جملة( فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ ) بدل «قالوا لهم» لعدم قدرة الأصنام على التكلم بنفسها ، فيكون قولها عبارة عن إلقاء من قبل الله فيها ، أي أنّ اللهعزوجل يلقي إليها ، وهي بدورها تلقية إلى المشركين.

وتأتي الآية التالية لتبيّن أنّ الجميع بعد أن يقولوا كل ما عندهم ، ويسمعوا جواب قولهم ، سيتوجهون إلى حالة أخرى( ... وَأَلْقَوْا إِلَى اللهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ ) (١) مسلمين لله ، مذعنين لعظمته جل وعلا ، لأنّ غرور وتعصب الجاهلين قد أزيل برؤية الحق الذي لا مفرّ من تصديقه والإذعان إليه.

وفي هذه الأثناء ، وحيث كل شيء جلي كوضوح الشمس( وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ ) . فتبطل كذبتهم بوجود شريك لله ، وكذلك يبطل ادعاؤهم بشفاعة الأصنام لهم عند الله ، عند ما يلمسون عدم قدرة الأصنام للقيام بأي عمل ، بل ويرونها محشورة معهم في نار جهنم!.

وبهذا المقدار من الآيات كان الحديث منصبا حول انحراف المشركين الضالين وغرقهم في درك الشرك ، دون أن يدعوا الآخرين إلى ما هم فيه وبعد ذلك ينتقل القرآن الكريم إلى الكافرين من الذين لم يكتفوا بأن يكونوا كافرين ، وإنّما كانوا يبذلون أقصى جهودهم لإضلال الآخرين! فيقول :( الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ بِما كانُوا يُفْسِدُونَ ) .

فهم شركاء في جرم الآخرين إضافة لما عليهم من تبعات أعمالهم ، لأنّهم كانوا عاملا مؤثرا للفساد على الأرض وإضلال خلق الله بالصد عن سبيله.

وذكرنا مرارا وانطلاقا من منطق الاجتماع الإسلامي أنّ من يسن سنّة (حسنة أم سيئة) فهو شريك العاملين بها ثوابا أو عقابا ، والحديث المشهور يبيّن لنا هذا المعنى بوضوح: «من استن بسنّة عدل فاتبع كان له أجر من عمل بها من غير أن

__________________

(١) احتمل بعض المفسّرين كصاحب الميزان : أنّ إظهار التسليم هنا كان من جانب عبدة الأصنام فقط دون الأصنام ، ويؤيد ذلك ما ورد في ذيل الآية.

٢٨٩

ينتقص من أجورهم شيء ومن استن سنّة جور فاتبع كان عليه مثل وزر من عمل بها من غير أن ينتقص من أوزارهم شيء».

وعلى أيّة حال ، فالآيات القرآنية والأحاديث الشريفة توضح مسئولية الرؤساء والموجهين أمام الله وأمام الناس.

وتتناول الآية أيضا مسألة وجود الشهيد في كل أمّة (والذي ذكر قبل آيات معدودة)، ولمزيد من التوضيح يقول القرآن الكريم :( وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ ) .

ووجود هؤلاء الشهود ، وعلى الخصوص من الأشخاص الذين ينهضون لهذه المهمّة من وسط نفس الأمم ، لا يتعارض مع علم الله تعالى وإحاطته بكل شيء ، بل هو للتأكيد على مراقبة أعمال الناس ، وللتنبيه على وجود المراقبة الدائمة بشكل قطعي.

ومع أنّ عموم الحكم في هذه الآية يشمل المجتمع الإسلامي والنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، إلّا أنّ القرآن الكريم في مقام التأكيد قال :( وَجِئْنا بِكَ شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ ) .

وقيل إنّ المقصود بـ «هؤلاء» المسلمون الذين يعيشون في عصر النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو الرقيب والناظر والشاهد على أعمالهم ، ومن الطبيعي أن يكون ثمّة شخص آخر يأتي بعد النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليكمل طريقه فيكون شهيدا على الأمّة (وهو من وسطها) ، وينبغي أن يكون طاهرا من كل ذنب وخطيئة ، ليتمكن من إعطاء الشهادة حقّها.

ولهذا اعتمد بعض المفسّرين (من علماء الشيعة والسنّة) على كون الآية بمثابة الدليل على وجود شاهد ، حجّة ، عادل ، في كل عصر وزمان. وضرورة وجود الإمام المعصوم في كل زمان ، وهذا المنطق يتفق مع مذهب أهل البيتعليهم‌السلام دون غيرهم من المذاهب الإسلامية.

ولعل لهذا السبب عرض الفخر الرازي في تفسيره عند مواجهته لهذا الإشكال

٢٩٠

توجيها لا يخلو من إشكال أيضا حيث قال : (فحصل من هذا أن عصرا من الأعصار لا يخلو من شهيد على الناس ، وذلك الشهيد لا بدّ أن يكون غير جائز الخطاء وإلّا لافتقر إلى شهيد آخر ، ويمتد ذلك إلى غير النهاية ، وذلك باطل ، فيثبت أنّه لا بدّ في كل عصر من أقوام تقوم الحجّة بقولهم ، وذلك يقتضي أن يكون إجماع الأمّة حجّة)(١) .

لو أنّ الفخر الرازي تجاوز قليلا حدود عقائده لم يكن ليسقط في هكذا تناقض وعناد فاحش. لأنّ القرآن يقول :( يَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ ) وليس مجموع الأمّة شاهدا على كل فرد من أفراد الأمّة.

وكما ذكرنا عند تفسيرنا للآية (٤١) من سورة النساء أنّ هناك احتمالين آخرين في تفسير «هؤلاء» :

الأوّل : أنّ «هؤلاء» إشارة إلى شهداء الأمم السابقة من الأنبياءعليهم‌السلام والأوصياء ، فيكون النّبي شاهدا على هذه الأمة وشاهدا على الأنبياء السابقين أيضا.

الثّاني : المقصود من الشاهد هنا هو الشاهد العملي ، أي : شخص يكون وجوده قدوة وميزانا لتمييز الحق من الباطل.

(والمزيد من الإيضاح ، راجع ذيل الآية (٤١) من سورة النساء).

وبما أنّ جعل الشاهد فرع لوجود برنامج كامل وجامع للناس بما تتم فيه الحجّة عليهم،ويصح فيه مفهوم النظارة والمراقبة ، لذا يقول القرآن بعد ذلك مباشرة :( وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ ) .

* * *

__________________

(١) تفسير الفخر الرازي ، ج ٣٠ ، ص ٩٨.

٢٩١

بحثان

١ ـ القرآن تبيان لكل شيء :

من أهم ما تطرقت له الآيات المباركات هو أنّ القرآن مبين لكل شيء.

«تبيان» (بكسر التاء أو فتحها) له معنى مصدري(١) ، ويمكن الاستدلال بوضوح على كون القرآن بيانا لكل شيء من خلال ملاحظة سعة مفهوم «كل شيء» ، ولكن بملاحظة أن القرآن كتاب تربية وهداية للإنسان وقد نزل للوصول بالفرد والمجتمع ـ على كافة الأصعدة المادية والمعنوية ـ إلى حال التكامل والرقي ، يتّضح لنا أنّ المقصود من كل «شيء» هو كل الأمور اللازمة للوصول إلى طريق التكامل ، والقرآن ليس بدائرة معارف كبيرة وحاوية لكل جزئيات العلوم الرياضية والجغرافية والكيميائية والفيزيائية إلخ ، وإنّما القرآن دعوة حق لبناء الإنسان ، وصحيح أنّه وجه دعوته للناس لتحصيل كل ما يحتاجونه من العلوم ، وصحيح أيضا أنّه قد كشف الستار عن الكثير من الأجزاء الحساسة في جوانب علمية مختلفة ضمن بحوثه التوحيدية والتربية ، ولكن ليس ذلك الكشف هو المراد، وإنّما توجيه الناس نحو التوحيد والتربية الربانية التي توصل الإنسان إلى شاطئ السعادة الحقة من خلال الوصول لرضوانه سبحانه.

ويشير القرآن الكريم تارة إلى جزئيات الأمور والمسائل ، كما في بيانه لأحكم كتابة العقود التجارية وسندات القرض ، حيث ذكر (١٨) حكما في أطول أية قرآنية وهي الآية (٢٨٢) من سورة البقرة(٢) .

وتارة أخرى يعرض القرآن المسائل الحياتية للإنسان بصورها الكلية ، كما في الآية التي ستأتي قريبا ، حيث يقول :( إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ

__________________

(١) نقل «الآلوسي» في (روح المعاني) عن بعض الأدباء : أن جميع المصادر على وزن (تفعال) تفتح تاؤها إلا مصدرين «تبيان» و «تلقاء». ويعتبرها بعض مصدرا ، وبعض آخر يعتبرها اسم مصدر.

(٢) راجع ذيل تفسير الآية (٢٨٢) من سورة البقرة.

٢٩٢

ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ ) .

وكذلك عموم مفهوم الوفاء بالعهد في الآية (٣٤) من سورة الإسراء :( إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلاً ) ، وعموم مفهوم الوفاء بالعقد في الآية الأولى من سورة المائدة :( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) ، ولزوم أداء حق الجهاد كما جاء في الآية (٧٨) من سورة الحج :( وَجاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهادِهِ ) وكمفهوم إقامة القسط والعدل كما جاء في الآية (٤٥) من سورة الحديد :( لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ ) ، وعموم مفهوم رعاية النظم في كل الأمور في الآيات (٧ ، ٨ ، ٩) من سورة الرحمن :( وَالسَّماءَ رَفَعَها وَوَضَعَ الْمِيزانَ أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزانِ وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ ) وعموم الميزان( أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزانِ وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ ) وعموم مفهوم الامتناع عن فعل الفساد في الأرض كما في الآية (٨٥) من سورة الأعراف :( وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها ) ، بالإضافة إلى الدعوة للتدبر والتفكر والتعقل التي وردت في آيات كثيرة في القرآن الكريم ، وأمثال هذه التوجيهات العامة كثيرة في القرآن ، لتكون للإنسان نبراسا وهاجا في كافة مجالات الفكر والحياة والإنسان وكل ذلك يدلل بما لا يقبل التردد أو الشك على أنّ القرآن الكريم «فيه تبيان لكل شيء».

بل وحتى فروع هذه الأوامر الكلية لم يهملها الباري سبحانه ، وإنّما عيّن لها من يؤخذ منه التفاصيل ، كما تبيّن لنا ذلك الآية (٧) من سورة الحشر :( وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا ) .

والإنسان كلما سبح في بحر القرآن الكريم وتوغّل في أعماقه ، واستخرج برامجا وتوجيهات توصله إلى السعادة ، اتّضحت له عظمة هذا الكتاب السماوي وشموله.

ولهذا ، فمن استجدى القوانين من ذا وذاك وترك القرآن ، فهو لم يعرف القرآن،وطلب من الغير ما هو موجود عنده.

وإضافة لتشخيص الآية المباركة مسألة أصالة واستقلال تعاليم الإسلام في

٢٩٣

كل الأمور ، فقد حمّلت المسلمين مسئولية البحث والدراسة في القرآن الكريم باستمرار ليتوصلوا لاستخراج كل ما يحتاجونه.

وقد أكّدت الرّوايات الكثيرة على مسألة شمول القرآن ضمن تطرقها لهذه الآية وما شابهها من آيات.

منها : ما روي عن الإمام الصادقعليه‌السلام أنّه قال : «إنّ الله تبارك وتعالى أنزل في القرآن تبيان كل شيء حتى والله ما ترك شيئا تحتاج إليه العباد ، حتى لا يستطيع عبد يقول : لو كان هذا أنزل في القرآن ، إلّا وقد أنزله الله فيه»(١) .

وفي رواية أخرى عن الإمام الباقرعليه‌السلام أنّه قال : «إنّ الله تبارك وتعالى لم يدع شيئا تحتاج إليه الأمّة إلّا أنزله في كتابه وبيّنه لرسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وجعل لكل شيء حدا ، وجعل عليه دليلا يدل عليه ، وجعل على من تعدى ذلك الحد حدا»(٢) .

وجاء في الرّوايات الشريفة الإشارة الى هذه المسألة أيضا. وهي أنّه مضافا الى ظواهر القرآن وما يفهمه منها العلماء وسائر الناس ، فإنّ باطن القرآن بمثابة البحر الذي لا يدرك غوره ، وفيه من المسائل والعلوم ما لا يدركها إلّا النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأوصياؤه بالحق ، ومن هذه الرّوايات ما ورد عن الإمام الصادقعليه‌السلام أنّه قال : «ما من أمر يختلف فيه اثنان إلّا وله أصل في كتاب اللهعزوجل ، ولكن لا تبلغه عقول الرجال»(٣) .

إنّ عدم إدراك العامة لهذا القسم من العلوم القرآنية الذي يمكننا تشبيهه ب (عالم اللاشعور) لا يمنع من التحرك في ضوء (عالم الشعور) وعلى ضوء ظاهرة والاستفادة منه.

__________________

(١) تفسير نور الثقلين ، ج ٣ ، ص ٧٤.

(٢) المصدر السابق.

(٣) تفسير نور الثقلين ، ج ٣ ، ص ٧٥.

٢٩٤

٢ ـ مراحل الهداية الأربع

إنّ الآية أعلاه ذكرت أربعة تعابير متلازمة حسب تسلسلها لتوضيح الهدف من نزول القرآن :

١ ـ تبيانا لكل شيء.

٢ ـ هدى.

٣ ـ رحمة.

٤ ـ بشرى للمسلمين.

ولو أمعنا النظر لوجدنا ثمّة ارتباطا منطقيا واضحا بين هذه التعابير ، فكلّ منها يرمز إلى مرحلة معينة ، المرحلة الأولى في مسير الهداية تستلزم البيان والتعليم ، وبعدها تأتي مرحلة الهداية ، ومن ثمّ تأتي العمل الموجب للرحمة ، وأخيرا البشرى بثواب الله لمن آمن وعمل صالحا وسرور جميع السائرين على طريق الحق.

* * *

٢٩٥

الآية

( إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (٩٠) )

التّفسير

أكمل برنامج اجتماعي :

بعد أن ذكرت الآيات السابقة أنّ القرآن فيه تبيان لكل شيء ، جاءت هذه الآية المباركة لتقدم نموذجا من التعليمات الإسلامية في شأن المسائل الاجتماعية والإنسانية والأخلاقية ، وقد تضمّنت الآية ستة أصول مهمّة ، الثلاث الأوّل منها ذات طبيعة إيجابية ومأمور بالعمل بها ، والبقية ذات صفة سلبية منهي عن ارتكابها.

فتقول في البدء :( إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى ) .

وهل يمكن تصور وجود قانون أوسع وأشمل من «العدل»؟!

فالعدل هو القانون الذي تدور حول محوره جميع أنظمة الوجود ، وحتى السماوات والأرض فهي قائمة على أساس العدل «بالعدل قامت السماوات

٢٩٦

والأرض».

والمجتمع الإنساني الذي هو جزء صغير في كيان هذا الوجود الكبير ، لا يقوى أن يخرج عن قانون العدل ، ولا يمكن تصور مجتمع ينشد السّلام يحظى بذلك دون أن تستند أركان حياته على أسس العدل في جميع المجالات.

ولما كان المعنى الواقعي للعدل يتجسد في جعل كل شيء في مكانه المناسب ، فالانحراف والإفراط والتفريط وتجاوز الحد والتعدي على حقوق الآخرين ، ما هي إلّا صور لخلاف أصل العدل.

فالإنسان السليم هو ذلك الذي تعمل جميع أعضاء جسمه بالشكل الصحيح (بدون أية زيادة أو نقصان). ويحل المرض فيه وتتبيّن عليه علائم الضعف والخوار بمجرّد تعطيل أحد الأعضاء ، أو تقصيره في أداء وظيفته.

ويمكن تشبيه المجتمع ببدن إنسان واحد ، فإنّه سيمرض ويعتل إن لم يراع فيه العدل.

ومع ما للعدالة من قدرة وجلال وتأثير عميق في كل الأوقات ـ الطبيعية والاستثنائية ـ في عملية بناء المجتمع السليم ، إلّا أنّها ، ليست العامل الوحيد الذي يقوم بهذه المهمّة ، ولذلك جاء الأمر بـ «الإحسان» بعد «العدل» مباشرة ومن غير فاصلة.

وبعبارة أوضح : قد تحصل في حياة البشرية حالات حسّاسة لا يمكن معها حل المشكلات بالاستعانة بأصل العدالة فقط ، وإنّما تحتاج إلى إيثار وعفو وتضحية ، وذلك ما يتحقق برعاية أصل «الإحسان».

وعلى سبيل المثال : لو أنّ عدوا غدّارا هجم على مجتمع ما ، أو وقعت زلزلة أو فيضان أو عواصف في بعض مناطق البلاد ، فهل من الممكن معالجة ذلك بالتقسيم العادل لجميع الطاقات والأموال ، وتنفيذ سائر القوانين العادية؟! هنا لا بدّ من تقديم التضحية والبذل والإيثار لكل من يملك القدرة المالية ، الجسمية ،

٢٩٧

الفكرية ، لمواجهة الخطر وإزالته ، وإلّا فالطريق مهيأ أمام العدو لإهلاك المجتمع كله ، أو أنّ الحوادث الطبيعية ستدمر أكبر قدر من الناس والممتلكات.

والأصلان يحكمان نظام بدن الإنسان أيضا بشكل طبيعي ، ففي الأحوال العادية تقوم جميع الأعضاء بالتعاضد فيما بينها ، وكلّ منها يؤدي ما عليه من وظائف بالاستعانة بما تقوم به بقية الأعضاء (وهذا هو أصل العدالة).

ولكن عند ما يصاب أحد الأعضاء بجرح أو عطل يسبب في فقدانه القدرة على أداء وظيفته ، فإنّ بقية الأعضاء سوف لن تنساه ، لأنّه توقف عن عمله ، بل تستمر في تغذيته ودعمه إلخ ، (وهذا هو الإحسان).

وفي المجتمع كذلك ، حيث ينبغي للمجتمع السليم أن يحكمه هذان الأصلان.

وما جاء في الرّوايات وفي أقوال المفسّرين ، من بيانات مختلفة في الفرق بين العدل والإحسان ، لعل أغلبها يشير إلى ما قلناه أعلاه.

فعن عليعليه‌السلام أنّه قال : «العدل : الإنصاف ، والإحسان : التفضل»(١) وهذا ما أشرنا إليه.

وقال البعض : إنّ العدل : أداء الواجبات ، والإحسان : أداء المستحبات.

وقال آخرون : إنّ العدل : هو التوحيد ، والإحسان : هو أداء الواجبات.

(وعلى هذا التّفسير يكون العدل إشارة إلى الإعتقاد ، والإحسان إشارة إلى العمل).

وقال بعض : العدالة : هي التوافق بين الظاهر والباطن ، والإحسان : هو أن يكون باطن الإنسان أفضل من ظاهره.

واعتبر آخرون : أنّ العدالة ترتبط بالأمور العمليّة ، والإحسان بالأمور ، الكلامية.

__________________

(١) نهج البلاغة ، الكلمات القصار ، رقم ٢٣١.

٢٩٨

وكما قلنا فإنّ بعض هذه التفاسير ينسجم تماما مع التّفسير الذي قدّمناه أعلاه ، وبما أنّ البعض الآخر لا ينافيه فيمكن والحال هذه الجمع بينهما.

أمّا مسألة( إِيتاءِ ذِي الْقُرْبى ) فتندرج ضمن مسألة «الإحسان» حيث أن الإحسان يشمل جميع المجتمع ، بينما يخص هذا الأمر جماعة صغيرة من المجتمع الكبير وهم ذوو القربى ، وبلحاظ أنّ المجتمع الكبير يتألف من مجموعات ، فكلما حصل في هذه المجموعات انسجام أكثر ، فإنّ أثره سيظهر على كل المجتمع ، والمسألة تعتبر تقسيما صحيحا للوظائف والمسؤوليات بين الناس ، لأنّ ذلك يستلزم من كل مجموعة أن تمديد العون إلى أقربائها (بالدرجة الأولى) ممّا سيؤدي لشمول جميع الضعفاء والمعوزين برعاية واهتمام المتمكنين من أقربائهم.

وعلى ما نجده في بعض الأحاديث من أنّ المقصود بـ «ذي القربى» هم أهل بيت النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وذريته من الأئمّةعليهم‌السلام ، والمقصود ب( إِيتاءِ ذِي الْقُرْبى ) هو أداء الخمس، فإنّه لا يقصد منه تحديد مفهوم الآية أبدا ، بل هو أحد مصاديق المفهوم الواضحة ، ولا يمنع إطلاقا من شمول مفهوم الآية الواسع.

لو اعتبرنا مفهوم «ذي القربى» بمعنى مطلق الأقرباء ، سواء كانوا أقرباء العائلة والنسب ، أو أقرباء من وجوه أخرى ، فسيكون للآية مفهوم أوسع ليشمل حتى الجار والأصدقاء وما شابه ذلك (ولكنّ المعروف في ذلك قربى النسب).

ولإعانة المجموعات الصغيرة (الأقرباء) بناء محكم من الناحية العاطفية ، إضافة لما لها من ضمانة تنفيذية.

وبعد ذكر القرآن الكريم للأصول الإيجابية الثلاثة يتطرق للأصول المقابلة لها (السلبية) فيقول :( وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ ) .

وتحدث المفسّرون كثيرا حول المصطلحات الثلاثة «الفحشاء» ، «المنكر» ، «البغي» ، إلّا أنّ ما يناسب معانيها اللغوية بقرينة مقابلة الصفات مع بعضها الآخر يظهر أنّ «الفحشاء» : إشارة إلى الذنوب الخفية ، و «المنكر» : إشارة إلى الذنوب

٢٩٩

العلنية ، و «البغي» : إشارة إلى كل تجاوز عن حق الإنسان ، وظلم الآخرين والاستعلاء عليهم.

قال بعض المفسّرون(١) : إنّ منشأ الانحرافات الأخلاقية ثلاث قوى : القوّة الشهوانية، القوّة الغضبية ، والقوة الوهمية الشيطانية.

أمّا القوّة الشهوانية فإنما ترغّب في تحصيل اللذائذ الشهوانية والغرق في الفحشاء ، والقوة الغضبية تدفع الإنسان إلى فعل المنكرات وإيذاء سائر الناس ، وأمّا القوّة الوهمية الشيطانية فتوجد في الإنسان الاستعلاء على الناس والترفع وحبّ الرياسة والتقدم والتعدي على حقوق الآخرين.

وأشار الباري سبحانه في المصطلحات الثلاثة أعلاه إلى طغيان غرائز الإنسان ، ودعا إلى طريق الحق والهداية ببيان جامع لكل الانحرافات الأخلاقية.

وفي آخر الآية المباركة يأتي التأكيد مجددا على أهمية هذه الأصول الستة :( يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ) .

أشمل آيات الخير والشر :

إنّ محتوى هذه الآية المباركة له من قوّة التأثير ما جعل كثيرا من الناس يصبحون مسلمين على بيّنة من أمرهم ، وها هو «عثمان بن مظعون» أحد أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حيث قال : (كنت أسلمت استحياء من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لكثرة ما كان يعرض عليّ الإسلام ، ولم يقر الإسلام في قلبي ، فكنت ذات يوم عنده حال تأمله ، فشخص بصره نحو السماء كأنّه يستفهم شيئا ، فلمّا سرّي عنه سألته عن حاله فقال : نعم ، بيّنا أنا أحدثك إذ رأيت جبرائيل في الهواء فأتاني بهذه الآية( إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ ) وقرأها عليّ إلى آخرها ، فقّر الإسلام في قلبي. وأتيت

__________________

(١) التّفسير الكبير للفخر الرازي ، ج ٢٠ ، ص ١٠٤.

٣٠٠

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496