الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٨

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل16%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 496

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 496 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 231557 / تحميل: 7125
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٨

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

وأمّا التحيّة التي لم يحيّ بها الله ، ولم يكن قد سمح بها هي جملة : (أسام عليك).

ويحتمل أيضا أن تكون التحية المقصودة بالآية الكريمة هي تحيّة الجاهلية حيث كانوا يقولون : (أنعم صباحا) و (أنعم مساء) وذلك بدون أن يتوجّهوا بكلامهم إلى الله سبحانه ويطلبون منه السلامة والخير للطرف الآخر.

هذا الأمر مع أنّه كان سائدا في الجاهلية ، إلّا أنّ تحريمه غير ثابت ، وتفسير الآية أعلاه له بعيد.

ثمّ يضيف تعالى أنّ هؤلاء لم يرتكبوا مثل هذه الذنوب العظيمة فقط بل كانوا مغرورين متعالين وكأنّهم سكارى فيقولعزوجل :( وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْ لا يُعَذِّبُنَا اللهُ بِما نَقُولُ ) وبهذه الصورة فإنّهم قد أثبتوا عدم إيمانهم بنبوّة الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكذلك عدم إيمانهم بالإحاطة العلمية لله سبحانه.

وبجملة قصيرة يرد عليهم القرآن الكريم :( حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمَصِيرُ ) .

والطبيعي أنّ هذا الكلام لا ينفي عذابهم الدنيوي ، بل يؤكّد القرآن على أنّه لو لم يكن لهؤلاء سوى عذاب جهنّم ، فإنّه سيكفيهم وسيرون جزاء كلّ أعمالهم دفعة واحدة في نار جهنّم.

ولأنّ النجوى قد تكون بين المؤمنين أحيانا وذلك للضرورة أو لبعض الميول ، لذا فإنّ الآية اللاحقة تخاطب المؤمنين ستكون مناجاتهم في مأمن من التلوّث بذنوب اليهود والمنافقين حيث يقول البارئعزوجل :( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَناجَيْتُمْ فَلا تَتَناجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ ، وَتَناجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوى وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ) .

يستفاد من هذا التعبير ـ بصورة واضحة ـ أنّ النجوى إذا كانت بين المؤمنين فيجب أن تكون بعيدة عن السوء وما يثير قلق الآخرين ، ولا بدّ أن يكون مسارها

١٢١

التواصي بالخير والحسنى ، وبهذه الصورة فلا مانع منها.

ولكن كلّما كانت النجوى بين أشخاص كاليهود والمنافقين الذين يهدفون إلى إيذاء المؤمنين ، فنفس هذا العمل حرام وقبيح ، فكيف الحال إذا كانت نجواهم شيطانية وتآمرية ، ولذلك فإنّ القرآن يحذّر منها أشدّ تحذير في آخر آية مورد للبحث ، حيث يقول تعالى :( إِنَّمَا النَّجْوى مِنَ الشَّيْطانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا ) ولكن يجب أن يعلموا أنّ الشيطان لا يستطيع إلحاق الضرر بأحد إلّا أن يأذن الله بذلك( وَلَيْسَ بِضارِّهِمْ شَيْئاً إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ ) .

ذلك لأنّ كلّ مؤثّر في عالم الوجود يكون تأثيره بأمر الله حتّى إحراق النار وقطع السيف.

( وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ) إذ أنّهم ـ بالروح التوكّلية على الله ، وبالاعتماد عليه سبحانه ـ يستطيعون أن ينتصروا على جميع هذه المشاكل ، ويفسدوا خطط أتباع الشيطان ، ويفشلوا مؤامراته.

* * *

بحثان

١ ـ أنواع النجوى

لهذا العمل من الوجهة الفقهيّة الإسلامية أحكام مختلفة حسب اختلاف الظروف ، ويصنّف إلى خمسة حالات تبعا لطبيعة الأحكام الإسلامية في ذلك.

فتارة يكون هذا العمل «حراما» وفيما لو أدّى إلى أذى الآخرين أو هتك حرمتهم ـ كما أشير له في الآيات أعلاه ـ كالنجوى الشيطانية حيث هدفها إيذاء المؤمنين.

وقد تكون النجوى أحيانا (واجبة) وذلك في الموضوعات الواجبة السرّية ، حيث أنّ إفشاءها مضرّ ويسبّب الخطر والأذى ، وفي مثل هذه الحالة فإنّ عدم

١٢٢

العمل بالنجوى يستدعي إضاعة الحقوق وإلحاق خطر بالإسلام والمسلمين.

وتتصف النجوى في صورة اخرى بالاستحباب ، وذلك في الأوقات التي يتصدّى فيها الإنسان لأعمال الخير والبرّ والإحسان ، ولا يرغب بالإعلان عنها وإشاعتها وهكذا حكم الكراهة والإباحة.

وأساسا ، فإنّ كلّ حالة لا يوجد فيها هدف مهمّ فالنجوى عمل غير محمود ، ومخالف لآداب المجالس ، ويعتبر نوعا من اللامبالاة وعدم الاكتراث بالآخرين.

قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إذا كنتم ثلاثة فلا يتناجى اثنان دون صاحبهما فإنّ ذلك يحزنه»(١) .

كما نقرأ في حديث عن أبي سعيد الخدري أنّه قال : كنّا نتناوب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يطرقه أمر أو يأمر بشيء فكثر أهل الثوب المحتسبون ليلة حتّى إذا كنّا نتحدّث فخرج رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الليل فقال : ما هذه النجوى ألم تنهوا عن النجوى»(٢) .

ويستفاد من روايات أخرى أنّ الشيطان ـ لإيذاء المؤمنين ـ يستخدم كلّ وسيلة ليس في موضوع النجوى فقط ، بل أحيانا في عالم النوم حيث يصوّر لهم مشاهد مؤلمة توجب الحزن والغمّ ، ولا بدّ للإنسان المؤمن في مثل هذه الحالات أن يلتجئ إلى الله ويتوكّل عليه ، ويبعد عن نفسه هذه الوساوس الشيطانية(٣) .

٢ ـ كيف تكون التحيّة الإلهيّة؟

من المتعارف عليه اجتماعيا في حالة الدخول إلى المجالس تبادل العبارات

__________________

(١) تفسير مجمع البيان نهاية الآية مورد البحث ، والدرّ المنثور ، ج ٦ ، ص ١٨٤ واصول الكافي ، ج ٢ ، ص ٤٨٣ (باب المناجاة) حديث ١ ، ٢.

(٢) الدرّ المنثور ، ج ٦ ، ص ١٨٤.

(٣) للاطلاع الأكثر على هذه الروايات يراجع تفسير نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ٢٦١ ـ ٢٦٢ ، حديث ٣١ ، ٣٢.

١٢٣

التي تعبّر عن الودّ والاحترام بين الحاضرين ـ كلّ منهم للآخر ـ ويسمّى هذا بالتحيّة ، إلّا أنّ المستفاد من الآيات أعلاه أن يكون للتحيّة محتوى إلهي ، كما في بقيّة القواعد الخاصّة بآداب المعاشرة.

ففي التحيّة بالإضافة إلى الاحترام والإكرام لا بدّ أن تقرن بذكر الله في حالة اللقاء ، كما في (السّلام) الذي تطلب فيه من الله السلامة للطرف الآخر.

وقد ورد في تفسير علي بن إبراهيم ـ في نهاية الآيات مورد البحث ـ أنّ مجموعة من أصحاب الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عند ما كانوا يقدمون عليه يحيّونه بقولهم (أنعم صباحا) و (أنعم مساء) وهذه تحية أهل الجاهلية فأنزل الله :( وَإِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللهُ ) فقال لهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «قد أبدلنا الله بخير تحيّة أهل الجنّة السّلام عليكم»(١) .

كما أنّ من خصوصيات السّلام في الإسلام أن يكون مقترنا بذكر الله تعالى ، هذا من جهة ، ومن جهة اخرى ففي السّلام سلامة كلّ شيء أعمّ من الدين والإيمان والجسم والروح وليس منحصرا بالراحة والرفاه والهدوء(٢) .

(وحول حكم التحية والسّلام وآدابها كان لدينا بحث مفصّل في نهاية الآية (٨٦) في سورة النساء).

* * *

__________________

(١) نور الثقلين ، ج ٥ ، حديث ٣٠.

(٢) في كتاب «بلوغ الإرب في معرفة أحوال العرب» جاء بحث مفصّل حول تحيّة العرب في الجاهلية وتفسير عبارة (أنعم صباحا) و (أنعم مساء) ، ج ٢ ، ص ١٩٢.

١٢٤

الآية

( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللهُ لَكُمْ وَإِذا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (١١) )

سبب النّزول

نقل العلّامة الطبرسي في مجمع البيان ، والآلوسي في روح المعاني ، وجمع آخر من المفسّرين ، أنّ هذه الآية نزلت يوم الجمعة وكان رسول الله يومئذ في (الصفّة) وكان يكرم أهل بدر من المهاجرين والأنصار ، فجاء ناس من أهل بدر.

قد سبقوا إلى المجالس ، فقاموا حيال رسول الله فقالوا : السّلام عليك أيّها النبي ورحمة الله وبركاته. فردّ النبي عليهم ، ثمّ سلّموا على القوم بعد ذلك فردّوا عليهم ، فقاموا على أرجلهم ينظرون أن يوسّع لهم ، فعرف النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما يحملهم على القيام ، فشقّ ذلك على النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقال لمن حوله من المهاجرين والأنصار من غير أهل بدر! قم يا فلان ، قم يا فلان ، فلم يزل يقيمهم بعدّة النفر الذين هم قيام بين

١٢٥

يديه من المهاجرين والأنصار ـ أهل بدر ـ فشقّ ذلك على من أقيم من مجلسه ، وعرف النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الكراهة في وجوههم ، فقال المنافقون : ألستم تزعمون أنّ صاحبكم هذا يعدل بين الناس؟ والله ما رأيناه قد عدل على هؤلاء! إنّ قوما أخذوا مجالسهم وأحبّوا القرب من نبيّهم ، فأقامهم وأجلس من أبطأ عنه فبلغنا أنّ رسول الله قال : «رحم الله رجلا يفسح لأخيه» فجعلوا يقومون بعد ذلك سراعا ، فيفسح القوم لإخوانهم ونزلت هذه الآية(١) .

التفسير

احترام أهل السابقة والإيمان :

تعقيبا على الموضوع الذي جاء في الرّوايات السابقة حول ترك (النجوى) في المجالس ، يتحدّث القرآن عن أدب آخر من آداب المجالس حيث يقول سبحانه :( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ فَافْسَحُوا ) (٢) ( يَفْسَحِ اللهُ لَكُمْ ) .

«تفسّحوا» من مادّة (فسح) على وزن قفل بمعنى المكان الواسع ، وبناء على هذا ، فإنّ التفسّح بمعنى التوسّع ، وهذه واحدة من آداب المجالس ، فحين يدخل شخص إلى المجلس فإنّ المرجو من الحاضرين أن يجلسوا بصورة يفسحوا بها مجالا له ، كي لا يبقى في حيرة وخجل ، وهذا الأدب أحد عوامل تقوية أواصر المحبّة والودّ على عكس النجوى التي أشير إليها في الآيات السابقة ، والتي هي أحد عوامل التفرقة والشحناء ، وإثارة الحساسيات والعداوة.

__________________

(١) تفسير روح المعاني ، ج ٢٨ ، ص ٢٥. ومجمع البيان ، ج ٩ ، ص ٢٥٢ ، ونقل مفسّرون آخرون نفس النصّ باختلاف قليل كالفخر الرازي والقرطبي والسيوطي في الدرّ المنثور وفي ظلال القرآن أيضا في نهاية الآية مورد البحث.

(٢) إنّ اختلاف التعبيرين ـ تفسّحوا وافسحوا ـ عن الآخر وهو أنّ أحدهما من تفعّل ، والآخر من الثلاثي المجرّد ، ويمكن أن يكون الفرق أنّ الأوّل له صفة التكلّف ، والآخر خال من هذه الصفة ، يعني كما لو قال قائل : افسحوا للشخص الذي يقدم توّا ، فإنّ الجالسين بدون أن يشعروا بالتكلّف يتفسّحون ، (يرجى ملاحظة ذلك).

١٢٦

والشيء الملاحظ أنّ القرآن الكريم ، الذي هو بمثابة دستور لجميع المسلمين لم يهمل حتّى هذه المسائل الجزئية الأخلاقية في الحياة الاجتماعية للمسلمين ، بل أشار إليها بما يناسبها ضمن التعليمات الأساسية ، حتّى لا يظنّ المسلمون أنّه يكفيهم الالتزام بالمبادئ الكليّة.

جملة( يَفْسَحِ اللهُ لَكُمْ ) فسّرها بعض المفسّرين بتوسّع المجالس في الجنّة ، وهو ثواب يعطيه الله تعالى للأشخاص الذين يراعون هذه الآداب في عالم الدنيا ، ويلتزمون بها ، وبلحاظ كون الآية مطلقة وليس فيها قيد أو شرط فإنّ لها مفهوما واسعا ، وتشمل كلّ سعة إلهيّة ، سواء كانت في الجنّة أو في الدنيا أو في الروح والفكر أو في العمر والحياة ، أو في المال والرزق ، ولا عجب من فضل الله تعالى أن يجازي على هذا العمل الصغير بمثل هذا الأجر الكبير ، لأنّ الأجر بقدر كرمه ولطفه لا بقدر أعمالنا.

وبما أنّ المجالس تكون مزدحمة أحيانا بحيث أنّه يتعذّر الدخول إلى المجلس في حالة عدم التفسّح أو القيام ، وإذا وجد مكان فإنّه غير متناسب مع مقام القادمين واستمرارا لهذا البحث يقول تعالى :( وَإِذا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا ) (١) أي إذا قيل لكم قوموا فقوموا.

ولا ينبغي أن تضجروا أو تسأموا من الوقوف ، لأنّ القادمين أحيانا يكونون أحوج إلى الجلوس من الجالسين في المجلس ، وذلك لشدّة التعب أو الكهولة أو للاحترام الخاصّ لهم ، وأسباب اخرى.

وهنا يجب أن يؤثّر الحاضرون على أنفسهم ويتقيّدوا بهذا الأدب الإسلامي ، كما مرّ بنا في سبب نزول الآية ، حيث كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد أمر المجموعة التي

__________________

(١) «انشزوا» من مادّة (نشز) على وزن (نصر) مأخوذة من معنى الأرض العالية ، لذلك استعمل بمعنى القيام ، و «المرأة الناشزة» تطلق على كلّ من تعتبر نفسها أعلى من أن تطيع أمر زوجها ، واستعمل هذا المصطلح أحيانا بمعنى الإحياء ، لأنّ هذا الأمر سبب للقيام من القبور.

١٢٧

كانت جالسة بالقرب منه بالتفسّح للقادمين الجدد لأنّهم كانوا من مجاهدي بدر ، وأفضل من الآخرين من ناحية العلم والفضيلة.

كما فسّر بعض المفسّرين (انشزوا) بمعناها المطلق وبمفهوم أوسع ، حيث تشمل أيضا القيام للجهاد والصلاة وأعمال الخير الاخرى ، إلّا أنّه من خلال التمعن والتدقيق في الجملة السابقة لها والتي فيها قيد «في المجالس» ، فالظاهر أنّ هذه الآية مقيّدة بهذا القيد ، فيمتنع إطلاقها بسبب وجود القرينة.

ثمّ يتطرّق سبحانه إلى الجزاء والأجر الذي يكون من نصيب المؤمنين إذا التزموا بالأمر الإلهي ، حيث يقولعزوجل :( يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ ) (١) .

وذلك إشارة إلى أنّ الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا أمر البعض بالقيام وإعطاء أماكنهم للقادمين ، فإنّه لهدف إلهي مقدّس ، واحتراما للسابقين في العلم والإيمان.

والتعبير بـ (درجات) بصورة نكرة وبصيغة الجمع ، إشارة إلى الدرجات العظيمة والعالية التي يعطيها الله لمثل هؤلاء الأشخاص ، الذين يتميّزون بالعمل والإيمان معا ، أو في الحقيقة أنّ الأشخاص الذين يتفسّحون للقادمين لهم درجة ، وأولئك الذين يؤثرون ويعطون أماكنهم ويتّصفون بالعلم والتقوى لهم درجات أعلى.

وبما أنّ البعض يؤدّي هذه التعليمات ويلتزم بهذه الآداب عن طيب نفس ورغبة ، والآخرون يؤدّونها عن كراهية أو للرياء. والتظاهر فيضيف تعالى في نهاية الآية :( وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ) .

* * *

__________________

(١) «يرفع» في الآية أعلاه مجزومة بسبب صيغة الأمر التي جاءت قبلها ، والتي في الحقيقة تعطي مفهوم الشرط ، ويرفع بمنزلة جزاء هذا الشرط.

١٢٨

بحثان

١ ـ مقام العلماء

بالرغم من أنّ الآية نزلت في مورد خاصّ ، إلّا أنّ لها مفهوما عامّا ، وبملاحظة أنّ ما يرفع مقام الإنسان عند الله شيئان : الإيمان ، والعلم. وبالرغم من أنّ «الشهيد» في الإسلام يتمتع بمقام سام جدّا ، إلّا أنّنا نقرأ حديثا للرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يبيّن لنا فيه مقام أهل العلم حيث قال : «فضل العالم على الشهيد درجة ، وفضل الشهيد على العابد درجة وفضل العالم على سائر الناس ، كفضلي ، على أدناهم»(١) .

وعن الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام نقرأ الحديث التالي : «من جاءته منيّته وهو يطلب العلم فبينه وبين الأنبياء درجة»(٢) .

ومعلوم أنّ الليالي المقمرة لها بهاء ونضرة ، خصوصا ليلة الرابع عشر من الشهر ، حيث يكتمل البدر ويزداد ضوؤه بحيث يؤثّر على ضوء النجوم هذا المعنى الظريف ورد في حديث عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حيث قال : «فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب»(٣) .

والطريف هنا أنّ العابد ينجز عبادته التي هي الهدف من خلق الإنسان ، ولكن بما أنّ روح العبادة هي المعرفة ، لذا فإنّ العالم مفضّل عليه بدرجات.

وما جاء حول أفضلية العالم على العابد في الروايات أعلاه يقصد منه بيان الفرق الكبير بين هذين الصنفين ، لذا ورد في حديث آخر حول الاختلاف بينهما بدلا من درجة واحدة مائة درجة ، والمسافة بين درجة واخرى بمقدار عدو الخيل في سبعين سنة(٤) .

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ٩ ، ص ٢٥٣.

(٢) المصدر السابق.

(٣) جوامع الجامع ، مطابق لنقل نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ٢٦٤ ، والقرطبي ، ج ٩ ، ص ٦٤٧٠.

(٤) المصدر السابق.

١٢٩

وواضح أيضا أنّ مقام الشفاعة لا يكون لأي شخص في يوم القيامة ، بل هي مقام المقرّبين في الحضرة الإلهية ، ولكن نقرأ في حديث للرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «يشفع يوم القيامة ثلاثة : الأنبياء ، ثمّ العلماء ، ثمّ الشهداء»(١) .

وفي الحقيقة أنّ الموفّقية في طريق التكامل وجلب رضا الله والقرب منه مرهون بعاملين أساسين هما : الإيمان والعلم ، أو الوعي والتقوى وكلّ منهما ملازم للآخر ، ولا تتحقّق الهداية بأحدهما دون الآخر.

٢ ـ آداب المجلس في القرآن الكريم

أشار القرآن الكريم مرّات عديدة إلى الآداب الإسلامية في المجالس ضمن المسائل الأساسية ، ومنها آداب التحيّة ، والدخول إلى المجلس ، وآداب الدعوة إلى الطعام. وآداب التكلّم مع الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وآداب التفسّح للأشخاص القادمين ، خصوصا ذوي الفضيلة والسابقين في العلم والإيمان(٢) .

وهذا يرينا بوضوح أنّ القرآن الكريم يرى لكلّ موضوع في محلّه أهميّة وقيمة خاصّة ، ولا يسمح لتساهل الأفراد وعدم اهتمامهم أن تؤدّي إلى الإخلال بالآداب الإنسانية للمعاشرة.

وقد نقلت في كتب الحديث مئات الروايات عن الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأئمّة الأطهارعليهم‌السلام حول آداب المعاشرة مع الآخرين. جمعها المحدّث الكبير الشيخ الحرّ العاملي في كتابه وسائل الشيعة ، ج ٨ ، حيث رتّبها في ١٦٦ بابا.

وملاحظة الجزئيّات الموجودة في هذه الروايات ترشدنا إلى مبلغ اهتمام الإسلام بالآداب الاجتماعية. حيث تتناول هذه الروايات حتّى طريقة الجلوس ،

__________________

(١) روح المعاني ، ج ٢٨ ، ص ٢٦ ، والقرطبي ، ج ٩ ، ص ٦٤٧٠.

(٢) جاءت هذه التعليمات من خلال التسلسل في الآيات التالية : آداب التحيّة والسّلام. النساء / ٨٦ ، آداب الدعوة إلى الطعام. الأحزاب / ٥٣ ، آداب التكلّم مع الرّسول. الحجرات / ٢ ، وآداب التفسّح. في الآيات مورد البحث.

١٣٠

وطريقة التكلّم والابتسامة والمزاح والإطعام ، وطريقة كتابة الرسائل ، بل حتّى طريقة النظر إلى الآخرين ، وقد حدّدت التعليمات المناسبة لكلّ منها ، والحديث المفصّل عن هذه الروايات يخرجنا عن البحث التّفسيري ، إلّا أنّنا نكتفي بحديث واحد عن الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام حيث يقول : «ليجتمع في قلبك الافتقار إلى الناس ، والاستغناء عنهم ، فيكون افتقارك إليهم في لين كلامك وحسن سيرتك ، ويكون استغناؤك عنهم في نزاهة عرضك وبقاء عزّك»(١) .

* * *

__________________

(١) وسائل الشيعة ، ج ٨ ، ص ٤٠١.

١٣١

الآيتان

( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٢) أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتابَ اللهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (١٣) )

سبب النّزول

نقل العلّامة الطبرسي في مجمع البيان وكذلك جمع آخر من المفسّرين أنّ هذه الآية أنزلت في الأغنياء ، وذلك أنّهم كانوا يأتون النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيكثرون مناجاته ـ وهذا العمل بالإضافة إلى أنّه يشغل الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويأخذ من وقته فإنّه كان يسبّب عدم ارتياح المستضعفين منه ، وحيث يشعرهم بامتياز الأغنياء عليهم ـ فأمر سبحانه بـ (الصدقة) عند المناجاة ، فلمّا رأوا ذلك انتهوا عن مناجاته ، فنزلت آية الرخصة التي لامت الأغنياء ونسخت حكم الآية الاولى وسمح للجميع بالمناجاة ،

١٣٢

حيث أنّ النجوى هنا حول عمل الخير وطاعة المعبود(١) .

وصرّح بعض المفسّرين أيضا أنّ هدف البعض من «النجوى» هو الاستعلاء على الآخرين بهذا الأسلوب. وبالرغم من أنّ الرّسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان غير مرتاح لهذا الأسلوب ، إلّا أنّه لم يمنع منه ، حتّى نهاهم القرآن من ذلك(٢) .

التّفسير

الصدقة قبل النجوى (اختبار رائع):

في قسم من الآيات السابقة كان البحث حول موضوع النجوى ، وفي الآيات مورد البحث استمرارا وتكملة لهذا المطلب.

يقول سبحانه :( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً ) وكما ذكرنا في سبب نزول هذه الآيات ، فإنّ بعض الناس وخاصّة الأغنياء منهم كانوا يزاحمون الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم باستمرار ويتناجون معه ولمّا كان هذا العمل يسبّب إزعاجا للرسول بالإضافة إلى كونه هدرا لوقته الثمين ، وفيه ما يشعر بالخصوصية لهؤلاء الذين يناجونه بدون مبرّر لذا نزل الحكم أعلاه ، وكان امتحانا لهم ، ومساعدة للفقراء ، ووسيلة مؤثّرة للحدّ من مضايقة هؤلاء لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

ثمّ يضيف بقوله تعالى :( ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ ) .

أمّا كون الصدقة «خير» فإنّها كانت للأغنياء موضع أجر وللفقراء مورد مساعدة ، وأمّا كونها (أطهر) فلأنّها تغسل قلوب الأغنياء من حبّ المال ، وقلوب الفقراء من الغلّ والحقد ، لأنّه عند ما تكون النجوى مقرونة بالصدقة تكون دائرتها أضيق ممّا كانت عليه في الحالة المجانية ، وبالتالي فإنّها نوع من التصحيح

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ٩ ، ص ٢٥٢ ، وكثير من التفاسير الأخرى نهاية الآيات مورد البحث.

(٢) روح المعاني ، ج ٢٨ ، ص ٢٧.

١٣٣

والتهذيب الفكري والاجتماعي للمسلمين.

ولكن لو كان التصدّق قبل النجوى واجبا على الجميع ، فإنّ الفقراء عندئذ سيحرمون من طرح المسائل المهمّة كاحتياجاتهم ومشاكلهم أمام الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلذا جاء في ذيل الآية إسقاط هذا الحكم عن المجموعة المستضعفة ممّا مكّنهم من مناجاة الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والتحدّث معه( فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) .

وبهذه الصورة فإنّ دفع الصدقة قبل النجوى كان واجبا على الأغنياء دون غيرهم.

والطريف هنا أنّ للحكم أعلاه تأثيرا عجيبا وامتحانا رائعا أفرزه على صعيد الواقع من قبل المسلمين في ذلك الوقت ، حيث امتنع الجميع من إعطاء الصدقة إلّا شخص واحد ، ذلك هو الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام ، وهنا اتّضح ما كان يجب أن يتّضح ، وأخذ المسلمون درسا في ذلك ، لذا نزلت الآية اللاحقة ونسخت الحكم حيث يقول سبحانه :( أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ ) .

حيث اتّضح أنّ حبّ المال كان في قلوبكم أحبّ من نجواكم للرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واتّضح أيضا أنّ هذه النجوى لم تكن تطرح فيها مسائل أساسية ، وإلّا فما المانع من أن تقدّم هذه المجموعة صدقة قبل النجوى ، خاصّة أنّ الآية لم تحدّد مقدار الصدقة فبإمكانهم دفع مبلغ زهيد من المال لحلّ هذه المشكلة!!

ثمّ يضيف تعالى :( فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتابَ اللهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ ) .

ويعكس لنا التعبير بـ (التوبة) أنّهم في نجواهم السابقة كانوا قد ارتكبوا ذنوبا ، سواء في التظاهر والرياء ، أو أذى الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو أذى المؤمنين الفقراء.

وبالرغم من عدم التصريح بجواز النجوى في هذه الآية بعد هذا الحادث ، إلّا أنّ تعبير الآية يوضّح لنا أنّ الحكم السابق قد رفع.

أمّا الدعوة لإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وإطاعة الله ورسوله فقد أكّد عليها

١٣٤

بسبب أهميّتها ، وكذلك هي إشارة إلى أنّه إذا تناجيتم فيما بعد فيجب أن تكون في خدمة الأهداف الإسلامية الكبرى وفي طريق طاعة الله ورسوله.

* * *

بحوث

١ ـ الملتزم الوحيد بآية الصدقة قبل النجوى

إنّ الشخص الوحيد الذي نفّذ آية الصدقة في النجوى ـ كما في أغلب كتب مفسّري الشيعة وأهل السنّة ـ وعمل بهذه الآية هو الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام ، كما ينقل ذلك الطبرسي في رواية عنهعليه‌السلام أنّه قال : «آية من كتاب الله لم يعمل بها أحد قبل ولم يعمل بها أحد بعدي ، كان لي دينار فصرفته بعشرة دراهم ، فكنت إذا جئت إلى النبي تصدّقت بدرهم»(١) .

كما نقل هذا المضمون «الشوكاني» عن «عبد الرّزاق» و «ابن المنذر» و «ابن أبي حاتم» و «ابن مردويه»(٢) .

ونقل «الفخر الرازي» هذا الحديث أيضا عن بعض المحدّثين عن ابن عبّاس والعامل الوحيد بمضمون الآية هو الإمام عليعليه‌السلام (٣) .

وجاءت في الدرّ المنثور ـ أيضا ـ روايات متعدّدة بهذا الصدد ، في نهاية تفسير الآيات أعلاه(٤) .

وفي تفسير روح البيان نقل عن عبد الله بن عمر بن الخطاب أنّه قال : «كان لعلي ثلاثة! لو كانت فيّ واحدة منهنّ لكانت أحبّ إليّ من حمر النعم : تزويجه

__________________

(١) تفسير الطبري ، ج ٢٨ ، ص ١٥.

(٢) (البيان في تفسير القرآن) ، ج ١ ، ص ٣٧٥ ، ونقل سيّد قطب أيضا هذه الرواية في ظلال القرآن ، ج ٨ ، ص ٢١.

(٣) تفسير الفخر الرازي ، ج ٢٩ ، ص ٢٧١.

(٤) تفسير الدرّ المنثور ، ج ٦ ، ص ١٨٥.

١٣٥

فاطمة ، وإعطاؤه الراية يوم خيبر وآية النجوى»(١) .

إنّ ثبوت هذه الفضيلة العظيمة للإمام عليعليه‌السلام قد جاء في أغلب كتب التّفسير ، وهي مشهورة بحيث لا حاجة لشرحها أكثر.

٢ ـ فلسفة تشريع ونسخ حكم الصدقة

لما ذا كانت الصدقة قبل النجوى مع الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تشريعية؟ ثمّ لما ذا نسخت بعد فترة وجيزة؟

يمكن الإجابة على هذا التساؤل ـ بصورة جيّدة ـ من خلال القرائن الموجودة في الآية محلّ البحث ومن سبب النزول كذلك.

الهدف هو اختبار الأفراد المدّعين الذين يتظاهرون بحبّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بهذه الوسيلة ، فاتّضح أنّ إظهار الحبّ هذا إنّما يكون إذا كانت النجوى مجانية ، ولكن عند ما أصبحت النجوى مقترنة بدفع مقدار من المال تركوا نجواهم.

ومضافا إلى ذلك فإنّ هذا الحكم قد ترك تأثيره على المسلمين ، ووضّح حقيقة عدم إشغال وقت الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكذلك القادة الإسلاميين الكبار في النجوى ، إلّا لضرورات العمل الأساسية ، لأنّ ذلك تضييعا للوقت وجلبا لسخط الناس وعدم رضاهم. فكان هذا التشريع في الحقيقة تقنينا للنجوى المستقبلة.

وبناء على هذا فالحكم المذكور كان في البداية مؤقتا ، وبعد ما تحقّق المطلوب نسخ ، لأنّ استمراره سيثير مشكلة ، لأنّ هناك بعض المسائل الضرورية التي تستدعي أن يطّلع عليها النبي على انفراد. ومع بقاء حكم الصدقة فقد تهمل بعض المسائل الضرورية ، وبصورة عامّة ففي موارد النسخ يكون للحكم منذ

__________________

(١) تفسير روح البيان ، ج ٦ ، ص ٤٠٦ ، كما نقل هذا الحديث الطبرسي في مجمع البيان ، والزمخشري في الكشّاف ، والقرطبي في تفسير الجامع وذلك في نهاية الآيات مورد البحث.

١٣٦

البداية جانب محدود ومؤقت بالرغم من أنّ الناس أحيانا لا يعلمون بذلك ويتصوّرونه بصورة دائمة.

٣ ـ هل الالتزام بالصدقة فضيلة؟

ممّا لا شكّ فيه أنّ الإمام عليعليه‌السلام لم يكن من طائفة الأغنياء من أصحاب الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حيث البساطة في حياته وزهده في عيشه ، ومع هذا الحال واحتراما للحكم الإلهي ، تصدّق في تلك الفترة القصيرة ـ ولمرّات عديدة ، وناجى الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهذه المسألة واضحة ومسلّمة بين المفسّرين وأصحاب الحديث كما أسلفنا.

إلّا أنّ البعض ـ مع قبول هذا الموضوع ـ يصرّون على عدم اعتبار ذلك فضيلة وحجّتهم في ذلك أنّ كبار الصحابة عند ما أحجموا عن هذا العمل فذلك لأنّهم لم تكن لهم حاجة عند رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أو لم يكن لديهم وقت كاف ، أو أنّهم كانوا يفكّرون بعدم إحراج الفقراء وبناء على هذا فإنّها لا تحسب فضيلة للإمام علي ، أو أنّها لا تسلب فضيلة من الآخرين(١) .

ويبدو أنّهم لم يدقّقوا في متن الآية التالية حيث يقول سبحانه موبّخا :( أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ ) حتّى أنّه سبحانه يعبّر في نهاية الآية بالتوبة ، والتي ظاهرها دالّ على هذا المعنى ، ويتّضح من هذا التعبير أنّ الإقدام على الصدقة والنجوى مع الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كانت عملا حسنا ، وإلّا فلا ملامة ولا توبة.

وبدون شكّ فإنّ قسما من أصحاب الرّسول المعروفين قبل هذا الحادث كانت لهم نجوى مع الرّسول (لأنّ الأفراد العاديين والبعيدين قلّما احتاجوا إلى

__________________

(١) الفخر الرازي وروح البيان نهاية الآيات مورد البحث.

١٣٧

مناجاة الرّسول).

إلّا أنّ هؤلاء الصحابة المعروفين بعد حكم الصدقة ، امتنعوا من النجوى ، والشخص الوحيد الذي احترم ونفّذ هذا الحكم هو الإمام عليعليه‌السلام .

وإذا قبلنا ظاهر الآيات والروايات التي نقلت في هذا المجال وفي الكتب الإسلامية المختلفة ولم نقم أهميّة للاحتمالات الضعيفة الواهية فلا بدّ أن نضمّ صوتنا إلى صوت عبد الله بن عمر بن الخطاب الذي جعل هذه الفضيلة بمنزلة تزويج فاطمة ، وإعطاء الراية يوم فتح خيبر ، وأغلى من حمر النعم.

٤ ـ مدّة الحكم ومقدار الصدقة :

وحول مدّة الحكم بوجوب الصدقة قبل النجوى مع الرّسول توجد أقوال مختلفة ، فقد ذكر البعض أنّها ساعة واحدة ، وقال آخرون : إنّها ليلة واحدة ، وذكر البعض أنّها عشرة أيّام ، إلّا أنّ الأقوى هو القول الثالث ، لأنّ الساعة والليلة لا تكفي أبدا لمثل هذا الامتحان ، لأنّ بالإمكان الاعتذار في هذه المدّة القصيرة عن عدم وجود حاجة للنجوى ، إلّا أنّ مدّة عشرة أيّام تستطيع أن توضّح الحقائق وتهيء أرضية للوم المتخلّفين.

أمّا مقدار الصدقة فإنّها لم تذكر في الآية ولا في الروايات الإسلامية ، ولكن المستفاد من عمل الإمام عليعليه‌السلام هو كفاية الدرهم الواحد في ذلك.

* * *

١٣٨

الآيات

( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ ما هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (١٤) أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٥) اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ فَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (١٦) لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (١٧) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ (١٨) اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ فَأَنْساهُمْ ذِكْرَ اللهِ أُولئِكَ حِزْبُ الشَّيْطانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ (١٩) )

١٣٩

التّفسير

حزب الشيطان :

هذه الآيات تفضح قسما من تآمر المنافقين وتعرض صفاتهم للمسلمين ، وذكرها بعد آيات النجوى يوضّح لنا أنّ قسما ممّن ناجوا الرّسول كانوا من المنافقين ، حيث كانوا بهذا العمل يظهرون قربهم للرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويتستّرون على مؤامراتهم ، وهذا ما سبّب أن يتعامل القرآن مع هذه الحالة بصورة عامّة.

يقول تعالى في البداية :( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ ) .

هؤلاء القوم الذين «غضب الله عليهم» كانوا من اليهود ظاهرا كما عرّفتهم الآية (٦٠) من سورة المائدة بهذا العنوان حيث يقول تعالى :( قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللهِ مَنْ لَعَنَهُ اللهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ ) (١) .

مّ يضيف تعالى :( ما هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ ) فهم ليسوا أعوانكم في المصاعب والمشاكل ، ولا أصدقاءكم وممّن يكنون لكم الودّ والإخلاص ، إنّهم منافقون يغيّرون وجوههم كلّ يوم ويظهرون كلّ لحظة لكم بصورة جديدة.

وطبيعي أنّ هذا التعبير لا يتنافى مع قوله تعالى :( وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ ) (٢) ، لأنّ المقصود هناك أنّهم بحكم أعدائكم ، بالرغم من أنّهم في الحقيقة ليسوا منهم.

ويضيف ـ أيضا ـ واستمرارا لهذا الحديث أنّ هؤلاء ومن أجل إثبات وفاءهم لكم فإنّهم يقسمون بالأيمان المغلّظة :( وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ) .

وهذه طريقة المنافقين ، فيقومون بتغطية أعمالهم المنفّرة ووجوههم القبيحة بواسطة الأيمان الكاذبة والحلف الباطل ، في الوقت الذي تكون أعمالهم خير كاشف لحقيقتهم.

__________________

(١) المائدة ، الآية ٦٠.

(٢) المائدة ، الآية ٥١.

١٤٠

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

الآية

( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ )

( سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (١) )

التّفسير

معراج النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

الآية الأولى في سورة الإسراء تتحدّث عن إسراء النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أي سفره ليلا من المسجد الحرام في مكّة المكرمة إلى المسجد الأقصى (في القدس الشريف).

وقد كان هذا السفر «الإسراء» مقدمة لمعراجهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى السماء. وقد لو حظ في هذا السفر أنّه تمّ في زمن قياسي حيث أنّه لم يستغرق سوى ليلة واحدة بالنسبة إلى وسائل نقل ذلك الزمن ولهذا كان أمرا اعجازيا وخارقا للعادة.

السّورة المباركة تبدأ بالقول :( سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى ) .

وقد كان القصد من هذا السفر الليلي الإعجازي هو( لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا ) .

ثمّ ختمت الآية بالقول :( إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ) . وهذه إشارة إلى أنّ الله

٣٨١

تبارك وتعالى لم يختر رسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولم يصطفه لشرف الإسراء والمعراج إلا بعد أن اختبر استعدادهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لهذا الشرف ولياقته لهذا المقام ، فالله تبارك وتعالى سمع قول رسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ورأى عمله وسلوكه فاصطفاه للمقام السامي الذي اختاره له في الإسراء والمعراج.

واحتمل بعض المفسّرين في قوله تعالى :( إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ) أن يكون تهديدا لمنكري هذا الإعجاز ، وأنّ الله تبارك وتعالى محيط بما يقولون وبما يفعلون ، وبما يمكرون!

وبالرغم من أنّ هذه الآية تنطوي على اختصار شديد ، إلّا أنّها تكشف عن مواصفات هذا السفر الليلي «الإسراء» الإعجازي من خلال ما ترسمه له من أفق عام يمكن تفصيله بالشكل الآتي :

أوّلا : إنّ تعبير «أسرى» في الآية يشير إلى وقوع السفر ليلا ، لأنّ «الإسراء» في لغة العرب يستخدم للدلالة على السفر الليلي ، فيما يطلق على السفر النهاري كلمة «سير».

ثانيا : بالرغم من أنّ كلمة «ليلا» جاءت في الآية تأكيدا لكلمة «أسرى» إلّا أنّها تريد أن تبيّن أن سفر الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد تمّ في ليلة واحدة فقط على الرغم من أنّ المسافة بين المسجد الحرام وبيت المقدس تقدّر بأكثر من مائة فرسخ ، وبشروط مواصلات ذلك الزمان ، كان إنجاز هذا السفر يتطلب أيّاما بل وأسابيع ، لا أن يقع في ليلة واحدة فقط!

ثالثا : إذا كان مقام العبودية هو أسمى مقام يبلغه الإنسان في حياته ، فإنّ الآية قد كرّمت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بإطلاق وصف العبودية عليه ، فقالت «عبده» للدلالة على مراقي الطاعة والعبودية التي قطعها الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لله تبارك وتعالى حتى استحق شرف «الإسراء» حيث لم يسجد جبين رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لشيء سوى الله ، ولم يطعصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما عداه ، وقد بذل كل وسعه ، وخطا كل خطوة في سبيل مرضاته

٣٨٢

تعالى.

رابعا : تفيد كلمة «عبد» في الآية ، أنّ سفر الإسراء قد وقع في اليقظة ، وأنّ رسول الله سافر بجسمه وروحه معا ، وأنّ الإسراء لم يكن سفرا روحانيا معنويا وحسب ، لأنّ الإسراء إذا كان بالروح ـ وحسب ـ فهو لا يعدو أن يكون رؤيا في المنام ، أو أي وضع شبيه بهذه الحالة ، ولكن كلمة «عبد» في الآية تدلّل على أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد سافر بجسمه وروحه ، لأنّ «عبد» معنى يطلق على الروح والجسد معا.

أمّا الأشخاص الذين لا يستطيعون هضم معجزة الإسراء والمعراج ، ولم تستطع عقولهم أن تتعامل مع هذه المعجزة كما هي ، فقد عمدوا إلى توجيهها بعنوان الإسراء الروحي في حين أنّه لو قال شخص لآخر : إني نقلتك إلى المكان الفلاني فإنّ المفهوم الصريح للمعنى لا يمكن تأويله باحتمال أنّ هذا الأمر قد تمّ في حالة النوم ، أو أنّه تعبير عن حالة معنوية تمتزج بأبعاد من الوهم والتخيّل.

خامسا : لقد كان مبتدأ هذا السفر (الذي كان مقدمة للمعراج كما سنثبت ذلك في محلّه) هو المسجد الحرام في مكّة المكرمة ، ومنتهاه المسجد الأقصى في القدس الشريف.

بالطبع هناك كلام كثير للمفسّرين عن المكان الدقيق الذي انطلق منه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وفيما إذا كان هذا المكان بيت أحد أقربائه (باعتبار أنّ المسجد الحرام قد يطلق أحيانا ومن باب التعظيم على مكّة المكرمة بأجمعها) أو أنّه انطلق من جوار الكعبة ، ولكن ظاهر الآية بلا شك يفيد أنّ المنطلق في سفر الإسراء كان من المسجد الحرام.

سادسا : لقد كان الهدف من هذا السفر الإعجازي أن يشاهد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم آيات العظمة الإلهية ، وقد استمرّ سفر الإسراء إلى المعراج صعودا في السماوات لتحقيق هذا الغرض ، وهو أن تمتلئ روح رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أكثر بدلائل العظمة

٣٨٣

الرّبانية ، وآيات الله في السماوات ، ولتجد روحه السامية في هذه الآيات زخما إضافيا يوظّفهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في هداية الناس إلى ربّ السماوات والأرض!

وبذلك فإنّ سفر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في رحلة الإسراء والمعراج لم يكن ـ كما يتصوّر البعض ذلك ـ بهدف رؤية الله تبارك وتعالى ـ ظنّا منهم أنّه تعالى يشغل مكانا في السماوات!!!

وبالرغم من أنّ الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان عارفا بعظمة الله سبحانه ، وكان عارفا أيضا بعظمة خلقه ، ولكن «متى كان السماع كالرؤية؟!».

ونقرأ في سورة (النّجم التي تلت سورة الإسراء وتحدثت عن المعراج قوله تعالى :( لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى ) .

سابعا : إنّ تعبير الآية( بارَكْنا حَوْلَهُ ) تفيد بأنّه علاوة على قدسية المسجد الأقصى ، فإنّ أطرافه أيضا تمتاز بالبركة والأفضلية على ما سواها. ويمكن أن يكون مراد الآية البركة الظاهرية المتمثلة بها تهبه هذه الأرض الخصبة الخضراء من مزايا العمران والأنهار والزراعة.

ويمكن أن تحمل البركة على قواعد الفهم المعنوي فتشير حين ذاك إلى ما تمثّله هذه الأرض في طول التأريخ ، من كونها مركزا للنبوات الإلهية ، ومنطلقا لنور التوحيد ، وأرضا خصبة للدعوة إلى عبودية الله.

ثامنا : إنّ تعبير( إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ) إشارة إلى أنّ إكرام الله لرسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بمعجزة الإسراء والمعراج لم يكن أمرا عفويا عابرا ، بل هو بسبب استعدادات رسول الهدىصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقابلياته العظيمة التي تجلت في أقواله وأفعاله ، هذه الأقوال والأفعال التي يعرفها الله ويحيط بها.

تاسعا : إنّ كلمة «سبحان» إشارة إلى أنّ سفر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الإسراء والمعراج دليل آخر على تنزيه الله تبارك وتعالى من كل عيب ونقص.

عاشرا : كلمة «من» في قوله تعالى :( مِنْ آياتِنا ) إشارة إلى عظمة آيات الله

٣٨٤

بحيث أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ على علو مقامه واستعداده الكبير ـ لم ير من هذه الآيات خلال سفره الإعجازي سوى جزء معين منها.

المعراج :

من المعروف والمشهور بين علماء الإسلام أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عند ما كان في مكّة! أسرى به الله تبارك وتعالى بقدرته من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى ، ومن هناك صعد به إلى السماء «المعراج» ليرى آثار العظمة الرّبانية وآيات الله الكبرى في فضاء السماوات ، ثمّ عادصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في نفس الليلة إلى مكّة المكرمة.

والمعروف المشهور أيضا أنّ سفر الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الإسراء والمعراج قد تمّ بجسم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وروحه معا.

ولكن العجيب ما يحاوله البعض من توجيه معراج الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالمعراج الروحي والذي هو حالة شبيهة بالنوم أو «المكاشفة الروحية» ولكن هذا التوجيه ـ كما أشرنا ـ لا ينسجم إطلاقا مع ظواهر الآيات ، بل هو مخالف لها ، إذ يدل الظاهر على أنّ القضية تمت بشكل جسمي حسي.

في كل الأحوال تبقى هناك مجموعة أسئلة تثار حول قضية المعراج يمكن أن نلخصها بالشكل الآتي :

١ ـ كيفية المعراج من وجهة نظر القرآن والتأريخ والحديث.

٢ ـ آراء علماء الإسلام شيعة وسنة حول هذه القضية.

٣ ـ الهدف من المعراج.

٤ ـ إمكانية المعراج من وجهة نظر العلوم المعاصرة.

بالرغم من أنّ الإجابة المفصّلة على هذه الأسئلة هي خارج نطاق بحثنا التّفسيري ، إلّا أننا سنعالج هذه النقاط باختصار يناسب ذوق القارئ الكريم. إن

٣٨٥

شاء الله :

المعراج في القرآن والحديث :

في كتاب الله سورتان تتحدثان عن المعراج :

السورة الأولى هي سورة «الإسراء» التي نحن الآن بصددها ، وقد أشارت إلى القسم الأوّل من سفر الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (أي أشارت لإسرائهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى) وقد استتبع الإسراء بالمعراج.

السورة الثّانية التي أشارت للمعراج هي سورة «النجم» التي تحدثت عنه في ست آيات هي :( وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى ) .

هذه الآيات تفيد حسب أقوال المفسّرين أنّ الإسراء والمعراج تمّا في حالة اليقظة ، وإنّ قوله تعالى :( ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى ) هو إثبات آخر لصحة هذا القول.

في الكتب الإسلامية المعروفة هناك عدد كبير جدّا من الأحاديث والرّوايات التي جاءت حول قضية المعراج ، حتى أنّ الكثير من علماء الإسلام يذهب إلى «تواتر» حديث المعراج أو اشتهاره ، وعلى سبيل المثال نعرض للنماذج الآتية :

يقول الشيخ «الطوسي» في تفسير (التبيان) ما نصّه : «إنّه عرج به في تلك الليلة إلى السماوات حتى بلغ سدرة المنتهى في السماء السابعة ، وأراه الله من آيات السماوات والأرض ما ازداد به معرفة ويقينا ، وكان ذلك في يقظتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دون منامه»(١) .

أمّا العلّامة «الطبرسي» في تفسيره المعروف «مجمع البيان» فيقول : «وما

__________________

(١) تفسير «التبيان» ، للشيخ الطوسي ، المجلد السادس ، ص ٤٤٦.

٣٨٦

قاله بعضهم أنّ ذلك كان في النوم فظاهر البطلان إذ لا معجز يكون فيه ولا برهان ، وقد وردت روايات كثيرة في قصّة المعراج ، في عروج نبيّناصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى السماء ، ورواها كثير من الصحابة [إذ أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ] صلّى المغرب في المسجد الحرام ثمّ أسري به في ليلته ثمّ رجع فصلّى الصبح في المسجد الحرام. وقال الأكثرون وهو الظاهر من مذاهب أصحابنا والمشهور في أخبارهم ، أنّ الله تعالى صعد بجسمه إلى السماء حيا سليما حتى رأى ما رأى من ملكوت السماوات بعينه ، ولم يكن ذلك في المنام»(١) .

أمّا العلّامة «المجلسي» فيقول في (بحار الأنوار) ما نصه : «أعلم أنّ عروجهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى بيت المقدس ثمّ إلى السماء في ليلة واحدة بجسده الشريف ، ممّا دلّت عليه الآيات والأخبار المتواترة من طرق الخاصّة والعامّة ، وإنكار أمثال ذلك أو تأويلها بالعروج الروحاني أو بكونه في المنام ينشأ إمّا من قلّة التتبع في آثار الأئمّة الطاهرين أو من ضعف اليقين»(٢) .

ثمّ يردف العلّامة المجلسي قائلا : «لو أردت استيفاء الأخبار الواردة في هذا الباب لصار مجلدا كبيرا»(٣) .

ومن علماء السنة قام منصور علي ناصف الأزهري المعاصر بجمع أحاديث المعراج في كتابه المعروف باسم «التاج».

أمّا الفخر الرازي ـ المفسّر الإسلامي المعروف ـ فيقول بعد ذكره لسلسلة من الاستدلالات على إمكان الوقوع العقلي للمعراج ، ما يلي : «من وجهة نظر الحديث تعتبر أحاديث المعراج من الرّوايات المشهورة في صحاح أهل السنّة ، ومفاد هذه الأحاديث إسراء الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من مكّة إلى بيت المقدس ، وعروجه من بيت

__________________

(١) مجمع البيان ، المجلد الثالث ، ص ٣٩٥.

(٢) بحار الأنوار ، الطبعة الحديثة المجلد ١٨ ، ص ٢٨٩.

(٣) المصدر السابق ، ص ٢٩١.

٣٨٧

المقدس إلى السماء».

أمّا الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز وهو من متعصبي علماء الوهابية والذي يشغل الآن منصب رئيس إدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد ، فيقول في كتابه «التحذير من البدع» : «ليس من شك في أنّ الإسراء والمعراج هي من العلامات الكبيرة على صدق النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعلو مقامه ومنزلته» إلى أن يقول : «نقلت أخبار متواترة عن الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأنّ الله تبارك وتعالى أخذ الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وفتح له أبواب السماء»(١) .

ولكن ينبغي أن نلاحظ هنا أن من بين الرّوايات الواردة في قضية المعراج ثمّة أحاديث ضعيفة ومجعولة لا يمكن القبول بها مطلقا.

لذلك نرى أن المفسّر الإسلامي الكبير ، الشيخ الطبرسي عمد في ذيل تفسير هذه الآية مورد البحث إلى تقسيم الأحاديث الواردة في المعراج إلى أربع فئات هي :

١ ـ ما يقطع بصحته لتواتر الأخبار به وإحاطة العلم بصحته ، ومثله أنّه أسري به على الجملة.

٢ ـ ما ورد في ذلك ممّا تجوزه العقول ولا تأباه الأصول ، فنحن نجوزه ثمّ نقطع على أنّ ذلك كان في يقظته دون منامه ، ومثله ما شاهده من آيات ربّه في السماوات.

٣ ـ ما يكون ظاهره مخالفا لبعض الأصول إلّا أنّه يمكن تأويلها على وجه يوافق المعقول ، نحو ما روي أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رأى قوما في الجنّة يتنعمون فيها ، وقوما في النّار يعذبون فيها ، فهو يحمل على أنّه رأى صفتهم أو أسماءهم.

٤ ـ ما لا يصح ظاهره ولا يمكن تأويله إلّا على التعسف البعيد فالأولى أن لا

__________________

(١) التخذير من البدع ، ص ٧.

٣٨٨

نقبله ، نحو ما قيل من أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كلّم الله سبحانه جهرة ، ورآه وقعد معه على سريره ممّا يوجب ظاهره التشبيه والله سبحانه وتعالى يتقدّس عن ذلك(١) .

هناك أيضا اختلافات بين المؤرخين المسلمين حول تاريخ وقوع المعراج ، إذ يقول البعض : أنّه حصل في السنة العاشرة للبعثة في ليلة السابع والعشرين من شهر رجب ، والبعض يقول : إنّه عرج بهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في (١٧) رمضان من السنة الثّانية عشرة للبعثة المباركة. وبعض ثالث قال : إنّ المعراج وقع في أوائل البعثة.

ولكن في كل الأحوال ، فإنّ الاختلاف في تأريخ وقوع المعراج لا ينفي أصل الحادثة.

من المفيد أيضا أن نذكر أنّ عقيدة المعراج لا تقتصر على المسلمين ، بل هناك ما يشابهها في الأديان الأخرى ، بل إنا نرى في المسيحية أكثر ممّا قيل في معراج النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، إذ يقول أولئك كما في الباب السّادس من إنجيل «مرقس» والباب (٢٤) من إنجيل «لوقا» والباب (٢١) من إنجيل (يوحنّا) أن عيسى بعد أن صلب وقتل ودفن نهض من مدفنه وعاش بين الناس أربعين يوما قبل أن يعرج إلى السماء ليبقى هناك في عروج دائم! ونستفيد من مؤدّى بعض الرّوايات أنّ بعض الأنبياء السابقين عرج بهم إلى السماء أيضا.

هل كان المعراج جسديا أم روحيا؟

إن ظاهر الآيات القرآنية الواردة في أوائل سورة الإسراء ، وكذلك سورة النجم (كما فصلنا أعلاه) تدلل على وقوع المعراج في اليقظة ، ويؤكّد هذا الأمر كبار علماء الإسلام من الشيعة والسنة.

وتشهد التواريخ الإسلامية أيضا على صدق هذا الموضوع ، ونقرأ في التأريخ

__________________

(١) مجمع البيان ، المجلد الثالث ، ص ٣٩٥.

٣٨٩

أن المشركين أنكروا بشدّة قضية المعراج عند ما تحدث بها الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأخذوها عليه ذريعة للاستهزاء به ، ممّا يدل بوضوح على أنّ الرّسول لم يدّع الرؤية أو المكاشفة الروحية أبدا، وإلّا لما استتبع القضية كل هذا الضجيج.

أمّا ما ورد عن الحسن البصري أنّه (كان في المنام رؤيا رآها) أو عن عائشة أنّه : (والله ما فقد جسد رسول الله ولكن عرج بروحه) ، فيبدو أنّ لذلك منظور سياسي ، لإخماد الضجّة التي أثيرت حول قضية المعراج.

هدف المعراج :

اتّضح لنا من خلال البحوث الماضية ، أنّ هدف المعراج لم يكن تجوالا للرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في السماوات للقاء الله كما يعتقد السذج ، وكما نقل بعض العلماء الغربيين ـ ومع الأسف ـ لجهلهم أو لمحاولتهم تحريف الإسلام أمام الآخرين ، ومنهم (غيور غيف) الذي يقول في كتاب (محمد رسول ينبغي معرفته من جديد ، ص ١٢٠) ، (بلغ محمد في سفر معراجه إلى مكان كان يسمع فيه صوت قلم الله ، ويفهم أنّ الله منهمك في تدوين حساب البشر! ومع أنّه كان يسمع صوت قلم الله إلّا أنّه لم يكن يراه! لأنّ أحدا لا يستطيع رؤية الله وإن كان رسولا).

وهذا يظهر أن القلم كان من النوع الخشبي! الذي يهتز ويولد أصواتا عند حركته على الورق!! وأمثال هذه الخرافات والأوهام.

كلا. فالهدف كان مشاهدة الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأسرار العظمة الإلهية في أرجاء عالم الوجود ، لا سيما العالم العلوي الذي يشكل مجموعة من براهين عظمته ، وتتغذى بها روحه الكريمة وتحصل على نظرة وإدراك جديدين لهداية البشرية وقيادتها.

ويتّضح هذا الهدف بشكل صريح في الآية الأولى من سورة الإسراء ، والآية (١٨) من سورة النجم.

٣٩٠

وهناك رواية أيضا منقولة عن الإمام الصادقعليه‌السلام في جوابه على سبب المعراج. أنّه قالعليه‌السلام : «إنّ الله لا يوصف بمكان ، ولا يجري عليه زمان ، ولكنّهعزوجل أراد أن يشرف به ملائكته وسكان سماواته ، ويكرمهم بمشاهدته ، ويريه من عجائب عظمته ما يخبر به بعد هبوطه»(١) .

المعراج والعلوم العصرية :

كان بعض الفلاسفة القدماء يعتقد بنظرية «الأفلاك البطليموسية التسعة» والتي تكون على شكل طبقات البصل في إحاطتها بالأرض ، لذلك فقد أنكر المعراج بمزاعم علمية تقوم على أساس الإيمان بنظرية الهيئة البطليموسية والتي بموجبها يلزم خرق هذه الأفلاك ومن ثمّ التئامها ليكون المعراج ممكنا(٢) .

ولكن مع انهيار قواعد نظرية الهيئة البطليموسية أصبحت شبهة خرق والتئام الأفلاك في خبر كان ، وضمتها يد النسيان ، ولكن التطوّر المعاصر في علم الأفلاك أدّى إلى إثارة مجموعة من الشبهات العلمية التي تقف دون إمكانية المعراج علميا ، وهذه الشبهات يمكن تلخيصها كما يلي :

أوّلا : إنّ أوّل ما تواجه الذي يريد أن يجتاز المحيط الفضائي للأرض إلى عمق الفضاء هو وجوب الانفلات من قوة الجاذبية الأرضية ، ويحتاج الإنسان للتخلّص من الجاذبية إلى وسائل استثنائية تكون معدّل سرعتها على الأقل (٤٠) ألف كيلومتر في الساعة.

ثانيا : المانع الآخر يتمثل في خلو الفضاء الخارجي من الهواء ، الذي هو القوام في حياة الإنسان.

ثالثا : المانع الثّالث يتمثل بالحرارة الشديدة الحارقة (للشمس) والبرودة

__________________

(١) تفسير البرهان ، المجلد ٢ ، ص ٢٠٠.

(٢) بعض القدماء يعتقد بعدم إمكان خرق هذه الأفلاك ثمّ التئامها.

٣٩١

القاتلة ، وذلك بحسب موقع الإنسان في الفضاء من الشمس.

رابعا : هناك خطر الإشاعات الفضائية القاتلة كالأشعة الكونية والأشعة ما وراء البنفسجية وأشعة إكس ، إذ من المعروف أنّ الجسم يحتاج إلى كميات ضئيلة من هذه الإشعاعات ، وهي بهذا الحجم لا تشكّل ضررا على جسم الإنسان ووجود طبقة الغلاف الجوي يمنع من تسر بها بكثرة إلى الأرض. ، ولكن خارج محيط الغلاف الجوّي تكثر هذه الإشاعات إلى درجة تكون قاتلة.

خامسا : هناك مشكلة فقدان الوزن التي يتعرض لها الإنسان في الفضاء الخارجي ، فمن الممكن للإنسان أن يتعوّد تدريجيا على الحياة في أجواء انعدام الوزن ، إلّا أنّ انتقاله مرّة واحدة إلى الفضاء الخارجي ـ كما في المعراج ـ هو أمر صعب للغاية ، بل غير ممكن.

سادسا : المشكلة الأخيرة هي مشكلة الزمان ، حيث تؤكد علوم اليوم على أنّه ليست هناك وسيلة تسير أسرع من سرعة الضوء ، والذي يريد أن يجول في سماوات الفضاء الخارجي يحتاج إلى سرعة تكون أسرع من سرعة الضوء!.

في مواجهة هذه الأسئلة :

أوّلا : في عصرنا الحاضر ، وبعد أن أصبحت الرحلات الفضائية بالاستفادة من معطيات العلوم أمرا عاديا ، فإنّ خمسا من المشاكل الست الآنفة تنتفي ، وتبقى ـ فقط ـ مشكلة الزمن. وهذه المشكلة تثار فقط عند الحديث عن المناطق الفضائية البعيدة جدا.

ثانيا : إنّ المعراج لم يكن حدثا عاديا ، بل أمر إعجازي خارق للعادة ثمّ بالقدرة الإلهية. وكذلك الحال في كافة معجزات الأنبياء وهذا يعني عدم استحالة المعجزة عقلا ، أمّا الأمور الأخرى فتتم بالاستناد إلى القدرات الإلهية.

وإذا كان الإنسان قد استطاع باستثمار لمعطيات العلوم الحديثة أن يوفّر

٣٩٢

حلولا للمشكلات الآنفة الذكر ، مثل مشكلة الجاذبية والأشعة وانعدام الوزن وما إلى ذلك ، حتى أصبح بمستطاعه السفر إلى الفضاء الخارجي فألا يمكن لله ـ خالق الكون ، صاحب القدرات المطلقة ـ أن يوفّر وسيلة تتجاوز المشكلات المذكورة؟!

إنّنا على يقين من أنّ الله تبارك وتعالى وضع في متناول رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مركبا مناسبا صانه فيه عن كل المخاطر والأضرار في معراجه نحو السماوات ، ولكن ما اسم هذا المركب هل هو «البراق» أو «رفرف»؟ وعلى أي شكل وهيئة كان؟ كل هذه أمور غامضة بالنسبة لنا ، ولكنّها لا تتعارض مع يقيننا بما تمّ ، وإذا أردنا أن نتجاوز كل هذه الأمور فإنّ مشكلة السرعة التي بقيت ـ لوحدها ـ تحتاج إلى حل ، فإنّ آخر معطيات العلم المعاصر بدأت تتجاوز هذه المشكلة بعد أن وجدت لها حلولا مناسبة بالرغم ممّا يؤكّده «إنشتاين» في نظريته من أن سرعة الضوء هي أقصى سرعة معروفة اليوم.

إنّ علماء اليوم يؤكدون أنّ الأمواج الجاذبة لا تحتاج إلى الزمن ، وهي تنتقل في آن واحد من طرف من العالم إلى الطرف الآخر منه وهناك احتمال مطروح بالنسبة للحركة المرتبطة بتوسّع الكون (من المعروف أنّ الكون في حالة اتساع وأنّ النجوم والمنظومات السماوية تبتعد عن بعضها البعض بحركة سريعة) إذ يلاحظ أنّ الأفلاك والنجوم والمنظومات الفضائية تبتعد عن بعضها البعض وعن مركز الكون إلى أطرافه ، بسرعة تتجاوز سرعة الضوء!

إذن ، بكلام مختصر نقول : إنّ المشكلات الآنفة ليس فيها ما يحول عقلا دون وقوع المعراج ، ودون التصديق به ، والمعراج بذلك لا يعتبر من المحالات العقلية ، بل بالإمكان تذيل المشكلات المثارة حوله بتوظيف الوسائل والقدرات المناسبة.

وبذلك فالمعراج لا يعتبر أمرا غير ممكن لا من وجهة الأدلة العقلية ، ولا من وجهة معطيات وموازين العلوم المعاصرة. وهو بالإضافة إلى ذلك أمر إعجازي

٣٩٣

خارق للعادة. لذلك ، إذا قام الدليل النقلي السليم عليه فينبغي قبوله والإيمان به(١) .

وأخيرا هناك إشارة أخرى حول المعراج سنقف عليها أثناء الحديث عن سورة النجم إن شاء الله.

* * *

__________________

(١) للمزيد من التفاصيل يمكن مراجعة كتاب : «لكل يريد أن يعرف» والذي يبحث في قضية المعراج وشق القمر بالإضافة إلى قضايا أخرى.

٣٩٤

الآيات

( وَآتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ أَلاَّ تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلاً (٢) ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً (٣) وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً (٤) فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ وَكانَ وَعْداً مَفْعُولاً (٥) ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْناكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْناكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً (٦) إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا ما عَلَوْا تَتْبِيراً (٧) عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنا وَجَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيراً (٨) )

التّفسير

بعد أن أشارت الآية الأولى في السورة إلى معجزة إسراء النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليلا من

٣٩٥

المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى ، كشفت آيات السورة الأخرى ، عن موقف المشركين والمعارضين لمثل هذه الأحداث ، وأبانت استنكارهم لها ، وعنادهم إزاء الحق ، في هذه الاتجاه انعطفت الآية الأولى ـ من الآيات مورد البحث ـ على قوم موسى ، ليقول لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّ تأريخ النبوات واحد ، وإنّ موقف المعاندين واحد أيضا ، وأنّه ليس من الجديد أن يقف الشرك القرشي موقفه هذا منك ، وبين يديك الآن تأريخ بني إسرائيل في موقفهم من موسىعليه‌السلام .

تقول الآية أوّلا :( وَآتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ ) .

وصفة هذا الكتاب أنّه :( وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ ) والكتاب الذي تعنيه الآية هنا هو «التوراة» الذي نزل على موسىعليه‌السلام هدى لبني إسرائيل.

ثمّ تشير الآية إلى الهدف من بعثة الأنبياء بما فيهم موسىعليه‌السلام فتقول :( أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلاً ) (١) .

إنّ التوحيد في العمل هو واحد من معالم أصل التوحيد ، وهو علامة على التوحيد العقائدي. الآية تقول : لا تتكئ على أحد سوى الله ، وإنّ أي اعتماد على غيره دلالة على ضعف الإيمان بأصل التوحيد. إنّ أسمى معاني التجلّي في هداية الكتب السماوية ، هو اشتعال نور التوحيد في القلوب والانقطاع عن الجميع والاتصال بالله تعالى.

ومن أجل أن تحرّك الآية التالية عواطف بني إسرائيل وتحفّزهم لشكر النعم الإلهية عليهم، خصوصا نعمة نزول الكتاب السماوي ، فإنّها تضع لهم نموذجا للعبد الشكور فتقول :( ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ ) (٢) ولا تنسوا :( إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً ) .

__________________

(١) من وجهة التركيب النحوي يقول بعض المفسّرين : إنّ تقدير جملة( أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلاً) هو : لئلا تتخذوا وبعضهم قال : «أن» زائدة ، وجملة «قلنا لهم» تقديرها : «وقلنا لهم لا تتخذوا من دوني وكيلا».

(٢) إنّ جملة :( ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ ) جملة ندائية وفي التقدير تكون : يا ذرية من حملنا مع نوح. أمّا ما احتمله البعض من أنّ «ذرية» هي بدل عن «وكيلا» أو مفعول ثان لـ «تتخذوا» فهو بعيد ، ولا يتسق مع جملة( إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً ) .

٣٩٦

والآية تخاطب بني إسرائيل بأنّهم أولاد من كان مع نوح ، وعليهم أن يقتدوا ببرنامج أسلافهم وآبائهم في الشكر لأنعم الله.

«شكور» صيغة مبالغة بمعنى «كثير الشكر» ، وأمّا كون بني إسرائيل ذرية من كان مع نوح ، فإنّ ذلك قد يعود إلى أنّ من في الأرض جميعا ، بعد طوفان نوح ، ومنهم بنو إسرائيل ، هم كلّهم من سلالة الأبناء الثلاثة لنوح ، أي «سام» و «حام» و «يافث» كما ورد في كتب التاريخ ، وممّا لا شك فيه أنّ كل أنبياء الله شكورون ، ولكنّ الأحاديث تعطي ميزة خاصّة لنوح الذي كان دائم الشكر على كل نعمة ففي كل شربة ماء ، أو وجبة غذاء ، أو وصول نعمة أخرى له فإنّه يذكر الله فورا ويشكره على نعمائه.

وفي حديث عن الإمام الباقر والصادقعليهما‌السلام نقرأ قولهما إنّ نوحا كان يقرأ هذا الدعاء في كل صباح ومساء ، «اللهم إنّي أشهدك أنّ ما أصبح أو أمس بي من نعمة في دين أو دنيا فمنك ، وحدك لا شريك لك ، لك الحمد ولك الشكر بها عليّ حتى ترضى،وبعد الرضا».

ثمّ أضاف الإمام : «هكذا كان شكر نوح»(١) .

بعد هذه الإشارة تدخل الآيات إلى تاريخ بني إسرائيل المليء بالأحداث ، فتقول :( وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً ) .

كلمة «قضاء» لها عدّة معان ، إلّا أنّها استخدمت هنا بمعنى «إعلام» أمّا المقصود من «الأرض» في الآية ـ بقرينة الآيات الأخرى هي ارض فلسطين المقدسة التي يقع المسجد الأقصى المبارك في ربوعها.

الآية التي تليها تفصل ما أجملته من إشارة إلى الإفسادين الكبيرين لبني

__________________

(١) يراجع تفسير مجمع البيان أثناء تفسير الآية.

٣٩٧

إسرائيل والحوادث التي تلي ذلك على أنّها عقوبة الهية فتقول :( فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما ) وارتكبتم ألوان الفساد والظلم والعدوان( بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ ) .

وهؤلاء القوم المحاربون الشجعان يدخلون دياركم للبحث عنكم :( فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ ) .

وهذا الأمر لا مناصّ منه :( وَكانَ وَعْداً مَفْعُولاً ) .

ثمّ تشير بعد ذلك إلى أنّ الإلطاف الإلهية ستعود لتشملكم ، وسوف تعينكم في النصر على أعدائكم ، فتقول :( ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْناكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْناكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً ) (١) .

وهذه المنّة واللطف الإلهي بكم على أمل أن تعودوا إلى أنفسكم وتصلحوا أعمالكم وتتركوا القبائح والذنوب لأنّه :( إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها ) .

إنّ الآية تعبّر عن سنّة ثابتة ، إذ أن محصلة ما يعمله الإنسان من سوء أو خير تعود إليه نفسه ، فالإنسان عند ما يلحق أذى أو سوءا بالآخرين ، فهو في الواقع يلحقه بنفسه ، وإذا عمل للآخرين ، فإنّما فعل الخير لنفسه ، أمّا بنو إسرائيل ، فهم مع الأسف لم توقظهم العقوبة الأولى ، ولا نبهتهم عودة النعم الإلهية مجددا ، بل تحركوا باتجاه الإفساد الثّاني في الأرض وسلكوا طريق الظلم والجور والغرور والتكبّر.

تقول الآية في وصف المشهد الثّاني أنّه حين يحين الوعد الإلهي سوف تغطيكم جحافل من المحاربين ويحيق بكم البلاء الى درجة أنّ آثار الحزن والغم تظهر على وجوهكم :( فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ ) .

بل ويأخذون منكم حتى بيت المقدس :( وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ

__________________

(١) «نفير» اسم جمع وهي بمعنى مجموعة من الرجال ، وقال بعض : هي من «نفر». و «نفر» في الأصل على وزن «عفو» تعني الارتحال والإقبال على شيء. ولذلك يطلق على الجماعة المستعدة للتحرك باتجاه شيء بأنها في حالة «نفير».

٣٩٨

مَرَّةٍ ) .

وهم لا يعكفون بذلك ، بل سيحتلّون جميع بلادكم ويدمرّونا عن آخرها :( وَلِيُتَبِّرُوا ما عَلَوْا تَتْبِيراً ) وفي هذه الحالة فإنّ أبواب التوبة الإلهية مفتوحة :( عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ ) .

( وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنا ) أي إن عدتم لنا بالتوبة فسوف نعود عليكم بالرحمة ، وإن عدتم للإفساد عدنا عليكم بالعقوبة. وإذا كان هذا جزاؤكم في الدنيا ففي الآخرة مصيركم جهنم :( وَجَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيراً ) (١) .

* * *

ملاحظات

الأولى : الإفسادان التأريخيان لبني إسرائيل :

تحدثت الآيات أعلاه عن فسادين اجتماعيين كبيرين لبني إسرائيل ، يقود كل منهما إلى الطغيان والعلو ، وقد لاحظنا أنّ الله سلّط على بني إسرائيل عقب كل فساد رجال أشدّاء شجعانا يذيقونهم جزاء فسادهم وعلوهم وطغيانهم ، هذا مع استثناء الجزاء الأخروي الذي أعدّه الله لهم.

وبالرغم من اتساع تاريخ بني إسرائيل ، وتنوّع الأحداث والمواقف فيه ، إلّا أنّ المفسّرين يختلفون في كل المرّات التي يتحدّث القرآن فيها عن حدث أو موقف من تاريخ بني إسرائيل وعلى سبيل التدليل على هذه الحقيقة تتعرّض فيما يلي للنماذج الآتية :

أوّلا : يستفاد من تاريخ بني إسرائيل بأنّ أول من هجم على بيت المقدس وخرّبه هو ملك بابل «نبوخذ نصر» حيث بقي الخراب ضاربا فيه لسبعين عاما ، إلى

__________________

(١) «حصير» مشتقة من «حصر» بمعنى الحبس ، وكل شيء ليس له منفذ للخروج يطلق عليه اسم «حصير». ويقال للحصير العادية حصيرا لأنّ خيوطها وموادها نسجت إلى بعضها البعض.

٣٩٩

أن نهض اليهود بعد ذلك لإعماره وبنائه. أمّا الهجوم الثّاني الذي تعرّض له ، فقد كان من قبل قيصر الروم «أسييانوس» الذي أمر وزيره «طرطوز» بتخريب بيت المقدس وقتل بني إسرائيل. وقد تمّ ذلك في حدود مائة سنة قبل الميلاد.

وبذلك يحتمل أن تكون الحادثتان اللتان أشارت إليهما الآيات أعلاه هما نفس حادثتي «نبوخذ نصر» و «أسييانوس» لأنّ الأحداث الأخرى في تاريخ بني إسرائيل لم تفن جمعهم ، ولم تذهب بملكهم واستقلالهم بالمرّة ، ولكن نازلة (نبوخذ نصر) ذهبت بجمعهم وسؤددهم إلى زمن «كورش» حيث اجتمع شملهم مجددا وحررهم من أسر بابل وأعادهم إلى بلادهم وأعانهم في تعمير بيت المقدس ، إلى أن غلبتهم الروم وظهرت عليهم ، وذهبت قوتهم وشوكتهم(١) .

لقد استمر بنو إسرائيل في مرحلة الشتات والتشرّد إلى أن أعانتهم القوى الدولية الاستعمارية المعاصرة في بناء كيان سياسي لهم من جديد.

ثانيا : أمّا «الطبري» فينقل في تفسيره عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّ المراد في الفساد الأوّل هو قتل بني إسرائيل لزكرياعليه‌السلام ومجموعة أخرى من الأنبياءعليهم‌السلام ، وأنّ المقصود من الوعد الأول ، هو الانتقام الإلهي من بني إسرائيل بواسطة (نبوخذ نصر) وأمّا المراد من الفساد الثّاني فهو الفوضي والاضطراب الذي قام به «بنو إسرائيل» بعد تحريرهم من بابل بمساعدة أحد ملوك فارس ، وما قاموا به من فساد. أمّا الوعد الثّاني ، فهو هجوم «أنطياخوس» ملك الروم عليهم.

وبالرغم من انطباق بعض جوانب هذا التّفسير مع التّفسير الأوّل ، إلّا أنّ راوي الحديث الذي يعتمد عليه «الطبري» غير ثقة ، بالإضافة إلى عدم تطابق تاريخ «زكريا» و «يحيى» مع تاريخ «نبوخذ نصر» و «أسييانوس أو أنطياخوس» إذا يلاحظ أن «نبوخذ نصر» عاصر «أرميا» أو «دانيال» النّبي كما يرى بعض

__________________

(١) يراجع تفسير الميزان ، ج ١٣ ، ص ٤٤ فما فوق.

٤٠٠

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496