الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٨

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل12%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 496

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 496 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 231564 / تحميل: 7125
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٨

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

سبب النّزول

ذكر المفسّرون والمحدّثون والمؤرّخون بصورة مفصّلة سبب نزول هذه الآيات ، وخلاصة ما ذكروه هي ما يلي :

كان في المدينة ثلاث قبائل من اليهود وهم : «بنو النضير» ، و «بنو قريظة» ، و «بنو قينقاع» ، ويذكر أنّهم لم يكونوا من أهل الحجاز أصلا ، وإنّما قدموا إليها واستقرّوا فيها ، وذلك لما قرءوه في كتبهم العقائدية من قرب ظهور نبي في أرض المدينة ، حيث كانوا بانتظار هذا الظهور العظيم.

وعند ما هاجر الرّسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى المدينة عقد معهم حلفا بعدم تعرّض كلّ منهما للآخر ، إلّا أنّهم كلّما وجدوا فرصة مناسبة لم يألوا جهدا في نقض العهد.

ومن جملة ذلك أنّهم نقضوا العهد بعد غزوة احد ، التي وقعت في السنة الثالثة للهجرة.

فقد ذهب «كعب بن الأشرف» زعيم قبيلة «بني النضير» مع أربعين فارسا إلى مكّة ، وهنالك عقد مع قريش حلفا لقتال محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وجاء أبو سفيان مع أربعين شخصا ، وكعب بن الأشرف مع أربعين نفرا من اليهود ، ودخلا معا إلى المسجد الحرام ووثقوا العهد في حرم الكعبة ، فعلم النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بذلك عن طريق الوحي.

والمؤامرة الاخرى هي أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دخل يوما مع شيوخ الصحابة وكبارهم إلى حي بني النضير ، وذلك بحجّة استقراض مبلغ من المال منهم كديّة لقتيلين من طائفة بني عامر ، قتلهما (عمرو بن اميّة) أحد المسلمين ، وربّما كان الهدف من ذلك هو معرفة أخبار اليهود عن قرب حتّى لا يباغت المسلمون بذلك.

فبينما كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يتحدّث مع كعب بن الأشرف إذ حيكت مؤامرة يهودية لاغتيال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتنادى القوم : إنّكم لا تحصلون على هذا الرجل بمثل هذه الحالة وها هو قد جلس بالقرب من حائطكم ، فليذهب أحدكم إلى السطح ويرميه بحجر عظيم ويريحنا منه ، فقام «عمرو بن جحاش» وأبدى

١٦١

استعداده لتنفيذ الأمر ، وذهب إلى السطح لتنفيذ عمله الإجرامي ، إلّا أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم علم عن طريق الوحي بذلك ، فقفل راجعا إلى المدينة دون أن يتحدّث بحديث مع أصحابه ، إلّا أنّ الصحابة تصوّروا أنّ الرّسول سيعود مرّة اخرى ، ولمّا عرفوا فيما بعد أنّ الرّسول في المدينة عاد الصحابة إليها أيضا.

وهنا أصبح من المسلّم لدى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نقض اليهود للعهد ، فأعطى أمرا للاستعداد والتهيّؤ لقتالهم.

وجاء في بعض الروايات أيضا أنّ أحد شعراء بنو النضير هجا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بشعر يتضمّن مسّا بكرامة الرّسول وهذا دليل آخر لنقضهم العهد.

وبدأت خطّة المسلمين في مواجهة اليهود وكانت الخطوة الاولى أن أمر رسول الله (محمّد بن سلمة) أن يقتل كعب بن الأشرف زعيم اليهود ، إذ كانت له به معرفة ، وقد نفّذ هذا العمل بعد مقدّمات وقتله.

إنّ قتل كعب بن الأشرف أوجد هزّة وتخلخلا في صفوف اليهود ، عند ذلك أعطى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمرا للمسلمين أن يتحرّكوا لقتال هذه الفئة الباغية الناقضة للعهد.

وعند ما علم اليهود بهذا لجأوا إلى قلاعهم المحكمة وحصونهم القويّة ، وأحكموا الأبواب ، إلّا أنّ الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمر أن تقلع أشجار النخيل القريبة من القلاع.

لقد أنجز هذا العمل لأسباب عدّة : منها أنّ حبّ اليهود لأموالهم قد يخرجهم من قلاعهم بعد رؤية تلف ممتلكاتهم ، وبالتالي يكون اشتباك المسلمين معهم مباشرة ، كما يوجد احتمال آخر ، وهو أنّ هذه الأشجار كانت تضايق المسلمين في مناوراتهم مع اليهود قرب قلاعهم وكان لا بدّ من أن تقلع.

وعلى كلّ حال ، فقد ارتفع صوت اليهود عند ما شعروا بالضيق ، وهم محاصرون في حصونهم فقالوا : يا محمّد ، لقد كنت تنهى عن هذا ، فما الذي حدا

١٦٢

بك لتأمر قومك بقطع نخيلنا؟

فنزلت الآية (٥) من الآيات محلّ البحث وبيّنت بأنّ هذا العمل هو أمر من اللهعزوجل .

واستمرّت المحاصرة لعدّة أيّام ، ومنعا لسفك الدماء اقترح رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عليهم أن يتركوا ديارهم وأراضيهم ويرحلوا من المدينة ، فوافقوا على هذا وحملوا مقدارا من أموالهم تاركين القسم الآخر واستقرّ قسم منهم في «أذرعات الشام» ، وقليل منهم في «خيبر» ، وجماعة ثالثة في «الحيرة» ، وتركوا بقيّة أموالهم وأراضيهم وبساتينهم وبيوتهم بيد المسلمين بعد أن قاموا بتخريب ما يمكن لدى خروجهم منها.

وقد حدثت هذه الحادثة بعد غزوة (احد) بستّة أشهر ، إلّا أنّ آخرين قالوا : إنّها وقعت بعد غزوة بدر بستّة أشهر(١) .

* * *

التّفسير

نهاية مؤامرة يهود بني النضير :

بدأت هذه السورة بتنزيه وتسبيح الله وبيان عزّته وحكمته ، يقول سبحانه :( سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) .

وهذه في الحقيقة مقدّمة لبيان قصّة يهود بني النضير ، أولئك الذين انحرفوا عن طريق التوحيد ومعرفة الله وصفاته ، وبالإضافة إلى كونهم مغرورين بإمكاناتهم وقدرتهم وعزّتهم ويتآمرون على الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

التسبيح العامّ الوارد في الآية لجميع موجودات الأرض والسماء ، أعمّ من

__________________

(١) مجمع البيان وتفسير علي بن إبراهيم وتفسير القرطبي ونور الثقلين (نهاية الآيات مورد البحث) مقتبس باختصار.

١٦٣

الملائكة والبشر والحيوانات والنباتات والجمادات يمكن أن يكون بلسان «القال» ويمكن أن يكون بلسان «حال» هذه المخلوقات حول دقّة النظام المثير للعجب لها في خلق كلّ ذرّة من ذرّات هذا الوجود ، وهو التسليم المطلق لله سبحانه والاعتراف بعلمه وقدرته وعظمته وحكمته.

ومن جهة اخرى فإنّ قسما من العلماء يعتقدون أنّ كلّ موجود في العالم له نصيب وقدر من العقل والإدراك والشعور ، بالرغم من أنّنا لم ندركه ولم نطلع عليه ، وبهذا الدليل فإنّ هذه المخلوقات تسبّح بلسانها ، بالرغم من أنّ آذاننا ليس لها القدرة على سماعها ، والعالم بأجمعه منشغل بحمد الله وتسبيحه وإن كنّا غير مطّلعين على ذلك.

الأولياء الذين فتحت لهم عين الغيب يتبادلون أسرار الوجود مع كلّ موجودات العالم ، ويسمعون نطق الماء والطين بصورة واضحة ، إذ أنّ هذا النطق محسوس من قبل أهل المعرفة. (وهناك شرح أكثر حول هذا الموضوع في تفسير الآية ٤٤ من سورة الإسراء).

وبعد بيان المقدّمة أعلاه نستعرض أبعاد قصّة يهود بني النضير في المدينة حيث يقول سبحانه :( هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ ) .

«حشر» في الأصل تحريك جماعة وإخراجها من مقرّها إلى ميدان حرب وما إلى ذلك ، والمقصود منه هنا اجتماع وحركة المسلمين من المدينة إلى قلاع اليهود ، أو اجتماع اليهود لمحاربة المسلمين ، ولأنّ هذا أوّل اجتماع من نوعه فقد سمّي في القرآن الكريم بأوّل الحشر ، وهذه بحدّ ذاتها إشارة لطيفة إلى بداية المواجهة المقبلة مع يهود بني النضير ويهود خيبر وأمثالهم.

والعجيب أنّ جمعا من المفسّرين ذكروا احتمالات للآية لا تتناسب أبدا مع محتواها ، ومن جملتها أنّ المقصود بالحشر الأوّل ما يقع مقابل حشر يوم القيامة ،

١٦٤

وهو القيام من القبور إلى الحشر ، والأعجب من ذلك أنّ البعض أخذ هذه الآية دليلا على أنّ حشر يوم القيامة يقع في أرض الشام التي ابعد اليهود إليها ، وهذه الاحتمالات الضعيفة ربّما كان منشؤها من وجود كلمة «الحشر» ، في حين أنّ هذه الكلمة لم تكن تستعمل هذا بمعنى الحشر في القيامة ، بل تطلق على كلّ اجتماع وخروج إلى ميدان ما ، قال تعالى :( وَحُشِرَ لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ ) (١) .

وكذلك ما ورد في الاجتماع العظيم لمشاهدة المحاججة التي خاضها موسىعليه‌السلام مع سحرة فرعون حيث يقول سبحانه :( وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى ) (٢) .

ويضيف البارئعزوجل :( ما ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللهِ ) لقد كانوا مغرورين وراضين عن أنفسهم إلى حدّ أنّهم اعتمدوا على حصونهم المنيعة ، وقدرتهم الماديّة الظاهرية. إنّ التعبير الذي ورد في الآية يوضّح لنا أنّ يهود بني النضير كانوا يتمتّعون بإمكانات واسعة وتجهيزات وعدد كثيرة في المدينة ، بحيث أنّهم لم يصدّقوا أنّهم سيغلبون بهذه السهولة ، وذلك ظنّ الآخرين أيضا.

ولأنّ الله سبحانه يريد أن يوضّح للجميع أن لا قوّة في الوجود تقاوم إرادته ، فإنّ إخراج اليهود من أراضيهم وديارهم بدون حرب ، هو دليل على قدرته سبحانه ، وتحدّ لليهود الذين ظنّوا أنّ حصونهم مانعتهم من الله.

ولذلك يضيف ـ استمرارا للبحث الذي ورد في الآية ـ قوله تعالى :( فَأَتاهُمُ اللهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ ) نعم ، إنّ هذا الجيش غير المرئي هو جيش الخوف الذي يرسله الله تعالى في كثير من الحروب لمساعدة المؤمنين ، وقد خيّم على قلوبهم ، وسلب منهم قدرة

__________________

(١) النمل ، الآية ١٧.

(٢) سورة طه ، الآية ٥٩.

١٦٥

الحركة والمقاومة ، لقد جهّزوا وهيّئوا أنفسهم لقتال المهاجرين والأنصار غافلين عن إرادة الله تعالى ، حيث يرسل لهم جيشا من داخلهم ويجعلهم في مأزق حرج إلى حدّ ينهمكون فيه على تخريب بيوتهم بأيديهم وأيدي أعدائهم من المسلمين.

صحيح أنّ مقتل زعيمهم «كعب بن الأشرف» ـ قبل الهجوم على قلاعهم وحصونهم ـ كان سببا في إرباكهم واضطراب صفوفهم ، إلّا أنّ من الطبيعي أنّ مقصود الآية غير ما تصوّره بعض المفسّرين ، فإنّ ما حدث كان نوعا من الإمداد الإلهي للمسلمين الذين حصل لهم مرّات عديدة حين جهادهم ضدّ الكفّار والمشركين.

والطريف هنا أنّ المسلمين كانوا يخرّبون الحصون من الخارج ليدخلوا إلى عمق قلاعهم ، واليهود كانوا يخرّبونها من الداخل حتّى لا يقع شيء مفيد منها بأيدي المسلمين ، ونتيجة لهذا فقد عمّ الخراب التامّ جميع قلاعهم وحصونهم.

وذكرت لهذه الآية تفاسير اخرى أيضا منها : أنّ اليهود كانوا يخربونها من الداخل لينهزموا ، أمّا المسلمون فتخريبهم لها من الخارج ليظفروا باليهود ويجهّزوا عليهم (إلّا أنّ هذا الاحتمال مستبعد).

أو يقال إنّ لهذه الآية معنى كنائي ، وذلك كقولنا : إنّ الشخص الفلاني هدم بيته وحياته بيده ، يعني أنّه بسبب جهله وتعنّته دمّر حياته.

أو أنّ المقصود من تخريب اليهود لبعض البيوت ، هو من أجل إغلاق الأزقّة الموجودة داخل القلاع ومنع المسلمين من التقدّم ولكي لا يستطيعوا السكن فيها.

أو أنّهم هدموا قسما من البيوت داخل القلعة حتّى إذا ما تحوّلت الحرب إلى داخلها يكون هنا لك مكان كاف للمناورة والحرب.

أو أنّ مواد بناء بعض البيوت كان ثمينا فخرّبوها لكي يحملوا ما هو مناسب منها ، إلّا أنّ التّفسير الأوّل أنسب من الجميع.

وفي نهاية الآية ـ بعنوان استنتاج كلّي ـ يقول تعالى :( فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي

١٦٦

الْأَبْصارِ ) .

«اعتبروا» من مادّة (اعتبار) وفي الأصل مأخوذة من العبور ، أي العبور من شيء إلى شيء آخر ، ويقال لدمع العين «عبرة» بسبب عبور قطرات الدموع من العين ، وكذلك يقال (عبارة) لهذا السبب ، حيث أنّها تنقل المطالب والمفاهيم من شخص إلى آخر ، وإطلاق «تعبير المنام» على تفسير محتواه ، بسبب أنّه ينقل الإنسان من ظاهره إلى باطنه.

وبهذه المناسبة يقال للحوادث التي فيها دروس وعظات (عبر) لأنّها توضّح للإنسان سلسلة من التعاليم الكلية وتنقله من موضوع إلى آخر.

والتعبير بـ «اولي الأبصار» إشارة إلى الأشخاص الذين يتعاملون مع الحوادث بعين واقعية ويتوغلون إلى أعماقها.

كلمة (بصر) تقال دائما للعين الباصرة ، و «البصيرة» تقال للإدراك والوعي الداخلي(١) .

وفي الحقيقة أنّ «أولي الأبصار» هم أشخاص لهم القابلية على الاستفادة من (العبر) ، لذلك فإنّ القرآن الكريم يلفت نظرتهم للاستفادة من هذه الحادثة والاتّعاظ بها.

وممّا لا شكّ فيه أنّ المقصود من الإعتبار هو مقايسة الحوادث المتشابهة من خلال إعمال العقل ، كمقارنة حال الكفّار مع حال ناقضي العهد من يهود بني النضير ، إلّا أنّ هذه الجملة لا ترتبط أبدا بـ «القياسات الظنّية» التي يستفيد منها البعض في استنباط الأحكام الدينيّة.

والعجيب هنا أنّ بعض فقهاء أهل السنّة استفادوا من الآية أعلاه لإثبات هذا المقصود ، بالرغم من أنّ البعض الآخر لم يرتضوا ذلك.

__________________

(١) المفردات للراغب.

١٦٧

والخلاصة أنّ المقصود من العبرة والإعتبار في الآية أعلاه هو الانتقال المنطقي والقطعي من موضوع إلى آخر ، وليس العمل على أساس التصوّر والخيال.

وعلى كلّ حال فإنّ مصير طائفة «بني النضير» بتلك القدرة والعظمة والشوكة ، وبتلك الصورة من الاستحكامات القويّة ، صار موضع (عبرة) حيث أنّهم استسلموا لجماعة من المسلمين لا تقارن قوّاتها بقوّاتهم ، وبدون مواجهة مسلّحة ، بحيث كانوا يخرّبون بيوتهم بأيديهم وتركوا بقيّة أموالهم للمسلمين المحتاجين ، وتفرّقوا في بقاع عديدة من العالم ، في حين أنّ اليهود سكنوا في المدينة من أجل أن يدركوا النبي الموعود الذي ورد في كتبهم ، ويكونوا في الصفّ الأوّل من أعوانه كما ذكر المؤرّخون ذلك.

وبهذا الصدد نقرأ حديثا ورد عن الإمام الصادق حيث يقول : «كان أكثر عبادة أبي ذرّرحمه‌الله التفكّر والإعتبار»(١) .

ومع الأسف فإنّ كثير من الناس يفضّلون تجربة الشدائد والمحن والمصائب بأنفسهم ويذوقوا مرارة الخسائر شخصيّا ، ولا يعتبرون ولا يتّعظون بوضع الآخرين وما يواجهونه في أمثال هذه الموارد ، ويقول الإمام عليعليه‌السلام «السعيد من وعظ بغيره»(٢) .

وتضيف الآية اللاحقة( وَلَوْ لا أَنْ كَتَبَ اللهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيا ) .

وبدون شكّ فإنّ الجلاء عن الوطن وترك قسم كبير من رؤوس الأموال التي جهدوا جهدا بليغا في الحصول عليها ، هو بحدّ ذاته أمر مؤلم لهم ، وبناء على هذا فإنّ مراد الآية أعلاه أنّه لو لم يحلّ بهم هذا العذاب ، فإنّ بانتظار هم عذابا آخر هو القتل أو الأسر بيد المسلمين إلّا أنّ الله سبحانه أراد لهم التيه في الأرض

__________________

(١) كتاب الخصال مطابق لنقل نور الثقلين ، ج ٥ ص ٢٧٤.

(٢) نهج البلاغة ، خطبة ٨٦.

١٦٨

والتشرّد في العالم ، لأنّ هذا أشدّ ألما وأسى على نفوسهم ، إذ كلّما تذكّروا أرضهم وديارهم ومزارعهم وبساتينهم التي أصبحت بيد المسلمين. وكيف أنّهم شردوا منها بسبب نقضهم العهد ومؤامراتهم ضدّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فإنّ ألمهم وحزنهم ومتاعبهم تضاعف وخاصّة على المستوى النفسي.

نعم ، إنّ الله أراد لهذه الطائفة المغرورة والخائنة ، أن تبتلى بمثل هذا المصير البائس.

وكان هذا عذابا دنيويا لهم ، إلّا أنّ لهم جولة اخرى مع عذاب أشدّ وأخزى ، ذلك هو عذاب الآخرة ، حيث يضيف سبحانه في نهاية الآية( وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابُ النَّارِ ) .

هذه عاقبتهم في الدنيا والآخرة ، وهي درس بليغ لكلّ من أعرض عن الحقّ والعدل وركب هواه ، وغرّته الدنيا وأعماه حبّ ذاته.

وبما أنّ ذكر هذه الحادثة مضافا إلى تجسيد قدرة الله وصدق الدعوة المحمّدية ، فهي في نفس الوقت تمثّل إنذارا وتنبيها لكلّ من يروم القيام بأعمال مماثلة لفعل بني النضير ، لذا ففي الآية اللاحقة يرشدنا سبحانه إلى هذا المعنى :( ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللهَ فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ ) (١) .

«شاقّوا» من مادّة (شقاق) وهي في الأصل بمعنى الشقّ والفصل بين شيئين ، وبما أنّ العدو يكون دائما في الطرف المقابل ، فإنّ كلمة (شقاق) تطلق على هذا العمل.

وجاء مضمون هذه الآية باختلاف جزئي جدّا في سورة الأنفال الآية ١٣ ، وذلك بعد غزوة بدر وانكسار شوكة المشركين ، والتي تبيّن عمومية محتواها من كلّ جهة ، في قوله تعالى :( ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللهَ وَرَسُولَهُ ، وَمَنْ يُشاقِقِ اللهَ وَرَسُولَهُ

__________________

(١) «من» شرطية وجزاؤها محذوف وتقديره : ومن يشاقق الله يعاقبه فإن الله شديد العقاب.

١٦٩

فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ ) .

والشيء الجدير بالملاحظة أنّ بداية الآية الكريمة طرحت مسألة العداء لله ورسوله ، إلّا أنّ الحديث في ذيل الآية اقتصر عن العداء لله سبحانه فقط ، وهو إشارة إلى أنّ العداء لرسول الله هو عداء لله أيضا.

والتعبير بـ( شَدِيدُ الْعِقابِ ) لا يتنافى مع كون الله «أرحم الراحمين» لأنّه في موضع العفو والرحمة فالله أرحم الراحمين ، وفي موضع العقاب والعذاب فإنّ الله هو أشدّ المعاقبين ، كما جاء ذلك في الدعاء : «وأيقنت أنّك أرحم الراحمين في موضع العفو والرحمة ، وأشدّ المعاقبين في موضع النكال والنقمة»(١) .

وفي الآية الأخيرة من الآيات مورد البحث نلاحظ جوابا على اعتراض يهود بني النضير على قطع المسلمين لنخيلهم ـ كما ورد في شأن النزول ـ بأمر من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لتهيئة ظروف أفضل لقتال بني النضير أو لزيادة حزنهم وألمهم ، فيضطرّوا للنزول من قلاعهم ومنازلة المسلمين خارج القلعة وقد أثار هذا العمل غضب اليهود وحنقهم ، فقالوا : يا محمّد ، ألم تكن الناهي عن مثل هذه الأعمال؟ فنزلت الآية الكريمة مبيّنة لهم أنّ ذلك من أمر الله سبحانه حيث يقول البارئ :( ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى أُصُولِها فَبِإِذْنِ اللهِ ) (٢) ( وَلِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ ) .

«لينة» من مادّة (لون) تقال لنوع جيّد من النخل ، وقال آخرون : إنّها من مادّة (لين) بمعنى الليونة التي تطلق على نوع من النخل ، والتي لها أغصان ليّنة قريبة من الأرض وثمارها ليّنة ولذيذة.

وتفسّر (ليّنة) أحيانا بألوان وأنواع مختلفة من شجر النخيل ، أو النخل الكريم ، والتي جميعها ترجع إلى شيء واحد تقريبا.

__________________

(١) دعاء الافتتاح (من أدعية شهر رمضان المبارك).

(٢) «ما» في الآية أعلاه شرطية وجزاؤها (فبإذن الله).

١٧٠

وعلى كلّ حال فإنّ قسما من المسلمين أقدموا على قطع بعض نخيل بني النضير ، في الوقت الذي خالف البعض الآخر ذلك ، وهنا نزلت الآية أعلاه وفصلت نزاعهم في هذا الموضوع(١) .

وقال البعض الآخر : إنّ الآية دالّة على عمل شخصين من الصحابة ، وقد كان أحدهم يقوم بقطع الجيّد من شجر النخل ليغضب اليهود ويخرجهم من قلاعهم ، والآخر يقوم بقطع الرديء من الأشجار كي يبقي ما هو جيّد ومفيد ، وحصل خلاف بينهم في ذلك ، فنزلت الآية حيث أخبرت أنّ عملهما بإذن الله(٢) .

ولكن ظاهر الآية يدلّ على أنّ المسلمين قطعوا بعض نخل (اللينة) وهي نوع جيّد من النخل ، وتركوا قسما آخر ، ممّا أثار هذا العمل اليهود ، فأجابهم القرآن الكريم بأنّ هذا العمل لم يكن عن هوى نفس ، بل عن أمر إلهي صدر في هذا المجال ، وفي دائرة محدودة لكي لا تكون الخسائر فادحة.

وعلى كلّ حال فإنّ هذا العمل كان استثناء من الأحكام الإسلامية الأوّلية التي تنهي عن قطع الأشجار وقتل الحيوانات وتدمير وحرق المزارع والعمل أعلاه كان مرتبطا بمورد معيّن حيث أريد إخراج العدو من القلعة وجرّه إلى موقع أنسب للقتال وما إلى ذلك ـ وعادة توجد استثناءات جزئيّة في كلّ قانون ، كما في جواز أكل لحم الميّت عند الضرورة القصوى والإجبار.

جملة( وَلِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ ) ترينا على الأقل أنّ أحد أهداف هذا العمل هو خزي ناقضي العهد هؤلاء ، وكسر لشوكتهم وتمزيق لروحيّتهم.

* * *

__________________

(١) تفسير أبو الفتوح الرازي ، ج ١١ ، ص ٩٣ ، وجاء هذا المعنى في الدرّ المنثور ، ج ٩ ، ص ١٨٨.

(٢) تفسير الفخر الرازي ، ج ٢٩ ، ص ٢٨٣.

١٧١

بحثان

١ ـ الجيوش الإلهيّة اللامرئية :

في الوقت الذي تعتبر القوى الماديّة أكبر سلاح لتحقيق الإنتصار من وجهة نظر الماديين ، فإنّ اعتماد المؤمنين يتمركز حول محورين (القيم المعنوية والإمكانات المادية) والذي قرأنا نموذجا منه في قصّة اندحار بني النضير كما بيّنت ذلك الآيات السابقة.

ونقرأ في هذه الآية أحد العوامل المؤثّرة في هذا الإنتصار حيث ألقى الله سبحانه الرعب في قلوب اليهود ، بحيث أخذوا يخرّبون بيوتهم بأيديهم ، وتخلّوا عن ديارهم وأموالهم مقابل السماح لهم بالخروج من المدينة.

وقد ورد هذا المعنى بصورة متكرّرة في القرآن الكريم ، منها ما ورد في قصّة اخرى حول قسم آخر من اليهود وهم (بنو قريظة). حيث اشتبكوا اشتباكا شديدا مع المسلمين بعد غزوة الأحزاب ، وفي هذا المعنى يقول سبحانه :( وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ صَياصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً ) .

وجاء هذا المعنى في غزوة بدر حيث يقول تعالى :( سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ ) .

وبعض هذا الخوف الذي هو عبارة عن جيش إلهي غير مرئي يكاد يكون أمرا طبيعيّا ، ولكن بعضه يمثّل سرّا من الأسرار غير الواضحة لنا ، أمّا الطبيعي منه فانّ المؤمنين يرون أنفسهم منتصرين سواء قتل أو تغلّب على العدوّ. والشخص الذي يؤمن بهذا الإعتقاد لا يجد الخوف طريقا إليه ، ومثل هذا الإنسان سيكون أعجوبة في صموده وثباته كما يكون ـ أيضا ـ مصدر خوف وقلق لأعدائه ، والذي نلاحظه في عالم اليوم أنّ بلدانا عديدة تملك قدرات هائلة من الإمكانات العسكرية المتطورة والمادية الكبيرة ، تخشى من ثلّة من المؤمنين الصادقين

١٧٢

الذائدين عن الحقّ ، ويحاولون دائما تحاشي مواجهتهم.

وفي حديث حول هذا المعنى يقول رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «نصرت بالرعب مسيرة شهر»(١) .

يعني أنّ الرعب لم يصب الأعداء في خطّ المواجهة فحسب ، بل أصاب من كان من الأعداء على مسافة شهر واحد من جيش الإسلام.

وحول جيوش الإمام المهديعليه‌السلام نقرأ أنّ ثلاثة جيوش تحت أمره وهم : (الملائكة ، والمؤمنون ، والرعب)(٢) .

وفي الحقيقة ، إنّ الأعداء يبدلّون كافّة إمكاناتهم لتجنّب الضربة من الخارج ، إلّا أنّهم غفلوا عن أنّ الله سبحانه يهزمهم داخليّا ، حيث أنّ الضربة الداخلية أوجع للنفس ، ولا يمكن تداركها بسهولة ، حتّى لو وضعت تحت تصرّفهم كلّ الأسلحة والجيوش ، فإنّها غير قادرة على أن تحقّق النصر مع فقدان المعنوية العالية والروحية المؤهّلة لخوض القتال ، وبالتالي فإنّ الفشل والخسران أمر متوقّع جدّا لأمثال هؤلاء.

٢ ـ مؤامرات اليهود المعاصرة

إنّ التاريخ الإسلامي اقترن منذ البداية بمؤامرات اليهود ، ففي كثير من الحوادث الأليمة والفجائع الدامية ترى أصابعهم مشهودة بشكل مباشر أو غير مباشر. والعجيب أنّ هؤلاء نزحوا إلى ديار الحجاز طمعا في أن يكونوا في الصفّ الأوّل من أصحاب النبي الموعود إلّا أنّهم بعد ظهوره أصبحوا من ألدّ أعدائه.

وعند ما نستقرئ حالتهم المعاصرة فإنّنا نلاحظ أيضا أنّهم متورّطون في أغلب المؤامرات المدبّرة ضدّ الإسلام ، ويتجسّد موقفهم هذا في داخل الأحداث

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ٢ ، ص ٥١٩ ، (نهاية الآية ١٥١ / آل عمران).

(٢) إثبات الهداة ، ج ٧ ، ص ١٢٤.

١٧٣

تارة ومن خارجها اخرى ، وفي الحقيقة فإنّ هذا هو موضع تأمّل واعتبار لمن كان له قلب وبصيرة.

والطريق الوحيد لكسر شوكتهم كما يؤكّده تاريخ صدر الإسلام ، هو التعامل الحدّي والجدّي معهم ، خصوصا مع الصهاينة الذين لا يتعاملون بمبادئ العدل والحقّ أبدا ، بل منطقهم القوّة ، وبغيرها لا يمكن التفاهم معهم ، ومع هذا فإنّ خوفهم الحقيقي هو من المؤمنين الصادقين.

وإذا كان المسلمون المعاصرون مسلّحين بالإيمان والاستقامة المبدئية ـ كأصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ فإنّ الرعب سيستحوذ على قلوب اليهود ونفوسهم ، وبالإمكان عندئذ إخراجهم من الأرض الإسلامية التي اغتصبوها بهذا الجيش الإلهي.

وهذا درس علّمنا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إيّاه قبل أربعة عشر قرنا.

* * *

١٧٤

الآيتان

( وَما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ وَلكِنَّ اللهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٦) ما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (٧) )

سبب النّزول

بما أنّ هذه الآيات تكملة للآيات القرآنية السابقة التي تتحدّث عن اندحار يهود بني النضير ، لذا فإنّ سبب نزولها هو استمرار لنفس أسباب نزول الآيات السابقة. والتوضيح كما يلي :

بعد خروج يهود بني النضير من المدينة بقيت بساتينهم وأراضيهم وبيوتهم

١٧٥

وقسم من أموالهم في المدينة ، فأشار بعض شيوخ المسلمين على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تماشيا مع سنّة جاهلية ـ حيث قالوا له خذ الصفوة من أموالهم وربع ممتلكاتهم ، واترك لنا المتبقّي كي نقسّمه بيننا ، فنزلت الآيات أعلاه حيث أعلنت صراحة أنّ هذه الغنائم التي لم تكن بسبب قتال ، ولم تكن نتيجة حرب ، فإنّها جميعا من مختصات الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم باعتباره رئيسا للدولة الإسلامية ، ويتصرّف بها كما يشاء ، وفقا لما يقدره من المصلحة في ذلك.

وسنلاحظ أنّ الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قسّم هذه الأموال بين المهاجرين الفقراء في المدينة ، وعلى قسم من الأنصار من ذوي الفاقة(١) .

التّفسير

حكم الغنائم بغير الحرب :

إنّ هذه الآيات ـ كما ذكر سابقا ـ تبيّن حكم غنائم بني النضير ، كما أنّها في نفس الوقت توضّح حكما عاما حول الغنائم التي يحصل عليها المسلمون بدون حرب ، كما ذكر ذلك في كتب الفقه الإسلامي بعنوان (الفيء).

يقول الله تعالى :( وَما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ ) (٢) .

«أفاء» من مادّة (فيء) على وزن شيء ـ وهي في الأصل بمعنى الرجوع ، وإطلاق كلمة (فيء) على هذا اللون من الغنائم لعلّه باعتبار أنّ الله سبحانه قد خلق هذه النعم والهبات العظيمة في عالم الوجود في الأصل للمؤمنين ، وعلى رأسهم

__________________

(١) مجمع البيان نهاية الآيات مورد البحث وتفاسير اخرى.

(٢) «ما» في (ما أفاء الله ورسوله) موصولة في محلّ رفع مبتدأ وما في( فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ ) نافية ، ومجموع هذه الجملة خبر ، وهنالك احتمال ثان : وهو أنّ (ما) في (ما أفاء) شرطية ، (وما) الثانية مع جملتها تكون جوابا للشرط ومجيء (الفاء) في صدر جملة الخبر حينما تكون فيها شبهة بالشرط ، فلا إشكال فيه.

١٧٦

الرّسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذي هو أشرف الكائنات ، وبناء على هذا فإنّ الجاحدين لوجود الله والعاصين له بالرغم من امتلاكهم للبعض من هذه النعم بموجب القواعد الشرعية والعرفية ، إلّا أنّهم يعتبرون غاصبين لها ، ولذلك فإنّ عودة هذه الأموال إلى أصحابها الحقيقيين (وهم المؤمنون) يسمّى (فيئا) في الحقيقة.

«أوجفتم» من مادّة (إيجاف) بمعنى السّوق السريع الذي يحدث غالبا في الحروب.

«خيل» بمعناه المتعارف عليه (وهي اسم جنس وجمعها خيول)(١) .

«ركاب» من مادّة (ركوب) وتطلق في الغالب على ركوب الجمال.

والهدف من مجموع الجملة أنّ جميع الموارد التي لم يحدث فيها قتال وفيها غنائم ، فإنّها لا توزّع بين المقاتلين ، وتوضع بصورة تامّة تحت تصرّف رئيس الدولة الإسلامية وهو يصرفها في الموارد التي سيأتي الحديث عنها لا حقا.

ثمّ يضيف سبحانه أنّ الانتصارات لا تكون غالبا لكم( وَلكِنَّ اللهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) .

نعم ، لقد تحقّق الإنتصار على عدو قوي وشديد كيهود (بني النضير) وذلك بالمدد الإلهي الغيبي ، ولتعلموا أنّ الله قادر على كلّ شيء ، ويستطيع سبحانه بلحظة واحدة أن يذلّ الأقوياء ، ويسلّط عليهم فئة قليلة توجّه لهم ضربات موجعة وتسلب جميع إمكاناتهم.

ولا بدّ للمسلمين أن يتعلّموا من ذلك دروس المعرفة الإلهية ، ويلاحظوا علائم حقّانية النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ويلتزموا منهج الإخلاص والتوكّل على الذات الإلهية المقدّسة

__________________

(١) يقول الراغب في المفردات : إنّ الخيل في الأصل من مادّة (خيال) بمعنى التصوّرات الذهنية ، وخيلاء بمعنى التكبّر والتعالي على الآخرين لأنّه ناتج من تخيّل الفضيلة ، ولأنّ ركوب الإنسان على الحصان يشعر بالإحساس بنوع من الفخر والزهو غالبا ، لذلك أطلق لفظ الخيل على الحصان ، والنقطة الجديرة بالملاحظة أنّ خيل تطلق على الحصان وكذلك على راكبيه.

١٧٧

في جميع ممارساتهم.

وهنا قد يتبادر سؤال وهو : إنّ الحصول على غنائم بني النضير لم يتمّ بدون حرب ، بل إنّ المسلمين زحفوا بجيشهم نحو قلاعهم وحاصروها ، وقيل أنّ اشتباكا مسلّحا قد حصل في حدود ضيّقة بين الطرفين.

وفي مقام الجواب نقول : بأنّ قلاع بني النضير ـ كما ذكروا ـ لم تكن بعيدة عن المدينة ، وذكر بعض المفسّرين أنّ المسافة بين المدينة والقلاع ميلان وأنّ المسلمين ذهبوا إليها سيرا على أقدامهم ، وبناء على هذا فلم يواجهوا مشقّة حقيقية. أمّا بالنسبة لموضوع الاشتباك المسلّح فإنّه لم يثبت من الناحية التأريخية ، كما أنّ الحصار لم يستمرّ طويلا ، وبناء على هذا فإنّنا نستطيع القول بأنّه لم يحدث شيء يمكن أن نسمّيه قتالا ، ولم يرق دم على الأرض.

والآية اللاحقة تبيّن بوضوح مورد صرف (الفيء) الوارد في الآية السابقة وتقول بشكل قاعدة كليّة :( ما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ ) .

وهذا يعني أنّ هذه الغنائم ليست كباقي الغنائم الحربية التي يكون خمس منها فقط تحت تصرّف الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وسائر المحتاجين ، والأربعة الأخماس الاخرى للمقاتلين.

وإذا ما صرّحت الآية السابقة برجوع جميع الغنائم لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلا يفهم من ذلك أن يصرفها جميعا في موارده الشخصية ، وإنّما أعطيت له لكونه رئيسا للدولة الإسلامية ، وخاصّة كونه المتصدّي لتغطية حاجات المعوزين ، لذا فإنّ القسم الأكبر يصرف في هذا المجال.

وقد ذكر في هذه الآية بصورة عامّة ستّ مصارف للفيء.

١ ـ سهم لله ، ومن البديهي أنّ الله تعالى مالك كلّ شيء ، وفي نفس الوقت غير محتاج لأي شيء ، وهذا نوع من النسبة التشريفية ، حتّى لا يحسّ بقيّة الأصناف

١٧٨

اللاحقة بالحقارة والذلّة ، بل يرون سهمهم مرادفا لسهم اللهعزوجل ، فلا ينقص من قدرهم شيء أمام الناس.

٢ ـ سهم الرّسول : ومن الطبيعي أن يصرف لتأمين احتياجاته الشخصيةصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وما يحتاجه لمقامه المقدّس وتوقّعات الناس منه.

٣ ـ سهم ذوي القربى : والمقصود بهم هنا وبدون شكّ أقرباء الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبني هاشم ، حيث أنّهم مستثنون من أخذ الزكاة والتي هي جزء من الأموال العامّة للمسلمين(١) .

وأساسا لا دليل على أنّ المقصود من ذوي القربى هم أقرباء الناس جميعا ، لأنّه في هذه الحالة ستشمل جميع المسلمين ، لأنّ الناس بعضهم أقرباء بعض.

ولكن هل هناك شرط يقضي أن يكون ذوو القربى من المحتاجين والفقراء أو لا يشترط ذلك؟ لقد اختلف المفسّرون في ذلك بالرغم من أنّ القرائن الموجودة في نهاية هذه الآية والآية اللاحقة توضّح لزوم شرط الحاجة.

(٤ ، ٥ ، ٦) : «سهم اليتامى» و «المساكين» و «أبناء السبيل» ، وهل أنّ جميع هؤلاء يلزم أن يكونوا هاشميين أو أنّها تشمل عموم اليتامى والمساكين وأبناء السبيل؟

اختلف المفسّرون في ذلك ، ففقهاء أهل السنّة ومفسّروهم يعتقدون أنّ هذا الأمر يشمل العموم ، في الوقت الذي اختلفت الروايات الواردة عن أهل البيتعليهم‌السلام في هذا المجال ، إذ يستفاد من قسم منها أنّ هذه الأسهم الثلاثة تخصّ اليتامى والمساكين وأبناء السبيل من بني هاشم فقط ، في حين صرّحت روايات اخرى بعمومية هذا الحكم ، ونقل أنّ الإمام الباقرعليه‌السلام قال : «كان أبي يقول : لنا سهم رسول

__________________

(١) هذا التّفسير لم يأت به الشيعة فقط ، حيث جاء ذكره في تفاسير أهل السنّة أيضا ، كما ذكر ذلك الفخر الرازي في التّفسير الكبير ، والبرسوني في روح البيان ، وسيّد قطب في ظلال القرآن ، والمراغي في تفسيره والآلوسي في روح المعاني.

١٧٩

الله ، وسهم ذي القربى ونحن شركاء الناس فيما بقي»(١) .

والآيات الثامنة والتاسعة من هذه السورة ، التي هي توضيح لهذه الآية ، تؤيّد أيضا أنّ هذا السهم لا يختّص ببني هاشم ، لأنّ الحديث دالّ على عموم فقراء المسلمين من المهاجرين والأنصار.

وبالإضافة إلى ذلك ، فقد نقل المفسّرون أنّ الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد حادثة بني النضير قسّم الأموال المتبقية بين المهاجرين من ذوي الحاجة والمسكنة ، وعلى ثلاثة أشخاص من طائفة الأنصار ، وهذا دليل آخر على عمومية مفهوم الآية. وإذا لم تكن بعض الروايات متناسبة معها ، فينبغي ترجيح ظاهر القرآن(٢) .

ثمّ يستعرض سبحانه فلسفة هذا التقسيم الدقيق بقوله تعالى :( كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ ) فيتداول الأغنياء الثروات فيما بينهم ويحرم منها الفقراء(٣) .

وذكر بعض المفسّرين سببا لنزول هذه الجملة بشكل خاصّ ، وأشير له بشكل إجمالي في السابق ، وهو أنّ مجموعة من زعماء المسلمين قد جاؤوا لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد واقعة بني النضير ، وقالوا له : خذ المنتخب وربع هذه الغنائم ، ودع الباقي لنا نقتسمه بيننا ، كما كان ذلك في زمن الجاهلية. فنزلت الآية أعلاه تحذّرهم من تداول هذه الأموال بين الأغنياء فقط.

والمفهوم الذي ورد في هذه الآية يوضّح أصلا أساسيّا في الإقتصاد الإسلامي وهو : وجوب التأكيد في الإقتصاد الإسلامي على عدم تمركز الثروات بيد فئة محدودة وطبقة معيّنة تتداولها فيما بينها ، مع كامل الاحترام للملكية

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ٩ ، ص ٢٦١ ، ووسائل الشيعة ، ج ، ص ٣٦٨ ، حديث ١٢ وباب واحد من أبواب الأنفال.

(٢) وسائل الشيعة ، ج ٦ ، ص ٣٥٦ ، (حديث ٤ ، باب واحد من أبواب الأنفال).

(٣) (دولة) بفتح الدال وضمّها بمعنى واحد ، وفرّق البعض بين الإثنين وذكر أنّ (دولة) بفتح الدال تعني الأموال ، أمّا بضمّها فتعني الحرب والمقام ، وقيل أنّ الأوّل اسم مصدر ، والثاني مصدر ، وعلى كلّ حال فإنّ لها أصلا مشتركا من مادّة «تداول» بمعنى التعامل من يد إلى اخرى.

١٨٠

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

والجزاء على الأعمال ، وهذه الأحكام هي :

١ ـ أوّلا تقرّر أنّ( مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ ) حيث تعود النتيجة عليه.

٢ ـ ثمّ تقرّر أيضا أنّ( وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها ) .

وقرأنا نظير هذين الحكمين في الآية السابعة من هذه السورة في قوله تعالى :( إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها ) .

٣ ـ ثمّ تنتقل الآية لتقول :( وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ) .

«الوزر» بمعنى الحمل الثقيل. وأيضا تأتي بمعنى المسؤولية ، لأنّ المسؤولية ـ أيضا ـ حمل معنوي ثقيل على عاتق الإنسان ، فإذا قيل للوزير وزيرا ، فإنّما هو لتحمله المسؤولية الثقيلة على عاتقه من قبل الناس أو الأمير والحاكم.

طبعا هذا القانون الكلّي الذي تقرّره آية( وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ) لا يتنافى مع ما جاء في الآية (٢٥) من سورة النحل التي تقول :( لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ ) لأنّ هؤلاء بسبب تضليلهم للآخرين يكونون فاعلين للذنب أيضا ، أو يعتبرون بحكم الفاعلين له ، ولذلك فهم في واقع الأمر يتحملون أوزارهم وذنوبهم ، وبتعبير آخر : فإنّ «السبب» هنا هو في حكم «الفاعل» أو «المباشر».

كذلك مرّت علينا روايات متعدّدة حول مسألة السنّة السيئة والسنّة الحسنة ، والتي كان مؤدّاها يعني أنّ من سنّ سنة سيئة أو حسنة فإنّه سيكون له أجر من نصيب العاملين بها ، وهو شريكهم في جزائها وعواقبها ، وهذا الأمر هو الآخر لا يتنافى مع قاعدة( وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ) لأنّ المؤسس للسنّة ، يعتبر في الحقيقة أحد اجزاء العلة التامّة للعمل ، وهو بالتالي شريك في العمل والجزاء.

٤ ـ الحكم الرّابع يتمثل في قوله تعالى :( وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً ) يقوم ببيان التكليف وإلقاء الحجة.

هناك نقاش بين المفسّرين حول نوع العذاب المقصود هنا ، وهل هو نوع من

٤٢١

أنواع العذاب الذي يقع في الدنيا أو في الآخرة ، أم المقصود به هو عذاب «الاستيصال» الذي يعني العذاب الشامل المدمّر كطوفان نوح مثلا؟

إنّ ظاهر الآية الكريمة يدل على الإطلاق ، وهو بالتالي يشمل كل أنواع العذاب.

وهناك نقاش آخر ـ أيضا ـ بين المفسّرين حول قاعدة( وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً ) وهل أنّ الحكم فيها يخص المسائل الشرعية التي يعتمد فهمها على الأدلة النقلية فقط ، أو أنّه يشمل جميع المسائل العقلية والنقلية في الأصول والفروع؟

في الواقع ، إذا أردنا العمل بظاهر الآية الذي يفيد الإطلاق ، فينبغي القول أنّها تشمل جميع الأحكام العقلية والنقلية ، سواء ارتبطت بأصول أو فروع الدين.

ومفهوم هذا الكلام أنّه حتى في المسائل العقلية البحتة التي يقطع «العقل المستقل» بحسنها وقبحها مثل حسن العدل وقبح الظلم ، فإنّه ما لم يأت الأنبياء ، ويؤيدون حكم العقل بحكم النقل ، فإنّ الله تبارك وتعالى لا يجازي أحدا بالعذاب. للطفه ورحمته بالعباد.

ولكن هذا الموضوع مستبعد وضعيف الاحتمال ، لأنّه يصطدم مع قاعدة أنّ المستقلات العقلية لا تحتاج إلى بيان الشرع ، وحكم العقل في إتمام الحجة في هذه الموارد يعتبر كافيا ومجزيا ، لذلك فلا طريق أمامنا إلّا أن نستثني المستقلات العقلية عن مجال عمل القاعدة المذكورة.

وإذا لم نستثن ذلك فسيكون معنى العذاب في هذه الآية هو «عذاب الاستيصال» وسيكون المفاد الأخير للمعنى هو أنّ الله سبحانه وتعالى لرحمته ولطفه بالعباد لا يهلك الظالمين والمنحرفين إلّا بعد أن يبعث الأنبياء ، وتستبين جميع طرق السعادة والهداية ، حتى تطابق حجّة الشرع حجّة العقل المستقل ، وتتم الحجة بذلك من طريقي العقل والنقل (فتأمّل ذلك).

* * *

٤٢٢

بحوث

١ ـ التفؤل والتطير

التفؤل والتطيّر كانا موجودين بين جميع الأمم ولا يزالان كذلك. ويظهر أنّ مصدرهما هو عدم القدرة على اكتشاف الحقائق ، والغفلة عن علل الحوادث. وعلى أية حال ، ليست هناك آثار طبيعية فعلية لهذين الأمرين ، ولكن لهما آثارا نفسية ، إذ (التفاؤل) يبعث على الأمل بينما «التطيّر» يؤدي إلى اليأس والعجز.

ولأنّ الإسلام يؤكّد دائما على الأمور الإيجابية ، ويدفعها مشجعا إيّاها ، لذا فإنّه لم ينه عن (التفاؤل) ولكنّه أدان وبشدّة «التطيّر» حتى أنّه في بعض الرّوايات اعتبر ذلك من الشرك ، إذ جاء الرّسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قوله : «الطيرة شرك» وقد بحثنا هذا الموضوع بشكل مفصّل في نهاية الآية (١٣١) من سورة الأعراف(١) .

الظريف في الأمر أنّ الإسلام يقوم دائما بتوجيه مثل هذه الأمور الوهمية ويحاول توظيفها في مجراها الصحيح والبنّاء ، حتى يمكن الاستفادة منها.

فمثلا ممّا هو شائع بين الناس أنّ الزوجة الفلانية قدمها خير ، بينما الأخرى قدمها في بيت زوجها شرّ ونحس ، وكذلك شائع أن الزوجة الفلانية ومنذ أن دخلت بيت زوجها حصل كذا وكذا (خيرا أم شرا) بينما واقع الحال إنّ هذه الأمور خرافية وهمية ، لكن الإسلام أعطى بعضها ـ من خلال توجيهه ـ شكلا بناء ومضمونا تربويا ، فعن الإمام الصادقعليه‌السلام نقرأ : «من شؤم المرأة غلاء مهرها وشدّة مؤنتها»(٢) . وفي حديث آخر عن رسول الهدىصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نقرأ : «أمّا الدار فشؤمها ضيقها وخبث جيرانها»(٣) .

__________________

(١) يراجع التّفسير «الأمثل» عند تفسير قوله تعالى :( فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قالُوا لَنا هذِهِ ، وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ ، أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ عِنْدَ اللهِ ، وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ ) ، (الأعراف ١٣١).

(٢) راجع وسائل الشيعة ، ج ٣ ، ص ١٠٤.

(٣) راجع سفينة البحار ، ج ١ ، ص ٦٨٠.

٤٢٣

لاحظوا بدقة كيف يستخدم الإسلام نفس الألفاظ التي كان الناس يستخدمونها في مفاهيم خرافية ووهمية ، يوظفها في مفاهيم واقعية وبأسلوب تربوي بنّاء ، ولاحظوا أيضا ، كيف أنّ الأفكار التي كانت تنتهي إلى طريق مغلق ، جاء الإسلام ووجهها نحو طريق الهداية والإصلاح.

أخيرا وقبل أن ننتقل إلى الملاحظة الثّانية نختم حديثنا بكلام لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يطابق ما قلناه آنفا؟ إذا روي عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قوله : «اللهمّ لا خير إلّا خيرك ، ولا طير إلّا طيرك ولا ربّ غيرك».

٢ ـ صحيفة أعمال الإنسان العجيبة :

لقد تحدّثت آيات قرآنية وروايات عديدة عن صحيفة أعمال الإنسان. وكلّ هذه الآيات والرّوايات تؤكّد على أنّ جميع الأعمال وجزئياتها وتفصيلاتها تكون مدوّنة في صحيفة الأعمال ، وفي يوم البعث والقيامة ، يستلم الإنسان صحيفة عمله بيمينه إذا كان محسنا ويتناولها بشماله إذا كان مسيئا. ففي الآية (١٩) من سورة الحاقة نقرأ!( فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ ) وفي الآية (٢٥) من نفس السورة نقرأ قوله تعالى حكاية عن الإنسان الخاسر :( وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ فَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ ) . وفي الآية (٤٩) من سورة الكهف نقرأ قوله تعالى :( وَوُضِعَ الْكِتابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يا وَيْلَتَنا ما لِهذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها،وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً ) .

وفي حديث عن الإمام الصادقعليه‌السلام ، يتعلق بالآية ـ مورد البحث ـ( اقْرَأْ كِتابَك ) قال : «يذكر العبد جميع ما عمل ، وما كتب عليه ، حتى كأنّه فعله تلك الساعة ، فلذلك قالوا يا ويلتنا ما لهذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلّا

٤٢٤

أحصاها»(١) .

وهنا يطرح هذا السؤال ؛ عن ماهية هذه الصحيفة وكيفيتها؟

ممّا لا شك فيه أنّها ليست من جنس الكتب والورق والصحف العادية ، لذا فإنّ بعض المفسّرين قالوا بأنّ صحيفة الأعمال ليست سوى «روح الإنسان» والتي تكون جميع الأعمال مثبتة فيها(٢) لأنّ أي عمل نعمله سيكون له أثر في روحنا شئنا أم أبينا.

وقد تكون صحيفة الأعمال ، هي أعضاء جسمنا وجلودنا ، والأعظم من ذلك هو أنّ الصحيفة قد تكون متضمّنة في الأرض والهواء والفضاء الذي يحيطنا والذي نعيش فيه ، لأنّ هذه المفردات هي ووعاء أعمالنا ، فترتسم الأعمال في أفق الأرض الهواء والوجود الذي حولنا ، هذا الوجود الذي تنحت في ذراته أعمالنا أو آثارها وعلى الأقل.

وإذا كانت هذه الآثار غير محسوسة اليوم ، ولا يمكن دركها في الحياة الدنيا هذه ، إلّا أنّ ذلك ـ بدون شك ـ لا يعني عدم وجودها ؛ فعند ما نرزق بصرا جديدا آخر (في يوم القيامة) فسوف يكون بإمكاننا أن نرى جميع هذه الأمور ، ونقرؤها.

على أنّ استخدام الآية الكريمة لتعبير (اقرأ) ينبغي أن لا يغيّر من تفكيرنا شيئا إزاء ما ذهبنا إليه آنفا ، لأنّ كلمة «اقرأ» تتضمّن مفهوما واسعا ، وتدخل الرؤيا بمفهومها الواسع هذا ، فنحن مثلا وفي تعابيرنا العادية التي نستخدمها يوميا نقول : قرأت في عيني فلان ما الذي يريد أن يفعله ، كما أنّنا في عالم اليوم أخذنا نستخدم كلمة «اقرأ» بخصوص الأشعة التي تؤخذ للمرضى ، هذا بالرغم من أنّ الأشعة ، هي صورة تخضع للمشاهدة لا للقراءة ، وهذا المثال والأمثلة التي سبقته

__________________

(١) نور الثقلين ، ج ٣ ، ص ١٤٤.

(٢) يراجع تفسير الصافي في شأن تفسير هذه الآية.

٤٢٥

تؤكد ما ذهبنا إليه أنّ المشاهدة تدخل في إطار المعنى الواسع للقراءة.

وقد تقدم في الآيات السابقة أنّ تفصيلات صحيفة الأعمال هذه ، لا يمكن إنكارها بأي وجه ، لأنّ الآثار الحقيقية الموضوعية (أي الخارجية) والتكوينية للعمل تشبه كثيرا الصوت المسجّل للإنسان ، أو الصورة المأخوذة له ، أو بصمات أصابعه ، وأيّا من هذه الآثار لا يجد الإنسان إلى نكرانها سبيلا!

٣ ـ البريء لا يؤخذ بجريرة المذنب :

في منطق العقل وتوجيهات الأنبياءعليهم‌السلام لا يمكن معاقبة البريء بسبب جريمة المذنب ، وهذا تماما عكس ما هو شائع بين عامّة الناس من خلال المثل الذي يقول (يحرق الأخضر واليابس معا) ، وكمثل على ذلك ، نرى أنّ في كل المدن والمناطق التي كانت في حدود نبوّة النّبي لوطعليه‌السلام ، لم تكن هناك سوى عائلة مؤمنة واحدة ، ولكن عند ما نزل العذاب على قوم لوطعليه‌السلام أنجى الله تلك العائلة ، وكتب لها سبيل الخلاص من العذاب العام ، وهكذا لم تؤخذ هذه العائلة المؤمنة البريئة بجريرة القوم المذنبين.

وتتحدث الآية ، من مجموع الآيات التي نحن بصددها ، بصراحة عن هذه القاعدة ، فتقول :( وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ) . وإذا صادف أن وجدنا من بين الأحاديث غير المعتبرة ، أمورا تعارض هذا القانون الإسلامي العام. فيجب ترك تلك الأحاديث أو توجيهها.

وفي هذه الاتجاه ، أمامنا رواية تقول : إنّ الشخص الميت يتعذب ببكاء الحىّ ، (وهنا يحتمل ، ومن باب توجيه الحديث ، أن يكون الغرض من العذاب ، هو ليس العذاب الإلهي، بل الأذى الذي يصيب الميت من ذلك عند ما تطّلع روحه على جزع الأهل والأقرباء).

ويتّضح هنا ـ أيضا ـ مصير عقيدة الأشخاص الذين يقولون : إنّ أبناء الكفّار

٤٢٦

يحشرون مع آبائهم في نار جهنّم لبطلانه إسلاميا ولمنافاته لقاعدة( وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ) ، وإنّ الذرية لا تؤاخذ بجريرة الآباء ، وهي بالتالي لا تعاقب بسبب ذنوب الأب والأم. ولهذا السبب بالذات ، فقد قلنا بأنّ الأبناء غير الشرعيين (أولاد الزنا) ليست لهم من جريرة غيرهم عليهم شيء ، وأنّهم بمنأى عن الذنب وأنّ أبواب السعادة أمامهم مفتوحة ، إذا أرادوهم ذلك ، بالرغم من اعترافنا بصعوبة تربيتهم!

٤ ـ قاعدة «أصل البراءة» وآية!( ما كُنَّا مُعَذِّبِينَ ) :

في علم الأصول ، وفي بحث «البراءة» استدلوا بقوله تعالى :( وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى ) على أن فهم الآية يوضّح أنّ المسائل التي لا يمكن للعقل إدراكها أو القطع بها ، لا يعاقب عليها الإنسان حتى يبعث الله الرسل والأنبياء ليبيّنوا الأحكام والتكاليف والوظائف. وهذا بحد ذاته دليل على عدم العقاب في الأمور التي لم تقم الحجة عليها ، وقاعدة «أصل البراءة» لا تعني شيئا غير هذا ؛ أي لا عقاب بدون حجة من العقل أو النقل.

أمّا قول البعض : إنّ مفاد «العذاب» في الآية أعلاه ، هو «عذاب الاستئصال» مثل طوفان نوح ، فلا دليل على ذلك ، بل ـ كما قلنا ـ إنّ اطلاق الآية ينفي ذلك ، وهي تشمل بالتالي كلّ عذاب وعقاب.

* * *

٤٢٧

الآيتان

( وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً (١٦) وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (١٧) )

التّفسير

مراحل العقاب الإلهي :

إنّ موضوع البحث في هذه الآيات يكمّل ما كنّا بصدد بحثه في نهاية الآيات السابقة، ولكن بصورة أخرى ، إذ تقول الآية الكريمة :( وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً ) (١) . إنّ الآيات التي كنّا قبل قليل بصدد بحثها ، كانت تتحدّث عن أنّ العقاب الإلهي لا يمكن أن ينزل بساحة شخص أو مجموعة أو أمّة ، من دون أن تكون هناك حجة وبيان للتكليف من قبل الرسل والأنبياءعليهم‌السلام ، والآية التي نحن بصددها الآن ، تتحدث عن نفس هذا الأصل ، ولكن بطريقة أخرى.

صحيح أنّ المفسّرين وضعوا احتمالات متعددة لتفسير هذه الآية ، إلّا أنّنا

__________________

(١) بالرغم من أنّ كلمة «قول» لها معنى واسع ، ولكنّها هنا تعني إعطاء الأمر بالعذاب.

٤٢٨

نعتقد بأنّه لا يوجد سوى تفسير واحد واضح لهذه الآية ، يمكن تبيانه من مؤدّى ظاهرها ، وهذا التّفسير هو : إنّ الله لا يعاقب أو يؤاخذ أحدا بالعذاب ، قبل أن يتمّ الحجّة عليه ، وقبل أن يتّضح ويستبين تكليفه ، ففي البداية يضع الله تعليماته وأوامره أمام الناس ، فإذا التزموا بها وأطاعوا فستنالهم سعادة الدنيا والآخرة. أمّا إذا عصوا وخالفوا ولم يلتزموا الأوامر والنواهي الربانية ، فسيحيق بهم العذاب ، ويؤدي إلى هلاكهم.

وإذا تأملنا الآية ، ودققنا النظر فيها بشكل صحيح ، فسنرى أنّ هناك أربع مراحل لهذا البرنامج الرباني ، هي :

١ ـ مرحلة الأوامر والنواهي.

٢ ـ مرحلة الفسق والمخالفة.

٣ ـ مرحلة استحقاق المجازاة.

٤ ـ مرحلة الهلاك.

والملاحظ هنا ، أنّ المراحل الأربع هذه ، معطوفة على بعضها البعض بواسطة «فاء» التفريع.

هنا يطرح هذا السؤال : لماذا كان المأمورون في الآية الكريمة هم المترفين دون غيرهم؟(١) .

في الإجابة على السؤال المثار ، لا بدّ من الإشارة إلى ملاحظة تعتبر مهمّة في توضيح المعنى ، وهي أنّ المترفين هم وجهاء القوم ، ورؤساء المجتمع ـ طبعا هذه القاعدة تخص المجتمعات المريضة ـ والآخرون تبع لهم.

إضافة إلى ذلك ، فإنّ التعبير في الآية الكريمة ينطوي على إشارة مهمّة ، هي أنّ أغلب المفاسد الاجتماعية تنبع من المترفين ، أصحاب الأموال ، البعيدين عن

__________________

(١) مترفون ، من مادة رفاه ، وتعني المتنعمين وذوي الأموال الكثيرة الناسين لله تعالى.

٤٢٩

الله تعالى ، والذين يعيشون حياة مترفة بعيدة عن الشرع مملوءة بالأهواء والمفاسد ، وهم بذلك لا يفقهون شيئا عن تلك المفردات التي تتحدث عن الأخلاق والإنسانية والإصلاح. ولهذا السبب بالذات ، وبحكم موقعهم ، كان المترفون دائما في الصفوف الأولى ، في مواجهة دعوات الأنبياء والرسل ، وكانوا يعتبرون دعوات الأنبياء ـ القائمة على أساس العدل وحماية المستضعفين ـ ضدّهم.

لهذه الأسباب ذكر هؤلاء بالخصوص لأنّهم أساس الفساد. على أية حال ، هذه الآية بمثابة تحذير لكل المؤمنين كي ينتبهوا ، ولا يسلموا زمام أمورهم وحكوماتهم بيد المترفين والأغنياء الغارقين بالشهوات ، وألّا يتبعونهم ، لأنّ هؤلاء يجرون مجتمعهم نحو الهلاك.

الآية التي بعدها تشير إلى نماذج بهذا الخصوص ، على أنّها أصل عام ، وقاعدة سارية، إذ تقول :( وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ ) وفقا لهذه القاعدة والسنّة ، ثمّ تضيف بعد ذلك :( وَكَفى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً ) أي إنّ ظلم وذنوب فرد أو مجموعة لا يمكنها أن تكون خافية على العين البصيرة التي لا تنام لربّ العالمين.

«قرون» جمع «قرن» وهي تعني الجماعة التي تعيش في عصر واحد ، ثمّ أطلقت فيما بعد على مجموع العصر الواحد.

أمّا بصدد عدد سنين القرن الواحد ، فهناك آراء مختلفة ، فقسم أعتبر القرن (٤٠) سنة ، وآخرون قالوا : ثمانين ، والبعض الثالث ، قال : إنّ القرن مائة عام ، أخيرا فقد اعتبر البعض أنّ القرن هو مائة وعشرون عاما. وفي كلّ الأحوال لا بدّ من الإشارة هنا إلى أن الحكم في هذه القضية يخضع لطبيعة الاتفاق العرفي الذي ينعقد حولها. ومن هنا فقد اتفق في عصرنا الراهن على أنّ كل مائة سنة تعتبر قرنا

٤٣٠

واحدا(١) .

أمّا لماذا أكدت الآية على القرون من بعد نوحعليه‌السلام فقد يكون ذلك بسبب أنّ الحياة قبل نوحعليه‌السلام كانت حياة بسيطة ، والاختلافات التي تقسّم المجتمعات إلى مترف ومستضعف ، كانت بسيطة وضئيلة ، لذلك فالعذاب الإلهي لم يشملهم بكثرة.

أمّا عن سبب ذكر كلمتي «خبير» و «بصير» معا ، فإنّ ذلك يعود إلى المعنى المراد ، إذ «الخبير» تعني العلم والإحاطة بالنية والعقيدة ، أمّا «بصير» فدلالة على رؤية الأعمال. لذلك فإنّ الله تبارك وتعالى يعلم بواطن الأعمال والنيات ، ويحيط بنفس الأعمال، ومثل هذه القدرة لا يمكنها بحال أن تظلم أحدا ، ولا أن يضيع حق أحد في ظل حكومتها.

* * *

__________________

(١) في نهاية الآية (١٣) من سورة يونس أشرنا إلى هذا الموضوع.

٤٣١

الآيات

( مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاها مَذْمُوماً مَدْحُوراً (١٨) وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً (١٩) كُلاًّ نُمِدُّ هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً (٢٠) انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً (٢١) )

التّفسير

طلاب الدنيا والآخرة :

لقد تحدّثت الآيات السابقة عن الذين عصوا أوامر الله تعالى ، وكيفية هلاكهم ، لذا فإنّ هذه الآيات ـ التي نحن بصددها الآن ـ تشير إلى سبب التمرّد على شريعة الله،والعصيان لأوامره ، وهذا السبب هو حب الدنيا ، إذ يقول تعالى :( مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاها مَذْمُوماً مَدْحُوراً ) .

٤٣٢

«العاجلة» تعني النعم الزائلة ، أو الدنيا الزائلة.

والظريف في الآية ، أنّها لا تقول : إنّ من يسعى وراء الدنيا ، ويجعلها كلّ همه ، يحصل على كلّ ما يريد ، بل هي قيّدت ذلك بشرطين هما :

أوّلا : سيحصل على جزء ممّا يريده ، وأنّ هذا الجزء هو المقدار الذي نريده نحن ، أي (ما نشاء).

والشرط الثّاني الذي يقيّد رغبة الساعي إلى الدنيا ، فهو : إنّ جميع الأشخاص ـ رغم سعيهم الدنيوي ـ لا يحصلون على هذا المقدار ، وإنما قسم منهم سيحصل على جزء من متاع الدنيا. وهذا معنى قوله :( لِمَنْ نُرِيدُ ) .

وبناء على ذلك ، فلا كلّ طلّاب الدنيا يحصلون عليها ، ولا أولئك الذين يحصلون على شيء منها ، يحصلون على ما يريدون. ومسير الحياة اليومية يوضح لنا هذين الشرطين ، إذ ما أكثر الذين يكدون ليلا ونهارا ولكنّهم لا يحصلون على شيء.

وما أكثر الذين لهم أمنيات كبيرة وطموحات متعددة ومشاريع بعيدة ، ولكن لا يحصلون إلّا على القليل منها.

وفي هذا تحذير الدنيا إنّكم إذا تصورتم بأنّكم ستصلون إلى أهدافكم عن طريق بيع الآخرة بالدنيا ، فهذا خطاء واشتباه كبير ، حيث أنّكم في بعض الأحيان قد لا تحققون أي هدف ، وفي أحيان أخرى قد تحققون بعض أهدافكم.

وعادة ما تكون للإنسان آمال كبيرة ومتعدّدة ، لا يمكن إشباعها في هذه الدنيا المادية المحدودة ، فلو أعطيت الدنيا كلّها إلى شخص واحد ، فقد لا يقتنع بها!

أمّا الأشخاص الذين يكدّون ولا يصلون إلى شيء ، فلذلك أسباب مختلفة ، إذ قد يكون هناك أمل في إنقاذهم ، والله بذلك يحبهم وييسر سبل الهداية لهم. أو يكون السبب أنّهم إذا وصلوا إلى مرحلة ما من أهدافهم ورغباتهم ، فسيطغون ويؤذون خلق الله ، ويضيقون عليهم الخناق.

٤٣٣

«يصلى» مشتقة من «صلى» وهي تعني إشعال النّار ، وأيضا تعني الحرق بالنّار ، والمقصود منها هنا هو المعنى الثاني.

والجدير بالانتباه هنا ، أنّ عاقبة هذه المجموعة من الناس ، والتي هي نار جهنّم ، قد تمّ تأكيدها في الآية ، بكلمتي( مَذْمُوماً ) و( مَدْحُوراً ) إذ التعبير الأوّل يأتي بمعنى اللوم ، بينما الثّاني يعني الابتعاد عن رحمة الخالق ، وفي الحقيقة إنّ نار جهنّم تمثل العقاب الجسدي لهم ، أمّا «مذموم» و «مدحور» فهما عقاب الروح ، لأنّ المعاد هو للروح وللجسد ، والجزاء والعقاب يكون للإثنين معا.

بعد ذلك تنتقل الآيات إلى توضيح وضع المجموعة الثّانية ومصيرها ، وبقرينة المقابلة وهي أسلوب قرآني مميّز ـ يتوضح الموضوع أكثر إذ يقول تعالى :( وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ ، فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً ) .

بناء على ذلك هناك ثلاثة شروط أساسية للوصول إلى السعادة الأبدية ، هي:

أوّلا : إرادة الإنسان : وهي الإرادة التي ترتبط بالحياة الأبدية ، ولا تكون مرتبطة باللذات الزائلة والنعم غير الثابتة ، والأهداف المادية ، فالإرادة القوية والروحية العالية تجعلان من الإنسان حرّا طليقا غير مرتبط بالدنيا.

ثانيا : هذه الإرادة يجب أن لا تكون ضعيفة وقاصرة في المجال الفكري والروحي للإنسان ، بل إنّها يجب أن تشمل جميع ذرات الوجود الإنساني ، وتدفعه للحركة ، ويبذل كل ما يستطيع من السعي في هذا المجال (يجب الملاحظة ، بأنّ كلمة «سعيها» قد جاءت في الآية الكريمة للتأكيد. وهي تعني أنّ على الإنسان أن يبذل أقصى ما يستطيع من السعي في سبيل الآخرة).

ثالثا : إنّ كل ما سبق من حيث عن الإرادة في النقطتين السابقتين ، ينبغي أن يقترن بالإيمان ، الإيمان الثابت القوي ، لأنّ أي تصميم وجهد ، إذا أريد له أن يثمر يجب أن تكون أهدافه صحيحة ، ومصدر هذه الأهداف هو الإيمان بالله لا غير.

صحيح أنّ السعي وبذل الجهد للآخرة لا يمكن أن يكون بدون إيمان ، حيث

٤٣٤

أنّ مفهوم الإيمان داخل ضمنه ، ولكن يجب عدم الاكتفاء بهذا المقدار من الدلالة الالتزامية للإيمان ، بل وينبغي التوسع في شرط الإيمان ، بحكم أنّ (الإيمان) يعتبر أمرا أساسيا ، وركنا مهمّا في هذا الطريق.

والملاحظ هنا ، أنّ الآية تخاطب عبيد الدنيا بالقول :( جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ ) بينما عند ما تنتقل إلى طلّاب الآخرة وعشّاقها ومريدها ، فهي تخاطبهم بالقول :( فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً ) . إنّ استخدام هذا التعبير أشمل وأجمل من استخدام أي تعبير آخر ، مثل (جزاءهم الجنّة) لأنّ الشكر من أي شخص هو بمقدار شخصيته ومكانته لا بمقدار العمل الذي تمّ ، لذا فإنّ شكر الله لسعي عباده يتناسب مع ذاته اللامتناهية ، ونعمه المادية والمعنوية وما نتصوره وما نعجز عن تصوّره.

وبالرغم من أنّ بعض المفسّرين قد فسّروا كلمة «مشكورا» في هذه الآية بمعنى «الأجر المضاعف»(١) . أو بمعنى «قبول العمل»(٢) ، إلّا أنّه من الواضح أن كلمة «مشكورا» لها معنى أوسع من هذه المعاني جميعا.

وقد يتوهم البعض ويلتبس عليه الأمر ، ظنا أنّ نعم الدنيا هي من نصيب عبيدها وطلابها فقط ، وأنّ طلّاب الآخرة وأهلها محرومون منها. لذلك فإنّ الآية التي بعدها تقف أمام هذا اللبس ، وتمنع هذا الظن ، عند ما تقول :( كُلًّا نُمِدُّ هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ ) لتضيف بعدها بقليل :( وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً ) .

نمدّ هنا من «الإمداد» بمعنى الزيادة.

الآية التي بعدها تشير إلى أصل مهم في هذا الخصوص وتقول : كما أن السعي في هذه الدنيا متفاوت ، وتتفاوت معه الأجور ، فكذلك الأمر في الآخرة : ولكن التفاوت الدنيوي محدود ، لأنّ الدنيا هي نفسها محدودة ، وأمّا الآخرة ـ ولكونها

__________________

(١) يراجع في هذا الشأن تفسير القرطبي ، ج ٦ ، ص ٣٨٥٢.

(٢) راجع تفسير الصافي عند الحديث عن هذه الآية.

٤٣٥

غير محدودة ـ فإن تفاوتها غير محدود ، إذ يقول تعالى :( انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً ) .

قد يقول قائل هنا : إنّنا نرى في هذه الدنيا أفرادا يحصلون على أرباح كثيرة بدون أي سعي أو جهد.

الجواب : إنّ وجود هؤلاء يعبّر عن حالات استثنائية لا يمكن اعتبارها قاعدة في مقابل الأصل الكلي ، المتمثل في الجهد والسعي ودورهما في نجاح الإنسان وتوفيقه. وبذلك فإنّ هذه الاستثناءات الثانوية لا تنافي الأصل الأساسي.

وأخيرا ، وقبل أن ننتقل إلى الملاحظات ، ينبغي أن ننّبه إلى أنّ السعي وبذل الجهد لا يتعلقان بالكمية والمقدار فقط ، ففي بعض الأحيان يكون السعي القليل ذو الكيفية العالية أكثر أثرا من السعي الكثير والكيفية الدانية.

* * *

بحوث

أوّلا : هل الدنيا والآخرة تقعان على طرفي نقيض؟

في الواقع إنّنا نرى في كثير من الآيات القرآنية مدحا وتمجيدا للدنيا وبإمكانها المادية ، ففي بعض الآيات اعتبر المال خيرا (سورة البقرة آية ١٨٠). وفي آيات كثيرة وصفت العطايا والمواهب المادية بأنّها فضل الله( وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللهِ ) (١) . وفي مكان آخر نقرأ قوله تعالى :( خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ) (٢) . وفي آيات كثيرة أخرى وصفت نعم الدنيا بأنها مسخّرة لنا( سَخَّرَ لَكُمُ ) .

وإذا أردنا أن نجمع كل الآيات التي تهتم بالإمكانات المادية وتؤكد عليها ،

__________________

(١) الجمعة ، ١٠.

(٢) البقرة. ٢٩.

٤٣٦

وتجعلها في سياق واحد ، فستكون أمامنا مجموعة كبيرة منها.

ولكن ، وبرغم الأهمية الكبرى التي تختص بها النعم المادية ، فإنّ القرآن الكريم استخدم تعابير أخرى تحقّرها وتحطّ منها بقوة ، إذ نقرأ في سورة النساء ، آية (٩٤) ، قوله تعالى :( تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا ) وفي مكان آخر نقرأ قوله تعالى :( وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ ) (١) . وفي سورة العنكبوت آية (٦٤) ، نقرأ( وَما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ ) أمّا في الآية (٣٧) من سورة النّور ، فإنا نلتقي مع قوله تعالى :( رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ ) .

هذه المعاني المزدوجة إزاء النعم والمواهب المادية ، يمكن ملاحظتها أيضا في الأحاديث والرّوايات الإسلامية ، فالدنيا في وصف لأمير المؤمنين عليعليه‌السلام هي «مسجد أحباء الله ، ومصلى ملائكة الله ، ومهبط وحي الله ، ومتجر أولياء الله»(٢) .

وفي جانب آخر ، نرى أنّ الأحاديث والرّوايات الإسلامية تعتبر الدنيا دار الغفلة والغرور ، وما شابه ذلك.

والسؤال هنا : هل تتعارض هذه المجاميع من الآيات والرّوايات فيما بينها؟

في الواقع ، عند ما تلام الدنيا ، فإنّ اللوم ينصب على أولئك الناس الذين لا هدف لهم ولا همّ سواها. من هنا نقرأ في الآية (٢٩) من سورة النجم قوله تعالى :( وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَياةَ الدُّنْيا ) . وبعبارة أخرى : فإنّ الذم الذي يرد للدنيا يقصد به الأشخاص الذين باعوا آخرتهم بدنياهم. ولا يتناهون عن أي منكر وجريمة في سبيل الوصول إلى أهدافهم المادية ، وفي هذا السياق نقرأ في الآية (٣٨) من سورة التوبة :( أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ ) .

ثمّ إنّ الآيات التي نبحثها تشهد على ما نقول ، إذ أنّ قوله تعالى :( مَنْ كانَ

__________________

(١) الحديد ، ٢٠.

(٢) نهج البلاغة ، باب الكلمات القصار ، جملة رقم ١٣١.

٤٣٧

يُرِيدُ الْعاجِلَةَ ) هو خطاب لأولئك الذين يستهدفون هذه الحياة العادية الزائلة ، ويقفون عندها.

وعادة فإن استخدام تعابير «المزرعة» أو «المتجر» وما شاكلهما في تشبيه الحياة الدنيا ووصفها ، يعتبر دليلا حيا على هذا الموضوع.

وخلاصة القول : إنّه إذا تمت الاستفادة من مواهب الدنيا وعطاياها التي تعتبر من النعم الإلهية ، ويعتبر وجودها ضروريا في نظام الخلق والوجود ، وتمت الاستفادة في سعادة الإنسان الأخروية وتكامله المعنوي ، فإنّ ذلك يعتبر أمرا جيدا ، وتمتدح معه الدنيا. أمّا إذا اعتبرناها هدفا لا وسيلة ، وأبعدناها عن القيم المعنوية والإنسانية ، عندها سيصاب الإنسان بالغرور والغفلة والطغيان والبغي والظلم.

وما أجمل وصف الإمام عليعليه‌السلام للدنيا حينما يقول : «من أبصر بها بصرته ، ومن أبصر إليها أعمته»(١) . وفي أنّ الفرق بين الدنيا المذمومة والدنيا الممدوحة ، هو نفس الفرق الذي نستفيده ، بين «إليها» و «بها» ، إذ تعني الأولى أنّ الدنيا هدف ، بينما تعني الثّاني أنّها مجرد وسيلة!

ثانيا : دور السعي في تحقيق المكاسب :

هذه ليست المرّة الأولى التي يشيد فيها القرآن بالسعي والجهد ودورهما في تحقيق المكاسب ، وبعكسه يحذّر الأشخاص العاطلين والكسالى بأنّ السعادة الأخروية لا يمكن ضمانها بالكلام المجرد ، والتظاهر بالإيمان ، بل الطريق يتمثل بالسعي وبذل الجهود.

وهذه الحقيقة واضح مفادها في الكثير من الآيات القرآنية. ففي سورة

__________________

(١) يراجع نهج البلاغة ، الخطبة رقم (٨٢).

٤٣٨

المدثر. آية (٣٨) نقرأ( كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ ) وآية أخرى تقول :( وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى ) . وفي آيات كثيرة أخرى ، يأتي العمل الصالح بعد ذكر الإيمان حتى لا يتوهم أحد ويظنّ بأنّه يستطيع الوصول إلى مرحلة ما بدون سعي وجهد ، فمواهب الدنيا المادية لا يمكن استحصالها بدون سعي وجهد ، فكيف إذن بالسعادة الأخروية الخالدة!!؟

ثالثا : الإمدادات الإلهية :

«نمدّ» مشتقّة من كلمة «إمداد» وهي تعني إيصال المعونة ، يقول الراغب الأصفهاني في كتاب «المفردات» أن : كلمة «إمداد» غالبا ما تستعمل في المساعدات المفيدة والمؤثّرة. أما كلمة «مدّ» فإنها تستعمل في الأشياء المكروهة وغير المقبولة.

على أية حال ، نقرأ في الآيات التي نبحثها ، أنّ الله سبحانه وتعالى يضع جزءا من نعمه في خدمة الجميع ، إذ يستفيد منها المحسنون والمسيئون ، وهذه النعم غالبا ما تكون من النوع الذي يتوقف استمرار الحياة عليه.

بتعبير آخر : هذه النعم هي تعبير عن مقام الرحمانية الإلهية التي تشمل فيوضاتها جميع الناس ، المؤمن والكافر. ولكن ما وراء ذلك هناك نعم لا تحصى تختص بالمؤمنين والمحسنين دون غيرهم.

* * *

٤٣٩

الآيات

( لا تَجْعَلْ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَخْذُولاً (٢٢) وَقَضى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما وَقُلْ لَهُما قَوْلاً كَرِيماً (٢٣) وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً (٢٤) رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صالِحِينَ فَإِنَّهُ كانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُوراً (٢٥) )

التّفسير

أحكام إسلامية مهمّة :

الآيات التي نحن بصدد بحثها هي بداية لسلسلة من الأحكام الإسلامية الأساسية ، والتي تبدأ بالدعوة إلى التوحيد والإيمان ، التوحيد الذي يعتبر الأساس والأصل لكل النشاطات الإيمانية ، والأعمال الحسنة والبناءة. والآيات عند ما تنحو هذا المنحى فهي بذلك تتصل مع مضمون البحث في الآيات السابقة ، التي كانت تتحدث عن الناس السعداء الذين أقاموا حياتهم على دعائم ثلاث هي :

٤٤٠

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496