الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٨

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل8%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 496

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 496 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 231510 / تحميل: 7122
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٨

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

وهذه النظرية اختارها ابن البطريق (ت ٥٣٣ ـ ٦٠٠ هـ)(١) ، ووافقه عليها غيره .

وإذا ثبت أنّ معنى المولى هو الأولى بالشيء ، يكون ذلك هو المراد من آية الولاية ؛ لأنّه المعنى الوحداني والأصل للفظ الولي ، وتختلف الموارد بحسبها ، فيكون مفاد آية الولاية مفاد قوله تعالى :( النّبِيّ أَوْلَى‏ بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ ) (٢) ، الأولى بالتصرّف ، ويشهد لذلك ما نقله ابن منظور في لسان العرب ، عن ابن الأثر قوله : ( وكأن الولاية تشعر بالتدبير والقدرة والفعل ، وما لم يجتمع ذلك فيها لم ينطلق عليه اسم الوالي )(٣) ، وقريب من هذا المعنى ما ذكره بعض اللغويين في معاجمهم اللغوية .

الاستدلال على المستوى القرآني :

إنّ الآية المباركة :( إِنّمَا وَلِيّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالّذِينَ آمَنُوا ) تضمّنت دلالات وافرة لإثبات المطلوب ، ومراعاة للاختصار نكتفي بالإشارة المفهمة لبعض منها :

١ – إنّ صيغة التعبير في الآية الشريفة جعلت الولاية بمعنى واحد ، حيث قال :( إِنّمَا وَلِيّكُمُ اللهُ و ) فلو كانت ولاية الله تعالى تختلف عن ولاية( الّذِينَ آمَنُوا الّذِينَ يُقِيمُونَ الصّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ ) لكان الأنسب في التعبير أن تفرد بالذكر ولاية أخرى للمؤمنين ؛ لكي تحول

ـــــــــــــ

(١) عمدة عيون الأخبار ، ابن البطريق : ص ١١٤ ـ ١١٥ .

(٢) الأحزاب : ٦ .

(٣) لسان العرب : ابن منظور : ج ١٥ ص ٤٠٧ ؛ النهاية في غريب الحديث ، ابن الأثير : ج ٥ ص ٢٢٧ .

٦١

دون وقوع الالتباس ، نظير قوله تعالى :( قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ ) (١) ، فكرّر لفظ الإيمان في الموضعين ؛ بسبب تكرّر معنى الإيمان وتغايره فيهما .

إذن لابد أن تكون الولاية في الآية المباركة بمعنى واحد في جميع الموارد التي ذكرت فيها ، وهي الأصالة لله تعالى ، وبالتبع لرسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وللذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون .

وولاية الله تعالى في الآية المباركة ولاية عامّة وشاملة لولاية التصرف ، والتدبير ، والنصرة وغيرها ، قال تعالى حكاية عن نبيّه يوسفعليه‌السلام :( أنت وليّي في الدّنيا والآخرة ) (٢) ، وقال عزّ وجلّ :( فَمَا لَهُ مِن وَلِيّ مِن بَعْدِهِ ) (٣) ، وغيرها من الآيات الدالة على ذلك .

٢ ـ إنّ الولاية التي هي بالأصل لله عزّ وجلّ جعلها لنبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالتبع ، فلرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الولاية العامّة على الأمة ، من الحكم فيهم ، والقضاء في جميع شؤونهم ، وعلى الأمة التسليم والطاعة المطلقة بلا ضيق أو حرج ، كما في قوله تعالى :( أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرّسُولَ ) (٤) ، وقوله تعالى :( وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ) (٥) .

خصوصاً وإنّنا لا نجد القرآن يعدّ النبي ناصراً للمؤمنين ولا في آية واحدة .

ـــــــــــــ

(١) التوبة : ٦١ .

(٢) يوسف : ١٠١ .

(٣) الشورى : ٤٤ .

(٤) النساء : ٥٩ .

(٥) الأحزاب : ٣٦ .

٦٢

وهذا المعنى من الولاية الثابتة لله تعالى ورسوله ، عُطفت عليه ولاية :( الذين آمنوا ) ، وهذا يعني أنّ الولاية في الجميع واحدة ؛ لوحدة السياق وهي ثابتة لله عزّ وجلّ بالأصالة ، ولرسوله وللذين آمنوا بالتبع والتفضّل والامتنان .

إذن الولاية الثابتة في الآية لعليعليه‌السلام هي ولاية التصرّف ، وإنّ معنى الولي في الآية تعني الأولى بالتصرّف ، وممّا يؤكّد ذلك مجيء لفظ ( وليّكم ) مفرداً ونسب إلى الجميع بمعنى واحد ، والوجه الذي ذكره المفسّرون لذلك هو أنّ الولاية ذات معنى واحد ، لله تعالى أصالة ولغيره بالتبع .

الاستدلال على المستوى الروائي :

هناك عدّة من القرائن والشواهد الروائية لإثبات المطلوب :

أوّلاً : لو كانت الولاية الثابتة لعلي بن أبي طالبعليه‌السلام بمعنى النصرة ، لما وجد فيها مزيد عناية ومزيّة ومدح لعليعليه‌السلام ؛ لأنّها موجودة بين جميع المؤمنين :( وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضَهُمْ أَولِياءُ بَعْضٍ ) (١) ، وعليعليه‌السلام كان متصفاً بهذه المحبّة والنصرة للمؤمنين منذ أن رضع ثدي الإيمان مع صنوه المصطفىصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

ولكن لو أمعنّا النظر في الروايات الواردة عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عقيب

ـــــــــــــ

(١) التوبة : ٧١ .

٦٣

نزول آية الولاية ، لوجدنا أنها تثبت مويّة ومنقبة عظيمة لعليعليه‌السلام ، ففي الرواية أنّ الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال بعد نزول الآية :( الحمد لله الذي أتمّ لعلي نعمه ، وهيّأ لعلي بفضل الله إيّاه ) (١) .

وقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد نزول الآية أيضاً :( مَن كنت مولاه فعلي مولاه ، اللّهمّ والِ مَن والاه وعاد مَن عاداه ) (٢) ، إذاً في الآية الكريمة مزيد عناية تفترق عن تولّي المؤمنين بعضهم لبعض ، وليس تلك المزيّة العظيمة إلاّ ولاية التصرّف والإمرة .

ثانياً : إنّ الولاية التي خصّها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعليعليه‌السلام يوم غدير خم ، هي ولاية تدبير وتصرّف ؛ لأنّها نفس ولاية النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهذا ما نلمسه من كيفية إعلان الولاية من قِبلهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، حيث قال :( ألست أولى بكم من أنفسكم ) ، وهذه الولاية ـ التي هي ولاية تصرّف ـ هي نفسها الولاية التي تثبتها الآية الشريفة :( إنّما وليّكم ... ) لعليعليه‌السلام .

من هنا نجد أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عقّب ـ بعد نزول آية الولاية في حقّ عليعليه‌السلام ـ بقوله :( مَن كنت مولاه فعلي مولاه اللّهم والِ مَن والاه وعاد مَن عاداه ) ،

ـــــــــــــ

(١) الدر المنثور ، السيوطي : ج ٣ ص ١٠٦ .

(٢) مسند أحمد : ج ١ ص ٨٤ ، ص ١١٨ ، ص ١١٩ ، ص ١٥٢ ، ص ٣٣١ ، ج ٤ ص ٢٨١ ، ص ٣٧٠ ، ص ٣٧٢ ، ج ٥ ص ٣٤٧ ، ص ٣٦٦ ، ص ٣٧٠ ، سنن ابن ماجه : ج ١ ، ص ٤٣ ح ١١٦ ؛ الترمذي : ج ٥ ص ٢٩٧ ؛ المستدرك ، الحاكم النيسابوري : ج ٣ ص ١٠٩ ـ ١١٦ ، ص ١٣٤ ، ص ٣٧١ ، ص ٥٣٣ ؛ مجمع الزوائد ، الهيثمي : ج ٧ ص ١٧ ، ج ٩ ص ١٠٤ ـ ص ١٠٨ ص ١٦٤ ؛ وقال فيه : ( عن سعيد بن وهب رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح ) ؛ فتح الباري : ج ٧ ص ٦١؛ وقال فيه : ( فقد أخرجه الترمذي والنسائي وهو كثير الطرق جداً ، وقد استوعبها ابن عقدة في كتاب مفرد ، وكثير من أسانيدها صحاح وحسان ) ؛ صحيح ابن حبان : ج ١٥ ص ٣٧٦ وما بعد ، وغير ذلك من المصادر الكثيرة جداً ؛ فراجع .

٦٤

وهذا يكشف عن كون الولاية ولاية تصرّف ، لا سيّما إذا أخذنا بنظر الاعتبار ذلك الحشد المتنوع من الروايات الذي يؤكّد على علي بن أبي طالبعليه‌السلام ، ويقرن طاعته بطاعة الله ورسوله ، كل ذلك يكشف عن أن ولايتهعليه‌السلام هي ولاية التصرّف ، وأنّه الأولى بالتصرّف ؛ لذا قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حق عليعليه‌السلام :( مَن أطاعني فقد أطاع الله ، ومَن عصاني فقد عصى الله ، ومَن أطاعك فقد أطاعني ، ومَن عصاك فقد عصاني ) ، قال الحاكم : هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه(١) .

وعنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال :( مَن يريد أن يحيا حياتي ويموت موتي ويسكن جنّة الخلد التي وعدني ربّي ؛ فليتولّ علي بن أبي طالب فإنّه لن يخرجكم من هدى ولن يدخلكم في ضلالة ) ، قال الحاكم أيضاً : هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه(٢) .

وعن عبد الرحمان بن عثمان قال : سمعت جابر بن عبد الله يقول : سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو آخذ بضبع علي بن أبي طالب ، وهو يقول : (هذا أمير البررة ، قاتل الفجرة ، منصور مَن نصره مخذول مَن خذله ، ثم مدّ بها صوته ) ، قال الحاكم : هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه(٣) .

وغيرها الكثير من الروايات التي تشاركها بالمضمون ذاته .

ثالثاً : إنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم طلب من الله تعالى أن يشدّ عضده بأخيه

ـــــــــــــ

(١) المستدرك على الصحيحين ، الحاكم النيسابوري : ج٣ ص ١٢٨ ، تاريخ مدينة دمشق : ابن عساكر : ٤٢ : ص ٣٠٧ .

(٢) المستدرك على الصحيحين ، الحاكم النيسابوري : ج ٣ ص ١٢٨ ـ ١٢٩ .

(٣) المستدرك على الصحيحين ، الحاكم النيسابوري : ج ٣ ص ١٢٩ .

٦٥

عليعليه‌السلام ، كما شدّ الله تعالى عضد موسىعليه‌السلام بأخيه هارونعليه‌السلام ، فنزلت الآية :( إنّما وليّكم ) بشرى لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، بجعل عليعليه‌السلام وليّاً وخليفة من بعده ، وهذا يدلل على أنّ الولاية لعليعليه‌السلام لم تكن مجرّد نصرة ومحبّة ، بل كانت ولاية أولوية بالأمر بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، كما هو الحال في هارونعليه‌السلام ، باعتبار أولويته بالأمر والإمرة بعد موسىعليه‌السلام ، عندما خلّفه في قومه .

رابعاً : احتجاج أمير المؤمنينعليه‌السلام على أولويته بالأمر بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بآية الولاية ، حيث قالعليه‌السلام مخاطباً لجمع من الصحابة في مسجد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( أنشدكم الله : أتعلمون حيث نزلت : ( يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ ) ، وحيث نزلت : ( إِنّمَا وَلِيّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالّذِينَ آمَنُوا الّذِينَ يُقِيمُونَ الصّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ ) ، وحيث نزلت : ( وَلَمْ يَتّخِذُوا مِن دُونِ اللهِ وَلاَ رَسُولِهِ وَلاَ الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً ) ، قال الناس : يا رسول الله : أخاصّة في بعض المؤمنين ، أم عامة لجميعهم ؟ فأمر الله عزّ وجل نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يعلمهم ولاة أمرهم ، وأن يفسّر لهم من الولاية ما فسّر لهم من صلاتهم ، وزكاتهم ، وحجّهم ، فنصبني للناس بغدير خم ) (١) وهذا يكشف عن كون المراد بالآية هو الأولى .

وبذلك يتحصّل أنّ معنى الولي هو الأولى بالتصرّف ، وأنّ الآية بصدد جعل الولاية لعليعليه‌السلام بعد الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

ـــــــــــــ

(١) المناقب ، ابن المغازلي الشافعي : ص ٢٢٢ ، فرائد السمطين : ج ١ ص ٣١٢ ، ينابيع المودّة للقندوزي : ج ١ ص ٣٤٦ ، شواهد التنزيل ، الحسكاني : ج ٢ ص ٢٩٥ ، فرائد السمطين : ج ١ ص ٣١٢ .

٦٦

كيف تستدلّ الشيعة بشأن النزول ؟

الشبهة :

الشيعة يستدلّون بشأن نزول آية الولاية على الإمامة ؟

الجواب :

بعد أن أطبقت الأمّة وأجمع المحدّثون والمفسّرون على نزول الآية المباركة في الإمام عليعليه‌السلام مع صراحة الآية في إثبات الولاية ، ومباركة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للإمام عليعليه‌السلام بقوله :( الحمد لله الذي أتمّ لعلي النعمة ) ، لا يبقى أي مجال لمثل هذه التشكيكات والشبهات ، سواء كان الاستدلال بالآية استدلالاً مباشراً ، أم كان عن طريق شأن النزول ، الذي هو عبارة عن الأحاديث المتواترة والصحيحة والصريحة عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم التي أمرنا الله تعالى بالتمسّك بها بقوله :( وَمَا آتَاكُمُ الرّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا ) (١) ، وعليه فلا ينبغي التهاون والتقليل من شأن هذه الأحاديث القطعيّة ، كما يظهر ذلك من كلام صاحب الشبهة .

ويمكن أن نحقق استيعاباً جيداً لمسألة ولاية علي بن أبي طالبعليه‌السلام ؛ وذلك من خلال الآيات القرآنية والنصوص النبوية التي تعرّضت لبيان هذا المعنى ، فضلاً عمّا أشاعته آية الولاية من مناخ سائد حيال هذه المسألة ، من تقديم التهاني والتبريكات من قِبل الصحابة إلى عليعليه‌السلام الصحابة وإنشاد الشعر والمديح بهذه المناسبة العظيمة ، وهذا يكفي لسدّ كل منافذ الريب والتشكيك ، ومعالجة ما يطرأ على الأذهان من التباسات .

ـــــــــــــ

(١) الحشر : ٧ .

٦٧

الخلاصة

لا مجال لمثل هذه التشكيكات ، بعد أن أجمعت الأمة على نزول الآية في شأن عليعليه‌السلام ، وسواء كان الاستدلال بالآية ذاتها أم من طريق شأن النزول الثابت قطعاً كونه بخصوص عليعليه‌السلام فهو يثبت المطلوب ، ولا معنى للإصغاء لمثل هذه الأوهام .

المعروف أنّ عليّاً فقير فكيف يتصدّق ؟

الشبهة :

إنّ علياً كان فقيراً فكيف يتصدّق بالخاتم إيتاءً للزكاة ؟

الجواب :

ما أكثر المدّعيات التي تُرفع من دون أي دليل ولا برهان يدعمها ، ومن أغرب المدّعيات التي تُثار للتشكيك في صحّة نزول آية الولاية في الإمام عليعليه‌السلام هذا الإشكال الآنف الذكر ، إلا أنّنا توخّياً لدرء مثل هذه التشكيكات التي تطرأ على بعض الأذهان نقول :

أوّلاً : إنّ لفظ الزكاة لغةً شامل لكل إنفاق لوجه الله تعالى ، ونلمس هذا المعنى في عدّة من الآيات المباركة ، وكقوله تعالى:( وَأَوْصَانِي بِالصّلاَةِ وَالزّكَاةِ مَادُمْتُ حَيّاً ) (١) ، وكذا ما قاله القرآن بحق إبراهيم وإسحاق ويعقوبعليهم‌السلام :( وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصّلاَةِ وَإِيتَاءَ الزّكَاةِ ) (٢) ، وغيرها من الآيات التي تشاركها في المضمون ، ومن المعلوم أنّه ليس في شرائعهمعليهم‌السلام الزكاة المالية المصطلحة في الإسلام .

ـــــــــــــ

(١) مريم : ٣١ .

(٢) الأنبياء : ٧٣ .

٦٨

ومن هنا فقد استعمل القرآن لفظ الزكاة في الآية الشريفة بمعناها اللغوي الشامل لكل إنفاق لوجه الله تعالى أي الزكاة المستحبّة ( زكاة تطوّع ) ؛ ولذا نرى أنّ الجصاص ـ في أحكام القرآن ـ فهم أنّ المراد بالزكاة في الآية ، هي زكاة التطوّع ، حيث قال : ( قوله تعالى :( وَيُؤْتُونَ الزّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ ) ، يدلّ على أنّ صدقة التطوّع تسمّى زكاة ؛ لأنّ عليّاً تصدّق بخاتمه تطوّعاً ، وهو نظير قوله تعالى :( وَما آتَيْتُم مِن زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ ) (١) .

ثانياً : لو فرضنا أنّ المراد من الزكاة في الآية هي الزكاة الواجبة ، فليس من الغريب أن يمتلك الإمام عليعليه‌السلام أوّل نصاب من مال الزكاة وهو مقدار (٢٠٠ درهم) ، ومَن ملك ذلك لا يعدّ غنيّاً ، ولا يُطلق عليه اسم الغني شرعاً .

ثالثاً : بعد أن ثبت نزول الآية في الإمام عليعليه‌السلام بإجماع الأمة واتفاق المفسّرين والمحدّثين ، ولم ينكر أحد على الإمام عليعليه‌السلام تصدّقه بالخاتم ، وإنّما الكل فهم المزيّة والكرامة لهعليه‌السلام لا يبقى أي مجال للإنكار والتشكيك .

ومن هنا نلاحظ أنّ الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بادر المباركة للإمام عليعليه‌السلام عقيب نزول الآية الكريمة ، وقام الشعراء بإنشاء القصائد الطافحة بالمديح والثناء على الإمام عليعليه‌السلام ، كل ذلك نتيجة طبيعية للمناخ الذي أشاعته الآية في أوساط المسلمين ، من إثبات الولاية للإمام عليعليه‌السلام ، فإذا ثبت نزول الآية في الإمام عليعليه‌السلام بالدلائل والبيّنات القاطعة لا معنى للاستنكار والتشكيك ، خصوصاً وأنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حمد الله على هذه النعمة التي اتمّها لعليعليه‌السلام ، وبارك الصحابة بأقوالهم وأشعارهم للإمام عليعليه‌السلام تلك المنقبة .

ـــــــــــــ

(١) أحكام القرآن ، الجصاص : ج ٢ ص ٥٥٨ .

٦٩

الخلاصة

١ – إنّ لفظ الزكاة شامل لكلّ إنفاق لوجه الله تعالى واستعملها القرآن بذلك .

٢ ـ لو سلّمنا أنّ لفظ الزكاة في الآية استعمل في الزكاة الواجبة التي هي أقلّ نصابها ٢٠٠ درهم ، فإنّ مَن يملك هذا المبلغ لا يُعدّ غنيّاً شرعاً .

٣ – قام الإجماع على نزول آية الولاية في حق الإمام عليعليه‌السلام ، ولم ينكر أحد آنذاك ما استنكره صاحب الشبهة ، بل أنشد الشعر والمديح والثناء على الإمام عليعليه‌السلام ، مع مباركة الصحابة .

آية البلاغ تدلّ على أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يبلّغ سابقاً

الشبهة :

إنّ استدلال الشيعة بآية البلاغ على الإمامة يبطل كل الاستدلالات السابقة التي يستدلّون بها ؛ لأنّ آية البلاغ مدنية ، فتدل على أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يبلّغ سابقاً .

الجواب :

أوّلاً : لابد أن نفهم كيفية تعاطي الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مع المفاهيم والمبادئ الإسلامية المهمّة التي تمثّل الأساس في منظومة الدين الإسلامي ، والتي ينبغي التأكيد عليها من قِبلهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أكثر من غيرها ، ومن جملة المفاهيم الأساسية هي الإمامة ، حيث نلمس غاية الانسجام ومنتهى الملائمة بين جميع البيانات السابقة لإثبات الإمامة والتنصيص عليها ، فكل تلك المواقف والبيانات كانت تتناسب مع خطورة وأهميّة مبدأ كمبدأ الإمامة والولاية بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فلابد من تأسيسه وتشييد أركانه وجعله وعياً إسلامياً عاماً ، وآية البلاغ جاءت ضمن ذلك السياق وتلك الخلفية ، فهي نزلت في ذلك الظرف لتحمل في طيّاتها العديد من الأمور المهمّة التي تتعلّق بحقيقة الإمامة ، منها :

٧٠

١ ـ أنّها جاءت لتصرّح بقضية مهمة جداً ، وهي أنّ ترك تنصيب علي بن أبي طالبعليه‌السلام للولاية مساوق لترك تبليغ الرسالة بأكملها ، وهذا ما يتجلّى واضحاً عند التأمّل في الآية :( وَإِن لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النّاسِ ) (١) ، وعلى ضوء ذلك تعرف السر في نزول هذه الآية المباركة في أواخر حياة الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، حيث تكشف عن أهمية الإمامة والولاية في المنظومة الدينية ، ومن هذا المنطلق يظهر لك سبب ذلك الحشد المتنوّع من النصوص القرآنية والروائية التي تؤكّد على ضرورة وأهمية موقع الإمامة في الإسلام بأجمعه ؛ ذلك لكي ينطلق الإسلام في قيادة جديدة تكون في جميع مجالاتها وآفاقها امتداداً للقيادة النبوية ، لتبقى المسيرة مستمرة والرسالة محفوظة .

وممّا يؤكّد أهمية الإمامة والولاية هو ما نجده واضحاً في أقوال الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد تبليغ مقام الولاية وتعيين الولي للناس ، حيث قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( فليبلّغ الشاهد الغائب ) (٢) ، فإنّ اهتمامهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الشديد في إيصال خطابه الشريف إلى جميع المسلمين يكشف عن خطورة الأمر ، وأنّه ممّا تتوقّف عليه ديمومة الإسلام .

بالإضافة إلى ما يكتنف الآية المباركة من القرائن الحالية الكثيرة والواضحة الدالة على أهمية هذا الأمر ، وتأثيره المباشر على مسيرة الإسلام ، كنزولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حرّ الهجير والسماء صافية ، والمسلمون واقفون على الحصباء والرمضاء التي كادت تتوقّد من حرارة الشمس ، حتى أنّه نقل الرواة من حفّاظ الحديث وأئمّة التاريخ أنّه لشدّة الحر وضع بعض الناس ثوبه على رأسه ، وبعضهم استظلّ بمركبه ، وبعضهم استظلّ بالصخور ، ونحو ذلك .

ـــــــــــــ

(١) المائدة : ٦٧ .

(٢) كما جاء ذلك في أكثر المصادر الروائية والتفسيرية التي نقلت حديث الغدير ، وقد ذكر ابن حجر أنها (قد بلغت التواتر) ، لسان الميزان ، ابن حجر العسقلاني : ج ١ ص ٣ .

٧١

وكذلك أمرهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم برجوع مَن تقدّم ، وتقدّم مَن تأخّر .

مضافاً إلى حضور ذلك الجمع الغفير من الصحابة والمسلمين الذين حضروا لأداء مناسك الحج من سائر أطراف البلاد الإسلامية ، وغير ذلك من الأمور التي تدل على خطورة الأمر وأهميته .

٢ ـ إنّ آية البلاغ التي بلّغها الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في أواخر حياته ، جاءت تحمل في طيّاتها الإشارة إلى قضية مهمة جداً في الدين الإسلامي ، وهي تحديد معالم أطروحة الإمامة في الإسلام ، مؤكّدة على أنّ الإمامة شاملة لكل الأبعاد القيادية السياسية منها والحكومية والمرجعية وغيرها ، وأنّ منصب الخلافة والحكومة يمثّل أحد أبعاد الإمامة ، وهذا هو موضع النزاع مع أتباع مدرسة الخلفاء ، حيث إنّهم يختزلون دور الإمام في الحاكمية فقط ، فإذا لم يستلم الحكومة لا يكون إماماً ، على خلاف معتقد الشيعة الإمامية الاثني عشرية ، التي تعتقد أنّ منصب الحاكمية يمثّل أحد أبعاد الإمامة لا جميعها .

٣ ـ إنّ آية البلاغ جاء تبليغها بصيغة الإعلان الرسمي للولاية والإمامة والتتويج العام للإمام عليعليه‌السلام أمام المسلمين ، ويشهد لذلك كيفية التبليغ ، حيث جمع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الناس وأمر أن يردّ مَن تقدم منهم ومَن تأخّر عنهم في ذلك المكان ، وجمعت لهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أقتاب الإبل وارتقاها آخذاً بيد أخيه عليعليه‌السلام معمّماً له أمام الملأ صادعاً بإبلاغ الولاية ، ثم إنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم طلب بنفسه البيعة من الناس لعليعليه‌السلام ، وبادر الناس لبيعتهعليه‌السلام وسلّموا عليه بإمرة

٧٢

المؤمنين ، وهنّأوا النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعليّاًعليه‌السلام ، وأوّل مَن تقدّم بالتهنئة والبخبخة ، أبو بكر ثم عمر بن الخطاب وعثمان و...(١) ، وقد روى الطبري في كتابه الولاية بإسناده عن زيد بن أرقم أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال :( قولوا أعطيناك على ذلك عهداً من أنفسنا ، وميثاقاً بألسنتنا ، وصفقة بأيدينا ، نؤدّيه إلى أولادنا وأهلنا لا نبتغي بذلك بدلا ) (٢) .

ثم استئذان حسان بن ثابت من الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لنظم أبيات في الواقعة تدل على أنّه لم يفهم من الحديث غير معنى الخلافة والولاية .

وكذلك يؤكّد كل ما قلناه احتجاج أمير المؤمنين عليعليه‌السلام بحديث الغدير في مواضع عديدة ، حيث كان يحتج على أولئك الذين تركوا وصيّة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقولهعليه‌السلام : (أنشدكم بالله أمنكم مَن نصّبه رسول الله يوم غدير خُم للولاية غيري ؟ قالوا : اللهم ، لا ) ، وفي موضع آخر ( قال :أنشدكم بالله هل فيكم أحد قال له رسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مَن كنت مولاه ، فعلي مولاه ، اللّهمّ والِ مَن والاه وعاد مَن عاداه ، وانصر مَن نصره ، ليبلغ الشاهد الغائب ، غيري ؟ قالوا : اللّهمّ ، لا )(٣) .

ـــــــــــــ

(١) مسند أحمد : ج ٤ ص ٢٨١ ؛ المعيار والموازنة ، الإسكافي : ص ٢١٢ ؛ المعجم الكبير ، الطبراني : ج ٥ ص ٢٠٣ ؛ فيض القدير شرح الجامع الصغير : ج ٦ ص ٢٨٢ ح ١٢٠ ؛ تذكرة الخواص ، ابن الجوزي : ص ٣٦ ؛ نظم درر السمطين : ص ١٠٩ ؛ كنز العمال ، المتقي الهندي : ج ١٣ ص ١٣٤ ؛ شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ج ٥ ص ٨ ؛ المصنف لابن أبي شيبة الكوفي : ج ٧ ص ٥٠٣ ؛ شواهد التنزيل : الحاكم الحسكاني : ج ١ ص ٢٠٠ ؛ ثمار القلوب : ص ٦٣٧ ؛ وغيرها .

(٢) كتاب الولاية : محمد بن جرير الطبري : ص ٢١٤ ـ ٢١٦ .

(٣) انظر : مسند أحمد : ج ١ ص ٨٤ ؛ ج ٤ ص ٣٧٠ ؛ ج ٥ ص ٣٧٠ ؛ مجمع الزوائد ، الهيثمي : ج ٩ ص ١٠٤ ، ص ١٠٧ ؛ المصنف ، أبي شيبة الكوفي : ج ٧ ص ٤٩٩ ؛ كتاب السنّة : عمرو بن أبي عاصم : ص ٥٩١ ، ص ٥٩٣ ؛ خصائص أمير المؤمنين ، النسائي : ص ٩٦ ؛ مسند أبي يعلى : ج ١ ص ٤٢٨ ـ ٤٢٩ ح ٥٦٧ ؛ ج ١١ ص ٣٠٧ ح ٦٤٢٣ ؛ المعجم الصغير : الطبراني : ج ١ ص ٦٤ ـ ٦٥ ؛ المعجم الأوسط : ج ٢ ص ٣٢٤ ؛ المعجم الكبير : ج ٥ ص ١٧١ ؛ كنز العمال ، المتقي الهندي : ج ١١ ص ٣٣٢ ؛ الصواعق المحرقة ، ابن حجر الهيتمي : ص ١٩٥ ؛ وغيرها .

٧٣

٤ ـ لم يكتف الله تبارك وتعالى بكل البيانات السابقة من النبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتى أنزل في ولاية عليعليه‌السلام تلك الآيات الكريمة تتلى على مرّ الأجيال بكرةً وعشيّاً ؛ ليكون المسلمون على ذكر من هذه القضية في كل حين ، وليعرفوا رشدهم والمرجع الذي يجب عليهم أن يأخذوا عنه معالم دينهم ويتبعوه في قيادته .

٥ ـ لو اقتصر في تبليغ الإمامة على تلك البيانات الخاصة للرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمقتصرة على حضور بعض الصحابة ؛ لضاعت وأصبحت روايات ضعافاً ، ولما وصلت إلينا بشكل واضح ومتواتر كما جاءتنا آيات وروايات البلاغ ؛ وذلك بسبب منع تدوين حديث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في عهد الخلفاء ، ولتولّي بني أمية وأعداء أهل البيتعليه‌السلام تدوين الحديث فيما بعد .

الخلاصة

أوّلاً : إنّ تعاطي القرآن الكريم والرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مع المفاهيم الأساسية في الإسلام ـ كالإمامة ـ يختلف عن غيرها من المفاهيم الأخرى ؛ ولذا نجد أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أكّد عليها مراراً وشيّد أركانها ، مستثمراً كل مناسبة يمكن استثمارها في ذلك ، ومن هنا نلتمس أسباب كثرة البيانات والتصريحات المتكرّرة من الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؛ وذلك لكي يكون الاهتمام والتبليغ متناسباً مع أهمية ذلك الأمر ؛ ولذا نرى الانسجام والملائمة بين التبليغات النبوية ، والآيات القرآنية الواردة في هذا الصدد ، وبالخصوص آية البلاغ التي جاءت ضمن الاهتمامات القرآنية بمسألة الإمامة ، وقد حملت آية البلاغ العديد من المعطيات المهمة في مسألة الإمامة ، منها:

١ ـ إنّ الآية المباركة جاءت لتبيّن أنّ ترك تنصيب الإمام عليعليه‌السلام للولاية مساوق لترك تبليغ الرسالة بأجمعها ، كما هو واضح من قوله تعالى :( وَإِن لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلّغْتَ رِسَالَتَهُ ... ) وممّا يؤكّد أهمية هذا التبليغ للإمامة ملاحظة الظروف التي رافقت عملية التبليغ من شدّة الحرّ ، وأمر الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم برجوع المتقدّم ولحوق المتأخّر ، والجمع الغفير الذي حضرها ، كل ذلك يدل على أهمية الأمر وخطورته .

٧٤

٢ ـ إنّ تبليغ الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للآية في أواخر حياته جاء مؤكّداً على بيان أطروحة الإمامة في الإسلام ، وأنّها شاملة لكل الأبعاد القيادية السياسية والدينية والحقوقية والقضائية ، وأنّ منصب الخلافة والحكومة يمثّل أحد أبعاد الإمامة ، وهذا هو محل النزاع بين السنّة والشيعة ، حيث إنّ السنّة يختزلون دور الإمام في الحاكمية فقط .

٣ ـ إنّ آية البلاغ جاءت بصيغة الإعلان الرسمي لولاية الإمام عليعليه‌السلام كما هو واضح من خلال عملية التنصيب وطريقته ومباركة الصحابة له بالولاية وإنشاء الشعر ونحوها ، وكذلك احتجاجهعليه‌السلام بحديث الغدير في مناسبات عديدة على أحقّيّتهعليه‌السلام في الخلافة .

ثانياً : إنّ الله تعالى لم يقتصر على أمر الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالتبليغ لولاية الإمام عليعليه‌السلام ، بل هنالك عدّة من الآيات جاءت مؤكّدة لتلك الولاية لتتلى بكرةً وعشياً على مرّ الأجيال ، وتكون شاهدة وحجّة عليهم .

ثالثاً : لو اقتصر في تبليغ الولاية على البيانات الخاصة المقتصرة على حضور بعض الصحابة ، سوف يُعرّضها ذلك للضياع ، لا سيّما مع ملاحظة منع تدوين السنّة ، أو تكون من الأخبار الضعاف ، ولذا كان تبليغها في واقعة الغدير كفيلاً بأن يجعلها تصل إلى حدّ التواتر وإجماع المسلمين ، الذي لا يمكن تجاوزه .

لا وجود لاسم علي في القرآن

الشبهة :

إنّ القرآن الكريم لم ينص على إمامة عليعليهم‌السلام وإلاّ لذكر اسمه فيه .

٧٥

تمهيد:

لكي تكون الإجابة واضحة لابد من الالتفات إلى نقطتين أساسيتين ، هما :

الأُولى : القرآن تبيان لكل شيء

لا ريب أن القرآن هو الكتاب المنزل لهداية الناس فيه تبيان كل شيء ، والسنّة النبوية مفصّلة ومبيّنة له ، قال تعالى :( وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذّكْرَ لِتُبَيّنَ لِلنّاسِ مَا نُزّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلّهُمْ يَتَفَكّرُونَ ) (١) ، فأحدهما مكمّل للآخر ، والإسلام كلّه ، من عقائد وأحكام وسائر علومه وأُصوله موجود في القرآن الكريم ، أمّا شرحه وتفسيره وتجسيده ، فنجده في سنّة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من خلال حديثه وسيرته المباركة ؛ ولذا نجد أنّ الله تعالى قرن طاعته بطاعة رسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، كما في قوله تعالى :( يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ ) (٢) ، وقوله عزّ وجلّ :( يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَوَلّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ ) (٣) ، وكذلك قرن معصية الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بمعصيته تعالى ، حيث

ـــــــــــــ

(١) النحل : ٤٤ .

(٢) النساء : ٥٩ .

(٣) الأنفال : ٢٠ .

٧٦

قال :( وَمَن يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَإِنّ لَهُ نَارَ جَهَنّمَ خَالِدِينَ فَيهَا أَبَداً ) (١) ، وقوله تعالى :( فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنّي بَرِي‏ءٌ مّمّا تَعْمَلُونَ ) (٢) ، وقال تعالى أيضاً :( فَلاَ وَرَبّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتّى‏ يُحَكّمُوكَ فِيَما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمّا قَضَيْتَ وَيُسَلّمُوا تَسْلِيماً ) (٣) ، وغيرها من الآيات الكريمة .

الثانية : يجب اتباع ما أمر به الله ورسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

إنّ الله تعالى لم يجعل الخيرة للمؤمنين فيما يقضي الله ورسوله به ، كما في قوله تعالى :( وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلّ ضَلاَلاً مّبِيناً ) (٤) ، وبيّن الله تعالى أنّ الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حجّة على الخلق في قوله وفعله ، وأنّ الله جعله إماماً يقتدى به ، فقال تعالى :( وَمَا آتَاكُمُ الرّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا ) (٥) ، وقال أيضاً :( وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاّ وَحْيٌ يُوحَى ) (٦) ، وهذه مفردة مهمة جداً يجب الالتفات إليها جيداً .

وهناك روايات كثيرة متضافرة تؤكّد وتحث على الأخذ بسنّة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وتنهى عن الإعراض عن سنّتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والاكتفاء بالقرآن وحده ، وكان ذلك رائجاً ومعرفاً في أقوال الصحابة وتعاملهم ، من ذلك ما ورد في صحيح البخاري عن علقمة ، عن عبد الله قال : ( لعن الله الواشمات

ـــــــــــــ

(١) الجن : ٢٣ .

(٢) الشعراء : ٢١٦ .

(٣) النساء : ٦٥ .

(٤) الأحزاب : ٣٦ .

(٥) الحشر : ٧ .

(٦) النجم : ٣ ـ ٤ .

٧٧

الموتشمات والمتنمصات والمتفلجات للحسن ، المغيّرات خلق الله ، فبلغ ذلك امرأة من بني أسد يقال لها : أم يعقوب ، فجاءت فقالت : إنّه بلغني أنّك لعنت كيت وكيت ، فقال : ومالي لا ألعن مَن لعن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومَن هو في كتاب الله ، فقالت : لقد قرأت ما بين اللوحين فما وجدت فيه ما تقول ، قال : لئن كنت قرأتيه لقد وجدتيه ، أما قرأت :( وَمَا آتَاكُمُ الرّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا ) (١) ؟ قالت : بلى ، قال : فإنّه قد نهى عنه )(٢) ، وكذا وردت هذه الرواية بنصها في صحيح مسلم(٣) .

ومن الروايات التي وردت عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في هذا المجال ، ما جاء في سنن أبي داود والترمذي وابن ماجه ، ومسند أحمد عن أبي عبد الله بن أبي رافع عن أبيه أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال :( لا ألفين أحدكم متكئاً على أريكته يأتيه الأمر من أمري ممّا أمرت به أو نهيت عنه فيقول : لا ندري ، ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه ) (٤) ، وفي مسند أحمد بلفظ( ما أجد هذا في كتاب الله ) (٥) .

ومنها ما ورد في مسند أحمد أيضاً ، عن أبي هريرة قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( لا أعرفنّ أحداً منكم أتاه عنّي حديث وهو متكئ في أريكته ،

ـــــــــــــ

(١) الحشر : ٧ .

(٢) صحيح البخاري : ج ٣ ص ٢٨٤ ح ٤٨٨٦ .

(٣) صحيح مسلم : ج ٣ ص ١٦٧٨ ح ٢١٢٥ باب تحريم فعال الواصلة والمستوصلة .

(٤) انظر : سنن أبي داود السجستاني ، باب لزوم السنّة : ج ٤ ص ٢٠٥ ح ٤٦٠٥ ؛ سنن الترمذي : ج ٤ ص ١٤٤ ح ٢٨٠١ ، كتاب العلم ؛ باب ما نهى عنه ؛ سنن ابن ماجه ، المقدّمة : ج ١ ص ٦ ـ ٧ ، باب تعظيم حديث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والتغليظ على مَن عارضه .

(٥) مسند أحمد : ج ٦ ص ٨ .

٧٨

فيقول : أتلوا عليّ به قرآناً ) (١) ، وقال حسان بن ثابت ، كما في مقدّمة الدارمي : ( كان جبريل ينزل على النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالسنّة كما ينزل عليه بالقرآن )(٢) ، إلى غير ذلك من الروايات والأقوال ، وإنّما هذه نبذة عمّا ورد في الحثّ على الأخذ بسنّة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والنهي عن مخالفته والتشديد على مَن يهمل السنّة بحجة الاكتفاء بكتاب الله .

وعلى هذا الأساس يتضح أنّ جميع أحكام الإسلام موجودة في القرآن الكريم ، إلاّ أنّه لا يمكن معرفة تفاصيلها والوقوف على حقائقها من دون الرجوع إلى سنّة الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فإنّنا في إقامة الصلاة ـ مثلاً ـ لا نعرف كيف نصلّي من دون أن نأخذ من حديث الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كيفيّتها وشروطها وعدد ركعاتها وسجداتها وأذكارها ومبطلاتها ، وكذلك في الحج ، حيث لا يمكن أداء مناسكه من دون الرجوع إلى سنّتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واستيضاح شروطه وواجباته ومواقيته وأشواط الطواف وصلاته ، وتفاصيل السعي والتقصير وسائر مناسك الحج الأخرى .

إذن لابدّ من الرجوع إلى القرآن والسنّة النبوية معاً لأخذ تعاليم الإسلام منهما ، أمّا مَن أراد الاكتفاء بالقرآن وحده دون السنّة ، فأدنى ما نقول بحقّه : إنّه جاهل بما ورد في القرآن نفسه ، الذي يدعو لإطاعة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ( وَمَا آتَاكُمُ الرّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا ) (٣) ، وقد قال الألباني في هذا المجال : ( فحذار أيّها المسلم أن تحاول فهم القرآن مستقلاً

ـــــــــــــ

(١) مسند أحمد : ج ٢ ص ٣٦٧ ؛ سنن ابن ماجه ، المقدمة : ج ١ ص ٩ ـ ١٠ ح ٢١ ، باب تعظيم حديث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والتغليظ على مَن عارضه .

(٢) سنن الدارمي ، المقدّمة : ج ١ ص ١٤٥ ، باب السنّة قاضية على كتاب الله .

(٣) الحشر : ٧ .

٧٩

عن السنّة ، فإنّك لن تستطيع ذلك ولو كنت في اللغة سيبويه زمانك )(١) ، فمقولة حسبنا كتاب الله مقولة مخالفة لصريح القرآن الكريم .

الجواب :

بعد تلك الإطلالة السريعة نقول لصاحب الشبهة بأنّ عدم ذكر اسم عليعليه‌السلام صريحاً في القرآن يرجع إلى الأسباب التالية :

أوّلاً : عدم ذكر الاسم لحكمة إلهيّة

إنّ عدم ذكر اسم علي في القرآن لعلّه لحكمة إلهية خفيت علينا ، إذ ما قيمة عقولنا كي تحيط بكل جوانب الحكم والمصالح الإلهية ، فكم من الأمور التي قد خفيت أو أُخفيت علينا مصالحها ، قال تعالى :( يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا لاَ تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ ) (٢) ، والاعتراض على حكم الله تعالى خلاف التسليم والخضوع لأمره عزّ وجلّ .

ثانياً : الرسول الأكرم نصّ على إمامة عليعليه‌السلام

إنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد نصّ على إمامة علي أمير المؤمنينعليه‌السلام باسمه الصريح كما في حديث الغدير المتواتر ، وحديث الدار ، وحديث المنزلة ، وغيرها في مواطن كثيرة جداً ، فإذا ثبت هذا بشكل قاطع عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو القرآن الناطق الذي لا ينطق عن الهوى ، وقد أقام الحجّة علينا بأنّ الإمام بعده عليعليه‌السلام تثبت إمامته بلا ريب ، وإذا لم يذكر القرآن اسم عليّ

ـــــــــــــ

(١) صفة صلاة النبي ، الألباني : ص ١٧١ .

(٢) المائدة : ١٠١ .

٨٠

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

الآيات

( وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كانَ خِطْأً كَبِيراً (٣١) وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلاً (٣٢) وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً (٣٣) وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلاً (٣٤) وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً (٣٥) )

التّفسير

ستة أحكام مهمّة :

في متابعة للأحكام الإسلامية التي أثارتها الآيات السابقة ، تتحدّث هذه الآيات عن ستة أحكام إسلامية أخرى وردت في ست آيات ، بعبارات قصيرة ومعان كبيرة ، تأخذ بلباب القلوب.

٤٦١

أوّلا : تشير الآية إلى عمل قبيح وجاهلي هو من أعظم الذنوب ، فتنهى عنه :( وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ ) فرزق هؤلاء ليس عليكم( نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ ) أمّا علّة الحكم فهي :( إِنَّ قَتْلَهُمْ كانَ خِطْأً كَبِيراً ) .

هذه الآية تفيد أنّ الوضع الاقتصادي للعرب في الجاهلية كان صعبا وسيئا.

بحيث أنّهم كانوا يتقلون أبناءهم في بعض الأحيان خوف العيلة والفقر.

وهناك كلام بين المفسّرين فيما إذا كان العرب في الجاهلية يدفنون البنات أحياء وحسب ، أو أنّهم كانوا يقتلون الأبناء أيضا خوفا من الفقر!

البعض يعتقد أنّ الآيات تتحدث عن دفن البنت وهي حيّة ، هذا العمل الذي كان شائعا في الجاهلية لسببين :

الأوّل : يتمثل في الخوف من وقوعهن في الأسر أثناء الحروب ، الأمر الذي يجعل الأعراض والنواميس تحت رحمة العدو.

أمّا الثّاني : فيعود إلى خوفهم من الفقر وعدم تمكنهم من توفير المؤونة للبنات اللاتي لا يقمن بعمل إنتاجي ، ويقتصر دورهن على الاستهلاك فقط. صحيح أنّ الولد في مطلع حياته لا ينتج ، لكنّه في عرف عرب الجاهلية يعتبر رأسمالا ثمينا ، لا يمكن التفريط به.

البعض الآخر من المفسّرين يعتقد أن هناك نوعين من القتل ، النوع الأوّل يشمل البنات ، لحفظ الناموس حسب اعتقادهم الخاطئ. أمّا النوع الثّاني فسببه الفقر. وهو يشمل البنات والبنين معا.

ظاهر الآية يدل على هذا المعنى ، لوجود ضمير الجمع المذكر في الآية في «قتلهم» وهذا الضمير يطلق في اللغة العربية على الولد والبنت معا ، وبالتالي فإنّه يستبعد اختصاصه بالبنات وحدهن.

أمّا ما يقال من أنّ الولد قادر على الإنتاج ، ويعتبر وجوده رأسمالا للمستقبل ، فهذا صحيح في حال وجود القدرة المالية ، أمّا في حالة عدم القدرة على تأمين

٤٦٢

حياة هؤلاء الأولاد فالراي الثّاني هو الأصح لهذا الدليل.

المهم أنّ هذا التصرف الجاهلي يرتبط بعقيدة وهمية تقول : إنّ الأب والأم هما الرازقان، بينما الله سبحانه وتعالى يقول : اطردوا هذا التفكير الشيطاني من أذهانكم وابذلوا سعيكم ووسعكم والله يؤمن رزقكم ورزقهم.

وفي الوقت الذي تستغرب فيه ارتكاب الجاهليين لهذه الجرائم بحق النوع البشري ، فإنّ عصرنا الحاضر ـ وفي أكثر مجتمعاته رقيا وتقدما ـ يعيد تكرار هذه الجريمة ولكن بأسلوب آخر ، إذ أنّ العمليات الواسعة في إسقاط الجنين وقتله خوفا من الضائقة المالية وازدياد عدد السكان ، هي نموذج آخر للقتل ، (للمزيد راجع تفسير الآية (١٥١) من سورة الإنعام).

إنّ تعبير «خشية إملاق» إشارة لطيفة إلى الدافع الوهمي الشيطاني ورفضه ، حيث يفيد التعبير أنّ الوهم ومجرّد الخوف هو الذي يتحكم بهذا السلوك المحرم ، لا الدوافع الحقيقية.

كما يجب الانتباه إلى أنّ «كان» في( كانَ خِطْأً كَبِيراً ) هي فعل ماض ، يفيد هنا التأكيد على أنّ قتل الأبناء يعتبر من الذنوب العظيمة التي كانت معروفة ، منذ القدم بين البشر ، وأنّ الفطرة الإنسانية السليمة تحمل دوافع الرفض والإدانة لمثل هذا السلوك الذي لا يختص بزمان معين دون غيره.

ثانيا : الآية التي بعدها تشير إلى ذنب عظيم آخر هو الزنا( وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلاً ) وفي هذا التعبير القرآني تمت الإشارة إلى ثلاث نقاط :

ألف ـ لم تقل الآية : لا تزنوا ، بل قالت : لا تقربوا هذا العمل الشائن ، وهذا الأسلوب في النهي فضلا عمّا يحمله من تأكيد ، فإنّه يوضح أنّ هناك مقدمات تجر إلى الزنا ينبغي تجنبها وعدم مقاربتها ، فخيانة العين تعتبر واحدة من المقدمات ، والسفور والتعري مقدمة أخرى ، الكتب السيئة والأفلام الملوّثة والمجلات الفاسدة ومراكز الفساد كل واحدة منها تعتبر مقدمة لهذا العمل.

٤٦٣

كذلك فإنّ الخلوة بالأجنبية (يعني خلوة المرأة والرجل الأجنبي عليها في مكان واحد ولوحدهما) يعتبر عاملا في إثارة الشهوة.

وأخيرا فإنّ امتناع الشباب عن الزواج خاصة مع ملاحظة الصعوبات الموضوعة أمام الطرفين ، هي من العوامل التي قد تؤدي إلى الزنا. والآية نهت عن كل ذلك بشكل بليغ مختصر ، ولكنّا نرى في الأحاديث والرّوايات نهيا مفصلا عن كل واحدة من هذه المقدمات.

ب ـ إنّ جملة( إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً ) بتأكيداتها الثلاثة المستفادة من «إن» والفعل الماضي «كان» وكلمة «فاحشة» تكشف عن فظاعة هذا الذنب.

ج ـ إنّ جملة( ساءَ سَبِيلاً ) توضح حقيقة أنّ هذا العمل «الزنا» يؤدي إلى مفاسد أخرى في المجتمع.

فلسفة تحريم الزنا :

يمكن الإشارة إلى خمسة عوامل في فلسفة تحريم الزنا ، وهي :

١ ـ شياع حالة الفوضى في النظام العائلي ، وانقطاع العلاقة بين الأبناء والآباء. هذه الرابطة التي تختص بكونها سببا للتعارف الاجتماعي ، بل إنّها تكون سببا لصيانة الأبناء، ووضع أسس المحبّة الدائمة في مراحل العمر المختلفة ، والتي هي ضمانة الحفاظ على الأبناء.

إنّ العلاقات الاجتماعية القائمة في أساس العلاقات العائلية ستتعرض للانهيار والتصدّع إذا شاع وجود الأبناء غير الشرعيين «أبناء الزنا» ، وللمرء أن يتصوّر مصير الأبناء فيما إذا كانوا ثمرة للزنا ، ومقدار العناء الذي يتحملونه في حياتهم من لحظة الولادة وحتى الكبر.

وعلاوة على ذلك ، فإنّهم سيحرمون من الحبّ الأسري الذي يعتبر عاملا في الحدّ الجريمة من في المجتمع الإسلامي ، وحينئذ يتحول المجتمع الإنساني بالزنا

٤٦٤

إلى مجتمع حيواني تغزوه الجريمة والقساوة من كل جانب.

٢ ـ إنّ إشاعة الزنا في جماعة ما ، ستقود إلى سلسلة واسعة من الانحرافات أساسها التصرفات الفردية والاجتماعية المنحرفة لذوي الشهوات الجامحة. وما ذكر في هذا الصدد من القصص عن الجرائم والانحرافات المنبعثة عن مراكز الفحشاء والزنا في المجتمعات يوضح هذه الحقيقة ، وهي أنّ الانحرافات الجنسية تقترن عادة بأبشع ألوان الجرائم والجنايات.

٣ ـ لقد أثبت العلم ودلّت العلم ودلّت التجارب على أنّ إشاعة الزنا سبب لكثير من الأمراض والمآسي الصحية وكل المعطيات تشير إلى فشل مكافحة هذه الأمراض من دون مكافحة الزنا أصلا. (يمكن أن تلاحظ موجات مرض الإيدز في المجتمعات المعاصرة ، ونتائجها الصحية والنفسية المدمّرة).

٤ ـ إنّ شياع الزنا غالبا ما يؤدي إلى محاولة إسقاط الجنين وقطع النسل ، لأنّ مثل هؤلاء النساء «الزانيات» لا يرضين بتربية الأطفال ، وعادة ما يكون الطفل عائقا كبيرا أمام الانطلاق في ممارسة هذه الأعمال المنحرفة ، لذلك فهن يحاولن إسقاط الجنين وقطع النسل.

أمّا النظرية التي تقول ، بأنّ الدولة يمكنها ـ من خلال مؤسسات خاصّة ـ جمع الأولاد غير الشرعيين وتربيتهم والعناية بهم ، فإنّ التجارب أثبتت فشل هذه المؤسسات في تأدية أهدافها ، إذ هناك صعوبات التربية ، وهناك النظرة الاجتماعية لهؤلاء ، ثمّ هناك ضغوطات العزلة والوحدة وفقدان محبّة الوالدين وعطفهما ، كل هذه العوامل تؤدي إلى تحويل هذه الطبقة من الأولاد الى قساة وجناة وفاقدي الشخصية.

٥ ـ يجب أن لا ننسى أنّ هدف الزواج ليس إشباع الغريزة الجنسية وحسب ، بل المشاركة في تأسيس الحياة على أساس تحقيق الاستقرار الفكري والأنس الروحي للزوجين. وأمّا تربية الأبناء والتعامل مع قضايا الحياة ، فهي آثار طبيعية

٤٦٥

للزواج ، وكل هذه الأمور لا يمكن لها أن تثمر من دون أن تختص المرأة بالرجل وقطع دابر الزنا وأشكال المشاعية الجنسية.

في حديث عن الإمام علي بن أبي طالبعليه‌السلام يقول : سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : «في الزنا ست خصال : ثلاث في الدنيا وثلاث في الآخرة. فأمّا اللاتي في الدنيا ، فيذهب بنور الوجه ، ويقطع الرزق ، ويسرع الفناء. وأمّا اللّواتي في الآخرة ، فغضب الرب ، وسوء الحساب ، والدخول في النّار ، أو الخلود في النّار»(١) .

ثالثا : الحكم الآخر الذي تشير إليه الآية التي بعدها ، هو احترام دماء البشر ، وتحريم قتل النفس حيث تقول :( وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِ ) .

إنّ احترام دماء البشر وحرمة قتل النفس تعتبر من المسائل المتفق عليها في كل الشرائع السماوية وقوانين البشر ، فقتل النفس المحترمة لدى الجميع من الذنوب الكبيرة ، إلّا أنّ الإسلام أعطى أهمية استثنائية لهذه المسألة بحيث اعتبر من يقتل إنسانا فكأنّما قتل الناس جميعا ، كما في الآية (٣٢) من سورة المائدة( مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً ) . بل نستفيد من بعض الآيات القرآنية أنّ جزاء قتل النفس بغير حق هو الخلود في النّار ، وأنّ هؤلاء الذين يتورطون في دم الأبرياء يخرجون عن ربقة الإيمان ، ولا يمكن أن يخرجوا من هذه الدنيا مؤمنين :( وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها ) (٢) . وحتى في الإسلام فإنّ الذين يشهرون السلاح بوجه الناس ينطبق عليهم عنوان «محارب» وهذا الصنف له عقوبات شديدة مفصّلة في المصنفات الفقهية ، وقد أشرنا إلى بعضها أثناء الحديث عن الآية (٣٣) من سورة المائدة.

إنّ الإسلام يحاسب على أقل أذى ممكن أن يلحقه الإنسان بالآخرين ، فكيف بقضية القتل وإراقة الدماء؟! وهنا نستطيع أن نقول ـ باطمئنان ـ : إننا لا نرى

__________________

(١) تفسير مجمع البيان ، ج ٦ ، ص ٤١٤.

(٢) النساء ، ٩٣.

٤٦٦

أيّ شريعة غير الإسلام أعطت هذه الحرمة الاستثنائية لدم الإنسان ، بالطبع هناك حالات ينتفي معها احترام دم الإنسان ، كما لو قام بالقتل أو ما يوجب إنزال العقوبة به ، لذلك فإنّ الآية بعد أن تثبت حرمة الدم كأصل ، تشير للاستثناء بالقول :( إِلَّا بِالْحَقِ ) .

وفي حديث معروف عن الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نقرأ : «لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلّا الله وأنّ محمدا رسول الله إلّا بإحدى ثلاث : النفس بالنفس ، والزاني المحصن ، والتارك لدينه المفارق للجماعة»(١) .

أمّا القاتل فتكون نهايته معلومة بالقصاص ، الذي يؤمّن استمرار الحياة واستقرارها. وإذا لم يعط الحق لأولياء دم المقتول بالقصاص من القاتل ، فإنّ القتلة سيتجرءون على المزيد من القتل والإخلال بالأمن الاجتماعي.

أمّا الزاني المحصن ، فإنّ قتله في قبال واحد من أعظم الذنوب قباحة ، وهو يساوى سفك الدم الحرام في المرتبة.

أمّا قتل المرتد فيمنع الفوضى والإخلال في المجتمع الإسلامي ، وهذا الحكم ـ كما أشرنا سابقا ـ هو حكم سياسي ، لأجل حفظ النظام الاجتماعي في قبال الأخطار التي تهدّد كيان النظام الإسلامي ووحدة أمنه الاجتماعي ، والإسلام ـ عادة ـ لا يفرض على أحد قبول الانتماء إليه ، ولكن إذا اقتنع أحد بالإسلام واعتنقه ، وأصبح جزاء من المجتمع الإسلامي ، واطلع على أسرار المسلمين ، ثمّ أراد بعد ذلك الارتداد عن الإسلام ممّا يؤدي عملا الى تضعيف وضرب قواعد المجتمع الإسلامي ، فإن حكمه سيكون القتل(٢) بالشرائط المذكورة في الكتب الفقهية.

__________________

(١) صحيح البخاري ومسلم نقلا عن تفسير في ظلال القرآن ، ج ٥ ، ص ٣٢٣.

(٢) هناك بحث مفصل في نهاية الآية (١٠٦) من سورة النحل ، من التّفسير الأمثل حول الارتداد ، وفلسفة العقوبات الشديدة للمرتد.

٤٦٧

إنّ حرمة دم الإنسان في الإسلام لا تختص بالمسلمين وحسب ، بل تشمل غير المسلمين أيضا من غير المحاربين ، والذين يعيشون مع المسلمين عيشة مسالمة ، فإنّ دماءهم ـ أيضا ـ وأعراضهم وأرواحهم مصونة ويحرم التجاوز عليها.

تشير الآية بعد ذلك إلى إثبات حق القصاص بالمثل لولي القتيل فتقول :( وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً ) . ولكن في نفس الوقت ينبغي لولي المقتول أن يلتزم حد الاعتدال ولا يسرف( فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً ) إذا ما دام ولي الدم يتحرك في الحدود الشرعية فإنّه سيكون موردا لنصرة الله تعالى.

والنهي عن الإسراف تشير إلى واقع كان سائدا في الجاهلية ، واليوم أيضا يمكن مشاهدة نماذج لها ، فحين يقتل فرد من قبيلة معينة ، فإنّها تقوم بهدر الكثير من الدماء البريئة من قبيلة القاتل.

أو أن يقوم أولياء الدم بقتل أناس أبرياء أو الذين لا يستطيعون الدفاع عن أنفسهم. كأن يكون المقتول شخصا معروفا وذا منزلة اجتماعية. فإنّ أهله وفق الأعراف الجاهلية ، سوف لن يكتفوا بحدّ القصاص الشرعي ، بل يقتلون فردا معروفا ومكافئا في منزلته الاجتماعية للمقتول من قبيلة القاتل ، حتى وإن لم يكن له أي دور في عملية القتل.(١) .

وعصرنا الحاضر ، شهد من التجاوز في الإسراف وهدر دماء الأبرياء ما غسل معه عار أهل الجاهلية ، فهذه إسرائيل اليوم تقوم بحجة قتل أحد جنودها بإلقاء القنابل والصواريخ على رؤوس النساء والأطفال الفلسطنيين الأبرياء ، وتعمد إلى هدم ديارهم.

__________________

(١) يراجع تفسير الآلوسي (روح المعاني) أثناء حديثه عن هذه الآية.

٤٦٨

كذلك شهدت سنوات الحرب الظالمة التي شنّها النظام البعثي على الجمهورية الإسلامية أسواء أنواع العدوان على دماء الأبرياء والإسراف في القتل.

إنّ رعاية العدالة ـ حتى في عقاب القاتل ـ تعتبر مهمّة إسلاميا ، لذلك نقرأ في وصية الإمام عليعليه‌السلام ، بعد أن اغتاله عبد الرحمن بن ملجم المرادي قوله : «يا بني عبد المطلب ، لا ألفينكم تخوضون دماء المسلمين ، تقولون قتل أمير المؤمنين ، ألا لا تقتلن بي إلّا قاتلي ، انظروا إذا أنا مت من ضربته هذه ، فاضربوه ، ضربة بضربة ، ولا تمثلوا بالرجل»(١) .

رابعا : الآية التي بعدها تشير إلى حفظ مال اليتيم ، والملاحظ أنّ الآية استخدمت نفس أسلوب الآية التي سبقتها ، فلم تقل : لا تأكلوا مال اليتيم وحسب ، وإنّما قالت :( وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ ) .

وفي هذا التعبير تأكيد على حرمة مال اليتيم. ولكن قد تكون هذه الآية حجة لبعض الجهلاء الذين سيتركون مال اليتامي يهدر ويكون عرضة للحوادث بدون أن يكون عليه قيّم، لذلك استثنت بقوله :( إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ) . وبناء على هذا الاستثناء يمكن التصرف بأموال اليتامى بشرط حفظ هذه الأموال ، وتنميتها وتكثيرها. وهذا الوضع يستمر الى أن يبلغ اليتيم سنّ الرشد ويستطيع فكريا واقتصاديا أن يكون قيما على نفسه وأمواله( حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ ) .

«أشدّ» مأخوذة من «شدّ» على وزن «جدّ» وهي بمعنى «العقدة المحكمة» ثمّ توسع المعنى فيما بعد ليشمل أي نوع من القوة الروحية والجسمية. والمقصود من كلمة «أشد» في الآية هو الوصول إلى مرحلة البلوغ. ولكن ليس البلوغ الجسمي وحسب ، وإنّما الرشد الفكري والقدرة الاقتصادية التي تؤهل اليتيم لأن يحفظ أمواله. اختيار كلمة «أشد» في الآية هو لتحقيق كل هذه المعاني مجتمعة ، والتي

__________________

(١) نهج البلاغة ، مجموعة الرسائل ، الرقم (٤٧).

٤٦٩

يمكن اختيارها بالتجربة.

الأيتام ظاهرة طبيعية في أي مجتمع ، ووجودهم يكون تبعا لحوادث مختلفة يمر بها المجتمع ، والدوافع الإنسانية تفرض رعاية هؤلاء اليتامى من قبل الخيّرين والمحسنين في المجتمع ، والإسلام يحث على رعاية الأيتام ، وقد تحدثنا عن هذا الأمر مفصلا في الآية (٢) من سورة النساء.

والشيء الذي نريد أن نضيفه هنا هو أن بعض الرّوايات والأحاديث الإسلامية وسّعت في مفهوم اليتيم ليشمل الأفراد الذين انقطعوا عن إمامهم وقائدهم ، ولا يصل صوت الحق إليهم. وهذا المعنى نوع من التوسع في المفهوم واستفادة معنوية من حكم مادي.

خامسا : تشير الآية بعد ذلك إلى الوفاء بالعهد فتقول :( وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلاً ) . إنّ الكثير من العلاقات الاجتماعية وخطوط النظام الاقتصادي والمسائل السياسية قائمة على محور العهود ، بحيث إذا ضعف هذا المحور وانهارت الثقة بين الناس ، فسينهار النظام الاجتماعي وستحل الفوضى ، ولهذا السبب تؤكّد الآيات القرآنية ـ بقوّة ـ على قضية الوفاء بالعهود.

«العهد» له معان واسعة ، فهو يشمل العهود والمواثيق الخاصة بين الأفراد في القضايا الاقتصادية والمعاشية ، وفي العمل والزواج ، وهو يشمل أيضا المواثيق والمعاهدات بين الحكومات والشعوب ، وفوق ذلك فإنّ العهد يشير إلى ميثاق الأمم مع الله ورسوله وكتبه ، وكذلك العكس ، أي التزام هؤلاء بالعهد أمام الناس(١) .

سادسا : آخر حكم من الأحكام الستة ، يتصل بالعدل في الوزن والكيل ورعاية حقوق الناس في ذلك ومحاربة التطفيف في الميزان حيث تقول الآية

__________________

(١) بالنسبة لأهمية الوفاء بالعهد والقسم لدينا بحث مفصل حول الموضوع يمكن مراجعته في بحث الآيات ٩١ ـ ٩٤ من سورة النحل.

٤٧٠

الكريمة :( وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ ، وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ ، ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً ) .

* * *

ملاحظات

١ ـ أضرار التطفيف في الكيل :

أوّل ملاحظة ينبغي الانتباه إليها هنا ، هي أنّ القرآن الكريم أكدّ مرارا على ضرورة الوزن للناس بالقسطاس ، وحذّر من البخس والتطفيف في الميزان حتى أنّه اعتبر ذلك في موضع ، مرادفا لنظام الخلق في عالم الوجود ، حيث نقرأ في الآيتين (٧ ، ٨) من سورة الرحمن ، قوله تعالى :( وَالسَّماءَ رَفَعَها وَوَضَعَ الْمِيزانَ ، أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزانِ ) . والآية تشير إلى أنّ مسألة بخس الناس والتطفيف في الميزان ليست مسألة صغيرة ، بل هي كبيرة وتدخل في صميم أصول العدالة والنظام المهيمن على عالم الوجود برمته.

في مكان آخر ، وبأسلوب أكثر قوّة ، يهدّد القرآن المطففين ، بقوله ، كما في سورة المطففين (١ ـ ٤) :( وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ ، وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ ، أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ ) .

بعض الأنبياء الذين ورد ذكرهم في القرآن كانوا يحاربون التطفيف بعد الشرك مباشرة ، كما حصل لشعيب مع قومه ، ولمّا لم يلتفتوا إلى تعليمات نبيّهم نالهم العذاب الأليم. (تراجع القصة في نهاية آية ٨٥ من سورة آل عمران).

وعادة ، فإنّ الحق والعدل والنظام والحساب ، كل هذه الأمور تعتبر أصولا أساسية للحياة ، بل وتدخل في نظام الوجود والخلق ، لذلك فابتعاد الناس عن هذا الأصل ـ خصوصا بالنسبة لبخس الكيل والتطفيف في الميزان ـ يؤدي إلى إنزال ضربة شديدة بالثقة التي تعتبر جوهر استقرار التعامل الاقتصادي بين الناس.

٤٧١

ومع الأسف فإنّنا نرى ـ في بعض الأحيان ـ أنّ غير المسلمين ، ولأغراض كسب الثقة بأنفسهم وتجارتهم ، يلتزمون بشكل دقيق بالمواصفات والأرقام المتفق عليها ، بينما يتجاوز بعض المسلمين هذه الحدود! وهذه إشارة على أنّ طريق الدنيا أيضا يمر من خلال عدم الخيانة والغش.

وينبغي أن يلاحظ هنا أنّ هؤلاء الذين يخلّون بالميزان ويطففون الكيل مسئولون أمام المشتري مسئولية حقوقية ، لذلك فإنّ توبتهم لا تتم إلّا برد الحقوق المغصوبة إلى أهلها ، وإذا تعذّر عليهم ذلك ، فينبغي لهم إعطاء ما يساويها إلى الفقراء والمحتاجين بعنوان رد مظالم عن الأصحاب الحقيقيين.

٢ ـ ما هو حكم التطفيف وبخس الكيل؟

الجدير بالملاحظة أن حكم التطفيف وبخس الكيل ، قد يعمّم بحيث يشمل كل أشكال التقصير المتعمد في الأعمال والوظائف المختلفة ، فمن التطفيف من لا ينجز عمله كاملا ، والمعلم الذي لا يدرّس بشكل جيد ، والموظف الذي لا يلتزم بأوقات عمله وهو غير حريص عليه. ولكن الألفاظ المستخدمة في هذه الآية لا تفيد معنى هذا التعميم ، فهي من التوسعة العقلية إلّا أنّ قوله تعالى :( وَالسَّماءَ رَفَعَها وَوَضَعَ الْمِيزانَ أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزانِ ) يشير إلى هذا التعميم.

٣ ـ ما هو معنى «قسطاس»؟

«قسطاس» بكسر القاف أو ضمها على وزن «مقياس» وأحيانا تقاس على وزن «قرآن» بمعنى «الميزان» والبعض يعتبرها كلمة رومية ، بينما البعض يرى بأنّها كلمة عربية. وهناك من يقول بأنّها مركبة من كلمتين هما «قسط» بمعنى العدل و «طاس» بمعنى كفة الميزان. أمّا البعض الآخر فيقول بأنّ كلمة «قسطاس» تطلق

٤٧٢

على الميزان الكبير ، بينما كلمة «ميزان» تطلق على الموازين الصغيرة(١) .

وفي كل الأحوال ، فإنّ (القسطاس المستقيم) تعني الميزان الصحيح والسالم والعادل بدون نقيصة أو زيادة.

والطريف هو أنّ هناك رواية عن الإمام الباقرعليه‌السلام ، تفسر هذه الكلمة بقوله : «هو الميزان الذي له لسان»(٢) .

وذلك لأنّه مع عدم وجود اللسان لا يستطيع الميزان أن يوضح حركة الكفتين بشكل دقيق ، أمّا مع وجوده فإنّ أقل حركة للكفتين تنعكس على اللسان ، وبهذا الشكل يمكن رعاية العدل كاملا.

* * *

__________________

(١) تلاحظ تفاسير الميزان ، والفخر الرازي ، ومجمع البيان في تفسير الآية مورد البحث.

(٢) يراجع تفسير الصافي ، أثناء تفسير هذه الآية.

٤٧٣

الآيات

( وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً (٣٦) وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولاً (٣٧) كُلُّ ذلِكَ كانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً (٣٨) ذلِكَ مِمَّا أَوْحى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَتُلْقى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَدْحُوراً (٣٩) أَفَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِناثاً إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيماً (٤٠) )

التّفسير

الانقياد للعلم :

في الآيات السابقة وقفنا على مجموعة من الأصول والأحكام الإسلامية التي بدأت بالتوحيد بوصفه أساس هذه التعاليم ، وانتهت بالأحكام التي تشمل الحياة الفردية والجماعية للإنسان.

وفي الآيات التي نبحثها الآن نلتقي مع آخر مجموعة من سلسلة هذه

٤٧٤

الأحكام حيث تشير الآيات أعلاه الى عدّة احكام مهمّة :

أوّلا : في البداية ينبغي للإنسان المسلم أن يلتزم الدقة في كل الأمور ويجعل العلم رائده( وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ) في شؤونك الشخصية وفي القضاوة بين الناس ، وفي إعطاء الشهادة ، وحتى في الأعمال الشخصية ليكن رائدك الدائم هو العلم دون غيره.

وعلى هذا الأساس يكون مورد الآية شاملا لمعان واسعة ، ولا دليل على ما يذهب إليه بعض المفسّرين من تقييد المعنى ببعض ما ورد أعلاه من الموارد والذي يؤيد ذلك أن( لا تَقْفُ ) مأخوذة من «قفو» على وزن «عفو» وهي تعني متابعة شيء ما ، ومن المعلوم أنّ الأمور التي نتابعها هي أمور لا تقف عند حد ، لذلك فإنّ النهي الوارد في الآية يشملها جميعا.

بناء على ذلك ، يتّضح أنّ (العلم واليقين) هما أساس المعرفة في كلّ شيء ، وأن لا شيء من «الظن» أو «التخمين» أو «الشك» يسد مسد العلم واليقين ، ومن يعتمد على ما دون العلم فإنّه بذلك يخالف القانون الإسلامي الصريح.

وبعبارة أخرى : لا الشائعة يمكن أن تكون مقياسا للقضاء والشهادة والعمل ، ولا القرائن الظنية ، ولا الأخبار غير القطعية المشكوك في مصادرها. وفي النهاية تعلّل الآية عدم اتباع ما دون العمل ، فتقول :( إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً ) .

والسّؤال الذي تواجه به الأعضاء المذكورة يعود إلى مسئولياتها عن الأعمال ، إذ السمع مسئول عن الكلام المشكوك غير الموثق ، والبصر عن موارد ادعاء الإنسان للمشاهدة والرؤية مع أنّه لم يشاهد أو يرى ، والفؤاد يسأل عن الأفكار الخاطئة التي تدخل في الأحكام الخاطئة. وإذا كان بعض المفسّرين يرى أنّ المسؤولية التي تتحدث عنها الآية تقع على عاتق صاحبها لا عليها ـ أي الأعضاء ـ بالذات ، إلّا أنّ هناك الكثير من الآيات تصرّح بأنّ الأعضاء نفسها

٤٧٥

تسأل يوم القيامة (مثل الآية ٢١ من سورة فصّلت) وتجيب عمّا اقترفت. لذلك لا معنى لتوجيه المسؤولية في الآية من الأعضاء المذكورة إلى صاحبها.

أمّا لما ذا أشارت الآية ـ من بين كل حواس الإنسان ـ إلى السمع والبصر بالذات؟فسبب ذلك واضح ، إذ أنّ معظم المعلومات الحسية للإنسان يكون مصدرها السمع والبصر.

درس في استقرار النظام الاجتماعي :

الآية المذكورة آنفا تشير إلى أحد المبادي والأصول المهمّة في الحياة الاجتماعية الذي لو طبّق في المجتمع البشري بشكل دقيق لأمكن اجتثاث جذور الفساد من الشايعات والأحكام القضائية المتسرعة والظنون العائمة والأكاذيب وأمثال ذلك ، وفي غير هذه الصورة فإنّ حالة من الفوضى ستضرب العلاقات الاجتماعية ، إذ سوف لا يبقى أي شخص بمنأى عن الشك والريبة ، وبمأمن عن سوء الظن وستنعدم الثقة بين الأفراد. وتكون مكانة الفرد في المجتمع في خطر دائم.

لذلك نرى الآيات والأحاديث الإسلامية تؤكّد بكثرة على هذه الفكرة ، وبين يدينا الآن ما يلي :

* الآية (٣٦) من سورة يونس تنتقد بشدة الأفراد الذين يتبعون الظن ويجعلونه مقاسا لقناعاتهم( وَما يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا ، إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً ) .

* أمّا الآية (٢٣) من النجم ، فإنها اعتبرت الظن في مرتبة إتباع هوى النفس( إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ ) .

* وفي حديث عن الإمام الصادقعليه‌السلام نقرأ : «إنّ من حقيقة الإيمان أن لا يجوز

٤٧٦

منطقك علمك»(١) .

* وفي حديث عن الإمام موسى بن جعفرعليه‌السلام نقل عن آبائهعليهم‌السلام ، قوله : «ليس لك أن تتكلم بما شئت ، لأنّ اللهعزوجل يقول :( وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ) (٢) .

* وعن الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «إيّاكم والظن فإنّ الظن أكذب الكذب»(٣) .

* وفي من لا يحضره الفقيه : «قال رجل للصادقعليه‌السلام : إنّ لي جيرانا ولهم جوار يتغنين ويضربن بالعود ، فربما دخلت المخرج فأطيل الجلوس استماعا منّي لهن؟ قال له الصادقعليه‌السلام : «تالله أنت! أما سمعت الله يقول :( إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً ) فقال الرجل : كأنّي لم أسمع بهذه الآية من كتاب اللهعزوجل من عربي ولا عجمي ، ولا جرم أني قد تركتها وأنا أستغفر الله تعالى»(٤) .

وفي بعض المصادر الحديثية نقرأ أنّ الإمام الصادقعليه‌السلام أمر الرجل أن ينهض ويغسل غسل التوبة ، وأن يصلّي ما استطاع ، لأنّه قد ارتكب عملا سيئا لو قبض عليه لكانت مسئولية عظيمة!

من خلال مجموع هذه الآيات والرّوايات تتّضح مدى المسؤولية التي تقع على العين والأذن ، وكيف أنّ الإسلام ينهى عن أن يقول الإنسان ما لم يسمع ، أو ما لا يقوم على العلم ، أو يتحدث عن أشياء لم يرها ، إذا العلم وحده هو الميزان دون إتباع الظن والوهم والحدس أو الاعتماد على الشك والإشاعة ، لأنّ سبيل الاعتماد على هذه المصادر يؤدي إلى آثار خطرة على حياة الفرد والمجتمع ، هذه الآثار يمكن أن نلخصها كما يلي :

١ ـ إنّ اعتماد ما هو دون العلم ، يؤدي إلى هضم حقوق الأفراد وإعطاء الحق

__________________

(١) وسائل الشيعة ، ج ١٨ ، ص ١٦.

(٢) وسائل الشيعة ، ج ١٨ ، ص ١٧.

(٣) وسائل الشيعة ، ج ١٨ ، ص ٣٨.

(٤) نور الثقلين ، ج ٣ ، ص ١٦٤.

٤٧٧

لغير صاحبه.

٢ ـ الاعتماد على الظن وما شابهه يؤدي إلى تعريض كرامة الإنسان المؤمن للخطر ، ويقلّل أيضا من حماس واندفاع المخلصين.

٣ ـ اعتماد ما هو دون العلم ، يؤدي إلى انتشار الشائعات.

٤ ـ اعتماد الظن وغيره يقضى على ملاكات الدقة والبحث والتحقيق عند الإنسان ويجعله ساذجا سريع التصديق.

٥ ـ إنّ الاعتماد على غير العلم ينقض العلائق الودية الحميمة القائمة بين الناس في البيت والسوق ومحل العمل ، ويجعل بعضهم يسيء الظن بالبعض الآخر.

٦ ـ اعتماد غير العلم يفسد في الإنسان قابلية الاستقلال الفكري ويجعله عرضة للأفكار الفاسدة.

٧ ـ إنّ اعتماد غير العالم يكون قاعدة للتعجّل في انتخاب الأشياء والحكم على الأشخاص ممّا يسبّب الندامة والفشل فيما بعد.

الأوهام وسبل مكافحتها

السؤال الذي يرد هنا ، هو كيف نصون أنفسنا ومجتمعنا من الانجرار إلى هذه العادة الخاطئة (إتباع الظن) ذات العواقب الوخيمة؟

والجواب على السؤال يحتاج إلى بحث طويل ، ولكنّا لانعدم ثلاث إشارات سريعة هي:

ألف ـ يجب أن ننبّه الناس إلى العواقب الخطيرة لاتباع الظن دون العلم ، ونحذّرهم من مغبة النتائج الوخيمة لذلك.

ب ـ يجب تكريس طريقة التفكير الإسلامي ، وجعلها حيّة في حياة الإنسان ، هذه الطريقة التي يؤكّد على أنّ الإنسان مراقب دوما من قبل الله تعالى ، إذ هو سميع وبصير ، وخبير بالنوايا والبواطن ، إذا جاء في الآية (١٩) من غافر قوله

٤٧٨

تعالى :( يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَما تُخْفِي الصُّدُورُ ) .

ج ـ ينبغي ترشيد المستوى الفكري والثقافي في حياة الإنسان المسلم لأنّ إتباع غير العلم هو سمة يختص بها الجهلاء الذين ما إن يستمعوا إلى إشاعة معينة حتى يصدّقوا بها ، ويجعلوا منها قاعدة للحكم على القضايا ومقياسا لآرائهم.

ثانيا : الكبر والغرور :

الآية التي بعدها تدعو إلى محاربة الكبر والغرور ، وبتعبير واضح ولطيف تنهي المؤمنين عن هاتين الصفتين حيث تخاطب النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالقول :( وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً ) (١) . لماذا؟( إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولاً ) . وهذه إشارة إلى سلوك المتكبرين والمغرورين الذي يضربون الأرض بعنف أثناء مشيهم لكي يلتفت الناس إليهم ، ويرفعون رؤوسهم في السماء علامة على أفضليتهم المزعومة بين الناس ، لهؤلاء تقول الآية :( إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولاً ) . إذ مثل هؤلاء كالنملة التي تمشي على صخرة كبيرة وتضرب برجلها عليها ، إلّا أن الصخرة تسخر من حماقتها. ثمّ أنت أيّها المتكبر هل تستطيع ـ مهما رفعت رأسك في السماء ـ أن تكون مثل الجبال علوا ، إنّك مهما تفعل لا ترتفع سوى سنتيمترات قليلة ، وحتى هذه الجبال لن تكون شيئا إزاء الكرة الأرضية ، والكرة الأرضية تعتبر ذرّة سابحة في عالم الوجود!

إذن فما هذا الكبر والغرور الموجود عندك أيّها الإنسان؟!

الظريف في الأمر ، أنّ القرآن لم يبحث مباشرة هذه الصفات الداخلية الخطرة في تركيب الإنسان ووجوده (أي التكبر والغرور) وإنّما أشار إليها من خلال آثارها والظواهر السلوكية التي تنتج عنها ، حيث تحدّث القرآن عن مشية المتكبر

__________________

(١) «مرح» على وزن فرح ، وهي تعني الفرح الشديد قبال موضوع باطل لا أساس له.

٤٧٩

والمغرور ، وهذه إشارة إلى أنّ التكبر والغرور ، حتى في أهون الصور وأقل الحالات ، يعتبر مذموما مخجلا مهما كانت آثاره جزئية وصغيرة.

وفي الآية ـ أيضا ـ إشارة إلى أنّ الصفات الداخلية ـ الباطنية ـ للإنسان تظهر ـ شاء أم أبى ـ من خلال الأعمال والتصرفات ، من خلال المشي مثلا ، أو النظر أو الكلام وأمثال ذلك. لهذا السبب ينبغي علينا إذا ما واجهتنا أدنى ظاهرة أو أثر لهذه الصفات ، أن نعرف أنّ الخطر أصبح قريبا ، وأنّ هذه الصفة المذمومة (التكبر والغرور) قد عششت في روحنا ويجب علينا مجاهدتها فورا.

ويمكن أن نفهم من خلال هذه الآية ، وما ذكر في القرآن الكريم (ومن خلال سورة لقمان وسور أخرى) أنّ التكبر والغرور مرفوضان بشكل عام. لماذا؟ لأنّ الغرور هو مصدر الغربة عن الله وعن النفس السليمة ، وهو سبب الخطأ في الحكم والقضاء ، وسبيل ضياع الحق والارتباط بخط الشيطان والتلوث بأنواع الذنوب.

فالإمام عليعليه‌السلام يقول في صفات المتقين في حديثه إلى «همام» : «ومشيهم التواضع»(١) . والمقصود بالمشي هنا ليس التجوال في السوق والشارع ، وإنّما هي كناية عن أسلوب المشي والتعامل في جميع الأمور الحياتية ، بما في ذلك خطوطهم الفكرية إذ هم متواضعون في تفكيرهم.

البرنامج الحياتي العملي لقادة الإسلام يعتبر درسا مفيدا لكل مسلم حقيقي في هذا المجال. ففي سيرة الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نرى أنّه لم يكن يسمح لأحد أن يمشي بين يديه وهو راكب ، بل كان يقول : اذهب أنت إلى المكان الفلاني وأنا سآتيك إلى نفس المكان ، حيث أنّ المشي بين يدي الراكب يؤدي إلى غرور الراكب وذلة الماشي.

ونقرأ ـ أيضا ـ أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يجلس على التراب تواضعا ، ويأكل

__________________

(١) نهج البلاغة ، الخطبة (١٩٣).

٤٨٠

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496