الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٨

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل8%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 496

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 496 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 231525 / تحميل: 7125
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٨

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

والجزاء على الأعمال ، وهذه الأحكام هي :

١ ـ أوّلا تقرّر أنّ( مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ ) حيث تعود النتيجة عليه.

٢ ـ ثمّ تقرّر أيضا أنّ( وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها ) .

وقرأنا نظير هذين الحكمين في الآية السابعة من هذه السورة في قوله تعالى :( إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها ) .

٣ ـ ثمّ تنتقل الآية لتقول :( وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ) .

«الوزر» بمعنى الحمل الثقيل. وأيضا تأتي بمعنى المسؤولية ، لأنّ المسؤولية ـ أيضا ـ حمل معنوي ثقيل على عاتق الإنسان ، فإذا قيل للوزير وزيرا ، فإنّما هو لتحمله المسؤولية الثقيلة على عاتقه من قبل الناس أو الأمير والحاكم.

طبعا هذا القانون الكلّي الذي تقرّره آية( وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ) لا يتنافى مع ما جاء في الآية (٢٥) من سورة النحل التي تقول :( لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ ) لأنّ هؤلاء بسبب تضليلهم للآخرين يكونون فاعلين للذنب أيضا ، أو يعتبرون بحكم الفاعلين له ، ولذلك فهم في واقع الأمر يتحملون أوزارهم وذنوبهم ، وبتعبير آخر : فإنّ «السبب» هنا هو في حكم «الفاعل» أو «المباشر».

كذلك مرّت علينا روايات متعدّدة حول مسألة السنّة السيئة والسنّة الحسنة ، والتي كان مؤدّاها يعني أنّ من سنّ سنة سيئة أو حسنة فإنّه سيكون له أجر من نصيب العاملين بها ، وهو شريكهم في جزائها وعواقبها ، وهذا الأمر هو الآخر لا يتنافى مع قاعدة( وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ) لأنّ المؤسس للسنّة ، يعتبر في الحقيقة أحد اجزاء العلة التامّة للعمل ، وهو بالتالي شريك في العمل والجزاء.

٤ ـ الحكم الرّابع يتمثل في قوله تعالى :( وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً ) يقوم ببيان التكليف وإلقاء الحجة.

هناك نقاش بين المفسّرين حول نوع العذاب المقصود هنا ، وهل هو نوع من

٤٢١

أنواع العذاب الذي يقع في الدنيا أو في الآخرة ، أم المقصود به هو عذاب «الاستيصال» الذي يعني العذاب الشامل المدمّر كطوفان نوح مثلا؟

إنّ ظاهر الآية الكريمة يدل على الإطلاق ، وهو بالتالي يشمل كل أنواع العذاب.

وهناك نقاش آخر ـ أيضا ـ بين المفسّرين حول قاعدة( وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً ) وهل أنّ الحكم فيها يخص المسائل الشرعية التي يعتمد فهمها على الأدلة النقلية فقط ، أو أنّه يشمل جميع المسائل العقلية والنقلية في الأصول والفروع؟

في الواقع ، إذا أردنا العمل بظاهر الآية الذي يفيد الإطلاق ، فينبغي القول أنّها تشمل جميع الأحكام العقلية والنقلية ، سواء ارتبطت بأصول أو فروع الدين.

ومفهوم هذا الكلام أنّه حتى في المسائل العقلية البحتة التي يقطع «العقل المستقل» بحسنها وقبحها مثل حسن العدل وقبح الظلم ، فإنّه ما لم يأت الأنبياء ، ويؤيدون حكم العقل بحكم النقل ، فإنّ الله تبارك وتعالى لا يجازي أحدا بالعذاب. للطفه ورحمته بالعباد.

ولكن هذا الموضوع مستبعد وضعيف الاحتمال ، لأنّه يصطدم مع قاعدة أنّ المستقلات العقلية لا تحتاج إلى بيان الشرع ، وحكم العقل في إتمام الحجة في هذه الموارد يعتبر كافيا ومجزيا ، لذلك فلا طريق أمامنا إلّا أن نستثني المستقلات العقلية عن مجال عمل القاعدة المذكورة.

وإذا لم نستثن ذلك فسيكون معنى العذاب في هذه الآية هو «عذاب الاستيصال» وسيكون المفاد الأخير للمعنى هو أنّ الله سبحانه وتعالى لرحمته ولطفه بالعباد لا يهلك الظالمين والمنحرفين إلّا بعد أن يبعث الأنبياء ، وتستبين جميع طرق السعادة والهداية ، حتى تطابق حجّة الشرع حجّة العقل المستقل ، وتتم الحجة بذلك من طريقي العقل والنقل (فتأمّل ذلك).

* * *

٤٢٢

بحوث

١ ـ التفؤل والتطير

التفؤل والتطيّر كانا موجودين بين جميع الأمم ولا يزالان كذلك. ويظهر أنّ مصدرهما هو عدم القدرة على اكتشاف الحقائق ، والغفلة عن علل الحوادث. وعلى أية حال ، ليست هناك آثار طبيعية فعلية لهذين الأمرين ، ولكن لهما آثارا نفسية ، إذ (التفاؤل) يبعث على الأمل بينما «التطيّر» يؤدي إلى اليأس والعجز.

ولأنّ الإسلام يؤكّد دائما على الأمور الإيجابية ، ويدفعها مشجعا إيّاها ، لذا فإنّه لم ينه عن (التفاؤل) ولكنّه أدان وبشدّة «التطيّر» حتى أنّه في بعض الرّوايات اعتبر ذلك من الشرك ، إذ جاء الرّسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قوله : «الطيرة شرك» وقد بحثنا هذا الموضوع بشكل مفصّل في نهاية الآية (١٣١) من سورة الأعراف(١) .

الظريف في الأمر أنّ الإسلام يقوم دائما بتوجيه مثل هذه الأمور الوهمية ويحاول توظيفها في مجراها الصحيح والبنّاء ، حتى يمكن الاستفادة منها.

فمثلا ممّا هو شائع بين الناس أنّ الزوجة الفلانية قدمها خير ، بينما الأخرى قدمها في بيت زوجها شرّ ونحس ، وكذلك شائع أن الزوجة الفلانية ومنذ أن دخلت بيت زوجها حصل كذا وكذا (خيرا أم شرا) بينما واقع الحال إنّ هذه الأمور خرافية وهمية ، لكن الإسلام أعطى بعضها ـ من خلال توجيهه ـ شكلا بناء ومضمونا تربويا ، فعن الإمام الصادقعليه‌السلام نقرأ : «من شؤم المرأة غلاء مهرها وشدّة مؤنتها»(٢) . وفي حديث آخر عن رسول الهدىصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نقرأ : «أمّا الدار فشؤمها ضيقها وخبث جيرانها»(٣) .

__________________

(١) يراجع التّفسير «الأمثل» عند تفسير قوله تعالى :( فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قالُوا لَنا هذِهِ ، وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ ، أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ عِنْدَ اللهِ ، وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ ) ، (الأعراف ١٣١).

(٢) راجع وسائل الشيعة ، ج ٣ ، ص ١٠٤.

(٣) راجع سفينة البحار ، ج ١ ، ص ٦٨٠.

٤٢٣

لاحظوا بدقة كيف يستخدم الإسلام نفس الألفاظ التي كان الناس يستخدمونها في مفاهيم خرافية ووهمية ، يوظفها في مفاهيم واقعية وبأسلوب تربوي بنّاء ، ولاحظوا أيضا ، كيف أنّ الأفكار التي كانت تنتهي إلى طريق مغلق ، جاء الإسلام ووجهها نحو طريق الهداية والإصلاح.

أخيرا وقبل أن ننتقل إلى الملاحظة الثّانية نختم حديثنا بكلام لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يطابق ما قلناه آنفا؟ إذا روي عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قوله : «اللهمّ لا خير إلّا خيرك ، ولا طير إلّا طيرك ولا ربّ غيرك».

٢ ـ صحيفة أعمال الإنسان العجيبة :

لقد تحدّثت آيات قرآنية وروايات عديدة عن صحيفة أعمال الإنسان. وكلّ هذه الآيات والرّوايات تؤكّد على أنّ جميع الأعمال وجزئياتها وتفصيلاتها تكون مدوّنة في صحيفة الأعمال ، وفي يوم البعث والقيامة ، يستلم الإنسان صحيفة عمله بيمينه إذا كان محسنا ويتناولها بشماله إذا كان مسيئا. ففي الآية (١٩) من سورة الحاقة نقرأ!( فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ ) وفي الآية (٢٥) من نفس السورة نقرأ قوله تعالى حكاية عن الإنسان الخاسر :( وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ فَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ ) . وفي الآية (٤٩) من سورة الكهف نقرأ قوله تعالى :( وَوُضِعَ الْكِتابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يا وَيْلَتَنا ما لِهذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها،وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً ) .

وفي حديث عن الإمام الصادقعليه‌السلام ، يتعلق بالآية ـ مورد البحث ـ( اقْرَأْ كِتابَك ) قال : «يذكر العبد جميع ما عمل ، وما كتب عليه ، حتى كأنّه فعله تلك الساعة ، فلذلك قالوا يا ويلتنا ما لهذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلّا

٤٢٤

أحصاها»(١) .

وهنا يطرح هذا السؤال ؛ عن ماهية هذه الصحيفة وكيفيتها؟

ممّا لا شك فيه أنّها ليست من جنس الكتب والورق والصحف العادية ، لذا فإنّ بعض المفسّرين قالوا بأنّ صحيفة الأعمال ليست سوى «روح الإنسان» والتي تكون جميع الأعمال مثبتة فيها(٢) لأنّ أي عمل نعمله سيكون له أثر في روحنا شئنا أم أبينا.

وقد تكون صحيفة الأعمال ، هي أعضاء جسمنا وجلودنا ، والأعظم من ذلك هو أنّ الصحيفة قد تكون متضمّنة في الأرض والهواء والفضاء الذي يحيطنا والذي نعيش فيه ، لأنّ هذه المفردات هي ووعاء أعمالنا ، فترتسم الأعمال في أفق الأرض الهواء والوجود الذي حولنا ، هذا الوجود الذي تنحت في ذراته أعمالنا أو آثارها وعلى الأقل.

وإذا كانت هذه الآثار غير محسوسة اليوم ، ولا يمكن دركها في الحياة الدنيا هذه ، إلّا أنّ ذلك ـ بدون شك ـ لا يعني عدم وجودها ؛ فعند ما نرزق بصرا جديدا آخر (في يوم القيامة) فسوف يكون بإمكاننا أن نرى جميع هذه الأمور ، ونقرؤها.

على أنّ استخدام الآية الكريمة لتعبير (اقرأ) ينبغي أن لا يغيّر من تفكيرنا شيئا إزاء ما ذهبنا إليه آنفا ، لأنّ كلمة «اقرأ» تتضمّن مفهوما واسعا ، وتدخل الرؤيا بمفهومها الواسع هذا ، فنحن مثلا وفي تعابيرنا العادية التي نستخدمها يوميا نقول : قرأت في عيني فلان ما الذي يريد أن يفعله ، كما أنّنا في عالم اليوم أخذنا نستخدم كلمة «اقرأ» بخصوص الأشعة التي تؤخذ للمرضى ، هذا بالرغم من أنّ الأشعة ، هي صورة تخضع للمشاهدة لا للقراءة ، وهذا المثال والأمثلة التي سبقته

__________________

(١) نور الثقلين ، ج ٣ ، ص ١٤٤.

(٢) يراجع تفسير الصافي في شأن تفسير هذه الآية.

٤٢٥

تؤكد ما ذهبنا إليه أنّ المشاهدة تدخل في إطار المعنى الواسع للقراءة.

وقد تقدم في الآيات السابقة أنّ تفصيلات صحيفة الأعمال هذه ، لا يمكن إنكارها بأي وجه ، لأنّ الآثار الحقيقية الموضوعية (أي الخارجية) والتكوينية للعمل تشبه كثيرا الصوت المسجّل للإنسان ، أو الصورة المأخوذة له ، أو بصمات أصابعه ، وأيّا من هذه الآثار لا يجد الإنسان إلى نكرانها سبيلا!

٣ ـ البريء لا يؤخذ بجريرة المذنب :

في منطق العقل وتوجيهات الأنبياءعليهم‌السلام لا يمكن معاقبة البريء بسبب جريمة المذنب ، وهذا تماما عكس ما هو شائع بين عامّة الناس من خلال المثل الذي يقول (يحرق الأخضر واليابس معا) ، وكمثل على ذلك ، نرى أنّ في كل المدن والمناطق التي كانت في حدود نبوّة النّبي لوطعليه‌السلام ، لم تكن هناك سوى عائلة مؤمنة واحدة ، ولكن عند ما نزل العذاب على قوم لوطعليه‌السلام أنجى الله تلك العائلة ، وكتب لها سبيل الخلاص من العذاب العام ، وهكذا لم تؤخذ هذه العائلة المؤمنة البريئة بجريرة القوم المذنبين.

وتتحدث الآية ، من مجموع الآيات التي نحن بصددها ، بصراحة عن هذه القاعدة ، فتقول :( وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ) . وإذا صادف أن وجدنا من بين الأحاديث غير المعتبرة ، أمورا تعارض هذا القانون الإسلامي العام. فيجب ترك تلك الأحاديث أو توجيهها.

وفي هذه الاتجاه ، أمامنا رواية تقول : إنّ الشخص الميت يتعذب ببكاء الحىّ ، (وهنا يحتمل ، ومن باب توجيه الحديث ، أن يكون الغرض من العذاب ، هو ليس العذاب الإلهي، بل الأذى الذي يصيب الميت من ذلك عند ما تطّلع روحه على جزع الأهل والأقرباء).

ويتّضح هنا ـ أيضا ـ مصير عقيدة الأشخاص الذين يقولون : إنّ أبناء الكفّار

٤٢٦

يحشرون مع آبائهم في نار جهنّم لبطلانه إسلاميا ولمنافاته لقاعدة( وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ) ، وإنّ الذرية لا تؤاخذ بجريرة الآباء ، وهي بالتالي لا تعاقب بسبب ذنوب الأب والأم. ولهذا السبب بالذات ، فقد قلنا بأنّ الأبناء غير الشرعيين (أولاد الزنا) ليست لهم من جريرة غيرهم عليهم شيء ، وأنّهم بمنأى عن الذنب وأنّ أبواب السعادة أمامهم مفتوحة ، إذا أرادوهم ذلك ، بالرغم من اعترافنا بصعوبة تربيتهم!

٤ ـ قاعدة «أصل البراءة» وآية!( ما كُنَّا مُعَذِّبِينَ ) :

في علم الأصول ، وفي بحث «البراءة» استدلوا بقوله تعالى :( وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى ) على أن فهم الآية يوضّح أنّ المسائل التي لا يمكن للعقل إدراكها أو القطع بها ، لا يعاقب عليها الإنسان حتى يبعث الله الرسل والأنبياء ليبيّنوا الأحكام والتكاليف والوظائف. وهذا بحد ذاته دليل على عدم العقاب في الأمور التي لم تقم الحجة عليها ، وقاعدة «أصل البراءة» لا تعني شيئا غير هذا ؛ أي لا عقاب بدون حجة من العقل أو النقل.

أمّا قول البعض : إنّ مفاد «العذاب» في الآية أعلاه ، هو «عذاب الاستئصال» مثل طوفان نوح ، فلا دليل على ذلك ، بل ـ كما قلنا ـ إنّ اطلاق الآية ينفي ذلك ، وهي تشمل بالتالي كلّ عذاب وعقاب.

* * *

٤٢٧

الآيتان

( وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً (١٦) وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (١٧) )

التّفسير

مراحل العقاب الإلهي :

إنّ موضوع البحث في هذه الآيات يكمّل ما كنّا بصدد بحثه في نهاية الآيات السابقة، ولكن بصورة أخرى ، إذ تقول الآية الكريمة :( وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً ) (١) . إنّ الآيات التي كنّا قبل قليل بصدد بحثها ، كانت تتحدّث عن أنّ العقاب الإلهي لا يمكن أن ينزل بساحة شخص أو مجموعة أو أمّة ، من دون أن تكون هناك حجة وبيان للتكليف من قبل الرسل والأنبياءعليهم‌السلام ، والآية التي نحن بصددها الآن ، تتحدث عن نفس هذا الأصل ، ولكن بطريقة أخرى.

صحيح أنّ المفسّرين وضعوا احتمالات متعددة لتفسير هذه الآية ، إلّا أنّنا

__________________

(١) بالرغم من أنّ كلمة «قول» لها معنى واسع ، ولكنّها هنا تعني إعطاء الأمر بالعذاب.

٤٢٨

نعتقد بأنّه لا يوجد سوى تفسير واحد واضح لهذه الآية ، يمكن تبيانه من مؤدّى ظاهرها ، وهذا التّفسير هو : إنّ الله لا يعاقب أو يؤاخذ أحدا بالعذاب ، قبل أن يتمّ الحجّة عليه ، وقبل أن يتّضح ويستبين تكليفه ، ففي البداية يضع الله تعليماته وأوامره أمام الناس ، فإذا التزموا بها وأطاعوا فستنالهم سعادة الدنيا والآخرة. أمّا إذا عصوا وخالفوا ولم يلتزموا الأوامر والنواهي الربانية ، فسيحيق بهم العذاب ، ويؤدي إلى هلاكهم.

وإذا تأملنا الآية ، ودققنا النظر فيها بشكل صحيح ، فسنرى أنّ هناك أربع مراحل لهذا البرنامج الرباني ، هي :

١ ـ مرحلة الأوامر والنواهي.

٢ ـ مرحلة الفسق والمخالفة.

٣ ـ مرحلة استحقاق المجازاة.

٤ ـ مرحلة الهلاك.

والملاحظ هنا ، أنّ المراحل الأربع هذه ، معطوفة على بعضها البعض بواسطة «فاء» التفريع.

هنا يطرح هذا السؤال : لماذا كان المأمورون في الآية الكريمة هم المترفين دون غيرهم؟(١) .

في الإجابة على السؤال المثار ، لا بدّ من الإشارة إلى ملاحظة تعتبر مهمّة في توضيح المعنى ، وهي أنّ المترفين هم وجهاء القوم ، ورؤساء المجتمع ـ طبعا هذه القاعدة تخص المجتمعات المريضة ـ والآخرون تبع لهم.

إضافة إلى ذلك ، فإنّ التعبير في الآية الكريمة ينطوي على إشارة مهمّة ، هي أنّ أغلب المفاسد الاجتماعية تنبع من المترفين ، أصحاب الأموال ، البعيدين عن

__________________

(١) مترفون ، من مادة رفاه ، وتعني المتنعمين وذوي الأموال الكثيرة الناسين لله تعالى.

٤٢٩

الله تعالى ، والذين يعيشون حياة مترفة بعيدة عن الشرع مملوءة بالأهواء والمفاسد ، وهم بذلك لا يفقهون شيئا عن تلك المفردات التي تتحدث عن الأخلاق والإنسانية والإصلاح. ولهذا السبب بالذات ، وبحكم موقعهم ، كان المترفون دائما في الصفوف الأولى ، في مواجهة دعوات الأنبياء والرسل ، وكانوا يعتبرون دعوات الأنبياء ـ القائمة على أساس العدل وحماية المستضعفين ـ ضدّهم.

لهذه الأسباب ذكر هؤلاء بالخصوص لأنّهم أساس الفساد. على أية حال ، هذه الآية بمثابة تحذير لكل المؤمنين كي ينتبهوا ، ولا يسلموا زمام أمورهم وحكوماتهم بيد المترفين والأغنياء الغارقين بالشهوات ، وألّا يتبعونهم ، لأنّ هؤلاء يجرون مجتمعهم نحو الهلاك.

الآية التي بعدها تشير إلى نماذج بهذا الخصوص ، على أنّها أصل عام ، وقاعدة سارية، إذ تقول :( وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ ) وفقا لهذه القاعدة والسنّة ، ثمّ تضيف بعد ذلك :( وَكَفى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً ) أي إنّ ظلم وذنوب فرد أو مجموعة لا يمكنها أن تكون خافية على العين البصيرة التي لا تنام لربّ العالمين.

«قرون» جمع «قرن» وهي تعني الجماعة التي تعيش في عصر واحد ، ثمّ أطلقت فيما بعد على مجموع العصر الواحد.

أمّا بصدد عدد سنين القرن الواحد ، فهناك آراء مختلفة ، فقسم أعتبر القرن (٤٠) سنة ، وآخرون قالوا : ثمانين ، والبعض الثالث ، قال : إنّ القرن مائة عام ، أخيرا فقد اعتبر البعض أنّ القرن هو مائة وعشرون عاما. وفي كلّ الأحوال لا بدّ من الإشارة هنا إلى أن الحكم في هذه القضية يخضع لطبيعة الاتفاق العرفي الذي ينعقد حولها. ومن هنا فقد اتفق في عصرنا الراهن على أنّ كل مائة سنة تعتبر قرنا

٤٣٠

واحدا(١) .

أمّا لماذا أكدت الآية على القرون من بعد نوحعليه‌السلام فقد يكون ذلك بسبب أنّ الحياة قبل نوحعليه‌السلام كانت حياة بسيطة ، والاختلافات التي تقسّم المجتمعات إلى مترف ومستضعف ، كانت بسيطة وضئيلة ، لذلك فالعذاب الإلهي لم يشملهم بكثرة.

أمّا عن سبب ذكر كلمتي «خبير» و «بصير» معا ، فإنّ ذلك يعود إلى المعنى المراد ، إذ «الخبير» تعني العلم والإحاطة بالنية والعقيدة ، أمّا «بصير» فدلالة على رؤية الأعمال. لذلك فإنّ الله تبارك وتعالى يعلم بواطن الأعمال والنيات ، ويحيط بنفس الأعمال، ومثل هذه القدرة لا يمكنها بحال أن تظلم أحدا ، ولا أن يضيع حق أحد في ظل حكومتها.

* * *

__________________

(١) في نهاية الآية (١٣) من سورة يونس أشرنا إلى هذا الموضوع.

٤٣١

الآيات

( مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاها مَذْمُوماً مَدْحُوراً (١٨) وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً (١٩) كُلاًّ نُمِدُّ هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً (٢٠) انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً (٢١) )

التّفسير

طلاب الدنيا والآخرة :

لقد تحدّثت الآيات السابقة عن الذين عصوا أوامر الله تعالى ، وكيفية هلاكهم ، لذا فإنّ هذه الآيات ـ التي نحن بصددها الآن ـ تشير إلى سبب التمرّد على شريعة الله،والعصيان لأوامره ، وهذا السبب هو حب الدنيا ، إذ يقول تعالى :( مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاها مَذْمُوماً مَدْحُوراً ) .

٤٣٢

«العاجلة» تعني النعم الزائلة ، أو الدنيا الزائلة.

والظريف في الآية ، أنّها لا تقول : إنّ من يسعى وراء الدنيا ، ويجعلها كلّ همه ، يحصل على كلّ ما يريد ، بل هي قيّدت ذلك بشرطين هما :

أوّلا : سيحصل على جزء ممّا يريده ، وأنّ هذا الجزء هو المقدار الذي نريده نحن ، أي (ما نشاء).

والشرط الثّاني الذي يقيّد رغبة الساعي إلى الدنيا ، فهو : إنّ جميع الأشخاص ـ رغم سعيهم الدنيوي ـ لا يحصلون على هذا المقدار ، وإنما قسم منهم سيحصل على جزء من متاع الدنيا. وهذا معنى قوله :( لِمَنْ نُرِيدُ ) .

وبناء على ذلك ، فلا كلّ طلّاب الدنيا يحصلون عليها ، ولا أولئك الذين يحصلون على شيء منها ، يحصلون على ما يريدون. ومسير الحياة اليومية يوضح لنا هذين الشرطين ، إذ ما أكثر الذين يكدون ليلا ونهارا ولكنّهم لا يحصلون على شيء.

وما أكثر الذين لهم أمنيات كبيرة وطموحات متعددة ومشاريع بعيدة ، ولكن لا يحصلون إلّا على القليل منها.

وفي هذا تحذير الدنيا إنّكم إذا تصورتم بأنّكم ستصلون إلى أهدافكم عن طريق بيع الآخرة بالدنيا ، فهذا خطاء واشتباه كبير ، حيث أنّكم في بعض الأحيان قد لا تحققون أي هدف ، وفي أحيان أخرى قد تحققون بعض أهدافكم.

وعادة ما تكون للإنسان آمال كبيرة ومتعدّدة ، لا يمكن إشباعها في هذه الدنيا المادية المحدودة ، فلو أعطيت الدنيا كلّها إلى شخص واحد ، فقد لا يقتنع بها!

أمّا الأشخاص الذين يكدّون ولا يصلون إلى شيء ، فلذلك أسباب مختلفة ، إذ قد يكون هناك أمل في إنقاذهم ، والله بذلك يحبهم وييسر سبل الهداية لهم. أو يكون السبب أنّهم إذا وصلوا إلى مرحلة ما من أهدافهم ورغباتهم ، فسيطغون ويؤذون خلق الله ، ويضيقون عليهم الخناق.

٤٣٣

«يصلى» مشتقة من «صلى» وهي تعني إشعال النّار ، وأيضا تعني الحرق بالنّار ، والمقصود منها هنا هو المعنى الثاني.

والجدير بالانتباه هنا ، أنّ عاقبة هذه المجموعة من الناس ، والتي هي نار جهنّم ، قد تمّ تأكيدها في الآية ، بكلمتي( مَذْمُوماً ) و( مَدْحُوراً ) إذ التعبير الأوّل يأتي بمعنى اللوم ، بينما الثّاني يعني الابتعاد عن رحمة الخالق ، وفي الحقيقة إنّ نار جهنّم تمثل العقاب الجسدي لهم ، أمّا «مذموم» و «مدحور» فهما عقاب الروح ، لأنّ المعاد هو للروح وللجسد ، والجزاء والعقاب يكون للإثنين معا.

بعد ذلك تنتقل الآيات إلى توضيح وضع المجموعة الثّانية ومصيرها ، وبقرينة المقابلة وهي أسلوب قرآني مميّز ـ يتوضح الموضوع أكثر إذ يقول تعالى :( وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ ، فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً ) .

بناء على ذلك هناك ثلاثة شروط أساسية للوصول إلى السعادة الأبدية ، هي:

أوّلا : إرادة الإنسان : وهي الإرادة التي ترتبط بالحياة الأبدية ، ولا تكون مرتبطة باللذات الزائلة والنعم غير الثابتة ، والأهداف المادية ، فالإرادة القوية والروحية العالية تجعلان من الإنسان حرّا طليقا غير مرتبط بالدنيا.

ثانيا : هذه الإرادة يجب أن لا تكون ضعيفة وقاصرة في المجال الفكري والروحي للإنسان ، بل إنّها يجب أن تشمل جميع ذرات الوجود الإنساني ، وتدفعه للحركة ، ويبذل كل ما يستطيع من السعي في هذا المجال (يجب الملاحظة ، بأنّ كلمة «سعيها» قد جاءت في الآية الكريمة للتأكيد. وهي تعني أنّ على الإنسان أن يبذل أقصى ما يستطيع من السعي في سبيل الآخرة).

ثالثا : إنّ كل ما سبق من حيث عن الإرادة في النقطتين السابقتين ، ينبغي أن يقترن بالإيمان ، الإيمان الثابت القوي ، لأنّ أي تصميم وجهد ، إذا أريد له أن يثمر يجب أن تكون أهدافه صحيحة ، ومصدر هذه الأهداف هو الإيمان بالله لا غير.

صحيح أنّ السعي وبذل الجهد للآخرة لا يمكن أن يكون بدون إيمان ، حيث

٤٣٤

أنّ مفهوم الإيمان داخل ضمنه ، ولكن يجب عدم الاكتفاء بهذا المقدار من الدلالة الالتزامية للإيمان ، بل وينبغي التوسع في شرط الإيمان ، بحكم أنّ (الإيمان) يعتبر أمرا أساسيا ، وركنا مهمّا في هذا الطريق.

والملاحظ هنا ، أنّ الآية تخاطب عبيد الدنيا بالقول :( جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ ) بينما عند ما تنتقل إلى طلّاب الآخرة وعشّاقها ومريدها ، فهي تخاطبهم بالقول :( فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً ) . إنّ استخدام هذا التعبير أشمل وأجمل من استخدام أي تعبير آخر ، مثل (جزاءهم الجنّة) لأنّ الشكر من أي شخص هو بمقدار شخصيته ومكانته لا بمقدار العمل الذي تمّ ، لذا فإنّ شكر الله لسعي عباده يتناسب مع ذاته اللامتناهية ، ونعمه المادية والمعنوية وما نتصوره وما نعجز عن تصوّره.

وبالرغم من أنّ بعض المفسّرين قد فسّروا كلمة «مشكورا» في هذه الآية بمعنى «الأجر المضاعف»(١) . أو بمعنى «قبول العمل»(٢) ، إلّا أنّه من الواضح أن كلمة «مشكورا» لها معنى أوسع من هذه المعاني جميعا.

وقد يتوهم البعض ويلتبس عليه الأمر ، ظنا أنّ نعم الدنيا هي من نصيب عبيدها وطلابها فقط ، وأنّ طلّاب الآخرة وأهلها محرومون منها. لذلك فإنّ الآية التي بعدها تقف أمام هذا اللبس ، وتمنع هذا الظن ، عند ما تقول :( كُلًّا نُمِدُّ هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ ) لتضيف بعدها بقليل :( وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً ) .

نمدّ هنا من «الإمداد» بمعنى الزيادة.

الآية التي بعدها تشير إلى أصل مهم في هذا الخصوص وتقول : كما أن السعي في هذه الدنيا متفاوت ، وتتفاوت معه الأجور ، فكذلك الأمر في الآخرة : ولكن التفاوت الدنيوي محدود ، لأنّ الدنيا هي نفسها محدودة ، وأمّا الآخرة ـ ولكونها

__________________

(١) يراجع في هذا الشأن تفسير القرطبي ، ج ٦ ، ص ٣٨٥٢.

(٢) راجع تفسير الصافي عند الحديث عن هذه الآية.

٤٣٥

غير محدودة ـ فإن تفاوتها غير محدود ، إذ يقول تعالى :( انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً ) .

قد يقول قائل هنا : إنّنا نرى في هذه الدنيا أفرادا يحصلون على أرباح كثيرة بدون أي سعي أو جهد.

الجواب : إنّ وجود هؤلاء يعبّر عن حالات استثنائية لا يمكن اعتبارها قاعدة في مقابل الأصل الكلي ، المتمثل في الجهد والسعي ودورهما في نجاح الإنسان وتوفيقه. وبذلك فإنّ هذه الاستثناءات الثانوية لا تنافي الأصل الأساسي.

وأخيرا ، وقبل أن ننتقل إلى الملاحظات ، ينبغي أن ننّبه إلى أنّ السعي وبذل الجهد لا يتعلقان بالكمية والمقدار فقط ، ففي بعض الأحيان يكون السعي القليل ذو الكيفية العالية أكثر أثرا من السعي الكثير والكيفية الدانية.

* * *

بحوث

أوّلا : هل الدنيا والآخرة تقعان على طرفي نقيض؟

في الواقع إنّنا نرى في كثير من الآيات القرآنية مدحا وتمجيدا للدنيا وبإمكانها المادية ، ففي بعض الآيات اعتبر المال خيرا (سورة البقرة آية ١٨٠). وفي آيات كثيرة وصفت العطايا والمواهب المادية بأنّها فضل الله( وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللهِ ) (١) . وفي مكان آخر نقرأ قوله تعالى :( خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ) (٢) . وفي آيات كثيرة أخرى وصفت نعم الدنيا بأنها مسخّرة لنا( سَخَّرَ لَكُمُ ) .

وإذا أردنا أن نجمع كل الآيات التي تهتم بالإمكانات المادية وتؤكد عليها ،

__________________

(١) الجمعة ، ١٠.

(٢) البقرة. ٢٩.

٤٣٦

وتجعلها في سياق واحد ، فستكون أمامنا مجموعة كبيرة منها.

ولكن ، وبرغم الأهمية الكبرى التي تختص بها النعم المادية ، فإنّ القرآن الكريم استخدم تعابير أخرى تحقّرها وتحطّ منها بقوة ، إذ نقرأ في سورة النساء ، آية (٩٤) ، قوله تعالى :( تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا ) وفي مكان آخر نقرأ قوله تعالى :( وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ ) (١) . وفي سورة العنكبوت آية (٦٤) ، نقرأ( وَما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ ) أمّا في الآية (٣٧) من سورة النّور ، فإنا نلتقي مع قوله تعالى :( رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ ) .

هذه المعاني المزدوجة إزاء النعم والمواهب المادية ، يمكن ملاحظتها أيضا في الأحاديث والرّوايات الإسلامية ، فالدنيا في وصف لأمير المؤمنين عليعليه‌السلام هي «مسجد أحباء الله ، ومصلى ملائكة الله ، ومهبط وحي الله ، ومتجر أولياء الله»(٢) .

وفي جانب آخر ، نرى أنّ الأحاديث والرّوايات الإسلامية تعتبر الدنيا دار الغفلة والغرور ، وما شابه ذلك.

والسؤال هنا : هل تتعارض هذه المجاميع من الآيات والرّوايات فيما بينها؟

في الواقع ، عند ما تلام الدنيا ، فإنّ اللوم ينصب على أولئك الناس الذين لا هدف لهم ولا همّ سواها. من هنا نقرأ في الآية (٢٩) من سورة النجم قوله تعالى :( وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَياةَ الدُّنْيا ) . وبعبارة أخرى : فإنّ الذم الذي يرد للدنيا يقصد به الأشخاص الذين باعوا آخرتهم بدنياهم. ولا يتناهون عن أي منكر وجريمة في سبيل الوصول إلى أهدافهم المادية ، وفي هذا السياق نقرأ في الآية (٣٨) من سورة التوبة :( أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ ) .

ثمّ إنّ الآيات التي نبحثها تشهد على ما نقول ، إذ أنّ قوله تعالى :( مَنْ كانَ

__________________

(١) الحديد ، ٢٠.

(٢) نهج البلاغة ، باب الكلمات القصار ، جملة رقم ١٣١.

٤٣٧

يُرِيدُ الْعاجِلَةَ ) هو خطاب لأولئك الذين يستهدفون هذه الحياة العادية الزائلة ، ويقفون عندها.

وعادة فإن استخدام تعابير «المزرعة» أو «المتجر» وما شاكلهما في تشبيه الحياة الدنيا ووصفها ، يعتبر دليلا حيا على هذا الموضوع.

وخلاصة القول : إنّه إذا تمت الاستفادة من مواهب الدنيا وعطاياها التي تعتبر من النعم الإلهية ، ويعتبر وجودها ضروريا في نظام الخلق والوجود ، وتمت الاستفادة في سعادة الإنسان الأخروية وتكامله المعنوي ، فإنّ ذلك يعتبر أمرا جيدا ، وتمتدح معه الدنيا. أمّا إذا اعتبرناها هدفا لا وسيلة ، وأبعدناها عن القيم المعنوية والإنسانية ، عندها سيصاب الإنسان بالغرور والغفلة والطغيان والبغي والظلم.

وما أجمل وصف الإمام عليعليه‌السلام للدنيا حينما يقول : «من أبصر بها بصرته ، ومن أبصر إليها أعمته»(١) . وفي أنّ الفرق بين الدنيا المذمومة والدنيا الممدوحة ، هو نفس الفرق الذي نستفيده ، بين «إليها» و «بها» ، إذ تعني الأولى أنّ الدنيا هدف ، بينما تعني الثّاني أنّها مجرد وسيلة!

ثانيا : دور السعي في تحقيق المكاسب :

هذه ليست المرّة الأولى التي يشيد فيها القرآن بالسعي والجهد ودورهما في تحقيق المكاسب ، وبعكسه يحذّر الأشخاص العاطلين والكسالى بأنّ السعادة الأخروية لا يمكن ضمانها بالكلام المجرد ، والتظاهر بالإيمان ، بل الطريق يتمثل بالسعي وبذل الجهود.

وهذه الحقيقة واضح مفادها في الكثير من الآيات القرآنية. ففي سورة

__________________

(١) يراجع نهج البلاغة ، الخطبة رقم (٨٢).

٤٣٨

المدثر. آية (٣٨) نقرأ( كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ ) وآية أخرى تقول :( وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى ) . وفي آيات كثيرة أخرى ، يأتي العمل الصالح بعد ذكر الإيمان حتى لا يتوهم أحد ويظنّ بأنّه يستطيع الوصول إلى مرحلة ما بدون سعي وجهد ، فمواهب الدنيا المادية لا يمكن استحصالها بدون سعي وجهد ، فكيف إذن بالسعادة الأخروية الخالدة!!؟

ثالثا : الإمدادات الإلهية :

«نمدّ» مشتقّة من كلمة «إمداد» وهي تعني إيصال المعونة ، يقول الراغب الأصفهاني في كتاب «المفردات» أن : كلمة «إمداد» غالبا ما تستعمل في المساعدات المفيدة والمؤثّرة. أما كلمة «مدّ» فإنها تستعمل في الأشياء المكروهة وغير المقبولة.

على أية حال ، نقرأ في الآيات التي نبحثها ، أنّ الله سبحانه وتعالى يضع جزءا من نعمه في خدمة الجميع ، إذ يستفيد منها المحسنون والمسيئون ، وهذه النعم غالبا ما تكون من النوع الذي يتوقف استمرار الحياة عليه.

بتعبير آخر : هذه النعم هي تعبير عن مقام الرحمانية الإلهية التي تشمل فيوضاتها جميع الناس ، المؤمن والكافر. ولكن ما وراء ذلك هناك نعم لا تحصى تختص بالمؤمنين والمحسنين دون غيرهم.

* * *

٤٣٩

الآيات

( لا تَجْعَلْ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَخْذُولاً (٢٢) وَقَضى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما وَقُلْ لَهُما قَوْلاً كَرِيماً (٢٣) وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً (٢٤) رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صالِحِينَ فَإِنَّهُ كانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُوراً (٢٥) )

التّفسير

أحكام إسلامية مهمّة :

الآيات التي نحن بصدد بحثها هي بداية لسلسلة من الأحكام الإسلامية الأساسية ، والتي تبدأ بالدعوة إلى التوحيد والإيمان ، التوحيد الذي يعتبر الأساس والأصل لكل النشاطات الإيمانية ، والأعمال الحسنة والبناءة. والآيات عند ما تنحو هذا المنحى فهي بذلك تتصل مع مضمون البحث في الآيات السابقة ، التي كانت تتحدث عن الناس السعداء الذين أقاموا حياتهم على دعائم ثلاث هي :

٤٤٠

الإيمان ، السعي والعمل ووضع الآخرة ومنازلها نصب أعينهم.

وتعتبر هذه الآيات ـ أيضا ـ تأكيدا ثانيا لدعوة القرآن إلى أفضل السبل وأكثرها استقامة. في البداية تبدأ هذه الآيات بالتوحيد وتقول :( لا تَجْعَلْ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ ) إنّها لم تقل : لا تعبد مع الله إلها آخر ، بل تقول :( لا تَجْعَلْ ) هذا اللفظ أشمل وأوسع ، إذ هو يعني : لا تجعل معبودا آخر مع الله لا في العقيدة ، ولا في العمل ، ولا في الدعاء ، ولا في العبودية. بعد ذلك توضح الآية النتيجة القاتلة للشرك :( فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَخْذُولاً ) .

إنّ استعمال كلمة «القعود» تدل على الضعف والعجز ، فمثلا يقال : قعد به الضعف عن القتال. ومن هذا التعبير يمكن أن نستفيد أنّ للشرك ثلاثة آثار سيئة جدّا في وجود الإنسان ، هي :

1 ـ الشرك يؤدي إلى الضعف والعجز والذّلة ، في حين أنّ التوحيد هو أساس الحركة والنهوض والرفعة.

2 ـ الشرك موجب للذم واللوم ، لأنّه خط انحرافي واضح في قبال منطق العقل ، ويعتبر كفرا واضحا بالنعم الإلهية ، لذا فالشخص الذي يسمح لنفسه بهذا الانحراف يستحق الذم.

3 ـ الشرك يكون سببا في أن يترك الله سبحانه وتعالى الإنسان إلى الأشياء التي يعبدها ، ويمنع عنه حمايته ، وبما أنّ هذه المعبودات المختلفة والمصطنعة لا تملك حماية أي إنسان أو دفع الضرر عنه ، ولأنّ الله لا يحمي مثل هؤلاء ، لذا فإنهم يصبحون «مخذولين» أي بدون ناصر ومعين.

إنّ هذا المعنى يتّضح بشكل آخر في آيات قرآنية أخرى ، إذ نقرأ مثلا في الآية (41) من سورة العنكبوت :( مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ أَوْلِياءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً ، وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ ) .

بعد تبيان هذا الأصل التوحيدي ، تشير الآيات إلى واحدة من أهم توجيهات

٤٤١

الأنبياءعليهم‌السلام للإنسان ، فالآية ـ بعد أن تؤكد مرّة أخرى على التوحيد ـ تقول :( وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً ) .

كلمة «قضاء» لهم مفهوم توكيدي أكثر من كلمة «أمر» وهي تعني القرار والأمر المحكم الذي لا نقاش فيه. وهذا أوّل تأكيد في هذه القضية. أما التأكيد الثّاني الذي يدل على أهمية هذا القانون الإسلامي ، فهو ربط التوحيد الذي يعتبر أهم أصل إسلامي ، مع الإحسان إلى الوالدين.

أمّا التأكيدان الثّالث والرّابع فهما يتمثلان في معنى الإطلاق الذي تفيده كلمة «إحسان» والتي تشمل كل أنواع الإحسان. وكذلك معنى الإطلاق الذي تفيده كلمة «والدين» إذ هي تشمل الأم والأب ، سواء كانا مسلمين أو كافرين.

أمّا التأكيد الخامس فهو يتمثل بمجيء كلمة «إحسانا» نكرة لتأكيد أهميتها وعظمتها(1) .

ومن الضروري الانتباه إلى هذه الملاحظة ، وهي أنّ الأمر عادة ما ينصبّ على الأمور الإيجابية ، بينما جاء هنا في مفاد السلب والنفي (وقضى ألا تعبدوا ...) فما هو يا ترى سبب ذلك؟

من الممكن أن نقول : إنّ جملة( وَقَضى ) تتضمن تقديرا جملة إيجابية ، يمكن أن نقدرها بالقول : وقضى ربّك أن تعبده ، ولا تعبد أي شيء سواه. أو من الممكن أن تكون جملة( أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ) التي تتضمن «النفي والإثبات» جملة إيجابية واحدة ، إذ هي تحصر العبادة بالله دون غيره ثمّ تنتقل إلى أحد مصاديق هذه العبادة متمثلا بالإحسان إلى الوالدين فتقول :( إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما ) بحيث يحتاجان الى الرعاية والاهتمام الدائم. فلا تبخل عليها بأي

__________________

(1) يعتقد البعض أنّ كلمة «إحسان» تتعدى غالبا بـ «إلى» مثل قولنا «أحسن إليه». وفي بعض الأحيان قد تتعدى بالباء. وقد يكون هذا التعبير لإظهار المباشرة ، أي إظهار المحبّة والاحترام مباشرة وبدون أي واسطة. وهذا في الواقع تأكيد سادس في هذه القضية.

٤٤٢

شكل من إشكال المحبّة واللطف ولا تؤذيهما أو تجرح عواطفهما بأقل إهانة حتى بكلمة «أف» :( فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما ) (1) بل :( وَقُلْ لَهُما قَوْلاً كَرِيماً ) وكن أمامهما في غاية التواضع( وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ ، وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً ) .

الأهمية الاستثنائية لاحترام الوالدين :

إنّ الآيتين السابقتين توضحان جانبا من التعامل الأخلاقي الدقيق ، والاحترام الذي ينبغي أن يؤدّيه الأبناء للوالدين :

1 ـ من جانب أشارت الآية إلى فترة الشيخوخة ، وحاجة الوالدين في هذه الفترة إلى المحبّة والاحترام أكثر من أي فترة سابقة ، إذ الآية تقول :( إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍ ) . من الممكن أن يصل الوالدان إلى مرحلة يكونان فيها غير قادرين على الحركة دون مساعدة الآخرين ، وقد لا يستطيعون بسبب الكهولة رفع الخبائث عنهم ، وهنا يبدأ الاختبار العظيم للأبناء ، فهل يعتبرون وجود مثل هذين الوالدين دليل الرحمة ، أو أنّهم يحسبون ذلك بلاء ومصيبة وعذابا هل عندهم الصبر الكافي لاحترام مثل هؤلاء الآباء والأمهات ، أم أنّهم يوجهون الإهانات ويسيئون الأدب لهم ، ويتمنون موتهم؟!

2 ـ من جانب آخر تقول الآية :( فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍ ) بمعنى لا تظهر عدم ارتياحك أو تنفرك منهم( وَلا تَنْهَرْهُما ) ثمّ تؤكّد مرّة أخرى على ضرورة التحدّث معهم بالقول الكريم ، إذ اللسان مفتاح إلى القلب( وَقُلْ لَهُما قَوْلاً كَرِيماً ) .

3 ـ من جانب ثالث تأمر الآية بالتواضع لهم ، هذا التواضع الذي يكون علامة

__________________

(1) هناك قولان حول «إما» في جملة «إما يبلغنّ» فالفخر الرازي في تفسيره يذهب إلى أنّها مركّبة من «إن» الشرطية و «ما» الشرطية ، وهي بذلك تفيد التأكيد. أما البعض الآخر كصاحب «الميزان» مثلا ، فيرى أنّها مركبة من «إن» الشرطية و «ما» الزائدة ، التي جاءت هنا لتسمع لـ «إن» الشرطية بالدخول على الفعل المؤكد بنون التأكيد.

٤٤٣

المحبة ، ودليل الود لهم :( وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ ) .

4 ـ أخيرا تنتهي الآيات ، إلى توجيه الإنسان نحو الدعاء لوالديه وذكرهم بالخير سواء كانا أمواتا أم أحياء ، وطلب الرحمة الرّبانية لهما جزاء لما قاما به من تربية( وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً ) .

إضافة إلى ما ذكرناه ، فثمّة ملاحظة لطيفة أخرى يطويها التعبير القرآني ، هذه الملاحظة خطاب للإنسان يقول : إذ أصبح والداك مسنّين وضعيفين وكهلين لا يستطيعان الحركة أو رفع الخبائث عنهما ، فلا تنس أنّك عند ما كنت صغيرا كنت على هذه الشاكلة أيضا ، ولكن والديك لم يقصرا في مداراتك والعناية بك ، لذا فلا تقصّر أنت في مداراتهم ومحبتهم.

وقد تحدث من قبل بعض الأبناء انحرافات فيما يتعلق بحقوق الوالدين واحترامهم والتواضع لهم ، وقد يصدر هذا العقوق عن جهل في بعض الأحيان ، وعن قصد وعلم في أحيان أخرى ، لذا فإنّ الآية الأخيرة في بحثنا هذا تشير إلى هذا المعنى بالقول :( رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما فِي نُفُوسِكُمْ ) . وهذه إشارة إلى أنّ علم الله ثابت وأزلي وأبدي وبعيد عن الاشتباهات ، بينما علمكم أيّها الناس لا يحمل هذه الصفات! لذلك فإذا طغى الإنسان وعصى أوامر خالقه في مجال احترام الوالدين والإحسان إليهم ، ولكن بدون قصد وعن جهل ، ثمّ تاب بعد ذلك وأناب ، وندم على ما فعل وأصلح ، فإنّه سيكون مشمولا لعفو الله تعالى :( إِنْ تَكُونُوا صالِحِينَ فَإِنَّهُ كانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُوراً ) .

«أوّاب» مشتقة من «أوب» على وزن «قوم» وهي تعني الرجوع مع الإرادة ، في حين أن كلمة «رجع» تقال للرجوع مع الإرادة أو بدونها ، لهذا السبب يقال للتوبة «أوبة» لأنّ حقيقة التوبة تنطوي على الرجوع عن الأمر (المنكر) ، إلى الله ، مع الإرادة.

وبما أنّ كلمة «أوّاب» هي صيغة مبالغة ، لذا فإنّها تقال للأشخاص الذين كلما

٤٤٤

أذنبوا رجعوا إلى خالقهم. وقد تكون صيغة المبالغة في «أوّاب» هي إشارة إلى تعدّد عوامل العودة والرجوع إلى الله. فالإيمان بالله أوّلا ، والتفكير بحكمة يوم الجزاء والقيامة ثانيا ، والضمير الحي ثالثا ، والتفكير بعواقب ونتائج الذنوب رابعا ، كل هذه العوامل تعمل سوية لأجل عودة الإنسان من طريق الانحراف ، نحو الله.

* * *

بحوث

أوّلا : احترام الوالدين في المنطق الإسلامي

بالرغم من أنّ العاطفة الإنسانية ومعرفة الحقائق ، يكفيان لوحدهما لاحترام ورعاية حقوق الوالدين ، إلّا أنّ الإسلام لا يلتزم الصمت في القضايا التي يمكن للعقل أن يتوصل فيها بشكل مستقل ، أو أن تدلّ عليها العاطفة الإنسانية المحضة ، لذلك تراه يعطي التعليمات اللازمة إزاء قضية احترام الوالدين ورعاية حقوقهما ، بحيث لا يمكن لنا أن نلمس مثل هذه التأكيدات في الإسلام إلّا في قضايا نادرة أخرى.

وعلى سبيل المثال يمكن أن تشير الفقرات الآتية إلى هذا المعنى :

ألف : في أربع سور قرآنية ذكر الإحسان إلى الوالدين بعد التوحيد مباشرة ، وهذا الاقتران يدل على مدى الأهمية يوليها الإسلام للوالدين.

ففي سورة البقرة آية (83) نقرأ :( لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللهَ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً ) .

وفي سورة النساء آية (36) نقرأ قوله تعالى :( وَاعْبُدُوا اللهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً ) . أما الآية (151) من سورة الأنعام فإنّها تقول :( أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً ) . وفي الآية التي نبحثها نقرأ قوله تعالى :( وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً ) .

ب ـ إنّ مسألة احترام الوالدين ورعاية حقّهما من المنزلة بمكان ، حتى أنّ

٤٤٥

القرآن والأحاديث والرّوايات الإسلامية ، تؤكدان معا على الإحسان للوالدين حتى ولو كانا مشركين ، إذ نقرأ في الآية (15) من سورة لقمان :( وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ، فَلا تُطِعْهُما وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً ) .

ج ـ رفع القرآن الكريم منزلة شكر الوالدين إلى منزلة شكر الله تعالى ، إذ تقول الآية (14) من سورة لقمان :( أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ ) .

وهذا دليل على عمق وأهمية حقوق الوالدين في منطق الإسلام وشريعته ، بالرغم من أن نعم الله التي يشكرها الإنسان لا تعدّ ولا تحصى.

د ـ القرآن الكريم لا يسمح بأدنى إهانة للوالدين ، ولا يجيز ذلك ، ففي حديث عن الإمام الصادقعليه‌السلام قال : «لو علم الله شيئا هو أدنى من أف لنهى عنه ، وهو من أدنى العقوق ، ومن العقوق أن ينظر الرجل إلى والديه فيحدّ النظر إليهما»(1) .

ه ـ بالرغم من أنّ الجهاد يعتبر من أهم التعاليم الإسلامية ، إلّا أنّ رعاية الوالدين تعتبر أهم منه ، بل لا يجوز إذا أدّى الأمر إلى أذية الوالدين ، بالطبع هذا إذا لم يكن الجهاد واجبا عينيا ، وإذ توفرّ العدد الكافي من المتطوعين له.

في حديث عن الإمام الصادقعليه‌السلام ، أنّ رجلا جاء إلى الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقال له ، إنّي أحبّ الجهاد ، وصحتي جيدة ، ولكن لي أمّ لا ترتاح لذلك ، فما ذا أفعل ، فأجابهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إرجع فكن مع والدتك فو الذي بعثني بالحق لأنسها بك ليلة خير من جهاد في سبيل الله سنة»(2) .

ولكن عند ما يجب الجهاد وجوبا عينيا ، وتصبح بلاد الإسلام في خطر يلزم الجميع بالحضور ولا تقبل جميع الاعذار حينئذ بما فيها عدم رضاء الوالدين.

وما قلناه عن الجهاد ينطبق كذلك على الواجبات الكفائية الأخرى ، وكذلك المستحبات.

__________________

(1) يلاحظ : جامع السعادات ، النراقي ، ج 2 ، ص 258.

(2) جامع السعادات ، ج 2 ، ص 260.

٤٤٦

و ـ عن الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «إيّاك وعقوق الوالدين فإنّ ريح الجنّة توجد من ميسرة ألف عام ولا يجدها عاقّ»(1) .

هذا التعبير ينطوي على إشارة لطيفة ، إذ أن مثل هؤلاء الأشخاص (العاقين) ليسوا لا يدخلون الجنّة وحسب ، بل إنّهم يبقون على مسافة بعيدة جدا منها ولا يستطيعون الاقتراب منها.

وينقل «سيد قطب» حديثا عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جاء فيه : «عن بريدة عن أبيه، أنّ رجلا كان في الطواف حاملا أمّه يطوف بها ، فرأى النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فسأله : هل أديت حقّها؟ فأجابهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا ، ولا بزفرة واحدة».

ويقصد بالزفرة الواحدة الوجعة الواحدة ، أو الطلقة الواحدة ، التي تغشى الأم حين الولادة والوضع(2) .

إذا أردنا نطلق العنان للقلم في هذا المجال ، فسيطول بنا المقام ونبتعد عن التّفسير، لكن ـ بصراحة ـ يجب أن نعترف بأنّ كل ما يقال في هذا المجال فهو قليل ، لأنّ الوالدين حق العيش والحياة على الولد.

في نهاية هذه الفقرة ، أشير إلى أنّ الوالدين ـ في بعض الأحيان ـ يقترحان على الأبناء أشياء غير منطقية وحتى ـ غير شرعية ، طبعا في مثل هذه الحالات لا تجب الطاعة ، ولكن من الأفضل أن يتسم التعامل معهما بالهدوء والمنطق ، وأن تتم عملية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بأحسن وجه.

أخيرا نختم الكلام بحديث عن الإمام الكاظمعليه‌السلام قال فيه : إنّ رجلا جاء النّبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يسأله عن حق الأدب على ابنه ، فأجابهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقوله : «لا يسميه باسمه، ولا يمشي بين يديه ، ولا يجلس قبله ، ولا يستسب له»(3) (اي لا يفعل شيئا يؤدي

__________________

(1) جامع السعادات ، ج 2 ، ص 257.

(2) في ظلال القرآن ، ج 4 ، ص 2222 ، الطبعة العاشرة.

(3) نور الثقلين ، ج 3 ، ص 149.

٤٤٧

الى أن يسبّ الناس والديه).

ثانيا : بحث حول كلمة «قضى» :

«قضى» أصلها من كلمة «قضاء» بمعنى الفصل في شيء ما ، إمّا بالعمل وإمّا بالكلام. وقال بعض : إنّ معناها هو وضع نهاية لشيء ما ، وفي الواقع فإنّ المعنيين متقاربان. وبما أنّ الفصل ووضع النهاية لهما معاني واسعة ، لذا فإنّ هذه الكلمة لها استخدامات في مفاهيم مختلفة ، فالقرطبي في تفسيره مثلا ذكر لها ستة معان هي :

* «قضى» بمعنى «أمر» كما في قوله تعالى :( وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ) .

* «قضى» بمعنى «خلق» كما في قوله آية (12) من سورة فصلت( فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ ) .

* «قضى» بمعنى «حكم» كما في الآية (72) من سورة طه( فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ ) .

* «قضى» بمعنى الانتهاء من شيء ، ومثله الآية (41) من سورة يوسف( قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ ) .

* «قضى» بمعنى «أراد» كما في سورة آل عمران آية (47) :( إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ) .

* «قضى» بمعنى «عهد» كما في الآية (44) من القصص :( إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ ) (1) .

وقد أضاف أبو الفتوح الرازي إلى هذه المعاني قوله :

* «قضى» بمعنى «الإخبار والإعلام» مثل قوله تعالى :( وَقَضَيْنا إِلى بَنِي

__________________

(1) تفسير القرطبي ، ج 6 ، ص 3853.

٤٤٨

إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ ) (1) .

ونستطيع أن نضيف إلى هذا المعنى ، معنى آخر تكون فيه «قضى» بمعنى «الموت» كما في آية (15) من سورة القصص( فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ ) .

المهم هنا ، أنّ بعض المفسّرين وضع أكثر من (13) معنى لكلمة في القرآن الكريم(2) .

ولكن لا يمكن اعتبار كل هذه معاني متعدّدة لكلمة «قضى» لأنها تنتهي إلى مفهوم واحد. لذلك فإنّ أغلب المعاني المذكورة أعلاه هي من باب اختلاط المصداق بالمفهوم. لأنّ كل واحدة منها ، ما هي في واقعها إلّا مصداقا للمفهوم الكلّي والجامع المتمثل في «الفصل ووضع النهاية» فالقاضي بحكمه يضع نهاية للدعوى ، والخالق يضع نهاية لما خلق ، والمخبر بأخباره يضع نهاية لما يريد أن يوضحه. ولكن لا يمكن الإنكار أنّ بعض هذه المصاديق ، ومن كثرة الاستخدام قد وضعت معان جديدة لكلمة «قضاء» مثل الحكم أو إعطاء الأوامر.

ثالثا : بحث حول معنى كلمة «أف» :

أصل «أف» كلّ مستقذر من وسخ وقلامة ظفر وما يجري مجراهما ، ويقال ذلك لكلّ مستخف به استقذارا له. ويمكن أن نشتق منه فعلا ، كمثل قولنا : قد أففت لكذا ، إذا قلت ذلك استقذارا له. (مفردات الراغب صفحة 19).

بعض المفسّرين مثل «القرطبي» في الجامع ، و «الطبرسي» في «مجمع البيان» قالوا : «أف» و «تف» في الأصل بمعنى وسخ الظفر حيث أنّه ملوّث وتافة أيضا ، وينقل الرازي عن الأصمعي أنّ «الأف» وسخ الأذن ، و «التف» وسخ الظفر ، حتى توسع المعنى ليشمل كل ما يتأذى منه ، وتذكر اللفظة أيضا عند كل مكروه يصل

__________________

(1) تفسيره أبو الفتوح الرازي ، ج 7 ، ص 188.

(2) وجوه القرآن للتفليسي ، ص 235.

٤٤٩

إليهم(1) .

وهناك معان أخرى لكلمة «أف» منها أنّها تعني الشيء القليل ، أو الأذى من الرائحة الكريهة.

البعض الآخر قال : إنّ أصل هذه الكلمة مأخوذ من «الصوت» الذي يخرج من الفم عند ما ينفخ الإنسان لتنظيف بدنه أو ملابسه من الغبار الموجود عليها ، وهذا الصوت يشبه كلمة «أوف» أو «أف» وقد أستفيد منها فيما بعد للتعبير عن التنفّر وعدم الراحة من الأشياء الصغيرة بالخصوص.

وخلاصة الذي ذكرناه أعلاه ، وبالإضافة إلى قرائن أخرى يمكن القول بأنّ هذه الكلمة هي في الأصل «اسم صوت» والمقصود بالصوت هنا ما يصدره الإنسان من فمه عند ما يتذمّر أو ينفخ لإزالة شيء ما. ثمّ بعد ذلك تحول «اسم الصوت» إلى كلمة يمكن اشتقاق الأفعال منها ، وبذلك تكون المعاني التي ذكرناها مصاديق لهذا المفهوم العام والشامل.

ومنتهى الكلام هنا ، أنّ الآية تريد أن تقول بعبارة قصيرة وفصيحة وبليغة ، إنّ احترام الوالدين ورعاية حقوقهما مهمان للغاية ، بحيث لا يجوز تجاوز الحدود أمامهما أو إيذاؤهما حتى بمستوى ما تحمله كلمة «أف» من معنى.

* * *

__________________

(1) التّفسير الكبير ، الفخر الرازي ، ج 2 ، ص 188.

٤٥٠

الآيات

( وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً (26) إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ وَكانَ الشَّيْطانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً (27) وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوها فَقُلْ لَهُمْ قَوْلاً مَيْسُوراً (28) وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً (29) إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (30) )

التّفسير

رعاية الاعتدال في الإنفاق والهبات :

مع هذه الآيات يبدأ الحديث عن فصل آخر من سلسلة الأحكام الإسلامية الأساسية ، التي لها علاقة بحقوق القربى والفقراء والمساكين ، والإنفاق بشكل عام ينبغي أن يكون بعيدا عن كل نوع من أنواع الإسراف والتبذير ، حيث تقول الآية( وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً ) .

٤٥١

«تبذير» من «بذر» وهي تعني بذر البذور ، إلّا أنّها هنا تخص الحالات التي يصرف فيها الإنسان أمواله بشكل غير منطقي وفاسد. بتعبير آخر : إنّ التبذير هو هدر المال في غير موقعه ولو كان قليلا ، بينما إذا صرف في محلّه فلا يعتبر تبذيرا ولو كان كثيرا. ففي تفسير العياشي ، عن الإمام الصادقعليه‌السلام ، نقرأ قوله : «من أنفق شيئا في غير طاعة الله فهو مبذر ومن أنفق في سبيل الله فهو مقتصد»(1) .

وينقل عن الإمام الصادقعليه‌السلام أيضا أنّه دعا برطب (لضيوفه) فاقبل بعضهم يرمي بالنوى ، فقال : «لا تفعل إن هذا من التبذير ، وإنّ الله لا يحب الفساد»(2) .

وفي مكان آخر نقرأ ، أنّ رسول الهدىصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مرّ بسعد وهو يتوضأ ، فقال : ما هذا السرف يا سعد؟ قال : أفي الوضوء سرف؟ فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «نعم وإن كنت على نهر جار»(3) .

وبالنسبة لذوي القربى هناك كلام كثير بين المفسّرين ، هل هم عموم القربى؟ أو المقصود بهم قربى الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم باعتباره هو المخاطب بالآية؟

في الأحاديث الكثيرة التي سنقرؤها وفي الملاحظات التي سنقف عندها سنعرف بأنّ ذوي القربى هم قربى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وبعض الرّوايات تشير إلى أنّ الآية تتحدث عن قصّة فدك التي أعطاها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بنته فاطمة الزهراءعليها‌السلام .

ولكن مخاطبة الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في كلمة «وآت» لا تعتبر دليلا على اختصاص هذا الحكم به ، لأنّ جميع الأحكام الواردة في هذه المجموعة من الآيات كالنهي عن الإسراف ومداراة السائل والمسكين ، والنهي عن البخل ، هي أحكام عامّة بالرغم من أنّها تخاطب الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

وهناك نقطة ينبغي الالتفات إليها ، وهي مجيء النهي عن التبذير والإسراف ،

__________________

(1) يراجع تفسير الصافي عند بحث هذه الآية.

(2) المصدر السابق.

(3) المصدر السابق.

٤٥٢

بعد إعطاء الأمر بأداء حق الأقرباء والمساكين حتى لا يقع الإنسان تحت تأثير عاطفة القرابة أو الصدقة فيعطي لهذا المسكين أو ابن السبيل أو القريب أكثر ممّا يستحق أو يتحمل ، فيعتبر ذلك إسرافا وتبذيرا ، وهما مذمومان دائما.

الآية التي بعدها هي لتأكيد النهي عن التبذير( إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ ، وَكانَ الشَّيْطانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً ) .

أمّا كيف كفر الشيطان بنعم ربّه ، فهذا واضح ، لأنّ الله أعطاه قدرة وقوة واستعدادا وذكاء خارقا للعادة ، ولكن الشيطان استفاد من هذه الأمور في غير محلّها ، أي في طريق إغواء الناس وإبعادهم عن الصراط المستقيم.

أما كون المبذرين إخوان الشياطين ، فذلك لأنّهم كفروا بنعم الله ، إذ وضعوها في غير مواضعها. ثمّ إنّ استخدام «إخوان» تعني أنّ أعمالهم متطابقة ومتناسقة مع أعمال الشيطان ، كالأخوين اللذين تكون أعمالهما متشابهة ، أو أنّهم قرناء وجلساء للشيطان في الجحيم ، كما توضح ذلك الآية (39) من سورة الزخوف بعد أن تشرك الشيطان والمذنب في العذاب :( وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ ) .

أمّا لما ذا جاءت كلمة الشيطان هنا بصيغة الجمع «شياطين»؟ قد يعود ذلك إلى أنّ لكل إنسان غافل عن خالقه وربّه ، شيطان قرين له ، كما نرى هذا المعنى واضحا في الآية (36) و (38) من الزخرف :( وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ حَتَّى إِذا جاءَنا قالَ يا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ ) .

ثمّ أنّ الإنسان قد لا يملك ما يعطيه للمسكين أحيانا ، وفي هذه الحالة ترسم الآية الكريمة طريقة التصرّف بالنحو الآتي :( إِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوها فَقُلْ لَهُمْ قَوْلاً مَيْسُوراً ) .

«ميسور» مشتقّة من «يسر» وهي بمعنى الراحة والسهولة ، أمّا هنا فلها مفهوم واسع ، يشمل كل كلام جميل وسلوك مقرون بالاحترام والمحبّة ، وإذا فسّرها

٤٥٣

البعض بمعنى الوعد للمستقبل فإنّ ذلك أحد مصاديقها.

نقرأ في الرّوايات ، أنّه بعد نزول هذه الآية ، كان إذا جاء شخص محتاج إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والرّسول لا يملك شيئا لإعطائه ، قال لهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «يرزقنا الله وإيّاكم من فضله»(1) .

وقديما عند ما كان السائل يطرق الباب ، ويطلب منّا شيئا لا نستطيع إعطاءه إيّاه ، نقول له «العفو» وذلك تأكيدا على أنّ لهذا السائل حق علينا يطالبنا به ، وإذا كنّا لا نملك قضاء حاجته وإعطاءه حقّه ، فإننا نطلب منه العفو.

الاعتدال هو شرط في كل الأمور بما فيها الإنفاق والمساعدة الآخرين ، لذلك تنتقل الآية للقول :( وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ ) . وهذا تعبير جميل يفيد أنّ الإنسان ينبغي أن يكون ذا يد مفتوحة ، لا أن يكون مثل البخلاء وكأنّ أيديهم مغلولة إلى أعناقهم بخلا وخشية من الإنفاق. ولكن في نفس الوقت تقرّر الآية أنّ بسط اليد لا ينبغي أن يتجاوز الحد المقرر والمعقول في الصرف والبذل والعطاء ، حتى لا ينتهي المصير إلى الملامة والابتعاد عن الناس :( وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً ) .

و «تقعد» مشقّة من «قعود» وهي كناية عن التوقف عن العمل. أمّا تعبير ملوم» فهو يشير إلى أنّ عاقبة الإسراف لا تؤدي إلى توقف الإنسان عن عمله ونشاطه وحسب ، وإنّما تؤدي إلى إيقاع لوم الناس عليه.

«محسور» مشتقّة من كلمة «حسر» وهي في الأصل تعني خلع الملابس رفع الثوب وإظهار بعض البدن من تحته ، لذا يقال للمقابل الذي لم يلبس الخوذة والدرع ، بأنه «حاسر». وأيضا يقال للحيوان الذي يتعب من كثرة المشي بأنّه «حسير» أو «حاسر» بسبب استنفاذ طاقته وقدرته.

__________________

(1) يراجع تفسير مجمع البيان ، عند تفسير الآية.

٤٥٤

وقد توسع هذا المفهوم فيما بعد بحيث أصبح يطلق على كل إنسان عاجز عن الوصول إلى هدفه بأنّه «حسير» أو «محسور» أو «حاسر».

أمّا كلمة «الحسرة» والتي تعني الغم والحزن ، فهي مشتقة من هذه الكلمة ، وتطلق على الإنسان الفاقد لقابلية حل المشاكل بسبب الضعف.

وكذلك بالنسبة للإنفاق ، فهو إذا تجاوز الحد المقرّر بحيث يستنفذ طاقة الإنسان ، فإنّه يؤدي إلى أن يصاب صاحبه بالغم والحزن بسبب الضعف عن أداء واجباته ومسئولياته ، وينقطع اتصاله وارتباطه بالناس.

وبعض الرّوايات التي تتحدث عن سبب نزول الآية تؤكّد هذا المعنى ، إذ أنّها تتحدث أنّ الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يوما في بيته فجاءه سائل يسأله إعطاءه ملابس ، ولمّا لم يكن مع الرّسول ما يعطي السائل ، فقد خلع لباسه وأعطاه إيّاه ، الأمر الذي أدّى إلى بقاء الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في البيت وعدم خروجه في ذلك الوقت للصلاة.

وقد كان هذا الحادث سببا لتقولات الكفار المنافقين ، الذين قالوا : إنّ الرّسول نائم ، أو إنّه في لهو أنساه صلاته. وبذلك أدّى هذا العمل إلى إيقاع اللوم شماتة الأعداء والانقطاع عن الأصحاب ، وأصبح بذلك مصداقا للملوم والمحسور ، عندها نزلت الآية أعلاه تنهي الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن تكرار هذا العمل.

أمّا عن التضاد القائم بين هذا الأمر ومسألة «الإيثار» فسنبحثه في الملاحظات القادمة إن شاء الله.

بعض الرّوايات تتحدث عن أنّ سبب نزول الآية ، هو أنّ الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يعطي ما يوجد في بيت المال إلى المحتاج بحيث إذا جاءه محتاج آخر ، فلن يجد شيئا يعطيه له ، فيلوم ذلك المحتاج الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويؤذيه ، لذلك صدرت التعليمات بأن لا ينفق كل ما في بيت المال لمواجهة هذه المشكلات.

سؤال : لما ذا يجب أن يكون هناك مساكين وفقراء ومحرومون حتى ننفق عليهم؟ أليس من الأفضل أن يعطيهم الله ما يريدون حتى لا يحتاجون إلى إنفاقنا؟

٤٥٥

الجواب : تعتبر الآية الأخيرة بمثابة جواب على هذا السؤال :( إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً ) . إنّه اختبار لنا ، فالله قادر على كل شيء ، ولكنّه يريد بهذا الطريق تربيتنا على روح السخاء والتضحية والعطاء.

إضافة إلى ذلك ، إذا أصبح أكثر الناس في حالة الكفاية وعدم الحاجة فإنّ ذلك يقود إلى الطغيان والتمرد( إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى ) ، لذلك من المفيد أن يبقوا في حد معين من الحاجة. هذا الحد لا يسبب الفقر ولا الطغيان. من ناحية أخرى يرتبط التقدير والبسط في رزق الإنسان بمقدار السعي وبذل الجهد (باستثناء بعض الموارد من قبيل العجزة والمعلولين) ، وهكذا تقتضي المشيئة الإلهية ببسط الرزق وتقديره لمن يشاء ، وهذا دليل الحكمة ، إذ تقضي الحكمة بزيادة رزق من يسعى ويبذل الجهد ، بينما تقضي بتضييقه لمن هو أقل جهدا وسعيا.

العلّامة الطباطبائي ينظر للعلاقة بين هذه الآية والتي قبلها في ضوء احتمال آخر فيقول في تفسير الميزان : «إنّ هذا دأب ربّك وسنته الجارية ، يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر لمن يشاء ، فلا يبسطه كل البسط ، ولا يمسك عنه كل الإمساك رعاية لمصلحة العباد ، إنّه كان بعباده خبيرا بصيرا أو ينبغي لك أن تتخلق بخلق الله وتتخذ طريق الاعتدال وتتجنب الإفراط والتفريط»(1) .

* * *

بحوث

أوّلا : من هم المقصودون بذي القربى؟

كلمة «ذي القربى» تعني الأرحام والمقربين ، وهناك كلام بين المفسّرين ،

__________________

(1) تفسير الميزان ، ج 13 ، ص 84.

٤٥٦

حول المقصود بها ، إذ هل هو المعنى العام أو الخاص؟ ويمكن أن نلاحظ هنا بعض هذه الآراء :

* البعض يعتقد أنّ المخاطب بالآية جميع المؤمنين والمسلمين ، والغرض هو الحث على أداء حقوق الأقرباء.

* البعض الآخر يرى أنّ المخاطب في الآية هو الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والغرض هو إيصال حقوق أقرباء النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كخمس الغنائم ، أو غيرها ممّا يتعلق بها الخمس. أو بصورة عامّة تأدية كل الحقوق التي لهم في بيت المال.

لذلك نرى في روايات عديدة عند الشيعة والسنّة إنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعث إلى فاطمةعليها‌السلام بعد نزول هذه الآية ، ووهبها فدكا(1) .

ففي مصادر السنة مثلا نقرأ عن أبي سعيد الخدري الصحابي المعروف : «لما نزل قوله تعالى :( وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ ) أعطى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فاطمة فدكا»(2) .

ويستفاد من بعض الرّوايات ، أنّ الإمام زين العابدينعليه‌السلام أثناء سيره إلى الشام بعد واقعة كربلاء ، استدلّ بهذه الآية( وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ ) في التعريف بنفسه وأهل بيته وعيال أبيه الحسينعليه‌السلام ، بأنّهم المعنيين بقوله تعالى : فيما كان أهل الشام يغمطونهم هذا الحق!(3) .

ولكن ـ كما أشرنا سابقا ـ ليس هناك تعارض بين هذين التّفسيرين ، فالكل مكلفون بإيتاء حقوق ذوي القربى ، والرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذي اعتبر قائدا للأمّة

__________________

(1) فدك أرض معمورة وخصبة ، كانت بالقرب من خبير وعلى بعد (140) كم عن المدينة المنورة ، وفدك بعد خبير كانت مركزا لاستقرار يهود الحجاز [يراجع كتاب : مراصد الاطّلاع. موضوع فدك]. وبعد أن استسلم اليهود للنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بدون حرب ، أعطى الرّسول هذه الأرض إلى فاطمة الزّهراءعليها‌السلام وذلك وفقا للوقائع التأريخية الثابتة لدى الجميع ، لكنّها صودرت بعد وفاة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولأسباب سياسية وبقيت في أيدي الخلفاء إلى أن أعادها عمر بن عبد العزيز أيّام خلافته إلى العلويين.

(2) نقل هذا الحديث «البذار» و «أبو يعلى» و «ابن أبي حاتم» و «ابن مردوية» عن «أبي سعيد» [لا حظ كتاب ميزان الاعتدال المجلد الثّاني صفحة (288) وكنز العمال المجلد الثّاني صفحة (158)] وقد ورد هذا الحديث أيضا في تفسير مجمع البيان للشيخ الطبرسي عند حديثه عن هذه الآية ، وفي الدر المنثور أيضا وقد أخرجه عن طريق السنة والشيعة معا.

(3) راجع تفسير نور الثقلين ، ج 3 ، ص 255.

٤٥٧

الإسلامية مكلّف أيضا بالعمل بهذه المسؤولية الكبيرة ، فأهل بيت النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هم في الواقع من أوضح مصاديق القربى لهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . والرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في طليعة المخاطبين بالآية الكريمة. لهذا السبب وهب الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حقوق ذوي القربى لهم ، فأعطى فاطمة فدكا ، وأجرى عليهم الأخماس وغير ذلك ، حيث كانت الزكاة أموالا عامّة محرمة على أهل بيت النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقرباه.

ثانيا : مصائب الإسراف والتبذير :

لا ريب في أنّ النعم الموجودة على الكرة الأرضية كافية لساكنيها ، بشرط واحد ، هو أن لا يبذروا هذه النعم بلا سبب ، بل عليهم استثمارها بشكل معقول وبلا إفراط أو تفريط ، والّا فإنّ هذه النعم ليست غير متناهية حتى لو أسيء استثمارها والتصرف بها. وقد يؤدي الإسراف والتبذير في منطقة معينة الى الفقر في منطقة أخرى ، أو إنّ إسراف وتبذير الناس في هذا الزمان يسبّب فقر الأجيال القادمة.

وفي ذلك اليوم الذي لم تكن فيه الأرقام والإحصاءات في متناول الإنسان ، حذّر الإسلام من مغبة الإسراف والتبذير في نعم الله على الأرض ، لذلك فالقرآن أدان في أماكن كثيرة وبشدّة المسرفين والمبذرين.

ففي الآيتين (141) من الأنعام و (31) من الأعراف نقرأ قوله تعالى( وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ ) .

أمّا في غافر (43) فنقرأ :( وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحابُ النَّارِ ) .

والآية (151) من الشعراء تنهى عن طاعة المسرفين :( وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ ) .

أمّا الآية (83) من يونس فتجعل الإسراف صفة فرعونية :( وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ ) .

والهداية ممنوعة عن المسرفين كما هو مفاد الآية (28) من سورة غافر :( إِنَ

٤٥٨

اللهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ ) .

وأخيرا تتحدث الآية (9) من سورة الأنبياء عن مصيرهم :( وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ ) .

وقد رأينا في الآية التي نبحثها أن الله تعالى جعل المسرفين إخوان الشياطين. والإسراف بمعناه الواسع هو الخروج وتجاوز الحد في أي عمل يقوم به الإنسان ، ولكنّها عادة تستخدم في المصروفات.

ومن آيات القرآن نفسها نستفيد أنّ الإسراف هو في مقابل التقتير ، بينما هناك طريق ثالث هو منزلة بين الأمرين ، كما في الآية (67) من سورة الفرقان :( وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً ) .

ثالثا : الفرق بين الإسراف والتبذير :

في الواقع لا يوجد هناك بحث واضح عند المفسّرين في التفاوت الموجود بين الإسراف والتبذير ، ولكن عند التأمّل بأصل هذه الكلمات في اللغة ، يتبيّن أنّ الإسراف هو الخروج عن حدّ الاعتدال ، ولكن دون أن نسخر شيئا ، فمثلا نلبس ثيابا ثمينا بحيث أنّ ثمنه يعادل أضعاف سعر الملبس الذي نحتاجه ، أو أنّنا نأكل طعاما غاليا بحيث يمكننا إطعام عدد كبير من الفقراء بثمنه. كل هذه أمثلة على الإسراف ، وهي تمثّل خروجنا عن حدّ الاعتدال ، ولكن من دون أن نخسر شيئا.

أمّا كلمة «تبذير» فهي تعني الصرف الكثير ، بحيث يؤدي إلى إتلاف الشيء وتضييعه ، فمثلا نهيّئ طعام عشرة أشخاص لشخصين ، كما يفعل ذلك بعض الجهلاء ويعتبرون ذلك فخرا ، حيث يرمون الزائد في المزابل.

ولكن بالرغم من هذا التمييز ، لا بدّ من القول بأنّ كثيرا ما تستخدم هاتين الكلمتين للتدليل على معنى واحد ، وقد تتابعان في الجملة الواحدة لغرض التأكيد.

فالإمام علي في نهج البلاغة يقول : «ألا إنّ إعطاء المال في غير حقّه تبذير

٤٥٩

وإسراف وهو يرفع صاحبه في الدنيا ويضعه في الآخرة ، ويكرمه في الناس ويهينه عند الله».

وفي الآيات التي بحثناها رأينا أن الإسلام بحيث كثيرا على عدم الإسراف والتبذير إلى درجة أنّه نهى عن الإسراف في ماء الوضوء حتى إذا كان ذلك قرب نهر جار ، وحتى في نوى التمر. وعالم اليوم الذي بدأ يتحسّس الضائقة في بعض الموارد. أخذ يهتم بهذه الفكرة ، حتى بات يستفيد من كلّ شيء ، فهو مثلا يستفيد من فضولات المنازل في صنع السماد ، ومن ماء المجاري لسقي المزروعات ، لأنّه أحسّ أنّ المصادر الطبيعية محدودة ، لذا لا يمكن التفريط بها بسهولة ، وإنّما ينبغي الاستفادة منها ضمن ما يعرف بـ «دورة المصادر الطبيعية».

رابعا : هل ثمّة تعارض بين الاعتدال في الإنفاق والإيثار؟

مع الأخذ ـ بنظر الإعتبار ـ الآيات أعلاه والتي تؤكّد ضرورة الاعتدال في الإنفاق، يثار سؤال مؤدّاه ، إنّ في سورة الدهر مثلا ، وآيات أخرى ، وفي مجموعة من الأحاديث والرّوايات ، ثمّة إشادة بالمؤثرين الذين يؤثرون غيرهم على أنفسهم في أحلك الساعات وأشدّ الظروف ويعطون ما يملكون للآخرين ، فكيف يا ترى نوفّق بين هذين المفهومين؟

إنّ الدقة في سبب نزول هذه الآيات مع قرائن أخرى تفيدنا في الوقوف على جواب هذا السؤال ، إذ يكون الأمر بمراعاة الاعتدال في المجالات التي يكون فيها العطاء والهبات الكثيرة سببا لاضطراب الإنسان في حياته أو بمصطلح القرآن يصبح فيها( مَلُوماً مَحْسُوراً ) وكذلك إذا كان الإيثار سببا في التضييق على أبنائه أو أنّه يهدّد تركيبة عائلته. وإذا لم يقع أي من هذين المحذورين ، فإنّ الإيثار يعتبر أفضل السبل ، نضيف إلى ذلك أنّ الاعتدال في الإنفاق يعتبر حكما عاما ، بينما الإيثار يعتبر حكما خاصا يرتبط بمصاديق خاصّة ، وليس ثمّة تضاد بين الاثنين.

* * *

٤٦٠

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496