الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٨

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل0%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 496

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

مؤلف: آية الله الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
تصنيف:

الصفحات: 496
المشاهدات: 220287
تحميل: 6116


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 496 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 220287 / تحميل: 6116
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء 8

مؤلف:
العربية

«السرابيل» : جمع «سربال» (على وزن مثقال) ، بمعنى الثوب من أيّ جنس كان (على ما يقول الراغب في مفرداته) ، ويؤيده في ذلك أكثر المفسّرين ، ولكنّ البعض منهم قد اعتبر معنى السربال هو : لباس وغطاء لبدن الإنسان ، إلّا أنّ المشهور هو المعنى الأوّل.

وكما هو معلوم ، فإنّ فائدة الألبسة لا تنحصر في حفظ الإنسان من الحر والبرد ، بل تلبس الإنسان ثوب الكرامة وتقي بدنه من الأخطار الموجهة إليه ، فلو تعرى الإنسان لكان أكثر عرضه للجراحات وما شابهها ، واستناد الآية المباركة على الخاصية الأولى دون غيرها لأهميتها المميزة.

ولعل ذكر خصوص الحر في الآية جاء تماشيا مع ما شاع في لغة العرب من ذكر أحد المتضادين اختصارا ، فيكون الثّاني واضحا بقرينة وجود الأوّل ، أو لأنّ المنطقة التي نزل فيها القرآن الكريم كان دفع الحرّ فيها ذا أهمية بالغة عند أهلها.

وثمّة احتمال آخر : أن يكون ذلك بلحاظ خطورة الإصابة بمرض ضربة الشمس المعروفة ، وبتعبير آخر : إنّ تحمل الإنسان لحر أشعة الشمس الشديدة أقل من تحمله ومقاومته للبرد ، لأنّ حرارة البدن الداخلية يمكن لها أن تعين الإنسان على تحمل البرودة لحد ما.

وفي ذيل الآية يقول القرآن مذكّرا :( كَذلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ ) أي تطيعون أمره.

وطبيعي جدّا أن يفكر الإنسان بخالق النعم ، خصوصا عند تنبّهه للنعم المختلفة التي تحيط بوجوده ، وأنّ ضميره سيستيقظ ويتجه نحو المنعم قاصدا زيادة معرفته به إذا ما امتلك أدنى درجات حسن الشكر.

ومع أنّ بعض المفسّرين قد حصروا لكلمة «النعمة» في الآية ببعض النعم : كنعمة الخلق ، وتكامل العقل ، أو التوحيد ، أو نعمة وجود النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلّا أنّ معنى الكلمة أوسع من ذلك ، ليشمل كل النعم (المذكور منها أو غير المذكور) ، وما

٢٨١

التخصيص في حقيقته إلّا من قبيل التّفسير بالمصداق الواضح.

وبعد ذكر هذه النعم الجليلة يقولعزوجل أنّهم لو اعرضوا ولم يسلموا للحق فلا تحزن ولا تقلق ، لأنّ وظيفتك إبلاغهم :( فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ الْمُبِينُ ) .

ومع كل ما يمتلكه المتكلم من منطق سليم ومدعمّ بالاستدلال الحق والجاذبية ، إلّا أنّه لا يؤثر في المخاطب ما لم يكن مستعدا لاستماع وقبول كلام المتكلم ، وبعبارة أخرى : إنّ (قابلية المحل) شرط في حصول التأثر.

وعلى هذا ، فإن لم يسلم لك أصحاب القلوب العمياء ومن امتاز بالتعصب والعناد ، فذلك ليس بالأمر الجديد ، وما عليك إلّا أن تصدع ببلاغ مبين وأن لا تقصر في ذلك والمراد من هذا المقطع القرآني هو مواساة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتسليته.

وتكميلا للحديث يضيف القرآن الكريم القول :( يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَها ) .

فعلّة كفرهم ليست في عدم معرفتهم بالنعم الإلهية وإنّما بحملهم تلك الصفات القبيحة التي تمنعهم من الإيمان كالتعصب الأعمى والعناد في معاداة الحق ، وتقديم منافعهم المادية على كل شيء ، وتلوّثهم بمختلف الشهوات ، بالإضافة إلى مرض التكبّر الغرور.

ولعل ما جاء في آخر الآية( وَأَكْثَرُهُمُ الْكافِرُونَ ) إشارة لهذه الأسباب المذكورة.

وقد جذبت كلمة «أكثرهم» انتباه واهتمام المفسّرين وراحوا يبحثون في سبب ذكرها حتى توصل المفسّرون إلى أسباب كثيرة كلّ حسب زاوية اهتمامه في البحث ، ولكنّ ما ذكرناه يبدو أقرب من كلّ ما ذكروه ، وخلاصته : إنّ أكثرية الكفار هم من أهل التعصب والعناد ، والذين كفروا نتيجة جهلهم أو غفلتهم فهم القلّة قياسا إلى أولئك.

٢٨٢

ويشاهد في القرآن الكريم مقاطع قرآنية تطلق الكفر على ذلك النوع الناشئ من التكّبر والعناد ، ومنها ما يتحدث عن الشيطان كما جاء في الآية (34) من سورة البقرة( أَبى وَاسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ ) .

واحتمل البعض : أنّ المقصودين بـ «أكثرهم» من تمّت عليهم الحجّة في قبال أقلية لم تتم عليهم الحجّة بعد ، وهذا المعنى يمكن أن يعود إلى المعنى الأوّل.

* * *

بحثان

1 ـ كلمات المفسّرين

ما نطالعه في كلمات المفسّرين المتعددة بخصوص تفسير( نِعْمَتَ اللهِ ) في الآية لا يعدو غالبا من قبيل التّفسير بالمصداق ، في حين أنّ مفهوم «نعمة الله» من السعة بحيث يشمل جميع النعم المادية والمعنوية ، حتى أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يعتبر أحد المصاديق الحيّة لنعمه سبحانه وتعالى.

وروايات أهل البيتعليهم‌السلام تؤكّد على أنّ المقصود بـ «نعمة الله» هو وجود الأئمّة المعصومينعليهم‌السلام .

وفي رواية عن الإمام الصادقعليه‌السلام أنّه قال : «نحن والله نعمة الله التي أنعم بها على عباده ، وبنا فاز من فاز»(1) .

فواضحّ أنّ السعادة والنجاح لا يمكن إدراكهما إلّا عن طريق قادة الحق وهم الأئمّةعليهم‌السلام فوجودهم إذن من أوضح وأفضل النعم الإلهية (وقد ذكر هنا لأنّه أحد المصاديق الجلية لنعم الله سبحانه).

__________________

(1) نور الثقلين ، ج 3 ، ص 72.

٢٨٣

2 ـ صراع الحقّ مع الباطل

لقد توقف بعض المفسّرين عند كلمة «ثمّ» من قوله تعالى :( يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَها ) ، لأنّ استعمالها عادة كأداة عطف مع وجود فاصلة بين أمرين ، ولذلك فثمّة فاصلة بين معرفتهم لنعم الله وبين إنكارهم للنعم ، فقالوا : إنّ الهدف من هذا التعبير تبيان ما ينبغي عليهم من الاعتراف بالتوحيد بعد معرفتهم بنعمة الله ، وكان عليهم أن يذعنوا لذلك الاعتراف ، إلّا أنّهم ساروا في طريق الباطل! فاستبعد القرآن عملهم وعبر عن ذلك بكلمة «ثمّ».

ونحتمل أنّ «ثمّ» هنا إشارة إلى معنى خفي ، خلاصته : أنّ دعوة الحقّ عند ما تتوغل إلى دواخل الروح الإنسانية عن طريق أصولها المنطقية السليمة ، فإنّها ستصطدم مع عوامل السلب والإنكار الموجود فيه أحيانا ، فيستغرق ذلك الجدال أو الصراع الداخلي مدّة تتناسب مع حجم قوّة وضعف تلك العوامل ، فإن كانت عوامل النهي والإنكار أقوى فإنّها ستغلبها بعد مدّة وعبّر القرآن عن تلك الحالة بكلمة «ثمّ».

والآيتان (64 و 65) ، من سورة الأنبياء ضمن عرضهما لقصة إبراهيمعليه‌السلام تتحدثان عن قوّة احتجاج نبي الله إبراهيمعليه‌السلام بعد أن حطم أصنامهم جميعها إلّا كبيرها ممّا تركهم في الوهلة الأولى يغوصون في تفكير عميق ، ممّا حدا بهم لأنّ يلوموا أنفسهم وكادوا أن يهتدوا إلى الحقّ لو لا وجود تلك الرواسب من العوامل السلبية في نفوسهم (التعصب ، الكبر، العناد) التي أمالت كفة انحرافهم على قبول دعوة الحق ، فعادوا من جديد إلى ما كانوا عليه، ولوصف تلك الحالة نرى القرآن قد استعمل كلمة «ثم» أيضا :( فَرَجَعُوا إِلى أَنْفُسِهِمْ فَقالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ ثُمَّ نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ ما هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ ) .

وعلى هذا فمعنى «الكافرون» يتوضح بشكل أدق عند وجود كلمة «ثم».

* * *

٢٨٤

الآيات

( وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً ثُمَّ لا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (84) وَإِذا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذابَ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (85) وَإِذا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكاءَهُمْ قالُوا رَبَّنا هؤُلاءِ شُرَكاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكاذِبُونَ (86) وَأَلْقَوْا إِلَى اللهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (87) الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ بِما كانُوا يُفْسِدُونَ (88) وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنا بِكَ شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ (89) )

التّفسير

عند ما تغلق الأبواب أمام المجرمين :

بعد أن عرض القرآن الكريم في الآيات السابقة جحود منكري الحق وعدم

٢٨٥

اعترافهم بالنعم الإلهية ، يتطرق في هذه الآيات إلى جانب من العقاب الإلهي الشديد الذي ينتظر أولئك في عالم الآخرة ، لينبه الغافل من سباته ، فعسى أن يعيد النظر في مواقفه المنحرفة قبل فوات الأوان ، فيقول أوّلا :( وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً ) (1) .

وهل ثمّة حاجة إلى شاهد مع وجود علم الله المطلق؟

قد يتبادر إلى الأذهان هذا السؤال عند قراءة الآية ، وتتّضح الإجابة على ذلك من خلال التدقيق في الملاحظة التالية : إنّ الأمور غالبا ما يقصد فيها الجانب النفسي والروحي، والإنسان كلما أيقن بوجود الشهود والمراقبين عليه من قبل الله سبحانه ازداد في محاسبة نفسه، وأقلّ ما يمكن أن يذكر بهذا الصدد ما سيصيبه من خجل يوم مواجهتهم مع ما اقترفت يداه.

وبخصوص تلك المحكمة ، تأتي الآية لتقول :( ثُمَّ لا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ) .

وهل من الممكن أن لا يأذن الله للمجرمين في الدفاع عن أنفسهم؟

نعم ، وذلك لعدم الحاجة للسان في ذلك اليوم العظيم ، لأنّ الجوارح من رجل وأذن وعين وكذلك الجلد ، بل وحتى الأرض التي أطاع الإنسان عليها أو عصى ، كلها ستشهد عليه ، ويمكن استفادة هذا المعنى من آيات قرآنية أخرى كالآية (65) من سورة يس والآية (36) من سورة المرسلات.

بل ويزداد على عدم السماح لهم بالكلام ب( وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ ) (2) .

لأنّ هناك محل مواجهة نتائج الأعمال وليس يوم العمل والإصلاح ، وهم حينها كالثمرة المقطوفة التي انتهى زمن نموها.

__________________

(1) أل «يوم» هنا ظرف متعلق بفعل مقدّر ، وأصل العبارة : (وليذكروا) أو (واذكروا).

(2) يستعتبون : من الاستعتاب ، وهي في الأصل من (العتاب) وهو التحدث بلهجة شديدة ولوم ، فيكون مفهوم الاستعتاب : أن يطلب المذنب من صاحب الحق عقابه فيصبح سببا لسكون غضبه وحصول رضاه ، ولهذا اعتبر البعض ، أنّ الاستعتاب بمعنى الاسترضاء في حين أنّ حقيقة مفهومه ليس الاسترضاء ، وإنّما هو لازم له.

٢٨٦

وتشرح الآية التالية حال الظالمين بعد انتهاء مرحلة حسابهم ودخولهم في العذاب ، وكيف أنّهم يطلبون تخفيف شدة العذاب تارة ، ويطلبون إمهالهم مدّة تارة أخرى ، فتقول :( وَإِذا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذابَ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ ) .

والآيتان أشارتا إلى أربع مراحل لأهوال المجرمين (وهو ما نشاهد شبيهه في حياتنا الدنيا) :

المرحلة الأولى : سعي المجرم للتنصل والتزوير لتبرئة نفسه ، وإن لم يحصل على هدفه يسعى إلى المرحلة التالية.

المرحلة الثّانية : يستعتب صاحب الحق ويمتص غضبه وصولا لرضاه ، وإذا لم ينفعه ذلك يتنقل إلى المرحلة الثّالثة.

المرحلة الثّالثة : يطلب تخفيف العذاب ، فيقول : عاقبني ولكن خفف العذاب! وإن لم يستجاب له لعظم ذنبه فإنّه سيطلب الطلب الأخير

المرحلة الرّابعة : يطلب الإمهال والتأجيل ، وهو المحاولة الأخيرة للنجاة من العقاب

إلّا أنّ القرآن الكريم يجيب عن طلبات المجرمين بعدم حصول إذن الدفاع عنهم ، ولا يمكنهم تحصيل رضا المولى جل وعلا ، ولا يخفف عنهم العذاب ، ولا هم ينظرون ، لأن أعمالهم من القباحة وذنوبهم من العظمة تسد كل أبواب الاستجابة.

وفي الآية التالية يستمر الحديث عن عاقبة المشركين ، وكيف أنّهم سيحشرون في جهنّم مع ما أشركوا من معبوداتهم الحجرية والبشرية ، فتقول الآية المباركة واصفة حالهم :( وَإِذا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكاءَهُمْ قالُوا رَبَّنا هؤُلاءِ شُرَكاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ ) ، فهذه المعبودات هي التي وسوست لنا للوقوع في درك العمل القبيح ، وهي شريكنا في الجرم أيضا ، فارفع عنّا بعض العذاب واجعله لها!

٢٨٧

وعندها تبدأ تلك الأصنام بالتكلم (بإذن الله) :( فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكاذِبُونَ ) ، فلم نكن شركاء لله ، ومهما وسوسنا لكم فلا نستحق حمل بعض أوزاركم.

* * *

وهنا ينبغي التذكير ببعض الملاحظات :

1 ـ إنّ استعمال كلمة «شركاءهم» بدلا من «شركاء الله» للدلالة على أنّ الأصنام ما كانت في حقيقتها شريكة للهعزوجل ، بل إنّ عبدة الأصنام والمشركين هم الذين نسبوها بهذا النسب خيالا وكذبا ، فمن الحري أن تنسب لهم وليس إلى الله سبحانه.

ويؤيد ذلك ما مرّ علينا فيما سبق من تخصيص عبدة الأصنام بعض مواشيهم ومحصولاتهم الزراعية مشاركة بينهم وبين الأصنام أي أنّهم جعلوا الأصنام شريكة لهم في هذه الأنعام.

2 ـ يستفاد من الآية أنّ الأصنام تحضر عرصة يوم القيامة أيضا ، وليس المعبودات البشرية فقط كفرعون والنمرود.

والآية (98) من سورة الأنبياء :( إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ ) تؤيد ذلك.

3 ـ وتظهر الآية قول المشركين يوم القيامة من أنّهم كانوا يعبدون هذه الأصنام :( هؤُلاءِ شُرَكاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ ) وهذا القول يتضمن صدقهم في قولهم فلا معنى لتكذيب الأصنام لهم في هذه المقولة.

ولكن من الممكن أن يكون التكذيب بمعنى عدم لياقة الأصنام لأن تكون معبودة من دون الله. أو أنّ المشركين قد أضافوا جملة أخرى مفادها أنّ هذه المعبودات قد دعتنا ووسوست لنا لنعبدها ، فتكذبهم الأصنام بأنّها لا تملك القدرة أصلا على الوسوسة والإيحاء.

٢٨٨

4 ـ لعل ورود جملة( فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ ) بدل «قالوا لهم» لعدم قدرة الأصنام على التكلم بنفسها ، فيكون قولها عبارة عن إلقاء من قبل الله فيها ، أي أنّ اللهعزوجل يلقي إليها ، وهي بدورها تلقية إلى المشركين.

وتأتي الآية التالية لتبيّن أنّ الجميع بعد أن يقولوا كل ما عندهم ، ويسمعوا جواب قولهم ، سيتوجهون إلى حالة أخرى( ... وَأَلْقَوْا إِلَى اللهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ ) (1) مسلمين لله ، مذعنين لعظمته جل وعلا ، لأنّ غرور وتعصب الجاهلين قد أزيل برؤية الحق الذي لا مفرّ من تصديقه والإذعان إليه.

وفي هذه الأثناء ، وحيث كل شيء جلي كوضوح الشمس( وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ ) . فتبطل كذبتهم بوجود شريك لله ، وكذلك يبطل ادعاؤهم بشفاعة الأصنام لهم عند الله ، عند ما يلمسون عدم قدرة الأصنام للقيام بأي عمل ، بل ويرونها محشورة معهم في نار جهنم!.

وبهذا المقدار من الآيات كان الحديث منصبا حول انحراف المشركين الضالين وغرقهم في درك الشرك ، دون أن يدعوا الآخرين إلى ما هم فيه وبعد ذلك ينتقل القرآن الكريم إلى الكافرين من الذين لم يكتفوا بأن يكونوا كافرين ، وإنّما كانوا يبذلون أقصى جهودهم لإضلال الآخرين! فيقول :( الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ بِما كانُوا يُفْسِدُونَ ) .

فهم شركاء في جرم الآخرين إضافة لما عليهم من تبعات أعمالهم ، لأنّهم كانوا عاملا مؤثرا للفساد على الأرض وإضلال خلق الله بالصد عن سبيله.

وذكرنا مرارا وانطلاقا من منطق الاجتماع الإسلامي أنّ من يسن سنّة (حسنة أم سيئة) فهو شريك العاملين بها ثوابا أو عقابا ، والحديث المشهور يبيّن لنا هذا المعنى بوضوح: «من استن بسنّة عدل فاتبع كان له أجر من عمل بها من غير أن

__________________

(1) احتمل بعض المفسّرين كصاحب الميزان : أنّ إظهار التسليم هنا كان من جانب عبدة الأصنام فقط دون الأصنام ، ويؤيد ذلك ما ورد في ذيل الآية.

٢٨٩

ينتقص من أجورهم شيء ومن استن سنّة جور فاتبع كان عليه مثل وزر من عمل بها من غير أن ينتقص من أوزارهم شيء».

وعلى أيّة حال ، فالآيات القرآنية والأحاديث الشريفة توضح مسئولية الرؤساء والموجهين أمام الله وأمام الناس.

وتتناول الآية أيضا مسألة وجود الشهيد في كل أمّة (والذي ذكر قبل آيات معدودة)، ولمزيد من التوضيح يقول القرآن الكريم :( وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ ) .

ووجود هؤلاء الشهود ، وعلى الخصوص من الأشخاص الذين ينهضون لهذه المهمّة من وسط نفس الأمم ، لا يتعارض مع علم الله تعالى وإحاطته بكل شيء ، بل هو للتأكيد على مراقبة أعمال الناس ، وللتنبيه على وجود المراقبة الدائمة بشكل قطعي.

ومع أنّ عموم الحكم في هذه الآية يشمل المجتمع الإسلامي والنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، إلّا أنّ القرآن الكريم في مقام التأكيد قال :( وَجِئْنا بِكَ شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ ) .

وقيل إنّ المقصود بـ «هؤلاء» المسلمون الذين يعيشون في عصر النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو الرقيب والناظر والشاهد على أعمالهم ، ومن الطبيعي أن يكون ثمّة شخص آخر يأتي بعد النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليكمل طريقه فيكون شهيدا على الأمّة (وهو من وسطها) ، وينبغي أن يكون طاهرا من كل ذنب وخطيئة ، ليتمكن من إعطاء الشهادة حقّها.

ولهذا اعتمد بعض المفسّرين (من علماء الشيعة والسنّة) على كون الآية بمثابة الدليل على وجود شاهد ، حجّة ، عادل ، في كل عصر وزمان. وضرورة وجود الإمام المعصوم في كل زمان ، وهذا المنطق يتفق مع مذهب أهل البيتعليهم‌السلام دون غيرهم من المذاهب الإسلامية.

ولعل لهذا السبب عرض الفخر الرازي في تفسيره عند مواجهته لهذا الإشكال

٢٩٠

توجيها لا يخلو من إشكال أيضا حيث قال : (فحصل من هذا أن عصرا من الأعصار لا يخلو من شهيد على الناس ، وذلك الشهيد لا بدّ أن يكون غير جائز الخطاء وإلّا لافتقر إلى شهيد آخر ، ويمتد ذلك إلى غير النهاية ، وذلك باطل ، فيثبت أنّه لا بدّ في كل عصر من أقوام تقوم الحجّة بقولهم ، وذلك يقتضي أن يكون إجماع الأمّة حجّة)(1) .

لو أنّ الفخر الرازي تجاوز قليلا حدود عقائده لم يكن ليسقط في هكذا تناقض وعناد فاحش. لأنّ القرآن يقول :( يَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ ) وليس مجموع الأمّة شاهدا على كل فرد من أفراد الأمّة.

وكما ذكرنا عند تفسيرنا للآية (41) من سورة النساء أنّ هناك احتمالين آخرين في تفسير «هؤلاء» :

الأوّل : أنّ «هؤلاء» إشارة إلى شهداء الأمم السابقة من الأنبياءعليهم‌السلام والأوصياء ، فيكون النّبي شاهدا على هذه الأمة وشاهدا على الأنبياء السابقين أيضا.

الثّاني : المقصود من الشاهد هنا هو الشاهد العملي ، أي : شخص يكون وجوده قدوة وميزانا لتمييز الحق من الباطل.

(والمزيد من الإيضاح ، راجع ذيل الآية (41) من سورة النساء).

وبما أنّ جعل الشاهد فرع لوجود برنامج كامل وجامع للناس بما تتم فيه الحجّة عليهم،ويصح فيه مفهوم النظارة والمراقبة ، لذا يقول القرآن بعد ذلك مباشرة :( وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ ) .

* * *

__________________

(1) تفسير الفخر الرازي ، ج 30 ، ص 98.

٢٩١

بحثان

1 ـ القرآن تبيان لكل شيء :

من أهم ما تطرقت له الآيات المباركات هو أنّ القرآن مبين لكل شيء.

«تبيان» (بكسر التاء أو فتحها) له معنى مصدري(1) ، ويمكن الاستدلال بوضوح على كون القرآن بيانا لكل شيء من خلال ملاحظة سعة مفهوم «كل شيء» ، ولكن بملاحظة أن القرآن كتاب تربية وهداية للإنسان وقد نزل للوصول بالفرد والمجتمع ـ على كافة الأصعدة المادية والمعنوية ـ إلى حال التكامل والرقي ، يتّضح لنا أنّ المقصود من كل «شيء» هو كل الأمور اللازمة للوصول إلى طريق التكامل ، والقرآن ليس بدائرة معارف كبيرة وحاوية لكل جزئيات العلوم الرياضية والجغرافية والكيميائية والفيزيائية إلخ ، وإنّما القرآن دعوة حق لبناء الإنسان ، وصحيح أنّه وجه دعوته للناس لتحصيل كل ما يحتاجونه من العلوم ، وصحيح أيضا أنّه قد كشف الستار عن الكثير من الأجزاء الحساسة في جوانب علمية مختلفة ضمن بحوثه التوحيدية والتربية ، ولكن ليس ذلك الكشف هو المراد، وإنّما توجيه الناس نحو التوحيد والتربية الربانية التي توصل الإنسان إلى شاطئ السعادة الحقة من خلال الوصول لرضوانه سبحانه.

ويشير القرآن الكريم تارة إلى جزئيات الأمور والمسائل ، كما في بيانه لأحكم كتابة العقود التجارية وسندات القرض ، حيث ذكر (18) حكما في أطول أية قرآنية وهي الآية (282) من سورة البقرة(2) .

وتارة أخرى يعرض القرآن المسائل الحياتية للإنسان بصورها الكلية ، كما في الآية التي ستأتي قريبا ، حيث يقول :( إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ

__________________

(1) نقل «الآلوسي» في (روح المعاني) عن بعض الأدباء : أن جميع المصادر على وزن (تفعال) تفتح تاؤها إلا مصدرين «تبيان» و «تلقاء». ويعتبرها بعض مصدرا ، وبعض آخر يعتبرها اسم مصدر.

(2) راجع ذيل تفسير الآية (282) من سورة البقرة.

٢٩٢

ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ ) .

وكذلك عموم مفهوم الوفاء بالعهد في الآية (34) من سورة الإسراء :( إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلاً ) ، وعموم مفهوم الوفاء بالعقد في الآية الأولى من سورة المائدة :( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) ، ولزوم أداء حق الجهاد كما جاء في الآية (78) من سورة الحج :( وَجاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهادِهِ ) وكمفهوم إقامة القسط والعدل كما جاء في الآية (45) من سورة الحديد :( لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ ) ، وعموم مفهوم رعاية النظم في كل الأمور في الآيات (7 ، 8 ، 9) من سورة الرحمن :( وَالسَّماءَ رَفَعَها وَوَضَعَ الْمِيزانَ أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزانِ وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ ) وعموم الميزان( أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزانِ وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ ) وعموم مفهوم الامتناع عن فعل الفساد في الأرض كما في الآية (85) من سورة الأعراف :( وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها ) ، بالإضافة إلى الدعوة للتدبر والتفكر والتعقل التي وردت في آيات كثيرة في القرآن الكريم ، وأمثال هذه التوجيهات العامة كثيرة في القرآن ، لتكون للإنسان نبراسا وهاجا في كافة مجالات الفكر والحياة والإنسان وكل ذلك يدلل بما لا يقبل التردد أو الشك على أنّ القرآن الكريم «فيه تبيان لكل شيء».

بل وحتى فروع هذه الأوامر الكلية لم يهملها الباري سبحانه ، وإنّما عيّن لها من يؤخذ منه التفاصيل ، كما تبيّن لنا ذلك الآية (7) من سورة الحشر :( وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا ) .

والإنسان كلما سبح في بحر القرآن الكريم وتوغّل في أعماقه ، واستخرج برامجا وتوجيهات توصله إلى السعادة ، اتّضحت له عظمة هذا الكتاب السماوي وشموله.

ولهذا ، فمن استجدى القوانين من ذا وذاك وترك القرآن ، فهو لم يعرف القرآن،وطلب من الغير ما هو موجود عنده.

وإضافة لتشخيص الآية المباركة مسألة أصالة واستقلال تعاليم الإسلام في

٢٩٣

كل الأمور ، فقد حمّلت المسلمين مسئولية البحث والدراسة في القرآن الكريم باستمرار ليتوصلوا لاستخراج كل ما يحتاجونه.

وقد أكّدت الرّوايات الكثيرة على مسألة شمول القرآن ضمن تطرقها لهذه الآية وما شابهها من آيات.

منها : ما روي عن الإمام الصادقعليه‌السلام أنّه قال : «إنّ الله تبارك وتعالى أنزل في القرآن تبيان كل شيء حتى والله ما ترك شيئا تحتاج إليه العباد ، حتى لا يستطيع عبد يقول : لو كان هذا أنزل في القرآن ، إلّا وقد أنزله الله فيه»(1) .

وفي رواية أخرى عن الإمام الباقرعليه‌السلام أنّه قال : «إنّ الله تبارك وتعالى لم يدع شيئا تحتاج إليه الأمّة إلّا أنزله في كتابه وبيّنه لرسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وجعل لكل شيء حدا ، وجعل عليه دليلا يدل عليه ، وجعل على من تعدى ذلك الحد حدا»(2) .

وجاء في الرّوايات الشريفة الإشارة الى هذه المسألة أيضا. وهي أنّه مضافا الى ظواهر القرآن وما يفهمه منها العلماء وسائر الناس ، فإنّ باطن القرآن بمثابة البحر الذي لا يدرك غوره ، وفيه من المسائل والعلوم ما لا يدركها إلّا النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأوصياؤه بالحق ، ومن هذه الرّوايات ما ورد عن الإمام الصادقعليه‌السلام أنّه قال : «ما من أمر يختلف فيه اثنان إلّا وله أصل في كتاب اللهعزوجل ، ولكن لا تبلغه عقول الرجال»(3) .

إنّ عدم إدراك العامة لهذا القسم من العلوم القرآنية الذي يمكننا تشبيهه ب (عالم اللاشعور) لا يمنع من التحرك في ضوء (عالم الشعور) وعلى ضوء ظاهرة والاستفادة منه.

__________________

(1) تفسير نور الثقلين ، ج 3 ، ص 74.

(2) المصدر السابق.

(3) تفسير نور الثقلين ، ج 3 ، ص 75.

٢٩٤

2 ـ مراحل الهداية الأربع

إنّ الآية أعلاه ذكرت أربعة تعابير متلازمة حسب تسلسلها لتوضيح الهدف من نزول القرآن :

1 ـ تبيانا لكل شيء.

2 ـ هدى.

3 ـ رحمة.

4 ـ بشرى للمسلمين.

ولو أمعنا النظر لوجدنا ثمّة ارتباطا منطقيا واضحا بين هذه التعابير ، فكلّ منها يرمز إلى مرحلة معينة ، المرحلة الأولى في مسير الهداية تستلزم البيان والتعليم ، وبعدها تأتي مرحلة الهداية ، ومن ثمّ تأتي العمل الموجب للرحمة ، وأخيرا البشرى بثواب الله لمن آمن وعمل صالحا وسرور جميع السائرين على طريق الحق.

* * *

٢٩٥

الآية

( إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90) )

التّفسير

أكمل برنامج اجتماعي :

بعد أن ذكرت الآيات السابقة أنّ القرآن فيه تبيان لكل شيء ، جاءت هذه الآية المباركة لتقدم نموذجا من التعليمات الإسلامية في شأن المسائل الاجتماعية والإنسانية والأخلاقية ، وقد تضمّنت الآية ستة أصول مهمّة ، الثلاث الأوّل منها ذات طبيعة إيجابية ومأمور بالعمل بها ، والبقية ذات صفة سلبية منهي عن ارتكابها.

فتقول في البدء :( إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى ) .

وهل يمكن تصور وجود قانون أوسع وأشمل من «العدل»؟!

فالعدل هو القانون الذي تدور حول محوره جميع أنظمة الوجود ، وحتى السماوات والأرض فهي قائمة على أساس العدل «بالعدل قامت السماوات

٢٩٦

والأرض».

والمجتمع الإنساني الذي هو جزء صغير في كيان هذا الوجود الكبير ، لا يقوى أن يخرج عن قانون العدل ، ولا يمكن تصور مجتمع ينشد السّلام يحظى بذلك دون أن تستند أركان حياته على أسس العدل في جميع المجالات.

ولما كان المعنى الواقعي للعدل يتجسد في جعل كل شيء في مكانه المناسب ، فالانحراف والإفراط والتفريط وتجاوز الحد والتعدي على حقوق الآخرين ، ما هي إلّا صور لخلاف أصل العدل.

فالإنسان السليم هو ذلك الذي تعمل جميع أعضاء جسمه بالشكل الصحيح (بدون أية زيادة أو نقصان). ويحل المرض فيه وتتبيّن عليه علائم الضعف والخوار بمجرّد تعطيل أحد الأعضاء ، أو تقصيره في أداء وظيفته.

ويمكن تشبيه المجتمع ببدن إنسان واحد ، فإنّه سيمرض ويعتل إن لم يراع فيه العدل.

ومع ما للعدالة من قدرة وجلال وتأثير عميق في كل الأوقات ـ الطبيعية والاستثنائية ـ في عملية بناء المجتمع السليم ، إلّا أنّها ، ليست العامل الوحيد الذي يقوم بهذه المهمّة ، ولذلك جاء الأمر بـ «الإحسان» بعد «العدل» مباشرة ومن غير فاصلة.

وبعبارة أوضح : قد تحصل في حياة البشرية حالات حسّاسة لا يمكن معها حل المشكلات بالاستعانة بأصل العدالة فقط ، وإنّما تحتاج إلى إيثار وعفو وتضحية ، وذلك ما يتحقق برعاية أصل «الإحسان».

وعلى سبيل المثال : لو أنّ عدوا غدّارا هجم على مجتمع ما ، أو وقعت زلزلة أو فيضان أو عواصف في بعض مناطق البلاد ، فهل من الممكن معالجة ذلك بالتقسيم العادل لجميع الطاقات والأموال ، وتنفيذ سائر القوانين العادية؟! هنا لا بدّ من تقديم التضحية والبذل والإيثار لكل من يملك القدرة المالية ، الجسمية ،

٢٩٧

الفكرية ، لمواجهة الخطر وإزالته ، وإلّا فالطريق مهيأ أمام العدو لإهلاك المجتمع كله ، أو أنّ الحوادث الطبيعية ستدمر أكبر قدر من الناس والممتلكات.

والأصلان يحكمان نظام بدن الإنسان أيضا بشكل طبيعي ، ففي الأحوال العادية تقوم جميع الأعضاء بالتعاضد فيما بينها ، وكلّ منها يؤدي ما عليه من وظائف بالاستعانة بما تقوم به بقية الأعضاء (وهذا هو أصل العدالة).

ولكن عند ما يصاب أحد الأعضاء بجرح أو عطل يسبب في فقدانه القدرة على أداء وظيفته ، فإنّ بقية الأعضاء سوف لن تنساه ، لأنّه توقف عن عمله ، بل تستمر في تغذيته ودعمه إلخ ، (وهذا هو الإحسان).

وفي المجتمع كذلك ، حيث ينبغي للمجتمع السليم أن يحكمه هذان الأصلان.

وما جاء في الرّوايات وفي أقوال المفسّرين ، من بيانات مختلفة في الفرق بين العدل والإحسان ، لعل أغلبها يشير إلى ما قلناه أعلاه.

فعن عليعليه‌السلام أنّه قال : «العدل : الإنصاف ، والإحسان : التفضل»(1) وهذا ما أشرنا إليه.

وقال البعض : إنّ العدل : أداء الواجبات ، والإحسان : أداء المستحبات.

وقال آخرون : إنّ العدل : هو التوحيد ، والإحسان : هو أداء الواجبات.

(وعلى هذا التّفسير يكون العدل إشارة إلى الإعتقاد ، والإحسان إشارة إلى العمل).

وقال بعض : العدالة : هي التوافق بين الظاهر والباطن ، والإحسان : هو أن يكون باطن الإنسان أفضل من ظاهره.

واعتبر آخرون : أنّ العدالة ترتبط بالأمور العمليّة ، والإحسان بالأمور ، الكلامية.

__________________

(1) نهج البلاغة ، الكلمات القصار ، رقم 231.

٢٩٨

وكما قلنا فإنّ بعض هذه التفاسير ينسجم تماما مع التّفسير الذي قدّمناه أعلاه ، وبما أنّ البعض الآخر لا ينافيه فيمكن والحال هذه الجمع بينهما.

أمّا مسألة( إِيتاءِ ذِي الْقُرْبى ) فتندرج ضمن مسألة «الإحسان» حيث أن الإحسان يشمل جميع المجتمع ، بينما يخص هذا الأمر جماعة صغيرة من المجتمع الكبير وهم ذوو القربى ، وبلحاظ أنّ المجتمع الكبير يتألف من مجموعات ، فكلما حصل في هذه المجموعات انسجام أكثر ، فإنّ أثره سيظهر على كل المجتمع ، والمسألة تعتبر تقسيما صحيحا للوظائف والمسؤوليات بين الناس ، لأنّ ذلك يستلزم من كل مجموعة أن تمديد العون إلى أقربائها (بالدرجة الأولى) ممّا سيؤدي لشمول جميع الضعفاء والمعوزين برعاية واهتمام المتمكنين من أقربائهم.

وعلى ما نجده في بعض الأحاديث من أنّ المقصود بـ «ذي القربى» هم أهل بيت النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وذريته من الأئمّةعليهم‌السلام ، والمقصود ب( إِيتاءِ ذِي الْقُرْبى ) هو أداء الخمس، فإنّه لا يقصد منه تحديد مفهوم الآية أبدا ، بل هو أحد مصاديق المفهوم الواضحة ، ولا يمنع إطلاقا من شمول مفهوم الآية الواسع.

لو اعتبرنا مفهوم «ذي القربى» بمعنى مطلق الأقرباء ، سواء كانوا أقرباء العائلة والنسب ، أو أقرباء من وجوه أخرى ، فسيكون للآية مفهوم أوسع ليشمل حتى الجار والأصدقاء وما شابه ذلك (ولكنّ المعروف في ذلك قربى النسب).

ولإعانة المجموعات الصغيرة (الأقرباء) بناء محكم من الناحية العاطفية ، إضافة لما لها من ضمانة تنفيذية.

وبعد ذكر القرآن الكريم للأصول الإيجابية الثلاثة يتطرق للأصول المقابلة لها (السلبية) فيقول :( وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ ) .

وتحدث المفسّرون كثيرا حول المصطلحات الثلاثة «الفحشاء» ، «المنكر» ، «البغي» ، إلّا أنّ ما يناسب معانيها اللغوية بقرينة مقابلة الصفات مع بعضها الآخر يظهر أنّ «الفحشاء» : إشارة إلى الذنوب الخفية ، و «المنكر» : إشارة إلى الذنوب

٢٩٩

العلنية ، و «البغي» : إشارة إلى كل تجاوز عن حق الإنسان ، وظلم الآخرين والاستعلاء عليهم.

قال بعض المفسّرون(1) : إنّ منشأ الانحرافات الأخلاقية ثلاث قوى : القوّة الشهوانية، القوّة الغضبية ، والقوة الوهمية الشيطانية.

أمّا القوّة الشهوانية فإنما ترغّب في تحصيل اللذائذ الشهوانية والغرق في الفحشاء ، والقوة الغضبية تدفع الإنسان إلى فعل المنكرات وإيذاء سائر الناس ، وأمّا القوّة الوهمية الشيطانية فتوجد في الإنسان الاستعلاء على الناس والترفع وحبّ الرياسة والتقدم والتعدي على حقوق الآخرين.

وأشار الباري سبحانه في المصطلحات الثلاثة أعلاه إلى طغيان غرائز الإنسان ، ودعا إلى طريق الحق والهداية ببيان جامع لكل الانحرافات الأخلاقية.

وفي آخر الآية المباركة يأتي التأكيد مجددا على أهمية هذه الأصول الستة :( يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ) .

أشمل آيات الخير والشر :

إنّ محتوى هذه الآية المباركة له من قوّة التأثير ما جعل كثيرا من الناس يصبحون مسلمين على بيّنة من أمرهم ، وها هو «عثمان بن مظعون» أحد أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حيث قال : (كنت أسلمت استحياء من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لكثرة ما كان يعرض عليّ الإسلام ، ولم يقر الإسلام في قلبي ، فكنت ذات يوم عنده حال تأمله ، فشخص بصره نحو السماء كأنّه يستفهم شيئا ، فلمّا سرّي عنه سألته عن حاله فقال : نعم ، بيّنا أنا أحدثك إذ رأيت جبرائيل في الهواء فأتاني بهذه الآية( إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ ) وقرأها عليّ إلى آخرها ، فقّر الإسلام في قلبي. وأتيت

__________________

(1) التّفسير الكبير للفخر الرازي ، ج 20 ، ص 104.

٣٠٠