الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٨

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل8%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 496

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 496 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 231553 / تحميل: 7125
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٨

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

المراوغة المحسوبة لحفظ الطاقات الإنسانية وعدم التفريط بالأفراد المؤمنين مقابل موضوعات صغيرة وقليلة الأهمية.

وممّا تعارف عليه عند كل الشعوب أن تلجأ الأقليات المجاهدة والمحاربة إلى أسلوب العمل السرّي غالبا ، وذلك لحفظ حياة الأفراد وتهيئة الظروف لإكثارهم ، فتشكّل مجموعات سرّية وتضع لأنفسها برامجا غير معلنة على غيرهم ، حتى أنّ البعض من أفرادهم يحاول أن يتنكر حتى في زيه ، وإذا ما تمّ اعتقالهم من قبل السلطة المعادية لمبادئهم فيحاولون جهد الإمكان إخفاء حقيقة أمرهم كي لا تخسر المجموعة كل طاقاتها ، ولتكون قادرة على مواصلة الطريق بالبقية المتبقية منهم.

والعقل لا يجيز في ظروف كهذه أن تعلن المجموعة المجاهدة قليلة العدد عن نفسها ، لكي لا يعرفها العدو بسهولة وهو القادر على القضاء عليها بما يملك من بطش وتسلط.

فالتقية قبل أن تكون برنامجا إسلاميا هي أسلوب عقلاني ومنطقي ، ينفذه ويعمل به من يعيش صراعا مع عدو قوّي متمكن منه.

ولذا فقد ورد تعبير (الترس) عن التقية في الأحاديث الشريفة ، فعن الإمام الصادقعليه‌السلام أنّه قال : «التقية ترس المؤمن ، والتقية حرز المؤمن»(١) .

(لاحظوا أنّ التقية هنا شبّهت بالترس ، والترس إنّما يستعمل في ميادين الحرب والقتال مع الأعداء لحفظ القوى الثائرة.

وإذا رأينا أنّ الأحاديث الشريفة تعتبر التقية علامة للدين والإيمان وتقدرها بتسعة أعشار الدين ، فإنّما هو للسبب المذكور.

والمجال ـ في هذا الكتاب ـ لا يسع للخوض في تفصيل موضوع التقية ، وكل

__________________

(١) وسائل الشيعة ، ج ١١ ، الحديث (٦) من الباب (٢٤) من أبواب الأمر بالمعروف.

٣٤١

ما أردنا هو أنّ من يستنكر التقية ويذمها إنّما هو جاهل بشروطها وفلسفتها.

وثمة حالات تحرم فيها التقية ، حينما يكون حفظ النفس فيها سببا لزوال الدين نفسه، أو قد تؤدي التقية لحدوث فساد عظيم ، فيجب والحال هذه كسر طوق التقية واستقبال كل خطر يترتب على ذلك(١) .

٢ ـ المرتد الفطري والملي و.. المخدوعين :

لا يواجه الإسلام الذين لا يعتنقون الإسلام من (أهل الكتاب) بالشدّة والقسوة وإنّما يدعوهم باستمرار ويتحدث معهم بالمنطق السليم ، فإذا لم يقتنعوا وراموا البقاء على ديانتهم فيعطون الأمان والتعهد بحفظ أموالهم وأرواحهم ومصالحهم المشروعة بعد أن يعلنوا قبول شرط أهل الذمة في عهدهم مع المسلمين.

أمّا الذين يقبلون الإسلام ومن ثمّ يرتدون عنه فيواجهون بشدّة وعنف ، لأنّ عملا كهذا يؤدي إلى أضرار فادحة تصيب المجتمع الإسلامي ، وهو بمثابة نوع من الحرب ضد الحكومة الإسلامية ، وغالبا ما يصدر مثل هذا العمل مستبطنا النية السيئة بإيصال أسرار المجتمع الإسلامي (ونقاط القوة والضعف) ليد الأعداء المتربصين للمسلمين الدوائر.

فلهذا ، من انعقدت نطفته وكان أبواه مسلمين عند انعقاد النطفة (مسلم الولادة) ثمّ تثبت المحكمة الإسلامية بأنّه قد ارتد عن الإسلام يباح دمه ، تقسّم أمواله على ورثته ، تبيّن عنه زوجته ، وظاهرا لا تقبل توبته ، أي أنّ هذه الأحكام الثلاثة تجري في حقه على كل حال ، ولكن إذا ندم وتاب صادقا ، فإنّ توبته ستقبل عند الله تعالى (وتوبة المرأة تقبل على الإطلاق).

__________________

(١) لأجل المزيد من الإيضاح في مسألة التقية وأحكامها وفلسفتها وأدلتها ، راجعوا كتابنا (القواعد الفقهية) ، الجزء الثالث.

٣٤٢

وإذا ارتدّ إنسان ما عن الإسلام ولم يكن مسلما بالولادة ، يتعيّن عليه التوبة ، فإن تاب قبلت توبته وينجو من العقاب.

وقد ينظر للحكم السياسي الصادر بحقّ المرتدّ الفطري على أنّ فيه نوعا من الخشونة والقسوة وفرضا للعقيدة وسلبا لحرية الفكر ، ولكنّ حقيقة هذه الأحكام تختص بمن يظهر عقائده المخالفة أو يدعو لها ولا تطال من يعتقد باعتقادات مخالفة ولكنّه لم يظهرها للناس ، لأنّ الدعوة للعقائد المخالفة تمثل في واقعها حربا للنظام الاجتماعي الموجود ، وعليه فلا تكون الخشونة والحال هذه عبثا ، ولا تتنافى وحرية الفكر والإعتقاد ، وكما قلنا فإنّ شبيه هذا القانون موجود في كثر من دول الغرب والشرق مع بعض الاختلافات.

وينبغي الالتفات إلى أنّ قبول الإسلام يجب أن يكون طبقا للمنطق ، والذي يولد من أبوين مسلمين وينشأ بين أحضان بيئة إسلامية ، فمن البعيد عدم إدراكه محتوى الإسلام ، ولهذا يكون ارتداده وعدوله عن الإسلام أشبه بالخيانة منه من عدم إدراك الحقيقة ، ولذلك فهو يستحق ما خطّ في حقه من عقاب.

على أنّ الأحكام عادة لا تخصص لشخص أو شخصين وإنّما يلحظ فيها المجموع العام(١) .

* * *

__________________

(١) اختلف المفسّرون بخصوص جملة «من كفر بالله ...» ، فاعتبرها بعضهم : شرحا وتوضيحا للجملة السابقة لها وأنّها بدل لعبارة «الذين لا يؤمنون بآيات الله» ، فيما اعتبرها آخرون : بدلا لكلمة «كاذبون» ، وقال بعضهم : أنّها مبتدأ محذوف الخبر ويقدروها بـ «من كفر بالله من بعد إيمانه فعليهم غضب من الله ولهم عذاب أليم» ، فجزاء الشرط محذوف لدلالة الجملة التالية على ذلك.

وثمّة احتمال رابع (ويبدو أفضل الاحتمالات) وهو : أنّها مبتدأ ، وخبرها في نفس الآية وغير محذوف ، أمّا عبارة «لكن من شرح للكفر صدرا» فهي توضيح جديد للمبتدأ لوقوع جملة استثنائية بينها وبين خبرها ، وهذا النوع من التعبير كثير الاستعمال حتى في غير اللغة العربية ـ فتأمل.

٣٤٣

الآيات

( وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللهِ فَأَذاقَهَا اللهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ (١١٢) وَلَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ وَهُمْ ظالِمُونَ (١١٣) فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ حَلالاً طَيِّباً وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (١١٤) )

التّفسير

الذين كفروا فأصابهم العذاب

قلنا مرارا : إنّ هذه السورة هي سورة النعم ، النعم المادية والمعنوية وعلى كافة الأصعدة، وقد مرّ ذكر في آيات متعددة من هذه السورة المباركة.

وتصور لنا الآيات أعلاه عاقبة الكفر بالنعم الإلهية على شكل مثل واقعي.

ويبتدأ التصوير القرآني بضرب مثل لمن لم يشكر نعمة الله عليه :( ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً ) لا تضطر إلى هجرة إجبارية ، بل تعيش في أمن وأمان

٣٤٤

(مطمئنة) ومضافا الى ذلك( يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ ) .

ولكنّ حالها قد تبدّل في النهاية( فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللهِ فَأَذاقَهَا اللهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ ) .

وإضافة لاستكمال نعم الله المادية عليهم ، فقد أضاف لهم من النعم المعنوية ما يستقر به حالهم في الدنيا ، ويدام لهم ذلك في الآخرة ، فبعث بين ظهرانيهم رسل وأنبياء وأرسلت إليهم التعاليم السماوية( وَلَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ ) .

فكانت النتيجة أن :( فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ وَهُمْ ظالِمُونَ ) .

وإنّكم حين تطلعون على هذه النماذج الواقعية من الأمم السابقة ، فاعتبروا بها ولا تنهجوا طريق أولئك الغافلين الظالمين من الكافرين بأنعم الله( فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ حَلالاً طَيِّباً وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ ) .

* * *

بحوث

١ ـ أهو مثال أم حدث تاريخي؟

لقد عبّرت الآيات أعلاه عند حديثها عن تلك المنطقة العامرّة بكثرة النعم ، والتي أصاب أهلها بلاء الجوع والخوف نتيجة كفرهم بأنعم الله ، عبّرت عن ذلك بكلمة «مثلا» وبذات الوقت فإنّ الآية استخدمت الأفعال بصيغة الماضي ، ممّا يشير إلى وقوع ما حدث فعلا في زمن ماض ، وهنا حصل اختلاف بين المفسّرين في الهدف من البيان القرآني ، فقسم قد احتمل أنّ الهدف هو ضرب مثال عام ، وذهب القسم الثّاني إلى أنّه لبيان واقعة تأريخية معيّنة.

وتطرّق مؤيد والاحتمال الثّاني إلى تحديد المنطقة التي حدثت فيها هذه الواقعة. فذهب بعضهم أنّها أرض مكّة ، ولعل( يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ ) تدعو إلى تقوية هذا الاحتمال ، لأنّه دليل على أنّ هذه المنطقة مجدبة ، وما تحتاج

٣٤٥

إليه يأتيها من خارجها ، وما جاء في الآية (٥٧) من سورة القصص( يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ ) يعضد هذا المعنى ، خصوصا وأنّ المفسّرين قد قطعوا بأنّها إشارة إلى مكّة المكرمة.

ويردّ هذا الزعم بعدم معرفة حادثة كهذه في تأريخ مكّة على ما للحادثة من وضوح ، فغير معروف عن مكّة أنّها عاشت أيّاما رغيدة ومن ثمّ جاءها القحط والجوع!

وقال بعض آخر : حدثت هذه القصّة لجمع من بني إسرائيل في منطقة ما ، وأنّهم ابتلوا بالقحط والخوف على أثر كفرانهم بنعم الله.

وما يؤيد ذلك ما روي عن الإمام الصادقعليه‌السلام أنّه قال : «إنّ قوما في بني إسرائيل تؤتى لهم من طعامهم حتى جعلوا منه تماثيل بمدن كانت في بلادهم يستنجون بها فلم يزل الله بهم حتى اضطرّوا إلى التماثيل يبيعونها ويأكلونها وهو قول الله»( ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً ) (١) .

ورويت روايات أخرى قريبة من هذا المضمون عن الإمام الصادقعليه‌السلام وتفسير علي بن إبراهيم ممّا لا يمكن الاعتماد الكامل على أسانيدها ، وإلّا لكانت المسألة واضحة(٢) .

وثمّة احتمال آخر وهو أنّ الآية تشير إلى قوم «سبأ» الذين عاشوا في اليمن ، وقد ذكر القرآن الكريم قصتهم في الآيات (١٥ ـ ١٩) من سورة سبأ ، وكيف أنّهم كانوا يعيشون على أرض ملؤها الثمار والخيرات في أمن وسلام ، حتى أصابهم الغرور والطغيان والاستكبار وكفران النعم الإلهية ، فأهلكهم الله وشتّت جمعهم وجعلهم عبرة للآخرين.

وجملة( يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ ) ليست دليلا قاطعا على أنّها لم

__________________

(١) تفسير نور الثقلين ، ج ٣ ، ص ٩١ (لا حظ بأن الرّواية عن تفسير العياشي ، وأحاديثه مرسلة).

(٢) المصدر السابق.

٣٤٦

تكن عامرّة بذاتها ، لأنّه من الممكن أن يقصد بـ «كل مكان» أطرافها وضواحيها ، وكما هو معروف فإنّ المحاصيل الزراعية لإقليم كبير تنتقل إلى المدينة أو القرية المركزية في تلك المنطقة.

وينبغي التذكير مرّة أخرى بعدم وجود المانع من شمولة إشارة الآية إلى كل ما ذكر من احتمالات.

وعلى أيّة حال ، فليس ثمّة مشكلة مهمّة في تفسير هذه الآية وذلك لكثرة المناطق التي أصابها مثل هذه العاقبة عبر التاريخ.

وإذا كان عدم الاطمئنان الكافي في تعيين محل المنطقة قد دفع بعض المفسّرين إلى اعتبار الموضوع مثالا عامّا مجرّدا وليس منطقة معينة ، فظاهر الآيات مورد البحث لا يناسب ذلك التّفسير ، بل يشير إلى وجود منطقة معينة وحادثة تأريخية.

٢ ـ الرابطة ما بين الأمن والرّزق الكثير

ذكرت الآيات ثلاث خصائص لهذه المنطقة العامرّة المباركة :

الخاصية الأولى : الأمن.

الخاصية الثّانية : الاطمئنان في إدامة الحياة.

الخاصية الثّالثة : جلب الأرزاق والمواد الغذائية الكثيرة إليها.

وترتبط هذه الخواص فيما بينها ترابطا علّيا وحسب تسلسلها ، فكل خاصية ترتبط بما قبلها ارتباط علة ومعلول ، فلو فقد الأمن لما اطمأن الإنسان على إدامة حياته في مكانه المعيّن ، وإذا فقد الاثنان فلا رغبة حقيقية لأحد على الإنتاج وتحسين الوضع الاقتصادي هناك.

فالآية تقدم درسا عمليا لمن يرغب في بلاد عامرّة وحرّة ومستقلة ، فقبل كل شيء لا بدّ من توفير حالة الأمن ، ومن ثمّ بعث الاطمئنان في قلوب الناس

٣٤٧

بخصوص مستقبل وجودهم في تلك المنطقة ، ومن بعد ذلك يأتي دور تحريك عجلة الإقتصاد.

فبهذه النعم المادية الثلاثة تصل المجتمعات إلى درجة تكامل حياتها المادية فقط، ووصولا للحياة المتكاملة من كافة الجوانب (ماديا ومعنويا) تحتاج المجتمعات إلى نعمة الإيمان والتوحيد ، ولهذا فقد جاء بعد ذكر هذه النعم :( وَلَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ ) .

٣ ـ لباس الجوع والخوف

ذكرت الآيات في بيان عاقبة الكافرين بنعم الله ، قائلة :( فَأَذاقَهَا اللهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ ) فمن جهة : شبّهت الجوع والخوف باللباس ، ومن جهة أخرى : عبّرت بـ «أذاقها» بدلا من (ألبسها).

وحمل هذا التفاوت في التعبير المفسّرين إلى التوقف والتأمل في الآية

فالتعبير يحمل بين طياته إشارة لطيفة ، فمثلا :

قال ابن الراوندي لابن الأعرابي الأديب : هل يذاق اللباس؟

قال ابن الأعرابي : لا بأس ولا لباس يا أيّها النسناس ، هب أنّك تشكّ أنّ محمّدا ما كان نبيّا أمّا كان عربيا!!(١) .

وعلى أيّة حال ، فالتعبير إشارة إلى أن القحط والخوف كانا من الشدة وكأنّهما لباس قد أحاط بأبدانهم من كل الجهات ، وأبدانهم في تماس معه ، ومن جهة أخرى فقد وصلت حالة لمسهم للخوف والقحط كأنّهم يتذوقونه بألسنتهم.

وهو تعبير عن أشدّ حالات الخوف ومنتهى حالات الفقر والذي يمكن أنّ يصيب جميع وجود الإنسان.

__________________

(١) تفسير الفخر الرازي ، ج ٢٠ ، ص ١٢٨.

٣٤٨

فكما أنّ نعمة الأمن والرفاة قد غطّت كامل وجودهم في البداية ، فها هم وقد حال بهم الأمر لأن يحل الفقر والخوف محلّها في آخر مطافهم نتيجة لكفرانهم بنعم الله سبحانه.

٤ ـ أثر كفران النعمة في تضييع المواهب الإلهية

رأينا في الرّواية المتقدمة كيف راح أولئك المرفهون بتطهير أجسادهم بواسطة المواد الغذائية بعد أن تسلطت عليهم الغفلة وساورهم الغرور ، حتى ابتلاهم الله بالقحط والخوف.

وعرض الحادثة ما هو إلّا تنبيه للناس ولكل الأمم الغارقة بالنعم الإلهية ، على أنّ الإسراف والتبذير وتضييع النعم لا ينجو من عقوبة وغرامة ثقيلة الوقع.

وهو تنبيه أيضا للذين يرمون نصف غذائهم (الزائد عن الحاجة) في أكياس الأوساخ دائما.

وهو تنبيه كذلك لأولئك الذين يهيئون غذاء يكفي لعشرين شخصا ، وليس لهم من الضيوف إلّا أربعة ، ولا يصل الزائد منه إلى بطون الجياع من الناس.

وهو تنبيه للذين يجمعون المواد الغذائية في بيوتهم لاستعمالهم الخاص ، ويملؤون مخازنهم انتظارا لارتفاع سعرها في الأسواق حتى يفسد ويذهب هباء من غير أن يستفيدوا من بيعها بسعر مناسب قبل فسادها.

نعم ، فلا يخلو أيّ عمل ممّا ذكر من عقوبة إلهية ، وأقل ما يعاقبون به هو سلب تلك النعم عنهم.

وتتّضح أهمية المسألة إذا علمنا أنّ المواد الغذائية على سطح الكرة الأرضية محددة بنسبة ، فأيّ إفراط في أيّ نوع من المواد يؤدي إلى حرمان نسبة من البشر من تلك المواد.

ولذلك جاء التأكيد الشديد حول هذه المسألة في الأحاديث الشريفة ، حتى

٣٤٩

روي عن الإمام الصادقعليه‌السلام قوله : «كان أبي يكره أن يمسح يده في المنديل وفيه شيء من الطعام تعظيما له ، إلّا أن يمصها ، أو يكون إلى جانبه صبي فيمصها ، قال : فإنّي أجد اليسير يقع من الخوان فأتفقده فيضحك الخادم ، ثمّ قال : إنّ أهل قرية ممن كان قبلكم كان الله قد وسّع عليهم حتى طغوا ، فقال بعضهم لبعض : لو عمدنا إلى شيء من هذا النقي فجعلناه نستنجي به كان ألين علينا من الحجارة ، قالعليه‌السلام : فلما فعلوا ذلك بعث الله على أرضهم دوابا أصغر من الجراد فلم تدع لهم شيئا خلقه الله إلّا أكلته من شجر أو غيره، فبلغ بهم الجهد إلى أنّ أقبلوا على الذي كانوا يستنجون به ، فأكلوه ، وهي القرية التي قال الله تعالى :( ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً ) إلى قوله :( بِما كانُوا يَصْنَعُونَ ) (١) .

* * *

__________________

(١) تفسير نور الثقلين ، ج ٣ ، ص ٩١ و ٩٢.

٣٥٠

الآيات

( إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١١٥) وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ (١١٦) مَتاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١١٧) وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا ما قَصَصْنا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (١١٨) ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١١٩) )

التّفسير

لا يفلح الكاذبون :

بعد أن تحدثت الآيات السابقة عن النعم الإلهية ومسألة شكر النعمة ، تأتي الآيات أعلاه لتتحدث عن آخر حلقات الموضوع وتطرح مسألة المحرمات

٣٥١

الواقعية وغير الواقعية لتفصل بين الدين الحق وبين البدع التي أحدثت في دين الله ، وتشرع بالقول :( إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ ) (١) .

وقد بحثنا موضوع تحريم الميتة والدم ولحم الخنزير بالتفصيل في تفسيرنا للآية (١٧٣) من سورة البقرة.

إنّ تلوّث هذه المواد الثلاث بات اليوم ليس خافيا على أحد ، فالميتة مصدر لأنواع الجراثيم ، والدم من أكثر مكونات البدن تقبلا للتلوّث بالجراثيم ، وأمّا لحم الخنزير فيعتبر سببا للإصابة بالكثير من الأمراض الخطرة ، وفوق كل ذلك (وكما قلنا في تفسيرنا لسورة البقرة) فتناول لحم الخنزير والدم له الأثر الخطير على الحالة النفسية والأخلاقية للإنسان ، بسبب التأثير الحاصل منهما على هرمونات البدن ، (والميتة بسبب عدم ذبحها وخروج دمها فإنّ أضرار التلوّث تتضاعف فيها).

أمّا فلسفة تحريم ما يذبح لغير الله (حيث كانوا بدلا من ذكر اسم الله عند الذبح يذكرون أسماء أصنامهم أو لا يتلفظون بشيء) فليست صحيحة ، بل هي أخلاقية ومعنوية، حيث نعلم بعدم كفاية علّة التحليل والتحريم في الإسلام بملاحظة الجانب الصحي للموضوع، بل من المحرمات ذات جانب معنوي صرف ، وحرمت بلحاظ تهذيب الروح والنظر إلى الجنبة الأخلاقية ، وقد يأتي التحريم في بعض الحالات حفظا للنظام الاجتماعي.

فتحريم أكل لحم ما لم يذكر عليه اسم الله إنّما كان بلحاظ أخلاقي. فمن جهة يكون التحريم حربا على الشرك وعبادة الأصنام ، ومن جهة أخرى يكون دعوة إلى خالق هذه النعم.

__________________

(١) أهلّ : من الإهلال ، مأخوذ من الهلال ، بمعنى إعلاء الصوت عند رؤية الهلال ، وباعتبار أنّ المشركين كانوا إذا ذبحوا حيواناتهم للأصنام صرخوا عاليا بأسماء أصنامهم ، فقد عبّر عنه بـ «أهلّ».

٣٥٢

ويستفاد من المحتوى العام للآية والآيات التالية أنّ الإسلام يوصي بالاعتدال في تناول اللحوم ، فلا يكون المسلم كالذين حرّموا على أنفسهم تناول اللحم واكتفوا بالأغذية النباتية، ولا كالذين أحلّوا لأنفسهم أكل اللحوم أيّا كانت كأهل الجاهلية والبعض ممن يدّعي التمدّن في عصرنا الحاضر ، ممن يجيزون أكل كل لحم (كالسحالي والسرطان وأنواع الديدان).

جواب على سؤال :

وهنا يأتي السؤال التالي ذكرت الآية المباركة أربعة أقسام من الحيوانات المحرمة الأكل أو أجزائها ، والذي نعلمه أنّ المحرم من اللحوم أكثر ممّا ذكر ، حتى أنّ بعض السور القرآنية ذكرت من المحرمات أكثر من أربعة أقسام (كما في الآية (٣) من سورة المائدة).

فلما ذا حددت الآية أربعة أشياء فقط؟

وجواب السؤال ـ كما قلنا في تفسير الآية (١٤٥) من سورة الأنعام ـ : أنّ الحصر الموجود في الآية هو حصر إضافي ، أي أنّ المقصود من استعمال «إنّما» في هذه الآيات لنفي وإبطال البدع التي كان يقول بها المشركون في تحريم بعض الحيوانات ، وكأنّ القرآن يقول لهم : هذه الأشياء حرام ، لا ما تقولون!

وثمّة احتمال آخر ، وهو أن تكون هذه المحرمات الأربعة هي المحرمات الأصلية أو الأساسية ، حيث أنّ «المنخنقة» المذكورة في آية (٣) من سورة المائدة داخلة في إحدى الأقسام الأربعة (الميتة).

أمّا المحرمات الأخرى من أجزاء الحيوانات أو أنواعها ـ كالوحوش ـ فتأتي في الدرجة الثّانية ، ولذا أتى حكم تحريمها بطريق سنّة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وعليه فيمكن أن يكون الحصر في الآية حصرا حقيقيا ـ فتأمل.

وفي نهاية الآية سياقا مع الأسلوب القرآني عند تناوله ذكرت الحالات

٣٥٣

والموارد الاستثنائية ، يقول :( فَمَنِ اضْطُرَّ ) كأن يكون في صحراء ولا يملك غذاء( غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) .

«باغ» أو الباغي : (من البغي) بمعنى «الطلب» ، ويأتي هنا بمعنى طلب اللذة أو تحليل ما حرم الله.

«عاد» أو العادي ، (من العدو) أي «التجاوز» ، ويأتي هنا بمعنى أكل المضطر لأكثر من حد الضرورة.

وورد تفسير (الباغي) في أحاديث أهل البيتعليهم‌السلام بأنّه (الظالم) ، و (العادي) بمعنى (الغاصب) ، وجاء ـ أيضا ـ الباغي : هو الذي يخرج على إمام زمانه ، والعادي ، هو السارق.

وإشارة الرّوايات المذكورة يمكن حملها على الاضطرار الحاصل عند السفر ، فإذا سافر شخص ما طلبا للظلم والغصب والسرقة ثمّ اضطر إلى أكل هذه اللحوم المحرمة فسوف لا يغفر له ذنبه ، حتى وإن كان لحفظ حياته من الهلاك المحتم.

وعلى أيّة حال ، فلا تنافي بين ما ذهبت إليه التفاسير وبين المفهوم العام للآية ، حيث يمكن جمعها.

وتأتي الآية التالية لتطرح موضوع تحريم المشركين لبعض اللحوم بلا سبب أو دليل،والذي تطرق القرآن إليه سابقا بشكل غير مباشر ، فتأتي الآية لتطرحه صراحة حيث تقول :( وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللهِ الْكَذِبَ ) (١) .

أي إنّ ما جئتم به ليس إلّا كذبة صريحة أطلقتها ألسنتكم في تحليلكم أشياء بحسب ما تهوى أنفسكم ، وتحريمكم لأخرى! (أشارة إلى الأنعام التي حرمها

__________________

(١) وهكذا أصل تركيب جملة «ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب» : اللام : لام التعليل ، «ما» في «لما تصف» مصدرية ، و «الكذب» مفعول لـ «تصف» فتكون العبارة : (لا تقولوا هذا حلال وهذا حرام لتوصيف ألسنتكم الكذب).

٣٥٤

البعض على نفسه ، والبعض الآخر حللها لنفسه بعد أن جعل قسما منها لأصنامه).

فهل أعطاكم الله حقّ سنّ القوانين؟ أم أنّ أفكاركم المنحرفة وتقاليدكم العمياء هي التي دفعتكم لإحداث هذه البدع؟ أو ليس هذا كذبا وافتراءا على الله؟!

وجاء في الآية (١٣٦) من سورة الأنعام بوضوح :( وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً فَقالُوا هذا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهذا لِشُرَكائِنا فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللهِ وَما كانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلى شُرَكائِهِمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ ) .

ويستفاد كذلك من الآية (١٤٨) من سورة الأنعام :( سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ ) أنّهم كانوا يجعلون لأنفسهم حق التشريع في التحليل والتحريم ، ويظنون أنّ الله يؤيد بدعهم! (وعلى هذا فكانوا يضعون البدعة أوّلا ويحللون ويحرمون ثمّ ينسبون ذلك إلى الله فيكون افتراء آخر)(١) .

ويحذر القرآن في آخر الآية بقوله :( إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ ) لأنّ من مسببات الشقاء الأساسية الكذب والافتراء على أيّ إنسان ، فكيف به إذا كان على اللهعزوجل !؟ فلا أقل والحال هذه من مضاعفة آثاره السيئة.

وتوضح الآية التالية ذلك الخسران ، فتقول :( مَتاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ ) .

ويمكن أن تكون( مَتاعٌ قَلِيلٌ ) إشارة إلى أجنّة الحيوانات الميتة التي كانوا يحللونها لأنفسهم ويأكلون لحومها ، أو إشارة إلى إشباعهم حب الذات وعبادتها بواسطة جعل البدع، أو أنّهم بتثبيت الشرك وعبادة الأصنام في مجتمعهم يتمكنون أن يحكموا على الناس مدّة من الزمن ، وكل ذلك( مَتاعٌ قَلِيلٌ ) سيعقب( عَذابٌ

__________________

(١) ولذا جاء ذكر افتراءهم في الآية مسبوقا باللام ليكون نتيجة وغاية لبدعهم ـ فتأمل.

٣٥٥

أَلِيمٌ ) .

ويطرح السؤال التالي : لما ذا حرّمت على اليهود محرّمات إضافية؟

الآية التالية كأنها جواب على السؤال المطروح ، حيث تقول :( وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا ما قَصَصْنا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ ) .

وهو إشارة إلى ما ذكر من الآية (١٤٦) من سورة الأنعام :( وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما إِلَّا ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما أَوِ الْحَوايا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصادِقُونَ ) .

( ذِي ظُفُرٍ ) : هي الحيوانات ذات الظفر الواحد كالخيل.

( ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما ) : الشحوم التي في منطقة الظهر منها.

( الْحَوايا ) : الشحوم التي على أطراف الأمعاء والخاصرتين.

وحقيقة هذه المحرمات الإضافية العقاب والجزاء لليهود جراء ظلمهم ، ولذلك يقول القرآن الكريم في آخر الآيات مورد البحث :( وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ) .

وكذلك ما جاء في الآيتين (١٦٠ و ١٦١) من سورة النساء :( فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللهِ كَثِيراً وَأَخْذِهِمُ الرِّبَوا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ ) .

فكان تحريما قسما من اللحوم على اليهود ذا جنبة عقابيّة دون أن يكون للمشركين القدرة على الإحتجاج في ذلك.

وما حرّمه المشركون إن هو إلّا بدعة نشأت من خرافاتهم وأباطيلهم ، لأنّ ما فعلوه ما كان جاريا لا عند اليهود ولا عند المسلمين (ويمكن أن تكون إشارة الآية تؤدي إلى هذا المعنى وهو إنّكم فعلتم ما لا يتفق مع أيّ كتاب سماوي).

وفي آخر آية من الآيات مورد البحث ، وتمشيا مع الأسلوب القرآني ، يبدأ القرآن بفتح أبواب التوبة أمام المخدوعين من الناس والنادمين من ضلالهم ،

٣٥٦

فيقول :( ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ) .

ويلاحظ في هذه الآية جملة أمور :

أوّلا : اعتبرت علّة ارتكاب الذنب «الجهالة» ، والجاهل المذنب يعود إلى طريق الحق بعد ارتفاع حالة الجهل ، وهؤلاء غير الذين ينهجون جادة الضلال على علم واستكبار وغرور وتعصب وعناد منهم.

ثانيا : إنّ الآية لا تحدّد موضوع بالتوبة القلبية والندم ، بل تؤكّد على أثر التوبة من الناحية العملية وتعتبر الإصلاح مكملا للتوبة ، لتبطل الزعم القائل بإمكان مسح آلاف الذنوب بتلفظ «أستغفر الله» ، وتؤكّد على وجوب إصلاح الأمور عمليا ، وترميم ما أفسد من روح الإنسان أو المجتمع بارتكاب تلك الذنوب ، للدلالة إلى التوبة الحقيقية لا توبة لقلقة اللسان.

ثالثا : التأكيد على شمول الرحمة الإلهية والمغفرة لهم ، ولكن بعد التوبة والإصلاح :( إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ) .

وبعبارة أخرى إنّ مسألة قبول التوبة لا يكون إلّا بعد الندم والإصلاح ، وقد ذكر ذلك في ثلاثة تعابير :

أوّلا : باستعمال الحرف «ثمّ».

ثانيا : «من بعد ذلك».

ثالثا : «من بعدها».

لكي يلتفت المذنبون إلى أنفسهم ويتركوا ذلك التفكير الخاطئ بأن يقولوا : نرجو لطف الله وغفرانه ورحمته ، وهم على ارتكاب الذنوب دائمون.

* * *

٣٥٧

الآيات

( إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٢٠) شاكِراً لِأَنْعُمِهِ اجْتَباهُ وَهَداهُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (١٢١) وَآتَيْناهُ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (١٢٢) ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٢٣) إِنَّما جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (١٢٤) )

التّفسير

كان إبراهيم لوحده أمّة!

كما قلنا مرارا بأنّ هذه السورة هي سورة النعم ، وهدفها تحريك حس الشكر لدى الإنسان بشكل يدفعه لمعرفة خالق وواهب هذه النعم.

والآيات تتحدث عن مصداق كامل للعبد الشكور لله ، ألا وهو «إبراهيم» بطل التوحيد ، وأوّل قدوة للمسلمين عامة وللعرب خاصة.

والآيات تشير إلى خمس من الصفات الحميدة التي كان يتحلى بها

٣٥٨

إبراهيمعليه‌السلام .

١ ـ( إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً ) .

وقد ذكر المفسّرون أسبابا كثيرة للتعبير عن إبراهيمعليه‌السلام بأنّه «أمّة» وأهمها أربع :

الأوّل : كان لإبراهيم شخصية متكاملة جعلته أن يكون أمّة بذاته ، وشعاع شخصية الإنسان في بعض الأحيان يزداد حتى ليتعدى الفرد والفردين والمجموعة فتصبح شخصيته تعادل شخصية أمّة بكاملها.

الثّاني : كان إبراهيمعليه‌السلام قائدا وقدوة حسنة ومعلما كبيرا للإنسانية ، ولذلك أطلق عليه( أُمَّةً ) لأنّ «أمّة» اسم مفعول يطلق على الذي تقتدي به الناس وتنصاع له.

وثمّة ارتباط معنوي خاص بين المعنيين الأوّل والثاني ، حيث أنّ الذي يكون بمرتبة إمام صدق واستقامة لأمّة ما ، يكون شريكا لهم في أعمالهم وكأنّه نفس تلك الأمّة.

الثّالث : كان إبراهيمعليه‌السلام موحدا في محيط خال من أيّ موحد ، فالجميع كانوا يخوضون في وحل الشرك وعبادة الأصنام ، فهو والحال هذه «أمّة» في قبال أمّة المشركين (الذين حوله).

الرّابع : كان إبراهيمعليه‌السلام منبعا لوجود أمّة ، ولهذا أطلق القرآن عليه كلمة «أمّة».

ولا مانع من أن تحمل هذه الكلمة القصيرة الموجزة كل ما ذكر ما معان كبيرة.

نعم فقد كان إبراهيم أمّة وكان إماما عظيما ، وكان رجلا صانع أمّة ، وكان مناديا بالتوحيد وسط بيئة اجتماعية خالية من أيّ موحد(١) .

__________________

(١) وفي الرّوايات عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن عبد المطلب : «يبعث يوم القيامة أمّة وحده ، عليه بهاء الملوك وسيماء الأنبياء» لأنّه كان مدافعا عن التوحيد في بيئة الشرك وعبادة الأصنام. (سفينة البحار ، ج ٢ ، ص ١٣٩).

٣٥٩

وقال الشاعر :

ليس على الله بمستنكر

أن يجمع العالم في واحد

٢ ـ صفته الثّانية في هذه الآيات : أنّه كان( قانِتاً لِلَّهِ ) .

٣ ـ وكان دائما على الصراط المستقيم سائرا على طريق الله ، طريق الحق( حَنِيفاً ) .

٤ ـ( وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ) بل كان نور الله يملأ كل حياته وفكره ، ويشغل كل زوايا قلبه.

٥ ـ وبعد كل هذه الصفات ، فقد كان( شاكِراً لِأَنْعُمِهِ ) .

وبعد عرض الصفات الخمسة يبيّن القرآن الكريم النتائج المهمّة لها ، فيقول :

١ ـ( اجْتَباهُ ) للنّبوة وإبلاغ دعوته.

٢ ـ( وَهَداهُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ ) وحفظه من كل انحراف ، لأنّ الهداية لا تأتي لأحد عبثا ، بل لا بدّ من توفر الاستعداد والأهلية لذلك.

٣ ـ( وَآتَيْناهُ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً ) .

«الحسنة» في معناها العام كل خير وإحسان ، من قبيل منح مقام النّبوة مرورا بالنعم المادية حتى نعمة الأولاد وما شابهها.

٤ ـ( وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ ) .

ومع أنّ إبراهيم كان على رأس الصالحين في الدنيا ، فإنّه سيكون منهم في الآخرة كما أخبرنا بذلك القرآن الكريم ، وهذه دلالة على عظمة مقام الصالحين بأن يحسب إبراهيمعليه‌السلام على ما له من مقام سام كأحدهم في دار الآخرة ، ولم لا يكون ذلك وقد طلب إبراهيمعليه‌السلام ذلك من ربّه حين قال :( رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ ) (١) .

__________________

(١) سورة الشعراء ، ٨٣.

٣٦٠

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

والبعض الآخر قال : إنّها مسألة الخلق والرزق والحياة والموت والعزّة والذلّة فقط.

والبعض الآخر عنون مسألة الخلق والموت بالنسبة للإنسان وقال : إنّ لله جيوشا ثلاثة : جيش ينتقل من أصلاب الآباء إلى أرحام الامّهات ، وجيش يخرج إلى عالم الدنيا من أرحام الامّهات ، وجيش يساق من عالم الدنيا إلى القبور.

وكما قلنا فإنّ للآية مفهوما واسعا يشمل كلّ خلق جديد وخلقة جديدة ، ويشمل كلّ تغيير وتحوّل في هذا العالم.

ونقرأ في رواية لأمير المؤمنينعليه‌السلام أنّه قال في أحد خطبه : «الحمد لله الذي لا يموت ولا تنقضي عجائبه لأنّه كلّ يوم هو في شأن ، من إحداث بديع لم يكن»(١) .

ونقرأ في حديث آخر للرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في تفسيره الآية الكريمة : «من شأنه أن يغفر ذنبا ويفرّج كربا ويرفع قوما ويضع آخرين»(٢) .

ولا بدّ من الانتباه لهذه النقطة أيضا : إنّ المقصود من (يوم) هو ليس (النهار) في مقابل (الليل) بل يشمل الأحقاب المتزامنة ، وكذلك الساعات واللحظات ، ومفهومه أنّ الله المتعال في كلّ زمان في شأن وعمل.

كما أنّ البعض ذكروا شأنا نزوليا للآية ، وهو أنّها نزلت ردّا على قول اليهود الذين يعتقدون أنّ اللهعزوجل يعطّل كلّ الأعمال في يوم السبت ، ولا يصدر أي حكم(٣) . فالقرآن الكريم يقول : إنّ خلق الله وتدبيره ليس له توقّف.

ومرّة اخرى ـ بعد هذه النعم المستمرّة والإجابة لاحتياجات جميع خلقه من أهل السماوات والأرض يكرّر قوله سبحانه :( فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ ) .

* * *

__________________

(١) أصول الكافي مطابق نقل نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ١٩٣.

(٢) مجمع البيان نهاية الآية مورد البحث ، ونقل هذا الحديث أيضا في روح المعاني من صحيح البخاري.

(٣) مجمع البيان ، ج ٩ ، ص ٢٠٢.

٤٠١

بحوث

١ ـ ما هي حقيقة الفناء؟

ما مرّ بنا في الآيات السابقة وهو أنّ «الكلّ يفنى إلّا الله» ليس بمعنى الفناء المطلق ، وأنّ روح الإنسان تفنى أيضا أو أنّ التراب الناشئ من بدنه بعد الموت سينعدم أيضا ، إذ أنّ الآيات القرآنية صرّحت بوجود عالم البرزخ إلى يوم القيامة(١) .

ومن جهة اخرى فإنّ الله سبحانه يذكر لمرّات عدّة أنّ الموتى يخرجون من قبورهم يوم القيامة(٢) .

ويذكر سبحانه في آية اخرى أنّ رميم العظام يلبس الحياة مرّة اخرى بأمر الله(٣) .

وهذه الآيات كلّها شاهد على أنّ الفناء في الآية والآيات الاخرى بمعنى اضطراب نظام الجسم والروح وقطع الارتباط بينهما واضطراب عالم الخلقة كذلك ، وحلول عالم جديد محلّ العالم السابق.

٢ ـ استمرار الخلق والإبداع

قلنا : إنّ الآية الكريمة :( كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ ) تدلّ على دوام الخلقة واستمرار الخلق ، وأنّها مبعث أمل من جهة ، ونافية للغرور من جهة اخرى ، لذا فانّ القادة الإسلاميين يعتمدون عليها كثيرا لبعث الأمل في النفوس ، كما نقرأ ذلك في تبعيد الصحابي الجليل «أبى ذرّ الغفاري» إلى (الربذة) حيث يذكر التاريخ أنّ علياعليه‌السلام جاء لتوديعه فواساه بكلمات مؤثّرة ، ثمّ أعقبه ابنه الإمام الحسنعليه‌السلام حيث خاطب أبا ذر رضى الله عنه بقوله «يا عمّاه» تكريما له وأعقبه أخوه سيّد الشهداء الإمام

__________________

(١) المؤمنون ، ١٠٠.

(٢) سورة يس ، ٥١.

(٣) سورة يس ، ٧٩.

٤٠٢

الحسينعليه‌السلام بقوله لأبي ذرّ : «يا عمّاه إنّ الله تعالى قادر على أن يغيّر ما قد ترى. الله كلّ يوم في شأن ، وقد منعك هؤلاء القوم دنياهم ومنعتهم دينك فاسأل الله الصبر والنصر(١)

ونقرأ أيضا أنّ الإمام الحسينعليه‌السلام وهو في طريقه إلى كربلاء لقي الشاعر «الفرزدق» عند (صفاح) فسأله الإمامعليه‌السلام عن خبر الناس خلفه ـ إشارة إلى أهل العراق ـ فقال : الخبير سألت ، قلوب الناس معك ، وسيوفهم مع بني أميّة ، والقضاء ينزل من السماء والله يفعل ما يشاء. فقال الإمام الحسينعليه‌السلام : (صدقت لله الأمر يفعل ما يشاء وكلّ يوم ربّنا في شأن)(٢) .

وكلّ ذلك يرينا أنّ هذه الآية هي الآية باعثة للأمل في نفوس المؤمنين.

وثمّة قصّة اخرى في هذا الصدد حيث ذكروا أنّ أحد الأمراء سأل وزيره عن تفسير هذه الآية ، إلّا أنّ الوزير أعلن عن عدم علمه بها وطلب مهلة ليوم غد ، ورجع إلى البيت محزونا ، وكان لديه غلام أسود ذو علم ومعرفة ، فسأله عمّا به ، فحدّث غلامه بالقصّة ، فأجابه : إذا ذهبت إلى الأمير فأخبره إذا كان يرغب في معرفة تفسير هذه الآية فأنا مستعدّ لذلك فطلبه الأمير وسأله ، فأجابه الغلام : يا أمير ، شأنه يولج الليل في النهار ، ويولج النهار في الليل ، ويخرج الحيّ من الميّت ، ويخرج الميّت من الحيّ ، ويشفي سقيما ، ويسقم سليما ، ويبتلي معافى ، ويعافي مبتلى ، ويعزّ ذليلا ، ويذلّ عزيزا ، ويفقر غنيّا ، ويغني فقيرا

فقال الأمير : «فرّجت عنّي فرّج الله عنك» ثمّ أكرمه وأنعمه(٣) .

٣ ـ الحركة الجوهرية

__________________

(١) الغدير ، ج ٨ ، ص ٣٠١.

(٢) الكامل لابن الأثير ، ج ٤ ، ص ٤٠.

(٣) تفسير القرطبي ، ج ٩ ، ص ٦٣٣٧.

٤٠٣

بعض المؤيديّن للحركة الجوهرية يستدلّون لإثبات مرادهم بالآيات القرآنية أو يعتبرونها إشارة لمقصودهم ، ومن ضمن ما يستشهدون به الآية الكريمة :( كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ ) .

التوضيح : يعتقد الفلاسفة القدماء أنّ للحركة أربع مقولات عرضية هي : (أين ، كيف ، كم ، وضع).

وبتعبير أوضح أنّ حركة الجسم تكون بتغيير مكانه وذلك بانتقاله ، وهذه هي مقولة (الأين) ، أو بنموّه أو زيادة كمّيته وهذه مقولة «الكم». أو تغيّر اللون والطعم والرائحة (كشجرة التفاح) وهذا المقصود من «الكيف» ، أو أن يدور في مكانه حول نفسه كالحركة الوضعية للأرض وهذا ما يراد به من «الوضع».

وقد كان سائدا أنّ الحركة غير ممكنة في جوهر وذات الجسم أبدا ، لأنّه في كلّ حركة يجب أن تكون ذات الجسم المتحرّك ثابتة ، إلّا أنّ عوارضه قد تتغيّر ، فالحركة لا تتصوّر في ذات الشيء وجوهره ، بل في اعراضه.

لكنّ الفلاسفة المتأخرّين رفضوا هذه النظرية واعتقدوا بالحركة الجوهرية ، وقالوا : إنّ أساس الحركة هي الذات ، الجوهر ، والتي تظهر آثارها في العوارض.

وأوّل شخص طرح هذه النظرية بشكل تفصيلي استدلالي هو المولى صدر الدين الشيرازي حيث قال : إنّ كلّ ذرّات الكائنات وعالم المادّة في حركة دائبة ، أو بتعبير آخر : إنّ مادّة الأجسام وجود سيّال متغيّر الذات دائما ، وفي كلّ لحظة له وجود جديد يختلف عن الوجود السابق له ، ولكون هذه التغيّرات متّصلة مع بعضها فإنّها تحسب شيئا واحدا ، وبناء على هذا فإنّ لنا في كلّ لحظة وجودا جديدا ، إلّا أنّ هذه الوجودات متصلة ومستمرة ولها صورة واحدة ، أو بتعبير آخر : إنّ المادة لها أربعة أبعاد (طول وعرض وعمق وأمّا البعد الآخر فهو ما نسمّيه (الزمان) وهذا الزمان ليس بشيء إلّا مقدار الحركة في الجوهر) لاحظوا جيّدا.

وممّا يجدر ذكره أنّ الحركة الجوهرية لا ترتبط بمسألة الحركة في داخل

٤٠٤

الذرّة لأنّها حركة وضعية وعرضية ، أمّا الحركة في الجوهر فلها مفهوم عميق جدّا تشمل الذات والجوهر.

والعجيب هنا أنّ المتحرّك هو نفس الحركة.

ولإثبات هذا المقصود فإنّهم يستدلّون بدلائل عديدة لا مجال لذكرها هنا ، إلّا أنّه لا بأس بالإشارة إلى نتيجة هذا الرأي الفلسفي وهو أنّه ممّا لا شكّ فيه أنّ إدراكنا لمسألة معرفة الله أوضح من أي زمان ، لأنّ الخلق والخلقة لم تكن في بداية الخلق فحسب ، بل إنّها في كلّ ساعة وكلّ لحظة ، وإنّ الله سبحانه مستمر في خلقه ، ونحن مرتبطون به دائما ومستفيضون من فيض ذاته وهذا معنى( كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ ) .

ومن الطبيعي أن لا مانع من أن يكون هذا المفهوم جزءا من المفهوم الواسع للآية الكريمة.

* * *

٤٠٥

الآيات

( سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ (٣١) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٣٢) يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطانٍ (٣٣) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٣٤) يُرْسَلُ عَلَيْكُما شُواظٌ مِنْ نارٍ وَنُحاسٌ فَلا تَنْتَصِرانِ (٣٥) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٣٦) )

التّفسير

التحدّي المشروط :

النعم الإلهيّة التي استعرضتها الآيات السابقة كانت مرتبطة بهذا العالم ، إلّا أنّ الآيات مورد البحث تتحدّث عن أوضاع يوم القيامة ، وخصوصيات المعاد ، وفي الوقت الذي تحمل تهديدا للمجرمين ، فإنّها وسيلة لتربية وتوعية وإيقاظ المؤمنين ، بالإضافة إلى أنّها مشجّعة لهم للسير في طريق مرضاته سبحانه ، ومن هنا فإنّنا نعتبرها نعمة. لذلك بعد ذكر كلّ واحدة من هذه النعم يتكرّر نفس السؤال الذي كان يعقّب ذكر كلّ نعمة من النعم السابقة.

٤٠٦

يقول سبحانه في البداية :( سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ ) (١) (٢) .

نعم ، إنّ الله العالم القادر سيحاسب في ذلك اليوم الإنس والجنّ حسابا دقيقا على جميع أعمالهم وأقوالهم ونيّاتهم ، ويعيّن لكلّ منهم الجزاء والعقاب.

ومع علمنا بأنّ الله سبحانه لا يشغله عمل عن عمل ، وعلمه محيط بالجميع في آن واحد ، ولا يشغله شيء عن شيء (ولا يشغله شأن عن شأن) ولكنّنا نواجه التعبير في (سنفرغ) والتي تستعمل غالبا بالتوجّه الجادّ لعمل ما ، والانصراف الكلّي له ، وهذا من شأن المخلوقات بحكم محدوديتها.

إلّا أنّه استعمل هنا لله سبحانه ، تأكيدا على مسألة حساب الله تعالى لعباده بصورة لا يغادر فيها صغيرة ولا كبيرة إلّا أحصاها ، ولا يغفل عن مثقال ذرّة من أعمال الإنسان خيرا أو شرّا ، والأظرف من ذلك أنّ الله الكبير المتعال هو الذي يحاسب بنفسه عبده الصغير ، وعلينا أن نتصوّركم هي مرعبة ومخيفة تلك المحاسبة.

(الثقلان) من مادّة (ثقل) على وزن (كبر) بمعنى الحمل الثقيل وجاءت بمعنى الوزن أيضا ، إلّا أنّ (ثقل) على وزن (خبر) تقال عادة لمتاع وحمل المسافرين ، وتطلق على جماعة الإنس والجنّ وذلك لثقلهم المعنوي ، لأنّ الله تبارك وتعالى قد أعطاهم عقلا وشعورا وعلما ووعيا له وزن وقيمة بالرغم من أنّ الثقل الجسدي لهم ملحوظ أيضا كما قال تعالى :( وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها ) ،(٣) حيث ورد أنّ أحد معانيها هو خروج الناس من القبور في يوم القيامة ، إلّا أنّ التعبير في الآية مورد البحث جاء باللحاظ المعنوي ، خاصّة وأنّ الجنّ ليس لهم ثقل مادّي.

__________________

(١) يجب الالتفات إلى أنّ رسم الخطّ القديم في القرآن المجيد كتبت (أيّها) في موارد بصورة (أيّه) والتي هي في الآية مورد البحث وآيتين أخريين (النور آية ٣١ ، والزخرف آية ٤٩) في الوقت الذي تكتب (أيّها) في الحالات الاخرى بالألف الممدودة ، والملاحظ أنّها كانت على أساس قاعدة رسم الخطّ القديم.

(٢) مع كون «الثقلين» تنبيه فالضمير في لكم أتى جمعا وذلك إشارة إلى مجموعتين.

(٣) الزلزلة ، ٢.

٤٠٧

التأكيد على هاتين الطائفتين بالخصوص لأنّ التكاليف الإلهيّة مختّصة بهما في الغالب.

وبعد هذا يكرّر الله سبحانه سؤاله مرّة اخرى :( فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ ) .

وتعقيبا على الآية السابقة التي كانت تستعرض الحساب الإلهي الدقيق ، يخاطب الجنّ والإنس مرّة اخرى بقوله :( يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ) للفرار من العقاب الإلهي( فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطانٍ ) أي بقوّة إلهية ، في حين أنّكم فاقدون لمثل هذه القوّة والقدرة.

وبهذه الصورة فإنّكم لن تستطيعوا أن تفرّوا من محكمة العدل الإلهي ، فحيثما تذهبون فهو ملكه وتحت قبضته ومحلّ حكومته تعالى ، ولا مناصّ لهذا المخلوق الصغير من الفرار من ميدان القدرة الإلهيّة؟ كما قال الإمام عليعليه‌السلام في دعاء كميل بن زياد المربي للروح : (ولا يمكن الفرار من حكومتك).

«معشر» في الأصل من (عشر) مأخوذ من عدد «عشرة» ، ولأنّ العدد عشرة عدد كامل ، فإنّ مصطلح (معشر) يقال : للمجموعة المتكاملة والتي تتكوّن من أصناف وطوائف مختلفة.

«أقطار» جمع (قطر) بمعنى أطراف الشيء.

«تنفذوا» من مادّة (نفوذ) ، وهي في الأصل بمعنى خرق وعبور من شيء ، والتعبير (من أقطار) إشارة إلى شقّ السماوات وتجاوزها إلى خارجها.

وبالمناسبة فإنّ تقديم «الجنّ» هنا جاء لاستعدادهم الأنسب للعبور من السماوات ، وقد ورد اختلاف بين المفسّرين على أنّ الآية أعلاه هل تتحدّث عن القيامة ، أو أنّ حديثها عن عالم الدنيا ، أو كليهما؟

ولأنّ الآيات السابقة واللاحقة تتحدّث عن وقائع العالم الآخر ، فإنّ المتبادر إلى الذهن أنّ الآية تتحدّث عن الهروب والفرار من يد العدالة الإلهية الذي يفكّر به

٤٠٨

العاصون في ذلك اليوم.

إلّا أنّ البعض بلحاظ جملة :( لا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطانٍ ) اعتبرها إشارة إلى الرحلات الفضائية للإنسانية ، وقد ذكر القرآن شروطها من القدرة العلمية والصناعية.

ويحتمل أيضا أن يكون المقصود منها هو عالم الدنيا وعالم القيامة ، يعني أنّكم لن تتمكّنوا من النفوذ بدون قدرة الله في أقطار السماوات ليس في هذه الدنيا فحسب ، بل في عالم الآخرة أيضا ، حيث وضعت في الدنيا وسيلة محدودة لاختباركم ، أمّا في الآخرة فلا توجد أيّة وسيلة لكم.

وفسّرها البعض تفسيرا رابعا حيث قالوا : إنّ المقصود بالنفوذ هو النفوذ الفكري والعلمي في أقطار السماوات ، الذي يمكن للبشر إنجازه بواسطة القدرة الاستدلالية.

إلّا أنّ التّفسير الأوّل مناسب أكثر ، خاصّة وأنّ بعض الأخبار التي نقلت من المصادر الإسلامية تؤيّده ، ومن جملتها حديث عن الإمام الصادقعليه‌السلام حيث يقول :

«إذا كان يوم القيامة جمع الله العباد في صعيد واحد ، وذلك أن يوحي إلى السماء الدنيا أن اهبطي بمن فيك ، فيهبط أهل السماء الدنيا بمثلي من في الأرض من الجنّ والإنس والملائكة ، ثمّ يهبط أهل السماء الثانية بمثل الجميع مرتين ، فلا يزالون كذلك حتّى يهبط أهل سبع سماوات فتصير الجنّ والإنس في سبع سرادقات من الملائكة ثمّ ينادي مناد ،( يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطانٍ ) فينظرون فإذا قد أحاط بهم سبع أطواق من الملائكة»(١) .

__________________

(١) تفسير الصافي ص ٥١٧ وتفسير مجمع البيان ج ٩ ص ٢٠٥.

٤٠٩

كما أنّ الجمع بين التفاسير ممكن أيضا.

ويخاطب سبحانه هاتين المجموعتين «الجنّ والإنس» بقوله :( فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ ) .

والتهديد هنا لطف إلهي أيضا ، فالبرغم من أنّه يحمل تهديدا ظاهريا ، إلّا أنّه عامل للتنبيه والإصلاح والتربية ، حيث أنّ وجود المحاسبة في كلّ نظام هو نعمة كبيرة.

وما ورد في الآية اللاحقة تأكيد لما تقدّم ذكره في الآيات السابقة ، والذي يتعلّق بعدم قدرة الجنّ والإنس من الفرار من يد العدالة الإلهيّة حيث يقول سبحانه :( يُرْسَلُ عَلَيْكُما شُواظٌ مِنْ نارٍ وَنُحاسٌ فَلا تَنْتَصِرانِ ) .

«شواظ» كما ذكر الراغب في المفردات ، وابن منظور في لسان العرب ، وكثير من المفسّرين أنّه بمعنى (الشعلة العديمة الدخان) وفسّرها آخرون بأنّها (ألسنة النار) التي تقتطع من النار نفسها حسب الظاهر ، وتكون خضراء اللون. وعلى كلّ حال فإنّ هذا التعبير يشير إلى شدّة حرارة النار.

و «نحاس» بمعنى الدخان أو (الشعل ذات اللون الأحمر مصحوبة بالدخان) والتي تكون بلون النحاس ، وفسّرها البعض بأنّها (النحاس المذاب) وهي لا تتناسب في الظاهر مع ما ورد في الآية مورد البحث ، لأنّها تتحدّث عن موجود يحيط بالإنسان في يوم القيامة ويمنعه من الفرار من حكومة العدل الإلهي.

وكم هي عجيبة (محكمة القيامة) حين يحاط الإنسان إحاطة تامّة بالملائكة والنار الحارقة والدخان القاتل ، ولا مناص إلّا التسليم لحكم الواحد الأحد في ذلك اليوم الرهيب.

ثمّ يضيف سبحانه قوله :( فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ ) .

والكلام هنا عن النعم والآلاء من أجل ما ذكرنا من اللطف في الآية السابقة.

* * *

٤١٠

الآيات

( فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ فَكانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهانِ (٣٧) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٣٨) فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ (٣٩) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٤٠) يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي وَالْأَقْدامِ (٤١) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٤٢) هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ (٤٣) يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ (٤٤) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٤٥) )

التّفسير

يعرف المجرمون بسيماهم :

تكملة للآيات السابقة يتحدّث القرآن الكريم عن بعض مشاهد يوم القيامة ، والآيات أعلاه تذكر خصوصيات من مشاهد ذلك اليوم الموعود ، وعن كيفية الحساب والجزاء والعقاب ، يقول سبحانه في بداية الحديث :( فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ

٤١١

فَكانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهانِ ) (١) .

ويستفاد من مجموع آيات «القيامة» بصورة واضحة أنّ النظام الحالي للعالم سوف يتغيّر ويضطرب وتقع حوادث مرعبة جدّا في كلّ الوجود ، فتتغيّر الكواكب والسيّارات والأرض والسماء ، وتحصل تغيّرات يصعب تصورها ، ومن جملتها ما ذكر في الآية أعلاه ، وهي انشقاق وتناثر الكرات السماوية ، حيث يصبح لونها أحمر بصورة مذابة كالدهن.

(وردة) و (ورد) هو الورد المتعارف ، ولأنّ لون الورد في الغالب يكون أحمر ، فإنّ معنى الاحمرار يتداعى للذهن منها.

ويأتي هذا المصطلح أيضا بمعنى «الخيل الحمر» ، وبما أنّ لونها يتغيّر في فصول السنة حين يكون في الربيع مائلا إلى الصفرة ، وفي الشتاء يحمّر ، ويقتم لونها في البرد الشديد ، فتشبيه السماء يوم القيامة بها هو بلحاظ التغيّرات التي تحصل في ألوانها فتارة يكون لونها كالشعلة الوهاجة أحمر حارقا ، وأحيانا أصفر ، واخرى أسود قاتم ومعتم.

«دهان» على وزن (كتاب) ، بمعنى الدهن المذاب ، وتطلق أحيانا على الرسوبات المتخلّفة للمادّة الدهنية ، وغالبا ما تكون لها ألوان متعدّدة ، ومن هنا ورد هذا التشبيه حيث يصبح لون السماء كالدهن المذاب بلون الورد الأحمر ، أو إشارة إلى ذوبان الكرات السماوية أو اختلاف لونها.

وفسّر البعض «الدهان» بمعنى الجلد أو اللون الأحمر ، وعلى كلّ حال فإنّ هذه التشبيهات تجسّد لنا صورة من مشهد ذلك اليوم العظيم. حيث أنّ حقيقة الحوادث في ذلك اليوم ليس لها شبيه مع أيّة حوادث اخرى من حوادث عالمنا

__________________

(١) توجد احتمالات متعدّدة في أنّ (إذا) في الآية هل هي شرطية ، أم فجائية ، أم ظرفية ، والظاهر أنّ الاحتمال الأوّل هو الأولى ، وجزاء الشرط محذوف ويمكن تقديره هكذا : (فإذا انشقّت السماء فكانت وردة كالدهان ، كانت أهوال لا يطيقها البيان).

٤١٢

هذا. فهذه المشاهد لا نستطيع إدراكها إلّا إذا رأيناها.

ولأنّ الإخبار بوقوع هذه الحوادث المرعبة في يوم القيامة ـ أو قبلها ـ تنبيه وإنذار للمؤمنين والمجرمين على السواء ، ولطف من ألطاف الله سبحانه ، يتكرّر هذا السؤال :( فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ ) .

وفي الآية اللاحقة ينتقل الحديث من الحوادث الكونية ليوم القيامة إلى حالة الإنسان المذنب في ذلك اليوم ، حيث يقول سبحانه :( فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌ ) .

ولماذا هذا السؤال وكلّ شيء واضح في ذلك اليوم ، فهو يوم البروز ، وكلّ شيء يقرأ في وجه الإنسان.

قد يتوهّم أنّ المعنى الوارد في هذه الآية يتنافى مع الآيات الاخرى التي تصرّح وتؤكّد مسألة سؤال الله تعالى لعباده في يوم القيامة ، كما ورد في الآية :( وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ ) ،(١) وكما في قوله تعالى :( فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ ) .(٢)

ويحلّ هذا الإشكال إذا علمنا أنّ يوم القيامة يوم طويل جدّا ، وعلى الإنسان أن يجتاز محطّات ومواقف متعدّدة فيه ، حيث لا بدّ من التوقّف في كلّ محطّة مدّة زمنية ، وطبقا لبعض الرّوايات فإنّ عدد هذه المواقف خمسون موقفا ، وفي بعضها لا يسأل الإنسان إطلاقا ، إذ أنّ سيماء وجهه تحكي عمّا في داخله ، كما ستبيّنه الآيات اللاحقة.

كما أنّ بعض المواقف الاخرى لا يسمح له بالكلام ، حيث تشهد عليه أعضاء بدنه قال تعالى :( الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا

__________________

(١) الصافات ، ٢٤.

(٢) الحجر ، ٩٢ ـ ٩٣.

٤١٣

يَكْسِبُونَ ) .(١)

كما أنّ في بعض المحطّات يسأل الإنسان وبدقّة متناهية عن كافّة أعماله(٢) .

وفي بعض المواقف يسلك الإنسان سبيل الجدل والدفاع والمخاصمة(٣) .

وخلاصة القول : إنّ كلّ محطّة لها شروطها وخصوصياتها ، وكلّ واحدة منها أشدّ رعبا من الاخرى.

ومرّة اخرى يخاطب سبحانه عباده حيث يقول :( فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ ) .

نعم إنّه لا يسأل حيث( يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ ) (٤) فهناك وجوه تطفح بالبشر والنور وتعبّر عن الإيمان وصالح الأعمال ، واخرى مسودّة قاتمة مكفهّرة غبراء تحكي قصّة كفرهم وعصيانهم قال تعالى :( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ تَرْهَقُها قَتَرَةٌ ) .(٥)

ثمّ يضيف سبحانه :( فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي وَالْأَقْدامِ ) .

«النواصي» : جمع ناصية وكما يقول الراغب في المفردات أنّ الأصل بمعنى الشعر بمقدّمة الرأس من مادّة (نصأ) على وزن (نصر) وتعني الاتّصال والارتباط ، «وأخذ بناصيته» بمعنى أخذه من شعره الذي في مقدّمة رأسه ، كما تأتي أحيانا كناية عن الغلبة الكاملة على الشيء.

أقدام : جمع «قدم» بمعنى الأرجل.

والمعنى الحقيقي للآية المباركة هو أنّ الملائكة تأخذ المجرمين في يوم القيامة من نواصيهم وأرجلهم ، ويرفعونهم من الأرض بمنتهى الذلّة ويلقونهم في

__________________

(١) سورة يس ، ٦٥.

(٢) كما ورد في الآية موضع البحث والآيتين المشار لهما أعلاه.

(٣) كما ورد في الآية في سورة النحل الآية (١١١).

(٤) (سيما) في الأصل بمعنى العلامة ، وتشمل كلّ علامة في الوجه وسائر مواضع البدن ، ولأنّ علامة الرضا والغضب تبدو في الوجه أوّلا ، فإنّه يتداعى ذكر الوجه في ذكر هذه المفردات.

(٥) عبس. ٣٩ ـ ٤١.

٤١٤

جهنّم ، أو أنّه كناية عن منتهى ضعف المجرمين وعجزهم أمام ملائكة الرحمن ، حيث يقذفونهم في نار جهنّم بذلّة تامّة ، فما أشدّ هذا المشهد وما أرعبه!!

ومرّة اخرى يضيف سبحانه :( فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ ) لأنّ التذكير بيوم القيامة هو لطف منه تعالى.

ثمّ يقول سبحانه :( هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ ) .

وذكر المفسّرون تفاسير مختلفة حول المخاطبين المقصودين في هذه الآية الكريمة ، وهل هم حضّار المحشر؟ أو أنّ المخاطب هو شخص الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فحسب ، وقد ذكر له هذا المعنى في الدنيا؟ والمرجّح في رأينا هو المعنى الثاني خاصّة ، لأنّ الفعل (يكذّب) جاء بصيغة المضارع. وأستفيد من (المجرمون) ما يحمل على الغائب ، وهذا يوضّح أنّ الله تعالى قال لرسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : هذه أوصاف جهنّم التي ينكرها المجرمون باستمرار في هذه الدنيا. وقيل : إنّ المخاطب هو جميع الجنّ والإنس حيث يوجّه لهم إنذار يقول لهم فيه : هذه جهنّم التي ينكرها المجرمون ، لها مثل هذه الأوصاف التي تسمعونها ، لذلك يجب أن تنتبهوا وتحذروا أن يكون مصيركم هذا المصير.

ويضيف سبحانه في وصف جهنّم وعذابها المؤلم الشديد حيث يقول :( يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ ) .

«آن» و «آني» هنا بمعنى الماء المغلي وفي منتهى الحرارة والإحراق ، وفي الأصل من مادّة (إنّا) على وزن (رضا) بمعنى الوقت لأنّ الماء الحارق وصل إلى وقت ومرحلة نهائية.

وبهذه الحالة فإنّ المجرمين يحترقون وسط هذا اللهيب الحارق لنار جهنّم ، ويظمأون ويستغيثون للحصول على ماء يروي ظمأهم ، حيث يعطى لهم ماء مغلي (أو يصبّ عليهم) ممّا يزيد ويضاعف عذابهم المؤلم.

ويستفاد من بعض الآيات القرآنية أنّ (عين حميم) الحارقة تكون بجنب

٤١٥

جهنّم ، ويلقى فيها من يستحقّ عذابها ثمّ في النار يسجرون ، قال تعالى :( يُسْحَبُونَ فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ ) .(١)

والتعبير بـ( يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ ) في الآية مورد البحث ، يتناسب أيضا مع هذا المعنى.

ومرّة اخرى بعد هذا التنبيه والتحذير الشديد الموقظ ، الذي هو لطف من الله يقول البارئعزوجل :( فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ )

* * *

__________________

(١) المؤمن ، ٧١ ـ ٧٢.

٤١٦

الآيات

( وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ (٤٦) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٤٧) ذَواتا أَفْنانٍ (٤٨) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٤٩) فِيهِما عَيْنانِ تَجْرِيانِ (٥٠) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٥١) فِيهِما مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ زَوْجانِ (٥٢) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٥٣) مُتَّكِئِينَ عَلى فُرُشٍ بَطائِنُها مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دانٍ (٥٤) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٥٥) )

التّفسير

الجنّتان اللتان أعدتا للخائفين :

يترك القرآن الكريم وصفه لأهل النار وحالاتهم البائسة لينقلنا إلى صفحة جديدة من صفحات يوم القيامة ، ويحدّثنا فيها عن الجنّة وأهلها ، وما أعدّ لهم من النعم فيها ، والتي يصوّرها سبحانه بشكل مشوّق ومثير ينفذ إلى أعماق القلوب في عملية مقارنة لما عليه العاصون من عذاب شديد يحيط بهم والتي تحدّثت عنها الآيات السابقة ، وما ينتظر المؤمنين من جنّات وعيون وقصور وحور في الآيات

٤١٧

أعلاه ، يقول سبحانه :( وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ ) .

«الخوف» من مقام الله ، جاء بمعنى الخوف من مواقف يوم القيامة والحضور أمام الله للحساب ، أو أنّها بمعنى الخوف من المقام العلمي لله ومراقبته المستمرّة لكلّ البشر(١) .

والتّفسير الثّاني يتناسب مع ما ذكر في الآية (٣٣) من سورة الرعد :( أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ ) .

ونقرأ في حديث للإمام الصادقعليه‌السلام في تفسيره لهذه الآية أنّه قال : «ومن علم أنّ الله يراه ويسمع ما يقول ، ويعلم ما يعلمه من خير أو شرّ فيحجزه ذلك عن القبيح من الأعمال ، فذلك الذي خاف مقام ربّه ونهى النفس عن الهوى»(٢) .

ويوجد هنا تفسير ثالث. هو أنّ الخوف من الله تعالى لا يكون بسبب نار جهنّم ، والطمع في نعيم الجنّة ، بل هو الخوف من مقام الله وجلاله فقط.

وهنالك تفسير رابع أيضا ، وهو أنّ المقصود من (مقام الله) هو الخوف من مقام عدالته ، لأنّ ذاته المقدّسة لا تستلزم الخوف ، إنّما هو الخوف من عدالته ، الذي مردّه هو خوف الإنسان من أعماله ، والإنسان المنزّه لا يخشى الحساب.

ومن المعروف أنّ المجرمين إذا مرّوا بالمحكمة أو السجن ينتابهم شيء من الخوف بسبب جناياتهم على عكس الأبرار حيث يتعاملون بصورة طبيعيّة مع الأماكن المختلفة.

وللخوف من الله أسباب مختلفة ، فأحيانا يكون بسبب قبح الأعمال وانحراف الأفكار ، واخرى بسبب القرب من الذات الإلهيّة حيث الشعور بالخوف والقلق من الغفلة والتقصير في مجال طاعة الله ، وأحيانا اخرى لمجرّد تصوّرهم لعظمة الله

__________________

(١) في الصورة الاولى يكون المقام اسم مكان ، وفي الثانية يكون مصدرا (ميميّا).

(٢) اصول الكافي طبقا لنقل نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ١٩٧ حيث يستفاد من ذيل الحديث أنّ الإمامعليه‌السلام ذكر هذا في تفسير الآية( وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى) سورة النازعات / ٤٠ بالرغم من كون محتوى الآيتين واحد

٤١٨

اللامتناهية وذاته اللامحدودة فينتابهم الشعور بالخوف والضعة أمام قدسيته العظيمة وهذا النوع من الخوف يحصل من غاية المعرفة لله سبحانه ، ويكون خاصا بالعارفين والمخلصين لحضرته.

ولا تضادّ بين هذه التفاسير فيمكن جمعها في مفهوم الآية.

وأمّا (جنّتان) فيمكن أن تكون الاولى ماديّة جسمية ، والثانية معنوية روحية ، كما في قوله تعالى :( لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَأَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ ) .(١)

ففي هذه الآية مضافا إلى الجنّة الماديّة حيث الأنهار تجري من تحت الأشجار والمطهّرات من الزوجات ، هناك جنّة معنوية أيضا حيث الحديث عن رضوان الله تعالى.

أو أنّ الجنّة الاولى جزاء أعمالهم ، والجنّة الثانية تفضل على العباد وزيادة في الخير لهم ، يقول سبحانه :( لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ ) .(٢)

أو أنّ هناك جنّة للطاعة واخرى لترك المعصية.

أو أنّ أحدهما للإيمان ، والثانية للأعمال الصالحة.

أو لأنّ المخاطبين من الجنّ والإنس ، لذا فإنّ كلّ واحدة من هاتين الجنّتين تتعلّق بطائفة منهما.

ومن الطبيعي أن لا دليل على كلّ واحد من هذه التفاسير ، ويمكن جمعها في مفهوم هذه الآية ، إلّا أنّ من الطبيعي أنّ الله تعالى هيّأ لعباده الصالحين نعما عديدة لهم في الجنّة حيث مستقرّهم ، ولأهل النار (مياه حارقة وسعير لا يطاق).

ومرّة اخرى : وبعد ذكر هذه النعم العظيمة يخاطب الجميع بقوله :( فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ ) .

__________________

(١) آل عمران ، ١٥.

(٢) النور ، ٣٨.

٤١٩

ثمّ يضيف سبحانه في وصفه لهاتين الجنّتين بقوله :( ذَواتا أَفْنانٍ ) .

«ذواتا» تثنية (ذات) بمعنى صاحب ومالك(١) .

«أفنان» جمع (فنن) على وزن (قلم) والكلمة في الأصل بمعنى الغصون الطريّة المملوءة من الأوراق ، كما تأتي أحيانا بمعنى «النوع». ويمكن أن يستعمل المعنيان في الآية مورد البحث ، حيث في الصورة الاولى إشارة إلى الأغصان الطرية لأشجار الجنّة ، على عكس أشجار الدنيا حيث غصونها هرمة ويابسة.

كما يشير في الصورة الثانية إلى تنوّع نعم الجنّة وأنواع الهبات فيها ، لذا فلا مانع من استعمال المعنيين.

كما يحتمل أن يراد معنى آخر وهو أنّ لكلّ شجرة عدّة غصون مختلفة وفي كلّ غصن نوع من الفاكهة.

وبعد ذكر هذه النعم يكرّر سبحانه السؤال مرّة اخرى فيقول :( فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ ) .

ولأنّ البساتين النضرة والأشجار الزاهية ينبغي أن تكون لها عيون ، أضاف سبحانه في وصفه لهذه الجنّة بقوله :( فِيهِما عَيْنانِ تَجْرِيانِ ) .

ثمّ يطرح مقابل هذه النعمة الإضافية قوله :( فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ ) .

وبالرغم من أنّ الآية أعلاه لم توضّح لنا شيئا عن طبيعة هاتين العينين الجاريتين وعبّرت عنها بصيغة نكرة ، فإنّ هذه الموارد عادة تكون دليلا على العظمة الإلهيّة ، وقد ذكر بعض المفسّرين أنّ المقصود بهاتين العينين هما «سلسبيل» وتسنيم» قال تعالى :( عَيْناً فِيها تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً ) ،(٢) وقال تعالى :

__________________

(١) يعتقد البعض أنّ أصل ذات والتي هي مفرد مؤنث كانت ذوات ، والواو حذفت للتخفيف وأصبحت ذات ولكون التثنية ترجع الكلمة إلى أصلها ، لذا أصبحت (ذواتان) وقد حذفت النون عند الإضافة ، وجاء في مجمع البحرين أنّ أصل (ذو) هو (ذوا) على وزن (عصا) ولذلك فلا عجب أنّ مؤنثها يصبح (ذوات).

(٢) الإنسان ، ١٨.

٤٢٠

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496