الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٨

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل0%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 496

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

مؤلف: آية الله الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
تصنيف:

الصفحات: 496
المشاهدات: 220290
تحميل: 6116


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 496 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 220290 / تحميل: 6116
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء 8

مؤلف:
العربية

1 ـ الشّيخ الطوسي المعروف بشيخ الطائفة (460 ه‍ ـ ق) ، وله بحث صريح وقاطع بهذا الشأن في أوّل تفسيره المعروف ب (التبيان).

2 ـ الشريف المرتضى ، ويعتبر من كبار علماء الإمامية في القرن الرّابع الهجري.

3 ـ الشّيخ الصدوق محمد بن علي بن بابويه المعروف برئيس المحدثين ، حيث يقول في بيان عقائد الإمامية : (إن اعتقادنا بالقرآن أنّه سالم من أي تحريف).

4 ـ المفسّر الكبير الشّيخ الطبرسي ، وله في مقدمة تفسيره بحث مفصل بهذا الشأن.

5 ـ المرحوم الشّيخ محمد حسين كاشف الغطاء ، من كبار العلماء المتأخرين.

6 ـ المرحوم المحقق اليزدي ، وقد نقل في كتابه (العروة الوثقى) مسألة عدم تحريف القرآن عن جمهور مجتهدي الشيعة.

7 ـ بالإضافة إلى جمع من العلماء الآخرين ، أمثال : الشّيخ المفيد ، الشّيخ البهائي، القاضي نور الله مع سائر محققي الشيعة.

وقد نحى هذا المنحى علماء ومحققوا أهل السنة.

وقد نقل عن بعض محدّثي الشيعة وبعض أهل السنة ، اعتقادهم بوقوع التحريف في القرآن. إلّا أن كبار علماء الفريقين بأدلتهم القاطعة قد أبطلوا زعم هؤلاء وأدخلوه في حيز النسيان.

وأفاد العلّامة الشريف المرتضى في جواب (المسائل الطرابلسيات) «إن صحة نقل القرآن واضحة وبيّنة كمعرفتنا لعواصم العالم والحوادث المهمّة في التأريخ والكتب الشهيرة» فهل هناك من يشك في وجود مدن كمكّة والمدينة أو لندن وباريس وإن لم يزرها؟! أو هل هناك من ينكر وقوع الهجوم المغولي على الشرق ، الثورة الفرنسية ،

٢١

الحرب العالمية الأولى أو الثّانية؟!

فإنّ لم يكن هناك من يشك أو ينكر ، بسبب تواتر ذكر وجودها ، فكذلك آيات القرآن الكريم ، وهذا ما سيأتي بيانه إن شاء الله.

وإذا كان بعض المغرضين قد نسبوا للشيعة اعتقادهم بتحريف القرآن ، فغايتهم إشعال فتيل التفرقة والفتنة بين الشيعة والسنة ، وقد فندت كتب كبار علماء الشيعة هذه الأباطيل الفاقدة لأي دليل منطقي.

ولا نستغرب من الفخر الرازي قوله في ذيل الآية مورد البحث : (إنّ الآية :( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ ) دليل على بطلان قول الشيعة في حصول التغيير والزيادة والنقصان في القرآن) ، ممّا نعلمه عن هذا الرجل من حساسية وتعصب تجاه الشيعة.

وهنا لا بدّ من كلمة : إن كان يقصد بالشيعة كبار علمائهم ومحققيهم ، فليس هناك من يعتقد بذلك.

وإن كان يقصد بوجود قول ضعيف بهذا الشأن بين أوساط الشيعة ، فإنّ نظيره موجود في أوساط السنة أيضا ، وهو ما لم يعتن به من قبل الطرفين.

وقد تطرق لذلك بوضوح المحقق الشّيخ جعفر المعروف بكاشف الغطاء في كتابه (كشف الغطاء) بقوله : لا ريب أنّه (أي القرآن) محفوظ من النقصان بحفظ الملك الديان، كما دل عليه صريح القرآن ، وإجماع العلماء في كل زمان ، ولا عبرة بنادر(1) .

إنّ التأريخ الإسلامي مزدحم بالتهم الباطلة المتغذية من ثدي العصبية المقيتة ، مع علمنا القاطع بأنّ أعداء الإسلام يقفون وراء حياكة ونشر هذه التهم لإيقاع البغضاء بين أبناء الدين الواحد ، وأنّ غاية ما يسعون إليه أن يروا المسلمين أمّة

__________________

(1) تفسير آلاء الرحمن ، 35.

٢٢

مفككة غير قادرة على القيام بمهامها الوحدوية التوحيدية.

ترى كاتبا معروفا (من أهل الحجاز) في عرض ذمّه للشيعة من خلال كتابه (الصراع) يقول : (والشيعة هم أبدا أعداء المساجد)(1) .

والحال لو أجرينا إحصاء لعدد المساجد في شوارع وأسواق وأزقة المدن الشيعية لأخذ منّا الوقت الطويل لكثرتها ، لدرجة أنّ بعضا من الشيعة بات يشكل على كثرة المساجد في المنطقة الواحدة ويرى لو يلتفت المحسنون لدور الأيتام والمستشفيات الخيرية وما شاكلها ، بدلا من بناية المساجد لكفاية الموجود ومع هذا ترى كاتبا معروفا يتحدث بصراحة عن أمر يدعو إلى الضحك.

وعليه فلا ينبغي الاستغراب لما افتراه الفخر الرازي.

أدلة عدم تحريف القرآن :

1 ـ أدلة عدم تحريف القرآن كثيرة ـ فبالإضافة الى الآية محل البحث وآيات أخر ـ كيفية تعامل الناس مع هذا الكتاب السماوي العظيم عبّر التأريخ.

وقبل البداء ينبغي التنويه بأنّ من احتمل التحريف في القرآن ، إنّما أراد بذلك حصول النقص فيه ، ولم نر من احتمل الزيادة في القرآن.

ونظرة فاحصة إلى تاريخ حياة المسلمين نرى من خلالها أنّهم كانوا يعايشون القرآن في كافة مرافق حياتهم ، فهو القانون والدستور الحاكم ، ونظام الدولة ، وهو الكتاب المقدس السماوي ورمز العبادة وبعد هذا كله هل يحتمل أن تطرأ عليه الزيادة أو النقصان؟!

يحدثنا التأريخ بأنّ القرآن ما كان ليفارق الإنسان المسلم في : صلاته ، المسجد ، البيت ، ميدان الحرب عند مواجهة الأعداء ، بل إنّ المسلمين كانوا

__________________

(1) الصراع ، لعبد الله علي القصيمي ، ج 2 ، ص 23 ، على ما نقل عنه العلّامة الأميني في الغدير ، ج 3 ، ص 300.

٢٣

يجعلون تعليم القرآن مهورا للنساء. فكان للقرآن الحضور الفاعل في كل صغيرة وكبيرة من شؤون المسلمين ، حتى أن الطفل ينمو على هديه.

ومرّة أخرى نقول : أو يعقل أن يصاب هذا الكتاب السماوي المقدس بسهام التحريف والتغيير وهو محفوظ في قلوب وسلوك المسلمين على مرّ التأريخ؟!

لقد تمّ جمع القرآن ـ كما ذكرنا في المجلد الأوّل من هذا التّفسير ـ في عهد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، واهتمّ به المسلمون الأوائل أقصى درجات الاهتمام ، في مجال تعلم أحكامه ، وحفظه ، لدرجة أصبحت فيها مكانة الفرد الاجتماعية تقاس بقدر حفظه من سور القرآن الكريم ، حتى أصبح عدد حفاظ القرآن من الكثرة بحيث أنّه في إحدى المعارك قتل فيها أربعة آلاف منهم(1) .

وكذلك الحال في عهد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حينما استشهد سبعون رجلا من الصحابة الذين حفظوا القرآن في معركة بئر معونة ـ وهي إحدى المناطق المجاورة للمدينة ـ(2) .

من هذين المثلين (وأمثالهما كثير) يتّضح لنا أن حفظة وقراء ومعلمي القرآن الكريم من الكثيرة بحيث يستشهد منهم في معركة واحدة ذلك العدد الضخم.

وهذا طبيعي جدا إذا ما نظرنا إلى طريقة تعامل المسلمين مع القرآن ، باعتباره القانون الحاكم النافذ ، والكتاب المقدس الذي لا يوجد سواه.

لم يكن القرآن الكريم كتابا مهملا في زوايا البيوت والمساجد يعلوه غبار النسيان حتى تسنح الفرصة لمن يريد أن يزيد فيه أو ينقص ، بل إنّ مسألة حفظه كانت وما زالت عبادة عظيمة وسنّة متبعة تمتد جذورها في عمق التاريخ الإسلامي.

وبعد أن ظهرت الطباعة كان القرآن الكريم أكثر الكتب من حيث الطبع

__________________

(1) منتخب كنز العمال ، كما نقل عنه (البيان في تفسير القرآن) ، ص 260.

(2) سفينة البحار ، ج 1 ، ص 57.

٢٤

والانتشار بين صفوف المسلمين في كافة بلدانهم ، ولا تخلو مدينة إسلامية من حفاظ للقرآن. والأمثلة أكثر من أن تقال ، ففي البلدان الإسلامية هناك مدارس خاصة لقراءة وحفظ القرآن وذكر أحد المطلعين : أنّه يوجد في بعض بلاد الإسلامية ما يقرب من مليون ونصف المليون حافظ للقرآن.

وبناء على ما ذكره فريد وجدي في كتابه (دائرة المعارف) : إن من شروط امتحان القبول في كلية الأزهر في مصر ، هو حفظ القرآن الكريم كاملا ودرجة النجاح في ذلك (20) من (40) كحد أدنى.

خلاصة القول : إنّ حفظ القرآن منذ عصر ظهور الإسلام أصبح سنّة حية في حياة المسلمين ، من خلال ما أمر وأكّد عليه النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (وهو ما تعضده الرّوايات الكثيرة) ، وإلى هنا نعاود طرح السؤال : هل هناك مجال لاحتمال وجود التحريف في القرآن؟!

2 ـ بالإضافة إلى ما تقدم تواجهنا مسألة (كتّاب الوحي) وهم الأشخاص الذين أو كل إليهم النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مهمّة تسجيل الآيات القرآنية بعد نزولها ، ويذكر أن عددهم كان بين 14 ـ 43 رجلا.

يقول أبو عبد الله الزنجاني في كتابه القّيم (تأريخ القرآن) : (كان للنبي كتّاب يكتبون الوحي وهم ثلاثة وأربعون ، أشهرهم الخلفاء الأربعة ، وكان ألزمهم للنّبي زيد بن ثابت وعلي بن أبي طالبعليه‌السلام ) فكيف لكتاب له كل هؤلاء الكتّاب أن تمتد إليه يد التحريف؟!

3 ـ دعوة الأئمّة المعصومينعليهم‌السلام للعمل بالقرآن الموجود بين أيدينا. ولو تفحصنا كلامهمعليهم‌السلام لوجدنا أنّهم قد دعوا الناس لتلاوة ودراسة القرآن والعمل على هديه منذ صدر الإسلام وعلى امتداد وجودهم المبارك بين الناس ، وهذا دليل على أن الأيادي المفسدة ما استطاعت النيل من هذا الكتاب السماوي.

٢٥

وخطب الإمام عليعليه‌السلام في نهج البلاغة خير شاهد ينطق بهذا الادعاء : فنقرأ

في الخطبة (133): «وكتاب الله بين أظهركم ، ناطق لا يعيا لسانه ، وبيت لا تهدم أركانه ، وعز لا تهزم أعوانه».

ويقول في الخطبة (176): «واعلموا أن هذا القرآن هو الناصح الذي لا يغش ، والهادي الذي لا يضل ...».

ونطالع قولهعليه‌السلام في نفس الخطبة المذكورة : «وما جالس هذا القرآن أحد إلّا قام عنه بزيادة أو نقصان : زيادة في هدى ، أو نقصان من عمى».

ونتابع ذات الخطبة حتى نصل لقولهعليه‌السلام : «وإنّ الله سبحانه لم يعط أحدا بمثل هذا القرآن ، فإنّه حبل الله المتين ، وسببه الأمين».

ونقرأ في الخطبة (198): «ثمّ أنزل عليه الكتاب نورا لا تطفأ مصابيحه ، وسراجا لا يخبو توقده ، ، ومنهاجا لا يضل نهجه ، ، وفرقانا لا يخمد برهانه» وأمثال ذلك كثير في كلام علي والأئمّةعليهم‌السلام .

ولو فرضنا أنّ يد التحريف قد طالت كتاب السماء ، فهل من الممكن أن يدعو إليه الأئمّةعليهم‌السلام بهذه القوة؟ ويصفونه بأنّه : صراط هداية ، وسيلة التفريق بين الحق والباطل ، النّور الذي لا يطفأ أبدا ، مصباح هداية لا يخبو ، حبل الله المتين والعروة الوثقى.

4 ـ وإذا ما سلمنا ب (خاتمية) النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّ الدين الإسلامي هو خاتم الأديان الإلهية ، وإنّ رسالة القرآن باقية إلى يوم القيامة.

فهل يصدق أنّ الله سبحانه سوف لا يحفظ دليل دينه وحجّة نبيّه الخاتمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؟ وهل يجتمع تحريف القرآن مع بقاء الإسلام عبر آلاف السنين ودوامه حتى نهاية العالم؟!

5 ـ وهناك دليل آخر على أصالة القرآن وحفظه من أية شائبة نتلمسه في روايات الثقلين المروية عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بطرق متعددة معتبرة.

٢٦

فقد روي عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «إنّي تارك فيكم الثقلين ، كتاب الله وعترتي ، ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي أبدا»(1) .

فهل يصح هذا التعبير عن كتاب تطاله يد التحريف؟!

6 ـ بالإضافة إلى كل ذلك فالقرآن طرح على المسلمين باعتباره الحد الفاصل المأمون الجانب في تمييز الأحاديث الصادقة من الكاذبة ، وتشير كثير من الرّوايات الواردة عن أهل البيتعليهم‌السلام إلى أن صدق أو كذب أي حديث يتبيّن من خلال عرضه على القرآن ، فما وافق القرآن فهو حق وما خالفه فهو باطل.

فلو افترضنا أنّ تحريفا قد طرأ على القرآن (ولو بصورة نقصان) فهل يمكن اعتباره فاصلا بين الحق والباطل ، أو معيارا دقيقا لتمييز الحديث الصحيح من السقيم؟!

روايات التّحريف :

يستند القائلون بتحريف القرآن مرّة على روايات قد أسيء فهمها نتيجة عدم الوصول لما كانت ترمز إليه من معنى ، وأخرى على روايات ضعيفة السند ويمكن تقسيم روايات التحريف إلى ثلاثة أقسام :

1 ـ الرّوايات القائلة : إنّ عليّاعليه‌السلام شرع بجمع القرآن بعد وفاة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وعند ما تمّ جمعه عرضه على جمع من الصحابة ممن تربعوا في مقام الخلافة فلم يقبلوه منه ، فقال عليعليه‌السلام : إنّكم لن تروه بعد الآن أبدا.

وبنظرة فاحصة إلى تلك الرّوايات نصل إلى أن القرآن الذي كان عند علي

__________________

(1) حديث الثقلين من الأحاديث المتواترة ، رواه عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جمع من الصحابة مثل : أبو سعيد الخدري ، زيد بن أرقم ، زيد بن ثابت ، أبو هريرة ، حذيفة بن أسيد ، جابر بن عبد الله الأنصاري ، عبد الله حنطب ، عبد بن حميد ، جبير بن مطعم ، ضمّرة الأسلمي ، أبو ذر الغفاري ، أبو رافع ، أم سلمة وغيرهم.

٢٧

عليه‌السلام لا يختلف مع بقية النسخ من حيث المضمون ، سوى اختلافه من حيث العرض والترتيب في ثلاثة أمور :

الأوّل : أن آياته وسوره كانت مرتبة حسب تأريخ النّزول.

الثّاني : تثبيت سبب النّزول لكل آية وسورة.

الثّالث : تضمن تفسير النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للآيات بالإضافة إلى ذكر الناسخ والمنسوخ.

فالقرآن الذي جمعه أمير المؤمنينعليه‌السلام ليس إلّا عين القرآن الموجود سوى أنّه أضاف إليه : (التّفسير) و (التأويل) و (سبب النّزول) و (تبيان الناسخ والمنسوخ) وما شابه ذلك. وبعبارة أخرى ، وكان قرآنا مع تفسيره الأصيل.

كما أنّه ورد في كتاب سليم بن قيس : (إنّ أمير المؤمنينعليه‌السلام لما رأى غدر الصحابة وقلّة وفائهم لزم بيته ، وأقبل على القرآن ، فلما جمعه كله ، وكتابه بيده ، وتأويله الناسخ والمنسوخ ، بعث إليه أن أخرج فبايع ، فبعث إليه إني مشغول فقد آليت على نفسي لا أرتدي بردائي إلا لصلاة حتى أؤلف القرآن وأجمعه)(1) .

2 ـ الرّوايات المشيرة إلى «التحريف المعنوي» للقرآن.

إنّ التحريف ـ كما نعلم ـ على ثلاثة ضروب : لفظي ، معنوي ، وعملي.

فالتحريف اللفظي : هو تغيير ألفاظ وعبارات القرآن وحصول الزيادة والنقصان فيها. (وهذا ما نرفضه بشدة ـ وجميع محققي الإسلام ـ وننكره إنكارا قاطعا).

والتحريف المعنوي : هو تفسير الآية خلافا لمفهومها ومعناها الحقيقي.

أمّا التحريف العملي : فهو العمل على خلاف المقتضي.

ففي تفسير علي بن إبراهيم عن أبي ذررضي‌الله‌عنه أنّه قال : لما نزلت هذه الآية( يَوْمَ

__________________

(1) بحار الأنوار ، ج 92 ، ص 41.

٢٨

تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ ) قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ترد عليّ أمتي يوم القيامة على خمس رايات ، فراية مع عجل هذه الأمة ، فأسألهم : ما ذا فعلتم بالثقلين من بعدي؟ فيقولون : أمّا الأكبر فحرفناه ونبذناه وراء ظهورنا ...»(1) .

وواضح أن التحريف هنا يقصد به التحريف المعنوي للقرآن ونبذه وراء الظهور.

3 ـ الرّوايات المختلفة :

فقد سعى أعداء الدين والمنحرفون عن الصراط المستقيم ، وتبعهم الجهلة ، في اختلاق بعض الرّوايات للحطّ من شرف القرآن وقدسيته ، ومنها الرّوايات التي رواها أحمد بن محمّد بن السياري والبالغة (188) رواية(2) ، وقد استدل العلّامة الشّيخ النّوري بكثير من هذه الرّوايات في كتابه (فصل الخطاب).

والسياري هذا مطعون عند كثير من علماء (علم الرجال) ويقولون عليه كان : فاسد المذهب ، لا يعتمد عليه ، وضعيف الحديث.

وعلى قول بعضهم : إنّه من أهل الغلو ، منحرف ، معروف بالتقول بالتناسخ ، وكذاب ، ويقول عنه الكشي (صاحب كتاب الرجال المعروف) : إنّ الإمام الجوادعليه‌السلام وصف ادعاءات السياري في رسالته بأنّها باطلة.

مع أنّ روايات التحريف غير مقتصرة على السياري ، إلّا أنّ أكثرها وأهمها تعود إليه.

وبين هذه الرّوايات المزيفة ما تضحك الثكلى ، وينكرها كل ذي لب لبيب ، وعلى سبيل المثال ما جاء في إحداها بخصوص الآية الثّالثة من سورة النساء( وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ ) أنّه : قد سقط بين شرطها وجزاءها ثلث القرآن!!!

__________________

(1) تفسير البرهان ، ذيل الآية (106) من سورة آل عمران.

(2) أورد هذا الإحصاء مؤلف كتاب (البرهان المبين).

٢٩

وقد ذكرنا في تفسير الآية المذكورة ، أن الشرط والجزاء في الآية مرتبطان ارتباطا تاما ، ولم يسقط من بينهما ولو كلمة واحدة.

أضف إلى ذلك ، أن ثلث القرآن ما يعادل أربعة عشر جزء منه تقريبا ، فكيف يدعى هذا المدعى مع ما للقرآن من كتّاب وحي وحفاظ وقراء منذ عهد النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهل يعقل أن يحصل ذلك دون أن يلتفت إليه أحد؟!

وكأنّ هؤلاء لم يعيشوا ويعايشوا التاريخ بواقعيته وجلاءه ، ألم يثبت التأريخ بأنّ الشيء الأساسي في حياة المسلمين هو القرآن؟ أو لم يكن القرآن يتلى في آناء الليل وأطراف النهار في جميع البيوت والمساجد؟ إذن فكيف يحتمل إسقاط كلمة واحدة دون أن يلتفت إليه أحد ، فضلا عن كون السقط ثلث القرآن؟!

لا يسعنا إلّا أن نقول : إنّ كذبه بهذه المواصفات لدليل جلي على سذاجة واضعي مثل هذه الأحاديث.

وقد اعتمد الكثير من المتذرعين في إثبات تحريف القرآن على كتاب (فصل الخطاب) المشار إليه آنفا.

ولا بدّ من الإشارة إلى غرض وغاية هذا الكتاب من خلال ما كتبه تلميذ المؤلف العلّامة الشيخ آغا بزرگ الطهراني في الجزء الأوّل من كتاب (مستدرك الوسائل) ، حيث يذكر أنّه سمع من استاذه مرارا : إنّ ما في كتاب فصل الخطاب لا يمثل عقيدتي الشخصية ، إنّما ألفته للبحث والمناقشة ، وأشرت فيه إلى عقيدتي في عدم تحريف القرآن دون أن أصرح ، وكان من الأفضل أن أسميه (فصل الخطاب في عدم تحريف الكتاب).

ثمّ يقول المحدث الطهراني : هذا ما سمعناه من قول شيخنا نفسه ، وأمّا عمله فقد رأيناه يقيم وزنا لما ورد في مضامين الأخبار ، ويراها أخبار آحاد لا بدّ أن تضرب عرض الحائط ، ولا أحد يستطيع نسبة التحريف إلى أستاذنا إلّا من هو غير عارف بعقيدته ومرامه.

٣٠

وأخيرا فالأيادي المغلولة لا يسعها في هذا المجال إلّا أن تبذل كل جهودها للنيل من أصالة وعظمة وقدسية كتاب السماء عند المسلمين عن طريق بث الخرافات والأباطيل.

وطالعتنا الصحف من مدّة ليست بالبعيدة بأنّ أياد إسرائيلية صهيونية قامت بطبع نسخة جديدة للقرآن غيروا فيها كثيرا من الآيات القرآنية ، وكما هو معهود فقد انتبه علماء المسلمين بسرعة لهذه الدسيسة الخبيثة وجمعوا تلك النسخ ، فباءت محاولتهم بالفشل والخذلان.

وفات هؤلاء الأعداء من أصحاب القلوب الداكنة ، أن نقطة واحدة لو غيّرت في القرآن فسيعيدها إلى نصابها المفسّرون والحفاظ وقراء هذا الكتاب العظيم( يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللهِ بِأَفْواهِهِمْ وَيَأْبَى اللهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ ) (1) .

* * *

__________________

(1) التوبة ، 32.

٣١

الآيات

( وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ (10) وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (11) كَذلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (12) لا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ (13) وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (14) لَقالُوا إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ (15) )

التّفسير

العناد والتعصب :

تواسي الآيات قلب النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقلوب المؤمنين لما كانوا يواجهونه من صعاب في طريق دعوتهم ، من خلال الإشارة إلى صراع الأنبياء السابقين مع أقوامهم الضالة والمتعصبة.

فتقول أوّلا :( وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ ) .

ولكنّهم من العناد والتعصب لدرجة( وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ ) .

ذلك الاستهزاء وتلك السخرية لاعتبارات عدّة :

٣٢

ـ مرة ، يريدون بالسخرية إسقاط شخصية النّبي كي لا يؤثر في أوساط الفئة الواعية.

ـ وأخرى ، يحاولون بالاستهزاء تغطية ضعفهم وعجزهم أمام المنطق القوي والحجج الدامغة لرسل اللهعزوجل .

ـ وتارة ، يأخذهم الاستغراب لدعوات الأنبياء الثورية ضد طريقة حياتهم الموبوءة وتقاليدهم البالية ، ولما كانوا مكيفين لها ومسترخين بين أجوائها ، فيدفعهم جهلهم وتعصبهم الأعمى لما هو سائد ، لأنّ يستهزءوا.

ـ وأخرى ، محاولة تخدير وجدانهم السارح في المتاهات كي لا يصحوا على حين غرّة فيعتنق الحق وينهض بأعباء مسئوليته.

ـ وقد يكون الاستهزاء بسبب خطل مقياسهم ومعيارهم للقدوة والقائد فما تعارفوا عليه في مواصفات الزعيم أو القائد ، أن يكون من الطبقة الثرية المرفهة ، وقيمة الإنسان عندهم من خلال : لباسه الأنيق ، مركبة الفاره ، بيته الفخم ، وحياته المحفوفة بالزخارف وإذا نهض بدعوة الحق إنسان فقير لا يمتلك من حطام الدنيا شيئا ، فسيكون موضع سخريتهم!

ـ وأخيرا ، فقبولهم لدعوة الأنبياءعليهم‌السلام ـ حسب تصورهم ـ يستلزم تقويضا لكل شهواتهم الدنيوية ، وتحميلهم وظائف جديدة لا يطيقونها ، فليجؤون للاستهزاء لتبرير إعراضهم وانكارهم وإراحة ضمائرهم.

ثمّ يقول جلّ وعلا :( كَذلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ ) أي نوصل الآيات القرآنية الى اعماق وجدانهم وعقولهم.

ومع وضوح البلاغ والتأكيد وبيان المنطق الرباني وإظهار المعجزات ، ترى المتعصبين المستهزئين( لا يُؤْمِنُونَ بِهِ ) وهو ليس بجديد( وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ ) .

ويصل أمر الغارقين في شهواتهم والمصرين في عنادهم على الباطل إلى أنّهم

٣٣

لا يؤمنون حتى( وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ ) ومع ذلك( لَقالُوا إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ ) .

عجبا ، أن يصل الإنسان لهذا الدرك من العناد والتعصب!

إن الذنوب والجهل ومعاداة الحق تؤثر على الروح الطاهرة والفطرة السليمة ، فتحجبهما عن رؤية وجه الحقيقة الناصع ، وتمنعهما من إدراك الحقائق ، وإذا لم يتمكن الإنسان من رفع تلك الحجب وإزالة الموانع ، فإنّ صورة الحق ستتلوّث في نظره فينكر كل ما هو معقول ومحسوس معا ، ومن الممكن تطهير الفطرة في المراحل الأولى ، ولكن إذا رسخت في قلبه هذه الحالة وتجذرت وأمست «ملكة» وصفة أخلاقية ، فلا يمكن إزالتها بسهولة ، وعندها سوف لا تترك أقوى الأدلة العقلية ولا أوضح الأدلة الحسية أي تأثير في قلبه.

* * *

ملاحظات

1 ـ (شيع) جمع (شيعة) ، ويطلق على المجموعة والفرقة التي تمتلك نهجا مشتركا.

يقول الراغب الأصفهاني في كتاب (المفردات) ـ باب شيع : الشياع الانتشار والتقوية ، يقال شاع الخبر أي كثر وقوى ، وشاع القوم انتشروا وكثروا ، وشيعت النّار بالحطب قويتها ، والشيعة : من يتقوى بهم الإنسان.

أمّا العلّامة الطبرسي في (مجمع البيان) فيعتبر أنّ أصلها من المشايعة ، وهي المتابعة، يقال شايع فلان فلانا على أمره أي تابعه عليه ، ومنه شيعة عليعليه‌السلام وهم الذين تابعوهعلى أمره ودانوا بإمامته ، وفي حديث أم سلمة عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «شيعة علي هم الفائزون يوم القيامة» إشارة لهذا المعنى.

وعلي أية حال فالشياع بمعنى الانتشار والتقوية ، أو المشايعة بمعنى

٣٤

المتابعة ، كلاهما دليل على وجود نوع من الاتحاد والارتباط الفكري والديني في مفهوم (الشيعة) و (التشيع).

وإطلاق لفظ (شيع) على الأقوام السابقة يدل على أنّهم في قبال دعوة الأنبياءعليهم‌السلام كانوا متحدين في توجههم ومتآزرين متعاضدين في عملهم.

فإن كان لأهل الضلال هذا الاتحاد والتنسيق أفلا ينبغي لأتباع الحق أن يسيروا على نور هدية متكاتفين ومتآزرين؟

2 ـ مرجع الضمير في «نسلكه» :

من لطف الباري جلّ شأنه أن يوصل ويفهم آياته للمجرمين والمخالفين بطرق شتى ، عسى أن تستقر في قلوبهم ، ولكنّ عدم صلاحية ولياقة المحل يكون سببا لخروجها من تلك الأجواف النتنة ، فتبقى قلوبا غير متأثرة ، شبيها بمرور الغذاء النافع في معدة مريضة فلا تتقبله وتقذفه إلى الخارج. (ويستفاد هذا المعنى من (السلوك) المادة الأصلية لعبارة «نسلكه»).

وعلى هذا الأساس فضمير «نسلكه» يعود إلى «الذكر» أي القرآن كما ورد في الآيات المتقدمة ، وكذلك حال الضمير في( لا يُؤْمِنُونَ بِهِ ) يعود إليه أيضا ، أي : إنّهم مع كل ذلك لا يؤمنون بالذكر.

فنلحظ التوافق التام بين الضميرين بالضبط كما جاء في سورة الشعراء في الآيتين 200 و 201.

وذهب بعض المفسّرين إلى أن ضمير «نسلكه» يعود إلى الاستهزاء المذكور في الآية المتقدمة لها ، فيكون المعنى : إنّا ندخل الاستهزاء والسخرية في قلوبهم نتيجة لذنوبهم وعنادهم.

ويكفينا لتضعيف هذا التّفسير أن نقول : إنّه يذهب بالتناسق بين الضميرين.

ونستفيد كذلك من عبارة «نسلكه» أنّ على المبلغ والمرشد أن لا يكتفي في أداء وظيفته بإيصال صوته الى أسماع الناس ، بل عليه أن يطرق كل الآفاق حتى

٣٥

يوصل صوت الحق إلى القلوب ليقرّ فيها.

وبعبارة أخرى ، ينبغي الاستفادة من جميع الوسائل السمعية والبصرية ، البرامج العملية ، الأدب ـ شعرا وقصة ـ والفن الأصيل الهادف. لتكون كلمة الحق واضحة لذوي القلوب الواعية ، والحجة تامة على من ظلم وعاند.

3 ـ سنّة الأولين :

تفيدنا الآية الآنفة الذكر بأنّ أساليب أهل الضلال الرامية لتخدير الناس ومحاولة تفريقهم وإبعادهم عن أولياء الله لا تختص بزمان ومكان معينين ، بل هي ممارسة موجودة منذ القدم وباقية ما بقي صراع الحق ضد الباطل على الأرض ولهذا لا ينبغي أن نستوحش من ذلك ونتراجع امام المشاكل والعراقيل التي يدبرها الأعداء.

ولا نسمح لليأس من أن يدخل قلوبنا ، ولا لأساليب الأعداء من أن تفقدنا الثّقة بالنفس فذكر سنن الأولين في القرآن ما هي إلّا مواساة وتسلية مؤثرة لقلوب دعاة الإيمان.

وإذا ما تصورنا يوما أن نشر دعوة الحق ورفع راية العدل والهداية لا يواجهان برد فعل الأعداء ، فإنّنا في خطأ كبير ، وأقل ما فيه أننا سنصاب بحالة اليأس المهلكة ، وما علينا إلّا أن نستوعب مسير خط الأنبياءعليهم‌السلام في مواجهاتهم لأعداء الله ، وأن نجسد ذلك الإستيعاب في سلوكنا ، بل وعلينا أن نزداد في كل يوم عمقا في دعوتنا.

4 ـ تفسير( فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ ) :

يظهر هذا المقطع القرآني ـ بوضوح ـ تصويرا لحال المعاندين ، فلو أنّ بابا من السماء فتحت لهم وظلوا يصعدون وينزلون من خلاله ، لقالوا : سحرت عيوننا وحجبت عن رؤية الواقع! (يبدو أنّ المراد من السماء هنا : الفضاء الخارجي الذي لا يمكن النفوذ منه بسهولة).

علما بأنّ كلمة «ظلوا» تستعمل لاستمرار العمل في النهار وتقابلها كلمة

٣٦

(باتوا) من البيتوتة اللّيل.

ويميل إلى هذا المعنى غالب المفسّرين ولكن العجيب أن بعض المفسّرين احتملوا عودة ضمير «ظلّوا» إلى الملائكة ، فيكون المعنى : أنّهم لو رأوا الملائكة تصعد وتنزل من السماء بأمّ أعينهم لما آمنوا أيضا.

ولكن إضافة لعدم انسجام هذا الاحتمال مع تسلسل الآيات السابقة واللاحقة التي تتحدث عن المشركين ، أن ذكر الملائكة إنّما ورد قبل ست آيات (فعودة الضمير إلى الملائكة بعيد جدّا) فإنّ هذا المعنى يقلل من بلاغة العبارة القرآنية ، لأنّ القرآن يريد أن يقول أنّ المشركين لا يستسلمون للحق حتى لو صعدوا وهبطوا من السماء مرارا في ساعات النهار.

5 ـ معنى عبارة( سُكِّرَتْ أَبْصارُنا ) .

جمله «سكّرت» من مادة (سكر) أي : التغطية.

ويراد بها : أنّ الكافرين المعاندين يقولون : قد غطيت عيوننا عن رؤية الواقعيات ، وإذا رأينا أنفسنا نصعد إلى السماء وننزل إلى الأرض سنحكم على ذلك بأنّه وهم وخيال ، كما في ما يسمّى بالشعوذة التي يستفيد صاحبها من خفة حركة يده فيخدع أنظار الحاضرين بها.

ويضيفون القول :( بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ ) ، فبالرغم من أنّ الشعوذة هي لون من ألوان السحر ، لكنّهم ربما يشيرون إلى ما هو أشد من الشعوذة التي تختص بخداع البصر فقط ، ألا وهو السحر الكامل الذي يغطي على كل وجود الإنسان ويفقد معه الإحساس بكل ما هو واقع!

فلو أغلقنا عين انسان ما فإنّه لا يفقد الشعور فيما لو أنّه يصعّد به إلى الأعلى أو ينزّل إلى الأسفل.

فمعنى الآية : لو أخذنا المشركين إلى أقطار السماوات لقالوا أوّلا : إنّنا أصبنا بالشعوذة ، وبعد أن يجدوا أنّ هذه العملية لا تتوقف على العين فقط فسيقولون حينها : إنّنا مسحورون!

* * *

٣٧

الآيات

( وَلَقَدْ جَعَلْنا فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَزَيَّنَّاها لِلنَّاظِرِينَ (16) وَحَفِظْناها مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ (17) إِلاَّ مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ مُبِينٌ (18) )

التّفسير

تشير الآيات إلى جانب من عالم المخلوقات للدلالة على معرفة توحيد الله ، وبسياقها جاءت تكملة لبحثي القرآن والنّبوة المذكورين في الآيات السابقة.

قوله تعالى :( وَلَقَدْ جَعَلْنا فِي السَّماءِ بُرُوجاً ) .

«البروج» : جمع «برج» ويعني «الظهور» ، ولهذا يطلق على البيت الذي يبنى في سور المدينة أو على سور الحصن الذي يعتصم به المقاتلون ، وذلك لما له من بروز وارتفاع خاص. ويقال كذلك (تبرجت) للمرأة التي تظهر زينتها.

والبروج السماوية : هي منازل الشمس والقمر. وبعبارة أقرب إلى الذهن : لو نظرنا إلى الشمس والقمر بإمعان فسنراها في كل فصل من فصول السنة ولفترة زمنية معينة يقابلان أحد الصور الفلكية (الصور الفلكية : مجموعة نجوم على هيئة خاصة) فنقول : إنّ الشمس في برج الحمل(1) ـ مثلا ـ أو الثور أو الميزان أو العقرب

__________________

(1) الحمل : مجموع شمسية تظهر في السماء على هيئة الحمل تقريبا. وكذلك الثور والميزان وغيرها.

٣٨

أو القوس.

ويعتبر وجود الأبراج السماوية ، وكذلك النظام الدقيق في حركة منازل الشمس والقمر ضمن هذه البروج (وهو التقويم المجسّم لعالم وجودنا) ، يعتبر من الأدلة الواضحة على علم وقدرة الخالق جل وعلا.

إنّ هذا النظام العجيب بما يحمل من دقة في حساب تشكيله يكشف لنا وجود هدف لخلق هذا العالم ، وكلما أمعنا النظر في خلق الله ازددنا مقربة من معرفة الخالق الجليل.

ثمّ يضيف :( زَيَّنَّاها لِلنَّاظِرِينَ ) (1) .

انظروا لإحدى الليالي المظلمة ذات النجوم الكثيرة فسترون مجموعات نجمية ائتلفت فيما بينها في كل زاوية من زوايا السماء ، وكأنّها حلقات تنظيمية تتجاذب أطراف الحديث ، وترى تلك كأنّها ترمقنا شابحة ، وأخرى تغمزنا باستمرار وكأنّها تدعونا إليها ، ويخال من بعضها وكأنّها تقترب منّا لشدة تلألئها ، وتلك التي تنادينا بخافت ضوئها وينطق لسان حالها من أعماق السماء وجوفها المتباعد إنّني هنا!

هذه اللوحة الشاعرية الرائعة ربّما ألفها البعض على أنّها عادية نتيجة لتكرار المشاهدة ، ومع ذلك فلها جذب خاص وهي جديرة بالتأمل.

وحينما يبزغ القمر (وبأشكاله المختلفة) وسط تلك المجاميع ، يضيف إلى سحرها وجمالها رونقا جديدا.

وتراها خجلة ، لا تقوى على أن ترفع رأسها إلّا بعد غروب الشمس ، فتتلألأ الواحدة تلو الأخرى ، كأنّهن يخرجن على استحياء من خلف ستار وما إن يحل الطلوع حتى نراها تفر فرارا لتختفي.

__________________

(1) ضمير «زيناها» يعود إلى «السماء» لأنّها مؤنث مجازي.

٣٩

ومضافا الى ذلك فإنّ لها من الجمالية العلمية والأسرار المخفية ما لا يصدق ، ويكفيك لجماليتها أنّها جعلت أنظار العلماء تشخص إليها منذ آلاف السنين حتى زماننا الذي ما توصل العلماء إلى صناعة المرقبات (التلسكوبات) ، إلّا للوصول لاكتشاف أسرار جديدة عن هذا العالم الدائب الملتهب رغم صمته.

ويضيف في الآية التالية :( وَحَفِظْناها مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ مُبِينٌ ) .

الآية المذكورة ، من الآيات التي أشبعت شرحا وتفسيرا من قبل المفسّرين ، وكلّ منهم قد نحى منحى خاصا في فهم معناها.

وقد ورد ذات المضمون في سورة الصافات (الآيتان 6 و 7) وكذلك في سورة الجن الآية (9).

وربّما ارتسمت في أذهان البعض أسئلة لم يسعفوا بالإجابة عنها ، فكان لزاما علينا في بادئ الأمر أن نلقي نظرة إلى آراء كبار المفسّرين فيما يخص الموضوع الذي نحن بصدده ، ومن ثمّ نعرج إلى ما نراه راجحا من هذه الآراء :

1 ـ بعض المفسّرين ومنهم صاحب تفسير (في ظلال القرآن) قد اكتفوا بالتّفسير الإجمالي ولم يغوصوا إلى كثير من التفاصيل ، ولم يعيروا أهمية لكثير من المسائل على اعتبار أنّها حقائق فوق البشر ولا يمكننا إدراكها ، وما علينا إلّا أن نهتم بالآيات التي ترتب الآثار على حياتنا العملية وتنظم لنا السلوك والتوجه الى الحق.

فكتب يقول : وما الشيطان؟ وكيف يحاول استراق السمع؟ وأي شيء يسترق؟

كل هذا غيب من غيب الله لا سبيل لنا إليه إلّا من خلال النصوص ، ولا جدوى في الخوض فيه ، لأنّه لا يزيد شيئا في العقيدة ولا يثمر إلّا انشغال العقل البشري بما ليس من اختصاصه ، وبما يعطله عن عمله الحقيقي في هذه الحياة ، ثمّ

٤٠