الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٨

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل12%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 496

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 496 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 231487 / تحميل: 7122
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٨

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

قول الله أصدق مِن قولك

زرارة قال: دخلت أنا وحمران على أبي جعفر الباقر (عليه السلام)، فقلت له: مَن وافقنا مِن علويٍّ أو غيره تولَّيناه، ومَن خالفنا مِن علويٍّ أو غيره برِئنا منه.

فقال لي: (يا زرارة، قول الله أصدق مِن قولك، فأين الذين قال الله عَزَّ وجَلَّ: ( إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيل ) (1).

أين المُرجَون لأمر الله؟!

أين الذين خلطوا عَملاً صالحاً وآخر سيِّئاً؟!

أين أصحاب الأعراف؟!

أين المُؤلَّفة قلوبهم؟!) (2) .

____________________

(1) النساء: 98.

(2) المعاد، ج1.

١٠١

...............................

إنَّ سعد بن عبادة قال: إنَّ بَكراً أخا بني ساعدة، توفِّيت أُمَّه وهو غائب عنها، فقال: يا رسول الله، إنَّ أُمِّي توفِّيت وأنا غائب عنها، فهل ينفعها إنْ تصدَّقت بشيء عنها؟

قال: (نعم).

قال: فإنِّي أُشهِدك أنَّ حائط المَخْرَف صدقة عليها.

الولد الصالح كالصدقة الجارية، مصدر أجر وثواب للوالدين في عالم البرزخ، فالولد الصالح يستغفر أحياناً لوالديه، وهذا الأمر يجعل الوالدين يتمتَّعان بالعفوِّ الإلهي، والرحمة الإلهيَّة في عالم البرزخ، أو أنَّ الولد الصالح، ونظراً لأنَّ تربيته تربية صالحة مِن قِبَل أبويه، هي التي جعلته يقوم بهذا العمل الصالح الحسن؛ فإنَّ ثواب وأجر هذا العمل الصالح، الذي قام به الولد يعود إلى والديه في عالم البرزخ.

عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال:

مَرَّ عيسى بن مريم (عليه السلام) بقبر يُعذَّب صاحبه، ثمَّ مَرَّ به مِن قابل، فإذا هو ليس يُعذَّب، فقال: (يا رَبِّ مررت بهذا القبر عامَ أوَّلٍ فكان صاحبه يُعذَّب؟!).

فأوحى الله عَزَّ وجَلَّ إليه: (يا روح الله، إنَّه أدرك له ولد صالح، فأصلح طريقاً وآوى يتيماً؛ فغفرت له بما فعل ابنه) (1) .

____________________

(1) المعاد، ج1.

١٠٢

كرامة عبد المُطَّلب جَدُّ النبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)

قام إبراهيم الخليل، وابنه إسماعيل، بأمر مِن الله ببناء الكعبة، وإقامة ذلك البيت المَقْدس، وأقام إسماعيل في مَكَّة، وكان إبراهيم (عليه السلام) يأتي إلى مَكَّة في مواسم الحَجِّ، وكان إسماعيل يشكو لوالده شُحَّ المياه، وطلب منه أنْ يُساعده للتغلُّب على هذه المُشكلة، فأوحى الله إلى إبراهيم أنْ يقوم بحفر بئر لتأمين مِياه الشِّرب للحجيج، وتوفير سُبل الراحة لهم، وبالطبع فإنَّ عمليَّة حَفر البئر في تلك المنطقة، والوصول إلى الماء لم تكن عمليَّة سهلة، فأمر الله جبرائيل أنْ يُحدِّد نقطة مُعيَّنة، أو مكان مُعيَّن يُحفر فيه البئر، وهذا المكان هو الذي يقع فيه اليوم بِئر زمزم.

قاموا بالفعل بحفر البئر، وخلافاً للتوقُّعات، وصلوا إلى الماء على عُمقٍ قليل، وفرحوا كثيراً لهذه العناية الإلهيَّة.

بعد ذلك، طلب جبرائيل مِن إبراهيم أنْ ينزل إلى داخل البئر، وتبعه جبرائيل الذي طلب مِن إبراهيم أنْ يضرب بفأسه في كلِّ زاوية مِن الزوايا الأربع، في قعر البئر، وأنْ يذكر اسم الله في كلِّ مَرَّة يضرب فيها بمِعوله، وكان إبراهيم يفعل ذلك، فكان الماء يتدفَّق مِن كلِّ زاوية مِن زوايا البئر.

فقال جبرائيل: (يا إبراهيم، اشرب الآن مِن ماء البئر وادع لولدك بالبركة)، ثمَّ خرج إبراهيم وجبرائيل مِن البئر.

وفي فترة كانت قبيلة جُرهم تُسيطر على مدينة مَكَّة، وتتولَّى سَدانة الحرم الإلهي، حيث كان المسؤولون عن شؤون الكعبة، يستلمون الهدايا والقرابين، التي كان الناس في الجاهليَّة يهدونها ويُقدِّمونها إلى آلهتهم، التي كانت موجودة في داخل الكعبة، ويحتفظون بها في مكان خاصٍّ يخضع لإشرافهم.

كان في الكعبة غَزالان مِن ذهب، وخمسة أسياف فلمَّا غلبت خُزاعة جُرهم على

١٠٣

الحرم، ألقت جُرهم الأسياف والغزالين في بِئر زمزم، وألقوا فيها الحِجارة، وطمُّوها وعموا أثرها، فلمَّا غلب قُصي على خُزاعة، لم يعرفوا موضع زمزم وعَمِيَ عليهم، وبقي مكان بئر زمزم مجهولاً لا يعرفه أحد، حتى جاء دور السيادة لعبد المُطَّلب جَدِّ الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، الذي كان يحظى بمكانةٍ عظيمة، وموقعٍ اجتماعيٍّ كبيرٍ بين القبائل العربيَّة في ذلك الوقت؛ بحيث إنَّهم كانوا يفرشون له البساط لكي يستريح عليه في ظِلِّ جِدار الكعبة، ولم يكونوا يفعلون ذلك لأحدٍ مِن قبله، وفي إحدى المَرَّات، عندما كان عبد المُطَّلب نائماً عند جدار الكعبة، رأى في المنام أنَّ شَخصاً جاء إليه، وقال له: احفر زمزم واعلم أنَّه يوجد في مكان زمزم غُراب أبيض الجناحين، ووَكر للنمل، وكان بالفعل يوجد في مكان بئر زمزم صخرة، تحتها وَكْر للنمل، وفي النهار عندما كان النمل يخرج مِن وكره، كان يأتي غراب أبيض الجناح، ويلتقط النمل بمنقاره ويأكله.

وقد عرف عبد المُطَّلب مكان بئر زمزم، استناداً إلى تلك الرُّؤيا الحقيقية؛ فقام هو وأبناؤه بحفر ذلك المكان، وأزالوا عنه الحِجارة والرِّمال، حتَّى عثروا على الماء، فكبَّروا الله.

مِن خلال هذه الرُّؤيا ظهر مكان بئر زمزم، الذي كان يجهله الناس في ذلك الوقت، ظهر بصورة حقيقيَّة كما هو، وتعرَّف عبد المُطَّلب - بموجب تلك الرُّؤيا - على مكان البئر المجهول، وأُلهِم بحقيقة كانت مَخفيَّة وغير معروفة، دون أنْ تكون هناك حاجة إلى تفسير هذه الرؤيا (1) .

____________________

(1) المعاد، ج1.

١٠٤

عبد المُطَّلب وحُلْم الشجرة التي تنبت في ظهره

كان عبد المُطَّلب في إحدى الليالي إلى جانب الكعبة، بالقُرب مِن الحَجر الأسود، فرأى حُلْماً بَدَّاً عَجيباً بنظره، فسيطر عليه الخوف والهلع؛ فذهب إلى أحد مُفسِّري الأحلام، وأخبره بما رآه في المنام، وقال: رأيت في المنام أنَّ شجرة نبتت في ظهري، امتدَّت أغصانها إلى عِنان السماء، وغطَّت أوراقها وأغصانها الشرق والغرب، ثمَّ رأيت نوراً ينبعث مِن تلك الشجرة، وهو أكثر بريقاً مِن نور الشمس وضوئها، ورأيت الناس مِن العرب والعَجم يسجدون لهذه الشجرة، وكلُّ يوم كان يمرُّ كانت هذه الشجرة تزداد نوراً، ورأيت أنَّ جماعة مِن قريش جاءت لكي تجتثُّ تلك الشجرة، وتقتلعها مِن جذورها، ولكنْ كلَّما اقتربوا مِن تلك الشجرة بهدف الإساءة إليها، كان يظهر شابٌّ حَسَن الملبس والمظهر، فيصدُّهم عنها، ويقصم ظهورهم، ويقتلع عيونهم، وقد مدْدْت يدي لكي آخذ غِصناً مِن أغصانها؛ فصاح بي الشابُّ الوسيم قائلاً: أنْ أيضاً ليس لك نصيب مِن هذه الشجرة، فقلت له: ومَن هم الذين لهم نصيب منها؟

فقال: إنَّ هذه الشجرة هي مِلك للذين يتمسَّكون بها، ويُمسكون بأغصانها؛ فتغيَّر وجه الشخص الذي كان يستمع إلى هذه الرؤيا مِن عبد المُطَّلب واضطربت أحواله.

ثمَّ قال: لئِن صدقت، ليخرجَنَّ مِن صُلْبك وَلد يَمْلك الشرق والغرب، ويُنبِّأ في الناس... وكان أبو طالب يُحدِّث بهذا الحديث، والنبي قد خرج ويقول: كانت الشجرة - والله - أبا القاسم الأمين.

ووفقاً لما قاله الشخص، الذي فسَّر هذه الرؤيا، فإنَّ الرؤيا المذكورة تتضمَّن مجموعة مِن الأنباء الغيبيَّة، بدأت تتحقَّق بصورة تدريجيَّة بعد ذلك بعشرات السنين، ففي بداية الأمر يُرزَق عبد المُطَّلب بولدٍ.

١٠٥

وثانياً: هذا الولد يَحُكم الشرق والغرب.

وثالثاً: يقوم بنشر وترويج التعاليم الإلهيَّة بين الناس.

ورابعاً: هذا المولود يرتفع نجمه، وتزداد شُهرته، وتتعزَّز مكانته يوماً بعد يوم.

خامساً: مجموعة مِن قريش تبدأ في مُناهضته ومُعارضة رسالته، وبالتالي فهي تسعى للقضاء عليه.

سادساً: إنَّ شابَّاً ينبري للدفاع عن هذه الشجرة، ويقضي على المُعارضين، وهذا الشاب ليس سوى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام).

سابعاً: إنَّ يَد عبد المُطَّلب لا تصل إلى أغصان الشجرة؛ لأنَّه يُفارق الحياة قبل أنْ يُبعث الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) (1) .

____________________

(1) المعاد، ج1.

١٠٦

إيَّاكم وتعلُّم النجوم إلاَّ ما يُهتدى به في بَرٍّ أو بحر

عندما أعدَّ عليٌّ (عليه السلام) جنوده لمُحاربة الخوارج، واستعدَّ للانطلاق، تقدَّم إليه رجل، وقال له: إذا ذهبت إلى الحرب في هذا الوقت بالذات، أخاف أنْ لا تحقَّق هدفك، وتعود مُنهزماً، وقد عرفت ذلك عن طريق الحسابات الفلكيَّة، والتدقيق في أوضاع الكواكب والنجوم في السماء.

فقال (عليه السلام): (أتزعم أنَّك تهدي إلى الساعة، التي مَن سار فيها صُرِف عنه السوء، وتُخوِّف مِن الساعة، التي مَن سار فيها حاق به الضُّرُّ؟! فمَن صَدَّقك بهذا؛ فقد كَذَّب القرآن؛ واستغنى عن الاستعانة بالله في نيل المَحبوب، ودفع المكروه، وتبتغي في قولك للعامل بأمرك أنْ يُولْيك الحمد دون رَبِّه؛ لأنَّك بزعمك أنت هديته إلى الساعة التي نال فهيا النفع وأمن الضُّرَّ).

ثمَّ أقبل (عليه السلام) على الناس فقال: (أيُّها الناس، إيَّاكم وتعلُّم النجوم، إلاَّ ما يُهتدى به في بَرٍّ أو بحرٍ؛ فإنَّها تدعو إلى الكَهانة، والمُنجِّم كالكاهن، والكاهن كالساحر، والساحر كالكافر، والكافر في النار، سيروا على اسم الله) (1) .

____________________

(1) المعاد، ج1.

١٠٧

ما مؤمن يموت..

إلاَّ قيل لروحه: الحَقْي بوادي السلام

عن حبَّة العَرني قال: خرجت مع أمير المؤمنين (عليه السلام) إلى الظهر، فوقف بوادي السلام، كأنَّه مُخاطب لأقوام، فقُمت بقيامه حتَّى أعييت، ثمَّ جلست حتَّى مَلَلت، ثمَّ قُمت حتَّى نالني مِثل ما نالني أوَّلاً، ثمَّ جلست حتَّى مَلَلت، ثمَّ قُمت وجمعت ردائي، فقلت: يا أمير المؤمنين، إنِّي قد أشفقت عليك مِن طول القيام فراحة ساعة.

ثمَّ طرحت الرداء ليجلِس عليه، فقال لي: (يا حبَّة، إنْ هو إلاّ مُحادثة مؤمن أو مُؤانسته).

قلت: يا أمير المؤمنين، وإنَّهم لكذلك؟!

قال: (نعم، ولو كُشِف لك لرأيتهم حلقاً حلقاً، مُحتَبين يتحادثون).

فقلت: أجسام أمْ أرواح؟

فقال: (أرواح، وما مؤمن يموت في بُقعة مِن بِقاع الأرض، إلاَّ قيل لروحه: الحقي بوادي السلام، وإنَّها لبُقعة مِن جَنَّة عَدْنٍ) (1) .

____________________

(1) المعاد، ج1.

١٠٨

سلمان وتكليم المَيِّت له

عيَّن أمير المؤمنين (عليه السلام) سلمان الفارسي والياً على المَدائن.

ويقول أصبغ بن نُباتة: كنت مع سلمان في المدائن، وكنت أُكثِر مِن زيارته ولقائه. وفي أحد الأيَّام ذهبت لعيادته عندما كان مريضاً، وهو المرض الذي أودى بحياته في نهاية الأمر، وكنت أعوده باستمرار، وأسأل عن حاله وشيئاً فشيئاً اشتدَّ به المرض، وأيقن بالموت، فالتفت إليَّ وقال لي: يا أصبغ، عهدي برسول الله يقول: (يا سلمان، سيُكلِّمك مَيِّت إذا دنت وفاتك)، وقد اشتهيت أنْ أدري أدنت أم لا؟.

فقال أصبغ: يا سلمان، اطلب ما تُريده فسأُنجزه لك.

فقال: تذهب الآن، وتُحضِر لي تابوتاً، وتفرش في داخله نفس البساط الذي يُفرش للموتى عندما يوضعون داخل التابوت، ومِن ثمَّ تُحضر معك أربعة أشخاص، فتحملوني إلى المقبرة، فقام أصبغ على عَجَلٍ، وعاد بعد ساعة وقد أحضر كلَّ ما طلبه منه سلمان الفارسي، وفعل كلَّ ما أمره به، وحمله إلى المقبرة، وعندما وصل إلى هناك وضع التابوت على الأرض.

فقال سلمان: ضعوني أمام القبلة؛ ففعلوا ذلك، عندها نادى سلمان بأعلى صوته:

السلام عليكم يا أهل عَرصة البلاء، السلام عليكم يا مُحتجبين عن الدنيا، فلم يسمع جواباً. ثمَّ كرَّر السلام عليهم قائلاً:

أقسمتكم بالله وبرسوله الكريم، أنْ يُجيبني واحد منكم، فأنا سلمان الفارسي صاحب رسول الله، وهو الذي أخبرني: بأنَّه إذا دنا أجلي، فإنَّ مَيِّتاً سيُكلِّمني، وإنِّي أُريد أنْ أعرف هل دنا أجلي أم لا؟

عندها سمع سلمان الجواب مِن الروح الذي رَدَّ السلام، وقال لسلمان:

لقد سمعنا كلامك، فاسأل ما تُريد.

١٠٩

فسأل سلمان الروح قائلاً: هل أنت مِن أهل الجَنَّة أمْ مِن أهل النار؟

فقال الروح: بلْ أنا مِن الذين شملتهم الرَّحمة والمَغفرة الإلهيَّة وفازا بالجَنَّة.

ثمَّ سأل سلمان الروح عن كيفيَّة مُفارقته الدنيا، وعن الأوضاع بعد الموت، وكان الروح يُجيب على أسئلة سلمان الفارسي واحداً واحداً، وبعد أنْ انتهى الحديث بين سلمان والروح، أخرجوه مِن التابوت، ووضعوه على الأرض فتوجَّه سلمان إلى الله قائلاً:

يا مَن بيده ملكوت كلِّ شيء، وإليه تُرجعون، وهو يُجير ولا يُجار عليه، بك آمنت ولنبيِّك اتَّبعت، وبكتابك صدقت، وقد أتاني ما وعدتني، يا مَن لا يُخلف الميعاد اقبضني إلى رحمتك، وأنزلني دار كرامتك (1) .

____________________

(1) المعاد، ج1.

١١٠

صَفاء الروح وقوَّة الحُلْم

قبل سنوات عديدة، كان يعيش في إحدى مُدن إيران رجل شريف ومؤمن، وكان ولده الأكبر أيضاً رجلاً صالحاً ومؤمناً، كوالده وكان الأب والابن يعيشان في منزلٍ عاديٍّ، في وضع ماديٍّ صعب؛ حيث كانا يقتصدان كثيراً في النفقات؛ لكي يُحافظا على سُمعتهما، ولا يمدَّا يد الحاجة إلى الآخرين، وقد بلغ بهما الوضع حَدَّاً، بحيث إنَّهما صارا يستعملا ماء الحنفيَّة في المنزل للشرب والطبخ فقط. أمَّا لغسل الملابس ومَلء الحوض الموجود في باحة المنزل، وسقي حديقة المنزل، فإنَّهما كانا يستعملان ماء البئر، كما أنَّهما قاما ببناء غرفة صغيرة فوق البئر؛ لكي تقي الأشخاص الذين يُريدون إخراج الماء، مِن البئر الحَرَّ، وأشعَّة الشمس المُحرقة في فصل الصيف، والبرد والأمطار والثلوج في فصل الشتاء، كما أنَّ وجود مِثل هذه الغرفة الصغيرة، يمنع سقوط الأجسام الغريبة، والقاذورات، والأحجار، وغيرها في داخل البئر، وبالتالي تُحافظ على نظافة البئر.

لقد كان الأب وابنه يقومان - بنفسهما - بسحب الماء مِن البئر، ولم يستأجرا أحداً للقيام بهذا العمل.

وفي أحد الأيَّام، لاحظ الأب وابنه أنَّ الطبقة الطينيَّة، التي تُغطِّي سقف هذه الغرفة مِن الداخل، يُمكن أنْ تسقط على الأرض، أو في داخل البئر، أو يُمكن أنْ تسقط على رأس أحد، يُصادف وجوده في الغرفة في تلك اللحظة، ونظراً لأنَّهما لا يملكان المال اللازم لاستخدام عمَّال بناء، يقومون بصيانة السقف وترميمه، فقد قررَّا أنْ يقوما بنفسيهما بهذا العمل في يوم عطلة.

وبالفعل قاما في اليوم المُتَّفق عليه بتغطية فوهة البئر، بقطع الأخشاب، وقطعة مِن البساط، وبدءا بإزالة الطبقة الطينيَّة مِن السقف، وقاما بتجميع هذه القطع في باحة

١١١

المنزل، وصبَّا عليها الماء، حتَّى أصبحت ليِّنة طريَّة، وأخذ الأب يقوم بعمل البناء، وابنه يُناوله الطين، حتَّى انتهى الأب مِن تغطية سقف الغرفة بأكمله، بالطين المخلوط بالقَشِّ أو التبن، وبعد انتهاء العمل لاحظ الأب أنَّ خاتمه ليس موجوداً في إصبعه، فاعتقد في بادئ الأمر أنَّه نسيه إلى جانب الحوض، عندما كان يغسل يديه، ولكنَّه لم يعثر عليه هناك.

وظلَّ الأب يبحث عن خاتمه، على مدى يومين كاملين في كلِّ مكان، ولكنَّه لم يعثر على أيِّ أثرٍ، وتأثَّر كثيراً لضياع خاتمه، ويئس مِن إمكانيَّة العثور عليه، وظلَّ لفترة مِن الوقت يتحدَّث مع أهله وعياله عن الخاتم المفقود، وكان يتأسَّف كثيراً على ذلك، وبعد عِدَّة سنوات مِن هذه القضيَّة توفِّي الأب إثر نوبة قلبيَّة.

يقول الابن: بعد فترة مِن وفاة والدي، رأيته يوماً في المنام، وكنت أعلم أنَّه ميِّت، فاقترب مِنِّي، وسلَّم عليَّ، وسألني عن أحوالي، ثمَّ قال لي: يا ولدي، إنَّني مَدينٌ للشخص الفلاني بخمسمائة تومان، فأرجو أن تخلصني مِن العذاب.

استيقظ الولد مِن نومه، ولم يكترث بالحُلْم الذي رآه، ولم يعمل بما طلبه منه أبوه، وبعد فترة رأى الابن والده مَرَّة أُخرى في المنام، وكرَّر ما سبق أنْ طلبه منه، وعاتبه على عدم تلبية طلبه، فقال له الابن - وهو في المنام ويعلم أنَّ والده مَيِّت ـ: أعطني عَلامة؛ حتَّى أطمئن بأنَّك والدي.

قال له: أتذكر قبل عِدَّة سنوات، أنَّنا قُمنا - معاً - بتغطية سقف غرفة البئر بالطين، وبعدها اكتشفت أنَّ خاتمي مفقود، وبحثنا عنه في كلِّ مكان، فلم نعثر عليه.

قال الابن: نعم، أذكر ذلك.

قال الأب: إنَّ الشخص عندما يموت، تتَّضح له كثير مِن القضايا والأُمور المجهولة، فلقد عرفت بعد موتي أنَّ خاتمي أضعته داخل الطين الذي أصلحت به سقف الغرف، حيث انزلق الخَاتم مِن إصبعي عندما كنت أعِجن الطين وأقلبه. ولكي

١١٢

تطمئنَّ بأنِّي أبوك الذي أتحدَّث معك، عليك أنْ تُزيل الطين مِن السقف وتخلطه بالماء، حتَّى يُصبح طريَّاً عندها سوف تعثر على الخاتم.

في الصباح نفَّذ الولد ما قاله له أبوه، دون أنْ يُخبر أحداً بالأمر، فعثر بالفعل على خاتم والده.

يقول الابن: بعد ذلك ذهبت إلى السوق، للشخص الذي أخبرني به والدي، فسلَّمت عليه وسألته عن حاله، ثمَّ قلت له: هل أنَّ والدي مَدينٌ لك بمبلغ مِن المال؟

قال الرجل صاحب الدُّكَّان: لماذا تسأل مِثل هذا السؤال؟

قلت: أُريد أنْ أعرف حقيقة الأمر.

قال: أطلب والدك بخمسمائة تومان.

سألته: كيف كان ذلك؟

قال: جاءني أبوك يوماً إلى هنا، وطلب مِنِّي قرضاً بمبلغ خمسمائة تومان، فأعطيته المبلغ دون أنْ آخذ منه إيصالاً بذلك، وبعد فترة توفِّي والدك بالنوبة القلبيَّة.

ـ لماذا لم تُطالب بقرضك؟

قال الرجل: لأنِّي لم أكُن أملك وثيقة أو إيصالاً، ورأيت أنَّ مِن غير المُناسب أنْ أُطالب بالمبلغ، فقد لا تصدِّقونني.

سلَّم الابن المبلغ المذكور إلى الدائن صاحب الدُّكَّان، ونقل له القِصَّة مِن أوَّلها إلى آخرها (1) .

____________________

(1) المعاد، ج1.

١١٣

توقَّع الموت صباحاً ومساءً

جاء موسى العطَّار إلى أبي عبد الله الصادق (عليه السلام)، فقال له: يا ابن رسول الله، رأيت رؤيا هالتني: رأيت صِهراً لي مَيِّتاً، وقد عانقني، وقد خِفت أنْ يكون الأجل قد اقترب.

فقال: (يا موسى، توقَّع الموت صباحاً ومساءً؛ فإنَّه مُلاقينا، ومُعانقة الأموات الأحياء أطول لأعمارهم فما كان اسم صِهرك؟).

قال: حسين.

فقال: (أمَّا رؤياك تدلُّ على بقائك وزيارتك لأبي عبد الله الحسين { عليه السلام }) (1) .

____________________

(1) المعاد، ج1.

١١٤

ليس هناك ليلٌ وإنَّما هو ضوء ونور

قال رجل: يا رسول الله، هل في الجَنَّة مِن ليلٍ؟

قال: (وما هيَّجك على هذا؟).

قال: سمعت الله يذكر في الكتاب: ( ... وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيّاً ) (مريم)، والليل مِن البُّكْرة والعَشيِّ.

فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): (ليس هناك ليلٌ، وإنَّما هو ضوء ونور يَرد الغُدوَّ على الرواح والرواح على الغدوِّ، وتأتيهم طرف الهدايا مِن الله لمواقيت الصلوات، التي كانوا يُصلُّون فيها في الدنيا، وتُسلِّم عليهم الملائكة) (1) .

____________________

(1) المعاد، ج2.

١١٥

امرأة تدخل النار في هِرَّة حبستها

وأُخرى تدخل الجَنَّة في كلب سقته

عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: (اطَّلعت ليلة الإسراء على النار فرأيت امرأة تُعذَّب، فسألت عنها: فقيل: إنَّها ربطت هِرَّة، ولم تُطعمها، ولم تُسقها، ولم تدعها تأكل مِن خَشاش الأرض حتَّى ماتت، فعذَّبها بها بذلك.

واطَّلعت على الجَنَّة، فرأيت امرأة مومس، فسألت عنها: فقيل: إنَّها مَرَّت بكلب يلهث مِن العطش، فأرسلت إزارها في بئر، فعصرته في حلقه حتَّى روي فغفر الله لها) (1) .

____________________

(1) المعاد، ج2.

١١٦

البئر صدقة

خَرج سعد يُرافقه عدد مِن الأشخاص يوماً مِن المدينة، مع الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) في طريقهم إلى الحرب، وكانت أُمُّ سعد مريضة، حيث فارقت الحياة أثناء غياب ابنها، وكان سعد مُقاتلاً في جيش الإسلام ويُحبُّ والدته كثيراً، وعندما سمع بوفاتها لدى عودته تأثَّر كثيراً، فجاء إلى الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وقال له: أردت قبل سفري أنْ أُعطي صدقة عن والدتي، ولكنِّي لم أستطع، والآن حيث فارقت والدتي الدنيا هل ينفعها إذا قدَّمت صدقة عنها؟

فقال الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم): (نعم).

فقال سعد: ما هي أفضل صدقة أُقدِّمها لها؟

فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): (لقد رأيت أنَّ الجنود يُعانون أثناء الطريق مِن شَحَّة الماء، فبإمكانك أنْ تحفر بئراً في الطريق؛ لكي تستفيد منه القوافل التي تمرُّ مِن هناك، وتكون صدقة جارية لوالدتك).

فقام سعد - استجابة لأمر الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) - بحفر بئر على نيَّة والدته، وأسماه: بئر أُمَّ سعد وجعلها وقفاً للجميع (1).

____________________

(1) المعاد، ج2.

١١٧

غفر لك بالخوف فانظر كيف تكون فيما تستقبل

عن أبي حمزة الثمالي، عن علي بن الحسين (صلوات الله عليهما) قال: (إنَّ رجلاً ركب البحر بأهله، فكُسر بهم فلم ينجُ مِمَّن كان في السفينة إلاَّ امرأة الرجل، فإنَّها نجت على لوح مِن ألواح السفينة، حتَّى لجأت إلى جزيرة مِن جُزر البحر، وكان في تلك الجزيرة رجل يقطع الطريق، ولم يَدَعْ لله حُرمَة إلاَّ وانتهكها، فلم يعلم إلاَّ والمرأة قائمة على رأسه، فرفع رأسه إليها، فقال: إنسيَّة أمْ جِنِّيَّة؟

قالت: إنسيَّة.

فلم يكلِّمها كلمة، حتَّى جلس منها مجلس الرجل مِن أهله، فلمَّا أنْ همَّ بها اضطربت، فقال لها: ما لك تضطربين؟

قالت: أفرق مِن هذا، وأومأت بيدها إلى السماء.

قال: وما صنعتِ مِن هذا الشيء، وإنَّما أستكرِهُك استكراهاً، فأنا - والله - أولى بهذا الفَرق والخوف أحقُّ منك.

[ قال: ] فقام ولم يُحدِث شيئاً، ورجع إلى أهله، وليست له هِمَّة إلاَّ التوبة والمُراجعة.

فبينا هو يمشي، إذ صادفه راهب يمشي في الطريق، فحميت عليهما الشمس، فقال الراهب للشابِّ: ادعُ الله يُظلُّنا بغَمامة، فقد حَميت علنيا الشمس.

فقال الشابُّ: ما أعلم أنَّ لي عند رَبِّي حسنة، فأتجاسر على أنْ أسأله شيئاً.

قال: فأدعو أنا، وتؤمِّن أنت؟

قال: نعم.

فأقبل الراهب يدعو والشابُّ يؤمِّن، فما كان بأسرع مِن أنْ أظلَّتهما غَمامة، فمشيا

١١٨

تحتها مَليَّاً مِن النهار، ثمَّ تفرَّقت الجادَّة جادَّتين، فأخذ الشابُّ في واحدة، وأخذ الراهب في واحدة، فإذا السحابة مع الشابِّ، فقال الراهب: أنت خيرٌ مِنِّي، لك استُجيب، ولم يُستجَب لي، فأخبرني ما قِصَّتك، فأخبره بخبر المرأة.

فقال: غُفر لك ما مضى؛ حيث دخلك الخوف، فانظر كيف تكون فيما تستقبل) (1) .

____________________

(1) المعاد، ج2.

١١٩

المرء مع مَن أحبَّ

عن أنس قال: جاء رجل مِن أهل البادية - وكان يُعجبنا أنْ يأتي الرجل مِن أهل البادية يسأل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) - فقال يا رسول الله: متى قيام الساعة؟

فحضرت الصلاة، فلمَّا قضى (صلى الله عليه وآله وسلم) صلاته، قال: (أين السائل عن الساعة؟).

قال: أنا يا رسول الله.

قال: (أعددت لها؟).

قال: والله، ما أعددت لها مِن كثيرِ عملٍ، صلاة ولا صوم، إلاَّ أنِّي أُحبُّ الله ورسوله.

فقال له النبي (صلى الله عليه وآله): (المرء مع مَن أحبَّ).

قال أنس: فما رأيت المسلمين فرحوا بعد الإسلام بشيء أشدُّ مِن فرحهم بهذا (1) .

____________________

(1) المعاد، ج3.

١٢٠

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

الإيمان ، السعي والعمل ووضع الآخرة ومنازلها نصب أعينهم.

وتعتبر هذه الآيات ـ أيضا ـ تأكيدا ثانيا لدعوة القرآن إلى أفضل السبل وأكثرها استقامة. في البداية تبدأ هذه الآيات بالتوحيد وتقول :( لا تَجْعَلْ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ ) إنّها لم تقل : لا تعبد مع الله إلها آخر ، بل تقول :( لا تَجْعَلْ ) هذا اللفظ أشمل وأوسع ، إذ هو يعني : لا تجعل معبودا آخر مع الله لا في العقيدة ، ولا في العمل ، ولا في الدعاء ، ولا في العبودية. بعد ذلك توضح الآية النتيجة القاتلة للشرك :( فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَخْذُولاً ) .

إنّ استعمال كلمة «القعود» تدل على الضعف والعجز ، فمثلا يقال : قعد به الضعف عن القتال. ومن هذا التعبير يمكن أن نستفيد أنّ للشرك ثلاثة آثار سيئة جدّا في وجود الإنسان ، هي :

١ ـ الشرك يؤدي إلى الضعف والعجز والذّلة ، في حين أنّ التوحيد هو أساس الحركة والنهوض والرفعة.

٢ ـ الشرك موجب للذم واللوم ، لأنّه خط انحرافي واضح في قبال منطق العقل ، ويعتبر كفرا واضحا بالنعم الإلهية ، لذا فالشخص الذي يسمح لنفسه بهذا الانحراف يستحق الذم.

٣ ـ الشرك يكون سببا في أن يترك الله سبحانه وتعالى الإنسان إلى الأشياء التي يعبدها ، ويمنع عنه حمايته ، وبما أنّ هذه المعبودات المختلفة والمصطنعة لا تملك حماية أي إنسان أو دفع الضرر عنه ، ولأنّ الله لا يحمي مثل هؤلاء ، لذا فإنهم يصبحون «مخذولين» أي بدون ناصر ومعين.

إنّ هذا المعنى يتّضح بشكل آخر في آيات قرآنية أخرى ، إذ نقرأ مثلا في الآية (٤١) من سورة العنكبوت :( مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ أَوْلِياءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً ، وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ ) .

بعد تبيان هذا الأصل التوحيدي ، تشير الآيات إلى واحدة من أهم توجيهات

٤٤١

الأنبياءعليهم‌السلام للإنسان ، فالآية ـ بعد أن تؤكد مرّة أخرى على التوحيد ـ تقول :( وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً ) .

كلمة «قضاء» لهم مفهوم توكيدي أكثر من كلمة «أمر» وهي تعني القرار والأمر المحكم الذي لا نقاش فيه. وهذا أوّل تأكيد في هذه القضية. أما التأكيد الثّاني الذي يدل على أهمية هذا القانون الإسلامي ، فهو ربط التوحيد الذي يعتبر أهم أصل إسلامي ، مع الإحسان إلى الوالدين.

أمّا التأكيدان الثّالث والرّابع فهما يتمثلان في معنى الإطلاق الذي تفيده كلمة «إحسان» والتي تشمل كل أنواع الإحسان. وكذلك معنى الإطلاق الذي تفيده كلمة «والدين» إذ هي تشمل الأم والأب ، سواء كانا مسلمين أو كافرين.

أمّا التأكيد الخامس فهو يتمثل بمجيء كلمة «إحسانا» نكرة لتأكيد أهميتها وعظمتها(١) .

ومن الضروري الانتباه إلى هذه الملاحظة ، وهي أنّ الأمر عادة ما ينصبّ على الأمور الإيجابية ، بينما جاء هنا في مفاد السلب والنفي (وقضى ألا تعبدوا ...) فما هو يا ترى سبب ذلك؟

من الممكن أن نقول : إنّ جملة( وَقَضى ) تتضمن تقديرا جملة إيجابية ، يمكن أن نقدرها بالقول : وقضى ربّك أن تعبده ، ولا تعبد أي شيء سواه. أو من الممكن أن تكون جملة( أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ) التي تتضمن «النفي والإثبات» جملة إيجابية واحدة ، إذ هي تحصر العبادة بالله دون غيره ثمّ تنتقل إلى أحد مصاديق هذه العبادة متمثلا بالإحسان إلى الوالدين فتقول :( إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما ) بحيث يحتاجان الى الرعاية والاهتمام الدائم. فلا تبخل عليها بأي

__________________

(١) يعتقد البعض أنّ كلمة «إحسان» تتعدى غالبا بـ «إلى» مثل قولنا «أحسن إليه». وفي بعض الأحيان قد تتعدى بالباء. وقد يكون هذا التعبير لإظهار المباشرة ، أي إظهار المحبّة والاحترام مباشرة وبدون أي واسطة. وهذا في الواقع تأكيد سادس في هذه القضية.

٤٤٢

شكل من إشكال المحبّة واللطف ولا تؤذيهما أو تجرح عواطفهما بأقل إهانة حتى بكلمة «أف» :( فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما ) (١) بل :( وَقُلْ لَهُما قَوْلاً كَرِيماً ) وكن أمامهما في غاية التواضع( وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ ، وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً ) .

الأهمية الاستثنائية لاحترام الوالدين :

إنّ الآيتين السابقتين توضحان جانبا من التعامل الأخلاقي الدقيق ، والاحترام الذي ينبغي أن يؤدّيه الأبناء للوالدين :

١ ـ من جانب أشارت الآية إلى فترة الشيخوخة ، وحاجة الوالدين في هذه الفترة إلى المحبّة والاحترام أكثر من أي فترة سابقة ، إذ الآية تقول :( إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍ ) . من الممكن أن يصل الوالدان إلى مرحلة يكونان فيها غير قادرين على الحركة دون مساعدة الآخرين ، وقد لا يستطيعون بسبب الكهولة رفع الخبائث عنهم ، وهنا يبدأ الاختبار العظيم للأبناء ، فهل يعتبرون وجود مثل هذين الوالدين دليل الرحمة ، أو أنّهم يحسبون ذلك بلاء ومصيبة وعذابا هل عندهم الصبر الكافي لاحترام مثل هؤلاء الآباء والأمهات ، أم أنّهم يوجهون الإهانات ويسيئون الأدب لهم ، ويتمنون موتهم؟!

٢ ـ من جانب آخر تقول الآية :( فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍ ) بمعنى لا تظهر عدم ارتياحك أو تنفرك منهم( وَلا تَنْهَرْهُما ) ثمّ تؤكّد مرّة أخرى على ضرورة التحدّث معهم بالقول الكريم ، إذ اللسان مفتاح إلى القلب( وَقُلْ لَهُما قَوْلاً كَرِيماً ) .

٣ ـ من جانب ثالث تأمر الآية بالتواضع لهم ، هذا التواضع الذي يكون علامة

__________________

(١) هناك قولان حول «إما» في جملة «إما يبلغنّ» فالفخر الرازي في تفسيره يذهب إلى أنّها مركّبة من «إن» الشرطية و «ما» الشرطية ، وهي بذلك تفيد التأكيد. أما البعض الآخر كصاحب «الميزان» مثلا ، فيرى أنّها مركبة من «إن» الشرطية و «ما» الزائدة ، التي جاءت هنا لتسمع لـ «إن» الشرطية بالدخول على الفعل المؤكد بنون التأكيد.

٤٤٣

المحبة ، ودليل الود لهم :( وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ ) .

٤ ـ أخيرا تنتهي الآيات ، إلى توجيه الإنسان نحو الدعاء لوالديه وذكرهم بالخير سواء كانا أمواتا أم أحياء ، وطلب الرحمة الرّبانية لهما جزاء لما قاما به من تربية( وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً ) .

إضافة إلى ما ذكرناه ، فثمّة ملاحظة لطيفة أخرى يطويها التعبير القرآني ، هذه الملاحظة خطاب للإنسان يقول : إذ أصبح والداك مسنّين وضعيفين وكهلين لا يستطيعان الحركة أو رفع الخبائث عنهما ، فلا تنس أنّك عند ما كنت صغيرا كنت على هذه الشاكلة أيضا ، ولكن والديك لم يقصرا في مداراتك والعناية بك ، لذا فلا تقصّر أنت في مداراتهم ومحبتهم.

وقد تحدث من قبل بعض الأبناء انحرافات فيما يتعلق بحقوق الوالدين واحترامهم والتواضع لهم ، وقد يصدر هذا العقوق عن جهل في بعض الأحيان ، وعن قصد وعلم في أحيان أخرى ، لذا فإنّ الآية الأخيرة في بحثنا هذا تشير إلى هذا المعنى بالقول :( رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما فِي نُفُوسِكُمْ ) . وهذه إشارة إلى أنّ علم الله ثابت وأزلي وأبدي وبعيد عن الاشتباهات ، بينما علمكم أيّها الناس لا يحمل هذه الصفات! لذلك فإذا طغى الإنسان وعصى أوامر خالقه في مجال احترام الوالدين والإحسان إليهم ، ولكن بدون قصد وعن جهل ، ثمّ تاب بعد ذلك وأناب ، وندم على ما فعل وأصلح ، فإنّه سيكون مشمولا لعفو الله تعالى :( إِنْ تَكُونُوا صالِحِينَ فَإِنَّهُ كانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُوراً ) .

«أوّاب» مشتقة من «أوب» على وزن «قوم» وهي تعني الرجوع مع الإرادة ، في حين أن كلمة «رجع» تقال للرجوع مع الإرادة أو بدونها ، لهذا السبب يقال للتوبة «أوبة» لأنّ حقيقة التوبة تنطوي على الرجوع عن الأمر (المنكر) ، إلى الله ، مع الإرادة.

وبما أنّ كلمة «أوّاب» هي صيغة مبالغة ، لذا فإنّها تقال للأشخاص الذين كلما

٤٤٤

أذنبوا رجعوا إلى خالقهم. وقد تكون صيغة المبالغة في «أوّاب» هي إشارة إلى تعدّد عوامل العودة والرجوع إلى الله. فالإيمان بالله أوّلا ، والتفكير بحكمة يوم الجزاء والقيامة ثانيا ، والضمير الحي ثالثا ، والتفكير بعواقب ونتائج الذنوب رابعا ، كل هذه العوامل تعمل سوية لأجل عودة الإنسان من طريق الانحراف ، نحو الله.

* * *

بحوث

أوّلا : احترام الوالدين في المنطق الإسلامي

بالرغم من أنّ العاطفة الإنسانية ومعرفة الحقائق ، يكفيان لوحدهما لاحترام ورعاية حقوق الوالدين ، إلّا أنّ الإسلام لا يلتزم الصمت في القضايا التي يمكن للعقل أن يتوصل فيها بشكل مستقل ، أو أن تدلّ عليها العاطفة الإنسانية المحضة ، لذلك تراه يعطي التعليمات اللازمة إزاء قضية احترام الوالدين ورعاية حقوقهما ، بحيث لا يمكن لنا أن نلمس مثل هذه التأكيدات في الإسلام إلّا في قضايا نادرة أخرى.

وعلى سبيل المثال يمكن أن تشير الفقرات الآتية إلى هذا المعنى :

ألف : في أربع سور قرآنية ذكر الإحسان إلى الوالدين بعد التوحيد مباشرة ، وهذا الاقتران يدل على مدى الأهمية يوليها الإسلام للوالدين.

ففي سورة البقرة آية (٨٣) نقرأ :( لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللهَ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً ) .

وفي سورة النساء آية (٣٦) نقرأ قوله تعالى :( وَاعْبُدُوا اللهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً ) . أما الآية (١٥١) من سورة الأنعام فإنّها تقول :( أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً ) . وفي الآية التي نبحثها نقرأ قوله تعالى :( وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً ) .

ب ـ إنّ مسألة احترام الوالدين ورعاية حقّهما من المنزلة بمكان ، حتى أنّ

٤٤٥

القرآن والأحاديث والرّوايات الإسلامية ، تؤكدان معا على الإحسان للوالدين حتى ولو كانا مشركين ، إذ نقرأ في الآية (١٥) من سورة لقمان :( وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ، فَلا تُطِعْهُما وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً ) .

ج ـ رفع القرآن الكريم منزلة شكر الوالدين إلى منزلة شكر الله تعالى ، إذ تقول الآية (١٤) من سورة لقمان :( أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ ) .

وهذا دليل على عمق وأهمية حقوق الوالدين في منطق الإسلام وشريعته ، بالرغم من أن نعم الله التي يشكرها الإنسان لا تعدّ ولا تحصى.

د ـ القرآن الكريم لا يسمح بأدنى إهانة للوالدين ، ولا يجيز ذلك ، ففي حديث عن الإمام الصادقعليه‌السلام قال : «لو علم الله شيئا هو أدنى من أف لنهى عنه ، وهو من أدنى العقوق ، ومن العقوق أن ينظر الرجل إلى والديه فيحدّ النظر إليهما»(١) .

ه ـ بالرغم من أنّ الجهاد يعتبر من أهم التعاليم الإسلامية ، إلّا أنّ رعاية الوالدين تعتبر أهم منه ، بل لا يجوز إذا أدّى الأمر إلى أذية الوالدين ، بالطبع هذا إذا لم يكن الجهاد واجبا عينيا ، وإذ توفرّ العدد الكافي من المتطوعين له.

في حديث عن الإمام الصادقعليه‌السلام ، أنّ رجلا جاء إلى الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقال له ، إنّي أحبّ الجهاد ، وصحتي جيدة ، ولكن لي أمّ لا ترتاح لذلك ، فما ذا أفعل ، فأجابهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إرجع فكن مع والدتك فو الذي بعثني بالحق لأنسها بك ليلة خير من جهاد في سبيل الله سنة»(٢) .

ولكن عند ما يجب الجهاد وجوبا عينيا ، وتصبح بلاد الإسلام في خطر يلزم الجميع بالحضور ولا تقبل جميع الاعذار حينئذ بما فيها عدم رضاء الوالدين.

وما قلناه عن الجهاد ينطبق كذلك على الواجبات الكفائية الأخرى ، وكذلك المستحبات.

__________________

(١) يلاحظ : جامع السعادات ، النراقي ، ج ٢ ، ص ٢٥٨.

(٢) جامع السعادات ، ج ٢ ، ص ٢٦٠.

٤٤٦

و ـ عن الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «إيّاك وعقوق الوالدين فإنّ ريح الجنّة توجد من ميسرة ألف عام ولا يجدها عاقّ»(١) .

هذا التعبير ينطوي على إشارة لطيفة ، إذ أن مثل هؤلاء الأشخاص (العاقين) ليسوا لا يدخلون الجنّة وحسب ، بل إنّهم يبقون على مسافة بعيدة جدا منها ولا يستطيعون الاقتراب منها.

وينقل «سيد قطب» حديثا عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جاء فيه : «عن بريدة عن أبيه، أنّ رجلا كان في الطواف حاملا أمّه يطوف بها ، فرأى النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فسأله : هل أديت حقّها؟ فأجابهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا ، ولا بزفرة واحدة».

ويقصد بالزفرة الواحدة الوجعة الواحدة ، أو الطلقة الواحدة ، التي تغشى الأم حين الولادة والوضع(٢) .

إذا أردنا نطلق العنان للقلم في هذا المجال ، فسيطول بنا المقام ونبتعد عن التّفسير، لكن ـ بصراحة ـ يجب أن نعترف بأنّ كل ما يقال في هذا المجال فهو قليل ، لأنّ الوالدين حق العيش والحياة على الولد.

في نهاية هذه الفقرة ، أشير إلى أنّ الوالدين ـ في بعض الأحيان ـ يقترحان على الأبناء أشياء غير منطقية وحتى ـ غير شرعية ، طبعا في مثل هذه الحالات لا تجب الطاعة ، ولكن من الأفضل أن يتسم التعامل معهما بالهدوء والمنطق ، وأن تتم عملية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بأحسن وجه.

أخيرا نختم الكلام بحديث عن الإمام الكاظمعليه‌السلام قال فيه : إنّ رجلا جاء النّبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يسأله عن حق الأدب على ابنه ، فأجابهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقوله : «لا يسميه باسمه، ولا يمشي بين يديه ، ولا يجلس قبله ، ولا يستسب له»(٣) (اي لا يفعل شيئا يؤدي

__________________

(١) جامع السعادات ، ج ٢ ، ص ٢٥٧.

(٢) في ظلال القرآن ، ج ٤ ، ص ٢٢٢٢ ، الطبعة العاشرة.

(٣) نور الثقلين ، ج ٣ ، ص ١٤٩.

٤٤٧

الى أن يسبّ الناس والديه).

ثانيا : بحث حول كلمة «قضى» :

«قضى» أصلها من كلمة «قضاء» بمعنى الفصل في شيء ما ، إمّا بالعمل وإمّا بالكلام. وقال بعض : إنّ معناها هو وضع نهاية لشيء ما ، وفي الواقع فإنّ المعنيين متقاربان. وبما أنّ الفصل ووضع النهاية لهما معاني واسعة ، لذا فإنّ هذه الكلمة لها استخدامات في مفاهيم مختلفة ، فالقرطبي في تفسيره مثلا ذكر لها ستة معان هي :

* «قضى» بمعنى «أمر» كما في قوله تعالى :( وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ) .

* «قضى» بمعنى «خلق» كما في قوله آية (١٢) من سورة فصلت( فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ ) .

* «قضى» بمعنى «حكم» كما في الآية (٧٢) من سورة طه( فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ ) .

* «قضى» بمعنى الانتهاء من شيء ، ومثله الآية (٤١) من سورة يوسف( قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ ) .

* «قضى» بمعنى «أراد» كما في سورة آل عمران آية (٤٧) :( إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ) .

* «قضى» بمعنى «عهد» كما في الآية (٤٤) من القصص :( إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ ) (١) .

وقد أضاف أبو الفتوح الرازي إلى هذه المعاني قوله :

* «قضى» بمعنى «الإخبار والإعلام» مثل قوله تعالى :( وَقَضَيْنا إِلى بَنِي

__________________

(١) تفسير القرطبي ، ج ٦ ، ص ٣٨٥٣.

٤٤٨

إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ ) (١) .

ونستطيع أن نضيف إلى هذا المعنى ، معنى آخر تكون فيه «قضى» بمعنى «الموت» كما في آية (١٥) من سورة القصص( فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ ) .

المهم هنا ، أنّ بعض المفسّرين وضع أكثر من (١٣) معنى لكلمة في القرآن الكريم(٢) .

ولكن لا يمكن اعتبار كل هذه معاني متعدّدة لكلمة «قضى» لأنها تنتهي إلى مفهوم واحد. لذلك فإنّ أغلب المعاني المذكورة أعلاه هي من باب اختلاط المصداق بالمفهوم. لأنّ كل واحدة منها ، ما هي في واقعها إلّا مصداقا للمفهوم الكلّي والجامع المتمثل في «الفصل ووضع النهاية» فالقاضي بحكمه يضع نهاية للدعوى ، والخالق يضع نهاية لما خلق ، والمخبر بأخباره يضع نهاية لما يريد أن يوضحه. ولكن لا يمكن الإنكار أنّ بعض هذه المصاديق ، ومن كثرة الاستخدام قد وضعت معان جديدة لكلمة «قضاء» مثل الحكم أو إعطاء الأوامر.

ثالثا : بحث حول معنى كلمة «أف» :

أصل «أف» كلّ مستقذر من وسخ وقلامة ظفر وما يجري مجراهما ، ويقال ذلك لكلّ مستخف به استقذارا له. ويمكن أن نشتق منه فعلا ، كمثل قولنا : قد أففت لكذا ، إذا قلت ذلك استقذارا له. (مفردات الراغب صفحة ١٩).

بعض المفسّرين مثل «القرطبي» في الجامع ، و «الطبرسي» في «مجمع البيان» قالوا : «أف» و «تف» في الأصل بمعنى وسخ الظفر حيث أنّه ملوّث وتافة أيضا ، وينقل الرازي عن الأصمعي أنّ «الأف» وسخ الأذن ، و «التف» وسخ الظفر ، حتى توسع المعنى ليشمل كل ما يتأذى منه ، وتذكر اللفظة أيضا عند كل مكروه يصل

__________________

(١) تفسيره أبو الفتوح الرازي ، ج ٧ ، ص ١٨٨.

(٢) وجوه القرآن للتفليسي ، ص ٢٣٥.

٤٤٩

إليهم(١) .

وهناك معان أخرى لكلمة «أف» منها أنّها تعني الشيء القليل ، أو الأذى من الرائحة الكريهة.

البعض الآخر قال : إنّ أصل هذه الكلمة مأخوذ من «الصوت» الذي يخرج من الفم عند ما ينفخ الإنسان لتنظيف بدنه أو ملابسه من الغبار الموجود عليها ، وهذا الصوت يشبه كلمة «أوف» أو «أف» وقد أستفيد منها فيما بعد للتعبير عن التنفّر وعدم الراحة من الأشياء الصغيرة بالخصوص.

وخلاصة الذي ذكرناه أعلاه ، وبالإضافة إلى قرائن أخرى يمكن القول بأنّ هذه الكلمة هي في الأصل «اسم صوت» والمقصود بالصوت هنا ما يصدره الإنسان من فمه عند ما يتذمّر أو ينفخ لإزالة شيء ما. ثمّ بعد ذلك تحول «اسم الصوت» إلى كلمة يمكن اشتقاق الأفعال منها ، وبذلك تكون المعاني التي ذكرناها مصاديق لهذا المفهوم العام والشامل.

ومنتهى الكلام هنا ، أنّ الآية تريد أن تقول بعبارة قصيرة وفصيحة وبليغة ، إنّ احترام الوالدين ورعاية حقوقهما مهمان للغاية ، بحيث لا يجوز تجاوز الحدود أمامهما أو إيذاؤهما حتى بمستوى ما تحمله كلمة «أف» من معنى.

* * *

__________________

(١) التّفسير الكبير ، الفخر الرازي ، ج ٢ ، ص ١٨٨.

٤٥٠

الآيات

( وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً (٢٦) إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ وَكانَ الشَّيْطانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً (٢٧) وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوها فَقُلْ لَهُمْ قَوْلاً مَيْسُوراً (٢٨) وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً (٢٩) إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (٣٠) )

التّفسير

رعاية الاعتدال في الإنفاق والهبات :

مع هذه الآيات يبدأ الحديث عن فصل آخر من سلسلة الأحكام الإسلامية الأساسية ، التي لها علاقة بحقوق القربى والفقراء والمساكين ، والإنفاق بشكل عام ينبغي أن يكون بعيدا عن كل نوع من أنواع الإسراف والتبذير ، حيث تقول الآية( وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً ) .

٤٥١

«تبذير» من «بذر» وهي تعني بذر البذور ، إلّا أنّها هنا تخص الحالات التي يصرف فيها الإنسان أمواله بشكل غير منطقي وفاسد. بتعبير آخر : إنّ التبذير هو هدر المال في غير موقعه ولو كان قليلا ، بينما إذا صرف في محلّه فلا يعتبر تبذيرا ولو كان كثيرا. ففي تفسير العياشي ، عن الإمام الصادقعليه‌السلام ، نقرأ قوله : «من أنفق شيئا في غير طاعة الله فهو مبذر ومن أنفق في سبيل الله فهو مقتصد»(١) .

وينقل عن الإمام الصادقعليه‌السلام أيضا أنّه دعا برطب (لضيوفه) فاقبل بعضهم يرمي بالنوى ، فقال : «لا تفعل إن هذا من التبذير ، وإنّ الله لا يحب الفساد»(٢) .

وفي مكان آخر نقرأ ، أنّ رسول الهدىصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مرّ بسعد وهو يتوضأ ، فقال : ما هذا السرف يا سعد؟ قال : أفي الوضوء سرف؟ فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «نعم وإن كنت على نهر جار»(٣) .

وبالنسبة لذوي القربى هناك كلام كثير بين المفسّرين ، هل هم عموم القربى؟ أو المقصود بهم قربى الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم باعتباره هو المخاطب بالآية؟

في الأحاديث الكثيرة التي سنقرؤها وفي الملاحظات التي سنقف عندها سنعرف بأنّ ذوي القربى هم قربى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وبعض الرّوايات تشير إلى أنّ الآية تتحدث عن قصّة فدك التي أعطاها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بنته فاطمة الزهراءعليها‌السلام .

ولكن مخاطبة الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في كلمة «وآت» لا تعتبر دليلا على اختصاص هذا الحكم به ، لأنّ جميع الأحكام الواردة في هذه المجموعة من الآيات كالنهي عن الإسراف ومداراة السائل والمسكين ، والنهي عن البخل ، هي أحكام عامّة بالرغم من أنّها تخاطب الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

وهناك نقطة ينبغي الالتفات إليها ، وهي مجيء النهي عن التبذير والإسراف ،

__________________

(١) يراجع تفسير الصافي عند بحث هذه الآية.

(٢) المصدر السابق.

(٣) المصدر السابق.

٤٥٢

بعد إعطاء الأمر بأداء حق الأقرباء والمساكين حتى لا يقع الإنسان تحت تأثير عاطفة القرابة أو الصدقة فيعطي لهذا المسكين أو ابن السبيل أو القريب أكثر ممّا يستحق أو يتحمل ، فيعتبر ذلك إسرافا وتبذيرا ، وهما مذمومان دائما.

الآية التي بعدها هي لتأكيد النهي عن التبذير( إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ ، وَكانَ الشَّيْطانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً ) .

أمّا كيف كفر الشيطان بنعم ربّه ، فهذا واضح ، لأنّ الله أعطاه قدرة وقوة واستعدادا وذكاء خارقا للعادة ، ولكن الشيطان استفاد من هذه الأمور في غير محلّها ، أي في طريق إغواء الناس وإبعادهم عن الصراط المستقيم.

أما كون المبذرين إخوان الشياطين ، فذلك لأنّهم كفروا بنعم الله ، إذ وضعوها في غير مواضعها. ثمّ إنّ استخدام «إخوان» تعني أنّ أعمالهم متطابقة ومتناسقة مع أعمال الشيطان ، كالأخوين اللذين تكون أعمالهما متشابهة ، أو أنّهم قرناء وجلساء للشيطان في الجحيم ، كما توضح ذلك الآية (٣٩) من سورة الزخوف بعد أن تشرك الشيطان والمذنب في العذاب :( وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ ) .

أمّا لما ذا جاءت كلمة الشيطان هنا بصيغة الجمع «شياطين»؟ قد يعود ذلك إلى أنّ لكل إنسان غافل عن خالقه وربّه ، شيطان قرين له ، كما نرى هذا المعنى واضحا في الآية (٣٦) و (٣٨) من الزخرف :( وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ حَتَّى إِذا جاءَنا قالَ يا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ ) .

ثمّ أنّ الإنسان قد لا يملك ما يعطيه للمسكين أحيانا ، وفي هذه الحالة ترسم الآية الكريمة طريقة التصرّف بالنحو الآتي :( إِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوها فَقُلْ لَهُمْ قَوْلاً مَيْسُوراً ) .

«ميسور» مشتقّة من «يسر» وهي بمعنى الراحة والسهولة ، أمّا هنا فلها مفهوم واسع ، يشمل كل كلام جميل وسلوك مقرون بالاحترام والمحبّة ، وإذا فسّرها

٤٥٣

البعض بمعنى الوعد للمستقبل فإنّ ذلك أحد مصاديقها.

نقرأ في الرّوايات ، أنّه بعد نزول هذه الآية ، كان إذا جاء شخص محتاج إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والرّسول لا يملك شيئا لإعطائه ، قال لهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «يرزقنا الله وإيّاكم من فضله»(١) .

وقديما عند ما كان السائل يطرق الباب ، ويطلب منّا شيئا لا نستطيع إعطاءه إيّاه ، نقول له «العفو» وذلك تأكيدا على أنّ لهذا السائل حق علينا يطالبنا به ، وإذا كنّا لا نملك قضاء حاجته وإعطاءه حقّه ، فإننا نطلب منه العفو.

الاعتدال هو شرط في كل الأمور بما فيها الإنفاق والمساعدة الآخرين ، لذلك تنتقل الآية للقول :( وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ ) . وهذا تعبير جميل يفيد أنّ الإنسان ينبغي أن يكون ذا يد مفتوحة ، لا أن يكون مثل البخلاء وكأنّ أيديهم مغلولة إلى أعناقهم بخلا وخشية من الإنفاق. ولكن في نفس الوقت تقرّر الآية أنّ بسط اليد لا ينبغي أن يتجاوز الحد المقرر والمعقول في الصرف والبذل والعطاء ، حتى لا ينتهي المصير إلى الملامة والابتعاد عن الناس :( وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً ) .

و «تقعد» مشقّة من «قعود» وهي كناية عن التوقف عن العمل. أمّا تعبير ملوم» فهو يشير إلى أنّ عاقبة الإسراف لا تؤدي إلى توقف الإنسان عن عمله ونشاطه وحسب ، وإنّما تؤدي إلى إيقاع لوم الناس عليه.

«محسور» مشتقّة من كلمة «حسر» وهي في الأصل تعني خلع الملابس رفع الثوب وإظهار بعض البدن من تحته ، لذا يقال للمقابل الذي لم يلبس الخوذة والدرع ، بأنه «حاسر». وأيضا يقال للحيوان الذي يتعب من كثرة المشي بأنّه «حسير» أو «حاسر» بسبب استنفاذ طاقته وقدرته.

__________________

(١) يراجع تفسير مجمع البيان ، عند تفسير الآية.

٤٥٤

وقد توسع هذا المفهوم فيما بعد بحيث أصبح يطلق على كل إنسان عاجز عن الوصول إلى هدفه بأنّه «حسير» أو «محسور» أو «حاسر».

أمّا كلمة «الحسرة» والتي تعني الغم والحزن ، فهي مشتقة من هذه الكلمة ، وتطلق على الإنسان الفاقد لقابلية حل المشاكل بسبب الضعف.

وكذلك بالنسبة للإنفاق ، فهو إذا تجاوز الحد المقرّر بحيث يستنفذ طاقة الإنسان ، فإنّه يؤدي إلى أن يصاب صاحبه بالغم والحزن بسبب الضعف عن أداء واجباته ومسئولياته ، وينقطع اتصاله وارتباطه بالناس.

وبعض الرّوايات التي تتحدث عن سبب نزول الآية تؤكّد هذا المعنى ، إذ أنّها تتحدث أنّ الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يوما في بيته فجاءه سائل يسأله إعطاءه ملابس ، ولمّا لم يكن مع الرّسول ما يعطي السائل ، فقد خلع لباسه وأعطاه إيّاه ، الأمر الذي أدّى إلى بقاء الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في البيت وعدم خروجه في ذلك الوقت للصلاة.

وقد كان هذا الحادث سببا لتقولات الكفار المنافقين ، الذين قالوا : إنّ الرّسول نائم ، أو إنّه في لهو أنساه صلاته. وبذلك أدّى هذا العمل إلى إيقاع اللوم شماتة الأعداء والانقطاع عن الأصحاب ، وأصبح بذلك مصداقا للملوم والمحسور ، عندها نزلت الآية أعلاه تنهي الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن تكرار هذا العمل.

أمّا عن التضاد القائم بين هذا الأمر ومسألة «الإيثار» فسنبحثه في الملاحظات القادمة إن شاء الله.

بعض الرّوايات تتحدث عن أنّ سبب نزول الآية ، هو أنّ الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يعطي ما يوجد في بيت المال إلى المحتاج بحيث إذا جاءه محتاج آخر ، فلن يجد شيئا يعطيه له ، فيلوم ذلك المحتاج الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويؤذيه ، لذلك صدرت التعليمات بأن لا ينفق كل ما في بيت المال لمواجهة هذه المشكلات.

سؤال : لما ذا يجب أن يكون هناك مساكين وفقراء ومحرومون حتى ننفق عليهم؟ أليس من الأفضل أن يعطيهم الله ما يريدون حتى لا يحتاجون إلى إنفاقنا؟

٤٥٥

الجواب : تعتبر الآية الأخيرة بمثابة جواب على هذا السؤال :( إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً ) . إنّه اختبار لنا ، فالله قادر على كل شيء ، ولكنّه يريد بهذا الطريق تربيتنا على روح السخاء والتضحية والعطاء.

إضافة إلى ذلك ، إذا أصبح أكثر الناس في حالة الكفاية وعدم الحاجة فإنّ ذلك يقود إلى الطغيان والتمرد( إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى ) ، لذلك من المفيد أن يبقوا في حد معين من الحاجة. هذا الحد لا يسبب الفقر ولا الطغيان. من ناحية أخرى يرتبط التقدير والبسط في رزق الإنسان بمقدار السعي وبذل الجهد (باستثناء بعض الموارد من قبيل العجزة والمعلولين) ، وهكذا تقتضي المشيئة الإلهية ببسط الرزق وتقديره لمن يشاء ، وهذا دليل الحكمة ، إذ تقضي الحكمة بزيادة رزق من يسعى ويبذل الجهد ، بينما تقضي بتضييقه لمن هو أقل جهدا وسعيا.

العلّامة الطباطبائي ينظر للعلاقة بين هذه الآية والتي قبلها في ضوء احتمال آخر فيقول في تفسير الميزان : «إنّ هذا دأب ربّك وسنته الجارية ، يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر لمن يشاء ، فلا يبسطه كل البسط ، ولا يمسك عنه كل الإمساك رعاية لمصلحة العباد ، إنّه كان بعباده خبيرا بصيرا أو ينبغي لك أن تتخلق بخلق الله وتتخذ طريق الاعتدال وتتجنب الإفراط والتفريط»(١) .

* * *

بحوث

أوّلا : من هم المقصودون بذي القربى؟

كلمة «ذي القربى» تعني الأرحام والمقربين ، وهناك كلام بين المفسّرين ،

__________________

(١) تفسير الميزان ، ج ١٣ ، ص ٨٤.

٤٥٦

حول المقصود بها ، إذ هل هو المعنى العام أو الخاص؟ ويمكن أن نلاحظ هنا بعض هذه الآراء :

* البعض يعتقد أنّ المخاطب بالآية جميع المؤمنين والمسلمين ، والغرض هو الحث على أداء حقوق الأقرباء.

* البعض الآخر يرى أنّ المخاطب في الآية هو الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والغرض هو إيصال حقوق أقرباء النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كخمس الغنائم ، أو غيرها ممّا يتعلق بها الخمس. أو بصورة عامّة تأدية كل الحقوق التي لهم في بيت المال.

لذلك نرى في روايات عديدة عند الشيعة والسنّة إنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعث إلى فاطمةعليها‌السلام بعد نزول هذه الآية ، ووهبها فدكا(١) .

ففي مصادر السنة مثلا نقرأ عن أبي سعيد الخدري الصحابي المعروف : «لما نزل قوله تعالى :( وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ ) أعطى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فاطمة فدكا»(٢) .

ويستفاد من بعض الرّوايات ، أنّ الإمام زين العابدينعليه‌السلام أثناء سيره إلى الشام بعد واقعة كربلاء ، استدلّ بهذه الآية( وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ ) في التعريف بنفسه وأهل بيته وعيال أبيه الحسينعليه‌السلام ، بأنّهم المعنيين بقوله تعالى : فيما كان أهل الشام يغمطونهم هذا الحق!(٣) .

ولكن ـ كما أشرنا سابقا ـ ليس هناك تعارض بين هذين التّفسيرين ، فالكل مكلفون بإيتاء حقوق ذوي القربى ، والرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذي اعتبر قائدا للأمّة

__________________

(١) فدك أرض معمورة وخصبة ، كانت بالقرب من خبير وعلى بعد (١٤٠) كم عن المدينة المنورة ، وفدك بعد خبير كانت مركزا لاستقرار يهود الحجاز [يراجع كتاب : مراصد الاطّلاع. موضوع فدك]. وبعد أن استسلم اليهود للنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بدون حرب ، أعطى الرّسول هذه الأرض إلى فاطمة الزّهراءعليها‌السلام وذلك وفقا للوقائع التأريخية الثابتة لدى الجميع ، لكنّها صودرت بعد وفاة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولأسباب سياسية وبقيت في أيدي الخلفاء إلى أن أعادها عمر بن عبد العزيز أيّام خلافته إلى العلويين.

(٢) نقل هذا الحديث «البذار» و «أبو يعلى» و «ابن أبي حاتم» و «ابن مردوية» عن «أبي سعيد» [لا حظ كتاب ميزان الاعتدال المجلد الثّاني صفحة (٢٨٨) وكنز العمال المجلد الثّاني صفحة (١٥٨)] وقد ورد هذا الحديث أيضا في تفسير مجمع البيان للشيخ الطبرسي عند حديثه عن هذه الآية ، وفي الدر المنثور أيضا وقد أخرجه عن طريق السنة والشيعة معا.

(٣) راجع تفسير نور الثقلين ، ج ٣ ، ص ٢٥٥.

٤٥٧

الإسلامية مكلّف أيضا بالعمل بهذه المسؤولية الكبيرة ، فأهل بيت النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هم في الواقع من أوضح مصاديق القربى لهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . والرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في طليعة المخاطبين بالآية الكريمة. لهذا السبب وهب الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حقوق ذوي القربى لهم ، فأعطى فاطمة فدكا ، وأجرى عليهم الأخماس وغير ذلك ، حيث كانت الزكاة أموالا عامّة محرمة على أهل بيت النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقرباه.

ثانيا : مصائب الإسراف والتبذير :

لا ريب في أنّ النعم الموجودة على الكرة الأرضية كافية لساكنيها ، بشرط واحد ، هو أن لا يبذروا هذه النعم بلا سبب ، بل عليهم استثمارها بشكل معقول وبلا إفراط أو تفريط ، والّا فإنّ هذه النعم ليست غير متناهية حتى لو أسيء استثمارها والتصرف بها. وقد يؤدي الإسراف والتبذير في منطقة معينة الى الفقر في منطقة أخرى ، أو إنّ إسراف وتبذير الناس في هذا الزمان يسبّب فقر الأجيال القادمة.

وفي ذلك اليوم الذي لم تكن فيه الأرقام والإحصاءات في متناول الإنسان ، حذّر الإسلام من مغبة الإسراف والتبذير في نعم الله على الأرض ، لذلك فالقرآن أدان في أماكن كثيرة وبشدّة المسرفين والمبذرين.

ففي الآيتين (١٤١) من الأنعام و (٣١) من الأعراف نقرأ قوله تعالى( وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ ) .

أمّا في غافر (٤٣) فنقرأ :( وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحابُ النَّارِ ) .

والآية (١٥١) من الشعراء تنهى عن طاعة المسرفين :( وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ ) .

أمّا الآية (٨٣) من يونس فتجعل الإسراف صفة فرعونية :( وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ ) .

والهداية ممنوعة عن المسرفين كما هو مفاد الآية (٢٨) من سورة غافر :( إِنَ

٤٥٨

اللهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ ) .

وأخيرا تتحدث الآية (٩) من سورة الأنبياء عن مصيرهم :( وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ ) .

وقد رأينا في الآية التي نبحثها أن الله تعالى جعل المسرفين إخوان الشياطين. والإسراف بمعناه الواسع هو الخروج وتجاوز الحد في أي عمل يقوم به الإنسان ، ولكنّها عادة تستخدم في المصروفات.

ومن آيات القرآن نفسها نستفيد أنّ الإسراف هو في مقابل التقتير ، بينما هناك طريق ثالث هو منزلة بين الأمرين ، كما في الآية (٦٧) من سورة الفرقان :( وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً ) .

ثالثا : الفرق بين الإسراف والتبذير :

في الواقع لا يوجد هناك بحث واضح عند المفسّرين في التفاوت الموجود بين الإسراف والتبذير ، ولكن عند التأمّل بأصل هذه الكلمات في اللغة ، يتبيّن أنّ الإسراف هو الخروج عن حدّ الاعتدال ، ولكن دون أن نسخر شيئا ، فمثلا نلبس ثيابا ثمينا بحيث أنّ ثمنه يعادل أضعاف سعر الملبس الذي نحتاجه ، أو أنّنا نأكل طعاما غاليا بحيث يمكننا إطعام عدد كبير من الفقراء بثمنه. كل هذه أمثلة على الإسراف ، وهي تمثّل خروجنا عن حدّ الاعتدال ، ولكن من دون أن نخسر شيئا.

أمّا كلمة «تبذير» فهي تعني الصرف الكثير ، بحيث يؤدي إلى إتلاف الشيء وتضييعه ، فمثلا نهيّئ طعام عشرة أشخاص لشخصين ، كما يفعل ذلك بعض الجهلاء ويعتبرون ذلك فخرا ، حيث يرمون الزائد في المزابل.

ولكن بالرغم من هذا التمييز ، لا بدّ من القول بأنّ كثيرا ما تستخدم هاتين الكلمتين للتدليل على معنى واحد ، وقد تتابعان في الجملة الواحدة لغرض التأكيد.

فالإمام علي في نهج البلاغة يقول : «ألا إنّ إعطاء المال في غير حقّه تبذير

٤٥٩

وإسراف وهو يرفع صاحبه في الدنيا ويضعه في الآخرة ، ويكرمه في الناس ويهينه عند الله».

وفي الآيات التي بحثناها رأينا أن الإسلام بحيث كثيرا على عدم الإسراف والتبذير إلى درجة أنّه نهى عن الإسراف في ماء الوضوء حتى إذا كان ذلك قرب نهر جار ، وحتى في نوى التمر. وعالم اليوم الذي بدأ يتحسّس الضائقة في بعض الموارد. أخذ يهتم بهذه الفكرة ، حتى بات يستفيد من كلّ شيء ، فهو مثلا يستفيد من فضولات المنازل في صنع السماد ، ومن ماء المجاري لسقي المزروعات ، لأنّه أحسّ أنّ المصادر الطبيعية محدودة ، لذا لا يمكن التفريط بها بسهولة ، وإنّما ينبغي الاستفادة منها ضمن ما يعرف بـ «دورة المصادر الطبيعية».

رابعا : هل ثمّة تعارض بين الاعتدال في الإنفاق والإيثار؟

مع الأخذ ـ بنظر الإعتبار ـ الآيات أعلاه والتي تؤكّد ضرورة الاعتدال في الإنفاق، يثار سؤال مؤدّاه ، إنّ في سورة الدهر مثلا ، وآيات أخرى ، وفي مجموعة من الأحاديث والرّوايات ، ثمّة إشادة بالمؤثرين الذين يؤثرون غيرهم على أنفسهم في أحلك الساعات وأشدّ الظروف ويعطون ما يملكون للآخرين ، فكيف يا ترى نوفّق بين هذين المفهومين؟

إنّ الدقة في سبب نزول هذه الآيات مع قرائن أخرى تفيدنا في الوقوف على جواب هذا السؤال ، إذ يكون الأمر بمراعاة الاعتدال في المجالات التي يكون فيها العطاء والهبات الكثيرة سببا لاضطراب الإنسان في حياته أو بمصطلح القرآن يصبح فيها( مَلُوماً مَحْسُوراً ) وكذلك إذا كان الإيثار سببا في التضييق على أبنائه أو أنّه يهدّد تركيبة عائلته. وإذا لم يقع أي من هذين المحذورين ، فإنّ الإيثار يعتبر أفضل السبل ، نضيف إلى ذلك أنّ الاعتدال في الإنفاق يعتبر حكما عاما ، بينما الإيثار يعتبر حكما خاصا يرتبط بمصاديق خاصّة ، وليس ثمّة تضاد بين الاثنين.

* * *

٤٦٠

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496