الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٨

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل0%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 496

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

مؤلف: آية الله الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
تصنيف:

الصفحات: 496
المشاهدات: 220552
تحميل: 6133


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 496 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 220552 / تحميل: 6133
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء 8

مؤلف:
العربية

المؤرخين ، وقيامه قد تمّ في حدود (600) سنة قبل زمان يحيىعليه‌السلام ، لذلك كيف يقال : إنّ قيام نبوخذ نصر كان للانتقام من دم يحيىعليه‌السلام ؟!

ثالثا : وقال آخرون : إنّ بيت المقدس شيّد في زمن داود وسليمانعليهما‌السلام ، وقد هدمه «نبوخذ نصر» وهذا هو المقصود من إشارة القرآن إلى الوعد الأوّل. أمّا المرّة الثّانية ، فقد بني فيها بيت المقدس على عهد ملوك الأخمنيين ليقوم بعد ذلك «طيطوس» الرومي بهدمه وخرابه (الملاحظ أن «طيطوس» يطابق «طرطوز» الذي ذكر في التّفسير السابق) وقد بقي على خرابه إلى عصر الخليفة الثّاني عند ما فتح المسلمون فلسطين(1) . والملاحظ في هذا التّفسير أنّه لا يفترق كثيرا عمّا ورد في مضمون التفسيرين أعلاه.

رابعا : في مقابل التفاسير الآنفة والتفاسير الأخرى التي تتشابه في مضمون آرائها مع هذه التفاسير ، نلاحظ أنّ هناك تفسيرا آخر يورده «سيد قطب» في تفسير «في ظلال القرآن» يختلف فيه مع كل ما ورد ، حيث يرى أن الحادثتين لم تقعا في الماضي ، بل تتعلقان في المستقبل ، فيقول : «فأمّا إذا عاد بنو إسرائيل إلى الإفساد في الأرض فالجزاء حاضر والسنة ماضية( وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنا ) ثمّ يقول : «ولقد عادوا إلى الإفساد فسلّط الله عليهم المسلمين فأخرجوهم من الجزيرة كلّها. ثمّ عادوا إلى الإفساد وسلّط الله عليهم عبادا آخرين ، حتى كان العصر الحديث فسلط عليهم «هتلر» ولقد عادوا اليوم إلى الإفساد في صورة «إسرائيل» التي أذاقت العرب أصحاب الأرض الويلات. وليسلطنّ الله عليهم من يسومهم سوء العذاب ، تصديقا لوعد الله القاطع ، وفاقا لسنته التي لا تتخلف وإنّ غدا لناظرة قريب!)(2) .

ولكن الاعتراض الأساسي الذي يرد على هذا التّفسير ، هو أنّ أيّا منهما لم

__________________

(1) تفسير أبو الفتوح الرازي ، ج 7 ، ص 209.

(2) سيد قطب ، في ظلال القرآن ، ج 4 ، ص 2214 الطبعة العاشرة.

٤٠١

ينته بدخول القوم المنتصرين (على اليهود) إلى بيت المقدس حتى يخرّبوه؟

خامسا : الاحتمال الأخير الذي ورده البعض في تفسير الإفسادين الكبيرين لبني إسرائيل ، يرتبط بأحداث ما بعد الحرب العالمية الثّانية ، حيث يقول هؤلاء : إن قيام الحزب الصهيوني وتشكيل دولة لليهود باسم «إسرائيل» في قلب العالم الإسلامي مثّل الإفساد والطغيان والعلو الأوّل لهم ، وبذلك فإنّ وعي البلاد الإسلامية لخطر هؤلاء الشعوب الإسلامية في ذلك الوقت إلى التوحدّ وتطهير بيت المقدس وقسما آخر من مدن وقرى فلسطين ، حتى أصبح المسجد الأقصى خارج نطاق احتلالهم بشكل كامل.

أمّا المقصود من الإفساد الثّاني حسب هذا التّفسير ، فهو احتلال اليهود مجددا للمسجد الأقصى بعد أن حشدت «إسرائيل» قواها واستعانت بالقوى الدولية الاستعمارية في شن هجومها الغادر (عام 1967).

وبهذا الشكل يكون المسلمون اليوم في انتظار النصر الثّاني على بني إسرائيل ، ليخلّصوا المسجد الأقصى من دنس هؤلاء ويقطعوا دابرهم عن كل الأرض الإسلامية. وهذا ما وعد به المسلمون من فتح ونصر آت بلا ريب(1) .

بالطبع هناك تفاسير وآراء أخرى في الموضوع صرفنا النظر عنها ، ولكن ينبغي أن يلاحظ أنّ في حال اعتماد التفسيرين الرّابع والخامس ، ينبغي أن نحمل الأفعال الماضية في الآية على معنى الفعل المضارع. وهذا ممكن في أدب اللغة العربية ، وذلك إذا جاء الفعل بعد حرف من حروف الشرط.

ولكن يستفاد من ظاهر قوله تعالى :( ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْناكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْناكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً ) إنّ الإفساد الأوّل على الأقل ـ والانتقام الإلهي من بني إسرائيل كان قد وقع في الماضي.

__________________

(1) يلاحظ هذا الرأي العدد (12) السنة (12) من جملة «عقيدة الإسلام» وقد كتب البحث في عددين إبراهيم الأنصاري.

٤٠٢

وإذا أردنا أن نتجاوز كل ذلك ، فينبغي أن نلتفت إلى أنّ قوله تعالى :( بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ ) تفيد في أنّ الرجال الذين سيؤدبون «بني إسرائيل» على فسادهم وعلوّهم وطغيانهم ، هم رجال مؤمنون ، شجعان حتى استحقوا لقب العبودية. وممّا يؤكّد هذا المعنى الذي غفلت عنه معظم التفاسير ، هو كلمة «وبعثنا» و «لنا».

ولكنّا مع ذلك ، لا نستطيع الادّعاء أن كلمة «بعث» تستخدم فقط في مورد خطاب الأنبياء والمؤمنين ، بل هي تستخدم في غير هذه الموارد أيضا ، ففي قصّة هابيل وقابيل يقول القرآن الكريم :( فَبَعَثَ اللهُ غُراباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ ) (1) .

وكذلك الحال في كلمة «عباد» أو «عبد» فهي تطلق في بعض الأحيان على الأفراد غير الصالحين من المذنبين وغيرهم ، كما في الآية (58) من الفرقان في قوله تعالى :( وَكَفى بِهِ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً ) والآية (27) من سورة الشورى ، حيث يقول تعالى :( وَلَوْ بَسَطَ اللهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ ) وفي خصوص المخطئين والمنحرفين نقرأ في الآية (118) من سورة المائدة قوله تعالى :( إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ ) .

ولكنّا مع ذلك لا نستطيع أن ننكر ـ وإن لم تقم قرينة خلاف ذلك ـ أنّ العباد الذين بعثهم الله للانتقام من بني إسرائيل هم من العباد المؤمنين الصالحين.

وخلاصة البحث : إنّ هذه الآيات تتحدث عن فسادين كبيرين لبني إسرائيل ، وكيف أنّ الله تبارك وتعالى لم يهمل هؤلاء ، بل أذاقهم جزاءهم في الدنيا ، وبقي عليهم جزاء الآخرة وحسابها ، والدرس الذي نستفيده والإنسانية جمعا هو أنّ الله تعالى لا يهمل الظالمين ولا يسكت على ظلمهم بل علينا أن نعتبر ونتعظ من دروس التاريخ وأحوال الأمم الماضية.

__________________

(1) المائدة ، 31.

٤٠٣

الثّانية : تحمّل الإنسان لتبعات أعماله :

الآيات الآنفة تشير إلى قاعدة مهمّة ، وهي أنّ أعمال الإنسان سواء كانت حسنة أم قبيحة فإنّ مردودها يعود إليه ، صحيح أنّ الآيات تتحدّث عن بني إسرائيل ، ولكن القاعدة من الشمول والعموم بحيث تشمل كافة البشر على مر التاريخ(1) .

إنّ الحياة والتاريخ يعكسان لنا الكثير من تلك النماذج التي أسست أعمالا وسننا سيئة ، وسنّت قوانين ظالمة ومبتدعة ، ولكنّها في النهاية ، كانت ضحية ما سنّت وابتدعت وأسست ، وكانت نهايتها ونهاية من يلوذ بها الوقوع في نفس الحفرة التي حفرتها للآخرين ، وبذلك نالت جزاءها بما اقترفت أيديها. إنّ خصوصية هذا الأمر تتّضح أكثر بالنسبة لأعمال الفساد وعلى الأخص العلو والاستكبار ، فإنّ الإنسان لا بدّ وأن يذوق في هذه الدنيا جزاء ما اقترف من أسباب العلو والاستكبار والإفساد.

ولهذا السبب بالذات رأينا أنّ بني إسرائيل لاقوا جزاءهم السريع في الدنيا ، من دون أن يعني ذلك انتفاء العقاب الأخروي إذ عاشوا طويلا واقع الشتات والتشرّد ، وذاقوا الكثير من السوء والمصائب. إنّنا اليوم نعيش مظاهر من فساد بني إسرائيل وعلوهم وطغيانهم ، فهم قد اغتصبوا أرض الآخرين وطردوهم منها ، وأذاقوا أهلها ألوان القتل والبطش والإرهاب ، وروعوا الأبناء وسبوا النساء ، بل لم يحترموا حتى بيوت الله في بيت المقدس!

إنّ هؤلاء يتعاملون مع العالم بدون رعاية أي شكل من أشكال القانون أو

__________________

(1) نقرأ في الآية :( إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها ) بينما كان ينبغي أن يكون التعبير «عليها» لأنّ الإساءة لا تكون في فائدة ونفع الإنسان بل هي في ضرره! إنّ السبب في ذلك يعود إلى ضروريات التنسيق بين قسمي الجملة ، أو قد يكون ذلك بسبب أنّ اللام هنا استخدمت بمعنى التخصيص لا بمعنى النفع والضرر. بعض المفسّرين احتمل أيضا أن تكون اللام بمعنى «إلى».

٤٠٤

الضوابط والمعايير الدولية ، فإذا قام ـ مثلا ـ فدائي فلسطيني بإطلاق رصاصة عليهم ، فإنّهم بدلا عنها يقومون بقصف وتخريب المخيمات السكنية للاجئين ، ومدارس الأطفال ، والمستشفيات. وهم في مقابل خسارتهم لقتيل واحد ، يقومون يحصد المئات من الأنفس البريئة ويفجّرون عددا كبيرا من البيوت.

إنّ هؤلاء يتجاهرون بعدم التزامهم ، بل بعدائهم لكل قرارات المنظمات الدولية ، والكل يعرف أنّ جرأتهم في مواجهة العالم إنّما كانت وما زالت مستمدة من دعم القوى الاستعمارية الدولية لهم ـ وفي الطلليعة منها أمريكا ـ من دون أن يعني دعم هذه القوى لهم تبريرا لما يمتازون هم به من خصائص انحرافية ذاتية في الفكر والأخلاق ، واستعداد قبلي للعلو والطغيان والفساد.

إنّهم بعلوّهم وفسادهم عليهم أن ينتظروا أولئك الذين وصفهم القرآن بقوله :( عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ ) حيث ينالون جزاءهم ، وهو وعد الهي قاطع في قرآنه الكريم.

الثّالثة : تطبيق الآيات على أحداث التاريخ الإسلامي :

في روايات عدّة نرى انطباق الآيات أعلاه على بعض أحداث التاريخ الإسلامي حيث يشير بعضها إلى أنّ الفساد الأوّل والثّاني هو قتل الإمام علي بن أبي طالبعليه‌السلام ، والعدوان على جنازة الإمام الحسنعليه‌السلام . وبعضها تشير إلى أنّ المقصود من قوله تعالى :( بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ ) هو الإشارة إلى الإمام المهديعليه‌السلام وأصحابه.

وفي روايات أخرى نقرأ أنّ المقصود ، هو نهضة مجموعة من المسلمين قبل ظهور الإمام المهديعليه‌السلام (1) .

__________________

(1) يلاحظ نور الثقلين ، ج 3 ، ص 138.

٤٠٥

من الواضح أنّ هذه الأحاديث لا تفسّر الآيات تفسيرا لفظيا ، لأنّ الآيات تتحدث بصراحة عن بني إسرائيل ، ولكنّها تتحدث عن التشابه بين نهج هؤلاء (بني إسرائيل) ونهج ما يقع على شبههم وحالتهم في أحداث التأريخ الإسلامي.

وهكذا ننتهي إلى نتيجة مؤدّاها أنّ الآيات وإن تحدّثت عن خصوصيات بني إسرائيل،إلّا أنّها تتسع في مفهومها لترتفع إلى مستوى القاعدة الكلية ، والسنّة المستمرّة في تأريخ البشرية بما يطويه من حياة شعوب وأمم.

* * *

٤٠٦

الآيات

( إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً (9) وَأَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (10) وَيَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ دُعاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولاً (11) وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْناهُ تَفْصِيلاً (12) )

التّفسير

أقصر الطرق للهداية والسعادة :

الآيات السابقة تحدّثت عن بني إسرائيل وكتابهم السماوي «التوراة» وكيف تخلفوا عن برنامج الهداية الإلهية ليلقوا بعض جزائهم في هذه الحياة الدنيا ، والباقي مدخر ليوم القيامة.

وفي هذا المقطع من الآيات ، انتقل الحديث إلى القرآن الكريم ، الكتاب

٤٠٧

السماوي للمسلمين ، وآخر حلقة في الكتب السماوية ، فقال تعالى أوّلا :( إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ ) .

«أقوم» صيغة تفضيل مشتقة من «قيام» حيث يكون الإنسان فيها على أحسن حالاته حينما يريد أن يشرع بعمل ما ، لذلك فإنّ «القيام» كناية عن أفضل الصيغ التي ينجز فيها الإنسان الأعمال التي يباشرها ، أو يستعد لمباشرتها.

«الاستقامة» مشتقّة أيضا من مادة «قيّم» وهي بمعنى الاعتدال والإستواء والثبات.

وبما أنّ «أقوم» هي «أفعل تفضيل» بمعنى الأكثر ثباتا واستقامة واعتدالا ، فإنّ معنى الآية أعلاه ، هو أنّ القرآن الكريم يمثل أقصر وأفضل طرق الاستقامة والثبات والهداية وبهذا فإنّ الطريق القويم.

من وجهة نظر العقائد والأفكار ، يتمثل بالعقائد الواضحة ، القابلة للهضم والإدراك والفهم ، والتي تكون أساسا للعمل ، وتعبئة الطاقات الإنسانية باتجاه الإعمار والبناء. العقيدة الأقوم هي العقيدة الخالية من الخرافات والأوهام ، وهي التي توائم بين الإنسان وعالم الوجود والطبيعة من حوله.

العقيدة الأقوم من هذه الزاوية ، هي التي توافق بين الإعتقاد والعمل ، والظاهر والباطن ، الفكر والمنهج ، وتدفع الإنسان والجميع نحو الله.

أمّا الأقوم من وجهة نظر القوانين الاجتماعية والاقتصادية والعسكرية والسياسية ، التي تسود المجتمع ، فهي تلك التي تربّي في المجتمع الإنساني الجوانب المادية والمعنوية وتدفع الجميع نحو التكامل والاتساق.

والأقوم من وجهة النظر العبادية والأخلاقية ، هو كل ما يجعل الإنسان في المركز الوسط بين الإفراط والتفريط ، ويجعله في موقع الاعتدال بين الإسراف والبخل ، بين الاستضعاف والاستكبار.

وأخيرا فإنّ المنهج الأقوم بالنسبة للنظم والسلطات الحاكمة ، هو كل ما

٤٠٨

يدفعها إلى إقامة العدل ، والدعوة إلى إشاعة الإنصاف ، ومواجهة الظلم والظالمين.

نعم ، إنّ القرآن هو الطريق الأقوم في كل تلك المستويات الآنفة الذكر ، وهو الأسلوب الأقوم في كل جوانب الحياة والوجود ، وعلى كافة القضايا والصعد.

ولكنّا هنا نقف مع نقطة حساسة ، وهي إذا كان القرآن هو الأقوم ، أي «أفعل تفضيل» فمعنى ذلك تفوقه في ميزات العدل وصفات الهداية والاستقامة ليس على سائر المذاهب والعقائد الوضعية وحسب ، وإنّما على سائر الأديان والشرائع السابقة عليه أيضا.

وإزاء المفهوم الذي تطرحه هذه النقطة نرى أنفسنا بحاجة إلى إثارة الحديث على النحو الآتي.

أوّلا : إذ كانت أطراف المقايسة هي الأديان السماوية الأخرى ، فلا شك أنّ كل دين وشريعة منها كانت أفضل وأقوم لوقتها وزمانها ، ولكن وفق قانون التكامل الذي وصلت البشرية بمقتضاه إلى أقصى حالات رشدها وتكاملها ، في زمن الرسالة الإسلامية الخاتمة والنّبوة الخاتمة ، فإنّ القرآن الكريم يعبّر تبعا لذلك عن أرقى وأقوم مضامين الهداية والاستقامة الاعتدال.

ثانيا : أمّا إذا كان طرف المقايسة هو المذاهب والعقائد الوضعية ، فمن الطبيعي جدّا أن يكون القرآن كتاب السماء الواصل إلينا من الله ذي العلم المطلق ، هو الأقوم والأظهر عليها ، لأنّ العقائد الوضعية مهما بلغت مزاياها فهي نتاج الفهم المحدود للبشر.

ثالثا : أشرنا في غير مكان إلى أن «أفعل تفضيل» لا يدلّ دائما على أنّ الموضوع لا بدّ وأن يكون طرفا للمقايسة ، كما في قوله تعالى :( أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدى ) (1) .

__________________

(1 ، 2) ـ يونس ، 35.

٤٠٩

وعلى هامش هذه النقطة ينبغي أن لا يفوتنا أن تعبير «أقوم» في الآية الآنفة يشير إلى أنّ الإسلام هو آخر أديان السماء ، وأنّ النّبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو آخر الأنبياء.

وكيفية ذلك ، هو أنّ أقوم بوصفها أفعل تفضيل ، تمثل أعلى درجات التفضيل ، ولأنّ الآية لا تذكر الطرف الآخر في المقايسة والذي يكون القرآن أقوم بالنسبة إليه ، وطالما أنّ حذف المتعلق يدل على العموم كما يقول الأصوليون ، فينتج أنّ الإسلام آخر الأديان ، وأنّ محمداصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خاتم الرسل ، لأنّه ليس بعد صيغة تفضيل «أقوم» من درجة في التفضيل.

بعد ذلك تشير الآيات إلى موقف الناس في مقابل الكتاب الأقوم ، هذا الموقف الذي ينقسم فيه الناس إلى فئتين ، فالأولى يكون حالها كما يقول تعالى :( وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً ) .

أمّا الفئة الثّانية فيكون مصيرها تبعا لموقفها كما يقول تعالى :( وَأَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً ) .

وإذا كان استخدم «بشارة» واضح هنا بالنسبة للمؤمنين ، فهو بالنسبة لغيرهم من غير المؤمنين يقع على معنى السخرية والاستهزاء ، أو أنّه بشارة للمؤمنين أيضا تخبرهم عن حال غير المؤمنين(1) .

ضمنا الآية تشير باختصار بليغ إلى جزاء المؤمنين وثوابهم فتقول :( أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً ) أمّا غير المؤمنين فإنّ لهم بنفس صورة الإيجاز القرآني البليغ( عَذاباً أَلِيماً ) وهذا الاختصار البليغ يطوي في كلا مجاليه صورا تفصيلية من الثواب والعقاب.

أمّا لماذا اقتصرت الآية في غير المؤمنين على صفة عدم إيمانهم بالآخرة

__________________

(1) في نهاية الآية (138) من سورة النساء قلنا : إنّ «البشارة» مشتقّة أصلا من «البشرة» بمعنى الوجه. والملاحظ أنّ صحيفة الوجه وبشرته كالمرآة تعكس كل خبر إذا كان سارا أو سيئا بشكل إيحاءات معينة.

٤١٠

دون غيرها من الصفات والأعمال. في الواقع يمكن أن يكون ذلك بسبب أنّ الإيمان بالآخرة هو صمام أمان يضبط الإنسان عن ارتكاب المعاصي والذنوب. ثمّ إنّ إنكار القيامة يعتبر إنكارا لوجود الله تعالى ، وإلّا كيف يستقيم للإنسان أن يؤمن بالله العادل الحكيم ولا يؤمن بوجود آخرة يحاسب فيها الإنسان على أعماله وينال حسابه العادل!؟

ثمّ إنّ حديث الآية هو عن العقاب والثواب وهو يتناسب مع الحديث عن الإيمان باليوم الآخر.

الآية التي بعدها تنساق في نفس اتجاه البحث وتشير إلى احدى العلل المهمّة لعدم الإيمان وتقول بأنّ عجلة الإنسان وتسرعه وعدم اطلاعه على الأمور وإحاطته بها تسوقه إلى أن يساوي في جهده بين دعائه بالخير وطلبه ، وبين دعائه بالشر وطلبه له! تقول الآية :( وَيَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ دُعاءَهُ بِالْخَيْرِ ) .

لما ذا؟ :( وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولاً ) .

إنّ كلمة «دعا» هنا تنطوي على معنى واسع يشمل كل طلب ورغبة للإنسان ، سواء أعلن عنها بلسانه وكلامه ، أو سعى إليها بعمله وجهده وسلوكه.

إنّ استعجال الإنسان واندفاعه في سبيل تحصيل المنافع لنفسه ، تقوده إلى النظرة السطحية للأمور بحيث أنّه لا يحيط الأشياء بالدراسة الشاملة المعمّقة ممّا يفوّت عليه تشخيص خيره الحقيقي ومنفعته الواقعية ، وهكذا بنتيجة تعجّله واندفاعه المضطرب يضيع عليه وجه الحقيقة ، ويتغيّر مضمونها بنظره ، فيقود نفسه باتجاه الشر والأعمال السيئة الضارّة.

وهكذا ينتهي الإنسان ـ نتيجة سوء تشخيصه واضطراب مقياسه في رؤية الخير والحقيقة ـ إلى أن يطلب من الله الشر ، تماما كما يطلب منه الخير ، وأن يسعى وراء الأعمال السيئة ، كسعيه وراء الأعمال الحسنة. وهذا الاضطراب

٤١١

وفقدان الموازين هي أسوأ بلا يصاب به الإنسان ويحول بينه وبين السعادة الحقيقية.

ما أكثر الناس الذين يضعون أنفسهم ـ بسبب من عجلتهم واندفاعاتهم المضطربة ـ على حافة الخطر ومشارف الضلال ، وهم يظنون أنّهم يسيرون نحو الأمن والاستقرار والهداية. إنّ مثل هؤلاء كمن هو غارق بالسوء والقبائح وهو يفتخر بما هو فيه!!

إنّ نتيجة العجلة والتسرّع والاندفاع الأهوج لن تكون أحسن من هذه العاقبة.

من هنا يتّضح ـ كما أشرنا سابقا ـ أنّ معنى «دعا» لا يقتصر لا على الرغبات التي يظهرها الإنسان على لسانه ، ولا على تلك الرغبات التي يسعى لتحقيقها بسلوكه وبما يبذل لها من جهد ، وإنّما المعنى يشمل محصلة الإثنين معا. وأمّا ما ذهب إليه بعض المفسّرين من حصر المعنى في أحدهما فليس ثمّة دليل عليه.

أمّا ما يظهر من بعض الرّوايات من اقتصار المعنى على الدعاء اللفظي ، فإنّ ذلك من قبيل بيان المصداق لا كل المفهوم من قبيل الرّواية التي يقول فيها الإمام الصادقعليه‌السلام :«وأعرف طريق نجاتك وهلاكك ، كي لا تدعو الله بشيء عسى فيه هلاكك ، وأنت تظن أنّ فيه نجاتك ، قال الله تعالى :( وَيَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ دُعاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولاً ) .

من هنا يتبيّن أنّ أفضل طريق لوصول الإنسان إلى الخير والسعادة ، هو أن يكون الفرد في كل خطوة وموقف على غاية قصوى من الدقّة والحيطة والحذر ، وأن يتجنب الاندفاع والعجلة والتسرّع ، ويدرس الموقف من جميع جوانبه ، وبجانب الأحكام المتعجّلة الممزوجة بالهوى والعاطفة ، وأن يستعين بالله العزيز ويستمده القوة والعون.

الآية التي بعدها تتحدث عن تعاقب الليل والنهار ومنافع هذا التعاقب ، لتجعل من هذا الشاهد مثالا على معرفة الله والتمعّن بآياته ، والمثال أيضا يفيد معنى

٤١٢

التأمّل والهدوء ويدعو إلى محاذرة التعجّل والتسرّع.

الآية تقول أوّلا :( وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ ) ثمّ :( فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً ) . ولنا في ذلك هدفان : الأوّل :( لِتَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ ) حيث تنطلقون نهارا في الكسب والعمل والمعاش مستثمرين العطايا الإلهية ، وتنعمون ليلا بالراحة والهدوء والاستقرار. والهدف الثّاني فهو :( وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ ) لكي لا تبقى شبهة لأحد( وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْناهُ تَفْصِيلاً ) .

بين المفسّرين كلام كثير حول المقصود من «آية الليل» و «آية النهار» وفيما إذا كان ذلك كناية عن نفس الليل والنهار ، أم أنّ المقصود من «آية الليل» القمر ، ومن «آية النهار» الشمس(1) .

ولكن التدقيق في الآية يكشف عن رجاحة التّفسير الأوّل ، خصوصا وأنّ المقصود من قوله تعالى :( وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ ) هو أنّ كل واحد منهما علامة على إثبات وجود الله ، أمّا محو آية الليل فهو تمزيق ظلمة الليل وحجب الظلمة فيه بواسطة نور النهار ، الذي يكشف ما كان مستورا بظلمة الليل.

وإذا كانت آيات أخرى في القرآن [آية (5) من سورة يونس] تفيد أنّ الغاية من خلق الشمس والقمر هو تنظيم الحساب إلى سنين وأشهر ، فليس ثمّة تنافي بين الآيتين ، إذ من الممكن أن تنتظم حياة الإنسان وحسابه على أساس الليل والنهار ، وعلى أساس الشمس والقمر من دون أي تناف بين الإثنين.

في نهج البلاغة نقرأ للإمام أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام ، قوله : «وجعل شمسها آية مبصرة لنهارها ، وقمرها آية ممحوة من ليلها ، وأجراهما في مناقل مجراهما ، وقدّر سيرهما في مدارج درجهما ، ليميز بين الليل والنهار بهما ، وليعلم عدد السنين والحساب بمقاديرهما»(2) .

__________________

(1) في الحالة الأولى تكون الإضافة «إضافية بيانية» أما في الثّالثة فتكون الإضافة «إضافة اختصاصية».

(2) نهج البلاغة ، خطبة الأشباح ، رقم (91).

٤١٣

إنّ كلام الإمام هنا لا ينافي التّفسير الأوّل ، لأنّ حساب السنين يمكن أن يكون على أساس الأيّام والليالي ، كما يمكن أن يتم ذلك على أساس الشمس والقمر.

* * *

بحوث

أوّلا : هل الإنسان عجول ذاتا؟

إنّ الإنسان لا يوصف في القرآن بوصف «العجول» وحسب ، وإنّما هناك أوصاف أخرى أطلقها على الإنسان مثل «ظلوم» و «جهول» و «كفور» و «هلوع» و «مغرور».

ولكن السؤال هنا ، هو أنّ هذه الأوصاف تتعارض مع التعليمات القرآنية التي تتحدّث عن الفطرة النظيفة الطاهرة للإنسان ، فكيف إذن نوائم بين الحالتين؟

بعبارة أخرى : إنّ الإنسان من وجهة نظر الإسلام هو أفضل الموجودات وأكرمها حتى أنّه استحق مقام الخلافة عن الله ، في الأرض ، وهو معلّم الملائكة وأفضل منها ، فكيف ـ إذن ـ يتسق هذا الطرح مع الأوصاف السيئة الآنفة التي نقرؤها عن الإنسان في القرآن؟

إنّ الإجابة على هذا السؤال يمكن أن نختصرها بجملة واحدة ، وهي أنّ شخصية الإنسان هي كما تقوم آنفا من السمو والرفعة ، ولكن بشرط أن تتم تربيته وتكون رعايته من قبل القادة الرّبانيين ، وإلّا ففي غير هذه الصورة ، فسيتسافل نحو أسوأ الأحوال ، ويغرق في الهوى والشهوات ، ويخسر القابليات العظيمة الموجودة فيه بالقوة لتظهر بدلا عنها الجوانب السلبية.

لذلك إذا تحقق الشرط السابق (تربية الإنسان على يد القادة الإلهيين) فإنّ الجوانب الإيجابية في الإنسان هي التي تظهر ، وهي التي تطبعه بطابعها وبعكس

٤١٤

ذلك تظهر الصفات السلبية ، لذلك نقرأ في الآيات 19 ـ 24 من سورة المعارج قوله تعالى:( إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً إِلَّا الْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ ) . ويمكن للقارئ أن يعود إلى تفسير الآية (12) من سورة يونس لأجل المزيد من التفاصيل حول الموضوع.

ثانيا : أضرار العجلة

إنّ تعلق الإنسان واندفاعه نحو موضوع معين ، والتفكير السطحي المحدود ، والهوى والاضطراب ، وحسن الظن أكثر من الحد الطبيعي إزاء أمر ما ، كلّها عوامل للعجلة في الأعمال. ثمّ إنّ الاقتصار على بحث المقدمات بشكل سطحي سريع ومرتجل لا يكفي في التوصل إلى حقيقة الأمر ، وعادة تؤدي العجلة والتسرع في الأعمال إلى الخسران والندامة!

وقد قرأنا في الآيات أعلاه أنّ عجلة الإنسان تقوده إلى أن يطلب الشر لنفسه ويسعى إليه ، بنفس الحالة والسرعة التي يطلب فيها الخير ويسعى إليه!

إنّنا لا نستطيع أن نحصي ما أصاب الإنسان على طول التاريخ جرّاء استعجاله وتسرّعه ، وفي التجربة الحياتية الخاصّة لأي واحد منّا ثمّة ما يكفي لنتعلّم دروس العجلة والتسرّع من خلال النتائج المرّة التي جنيناها.

إنّ «التثبت» و «التأنّي» هي الصفات التي تقابل العجلة ، ففي حديث عن رسول الله نقرأ قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إنّما أهلك الناس العجلة ، ولو أنّ الناس تثبتوا لم يهلك أحد»(1) .

وفي حديث آخر عن الإمام الصادق نقرأ قولهعليه‌السلام : «مع التثبت تكون السلامة ، ومع العجلة تكون الندامة»(2) .

__________________

(1) سفينة البحار ، ج 1 ، ص 129.

(2) المصدر السابق.

٤١٥

وعن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قوله : «إنّ الأناة من الله والعجلة من الشيطان»(1) .

طبعا هناك باب في الرّوايات الإسلامية بعنوان «تعجيل فعل الخير» ففي حديث عن رسول الله نقرأ قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إنّ الله يحب من الخير ما يعجل»(3) .

إنّ الرّوايات في هذا المجال كثيرة ، والمقصود منها هي السرعة في مقابل الإهمال والتأخير غير الموّجّه ، والاتكاء إلى الأعذار والتسويف باليوم وغدا ، التي غالبا ما تؤدي إلى ظهور المشاكل في الأعمال ، وشاهد هذا الكلام هو الحديث الوارد عن الإمام الصادقعليه‌السلام : «من همّ بشيء من الخير فليعجله فإنّ كل شيء فيه تأخير فإنّ للشيطان فيه نظرة»(4) .

لذلك نقول : نعم للجدية والسرعة في الأعمال ، ولكن لا للعجلة والتسرّع.

وبعبارة أخرى : إنّ العجلة المذمومة هي التي تكون أثناء البحث والدراسة لمعرفة جوانب العمل المختلفة ، أمّا السرعة والعجلة الممدوحتان فهما اللتان يكونان بعد اتخاذ قرار الشروع بالعمل ، والتصميم على التنفيذ ، لذلك نقرأ في الرّوايات «سارعوا في عمل الخير» أي بعد أن يثبت أن هذا العمل خير فلا مجال للتأخير والتسويف.

ثالثا : دور العدد والحساب في حياة الإنسان :

كل عالم الوجود يدور حول محور العدد والحساب ، ولا نظام في هذا العالم بدون حساب ، وطبيعي أنّ الإنسان الذي هو جزء من هذه المجموعة لا يستطيع العيش من دون حساب وكتاب.

لهذا السبب تعتبر الآيات القرآنية وجود الشمس والقمر أو الليل والنهار

__________________

(1) سفينة البحار ، ج 1 ، ص 129.

(2 ، 3) أصول الكافي ، ج 1 ، كتاب الإيمان والكفر ، باب تعجيل فعل الخير.

(4) المصدر السابق.

٤١٦

واحدة من نعم الله تعالى ، لأنّها الأساس في تنظيم الحساب في حياة الإنسان ، إنّ شيوع الفوضى وفقدان الحياة للاتساق والنظم يؤدي إلى دمار الحياة وفنائها.

والظريف أنّ الآية تتحدّث عن فائدتين لنعمة الليل والنهار ، الأولى : ابتغاء فضل الله والتي تعني التكسّب والعمل المفيد المثمر. والثّانية : معرفة عدد السنين والحساب.

وقد يكون الهدف من ذكر الإثنين إلى جنب بعضهما البعض يعود إلى أنّ (ابتغاء فضل الله) لا يتم بدون الاستفادة من (الحساب والكتاب) وقد لا يكون هذا المعنى واضحا في العصور الماضية ، أمّا في عصرنا فهو واضح كالشمس.

إنّ عالمنا اليوم ، هو عالم الأرقام والأعداد والإحصاء ، فإلى جانب كل مؤسسة ومنظمة اقتصادية أو اجتماعية أو سياسية أو عسكرية أو عملية أو ثقافية ، ثمّة مؤسسة إحصائية.

وهكذا نستفيد من الإشارة القرآنية أنّ القرآن لا يبلى بالزمان ، بل كلّما مرّ عليه الزمان تجددت معانيه وتجلّت آفاقه(1) .

* * *

__________________

(1) لنا كلام مفصّل حول الموضوع أثناء الحديث عن الآية (5) من سورة يونس.

٤١٧

الآيات

( وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً (13) اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً (14) مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً (15) )

التّفسير

أربعة أصول إسلامية مهمّة :

لقد تحدّثت الآيات القرآنية السابقة عن القضايا التي تتصل بالمعاد والحساب ، لذلك فإنّ الآيات التي نبحثها الآن تتحدّث عن قضية «حساب الأعمال» التي يتعرض لها البشر، وكيفية ومراحل إنجاز ذلك في يوم المعاد والقيامة حيث يقول تعالى :( وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ ) .

«الطائر» يعني الطير. ولكن الكلمة هنا تشير إلى معنى آخر كان سائدا ومعروفا بين العرب ، إذ كانوا يتفألون بواسطة الطير ، وكانوا يعتمدون في ذلك على طبيعة الحركة التي يقوم بها الطير. فمثلا إذا تحرّك الطير من الجهة اليمنى ، فهم

٤١٨

يعتبرون ذلك فألا حسنا وجميلا. أمّا إذا تحرّك الطير من اليسرى فإنّ ذلك في عرفهم وعاداتهم علامة الفأل السيء ، أو ما يعرف بلغتهم بالتطيّر ، من هنا فإنّ هذه الكلمة غالبا ما كانت تعني الفأل السيء في حين أنّ كلمة التفؤل (عكس التطيّر) كانت تشير إلى الفأل الجميل الحسن.

وفي الآيات القرآنية ورد مرارا أنّ «التطيّر» هو بمعنى الفأل السيء حيث يقول تعالى في الآية (131) من سورة الأعراف :( وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ ) وفي الآية (47) من سورة النمل نقرأ أيضا :( قالُوا اطَّيَّرْنا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ ) والآية تحكي خطاب المشركين من قوم صالحعليه‌السلام لنبيّهم.

بالطبع عند ما نقرأ الأحاديث والرّوايات الإسلامية نراها تنهى عن «التطيّر» وتجعل «التوكل على الله» طريقا وأسلوبا لمواجهة هذه العادة.

وفي كلّ الأحوال فإنّ كلمة «طائر» في الآية التي نبحثها ، تشير إلى هذا المعنى بالذات ، أو أنّها على الأقل تشير إلى مسألة «الحظ وحسن الطالع» التي تقترب في أفق واحد مع قضية التفؤل الحسن والسيء ، إنّ القرآن ـ في الحقيقة ـ يبيّن أنّ التفؤل الحسن والسيء أو الحظ النحس والجميل ، إنّما هي أعمالكم لا غير ، والتي ترجع عهدتها إليكم وتتحملون على عاتقكم مسئولياتها.

إنّ تعبير الآية الكريمة ، بكلمتي «ألزمناه» و «في عنقه» تدلان بشكل قاطع على أنّ أعمال الإنسان والنتائج الحاصلة عن هذه الأعمال لا تنفصل عنه في الدنيا ولا في الآخرة، وهو بالتالي ، وفي كل الأحوال عليه أن يكون مسئولا عنها ، إذ أنّ الملاك هو العمل دون غيره.

بعض المفسّرين ذكروا في إطلاق معنى كلمة «طائر» على الأعمال الإنسانية أنّها تعني أنّ الأعمال الحسنة والأعمال القبيحة للإنسان كالطير الذي يطير من بين جنباته،لذلك شبهوها (أي الأعمال) بالطائر.

وفي كل الأحوال ، اختلف المفسّرون في معنى كلمة( طائِرٍ ) في هذه الآية ،

٤١٩

وقد أوردوا في ذلك مجموعة احتمالات منها أنّ «الطائر» بمعنى «حصيلة ما يجنيه الإنسان من أعماله الحسنة والسيئة» ، أو أنّ الطائر بمعنى «الدليل والعلامة» ، وبعضهم قال : إن معناه «صحيفة أعمال الإنسان» بينما ذهب البعض الآخر إلى أنّ معنى «الطائر» هو «اليمن والشؤم».

ولكن الملاحظ في هذه التّفسيرات جميعا ، أنّ بعضها يرجع إلى نفس التّفسير الذي ذكرناه في البداية ، كما أن بعضها الآخر بعيد عن معنى الآية.

يقول القرآن بعد ذلك :( وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً ) . ومن الواضح أنّ المقصود من «الكتاب» في الآية الكريمة هي صحيفة الأعمال لا غير.

وهي نفس الصحيفة الموجودة في هذه الدنيا والتي تثبّت فيها الأعمال ، ولكنّها هنا (في الدنيا) مخفية عنّا ومكتومة ، بينما في الآخرة مكشوفة ومعروفة.

إنّ التعبير القرآني في كلمتي «نخرج» و «منشورا» يشير إلى هذا المعنى ، إذ نخرج وننشر ما كان مخفيا ومكتوما.

وبالنسبة الصحيفة الأعمال وحقيقتها وما يتعلق بها ، فسيأتي البحث عنها في نهاية هذه الآيات.

في هذه اللحظة يقال للإنسان :( اقْرَأْ كِتابَكَ ، كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً ) يعني أنّ المسألة ـ مسألة المصير ـ بدرجة من الوضوح والعلنية والانكشاف ، بحيث أن كل من يرى صحيفة الأعمال هذه سيحكم فيها على الفور ـ مهما كان مجرما ـ لماذا؟ لأنّ صحيفة الأعمال هذه ـ كما سيأتي ـ هي مجموعة من آثار الأعمال أو هي نفس الأعمال، وبالتالي فلا مجال لانكارها فإذا سمعت ـ أنا ـ صوتي من شريط مسجّل ، أو رأيت صورتي وهي تضبط قيامي ببعض الأعمال الحسنة أو السيئة ، فهل أستطيع أن أنكر ذلك؟ كذلك صحيفة الأعمال في يوم القيامة ، بل هي أكثر حيوتة ودقة من الصورة والصوت!

الآية التي بعدها تّوضح أربعة أحكام أساسية فيما يخص مسألة الحساب

٤٢٠