الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٨

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل12%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 496

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 496 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 231536 / تحميل: 7125
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٨

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

يؤكّد كون الرواية لم تنقل كاملة ـ بل سقطت منها الكلمة التي هي على خلاف أهداف وأهواء القوم ـ ما أخرجه القندوزي الحنفي عن جابر بن سمرة قال : ( كنت مع أبي عند النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فسمعته يقول: ( بعدي أثنا عشر خليفة ) ثم أخفى صوته ، فقلت لأبي ما الذي أخفى صوته ؟ قال : قال : ( كلهم من بني هاشم ) ، وعن سماك بن حرب مثله )(١) ، ومن ذلك يتضح أنّ كلمة ( كلّهم من بني هاشم ) كانت موجودة في الحديث ، ولعلّ الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : ( كلّهم من قريش من بني هاشم ) ، وهذا ما استشعره بعض علماء السنّة كابن الجوزي ، حيث قال في ( كشف المشكل ) : ( قد أطلت البحث عن معني هذا الحديث ، وتطلّبت مظانه ، سألت عنه ، فلم أقع على المقصود به ؛ لأنّ ألفاظه مختلفه ، ولا أشك أنّ التخليط فيها من الرواة )(٢) ، ويدعم هذا القول ما ذهب إليه ابن العربي ، بعد عجزه عن تفسير حديث الاثني عشر ، تفسيراً واقعياً ، قال : ( ولعلّه بعض حديث )(٣) ، ممّا يؤكّد سقوط كلمة ( كلّهم من بني هاشم ) من الحديث .

٧ – الاثنا عشر خليفة أمان لأهل الأرض ، إذا ذهبوا ماجت الأرض بأهلها ، وإذا مضوا لا يبقى الدين قائماً ، ويفقد المسلمون منعتهم وصلاحهم ، وهذه المعاني التي جاءت في حديث الاثني عشر تلتقي وتلائم تمام الملائمة مع الروايات التي نقلها الفريقان بحق أهل البيت عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كقوله :( أهل بيتي أمان لأهل الأرض فإذا ذهب أهل بيتي ذهب

ـــــــــــــ

(١) ينابيع المودّة ، القندوزي : ج ٢ ص ٣١٥ ح ٩٠٨ .

(٢) نقلاً عن فتح الباري : ج ١٣ ص ١٨٣ .

(٣) شرح صحيح الترمذي : ج ٩ ص ٦٨ .

١٢١

أهل الأرض ) (١) .

٨ ـ قد افترضت نصوص الاثني عشر أنّ أولئك الخلفاء ( كلّهم يعمل بالهدى ودين الحق ) ، كما فهم هذا المعنى أيضاً ابن كثير في تفسيره عندما قال : ( ومعنى هذا الحديث البشارة بوجود اثني عشر خليفة صالحاً يقيم الحق ، ويعدل فيهم )(٢) ، ولا يجد المتتبّع تفسيراً واحداً من التفاسير لهذا الحديث ، يجمع فيه اثني عشر خليفة كلّهم يعمل بالهدى ودين الحق ، خصوصاً مع ما ذكرناه من وجوب كون أولئك الخلفاء سلسلة متكاملة ، ومتناسقة ومتوالية زماناً ، وهذا ما يثبت لنا عدم مصداقية أي تطبيق واقعي للحديث ، سوى أهل البيتعليهم‌السلام ، الذين جعلهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هداة مهديين من بعده ، وأمر بالتمسّك بهديهم ، وجعلهم عِدلاً للقرآن الكريم لا يفترقان حتى يردا عليه الحوض .

٩ ـ من الخصائص المهمّة التي تضمّنتها أحاديث الاثني عشر قيموميّة أولئك الخلفاء على الدين والأمة ( اثنا عشر قيماً ) ، ولا شك أنّ القيموميّة تستدعي الرقابة والوصاية على الدين ، وعلى الأمّة الإسلامية ، وهذا المعنى لم يُدّع لأحد ، ولا ادّعاه غير أهل البيتعليهم‌السلام ، وهذا هو مقتضى كونهم عِدلاً للقرآن الكريم ، وأيضاً مقتضى قول رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( في كل خلوف من أُمّتي عدول من أهل بيتي ينفون عن هذا الدين تحريف الضالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين ، ألا وإنّ أئمّتكم وفدكم إلى الله عزّ وجلّ ، فانظروا مَن

ـــــــــــــ

(١) شواهد التنزيل ، الحاكم الحسكاني : ج ١ ص ٤٢٦ ؛ ذخائر العقبى ، الطبري : ص ١٧ ؛ انظر : المستدرك : الحاكم : ج ٢ ص ٤٤٨ ؛ قال فيه : صحيح الإسناد ولم يخرجاه ؛ تاريخ مدينة دمشق : ج ٤٠ ص ٢٠ ؛ النزاع والتخاصم : المقريزي : ص ١٣٢ ؛ وغيرها .

(٢) تفسير ابن كثير : ج ٢ ص ٣٤ .

١٢٢

توفدون ) (١) .

١٠ ـ إنّ الصخب ، واللغط ، والضجّة المفتعلة ، وقيام القوم وقعودهم ، وتصميتهم لجابر والحاضرين يثير الانتباه ، ويستدعي الريب ، ويكشف أنّ في الأمر شيئاً ، لا يريد القوم وصوله إلى مسامع الحاضرين ، ولم تكن هذه الحادثة فريدة نوعها ، بل فعل ذلك القوم أيضاً عندما ضجّوا ، وتنازعوا عند رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حينما قال :( ائتوني بدواة وكتف أكتب لكم كتاباً لن تضلّوا بعدي أبداً ) ، فوقعت حينها الضجّة المفتعلة ، حتى قال بعضهم : إنّ النبي ليهجر ، وليس ذلك إلاّ للحرص على الخلافة ، وطمعاً بالملك والسلطان والإمارة وهو الذي قد أخبر عنه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عند مخاطبته لأصحابه بقوله :( إنّكم ستحرصون على الإمارة ، وستكون ندامة يوم القيامة فنعم المرضعة وبئست الفاطمة ) (٢) .

١١ ـ حديث ابن مسعود المتقدّم ، يكشف عن أنّ الصحابة هم الذين سألوا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن الخلفاء من بعده ، وهذا يلفت النظر إلى نقطتين :

الأُولى : أنّه ليس من المنطقي أن يسأل الصحابة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن الأُمراء الذين يتسلّطون على رقاب الناس بالقهر والغلبة ، وهو ذلك الرسول العظيم الذي ختم الرسالات فلا نبي بعده .

إذن لابد أن يكون السؤال عن الخلفاء الذين نصّبهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من بعده ، وهم أهل بيتهعليهم‌السلام بنص حديث الغدير وحديث الثقلين وغيرهما ، وهذا ديدن وطريقة اعتادها الصحابة آنذلك ، فقد سألوا أبا بكر وعمر عن الذي يلي الأمر من بعدهما .

ـــــــــــــ

(١) الصواعق المحرقة : ٢٣١ .

(٢) صحيح البخاري : ج ٤ ص ٣٥٥ ح ٧١٤٨ ؛ صحيح ابن حبان : ج ١٠ ص ٣٣٤ ؛ وغيرهما من المصادر الكثيرة .

١٢٣

الثانية : أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أراد من الإمرة والخلافة من يكون مؤهّلاً ومستحقّاً لها ، فلا معنى لحمل الحديث على أمثال معاوية ويزيد ومروان والوليد وأمثالهم ، الذين عاثوا في الأرض فساداً ، ولعبوا بمقدّرات الأمة الإسلامية بما شاءوا ورغبوا ، فالمراد من الخليفة هو مَن يستمد سلطته من الشارع الأقدس ، ومن أجل ذلك ذكر شارح سنن أبي داود في شرحه ( عون المعبود ) أنّ : ( السبيل في هذا الحديث ، وما يتعقّبه في هذا المعنى أن يحمل على المقسطين منهم ، فإنّهم هم المستحقون لاسم الخليفة على الحقيقة )(١) .

١٢ ـ بعد أن صدع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حجة الوداع بذكر الخلفاء من بعده ، وأنّهم اثنا عشر خليفة ، كلّهم من قريش ومن بني هاشم ، وكلّهم يعمل بالهدى ودين الحق ، لم يكتف بذلك ـ ولعلّه لما حصل من الضجّة واللغط المفتعل ـ بل قام خطيباً ، بعد رجوعه من حجّة الوداع في طريقه إلى المدينة في غدير خم ، ونصّب عليّاً خليفة من بعده ، فعيّن أوّل خليفة من الخلفاء الاثني عشر ، وبادر بعد ذلك قائلاً : ( إنّي تارك فيكم الخليفتين من بعدي ، كتاب الله وعترتي أهل بيتي ، وإنّهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض ) (٢) ، حينها عرف الناس مَن هم الخلفاء بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأتمّ بذلك الحجّة على الخلق ، لكي يسدّ بذلك منافذ الريب والتشكيك ، ولئلاّ يقول أحد : إنّي لم أسمع ، أو خفي علي ، أو صمّنيها ، أو صمّتنيها الناس !! .

ـــــــــــــ

(١) عون المعبود : ج ١١ ص ٢٤٥ .

(٢) المصنف ، أبي شيبة الكوفي : ج ٦ ص ٣٠٩ ، كتاب السنّة ، عمرو بن أبي عاصم: ص ٣٣٧ ح ٧٥٤ ص ٦٢٩ ح ١٥٤٩ ؛ مسند أحمد : ج ٥ ص ١٨٢ ؛ المعجم الكبير: ج ٥ ص ١٥٣ ح ٤٩٢١ ص ١٥٤ ح ٤٩٢٢ ؛ مجمع الزوائد : ج ١ ص ١٧٠ قال الهيثمي : ( رواه الطبراني ورجاله ثقات ) ، وكذا في ج ٩ ص ١٦٢ ، وقال في ص ١٦٣ : ( رواه أحمد وإسناده جيّد ) ؛ الجامع الصغير ، السيوطي : ج ١ ص ٤٠٢ ح ٢٦٣١ ؛ الدر المنثور : ج ٢ ص ٢٨٥ .

١٢٤

١٣ ـ ما ورد من الأحاديث المتضافرة التي نصّت على إمامة أهل البيتعليهم‌السلام ، والتي تناولت الأئمّة الاثني عشر بذكر أسمائهم على نحو التفصيل ، وهي كثيرة جدّاً نكتفي بذكر بعضها :

١ ـ ما جاء في فرائد السمطين للحمويني المصري(١) : ( عن مجاهد عن ابن عباس قال : قدم يهودي على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقال له : نعثل ، فقال : يا محمد إنّي أسألك عن أشياء ـ إلى أن قال ـ : فأخبرني عن وصيّك مَن هو ؟ ، فما من نبي إلاّ وله وصي ، وإنّ نبيّنا موسى بن عمران أوصى إلى يوشع بن نون ، فقال :نعم ، إنّ وصيي والخليفة من بعدي علي بن أبي طالب عليه‌السلام ، وبعده سبطاي : الحسن ثم الحسين ، يتلوه تسعة من صلب الحسين أئمّة أبرار ، قال : يا محمد فسمّهم لي ؟

قال :نعم ، إذا مضى الحسين فابنه علي ، فإذا مضى علي فابنه محمد ، فإذا مضى محمد فابنه جعفر ، فإذا مضى جعفر فابنه موسى ، فإذا مضى موسى فابنه علي ، فإذا مضى علي فابنه محمد ، ثم ابنه علي ، ثم ابنه الحسن ، ثم الحجّة ابن الحسن ، أئمّة عدد نقباء بني اسرائيل ، فهذه اثنا عشر )(٢) .

٢ ـ ونقل الحمويني أيضاً في فرائده : عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال :( أيّها الناس

ـــــــــــــ

(١) أطرى عليه الذهبي ت / ٧٤٨ هـ في تذكرة الحفاظ قال : الإمام المحدث الأوحد الأكمل فخر الإسلام صدر الدين ، إبراهيم بن محمد بن المؤيد بن حمويه الخراساني الجويني شيخ الصوفية كان شديد الاعتناء بالرواية وتحصيل الاجزاء ، حسن القراءة مليح الشكل مهيباً ديّناً صالحاً مات سنة اثنتين وعشرين وسبع مائة تذكرة الحفّاظ ، الذهبي : ج ٤ ص ١٥٠٦ .

(٢) فرائد السمطين ، الحمويني : ج ٢ ص ١٣٣ ص ١٣٤ ح ٤٣١ ، وبنفس الألفاظ ما جاء في ينابيع المودة للقندوزي ، ج ٣ ص ٢٨٢.

١٢٥

إنّ الله عزّ وجلّ أمرني أن أنصب لكم إمامكم والقائم فيكم بعدي ووصيي وخليفتي ولكن أوصيائي منهم : أوّلهم أخي ، ووزيري ، ووارثي ، وخليفتي في أُمّتي ، وولي كل مؤمن بعدي ، هو أوّلهم ثم ابني الحسن ، ثم ابني الحسين ، ثم التسعة من ولد الحسين واحداً بعد واحد حتى يردوا عليّ الحوض ) (١) ـ وهكذا ينقل الحمويني ذلك في مواطن عديدة ، وروايات عديدة وبطرق مختلفة ؛ فراجع .

٣ ـ الحافظ أبو محمد بن أبي الفوارس في كتابه ( الأربعين )(٢) .

كذلك أخرج ذكر الخلفاء من أهل بيت النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأسمائهم .

٤ ـ العلاّمة أبو مؤيد موفق بن أحمد المتوفّى (سنة ٥٦٨) في كتابه ( مقتل الحسين ) : ذكر الخلفاء أيضاً بأسمائهم المتقدّمة(٣) .

٥ ـ العلاّمة فاضل الدين محمد بن محمد بن إسحاق الحمويني الخراساني في ( منهاج الفاضلين )(٤) .

٦ ـ كذلك الحمويني في ( درر السمطين )(٥) .

٧ ـ العلاّمة الشيخ إبراهيم بن سليمان في كتاب ( المحجّة على ما في

ـــــــــــــ

(١) فرائد السمطين ، الحمويني ، السمط الأول : ج ١ ص ٣١٥ ـ ٣١٨ ح ٢٥٠ .

(٢) شرح إحقاق الحق للسيد المرعشي : ج ١٣ ص ٥٩ ؛ نقلاً عن كتاب الأربعين ، ابن أبي الفوارس : ص ٣٨ .

(٣) مقتل الحسين ، الخوارزمي : ص ١٤٦ ـ ١٤٧ .

(٤) شرح إحقاق الحق للسيد المرعشي : ج ١٣ ص ٦٨ ؛ نقلاً عن كتاب منهاج الفاضلين ، الحمويني : ص ٢٣٩ .

(٥) شرح إحقاق الحق ، السيد المرعشي النجفي : ج ٤ ص ٩٣ ـ ٩٤ ؛ نقلاً عن كتاب درر السمطين ، الحمويني : ص ٧٢٢ .

١٢٦

ينابيع المودّة )(١) ، أيضاً ذكرهم بأسمائهم عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

٨ ـ العلاّمة المولى محمد صالح الكشفي الحنفي الترمذي ، في كتابه ( المناقب الرضوية )(٢) .

إلى غير ذلك من الروايات المتضافرة التي تؤكّد هذا المعنى .

وعلى ضوء ما سلف ، يتحصّل أنّ العترة الطاهرة يمثّلون امتداداً طبيعياً لحركة الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في جميع أبعاد الحياة ، وقد فرضوا شخصيّتهم رغم أنف الأعداء ، وقد أجمعت الأمة على أعلميّتهم وأهليّتهم للخلافة ، وأنّهم الأسوة الحسنة ، ويعد ذلك من أفضل الأدلة لإثبات أحقيّتهم ، وأهليّتهم للإمامة والقيادة ، وعصمتهم ؛ لأنّهمعليهم‌السلام جسّدوا النظرية الإسلامية على الواقع العملي ، فعندما نرصد حياة الأئمّةعليهم‌السلام ، وكيف كانوا إسلاماً متحركاً على الأرض ، وقرآناً ناطقاً يعيش بين الناس ؛ نستنتج مباشرة أن هذا المستوى الرفيع من الأسوة والقدوة لا يمكن أن تعكسه إلاّ شخصيات معصومة ، استجمعت فيها الصفات التي تؤهّلها لأن تكون منبع الهداية للبشرية ؛ لذا أجمعت الأمة على أنّ هؤلاء العترة لهم من الخصائص والمميزات ما لم تكن لغيرهم ، رغم ما عانوه من ظلم واضطهاد ، فهم الذين تنطبق عليهم خصوصيات الاثني عشر ، التي بيّنها النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في أحاديث الأثني عشر المتقدمة ، ولكن أصحاب المطامع آلوا على أنفسهم إلاّ أن يُقصوا وينحّوا أهل البيتعليهم‌السلام عن مناصبهم ومراتبهم التي رتّبهم الله فيها ، ولم يكتفوا بذلك بل تمادوا في تعريض أهل البيتعليهم‌السلام لألوان الظلم والاضطهاد ، والمعاملة السيّئة الفظّة الغليظة ، التي يندى لها الجبين ، وتعتصر منها القلوب ألماً ومرارة ، ولم يكن لهم ذنب سوى أنّهم كانوا الامتداد الإلهي لخط الرسالة ، وكانوا أمناءها ، والرقباء عليها ، فهم الثقل الموازي للقرآن الكريم .

ـــــــــــــ

(١) المحجّة على ما في ينابيع المودّة ، الشيخ هاشم بن سليمان : ص ٤٢٧ .

(٢) المناقب المرتضوية ، محمد صالح الترمذي : ص ١٢٧ .

١٢٧

إذن ، ينبغي علينا كمسلمين أن نستنير بنور هؤلاء الهداة الميامين ، ونكون بذلك ممتثلين لأوامر الله تعالى ورسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

وممّا تقدّم اتضحت الإجابة بخصوص ما قد يقال : من أنّ وصف عزّة الإسلام بأولئك الخلفاء الاثني عشر لا ينطبق على أئمّة الشيعة ، حيث الموقع السامي والريادي والمكانة العظيمة التي يمتلكها أهل البيتعليهم‌السلام في نفوس الأمة الإسلامية ، وهو ما أكّده علماء السنّة في أغلب كتبهم ، وبالإضافة إلى ذلك نقول :

إنّ عزة الإسلام وصلاحه وبقائه إلى قيام الساعة ، من المهام ، والوظائف الأساسية ، التي أناط رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مسؤوليتها ، وتحقيقها بأهل البيتعليهم‌السلام ، كما يكشف عن ذلك حديث الثقلين وحديث الغدير ، وأنّهم عِدل القرآن ، وأنّ النجاة والأمان والعزّة عند الله لا تنال إلاّ بالاعتصام والتمسّك بهم ، ومَن يتبعهم يكون عزيزاً بعزّة الله ، مرضيّاً عنده تعالى .

كما أخرج ذلك الحاكم في مستدركه ، عن ابن عباس قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( النجوم أمان لأهل الأرض من الغرق وأهل بيتي أمان لأُمّتي من الاختلاف ، فإذا خالفتها قبيلة من العرب اختلفوا فصاروا حزب إبليس ) (١) ، ثم علّق عليه قائلاً : هذا الحديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه .

ـــــــــــــ

(١) المستدرك ، الحاكم : ج ٣ ص ١٤٩ .

١٢٨

وبنفس المضمون ما ورد في عدّة كثيرة من المصادر عن عمر : أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال :( في كل خلوف من أُمّتي عدول أهل بيتي ينفون عن هذا الدين تحريف الضالين ، وانتحال المبطلين ، وتأويل الجاهلين ، ألا وإنّ أئمّتكم وفدكم إلى الله عزّ وجلّ ، فانظروا مَن توفدون ) (١) .

وعن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( مَن سرّه أن يحيا حياتي ويموت مماتي ويسكن جنّة عدن ، غرسها ربّي ، فليوال عليّاً ، وليوال وليّه ، وليقتد بالأئمّة من بعدي ، فإنّهم عترتي ، خُلقوا من طينتي ، رزقوا فهماً وعلماً ، ويل للمكذبين بفضلهم من أُمّتي ، القاطعين فيهم صلتي ، لا أنالهم الله شفاعتي ) (٢) .

وعن عمار بن ياسر ، قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( أوصي مَن آمن بي وصدّقني بولاية علي بن أبي طالب ، مَن تولاّه فقد تولاّني ، ومَن تولاّني فقد تولّى الله عزّ وجلّ ، ومَن أحبّه فقد أحبّني ، ومَن أحبّني فقد أحبّ الله تعالى ، ومَن أبغضه فقد أبغضني ، ومَن أبغضني فقد أبغض الله عزّ وجلّ ) قال الهيثمي في مجمع الزوائد : ( رواه الطبراني بإسنادين أحسب فيهما جماعة ضعفاء ، وقد وثقوا )(٣) .

وقد أخرجها ابن عساكر في تاريخ مدينة دمشق بطرق كثيرة(٤) .

وعن وهب بن حمزة قال : ( صحبت عليّاً إلى مكة فرأيت منه بعض ما أكره ، فقلت لأن رجعت لأشكونّك إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فلمّا قدمت لقيت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

ـــــــــــــ

(١) ذخائر العقبى ، محي الدين الطبري : ص ١٧ ؛ الصواعق المحرقة ، ابن حجر الهيتمي : ص ٣٥٢ ؛ رشفة الصادي ، أبو بكر الحضرمي : ص ١٧ ؛ ينابيع المودّة ، القندوزي : ج ٢ ص ١١٤ .

(٢) تاريخ مدينة دمشق ، ابن عساكر : ج ٤٢ ص ٢٤٠ ؛ حلية الأولياء ، الحافظ أبي نعيم الأصفهاني : ج ١ ص ٨٦ .

(٣) مجمع الزوائد ، الهيثمي : ج ٩ ص ١٠٨ ، ١٠٩ .

(٤) تاريخ مدينة دمشق : ج ٤٢ ص ٢٣٩ وما بعدها .

١٢٩

فقلت : رأيت من علي كذا وكذا ، فقال :لا تقل هذا فهو أولى الناس بكم بعدي )(١) .

وعن زيد بن أرقم قال : قال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( مَن أحبّ أن يحيا حياتي ويموت موتتي ويسكن جنّة الخلد التي وعدني ربّي ، فإنّ ربّي عزّ وجلّ غرس قصباتها بيده ، فليتولّ علي بن أبي طالب ، فإنّه لن يخرجكم من هديي ولن يدخلكم في ضلالة ) (٢) ، قد أخرجه الحاكم في المستدرك وقال عنه : هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه(٣) .

إلى غير ذلك من المصادر الكثيرة ، والروايات المتواترة معنىً ومضموناً ، مع صحّتها وصراحتها ، وأدنى ما نجيب عمّن أراد التشكيك بها : أنّها تفيد القطع واليقين ؛ لتعدّد ألفاظها ، وكثرة طرقها ، والمصادر التي نقلتها ، فهي أحاديث نبويّة يقوّي بعضها بعضاً لإثبات مضمونها بالقطع واليقين ، وهو وجوب التمسّك بولاية أهل البيتعليهم‌السلام واتّباع هديهم .

إذن بأهل البيتعليهم‌السلام وباتباعهم تتحقق عزّة الإسلام ، والحفاظ على وجوده الحقيقي وقيمه ومبادئه الأصيلة ، من التقوى والإخلاص والاستقامة والصلاح وغيرها من المعارف الروحية والقيم الأخلاقية ، وليست عزّة الإسلام بالتظاهر بالإسلام ، واتخاذه شعاراً للتسلّط على رقاب الناس بالقهر والغلبة ، ومن هنا نجد أنّ الحكم الإسلامي على يد الظلمة تحوّل إلى ما كان عليه قبل الإسلام من كونه ملكاً عضوضاً لا يحمل من قيم الإسلام شيئاً .

إذن عزّة الإسلام لا تتحقق إلاّ في حفظ الإسلام الحقيقي ، الذي لا يتحقق إلاّ باتباع أهل البيتعليهم‌السلام .

ـــــــــــــ

(١) المعجم الكبير ، الطبراني : ج ٢٢ ص ١٣٥ ؛ مجمع الزوائد : ج ٩ ص ١٠٩ ؛ فيض القدير شرح الجامع الصغير : ج ٤ ص ٤٧٠ ـ ٤٧١ .

(٢) المعجم الكبير ، الطبراني : ج ٥ ص ١٩٤ .

(٣) المستدرك ، الحاكم : ج ٣ ص ١٣٠ .

١٣٠

الأُمّة لم تجتمع على أهل البيتعليهم‌السلام

وأمّا عبارة ( كلّهم تجتمع عليه الأمة ) ، وأنّ أهل البيتعليهم‌السلام ما أجتمعت عليهم الأُمّة فجوابها :

١ ـ إنّ رواية الاثني عشر خليفة المتضمّنة لعبارة ( كلّهم تجتمع عليه الأمة ) لم ترد في الكتب الحديثية ، والمصادر السنّية ، إلاّ في سنن أبي داود ومسند البزار ، ولم يخرجاها إلاّ بسند واحد ضعيف ، كما ذكر ذلك الألباني ، في سلسلة الأحاديث الصحيحة ، حيث قال : ( وأخرجه أبو داود ( ٢ / ٢٠٧) من طريق إسماعيل بن أبي خالد ، عن أبيه ، عن جابر بلفظ : لا يزال هذا الدين قائماً ، حتى يكون عليكم اثنا عشر خليفة ، كلهم تجتمع عليه الأمة ، كلّهم من قريش ، وأخرجه البزار (١٥٨٤ ـ كشف) عن أبي جحيفة نحوه ، وهذا سند ضعيف ، رجاله كلهم ثقات ، غير أبي خالد هذا ، وهو الأحمسي ، وقد تفرّد بهذه الجملة ( كلهم تجتمع عليه الأمة ) ، فهي منكرة )(١) ، والتضعيف ذاته ذكره أيضاً في تعليقته على سنن أبي داود ، حيث قال بعد أن أورد الحديث : ( صحيح : دون قوله ( تجتمع عليه الأمة ) )(٢) .

٢ ـ من الشواهد التي تؤكّد عدم صحّة صدور هذه العبارة من النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو عدم انطباقها على الواقع أصلاً ، حيث لم نجد شخصاً اجتمعت عليه الأمة بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، بل البعض ممّن ادعي كونه من الخلفاء الاثني عشر ، لم يجتمع عليه أغلب الأمة ، فضلاً عن جميعها .

ـــــــــــــ

(١) سلسلة الأحاديث الصحيحة ، الألباني : مج ١ ، ق ٢ ، ص ٧٢٠ ح ٣٧٦ .

(٢) صحيح سنن أبي داود الألباني : ج ٣ ص ١٩ ح ٤٢٧٩ .

١٣١

ولذا قال ابن كثير في البداية والنهاية ( فإن قال : أنا لا اعتبر إلاّ مَن اجتمعت الأمة عليه ، لزمه على هذا القول أن لا يعد علي بن أبي طالبعليه‌السلام ولا ابنه ؛ لأنّ الناس لم يجتمعوا عليهما ؛ وذلك أنّ أهل الشام بكمالهم لم يبايعوهما ، ولم يقيّد بأيام مروان ، ولا ابن الزبير كأنّ الأمّة لم تجتمع على واحد منهما )(١) .

وهذا ما اعترف به ابن حجر العسقلاني أيضاً في فتح الباري(٢) .

٣ ـ إن أكثر مَن أدعي اجتماع الأمة عليه ، كيزيد بن معاوية ، ومروان بن الحكم ، والوليد ، و مروان الحمار ، وغيرهم لم يكن متوفّراً على خصائص الخلفاء الاثني عشر ، من كونهم يعملون بالهدى ودين الحق ، وأنّهم قيّمون على الدين ، والدين قائم بهم ، وغير ذلك من الصفات السامية ، التي تقدّم ذكر بعضها .

الخلاصة

١ ـ إنّ حديث الاثني عشر ، حقيقة صادرة عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقد تواترت الروايات من الفريقين بنقلها بألسن مختلفة ، كلّها تشير إلى مضمون واحد ، ومن هذه الروايات قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( لا يزال هذا الأمر صالحاً حتى يكون اثنا عشر أميراً ) (٣) .

ـــــــــــــ

(١) البداية والنهاية ، ابن كثير : ج ٦ ص ٢٨٠ .

(٢) فتح الباري : ج ١٣ ص ١٨٢ .

(٣) مسند أحمد : ج ٥ ص ٩٧ ص ١٠٧ ؛ المستدرك ، الحاكم النيسابوري : ج ٣ ص ٦١٨ ؛ انظر : مجمع الزوائد ، الهيثمي : ج ٥ ص ١٩٠ وقد صحّحه .

١٣٢

٢ ـ إنّ أهل السنّة لم يتمكّنوا أن يقدّموا تفسيراً واقعيّاً لحقيقة الاثني عشر خليفة ، وإنّ تفسيراتهم المضطربة والمتناقضة فيما بينها خير شاهد على عجزهم عن فهمها وتفسيرها ، على الرغم ممّا ارتكبوه من تكلّف ظاهر على حدّ تعبير بعضهم ، لا سيّما وأنّ البعض(١) قد أوكل تفسير حديث الاثني عشر إلى الله تعالى بعد أن عجز عن تفسيره تفسيراً صحيحاً .

٣ ـ إنّ الخصائص والمميزات التي تحملها أحاديث الاثني عشر ، لا تنطبق في الواقع الخارجي إلاّ على أهل البيتعليهم‌السلام ، فمثل صفة ( صلاح أمر الأُمّة والناس بهم ) و( كلّهم يعمل بالهدى ودين الحق ) و( إذا هلكوا ماجت الأرض بأهلها ) ، ونحوها ، لا تنسجم ولا تنطبق إلاّ على عترة أهل البيتعليهم‌السلام ، فضلاً عمّا يحمله أهل البيتعليهم‌السلام من خصائص ومميّزات استثنائية ، وما يحملونه من مؤهّلات علمية وعملية بإجماع أهل العلم ، وعلى جميع المستويات الفكرية والروحية ونحوها ، كل هذا يؤكّد ويدعم كون حديث الاثني عشر لا يمكن انطباقه إلاّ على أهل البيتعليهم‌السلام .

ـــــــــــــ

(١) شرح صحيح مسلم ، النووي : ج ١٢ ص ٢٠٣ .

١٣٣

الفصل الثالث: غيبة الإمام المهدي (عجّل الله تعالى فرجه الشّريف)

الشبهة :

١ ـ ما الفائدة من وجود إمام غائب ؟

٢ ـ إنّ الحجّة عند الشيعة لا تقوم إلاّ بإمام ، فكيف يترك الإمامة ويغيب ؟

الجواب :

قبل البدء ينبغي ذكر تمهيد مختصر له مدخليّة في الإجابة .

تمهيد :

إنّ الشريعة التي جاء بها الدين الإسلامي ما هي ـ في مجملها ، وحقيقتها ، وبكل جوانبها ـ إلاّ خطّة إلهيّة أُعدّت بإحكام ، ووُضعت من أجل ترشيد المجتمع البشري نحو الأصلح والأقوم ، وبلوغ السعادة في الدارين .

وقد وعد الله تعالى البشرية ـ التي عانت طوال حياتها من الظلم ، والجور ـ أن يسودها العدل والأمان في الأرض .

قال تعالى :( لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدّينِ كُلّهِ ) (١) .

وقال تعالى أيضاً :( وَنُرِيدُ أَن نمُنّ عَلَى الّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ ) (٢) .

إلاّ أنّ تحقق هذا الهدف على أرض الواقع يتوقّف على توفّر شرائطه ، التي شاء الله عزّ وجلّ بحكمته أن تكون من طرقها الطبيعية ، وضمن ما هو المألوف ، لا بشكل إعجازي وخارق لما هو المعتاد .

ـــــــــــــ

(١) التوبة : ٣٣ .

(٢) القصص : ٥ .

١٣٤

وحيث إنّ الله تعالى ـ لحكمته ولطفه بعباده ـ قد نصّب أولياء هداة معصومين ، يمثّلون امتداداً طبيعياً للرسالة المحمّديّة ، فهم أُمناء الوحي والرسالة ، وحجّة الله على العباد ، وهم الأئمّة الاثنا عشرعليهم‌السلام بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أوّلهم الإمام عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام ، وآخرهم الإمام المهديعليه‌السلام ، وقد ثبت ذلك مسبقاً ، بمقتضى عدد وافر من الآيات القرآنية ، كآية الولاية ، وآية أُولي الأمر ، وآية التطهير ، وآيات البلاغ في الغدير ، وآية المودّة في القربى(١) وغيرها ، مضافاً إلى عدد كبير جداً من الأحاديث النبويّة التي رواها أصحاب الصحاح من أهل السنّة ، كحديث الثقلين المتواتر الذي مفاده أنّ أهل البيتعليهم‌السلام لن يفترقوا عن القرآن حتى يردوا على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الحوض(٢) ، فكما أنّ القرآن باقٍ إلى يوم القيامة كذلك أهل البيتعليهم‌السلام ، وكحديث الخلفاء الاثني عشر (كلّهم من قريش)(٣) ، وحديث السفينة(٤) ، وأهل بيتيعليهم‌السلام أمان لأهل الأرض ، فإذا ذهب أهل بيتي ذهب أهل الأرض(٥) وأتاهم ما يوعدون ، وغير ذلك من الأحاديث الدالّة على بقاء الإمامة الإلهية ، واستمرارها في الأرض .

ـــــــــــــ

(١) الآيات : المائدة : ٥٥ ، النساء : ٥٩ ، الأحزاب : ٣٣ ، المائدة : ٦٧ .

(٢) السنن الكبرى ، النسائي : ج ٥ ص ٤٥ ص ١٣٠ ؛ خصائص أمير المؤمنين : النسائي : ص ٩٣ ؛ المعجم الصغير ، الطبراني : ج ١ ص ١٣١ ص ١٣٥ .

(٣) مسند أحمد ، أحمد بن حنبل : ج ٥ ص ٨٧ ـ ٨٨ .

(٤) مجمع الزوائد : الهيثمي ، ج ٩ ص ١٦٨ ، المعجم الأوسط ، الطبراني : ج ٦ ص ٨٥ .

(٥) شواهد التنزيل ، الحسكاني : ج ١ ص ٤٢٦ ، ذخائر العقبى ، الطبري : ص ١٧ .

١٣٥

وقد قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( إنّ خلفائي ، وأوصيائي وحجج الله على الخلق بعدي ، الاثنا عشر ، أوّلهم عليّ ، وآخرهم ولدي المهدي ) (١) .

وشاءت الإرادة الإلهية أن يكون الإمام الثاني عشر من أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام ـ الذي يمثّل الحلقة الأخيرة من سلسلة الأئمّة الهداة ـ مصلحاً للبشرية ، ومحققاً للهدف النهائي ، والثمرة الكبيرة والمرجوّة من رسالات السماء وبعث الأنبياء ، قال تعالى :( لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنّ اللهَ قَوِيّ عَزِيزٌ ) (٢) .

إذن فلابدّ ـ بحسب التخطيط الإلهي ـ من إقامة العدل ، والسلام في العالم ، بعد انتشار الظلم والجور والفساد في ربوع الأرض وأرجائها ، وهو ما نشاهده ونراه بالحس والعيان في كل حدب وصوب ، وهذا ما يتطابق مع ما تنبّأ به رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقوله :( تملأ الأرض ظلماً وجوراً ، ثم يخرج رجل من عترتي ، يملك سبعاً أو تسعاً ، فيملأ الأرض قسطاً وعدلاً ) (٣) ، فكما أنّ الأرض مُلئت وستُملأ بالجور والفساد والظلم ، لابدّ لها من يوم تُملأ فيه عدلاً وقسطاً ، على يد الإمام المهديّ المنتظر (عجّل الله تعالى فرجه الشريف) .

ـــــــــــــ

(١) ينابيع المودّة ، القندوزي الحنفي : ج ٣ ص ٢٩٥ .

(٢) الحديد : ٢٥ .

(٣) سنن أبي داود ، السجستاني : ج ٤ ص ٧١٢ ح ٤٢٧٦ ؛ مسند أحمد ، أحمد بن حنبل : ج ٣ ص ٢٨ ص ٣٦ ص ٧٠ ؛ المستدرك الحاكم : ج ٤ ص ٥٥٧ ؛ وانظر مجمع الزوائد : الهيثمي : ج ٧ ص ٣١٤ ، وقال فيه : ( رواه الترمذي وغيره باختصار ، رواه أحمد بأسانيد ، وأبو يعلى باختصار ، ورجالهما ثقات ) ؛ وانظر : المصنف : الصنعاني : ج ١١ ص ٣٧٢ ـ ٣٧٣ .

١٣٦

إلاّ أنّ النقطة الجديرة بالذكر هي أنّ تحقق هذا الهدف ، وهو إقامة العدل والقسط في الأرض ، يتوقّف على توفّر شرائطه التي أراد الله تعالى بحكمته أن تكون من الطريق الطبيعي لا الإعجازي ، وهذا ما جرت عليه السنن الإلهية في هذا العالم ، فقد قال تبارك وتعالى :( لِيَمِيزَ اللهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطّيّبِ ) (١) ، وقال تعالى أيضاً :( لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيّنَةٍ وَيَحْيَى‏ مَنْ حَيّ عَنْ بَيّنَةٍ وَإِنّ اللهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ ) (٢) ، وقال تعالى :( وَلِيَبْتَلِيَ اللهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلُِيمَحّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصّدُورِ ) (٣) ، وقال :( وَتِلْكَ الأَيّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ الّذِينَ آمَنُوا وَيَتّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللهُ لاَ يُحِبّ الظّالِمِينَ * وَلِيُمَحّصَ اللهُ الّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ * أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنّةَ وَلَمّا يَعْلَمِ اللهُ الّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصّابِرِينَ ) (٤) ، وغير ذلك من الآيات المباركة ، التي تكشف عن أنّ التخطيط الإلهي لجريان السنن في هذا العالم مبنيّ على السير الطبيعي للبشرية ، إلاّ في الظروف الخاصّة والاستثنائية ، التي تقتضي فيها الحكمة الإلهية إنجاز الهدف والوصول إليه عن طريق الإعجاز وخرق المعتاد ، وذلك كإثبات أصل نبوّة الأنبياء مثلاً .

وإقامة العدل على هذه الأرض جاء ضمن ذلك الإطار ، فلكي يتحقق على أرض الواقع ويحين أجله ، لابد من اكتمال جميع شرائطه ، وعلى ضوء ذلك كانت غيبة إمامنا المهدي (عجّل الله تعالى فرجه الشريف) جزءاً من هذا التخطيط والحكمة الإلهية ، من أجل أن تكتمل باقي الشرائط لظهور الحق وإقامة العدل ، تلك الشرائط التي يتحقق معظمها في أحضان الغيبة ، وهذا ما أخبر به رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في روايات عديدة من كتب الفريقين :

ـــــــــــــ

(١) الأنفال : ٣٧ .

(٢) الأنفال : ٤٢ .

(٣) آل عمران : ١٥٤ .

(٤) آل عمران : ١٤٠ ـ ١٤٢ .

١٣٧

منها : ما أخرجه الإربلي ، عن جابر بن عبد الله الأنصاري قال : لمّا أنزل الله على نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ ) (١) ، قلت : يا رسول الله عرفنا الله ورسوله ، فمَن أولي الأمر الذين قرن الله طاعتهم بطاعتك ، فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( هم خلفائي من بعدي يا جابر ، وأئمة الهدى بعدي أولهم علي بن أبي طالب ثم الحسن ثم الحسين ثم علي بن الحسين ثم محمد بن علي المعروف في التوراة بالباقر وستدركه يا جابر فإذا لقيته فاقرأه عنّي السلام ، ثم الصادق جعفر بن محمد ، ثم موسى بن جعفر ، ثم علي بن موسى ، ثم محمد بن علي ، ثم علي بن محمد ، ثم الحسن بن علي ، ثم سميّي وكنيّي ، وحجّة الله في أرضه ، وبقيّته في عباده محمد بن الحسن بن عليّ ، ذلك الذي يفتح الله عزّ وجلّ على يده مشارق الأرض ومغاربها ، وذلك الذي يغيب عن شيعته ، وأوليائه ، غيبة لا يثبت فيها على القول بإمامته إلاّ من امتحن الله قلبه للإيمان ) ، فقال جابر : فقلت : يا رسول الله فهل يقع لشيعته الانتفاع به في غيبته ؟ فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( أي والذي بعثني بالحق ، إنّهم ليستضيئون بنوره ، وينتفعون بولايته في غيبته ، كانتفاع الناس بالشمس وإن علاها سحاب ، يا جابر هذا من مكنون سر الله ، ومخزون علم الله ، فاكتمه إلاّ عن أهله ) (٢) .

وعن علي بن علي الهلالي ، عن أبيه قال : دخلت على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في شكاته التي قبض فيها فإذا فاطمة رضي الله عنها عند رأسه قال : فبكت حتى ارتفع صوتها ، فرفع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم طرفه إليها فقال :حبيبتي فاطمة ،

ـــــــــــــ

(١) النساء : ٥٩ .

(٢) ينابيع المودّة ، القندوزي : ج ٣ ص ٣٩٩ .

١٣٨

ما الذي يبكيك ، فقالت :أخشى الضيعة بعدك ، فقال :يا حبيبتي ، أما علمت أن الله ـ عزّ وجلّ ـ اطلع إلى الأرض اطلاعة فاختار منها أباك فبعثه برسالته ، ثم أطلع إلى الأرض اطلاعه فاختار منها بعلك ، وأوحى إليّ أن أنكحك إيّاه ، يا فاطمة ، ونحن أهل بيت قد أعطانا الله سبع خصال لم تُعط لأحد قبلنا ولا تُعطى أحداً بعدنا : أنا خاتم النبيّين ، وأكرم النبيّين على الله ، وأحب المخلوقين إلى الله عزّ وجلّ وأنا أبوك ، ووصيي خير الأوصياء ، وأحبّهم إلى الله ، وهو بعلك ، وشهيدنا خير الشهداء ، وأحبّهم إلى الله ، وهو عمّك حمزة بن عبد المطلب ، وعمّ بعلك ، ومنّا مَن له جناحان أخضران يطير مع الملائكة في الجنّة حيث شاء ، وهو ابن عم أبيك ، وأخو بعلك ، ومنّا سبطا هذه الأُمّة ، وهما ابناك الحسن والحسين ، وهما سيّدا شباب أهل الجنّة ، وأبوهما ـ والذي بعثني بالحق ـ خير منهما يا فاطمة ـ والذي بعثني بالحق ـ إنّ منهما مهدي هذه الأُمّة إذا صارت الدنيا هرجاً ومرجاً وتظاهرت الفتن ، وتقطّعت السبل ، وأغار بعضهم على بعض ، فلا كبير يرحم صغيراً ولا صغير يوقّر كبيراً ، فيبعث الله عزّ وجلّ عند ذلك منهما مَن يفتح حصون الضلالة ، وقلوباً غلفاً يقوم بالدين آخر الزمان كما قمت به في أول الزمان ، ويملأ الدنيا عدلاً كما مُلئت جوراً ، يا فاطمة لا تحزني ولا تبكي ، فإنّ الله عزّ وجلّ أرحم بك وأرأف عليك منّي ؛ وذلك لمكانك من قلبي ، وزوّجك الله زوجاً ، وهو أشرف أهل بيتك حسباً وأكرمهم منصباً ، وأرحمهم بالرعيّة ، وأعدلهم بالسوية ، وأبصرهم بالقضية ، وقد سألت ربّي عزّ وجلّ أن تكوني أوّل مَن يلحقني من أهل بيتي ، قال علي رضي الله عنه :فلمّا قُبض النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم تبق فاطمة رضي الله عنهابعده إلاّ خمسة

١٣٩

وسبعين يوماً حتى ألحقها الله عزّوجلّ به صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رواه الطبراني في الكبير والأوسط وفيه : الهيثم بن حبيب ، قال أبو حاتم : منكر الحديث وهو متهم بهذا الحديث(١) .

أقول : ولم يجدوا في الهيثم بن حبيب مطعناً سوى روايته لهذا الحديث في فضائل أهل البيتعليهم‌السلام ، وله نظائر كثيرة !!

وعن أبي أيوب الأنصاري قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لفاطمة :نبيّنا خير الأنبياء وهو أبوك ، وشهيدنا خير الشهداء وهو عمّ أبيك حمزة ، ومنّا مَن له جناحان يطير بهما في الجنّة حيث شاء وهو ابن عمّ أبيك جعفر ، ومنّا سبطا هذه الأُمّة الحسن والحسين وهما ابناك ومنّا المهدي .

رواه الطبراني في الصغير وفيه قيس بن الربيع وهو ضعيف وقد وثق ، وبقيّة رجاله ثقات(٢) .

ومنها : ما جاء عن جابر بن عبد الله الأنصاري أيضاً : قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( المهدي من ولدي ، اسمه اسمي ، وكنيته كنيتي ، أشبه الناس بي خلقاً وخُلقاً ، تكون له غيبة وحيرة ، تضل فيها الأُمم ، ثم يقبل كالشهاب الثاقب ، فيملأها عدلاً كما مُلئت جوراً ) (٣)

وغير ذلك من الروايات ، الدالة على ضرورة الغيبة ، من أجل اكتمال شرائط الظهور ، وإقامة العدل والقسط ؛ وذلك من خلال تخطّي البشرية لمراحل عديدة من التمحيص والفتن والحيرة ، والابتلاء .

ـــــــــــــ

(١) مجمع الزوائد ، الهيثمي : ج ٩ ص ١٦٥ ـ ١٦٦ .

(٢) المصدر نفسه : ج ٩ ص ١٦٦ .

(٣) ينابيع المودّة ، القندوزي الحنفي : ج ٣ ص ٣٨٦ .

١٤٠

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

الإيمان ، السعي والعمل ووضع الآخرة ومنازلها نصب أعينهم.

وتعتبر هذه الآيات ـ أيضا ـ تأكيدا ثانيا لدعوة القرآن إلى أفضل السبل وأكثرها استقامة. في البداية تبدأ هذه الآيات بالتوحيد وتقول :( لا تَجْعَلْ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ ) إنّها لم تقل : لا تعبد مع الله إلها آخر ، بل تقول :( لا تَجْعَلْ ) هذا اللفظ أشمل وأوسع ، إذ هو يعني : لا تجعل معبودا آخر مع الله لا في العقيدة ، ولا في العمل ، ولا في الدعاء ، ولا في العبودية. بعد ذلك توضح الآية النتيجة القاتلة للشرك :( فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَخْذُولاً ) .

إنّ استعمال كلمة «القعود» تدل على الضعف والعجز ، فمثلا يقال : قعد به الضعف عن القتال. ومن هذا التعبير يمكن أن نستفيد أنّ للشرك ثلاثة آثار سيئة جدّا في وجود الإنسان ، هي :

١ ـ الشرك يؤدي إلى الضعف والعجز والذّلة ، في حين أنّ التوحيد هو أساس الحركة والنهوض والرفعة.

٢ ـ الشرك موجب للذم واللوم ، لأنّه خط انحرافي واضح في قبال منطق العقل ، ويعتبر كفرا واضحا بالنعم الإلهية ، لذا فالشخص الذي يسمح لنفسه بهذا الانحراف يستحق الذم.

٣ ـ الشرك يكون سببا في أن يترك الله سبحانه وتعالى الإنسان إلى الأشياء التي يعبدها ، ويمنع عنه حمايته ، وبما أنّ هذه المعبودات المختلفة والمصطنعة لا تملك حماية أي إنسان أو دفع الضرر عنه ، ولأنّ الله لا يحمي مثل هؤلاء ، لذا فإنهم يصبحون «مخذولين» أي بدون ناصر ومعين.

إنّ هذا المعنى يتّضح بشكل آخر في آيات قرآنية أخرى ، إذ نقرأ مثلا في الآية (٤١) من سورة العنكبوت :( مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ أَوْلِياءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً ، وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ ) .

بعد تبيان هذا الأصل التوحيدي ، تشير الآيات إلى واحدة من أهم توجيهات

٤٤١

الأنبياءعليهم‌السلام للإنسان ، فالآية ـ بعد أن تؤكد مرّة أخرى على التوحيد ـ تقول :( وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً ) .

كلمة «قضاء» لهم مفهوم توكيدي أكثر من كلمة «أمر» وهي تعني القرار والأمر المحكم الذي لا نقاش فيه. وهذا أوّل تأكيد في هذه القضية. أما التأكيد الثّاني الذي يدل على أهمية هذا القانون الإسلامي ، فهو ربط التوحيد الذي يعتبر أهم أصل إسلامي ، مع الإحسان إلى الوالدين.

أمّا التأكيدان الثّالث والرّابع فهما يتمثلان في معنى الإطلاق الذي تفيده كلمة «إحسان» والتي تشمل كل أنواع الإحسان. وكذلك معنى الإطلاق الذي تفيده كلمة «والدين» إذ هي تشمل الأم والأب ، سواء كانا مسلمين أو كافرين.

أمّا التأكيد الخامس فهو يتمثل بمجيء كلمة «إحسانا» نكرة لتأكيد أهميتها وعظمتها(١) .

ومن الضروري الانتباه إلى هذه الملاحظة ، وهي أنّ الأمر عادة ما ينصبّ على الأمور الإيجابية ، بينما جاء هنا في مفاد السلب والنفي (وقضى ألا تعبدوا ...) فما هو يا ترى سبب ذلك؟

من الممكن أن نقول : إنّ جملة( وَقَضى ) تتضمن تقديرا جملة إيجابية ، يمكن أن نقدرها بالقول : وقضى ربّك أن تعبده ، ولا تعبد أي شيء سواه. أو من الممكن أن تكون جملة( أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ) التي تتضمن «النفي والإثبات» جملة إيجابية واحدة ، إذ هي تحصر العبادة بالله دون غيره ثمّ تنتقل إلى أحد مصاديق هذه العبادة متمثلا بالإحسان إلى الوالدين فتقول :( إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما ) بحيث يحتاجان الى الرعاية والاهتمام الدائم. فلا تبخل عليها بأي

__________________

(١) يعتقد البعض أنّ كلمة «إحسان» تتعدى غالبا بـ «إلى» مثل قولنا «أحسن إليه». وفي بعض الأحيان قد تتعدى بالباء. وقد يكون هذا التعبير لإظهار المباشرة ، أي إظهار المحبّة والاحترام مباشرة وبدون أي واسطة. وهذا في الواقع تأكيد سادس في هذه القضية.

٤٤٢

شكل من إشكال المحبّة واللطف ولا تؤذيهما أو تجرح عواطفهما بأقل إهانة حتى بكلمة «أف» :( فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما ) (١) بل :( وَقُلْ لَهُما قَوْلاً كَرِيماً ) وكن أمامهما في غاية التواضع( وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ ، وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً ) .

الأهمية الاستثنائية لاحترام الوالدين :

إنّ الآيتين السابقتين توضحان جانبا من التعامل الأخلاقي الدقيق ، والاحترام الذي ينبغي أن يؤدّيه الأبناء للوالدين :

١ ـ من جانب أشارت الآية إلى فترة الشيخوخة ، وحاجة الوالدين في هذه الفترة إلى المحبّة والاحترام أكثر من أي فترة سابقة ، إذ الآية تقول :( إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍ ) . من الممكن أن يصل الوالدان إلى مرحلة يكونان فيها غير قادرين على الحركة دون مساعدة الآخرين ، وقد لا يستطيعون بسبب الكهولة رفع الخبائث عنهم ، وهنا يبدأ الاختبار العظيم للأبناء ، فهل يعتبرون وجود مثل هذين الوالدين دليل الرحمة ، أو أنّهم يحسبون ذلك بلاء ومصيبة وعذابا هل عندهم الصبر الكافي لاحترام مثل هؤلاء الآباء والأمهات ، أم أنّهم يوجهون الإهانات ويسيئون الأدب لهم ، ويتمنون موتهم؟!

٢ ـ من جانب آخر تقول الآية :( فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍ ) بمعنى لا تظهر عدم ارتياحك أو تنفرك منهم( وَلا تَنْهَرْهُما ) ثمّ تؤكّد مرّة أخرى على ضرورة التحدّث معهم بالقول الكريم ، إذ اللسان مفتاح إلى القلب( وَقُلْ لَهُما قَوْلاً كَرِيماً ) .

٣ ـ من جانب ثالث تأمر الآية بالتواضع لهم ، هذا التواضع الذي يكون علامة

__________________

(١) هناك قولان حول «إما» في جملة «إما يبلغنّ» فالفخر الرازي في تفسيره يذهب إلى أنّها مركّبة من «إن» الشرطية و «ما» الشرطية ، وهي بذلك تفيد التأكيد. أما البعض الآخر كصاحب «الميزان» مثلا ، فيرى أنّها مركبة من «إن» الشرطية و «ما» الزائدة ، التي جاءت هنا لتسمع لـ «إن» الشرطية بالدخول على الفعل المؤكد بنون التأكيد.

٤٤٣

المحبة ، ودليل الود لهم :( وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ ) .

٤ ـ أخيرا تنتهي الآيات ، إلى توجيه الإنسان نحو الدعاء لوالديه وذكرهم بالخير سواء كانا أمواتا أم أحياء ، وطلب الرحمة الرّبانية لهما جزاء لما قاما به من تربية( وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً ) .

إضافة إلى ما ذكرناه ، فثمّة ملاحظة لطيفة أخرى يطويها التعبير القرآني ، هذه الملاحظة خطاب للإنسان يقول : إذ أصبح والداك مسنّين وضعيفين وكهلين لا يستطيعان الحركة أو رفع الخبائث عنهما ، فلا تنس أنّك عند ما كنت صغيرا كنت على هذه الشاكلة أيضا ، ولكن والديك لم يقصرا في مداراتك والعناية بك ، لذا فلا تقصّر أنت في مداراتهم ومحبتهم.

وقد تحدث من قبل بعض الأبناء انحرافات فيما يتعلق بحقوق الوالدين واحترامهم والتواضع لهم ، وقد يصدر هذا العقوق عن جهل في بعض الأحيان ، وعن قصد وعلم في أحيان أخرى ، لذا فإنّ الآية الأخيرة في بحثنا هذا تشير إلى هذا المعنى بالقول :( رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما فِي نُفُوسِكُمْ ) . وهذه إشارة إلى أنّ علم الله ثابت وأزلي وأبدي وبعيد عن الاشتباهات ، بينما علمكم أيّها الناس لا يحمل هذه الصفات! لذلك فإذا طغى الإنسان وعصى أوامر خالقه في مجال احترام الوالدين والإحسان إليهم ، ولكن بدون قصد وعن جهل ، ثمّ تاب بعد ذلك وأناب ، وندم على ما فعل وأصلح ، فإنّه سيكون مشمولا لعفو الله تعالى :( إِنْ تَكُونُوا صالِحِينَ فَإِنَّهُ كانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُوراً ) .

«أوّاب» مشتقة من «أوب» على وزن «قوم» وهي تعني الرجوع مع الإرادة ، في حين أن كلمة «رجع» تقال للرجوع مع الإرادة أو بدونها ، لهذا السبب يقال للتوبة «أوبة» لأنّ حقيقة التوبة تنطوي على الرجوع عن الأمر (المنكر) ، إلى الله ، مع الإرادة.

وبما أنّ كلمة «أوّاب» هي صيغة مبالغة ، لذا فإنّها تقال للأشخاص الذين كلما

٤٤٤

أذنبوا رجعوا إلى خالقهم. وقد تكون صيغة المبالغة في «أوّاب» هي إشارة إلى تعدّد عوامل العودة والرجوع إلى الله. فالإيمان بالله أوّلا ، والتفكير بحكمة يوم الجزاء والقيامة ثانيا ، والضمير الحي ثالثا ، والتفكير بعواقب ونتائج الذنوب رابعا ، كل هذه العوامل تعمل سوية لأجل عودة الإنسان من طريق الانحراف ، نحو الله.

* * *

بحوث

أوّلا : احترام الوالدين في المنطق الإسلامي

بالرغم من أنّ العاطفة الإنسانية ومعرفة الحقائق ، يكفيان لوحدهما لاحترام ورعاية حقوق الوالدين ، إلّا أنّ الإسلام لا يلتزم الصمت في القضايا التي يمكن للعقل أن يتوصل فيها بشكل مستقل ، أو أن تدلّ عليها العاطفة الإنسانية المحضة ، لذلك تراه يعطي التعليمات اللازمة إزاء قضية احترام الوالدين ورعاية حقوقهما ، بحيث لا يمكن لنا أن نلمس مثل هذه التأكيدات في الإسلام إلّا في قضايا نادرة أخرى.

وعلى سبيل المثال يمكن أن تشير الفقرات الآتية إلى هذا المعنى :

ألف : في أربع سور قرآنية ذكر الإحسان إلى الوالدين بعد التوحيد مباشرة ، وهذا الاقتران يدل على مدى الأهمية يوليها الإسلام للوالدين.

ففي سورة البقرة آية (٨٣) نقرأ :( لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللهَ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً ) .

وفي سورة النساء آية (٣٦) نقرأ قوله تعالى :( وَاعْبُدُوا اللهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً ) . أما الآية (١٥١) من سورة الأنعام فإنّها تقول :( أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً ) . وفي الآية التي نبحثها نقرأ قوله تعالى :( وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً ) .

ب ـ إنّ مسألة احترام الوالدين ورعاية حقّهما من المنزلة بمكان ، حتى أنّ

٤٤٥

القرآن والأحاديث والرّوايات الإسلامية ، تؤكدان معا على الإحسان للوالدين حتى ولو كانا مشركين ، إذ نقرأ في الآية (١٥) من سورة لقمان :( وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ، فَلا تُطِعْهُما وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً ) .

ج ـ رفع القرآن الكريم منزلة شكر الوالدين إلى منزلة شكر الله تعالى ، إذ تقول الآية (١٤) من سورة لقمان :( أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ ) .

وهذا دليل على عمق وأهمية حقوق الوالدين في منطق الإسلام وشريعته ، بالرغم من أن نعم الله التي يشكرها الإنسان لا تعدّ ولا تحصى.

د ـ القرآن الكريم لا يسمح بأدنى إهانة للوالدين ، ولا يجيز ذلك ، ففي حديث عن الإمام الصادقعليه‌السلام قال : «لو علم الله شيئا هو أدنى من أف لنهى عنه ، وهو من أدنى العقوق ، ومن العقوق أن ينظر الرجل إلى والديه فيحدّ النظر إليهما»(١) .

ه ـ بالرغم من أنّ الجهاد يعتبر من أهم التعاليم الإسلامية ، إلّا أنّ رعاية الوالدين تعتبر أهم منه ، بل لا يجوز إذا أدّى الأمر إلى أذية الوالدين ، بالطبع هذا إذا لم يكن الجهاد واجبا عينيا ، وإذ توفرّ العدد الكافي من المتطوعين له.

في حديث عن الإمام الصادقعليه‌السلام ، أنّ رجلا جاء إلى الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقال له ، إنّي أحبّ الجهاد ، وصحتي جيدة ، ولكن لي أمّ لا ترتاح لذلك ، فما ذا أفعل ، فأجابهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إرجع فكن مع والدتك فو الذي بعثني بالحق لأنسها بك ليلة خير من جهاد في سبيل الله سنة»(٢) .

ولكن عند ما يجب الجهاد وجوبا عينيا ، وتصبح بلاد الإسلام في خطر يلزم الجميع بالحضور ولا تقبل جميع الاعذار حينئذ بما فيها عدم رضاء الوالدين.

وما قلناه عن الجهاد ينطبق كذلك على الواجبات الكفائية الأخرى ، وكذلك المستحبات.

__________________

(١) يلاحظ : جامع السعادات ، النراقي ، ج ٢ ، ص ٢٥٨.

(٢) جامع السعادات ، ج ٢ ، ص ٢٦٠.

٤٤٦

و ـ عن الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «إيّاك وعقوق الوالدين فإنّ ريح الجنّة توجد من ميسرة ألف عام ولا يجدها عاقّ»(١) .

هذا التعبير ينطوي على إشارة لطيفة ، إذ أن مثل هؤلاء الأشخاص (العاقين) ليسوا لا يدخلون الجنّة وحسب ، بل إنّهم يبقون على مسافة بعيدة جدا منها ولا يستطيعون الاقتراب منها.

وينقل «سيد قطب» حديثا عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جاء فيه : «عن بريدة عن أبيه، أنّ رجلا كان في الطواف حاملا أمّه يطوف بها ، فرأى النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فسأله : هل أديت حقّها؟ فأجابهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا ، ولا بزفرة واحدة».

ويقصد بالزفرة الواحدة الوجعة الواحدة ، أو الطلقة الواحدة ، التي تغشى الأم حين الولادة والوضع(٢) .

إذا أردنا نطلق العنان للقلم في هذا المجال ، فسيطول بنا المقام ونبتعد عن التّفسير، لكن ـ بصراحة ـ يجب أن نعترف بأنّ كل ما يقال في هذا المجال فهو قليل ، لأنّ الوالدين حق العيش والحياة على الولد.

في نهاية هذه الفقرة ، أشير إلى أنّ الوالدين ـ في بعض الأحيان ـ يقترحان على الأبناء أشياء غير منطقية وحتى ـ غير شرعية ، طبعا في مثل هذه الحالات لا تجب الطاعة ، ولكن من الأفضل أن يتسم التعامل معهما بالهدوء والمنطق ، وأن تتم عملية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بأحسن وجه.

أخيرا نختم الكلام بحديث عن الإمام الكاظمعليه‌السلام قال فيه : إنّ رجلا جاء النّبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يسأله عن حق الأدب على ابنه ، فأجابهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقوله : «لا يسميه باسمه، ولا يمشي بين يديه ، ولا يجلس قبله ، ولا يستسب له»(٣) (اي لا يفعل شيئا يؤدي

__________________

(١) جامع السعادات ، ج ٢ ، ص ٢٥٧.

(٢) في ظلال القرآن ، ج ٤ ، ص ٢٢٢٢ ، الطبعة العاشرة.

(٣) نور الثقلين ، ج ٣ ، ص ١٤٩.

٤٤٧

الى أن يسبّ الناس والديه).

ثانيا : بحث حول كلمة «قضى» :

«قضى» أصلها من كلمة «قضاء» بمعنى الفصل في شيء ما ، إمّا بالعمل وإمّا بالكلام. وقال بعض : إنّ معناها هو وضع نهاية لشيء ما ، وفي الواقع فإنّ المعنيين متقاربان. وبما أنّ الفصل ووضع النهاية لهما معاني واسعة ، لذا فإنّ هذه الكلمة لها استخدامات في مفاهيم مختلفة ، فالقرطبي في تفسيره مثلا ذكر لها ستة معان هي :

* «قضى» بمعنى «أمر» كما في قوله تعالى :( وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ) .

* «قضى» بمعنى «خلق» كما في قوله آية (١٢) من سورة فصلت( فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ ) .

* «قضى» بمعنى «حكم» كما في الآية (٧٢) من سورة طه( فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ ) .

* «قضى» بمعنى الانتهاء من شيء ، ومثله الآية (٤١) من سورة يوسف( قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ ) .

* «قضى» بمعنى «أراد» كما في سورة آل عمران آية (٤٧) :( إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ) .

* «قضى» بمعنى «عهد» كما في الآية (٤٤) من القصص :( إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ ) (١) .

وقد أضاف أبو الفتوح الرازي إلى هذه المعاني قوله :

* «قضى» بمعنى «الإخبار والإعلام» مثل قوله تعالى :( وَقَضَيْنا إِلى بَنِي

__________________

(١) تفسير القرطبي ، ج ٦ ، ص ٣٨٥٣.

٤٤٨

إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ ) (١) .

ونستطيع أن نضيف إلى هذا المعنى ، معنى آخر تكون فيه «قضى» بمعنى «الموت» كما في آية (١٥) من سورة القصص( فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ ) .

المهم هنا ، أنّ بعض المفسّرين وضع أكثر من (١٣) معنى لكلمة في القرآن الكريم(٢) .

ولكن لا يمكن اعتبار كل هذه معاني متعدّدة لكلمة «قضى» لأنها تنتهي إلى مفهوم واحد. لذلك فإنّ أغلب المعاني المذكورة أعلاه هي من باب اختلاط المصداق بالمفهوم. لأنّ كل واحدة منها ، ما هي في واقعها إلّا مصداقا للمفهوم الكلّي والجامع المتمثل في «الفصل ووضع النهاية» فالقاضي بحكمه يضع نهاية للدعوى ، والخالق يضع نهاية لما خلق ، والمخبر بأخباره يضع نهاية لما يريد أن يوضحه. ولكن لا يمكن الإنكار أنّ بعض هذه المصاديق ، ومن كثرة الاستخدام قد وضعت معان جديدة لكلمة «قضاء» مثل الحكم أو إعطاء الأوامر.

ثالثا : بحث حول معنى كلمة «أف» :

أصل «أف» كلّ مستقذر من وسخ وقلامة ظفر وما يجري مجراهما ، ويقال ذلك لكلّ مستخف به استقذارا له. ويمكن أن نشتق منه فعلا ، كمثل قولنا : قد أففت لكذا ، إذا قلت ذلك استقذارا له. (مفردات الراغب صفحة ١٩).

بعض المفسّرين مثل «القرطبي» في الجامع ، و «الطبرسي» في «مجمع البيان» قالوا : «أف» و «تف» في الأصل بمعنى وسخ الظفر حيث أنّه ملوّث وتافة أيضا ، وينقل الرازي عن الأصمعي أنّ «الأف» وسخ الأذن ، و «التف» وسخ الظفر ، حتى توسع المعنى ليشمل كل ما يتأذى منه ، وتذكر اللفظة أيضا عند كل مكروه يصل

__________________

(١) تفسيره أبو الفتوح الرازي ، ج ٧ ، ص ١٨٨.

(٢) وجوه القرآن للتفليسي ، ص ٢٣٥.

٤٤٩

إليهم(١) .

وهناك معان أخرى لكلمة «أف» منها أنّها تعني الشيء القليل ، أو الأذى من الرائحة الكريهة.

البعض الآخر قال : إنّ أصل هذه الكلمة مأخوذ من «الصوت» الذي يخرج من الفم عند ما ينفخ الإنسان لتنظيف بدنه أو ملابسه من الغبار الموجود عليها ، وهذا الصوت يشبه كلمة «أوف» أو «أف» وقد أستفيد منها فيما بعد للتعبير عن التنفّر وعدم الراحة من الأشياء الصغيرة بالخصوص.

وخلاصة الذي ذكرناه أعلاه ، وبالإضافة إلى قرائن أخرى يمكن القول بأنّ هذه الكلمة هي في الأصل «اسم صوت» والمقصود بالصوت هنا ما يصدره الإنسان من فمه عند ما يتذمّر أو ينفخ لإزالة شيء ما. ثمّ بعد ذلك تحول «اسم الصوت» إلى كلمة يمكن اشتقاق الأفعال منها ، وبذلك تكون المعاني التي ذكرناها مصاديق لهذا المفهوم العام والشامل.

ومنتهى الكلام هنا ، أنّ الآية تريد أن تقول بعبارة قصيرة وفصيحة وبليغة ، إنّ احترام الوالدين ورعاية حقوقهما مهمان للغاية ، بحيث لا يجوز تجاوز الحدود أمامهما أو إيذاؤهما حتى بمستوى ما تحمله كلمة «أف» من معنى.

* * *

__________________

(١) التّفسير الكبير ، الفخر الرازي ، ج ٢ ، ص ١٨٨.

٤٥٠

الآيات

( وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً (٢٦) إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ وَكانَ الشَّيْطانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً (٢٧) وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوها فَقُلْ لَهُمْ قَوْلاً مَيْسُوراً (٢٨) وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً (٢٩) إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (٣٠) )

التّفسير

رعاية الاعتدال في الإنفاق والهبات :

مع هذه الآيات يبدأ الحديث عن فصل آخر من سلسلة الأحكام الإسلامية الأساسية ، التي لها علاقة بحقوق القربى والفقراء والمساكين ، والإنفاق بشكل عام ينبغي أن يكون بعيدا عن كل نوع من أنواع الإسراف والتبذير ، حيث تقول الآية( وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً ) .

٤٥١

«تبذير» من «بذر» وهي تعني بذر البذور ، إلّا أنّها هنا تخص الحالات التي يصرف فيها الإنسان أمواله بشكل غير منطقي وفاسد. بتعبير آخر : إنّ التبذير هو هدر المال في غير موقعه ولو كان قليلا ، بينما إذا صرف في محلّه فلا يعتبر تبذيرا ولو كان كثيرا. ففي تفسير العياشي ، عن الإمام الصادقعليه‌السلام ، نقرأ قوله : «من أنفق شيئا في غير طاعة الله فهو مبذر ومن أنفق في سبيل الله فهو مقتصد»(١) .

وينقل عن الإمام الصادقعليه‌السلام أيضا أنّه دعا برطب (لضيوفه) فاقبل بعضهم يرمي بالنوى ، فقال : «لا تفعل إن هذا من التبذير ، وإنّ الله لا يحب الفساد»(٢) .

وفي مكان آخر نقرأ ، أنّ رسول الهدىصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مرّ بسعد وهو يتوضأ ، فقال : ما هذا السرف يا سعد؟ قال : أفي الوضوء سرف؟ فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «نعم وإن كنت على نهر جار»(٣) .

وبالنسبة لذوي القربى هناك كلام كثير بين المفسّرين ، هل هم عموم القربى؟ أو المقصود بهم قربى الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم باعتباره هو المخاطب بالآية؟

في الأحاديث الكثيرة التي سنقرؤها وفي الملاحظات التي سنقف عندها سنعرف بأنّ ذوي القربى هم قربى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وبعض الرّوايات تشير إلى أنّ الآية تتحدث عن قصّة فدك التي أعطاها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بنته فاطمة الزهراءعليها‌السلام .

ولكن مخاطبة الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في كلمة «وآت» لا تعتبر دليلا على اختصاص هذا الحكم به ، لأنّ جميع الأحكام الواردة في هذه المجموعة من الآيات كالنهي عن الإسراف ومداراة السائل والمسكين ، والنهي عن البخل ، هي أحكام عامّة بالرغم من أنّها تخاطب الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

وهناك نقطة ينبغي الالتفات إليها ، وهي مجيء النهي عن التبذير والإسراف ،

__________________

(١) يراجع تفسير الصافي عند بحث هذه الآية.

(٢) المصدر السابق.

(٣) المصدر السابق.

٤٥٢

بعد إعطاء الأمر بأداء حق الأقرباء والمساكين حتى لا يقع الإنسان تحت تأثير عاطفة القرابة أو الصدقة فيعطي لهذا المسكين أو ابن السبيل أو القريب أكثر ممّا يستحق أو يتحمل ، فيعتبر ذلك إسرافا وتبذيرا ، وهما مذمومان دائما.

الآية التي بعدها هي لتأكيد النهي عن التبذير( إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ ، وَكانَ الشَّيْطانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً ) .

أمّا كيف كفر الشيطان بنعم ربّه ، فهذا واضح ، لأنّ الله أعطاه قدرة وقوة واستعدادا وذكاء خارقا للعادة ، ولكن الشيطان استفاد من هذه الأمور في غير محلّها ، أي في طريق إغواء الناس وإبعادهم عن الصراط المستقيم.

أما كون المبذرين إخوان الشياطين ، فذلك لأنّهم كفروا بنعم الله ، إذ وضعوها في غير مواضعها. ثمّ إنّ استخدام «إخوان» تعني أنّ أعمالهم متطابقة ومتناسقة مع أعمال الشيطان ، كالأخوين اللذين تكون أعمالهما متشابهة ، أو أنّهم قرناء وجلساء للشيطان في الجحيم ، كما توضح ذلك الآية (٣٩) من سورة الزخوف بعد أن تشرك الشيطان والمذنب في العذاب :( وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ ) .

أمّا لما ذا جاءت كلمة الشيطان هنا بصيغة الجمع «شياطين»؟ قد يعود ذلك إلى أنّ لكل إنسان غافل عن خالقه وربّه ، شيطان قرين له ، كما نرى هذا المعنى واضحا في الآية (٣٦) و (٣٨) من الزخرف :( وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ حَتَّى إِذا جاءَنا قالَ يا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ ) .

ثمّ أنّ الإنسان قد لا يملك ما يعطيه للمسكين أحيانا ، وفي هذه الحالة ترسم الآية الكريمة طريقة التصرّف بالنحو الآتي :( إِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوها فَقُلْ لَهُمْ قَوْلاً مَيْسُوراً ) .

«ميسور» مشتقّة من «يسر» وهي بمعنى الراحة والسهولة ، أمّا هنا فلها مفهوم واسع ، يشمل كل كلام جميل وسلوك مقرون بالاحترام والمحبّة ، وإذا فسّرها

٤٥٣

البعض بمعنى الوعد للمستقبل فإنّ ذلك أحد مصاديقها.

نقرأ في الرّوايات ، أنّه بعد نزول هذه الآية ، كان إذا جاء شخص محتاج إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والرّسول لا يملك شيئا لإعطائه ، قال لهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «يرزقنا الله وإيّاكم من فضله»(١) .

وقديما عند ما كان السائل يطرق الباب ، ويطلب منّا شيئا لا نستطيع إعطاءه إيّاه ، نقول له «العفو» وذلك تأكيدا على أنّ لهذا السائل حق علينا يطالبنا به ، وإذا كنّا لا نملك قضاء حاجته وإعطاءه حقّه ، فإننا نطلب منه العفو.

الاعتدال هو شرط في كل الأمور بما فيها الإنفاق والمساعدة الآخرين ، لذلك تنتقل الآية للقول :( وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ ) . وهذا تعبير جميل يفيد أنّ الإنسان ينبغي أن يكون ذا يد مفتوحة ، لا أن يكون مثل البخلاء وكأنّ أيديهم مغلولة إلى أعناقهم بخلا وخشية من الإنفاق. ولكن في نفس الوقت تقرّر الآية أنّ بسط اليد لا ينبغي أن يتجاوز الحد المقرر والمعقول في الصرف والبذل والعطاء ، حتى لا ينتهي المصير إلى الملامة والابتعاد عن الناس :( وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً ) .

و «تقعد» مشقّة من «قعود» وهي كناية عن التوقف عن العمل. أمّا تعبير ملوم» فهو يشير إلى أنّ عاقبة الإسراف لا تؤدي إلى توقف الإنسان عن عمله ونشاطه وحسب ، وإنّما تؤدي إلى إيقاع لوم الناس عليه.

«محسور» مشتقّة من كلمة «حسر» وهي في الأصل تعني خلع الملابس رفع الثوب وإظهار بعض البدن من تحته ، لذا يقال للمقابل الذي لم يلبس الخوذة والدرع ، بأنه «حاسر». وأيضا يقال للحيوان الذي يتعب من كثرة المشي بأنّه «حسير» أو «حاسر» بسبب استنفاذ طاقته وقدرته.

__________________

(١) يراجع تفسير مجمع البيان ، عند تفسير الآية.

٤٥٤

وقد توسع هذا المفهوم فيما بعد بحيث أصبح يطلق على كل إنسان عاجز عن الوصول إلى هدفه بأنّه «حسير» أو «محسور» أو «حاسر».

أمّا كلمة «الحسرة» والتي تعني الغم والحزن ، فهي مشتقة من هذه الكلمة ، وتطلق على الإنسان الفاقد لقابلية حل المشاكل بسبب الضعف.

وكذلك بالنسبة للإنفاق ، فهو إذا تجاوز الحد المقرّر بحيث يستنفذ طاقة الإنسان ، فإنّه يؤدي إلى أن يصاب صاحبه بالغم والحزن بسبب الضعف عن أداء واجباته ومسئولياته ، وينقطع اتصاله وارتباطه بالناس.

وبعض الرّوايات التي تتحدث عن سبب نزول الآية تؤكّد هذا المعنى ، إذ أنّها تتحدث أنّ الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يوما في بيته فجاءه سائل يسأله إعطاءه ملابس ، ولمّا لم يكن مع الرّسول ما يعطي السائل ، فقد خلع لباسه وأعطاه إيّاه ، الأمر الذي أدّى إلى بقاء الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في البيت وعدم خروجه في ذلك الوقت للصلاة.

وقد كان هذا الحادث سببا لتقولات الكفار المنافقين ، الذين قالوا : إنّ الرّسول نائم ، أو إنّه في لهو أنساه صلاته. وبذلك أدّى هذا العمل إلى إيقاع اللوم شماتة الأعداء والانقطاع عن الأصحاب ، وأصبح بذلك مصداقا للملوم والمحسور ، عندها نزلت الآية أعلاه تنهي الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن تكرار هذا العمل.

أمّا عن التضاد القائم بين هذا الأمر ومسألة «الإيثار» فسنبحثه في الملاحظات القادمة إن شاء الله.

بعض الرّوايات تتحدث عن أنّ سبب نزول الآية ، هو أنّ الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يعطي ما يوجد في بيت المال إلى المحتاج بحيث إذا جاءه محتاج آخر ، فلن يجد شيئا يعطيه له ، فيلوم ذلك المحتاج الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويؤذيه ، لذلك صدرت التعليمات بأن لا ينفق كل ما في بيت المال لمواجهة هذه المشكلات.

سؤال : لما ذا يجب أن يكون هناك مساكين وفقراء ومحرومون حتى ننفق عليهم؟ أليس من الأفضل أن يعطيهم الله ما يريدون حتى لا يحتاجون إلى إنفاقنا؟

٤٥٥

الجواب : تعتبر الآية الأخيرة بمثابة جواب على هذا السؤال :( إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً ) . إنّه اختبار لنا ، فالله قادر على كل شيء ، ولكنّه يريد بهذا الطريق تربيتنا على روح السخاء والتضحية والعطاء.

إضافة إلى ذلك ، إذا أصبح أكثر الناس في حالة الكفاية وعدم الحاجة فإنّ ذلك يقود إلى الطغيان والتمرد( إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى ) ، لذلك من المفيد أن يبقوا في حد معين من الحاجة. هذا الحد لا يسبب الفقر ولا الطغيان. من ناحية أخرى يرتبط التقدير والبسط في رزق الإنسان بمقدار السعي وبذل الجهد (باستثناء بعض الموارد من قبيل العجزة والمعلولين) ، وهكذا تقتضي المشيئة الإلهية ببسط الرزق وتقديره لمن يشاء ، وهذا دليل الحكمة ، إذ تقضي الحكمة بزيادة رزق من يسعى ويبذل الجهد ، بينما تقضي بتضييقه لمن هو أقل جهدا وسعيا.

العلّامة الطباطبائي ينظر للعلاقة بين هذه الآية والتي قبلها في ضوء احتمال آخر فيقول في تفسير الميزان : «إنّ هذا دأب ربّك وسنته الجارية ، يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر لمن يشاء ، فلا يبسطه كل البسط ، ولا يمسك عنه كل الإمساك رعاية لمصلحة العباد ، إنّه كان بعباده خبيرا بصيرا أو ينبغي لك أن تتخلق بخلق الله وتتخذ طريق الاعتدال وتتجنب الإفراط والتفريط»(١) .

* * *

بحوث

أوّلا : من هم المقصودون بذي القربى؟

كلمة «ذي القربى» تعني الأرحام والمقربين ، وهناك كلام بين المفسّرين ،

__________________

(١) تفسير الميزان ، ج ١٣ ، ص ٨٤.

٤٥٦

حول المقصود بها ، إذ هل هو المعنى العام أو الخاص؟ ويمكن أن نلاحظ هنا بعض هذه الآراء :

* البعض يعتقد أنّ المخاطب بالآية جميع المؤمنين والمسلمين ، والغرض هو الحث على أداء حقوق الأقرباء.

* البعض الآخر يرى أنّ المخاطب في الآية هو الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والغرض هو إيصال حقوق أقرباء النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كخمس الغنائم ، أو غيرها ممّا يتعلق بها الخمس. أو بصورة عامّة تأدية كل الحقوق التي لهم في بيت المال.

لذلك نرى في روايات عديدة عند الشيعة والسنّة إنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعث إلى فاطمةعليها‌السلام بعد نزول هذه الآية ، ووهبها فدكا(١) .

ففي مصادر السنة مثلا نقرأ عن أبي سعيد الخدري الصحابي المعروف : «لما نزل قوله تعالى :( وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ ) أعطى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فاطمة فدكا»(٢) .

ويستفاد من بعض الرّوايات ، أنّ الإمام زين العابدينعليه‌السلام أثناء سيره إلى الشام بعد واقعة كربلاء ، استدلّ بهذه الآية( وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ ) في التعريف بنفسه وأهل بيته وعيال أبيه الحسينعليه‌السلام ، بأنّهم المعنيين بقوله تعالى : فيما كان أهل الشام يغمطونهم هذا الحق!(٣) .

ولكن ـ كما أشرنا سابقا ـ ليس هناك تعارض بين هذين التّفسيرين ، فالكل مكلفون بإيتاء حقوق ذوي القربى ، والرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذي اعتبر قائدا للأمّة

__________________

(١) فدك أرض معمورة وخصبة ، كانت بالقرب من خبير وعلى بعد (١٤٠) كم عن المدينة المنورة ، وفدك بعد خبير كانت مركزا لاستقرار يهود الحجاز [يراجع كتاب : مراصد الاطّلاع. موضوع فدك]. وبعد أن استسلم اليهود للنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بدون حرب ، أعطى الرّسول هذه الأرض إلى فاطمة الزّهراءعليها‌السلام وذلك وفقا للوقائع التأريخية الثابتة لدى الجميع ، لكنّها صودرت بعد وفاة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولأسباب سياسية وبقيت في أيدي الخلفاء إلى أن أعادها عمر بن عبد العزيز أيّام خلافته إلى العلويين.

(٢) نقل هذا الحديث «البذار» و «أبو يعلى» و «ابن أبي حاتم» و «ابن مردوية» عن «أبي سعيد» [لا حظ كتاب ميزان الاعتدال المجلد الثّاني صفحة (٢٨٨) وكنز العمال المجلد الثّاني صفحة (١٥٨)] وقد ورد هذا الحديث أيضا في تفسير مجمع البيان للشيخ الطبرسي عند حديثه عن هذه الآية ، وفي الدر المنثور أيضا وقد أخرجه عن طريق السنة والشيعة معا.

(٣) راجع تفسير نور الثقلين ، ج ٣ ، ص ٢٥٥.

٤٥٧

الإسلامية مكلّف أيضا بالعمل بهذه المسؤولية الكبيرة ، فأهل بيت النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هم في الواقع من أوضح مصاديق القربى لهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . والرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في طليعة المخاطبين بالآية الكريمة. لهذا السبب وهب الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حقوق ذوي القربى لهم ، فأعطى فاطمة فدكا ، وأجرى عليهم الأخماس وغير ذلك ، حيث كانت الزكاة أموالا عامّة محرمة على أهل بيت النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقرباه.

ثانيا : مصائب الإسراف والتبذير :

لا ريب في أنّ النعم الموجودة على الكرة الأرضية كافية لساكنيها ، بشرط واحد ، هو أن لا يبذروا هذه النعم بلا سبب ، بل عليهم استثمارها بشكل معقول وبلا إفراط أو تفريط ، والّا فإنّ هذه النعم ليست غير متناهية حتى لو أسيء استثمارها والتصرف بها. وقد يؤدي الإسراف والتبذير في منطقة معينة الى الفقر في منطقة أخرى ، أو إنّ إسراف وتبذير الناس في هذا الزمان يسبّب فقر الأجيال القادمة.

وفي ذلك اليوم الذي لم تكن فيه الأرقام والإحصاءات في متناول الإنسان ، حذّر الإسلام من مغبة الإسراف والتبذير في نعم الله على الأرض ، لذلك فالقرآن أدان في أماكن كثيرة وبشدّة المسرفين والمبذرين.

ففي الآيتين (١٤١) من الأنعام و (٣١) من الأعراف نقرأ قوله تعالى( وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ ) .

أمّا في غافر (٤٣) فنقرأ :( وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحابُ النَّارِ ) .

والآية (١٥١) من الشعراء تنهى عن طاعة المسرفين :( وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ ) .

أمّا الآية (٨٣) من يونس فتجعل الإسراف صفة فرعونية :( وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ ) .

والهداية ممنوعة عن المسرفين كما هو مفاد الآية (٢٨) من سورة غافر :( إِنَ

٤٥٨

اللهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ ) .

وأخيرا تتحدث الآية (٩) من سورة الأنبياء عن مصيرهم :( وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ ) .

وقد رأينا في الآية التي نبحثها أن الله تعالى جعل المسرفين إخوان الشياطين. والإسراف بمعناه الواسع هو الخروج وتجاوز الحد في أي عمل يقوم به الإنسان ، ولكنّها عادة تستخدم في المصروفات.

ومن آيات القرآن نفسها نستفيد أنّ الإسراف هو في مقابل التقتير ، بينما هناك طريق ثالث هو منزلة بين الأمرين ، كما في الآية (٦٧) من سورة الفرقان :( وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً ) .

ثالثا : الفرق بين الإسراف والتبذير :

في الواقع لا يوجد هناك بحث واضح عند المفسّرين في التفاوت الموجود بين الإسراف والتبذير ، ولكن عند التأمّل بأصل هذه الكلمات في اللغة ، يتبيّن أنّ الإسراف هو الخروج عن حدّ الاعتدال ، ولكن دون أن نسخر شيئا ، فمثلا نلبس ثيابا ثمينا بحيث أنّ ثمنه يعادل أضعاف سعر الملبس الذي نحتاجه ، أو أنّنا نأكل طعاما غاليا بحيث يمكننا إطعام عدد كبير من الفقراء بثمنه. كل هذه أمثلة على الإسراف ، وهي تمثّل خروجنا عن حدّ الاعتدال ، ولكن من دون أن نخسر شيئا.

أمّا كلمة «تبذير» فهي تعني الصرف الكثير ، بحيث يؤدي إلى إتلاف الشيء وتضييعه ، فمثلا نهيّئ طعام عشرة أشخاص لشخصين ، كما يفعل ذلك بعض الجهلاء ويعتبرون ذلك فخرا ، حيث يرمون الزائد في المزابل.

ولكن بالرغم من هذا التمييز ، لا بدّ من القول بأنّ كثيرا ما تستخدم هاتين الكلمتين للتدليل على معنى واحد ، وقد تتابعان في الجملة الواحدة لغرض التأكيد.

فالإمام علي في نهج البلاغة يقول : «ألا إنّ إعطاء المال في غير حقّه تبذير

٤٥٩

وإسراف وهو يرفع صاحبه في الدنيا ويضعه في الآخرة ، ويكرمه في الناس ويهينه عند الله».

وفي الآيات التي بحثناها رأينا أن الإسلام بحيث كثيرا على عدم الإسراف والتبذير إلى درجة أنّه نهى عن الإسراف في ماء الوضوء حتى إذا كان ذلك قرب نهر جار ، وحتى في نوى التمر. وعالم اليوم الذي بدأ يتحسّس الضائقة في بعض الموارد. أخذ يهتم بهذه الفكرة ، حتى بات يستفيد من كلّ شيء ، فهو مثلا يستفيد من فضولات المنازل في صنع السماد ، ومن ماء المجاري لسقي المزروعات ، لأنّه أحسّ أنّ المصادر الطبيعية محدودة ، لذا لا يمكن التفريط بها بسهولة ، وإنّما ينبغي الاستفادة منها ضمن ما يعرف بـ «دورة المصادر الطبيعية».

رابعا : هل ثمّة تعارض بين الاعتدال في الإنفاق والإيثار؟

مع الأخذ ـ بنظر الإعتبار ـ الآيات أعلاه والتي تؤكّد ضرورة الاعتدال في الإنفاق، يثار سؤال مؤدّاه ، إنّ في سورة الدهر مثلا ، وآيات أخرى ، وفي مجموعة من الأحاديث والرّوايات ، ثمّة إشادة بالمؤثرين الذين يؤثرون غيرهم على أنفسهم في أحلك الساعات وأشدّ الظروف ويعطون ما يملكون للآخرين ، فكيف يا ترى نوفّق بين هذين المفهومين؟

إنّ الدقة في سبب نزول هذه الآيات مع قرائن أخرى تفيدنا في الوقوف على جواب هذا السؤال ، إذ يكون الأمر بمراعاة الاعتدال في المجالات التي يكون فيها العطاء والهبات الكثيرة سببا لاضطراب الإنسان في حياته أو بمصطلح القرآن يصبح فيها( مَلُوماً مَحْسُوراً ) وكذلك إذا كان الإيثار سببا في التضييق على أبنائه أو أنّه يهدّد تركيبة عائلته. وإذا لم يقع أي من هذين المحذورين ، فإنّ الإيثار يعتبر أفضل السبل ، نضيف إلى ذلك أنّ الاعتدال في الإنفاق يعتبر حكما عاما ، بينما الإيثار يعتبر حكما خاصا يرتبط بمصاديق خاصّة ، وليس ثمّة تضاد بين الاثنين.

* * *

٤٦٠

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496