الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٨

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل8%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 496

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 496 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 231157 / تحميل: 7115
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٨

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

الآيات

( وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كانَ خِطْأً كَبِيراً (٣١) وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلاً (٣٢) وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً (٣٣) وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلاً (٣٤) وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً (٣٥) )

التّفسير

ستة أحكام مهمّة :

في متابعة للأحكام الإسلامية التي أثارتها الآيات السابقة ، تتحدّث هذه الآيات عن ستة أحكام إسلامية أخرى وردت في ست آيات ، بعبارات قصيرة ومعان كبيرة ، تأخذ بلباب القلوب.

٤٦١

أوّلا : تشير الآية إلى عمل قبيح وجاهلي هو من أعظم الذنوب ، فتنهى عنه :( وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ ) فرزق هؤلاء ليس عليكم( نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ ) أمّا علّة الحكم فهي :( إِنَّ قَتْلَهُمْ كانَ خِطْأً كَبِيراً ) .

هذه الآية تفيد أنّ الوضع الاقتصادي للعرب في الجاهلية كان صعبا وسيئا.

بحيث أنّهم كانوا يتقلون أبناءهم في بعض الأحيان خوف العيلة والفقر.

وهناك كلام بين المفسّرين فيما إذا كان العرب في الجاهلية يدفنون البنات أحياء وحسب ، أو أنّهم كانوا يقتلون الأبناء أيضا خوفا من الفقر!

البعض يعتقد أنّ الآيات تتحدث عن دفن البنت وهي حيّة ، هذا العمل الذي كان شائعا في الجاهلية لسببين :

الأوّل : يتمثل في الخوف من وقوعهن في الأسر أثناء الحروب ، الأمر الذي يجعل الأعراض والنواميس تحت رحمة العدو.

أمّا الثّاني : فيعود إلى خوفهم من الفقر وعدم تمكنهم من توفير المؤونة للبنات اللاتي لا يقمن بعمل إنتاجي ، ويقتصر دورهن على الاستهلاك فقط. صحيح أنّ الولد في مطلع حياته لا ينتج ، لكنّه في عرف عرب الجاهلية يعتبر رأسمالا ثمينا ، لا يمكن التفريط به.

البعض الآخر من المفسّرين يعتقد أن هناك نوعين من القتل ، النوع الأوّل يشمل البنات ، لحفظ الناموس حسب اعتقادهم الخاطئ. أمّا النوع الثّاني فسببه الفقر. وهو يشمل البنات والبنين معا.

ظاهر الآية يدل على هذا المعنى ، لوجود ضمير الجمع المذكر في الآية في «قتلهم» وهذا الضمير يطلق في اللغة العربية على الولد والبنت معا ، وبالتالي فإنّه يستبعد اختصاصه بالبنات وحدهن.

أمّا ما يقال من أنّ الولد قادر على الإنتاج ، ويعتبر وجوده رأسمالا للمستقبل ، فهذا صحيح في حال وجود القدرة المالية ، أمّا في حالة عدم القدرة على تأمين

٤٦٢

حياة هؤلاء الأولاد فالراي الثّاني هو الأصح لهذا الدليل.

المهم أنّ هذا التصرف الجاهلي يرتبط بعقيدة وهمية تقول : إنّ الأب والأم هما الرازقان، بينما الله سبحانه وتعالى يقول : اطردوا هذا التفكير الشيطاني من أذهانكم وابذلوا سعيكم ووسعكم والله يؤمن رزقكم ورزقهم.

وفي الوقت الذي تستغرب فيه ارتكاب الجاهليين لهذه الجرائم بحق النوع البشري ، فإنّ عصرنا الحاضر ـ وفي أكثر مجتمعاته رقيا وتقدما ـ يعيد تكرار هذه الجريمة ولكن بأسلوب آخر ، إذ أنّ العمليات الواسعة في إسقاط الجنين وقتله خوفا من الضائقة المالية وازدياد عدد السكان ، هي نموذج آخر للقتل ، (للمزيد راجع تفسير الآية (١٥١) من سورة الإنعام).

إنّ تعبير «خشية إملاق» إشارة لطيفة إلى الدافع الوهمي الشيطاني ورفضه ، حيث يفيد التعبير أنّ الوهم ومجرّد الخوف هو الذي يتحكم بهذا السلوك المحرم ، لا الدوافع الحقيقية.

كما يجب الانتباه إلى أنّ «كان» في( كانَ خِطْأً كَبِيراً ) هي فعل ماض ، يفيد هنا التأكيد على أنّ قتل الأبناء يعتبر من الذنوب العظيمة التي كانت معروفة ، منذ القدم بين البشر ، وأنّ الفطرة الإنسانية السليمة تحمل دوافع الرفض والإدانة لمثل هذا السلوك الذي لا يختص بزمان معين دون غيره.

ثانيا : الآية التي بعدها تشير إلى ذنب عظيم آخر هو الزنا( وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلاً ) وفي هذا التعبير القرآني تمت الإشارة إلى ثلاث نقاط :

ألف ـ لم تقل الآية : لا تزنوا ، بل قالت : لا تقربوا هذا العمل الشائن ، وهذا الأسلوب في النهي فضلا عمّا يحمله من تأكيد ، فإنّه يوضح أنّ هناك مقدمات تجر إلى الزنا ينبغي تجنبها وعدم مقاربتها ، فخيانة العين تعتبر واحدة من المقدمات ، والسفور والتعري مقدمة أخرى ، الكتب السيئة والأفلام الملوّثة والمجلات الفاسدة ومراكز الفساد كل واحدة منها تعتبر مقدمة لهذا العمل.

٤٦٣

كذلك فإنّ الخلوة بالأجنبية (يعني خلوة المرأة والرجل الأجنبي عليها في مكان واحد ولوحدهما) يعتبر عاملا في إثارة الشهوة.

وأخيرا فإنّ امتناع الشباب عن الزواج خاصة مع ملاحظة الصعوبات الموضوعة أمام الطرفين ، هي من العوامل التي قد تؤدي إلى الزنا. والآية نهت عن كل ذلك بشكل بليغ مختصر ، ولكنّا نرى في الأحاديث والرّوايات نهيا مفصلا عن كل واحدة من هذه المقدمات.

ب ـ إنّ جملة( إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً ) بتأكيداتها الثلاثة المستفادة من «إن» والفعل الماضي «كان» وكلمة «فاحشة» تكشف عن فظاعة هذا الذنب.

ج ـ إنّ جملة( ساءَ سَبِيلاً ) توضح حقيقة أنّ هذا العمل «الزنا» يؤدي إلى مفاسد أخرى في المجتمع.

فلسفة تحريم الزنا :

يمكن الإشارة إلى خمسة عوامل في فلسفة تحريم الزنا ، وهي :

١ ـ شياع حالة الفوضى في النظام العائلي ، وانقطاع العلاقة بين الأبناء والآباء. هذه الرابطة التي تختص بكونها سببا للتعارف الاجتماعي ، بل إنّها تكون سببا لصيانة الأبناء، ووضع أسس المحبّة الدائمة في مراحل العمر المختلفة ، والتي هي ضمانة الحفاظ على الأبناء.

إنّ العلاقات الاجتماعية القائمة في أساس العلاقات العائلية ستتعرض للانهيار والتصدّع إذا شاع وجود الأبناء غير الشرعيين «أبناء الزنا» ، وللمرء أن يتصوّر مصير الأبناء فيما إذا كانوا ثمرة للزنا ، ومقدار العناء الذي يتحملونه في حياتهم من لحظة الولادة وحتى الكبر.

وعلاوة على ذلك ، فإنّهم سيحرمون من الحبّ الأسري الذي يعتبر عاملا في الحدّ الجريمة من في المجتمع الإسلامي ، وحينئذ يتحول المجتمع الإنساني بالزنا

٤٦٤

إلى مجتمع حيواني تغزوه الجريمة والقساوة من كل جانب.

٢ ـ إنّ إشاعة الزنا في جماعة ما ، ستقود إلى سلسلة واسعة من الانحرافات أساسها التصرفات الفردية والاجتماعية المنحرفة لذوي الشهوات الجامحة. وما ذكر في هذا الصدد من القصص عن الجرائم والانحرافات المنبعثة عن مراكز الفحشاء والزنا في المجتمعات يوضح هذه الحقيقة ، وهي أنّ الانحرافات الجنسية تقترن عادة بأبشع ألوان الجرائم والجنايات.

٣ ـ لقد أثبت العلم ودلّت العلم ودلّت التجارب على أنّ إشاعة الزنا سبب لكثير من الأمراض والمآسي الصحية وكل المعطيات تشير إلى فشل مكافحة هذه الأمراض من دون مكافحة الزنا أصلا. (يمكن أن تلاحظ موجات مرض الإيدز في المجتمعات المعاصرة ، ونتائجها الصحية والنفسية المدمّرة).

٤ ـ إنّ شياع الزنا غالبا ما يؤدي إلى محاولة إسقاط الجنين وقطع النسل ، لأنّ مثل هؤلاء النساء «الزانيات» لا يرضين بتربية الأطفال ، وعادة ما يكون الطفل عائقا كبيرا أمام الانطلاق في ممارسة هذه الأعمال المنحرفة ، لذلك فهن يحاولن إسقاط الجنين وقطع النسل.

أمّا النظرية التي تقول ، بأنّ الدولة يمكنها ـ من خلال مؤسسات خاصّة ـ جمع الأولاد غير الشرعيين وتربيتهم والعناية بهم ، فإنّ التجارب أثبتت فشل هذه المؤسسات في تأدية أهدافها ، إذ هناك صعوبات التربية ، وهناك النظرة الاجتماعية لهؤلاء ، ثمّ هناك ضغوطات العزلة والوحدة وفقدان محبّة الوالدين وعطفهما ، كل هذه العوامل تؤدي إلى تحويل هذه الطبقة من الأولاد الى قساة وجناة وفاقدي الشخصية.

٥ ـ يجب أن لا ننسى أنّ هدف الزواج ليس إشباع الغريزة الجنسية وحسب ، بل المشاركة في تأسيس الحياة على أساس تحقيق الاستقرار الفكري والأنس الروحي للزوجين. وأمّا تربية الأبناء والتعامل مع قضايا الحياة ، فهي آثار طبيعية

٤٦٥

للزواج ، وكل هذه الأمور لا يمكن لها أن تثمر من دون أن تختص المرأة بالرجل وقطع دابر الزنا وأشكال المشاعية الجنسية.

في حديث عن الإمام علي بن أبي طالبعليه‌السلام يقول : سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : «في الزنا ست خصال : ثلاث في الدنيا وثلاث في الآخرة. فأمّا اللاتي في الدنيا ، فيذهب بنور الوجه ، ويقطع الرزق ، ويسرع الفناء. وأمّا اللّواتي في الآخرة ، فغضب الرب ، وسوء الحساب ، والدخول في النّار ، أو الخلود في النّار»(١) .

ثالثا : الحكم الآخر الذي تشير إليه الآية التي بعدها ، هو احترام دماء البشر ، وتحريم قتل النفس حيث تقول :( وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِ ) .

إنّ احترام دماء البشر وحرمة قتل النفس تعتبر من المسائل المتفق عليها في كل الشرائع السماوية وقوانين البشر ، فقتل النفس المحترمة لدى الجميع من الذنوب الكبيرة ، إلّا أنّ الإسلام أعطى أهمية استثنائية لهذه المسألة بحيث اعتبر من يقتل إنسانا فكأنّما قتل الناس جميعا ، كما في الآية (٣٢) من سورة المائدة( مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً ) . بل نستفيد من بعض الآيات القرآنية أنّ جزاء قتل النفس بغير حق هو الخلود في النّار ، وأنّ هؤلاء الذين يتورطون في دم الأبرياء يخرجون عن ربقة الإيمان ، ولا يمكن أن يخرجوا من هذه الدنيا مؤمنين :( وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها ) (٢) . وحتى في الإسلام فإنّ الذين يشهرون السلاح بوجه الناس ينطبق عليهم عنوان «محارب» وهذا الصنف له عقوبات شديدة مفصّلة في المصنفات الفقهية ، وقد أشرنا إلى بعضها أثناء الحديث عن الآية (٣٣) من سورة المائدة.

إنّ الإسلام يحاسب على أقل أذى ممكن أن يلحقه الإنسان بالآخرين ، فكيف بقضية القتل وإراقة الدماء؟! وهنا نستطيع أن نقول ـ باطمئنان ـ : إننا لا نرى

__________________

(١) تفسير مجمع البيان ، ج ٦ ، ص ٤١٤.

(٢) النساء ، ٩٣.

٤٦٦

أيّ شريعة غير الإسلام أعطت هذه الحرمة الاستثنائية لدم الإنسان ، بالطبع هناك حالات ينتفي معها احترام دم الإنسان ، كما لو قام بالقتل أو ما يوجب إنزال العقوبة به ، لذلك فإنّ الآية بعد أن تثبت حرمة الدم كأصل ، تشير للاستثناء بالقول :( إِلَّا بِالْحَقِ ) .

وفي حديث معروف عن الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نقرأ : «لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلّا الله وأنّ محمدا رسول الله إلّا بإحدى ثلاث : النفس بالنفس ، والزاني المحصن ، والتارك لدينه المفارق للجماعة»(١) .

أمّا القاتل فتكون نهايته معلومة بالقصاص ، الذي يؤمّن استمرار الحياة واستقرارها. وإذا لم يعط الحق لأولياء دم المقتول بالقصاص من القاتل ، فإنّ القتلة سيتجرءون على المزيد من القتل والإخلال بالأمن الاجتماعي.

أمّا الزاني المحصن ، فإنّ قتله في قبال واحد من أعظم الذنوب قباحة ، وهو يساوى سفك الدم الحرام في المرتبة.

أمّا قتل المرتد فيمنع الفوضى والإخلال في المجتمع الإسلامي ، وهذا الحكم ـ كما أشرنا سابقا ـ هو حكم سياسي ، لأجل حفظ النظام الاجتماعي في قبال الأخطار التي تهدّد كيان النظام الإسلامي ووحدة أمنه الاجتماعي ، والإسلام ـ عادة ـ لا يفرض على أحد قبول الانتماء إليه ، ولكن إذا اقتنع أحد بالإسلام واعتنقه ، وأصبح جزاء من المجتمع الإسلامي ، واطلع على أسرار المسلمين ، ثمّ أراد بعد ذلك الارتداد عن الإسلام ممّا يؤدي عملا الى تضعيف وضرب قواعد المجتمع الإسلامي ، فإن حكمه سيكون القتل(٢) بالشرائط المذكورة في الكتب الفقهية.

__________________

(١) صحيح البخاري ومسلم نقلا عن تفسير في ظلال القرآن ، ج ٥ ، ص ٣٢٣.

(٢) هناك بحث مفصل في نهاية الآية (١٠٦) من سورة النحل ، من التّفسير الأمثل حول الارتداد ، وفلسفة العقوبات الشديدة للمرتد.

٤٦٧

إنّ حرمة دم الإنسان في الإسلام لا تختص بالمسلمين وحسب ، بل تشمل غير المسلمين أيضا من غير المحاربين ، والذين يعيشون مع المسلمين عيشة مسالمة ، فإنّ دماءهم ـ أيضا ـ وأعراضهم وأرواحهم مصونة ويحرم التجاوز عليها.

تشير الآية بعد ذلك إلى إثبات حق القصاص بالمثل لولي القتيل فتقول :( وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً ) . ولكن في نفس الوقت ينبغي لولي المقتول أن يلتزم حد الاعتدال ولا يسرف( فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً ) إذا ما دام ولي الدم يتحرك في الحدود الشرعية فإنّه سيكون موردا لنصرة الله تعالى.

والنهي عن الإسراف تشير إلى واقع كان سائدا في الجاهلية ، واليوم أيضا يمكن مشاهدة نماذج لها ، فحين يقتل فرد من قبيلة معينة ، فإنّها تقوم بهدر الكثير من الدماء البريئة من قبيلة القاتل.

أو أن يقوم أولياء الدم بقتل أناس أبرياء أو الذين لا يستطيعون الدفاع عن أنفسهم. كأن يكون المقتول شخصا معروفا وذا منزلة اجتماعية. فإنّ أهله وفق الأعراف الجاهلية ، سوف لن يكتفوا بحدّ القصاص الشرعي ، بل يقتلون فردا معروفا ومكافئا في منزلته الاجتماعية للمقتول من قبيلة القاتل ، حتى وإن لم يكن له أي دور في عملية القتل.(١) .

وعصرنا الحاضر ، شهد من التجاوز في الإسراف وهدر دماء الأبرياء ما غسل معه عار أهل الجاهلية ، فهذه إسرائيل اليوم تقوم بحجة قتل أحد جنودها بإلقاء القنابل والصواريخ على رؤوس النساء والأطفال الفلسطنيين الأبرياء ، وتعمد إلى هدم ديارهم.

__________________

(١) يراجع تفسير الآلوسي (روح المعاني) أثناء حديثه عن هذه الآية.

٤٦٨

كذلك شهدت سنوات الحرب الظالمة التي شنّها النظام البعثي على الجمهورية الإسلامية أسواء أنواع العدوان على دماء الأبرياء والإسراف في القتل.

إنّ رعاية العدالة ـ حتى في عقاب القاتل ـ تعتبر مهمّة إسلاميا ، لذلك نقرأ في وصية الإمام عليعليه‌السلام ، بعد أن اغتاله عبد الرحمن بن ملجم المرادي قوله : «يا بني عبد المطلب ، لا ألفينكم تخوضون دماء المسلمين ، تقولون قتل أمير المؤمنين ، ألا لا تقتلن بي إلّا قاتلي ، انظروا إذا أنا مت من ضربته هذه ، فاضربوه ، ضربة بضربة ، ولا تمثلوا بالرجل»(١) .

رابعا : الآية التي بعدها تشير إلى حفظ مال اليتيم ، والملاحظ أنّ الآية استخدمت نفس أسلوب الآية التي سبقتها ، فلم تقل : لا تأكلوا مال اليتيم وحسب ، وإنّما قالت :( وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ ) .

وفي هذا التعبير تأكيد على حرمة مال اليتيم. ولكن قد تكون هذه الآية حجة لبعض الجهلاء الذين سيتركون مال اليتامي يهدر ويكون عرضة للحوادث بدون أن يكون عليه قيّم، لذلك استثنت بقوله :( إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ) . وبناء على هذا الاستثناء يمكن التصرف بأموال اليتامى بشرط حفظ هذه الأموال ، وتنميتها وتكثيرها. وهذا الوضع يستمر الى أن يبلغ اليتيم سنّ الرشد ويستطيع فكريا واقتصاديا أن يكون قيما على نفسه وأمواله( حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ ) .

«أشدّ» مأخوذة من «شدّ» على وزن «جدّ» وهي بمعنى «العقدة المحكمة» ثمّ توسع المعنى فيما بعد ليشمل أي نوع من القوة الروحية والجسمية. والمقصود من كلمة «أشد» في الآية هو الوصول إلى مرحلة البلوغ. ولكن ليس البلوغ الجسمي وحسب ، وإنّما الرشد الفكري والقدرة الاقتصادية التي تؤهل اليتيم لأن يحفظ أمواله. اختيار كلمة «أشد» في الآية هو لتحقيق كل هذه المعاني مجتمعة ، والتي

__________________

(١) نهج البلاغة ، مجموعة الرسائل ، الرقم (٤٧).

٤٦٩

يمكن اختيارها بالتجربة.

الأيتام ظاهرة طبيعية في أي مجتمع ، ووجودهم يكون تبعا لحوادث مختلفة يمر بها المجتمع ، والدوافع الإنسانية تفرض رعاية هؤلاء اليتامى من قبل الخيّرين والمحسنين في المجتمع ، والإسلام يحث على رعاية الأيتام ، وقد تحدثنا عن هذا الأمر مفصلا في الآية (٢) من سورة النساء.

والشيء الذي نريد أن نضيفه هنا هو أن بعض الرّوايات والأحاديث الإسلامية وسّعت في مفهوم اليتيم ليشمل الأفراد الذين انقطعوا عن إمامهم وقائدهم ، ولا يصل صوت الحق إليهم. وهذا المعنى نوع من التوسع في المفهوم واستفادة معنوية من حكم مادي.

خامسا : تشير الآية بعد ذلك إلى الوفاء بالعهد فتقول :( وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلاً ) . إنّ الكثير من العلاقات الاجتماعية وخطوط النظام الاقتصادي والمسائل السياسية قائمة على محور العهود ، بحيث إذا ضعف هذا المحور وانهارت الثقة بين الناس ، فسينهار النظام الاجتماعي وستحل الفوضى ، ولهذا السبب تؤكّد الآيات القرآنية ـ بقوّة ـ على قضية الوفاء بالعهود.

«العهد» له معان واسعة ، فهو يشمل العهود والمواثيق الخاصة بين الأفراد في القضايا الاقتصادية والمعاشية ، وفي العمل والزواج ، وهو يشمل أيضا المواثيق والمعاهدات بين الحكومات والشعوب ، وفوق ذلك فإنّ العهد يشير إلى ميثاق الأمم مع الله ورسوله وكتبه ، وكذلك العكس ، أي التزام هؤلاء بالعهد أمام الناس(١) .

سادسا : آخر حكم من الأحكام الستة ، يتصل بالعدل في الوزن والكيل ورعاية حقوق الناس في ذلك ومحاربة التطفيف في الميزان حيث تقول الآية

__________________

(١) بالنسبة لأهمية الوفاء بالعهد والقسم لدينا بحث مفصل حول الموضوع يمكن مراجعته في بحث الآيات ٩١ ـ ٩٤ من سورة النحل.

٤٧٠

الكريمة :( وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ ، وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ ، ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً ) .

* * *

ملاحظات

١ ـ أضرار التطفيف في الكيل :

أوّل ملاحظة ينبغي الانتباه إليها هنا ، هي أنّ القرآن الكريم أكدّ مرارا على ضرورة الوزن للناس بالقسطاس ، وحذّر من البخس والتطفيف في الميزان حتى أنّه اعتبر ذلك في موضع ، مرادفا لنظام الخلق في عالم الوجود ، حيث نقرأ في الآيتين (٧ ، ٨) من سورة الرحمن ، قوله تعالى :( وَالسَّماءَ رَفَعَها وَوَضَعَ الْمِيزانَ ، أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزانِ ) . والآية تشير إلى أنّ مسألة بخس الناس والتطفيف في الميزان ليست مسألة صغيرة ، بل هي كبيرة وتدخل في صميم أصول العدالة والنظام المهيمن على عالم الوجود برمته.

في مكان آخر ، وبأسلوب أكثر قوّة ، يهدّد القرآن المطففين ، بقوله ، كما في سورة المطففين (١ ـ ٤) :( وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ ، وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ ، أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ ) .

بعض الأنبياء الذين ورد ذكرهم في القرآن كانوا يحاربون التطفيف بعد الشرك مباشرة ، كما حصل لشعيب مع قومه ، ولمّا لم يلتفتوا إلى تعليمات نبيّهم نالهم العذاب الأليم. (تراجع القصة في نهاية آية ٨٥ من سورة آل عمران).

وعادة ، فإنّ الحق والعدل والنظام والحساب ، كل هذه الأمور تعتبر أصولا أساسية للحياة ، بل وتدخل في نظام الوجود والخلق ، لذلك فابتعاد الناس عن هذا الأصل ـ خصوصا بالنسبة لبخس الكيل والتطفيف في الميزان ـ يؤدي إلى إنزال ضربة شديدة بالثقة التي تعتبر جوهر استقرار التعامل الاقتصادي بين الناس.

٤٧١

ومع الأسف فإنّنا نرى ـ في بعض الأحيان ـ أنّ غير المسلمين ، ولأغراض كسب الثقة بأنفسهم وتجارتهم ، يلتزمون بشكل دقيق بالمواصفات والأرقام المتفق عليها ، بينما يتجاوز بعض المسلمين هذه الحدود! وهذه إشارة على أنّ طريق الدنيا أيضا يمر من خلال عدم الخيانة والغش.

وينبغي أن يلاحظ هنا أنّ هؤلاء الذين يخلّون بالميزان ويطففون الكيل مسئولون أمام المشتري مسئولية حقوقية ، لذلك فإنّ توبتهم لا تتم إلّا برد الحقوق المغصوبة إلى أهلها ، وإذا تعذّر عليهم ذلك ، فينبغي لهم إعطاء ما يساويها إلى الفقراء والمحتاجين بعنوان رد مظالم عن الأصحاب الحقيقيين.

٢ ـ ما هو حكم التطفيف وبخس الكيل؟

الجدير بالملاحظة أن حكم التطفيف وبخس الكيل ، قد يعمّم بحيث يشمل كل أشكال التقصير المتعمد في الأعمال والوظائف المختلفة ، فمن التطفيف من لا ينجز عمله كاملا ، والمعلم الذي لا يدرّس بشكل جيد ، والموظف الذي لا يلتزم بأوقات عمله وهو غير حريص عليه. ولكن الألفاظ المستخدمة في هذه الآية لا تفيد معنى هذا التعميم ، فهي من التوسعة العقلية إلّا أنّ قوله تعالى :( وَالسَّماءَ رَفَعَها وَوَضَعَ الْمِيزانَ أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزانِ ) يشير إلى هذا التعميم.

٣ ـ ما هو معنى «قسطاس»؟

«قسطاس» بكسر القاف أو ضمها على وزن «مقياس» وأحيانا تقاس على وزن «قرآن» بمعنى «الميزان» والبعض يعتبرها كلمة رومية ، بينما البعض يرى بأنّها كلمة عربية. وهناك من يقول بأنّها مركبة من كلمتين هما «قسط» بمعنى العدل و «طاس» بمعنى كفة الميزان. أمّا البعض الآخر فيقول بأنّ كلمة «قسطاس» تطلق

٤٧٢

على الميزان الكبير ، بينما كلمة «ميزان» تطلق على الموازين الصغيرة(١) .

وفي كل الأحوال ، فإنّ (القسطاس المستقيم) تعني الميزان الصحيح والسالم والعادل بدون نقيصة أو زيادة.

والطريف هو أنّ هناك رواية عن الإمام الباقرعليه‌السلام ، تفسر هذه الكلمة بقوله : «هو الميزان الذي له لسان»(٢) .

وذلك لأنّه مع عدم وجود اللسان لا يستطيع الميزان أن يوضح حركة الكفتين بشكل دقيق ، أمّا مع وجوده فإنّ أقل حركة للكفتين تنعكس على اللسان ، وبهذا الشكل يمكن رعاية العدل كاملا.

* * *

__________________

(١) تلاحظ تفاسير الميزان ، والفخر الرازي ، ومجمع البيان في تفسير الآية مورد البحث.

(٢) يراجع تفسير الصافي ، أثناء تفسير هذه الآية.

٤٧٣

الآيات

( وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً (٣٦) وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولاً (٣٧) كُلُّ ذلِكَ كانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً (٣٨) ذلِكَ مِمَّا أَوْحى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَتُلْقى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَدْحُوراً (٣٩) أَفَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِناثاً إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيماً (٤٠) )

التّفسير

الانقياد للعلم :

في الآيات السابقة وقفنا على مجموعة من الأصول والأحكام الإسلامية التي بدأت بالتوحيد بوصفه أساس هذه التعاليم ، وانتهت بالأحكام التي تشمل الحياة الفردية والجماعية للإنسان.

وفي الآيات التي نبحثها الآن نلتقي مع آخر مجموعة من سلسلة هذه

٤٧٤

الأحكام حيث تشير الآيات أعلاه الى عدّة احكام مهمّة :

أوّلا : في البداية ينبغي للإنسان المسلم أن يلتزم الدقة في كل الأمور ويجعل العلم رائده( وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ) في شؤونك الشخصية وفي القضاوة بين الناس ، وفي إعطاء الشهادة ، وحتى في الأعمال الشخصية ليكن رائدك الدائم هو العلم دون غيره.

وعلى هذا الأساس يكون مورد الآية شاملا لمعان واسعة ، ولا دليل على ما يذهب إليه بعض المفسّرين من تقييد المعنى ببعض ما ورد أعلاه من الموارد والذي يؤيد ذلك أن( لا تَقْفُ ) مأخوذة من «قفو» على وزن «عفو» وهي تعني متابعة شيء ما ، ومن المعلوم أنّ الأمور التي نتابعها هي أمور لا تقف عند حد ، لذلك فإنّ النهي الوارد في الآية يشملها جميعا.

بناء على ذلك ، يتّضح أنّ (العلم واليقين) هما أساس المعرفة في كلّ شيء ، وأن لا شيء من «الظن» أو «التخمين» أو «الشك» يسد مسد العلم واليقين ، ومن يعتمد على ما دون العلم فإنّه بذلك يخالف القانون الإسلامي الصريح.

وبعبارة أخرى : لا الشائعة يمكن أن تكون مقياسا للقضاء والشهادة والعمل ، ولا القرائن الظنية ، ولا الأخبار غير القطعية المشكوك في مصادرها. وفي النهاية تعلّل الآية عدم اتباع ما دون العمل ، فتقول :( إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً ) .

والسّؤال الذي تواجه به الأعضاء المذكورة يعود إلى مسئولياتها عن الأعمال ، إذ السمع مسئول عن الكلام المشكوك غير الموثق ، والبصر عن موارد ادعاء الإنسان للمشاهدة والرؤية مع أنّه لم يشاهد أو يرى ، والفؤاد يسأل عن الأفكار الخاطئة التي تدخل في الأحكام الخاطئة. وإذا كان بعض المفسّرين يرى أنّ المسؤولية التي تتحدث عنها الآية تقع على عاتق صاحبها لا عليها ـ أي الأعضاء ـ بالذات ، إلّا أنّ هناك الكثير من الآيات تصرّح بأنّ الأعضاء نفسها

٤٧٥

تسأل يوم القيامة (مثل الآية ٢١ من سورة فصّلت) وتجيب عمّا اقترفت. لذلك لا معنى لتوجيه المسؤولية في الآية من الأعضاء المذكورة إلى صاحبها.

أمّا لما ذا أشارت الآية ـ من بين كل حواس الإنسان ـ إلى السمع والبصر بالذات؟فسبب ذلك واضح ، إذ أنّ معظم المعلومات الحسية للإنسان يكون مصدرها السمع والبصر.

درس في استقرار النظام الاجتماعي :

الآية المذكورة آنفا تشير إلى أحد المبادي والأصول المهمّة في الحياة الاجتماعية الذي لو طبّق في المجتمع البشري بشكل دقيق لأمكن اجتثاث جذور الفساد من الشايعات والأحكام القضائية المتسرعة والظنون العائمة والأكاذيب وأمثال ذلك ، وفي غير هذه الصورة فإنّ حالة من الفوضى ستضرب العلاقات الاجتماعية ، إذ سوف لا يبقى أي شخص بمنأى عن الشك والريبة ، وبمأمن عن سوء الظن وستنعدم الثقة بين الأفراد. وتكون مكانة الفرد في المجتمع في خطر دائم.

لذلك نرى الآيات والأحاديث الإسلامية تؤكّد بكثرة على هذه الفكرة ، وبين يدينا الآن ما يلي :

* الآية (٣٦) من سورة يونس تنتقد بشدة الأفراد الذين يتبعون الظن ويجعلونه مقاسا لقناعاتهم( وَما يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا ، إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً ) .

* أمّا الآية (٢٣) من النجم ، فإنها اعتبرت الظن في مرتبة إتباع هوى النفس( إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ ) .

* وفي حديث عن الإمام الصادقعليه‌السلام نقرأ : «إنّ من حقيقة الإيمان أن لا يجوز

٤٧٦

منطقك علمك»(١) .

* وفي حديث عن الإمام موسى بن جعفرعليه‌السلام نقل عن آبائهعليهم‌السلام ، قوله : «ليس لك أن تتكلم بما شئت ، لأنّ اللهعزوجل يقول :( وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ) (٢) .

* وعن الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «إيّاكم والظن فإنّ الظن أكذب الكذب»(٣) .

* وفي من لا يحضره الفقيه : «قال رجل للصادقعليه‌السلام : إنّ لي جيرانا ولهم جوار يتغنين ويضربن بالعود ، فربما دخلت المخرج فأطيل الجلوس استماعا منّي لهن؟ قال له الصادقعليه‌السلام : «تالله أنت! أما سمعت الله يقول :( إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً ) فقال الرجل : كأنّي لم أسمع بهذه الآية من كتاب اللهعزوجل من عربي ولا عجمي ، ولا جرم أني قد تركتها وأنا أستغفر الله تعالى»(٤) .

وفي بعض المصادر الحديثية نقرأ أنّ الإمام الصادقعليه‌السلام أمر الرجل أن ينهض ويغسل غسل التوبة ، وأن يصلّي ما استطاع ، لأنّه قد ارتكب عملا سيئا لو قبض عليه لكانت مسئولية عظيمة!

من خلال مجموع هذه الآيات والرّوايات تتّضح مدى المسؤولية التي تقع على العين والأذن ، وكيف أنّ الإسلام ينهى عن أن يقول الإنسان ما لم يسمع ، أو ما لا يقوم على العلم ، أو يتحدث عن أشياء لم يرها ، إذا العلم وحده هو الميزان دون إتباع الظن والوهم والحدس أو الاعتماد على الشك والإشاعة ، لأنّ سبيل الاعتماد على هذه المصادر يؤدي إلى آثار خطرة على حياة الفرد والمجتمع ، هذه الآثار يمكن أن نلخصها كما يلي :

١ ـ إنّ اعتماد ما هو دون العلم ، يؤدي إلى هضم حقوق الأفراد وإعطاء الحق

__________________

(١) وسائل الشيعة ، ج ١٨ ، ص ١٦.

(٢) وسائل الشيعة ، ج ١٨ ، ص ١٧.

(٣) وسائل الشيعة ، ج ١٨ ، ص ٣٨.

(٤) نور الثقلين ، ج ٣ ، ص ١٦٤.

٤٧٧

لغير صاحبه.

٢ ـ الاعتماد على الظن وما شابهه يؤدي إلى تعريض كرامة الإنسان المؤمن للخطر ، ويقلّل أيضا من حماس واندفاع المخلصين.

٣ ـ اعتماد ما هو دون العلم ، يؤدي إلى انتشار الشائعات.

٤ ـ اعتماد الظن وغيره يقضى على ملاكات الدقة والبحث والتحقيق عند الإنسان ويجعله ساذجا سريع التصديق.

٥ ـ إنّ الاعتماد على غير العلم ينقض العلائق الودية الحميمة القائمة بين الناس في البيت والسوق ومحل العمل ، ويجعل بعضهم يسيء الظن بالبعض الآخر.

٦ ـ اعتماد غير العلم يفسد في الإنسان قابلية الاستقلال الفكري ويجعله عرضة للأفكار الفاسدة.

٧ ـ إنّ اعتماد غير العالم يكون قاعدة للتعجّل في انتخاب الأشياء والحكم على الأشخاص ممّا يسبّب الندامة والفشل فيما بعد.

الأوهام وسبل مكافحتها

السؤال الذي يرد هنا ، هو كيف نصون أنفسنا ومجتمعنا من الانجرار إلى هذه العادة الخاطئة (إتباع الظن) ذات العواقب الوخيمة؟

والجواب على السؤال يحتاج إلى بحث طويل ، ولكنّا لانعدم ثلاث إشارات سريعة هي:

ألف ـ يجب أن ننبّه الناس إلى العواقب الخطيرة لاتباع الظن دون العلم ، ونحذّرهم من مغبة النتائج الوخيمة لذلك.

ب ـ يجب تكريس طريقة التفكير الإسلامي ، وجعلها حيّة في حياة الإنسان ، هذه الطريقة التي يؤكّد على أنّ الإنسان مراقب دوما من قبل الله تعالى ، إذ هو سميع وبصير ، وخبير بالنوايا والبواطن ، إذا جاء في الآية (١٩) من غافر قوله

٤٧٨

تعالى :( يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَما تُخْفِي الصُّدُورُ ) .

ج ـ ينبغي ترشيد المستوى الفكري والثقافي في حياة الإنسان المسلم لأنّ إتباع غير العلم هو سمة يختص بها الجهلاء الذين ما إن يستمعوا إلى إشاعة معينة حتى يصدّقوا بها ، ويجعلوا منها قاعدة للحكم على القضايا ومقياسا لآرائهم.

ثانيا : الكبر والغرور :

الآية التي بعدها تدعو إلى محاربة الكبر والغرور ، وبتعبير واضح ولطيف تنهي المؤمنين عن هاتين الصفتين حيث تخاطب النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالقول :( وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً ) (١) . لماذا؟( إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولاً ) . وهذه إشارة إلى سلوك المتكبرين والمغرورين الذي يضربون الأرض بعنف أثناء مشيهم لكي يلتفت الناس إليهم ، ويرفعون رؤوسهم في السماء علامة على أفضليتهم المزعومة بين الناس ، لهؤلاء تقول الآية :( إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولاً ) . إذ مثل هؤلاء كالنملة التي تمشي على صخرة كبيرة وتضرب برجلها عليها ، إلّا أن الصخرة تسخر من حماقتها. ثمّ أنت أيّها المتكبر هل تستطيع ـ مهما رفعت رأسك في السماء ـ أن تكون مثل الجبال علوا ، إنّك مهما تفعل لا ترتفع سوى سنتيمترات قليلة ، وحتى هذه الجبال لن تكون شيئا إزاء الكرة الأرضية ، والكرة الأرضية تعتبر ذرّة سابحة في عالم الوجود!

إذن فما هذا الكبر والغرور الموجود عندك أيّها الإنسان؟!

الظريف في الأمر ، أنّ القرآن لم يبحث مباشرة هذه الصفات الداخلية الخطرة في تركيب الإنسان ووجوده (أي التكبر والغرور) وإنّما أشار إليها من خلال آثارها والظواهر السلوكية التي تنتج عنها ، حيث تحدّث القرآن عن مشية المتكبر

__________________

(١) «مرح» على وزن فرح ، وهي تعني الفرح الشديد قبال موضوع باطل لا أساس له.

٤٧٩

والمغرور ، وهذه إشارة إلى أنّ التكبر والغرور ، حتى في أهون الصور وأقل الحالات ، يعتبر مذموما مخجلا مهما كانت آثاره جزئية وصغيرة.

وفي الآية ـ أيضا ـ إشارة إلى أنّ الصفات الداخلية ـ الباطنية ـ للإنسان تظهر ـ شاء أم أبى ـ من خلال الأعمال والتصرفات ، من خلال المشي مثلا ، أو النظر أو الكلام وأمثال ذلك. لهذا السبب ينبغي علينا إذا ما واجهتنا أدنى ظاهرة أو أثر لهذه الصفات ، أن نعرف أنّ الخطر أصبح قريبا ، وأنّ هذه الصفة المذمومة (التكبر والغرور) قد عششت في روحنا ويجب علينا مجاهدتها فورا.

ويمكن أن نفهم من خلال هذه الآية ، وما ذكر في القرآن الكريم (ومن خلال سورة لقمان وسور أخرى) أنّ التكبر والغرور مرفوضان بشكل عام. لماذا؟ لأنّ الغرور هو مصدر الغربة عن الله وعن النفس السليمة ، وهو سبب الخطأ في الحكم والقضاء ، وسبيل ضياع الحق والارتباط بخط الشيطان والتلوث بأنواع الذنوب.

فالإمام عليعليه‌السلام يقول في صفات المتقين في حديثه إلى «همام» : «ومشيهم التواضع»(١) . والمقصود بالمشي هنا ليس التجوال في السوق والشارع ، وإنّما هي كناية عن أسلوب المشي والتعامل في جميع الأمور الحياتية ، بما في ذلك خطوطهم الفكرية إذ هم متواضعون في تفكيرهم.

البرنامج الحياتي العملي لقادة الإسلام يعتبر درسا مفيدا لكل مسلم حقيقي في هذا المجال. ففي سيرة الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نرى أنّه لم يكن يسمح لأحد أن يمشي بين يديه وهو راكب ، بل كان يقول : اذهب أنت إلى المكان الفلاني وأنا سآتيك إلى نفس المكان ، حيث أنّ المشي بين يدي الراكب يؤدي إلى غرور الراكب وذلة الماشي.

ونقرأ ـ أيضا ـ أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يجلس على التراب تواضعا ، ويأكل

__________________

(١) نهج البلاغة ، الخطبة (١٩٣).

٤٨٠

بحث

ما يخلفه الإنسان بعد موته :

المستفاد من الرّوايات الشريفة ، بالإضافة لما ورد في الآيات المباركة أعلاه ، إنّه ثمّة أعمال وآثار يخلفها الإنسان بعد موته ، وما ينجسم من تلك الأعمال والآثار حتى يوم القيامة يبقى مرتبطا بذات الفاعل الأصلي ، فإن كانت الأعمال حيّرة فستصله حسنات تتمة العمل واستمراره ، وإن كانت شريرة فلا يجني منها سوى الهون والعذاب.

فعن الإمام الصادق ٧ ، أنّه قال : «ليس يتبع الرجل بعد موته من الأجر إلّا ثالث خصال : صدقة أجراها في حياته ، فهي تجري بعد موته ، وسنّة هدى سنّها ، فهي تعمل بها بعد موته ، وولد صالح يستغفر له»(١) .

وفي رواية اخرى : «ست خصال يتنفع بها المؤمن بعد موته : ولد صالح يستغفر له ، مصحف يقرأ منه ، وقليب (بئر) يحفره ، وغرس يغرسه ، وصدقة ماء يجربه ، وسنة حسنة يؤخذ بها بعده»(٢) .

فيما أكّدت بعض الرّوايات على (العلم) الذي يخلّفه بعده.(٣) وقد حذّرت كثير من الرّوايات من أن يسنّ الإنسان سنّة سيئة ، لأنّ الفاعل الأوّل ستتابع عليه آثام تلك السنة إلى يوم القيامة.

وكذلك حثت وشوقت على استنان السنن الحسنة ، لينتفع الفاعل الأوّل لها بثوابها الجاري إلى يوم القيامة.

وذكر العلّامة الطبرسي حديثا في هذا المضمار إنّ سائلا قام على عهد النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فسأل ، فسكت القوم ، ثمّ أنّ رجلا أعطاه ، فأعطاه القوم فقال

__________________

(١) بحار الأنوار ، ج ٧١ ، ص ٢٥٧.

(٢) المصدر السابق.

(٣) منية المريد ، ص ١١.

٤٨١

النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من استن خيرا فاستن به فله أجره ، ومثل أجور من اتبعه ، غير منتقص من أجورهم ، ومن استن شرّا فاستن به فعليه وزره ، مثل أوزار من اتبعه غير منتقص من أوزارهم» فتلا حذيفة بن اليمان قوله تعالى :( عَلِمَتْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ ) (١) .

وعن أمير المؤمنينعليه‌السلام ، أنّه قال : «فكيف بكم لو تناهت بكم الأمور وبعثرت القبور ، هناك تبلو كلّ نفس ما أسلفت ، وردّوا إلى الله مولاهم الحق ، وضل عنهم ما كانوا يفترون»(٢) .

فتعكس هذه الآيات والرّوايات أبعاد مسئولية الإنسان أمام أعماله ، وتبيّن عظم المسؤولية ، فأثار فعل الخيرات أو المنكرات يتصل إليه وإن امتدت الآلاف السنين بعد موته!(٣) .

* * *

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ١٠ ، ص ٤٤٩.

(٢) نهج البلاغة ، الخطبة ٢٢٦.

(٣) لمزيد من التفصيل. راجع تفسير الآية (٢٥) من سورة النحل.

٤٨٢

الآيات

( يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (٦) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (٧) فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ (٨) كَلاَّ بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ (٩) وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ (١٠) كِراماً كاتِبِينَ (١١) يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ (١٢) )

التّفسير

لا داعي للغرور :

تنتقل الآيات أعلاه من المعاد إلى الإنسان ، ببيان إيقاظي عسى أن ينتبه الإنسان من غفلة ما في عنقه من حقّ وما على عاتقه من مسئوليات جسام أمام خالقه سبحانه وتعالى ، فتخاطب الآية الاولى الإنسان باستفهام توبيخي محاط بالحنان والرأفة الرّبانية :( يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ ) .

فالقرآن يذكّر الإنسان بإنسانيته ، وما لها من إكرام وأفضلية ، ثمّ جعله أمام «ربّ» «كريم» ، فالرّب وبمقتضى ربوبيته هو الحامي والمدبّر لأمر تربية وتكامل الإنسان ، وبمقتضى كرمه أجلس الإنسان على مائدة رحمته ، ورعاه بما أنعم عليه ماديا ومعنويا ودون أن يطلب منه أيّ مقابل ، بل ويعفو عن كثير من ذنوب

٤٨٣

الإنسان لفضل كرمه

فهل من الحكمة أن يتمرد هذا الموجود المكرّم على هكذا ربّ رحيم كريم؟!

وهل يحقّ لعاقل أن يغفل عن ذكر ربّه ولو للحظة واحدة ، ولا يطيع أمر مولاه الذي يتضمن سعادته وفوزه؟!

ولهذا فقد ورد عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عند تلاوته للآية المباركة أنّه قال : «غرّه جهله»(١) .

ومن هنا ، يتقرّب لنا هدف الآية ، فهي تدعو الإنسان لكسر حاجز غروره وتجاوز حالة الغفلة ، وذلك بالاستناد على مسألة الربوبية والكرم الإلهي ، وليس كما يحلو للبعض من أن يصور هدف الآية ، على أنّه تلقين الإنسان عذره ، فيقول : غرّني كرمك! أو كما قيل للفضيل بن عياض : «لو أقامك الله ويوم القيامة بين يديه ، فقال :( ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ ) ، ماذا كنت تقول له؟ قال : أقول : غرّني ستورك المرخاة»(٢) .

فهذا ما يخالف تماما ، لأنّها في صدد كسر حالة غرور الإنسان وإيقاظه من غفلته ، وليست في صدد إضافة حجاب آخر على حجب الغفلة!

فلا ينبغي لنا أن نذهب بالآية بما يحلو لنا ونوجهها في خلاف ما تهدف إليه! «غرّك» : من (الغرور) ، و «الغرّة» : غفلة في اليقظة ، وبعبارة اخرى : غفلة في وقت لا ينبغي فيه الغفلة ، ولما كانت الغفلة أحيانا مصدرا للاستعلاء والطغيان فقد استعملت (الغرور) بهذه المعاني.

والغرور) : كلّ ما يغرّ الإنسان من مال ، جاه ، شهوة وشيطان ، وقد فسّر الغرور بالشيطان ، لأنّه أخبث من يقوم بهذا الدور الدنيء في الدّنيا.

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ١٠ ، ص ٤٤٩ ؛ والدر المنثور ، وروح المعاني ، وروح البيان ، والقرطبي ، عند تفسير الآية المبحوثة.

(٢) المصدر السابق.

٤٨٤

وذكر في تفسير «الكريم» آراء كثيرة ، منها : إنّه المنعم الذي تكون جميع أفعاله إحسان ، وهو لا ينتظر منها أيّ نفع أو دفع ضرر.

ومنها : هو الذي يعطي ما يلزمه وما لا يلزمه.

ومنها : هو من يعطي الكثير بالقليل.

ولو جمعنا كلّ ما ذكر وبأعلى صورة لدخل في كرم اللهعزوجل ، فيكفي كرم الله جلالا أنّه لا يكتفي عن المذنبين ، بل يبدل (لمن يستحق) سيئاتهم حسنات.

وروي عن أمير المؤمنينعليه‌السلام عند تلاوته لهذه الآية ، أنّه قال : (إن الإنسان) «أدحض مسئول حجّة ، وأقطع مغترّ معذرة ، لقد أبرح (أي اغتر) جهالة بنفسه.

يا أيّها الإنسان ، ما جرّأك على ذنبك ، وما غرّك بربّك ، وما أنسك بهلكة نفسك؟

أمّا من دائك بلول (أي شفاء) ، أم ليس من نومتك يقظة؟ أما ترحم نفسك ما ترحم من غيرك؟ فلربّما ترى الضاحي من حرّ الشمس فتظلّه ، أو ترى المبتلى بألم يمض جسده فتبكي رحمة له! فما صبرك على دائك ، وجلدك على مصابك ، وعزاك عن البكاء على نفسك وهي أعزّ الأنفس عليك ، وكيف لا يوقظك خوف بيات نقمة (أي تبيت بنقمة من الله) وقد تورطت بمعاصيه مدارج سطواته! فتداو من داء الفترة في قلبك بعزيمة ، ومن كرى (أي النوم) الغفلة في ناظرك بيقظة ، وكن لله مطيعا وبذكره آنسا ، وتمثل (أي تصور) في حال توليك عنه إقباله عليك ، يدعوك إلى عفوه ويتغمدك بفضله وأنت متول عنه إلى غيره ، فتعالى من قوي ما أكرمه! وتواضعت من ضعيف ما أجرأك على معصيته! ...»(١) .

وتعرض لنا الآية التالية جانبا من كرم الله ولطفه على الإنسان :( الَّذِي

__________________

(١) نهج البلاغة ، الخطبة ٢٢٣.

٤٨٥

خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ فِي أَيِّ صُورَةٍ ما (١) شاءَ رَكَّبَكَ ) .

فالآية قد طرحت مراحل خلق الإنسان الأربعة أصل الخلقة ، التسوية ، التعديل ، ومن ثمّ التركيب.

ففي مرحلة الاولى : يبدأ خلق الإنسان ومن نطفة في ظلمات رحم الام.

وفي مرحلة الثّانية : مرحلة «التسوية والتنظيم» وفيها يقدر الباري سبحانه خلق كلّ عضو من أعضاء الإنسان بميزان متناهي الدّقة.

فلو أمعن الإنسان النظر في تكوين عينه اذنه أو قلبه ، عروقه وسائر أعضاءه ، وما أودع فيها من ألطاف ومواهب وقدرات إلهية ، لتجسم أمامه عالما من العلم والقدرة واللطف والكرم الإلهي.

عطاء ربّاني قد شغل العلماء آلاف السنين بالتفكير والبحث والتأليف ، ولا زالوا في أوّل الطريق

وفي المرحلة الثّالثة : يكون التعديل بين «القوى» و «الأعضاء» وتحكيم الارتباط فيما بينها.

وبدن الإنسان قد بني على هذين القسمين المتقاربين ، فـ اليدين ، الرجلين ، العينين ، الأذنين ، العظام ، العروق ، الأعصاب والعضلات قد توزعت جميعها على هذين القسمين متجانس ومترابط.

هذا بالإضافة إلى أنّ الأعضاء في عملها يكمل بعضها للبعض الآخر ، فجهاز التنفس مثلا يساعد في عمل الدورة الدموية بدورها تقدم يد العون إلى عملية التنفس ، ولأجل ابتلاع لقمة غذاء ، لا تصل إلى الجهاز الهضمي إلّا بعد أن يؤدّي كلّ من : الأسنان ، اللسان ، الغدد وعضلات الفم دوره الموكل به ، ومن ثمّ تتعاضد أجزاء الجهاز الهضمي على إتمام عملية الهضم وامتصاص الغذاء ، لينتج منه القوّة

__________________

(١) «ما» : زائدة ، واحتملها البعض (شرطية) ، ولكنّ الرأي الأوّل أقرب للصواب.

٤٨٦

اللازمة للحركة والفعالية

وكلّ ما ذكر ، وغيره كثير ، قد جمع قصيرة رائعة( ... فَعَدَلَكَ ) .

وقيل : «عدلك» إشارة إلى اعتدال قامة الإنسان ، وهو ما يمتاز به عن بقية الحيوانات ، وهذا المعنى أقرب للمرحلة القادمة ولكن المعنى الأوّل أجمع.

وفي المرحلة الرابعة : تكون عملية «التركيب» وإعطاء الصورة النهائية للإنسن نسبة إلى بقية الموجودات.

نعم ، فقد تكرم الباري بإعطاء النوع الإنساني صورة موزونة عليها مسحة جمالية بديعة قياسا مع بقية الحيوانات ، وأعطى الإنسان فطرة سليمة ، وركّبه بشكلّ يكون فيه مستعدا لتلقي كلّ علم وتربية.

ومن حكمة الباري أن جعل الصور الإنسانية مختلفة متباينة ، كما أشارت إلى ذلك الآية (٢٢) من سورة الروم :( وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوانِكُمْ ) ، ولولا الاختلاف المذكور لاختل توازن النظام الاجتماعي البشري.

ومع الاختلاف في المظهر فإنّ الباري جلّ شأنه قدّر الاختلاف والتفاوت في القابليات والاستعدادات والأذواق والرغبات ، وجاء هذا النظم بمقتضى حكمته ، وبه يمكن تشكيل مجتمع متكامل سليم وكلّ حوائجه ستكون مؤمّنة.

وتلخص الآية (٤) من سورة التين خلق الله للإنسان بصورة إجمالية :( لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ) .

والخلاصة : فالآيات المبحوثة ، إضافة لآيات أخر كثيرة تهدف وبشكلّ دقيق إلى تعريف الإنسان المغرور بحقيقته ، منذ كان نطفة قذرة ، مرورا بتصويره وتكامله في رحم امّه ، حتى أشدّ حالات نموه وتكامله ، وتؤكّد على أنّ حياة الإنسان في حقيقتها مرهونة بنعم الله ، وكلّ حيّ يفعم برحمة الله في كل لحظات حياته ، ولا بدّ لكلّ حي ذي لبّ وبصيرة من أن يترحل من مطية غروره وغفلته ،

٤٨٧

ويضع طوق عبودية المعبود الأحد في رقبته ، وإلّا فالهلاك الحتمي.

وتتناول الآية التالية منشأ الغرور والغفلة :( كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ ) .

فالكرم الإلهي ، ولطف الباري منعمه ليست بمحفز لغروركم ، ولكنكم آليتم على عدم إيمانكم بالقيامة ، فوقعتم بتلك الهاوية الموهمة.(١)

ولو دققنا النظر في حال المغرورين والغافلين ، لرأينا أنّ الشك بيوم القيامة أو إنكاره هو الذي استحوذ على قلوبهم وما دونه مجرّد مبررات واهية ، ومن هنا يأتي لتشديد على أصل المعاد ، فلو قوي الإيمان بالمعاد في القلوب لارتفع الغرور وانقشعت الغفلة عن النفوس.

«الدين» : يراد به هنا ، الجزاء يوم الجزاء ، وما احتمله البعض من أنّه (دين الإسلام) فبعيد عن سياق حديث الآيات ، لأنّها تتحدث عن «المعاد».

وتأتي الآيات التالية لتوضح أنّ حركات وسكنات الإنسان كلّها مراقبة ومحسوبة ولا بدّ الإيمان بالمعاد وإزالة عوامل الغفلة والغرور ، فتقول( وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ ) (٢) .

وهؤلاء الحفظة لهم مقام كريم عند الله تعالى ودائبين على كتابة أعمالكم :( كِراماً كاتِبِينَ ) .

( يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ ) .

و «الحافظين» : هم الملائكة المكلفون بحفظ وتسجيل أعمال الإنسان من خير أو شرّ ، كما سمّتهم الآية (١٧) من سورة (ق) بالرقيب العتيد :( ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ ) ، كما وذكرتهم الآية (١٦) من نفس السورة :( إِذْ يَتَلَقَّى

__________________

(١) «كلا» حرف ردع لإنكار شيء ذكر وتوهم ، لكن أي إنكار قصدته الآية؟ ثمة احتمالات عديدة للمفسرين في ذلك ، وأهمها ما ذكر أعلاه ، أي أن «كلا» جاءت لتنفي كل أسباب ومنابع الغرور والغفلة وتجعلها في إنكار القيامة والتكذيب به فقط. وهو ما ورد بعد «بل» وهذا ما اختاره الراغب في مفردات (في مادة : بل) ، وقال بعد ذكره للآية : قيل ليس هاهنا ما يقتضي أن يغرهم به تعالى ولكن تكذيبهم هو الذي حملهم على ما ارتكبوه.

(٢) قيل : إن «الواو» هنا حالية ، كما في روح المعاني وروح البيان ، ولكن احتمال كونها (استئنافية) أقرب للحال.

٤٨٨

الْمُتَلَقِّيانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ ) .

وثمّة آيات قرآنية اخرى تشير إلى رقابة الملائكة لما يفعله الإنسان في حياته.

إنّ نظر وشهادة اللهعزوجل على أعمال الإنسان ، ممّا لا شك فيه ، فهو الناظر لما يبدر من الإنسان قبل أيّ أحد ، وأدق من كلّ شيء ، ولكنّه سبحانه ولزيادة التأكيد ولتحسيس الإنسان بعظم مسئولية ما يؤديه ، فقد وضع مراقبين يشهدون على الإنسان يوم الحساب ، ومنهم هؤلاء الملائكة الكرام.

وقد فصّلنا أقسام المراقبين الذين يحفون بالإنسان من كلّ جهة ، وذلك ذيل الآيتين (٢٠ و٢١) من سورة فصّلت ، ونوردها هنا إجمالا ، وهي على سبعة أقسام.

أوّلا : ذات الله المقدّسة ، كما في قوله تعالى :( وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ ) (١) .

ثانيا : الأنبياء والأوصياءعليهم‌السلام ، بدلالة قوله تعالى :( فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً ) (٢) .

ثالثا : أعضاء بدن الإنسان ، بدلالة قوله تعالى :( يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ ) (٣) .

رابعا : جلد الإنسان وسمعه وبصره ، بدلالة قوله تعالى :( حَتَّى إِذا ما جاؤُها شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ ) (٤) .

خامسا : الملائكة ، بدلالة قوله تعالى :( وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ

__________________

(١) يونس ، الآية ٦١.

(٢) النساء ، الآية ٤١.

(٣) النور ، الآية ٢٤.

(٤) فصلت ، الآية ٢١.

٤٨٩

وَشَهِيدٌ ) (١) ، وبدلالة الآية المبحوثة أيضا.

سادسا : الأرض المكان الذي يعيش عليه الإنسان ، بدلالة قوله تعالى :( يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها ) (٢) .

سابعا : الزمان الذي تجري فيه أعمال الإنسان ، بدلالة ما روي عن الإمام عليعليه‌السلام في وقوله : «ما من يوم يمرّ على ابن آدم إلّا قال له ذلك اليوم : يا ابن آدم أنا يوم جديد وأنا عليك شهيد»(٣) .

وفي كتاب الإحتجاج للشيخ الطبرسي : إنّ شخصا سأل الإمام الصادقعليه‌السلام عن علّة وضع الملائكة لتسجيل أعمال الإنسان في حين أنّ اللهعزوجل عالم السرّ وأخفى؟

فقال الإمامعليه‌السلام : «استعبدهم بذلك ، وجعلهم شهودا على خلقه ، ليكون العباد لملازمتهم إيّاهم أشدّ على طاعة الله مواظبة ، وعن معصيته أشدّ انقباضا ، وكم من عبد يهم بمعصية فذكر مكانهما فارعوى وكفّ ، فيقول ربّي يراني ، وحفظتي عليّ بذلك يشهد ، وأنّ برأفته ولطفه وكّلهم بعباده ، يذبّون عنهم مردة الشياطين ، وهوام الأرض ، وآفات كثيرة من حيث لا يرون بإذن الله ، إلى أن يجيء أمر اللهعزوجل »(٤) .

ويستفاد من هذه الرواية أنّ للملائكة وظائف اخرى إضافة لتسجيلهم لأعمال الإنسان كحفظ الإنسان من الحوادث والآفات ووساوس الشيطان.

(وقد بحثنا موضوع وظائف ومهام الملائكة بتفصيل في ذيل الآية (١) من سورة فاطر ـ فراجع).

__________________

(١) سورة ق ، الآية ٢١.

(٢) الزلزال ، الآية ٤.

(٣) سفينة البحار ، ج ٢ ، ص ٧٣٩ (مادة : يوم).

(٤) نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ٥٢٢.

٤٩٠

وقد وصفت الآيات المبحوثة هؤلاء الملائكة بأنّهم «كرام» ، ليكون الإنسان أكثر دقّة في مراقبة نفسه وأعماله ، لأنّ الناظر كلّما كان ذا شأن كبير ، تحفظ الإنسان منه أكثر وأكثر واستحى من فعل المعاصي أمامه.

وعلّة ذكر «كاتبين» للتأكيد على إنّهم لا يكتفون بالمراقبة والحفظ دون تسجيل ذلك بدقّة متناهية.

وذكر :( يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ ) تأكيد آخر على كونهم مطلعين على كلّ الأعمال وبشكل تام ، واستنادا إلى اطلاعهم ومعرفتهم يسجلون ما يكتبونه.

فالآيات تشير إلى حرية إرادة الإنسان ، وتشير إلى كونه مختارا ، وإلّا فما قيمة تسجيل الأعمال؟ وهل سيبقى للتحذير والإنذار من معنى؟

وتشير أيضا إلى جدّية ودقّة الحساب والجزاء والإلهي.

ويكفي فهم واستيعاب هذه الإشارات البيانية الرّبانية لإنقاذ الإنسان من وقوعه في هاوية المعاصي ، وتكفيه الإشارات عظة ليزكي ويعرف مسئوليته ويعمل بدروه.

* * *

بحث

كتبة صحائف الأعمال :

لم تكن الآيات المبحوثة الدليل الوحيد على وجود المراقبين لأعمال الإنسان ، والكاتبين لها بخيرها وشرّها ، بل ثمّة آيات كثيرة وروايات عديدة تناولت ذلك ومن جملة ما ورد من الأحاديث بهذا الشأن.

١ ـ سؤال عبد الله بن موسى بن جعفرعليه‌السلام لأبيه عن الملكين هل يعلمان بالذنب إذا أراد العبد أن يفعله ، أو الحسنة؟

فقال الإمامعليه‌السلام : «ريح الكنيف وريح الطيب سواء؟».

٤٩١

قال : لا.

قال : «إنّ العبد إذا همّ بالحسنة خرج نفسه طيّب الريح ، فيقول صاحب اليمين لصاحب الشمال : قم فإنّه قد همّ بالحسنة ، فإذا فعلها كان لسانه قلمه وريقه مداده ، فأثبتها له ، وإذا همّ بالسيئة خرج نفسه منتن الريح ، فيقول صاحب الشمال لصاحب اليمين ، قف فإنّه قد همّ بالسيئة ، فإذا هو فعلها كان لسانه قلمه وريقه مداده ، وأثبتها عليه»(١) .

فالرواية تبيّن ما للنيّة من أثر على كامل وجود الإنسان ، وأنّ الملائكة يسجلون ما وقع من فعل من الإنسان ولكنّهم مطلعين على فعل الواقع قبل وقوعه ، وعليه فتسجيلهم لأعمال الإنسان دقيق جدّا ، ولا يفوتهم شيئا إلّا وكتبوه في صحيفته.

والرواية أيضا ، تأتي في سياق الحديث النبوي الشريف : «إنّما الأعمال بالنيات» للتأكيد على ما لنيّة الإنسان من أثر على فعله الحسن أو السيء.

وتبيّن أيضا ، بأنّ وسائل الكتابة هي جوارح الإنسان الناوي للفعل ، فلسانه القلم وريقه المداد!

٢ ـ وثمّة روايات تؤكّد على أنّ الملائكة مأمورة بتسجيل النوايا الحسنة دون النوايا السيئة ، ومنها : «إنّ تبارك وتعالى جعل لآدم في ذريته من همّ بحسنة ولم يعملها كتبت له حسنة ، ومن همّ بحسنة وعملها كتبت له بها عشرا ، ومن همّ بسيئة ولم يعملها لم تكتب له ، ومن همّ بها وعملها كتبت عليه سيئة».(٢)

فالرواية تبيّن منتهى اللطف الرّباني الفصل الإلهي على الإنسان ، وتحث الإنسان على الأعمال الصالحة فنيّته السيئة لا تسجل عليه ، وفعله السيء يكتب عليه وفق موازين العدل ، في حين أنّ نيّته الحسنة وفعله الحسن يسجلان

__________________

(١) اصول الكافي ، ج ٢ ، ص ٤٢٩ ، باب «من يهمّ بالحسنة أو السيئة» الحديث ٣.

(٢) المصدر السابق ، الحديث ١ ـ ٢.

٤٩٢

له وفق اللطف والتفضل الإلهي

٣ – وروي عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أنّه قال : «يهمّ العبد بالحسنة فيعملها ، فإن هو لم يعملها كتب الله له حسنة بحسن نيّته ، وإن هو عملها كتب الله له عشرا ، ويهمّ بالسيئة أن يعملها ، فإن لم يعملها لم يكتب عليه شيء وإن عملها اجّل سبع ساعات ، وقال صاحب الحسنات لصاحب السيئات وهو صاحب الشمال : لا تعجل عسى أن يتبعها بحسنة تمحوها ، فإن اللهعزوجل يقول :( إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ) ، أو الاستغفار فإنّ هو قال : استغفر الله الذي لا إله إلّا هو ، عالم الغيب والشهادة ، العزيز الحكيم ، الغفور الرحيم ، ذو الجلال والإكرام وأتوب إليه ، لم يكتب عليه شيء ، وإن مضت سبع ساعات ولم يتبعها بحسنة أو استغفار قال صاحب الحسنات لصاحب السيئات : اكتب على الشقي المحروم»(١) .

٤ – وروي عن الإمام الصادقعليه‌السلام : «إنّ المؤمنين إذا أقبلا على المساءلة قالت الملائكة بعضها لبعض : تنحوا عنهما فإنّ لهما سرّا وقد ستر الله عليهما»!(٢)

٥ – وفي خطبة لأمير المؤمنينعليه‌السلام ، قال فيها بعد أن دعى الناس فيها لتقوى الله : «اعلموا عباد الله ، إنّ عليكم رصدا من أنفسكم ، وعيونا من جوارحكم ، وحفّاظ صدق يحفظون أعمالكم ، وعدد أنفاسكم ، لا تستركم منهم ظلمة ليل داج ولا يكنّكم منهم باب ذو رتاج «أي إحكام» ، وإنّ غدا من اليوم قريب»(٣) .

* * *

__________________

(١) المصدر السابق ، الحديث ٤.

(٢) اصول الكافي ، ج ٢ ، ص ١٨٤ ، الحديث ٢ ؛ وعنه نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ١١٠.

(٣) نهج البلاغة ، الخطبة ١٥٧.

٤٩٣

الآيات

( إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ (١٣) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (١٤) يَصْلَوْنَها يَوْمَ الدِّينِ (١٥) وَما هُمْ عَنْها بِغائِبِينَ (١٦) وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ (١٧) ثُمَّ ما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ (١٨) يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ (١٩) )

التّفسير

«يوم لا تملك نفس لنفس شيئا» :

بعد ذكر الآيات السابقة لتسجيل أعمال الإنسان من قبل الملائكة ، تأتي الآيات أعلاه لتتطرق إلى نتائج تلك الرقابة ، وما سيصل إليه كلّ من المحسن والمسيء من عاقبة ، فتقول الآية الاولى :( إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ ) .

والثّانية :( وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ ) .

«الأبرار» : جمع (بار) و «برّ» على وزن (حق) ، بمعنى : المحسن ، و (البرّ) بكسر الراء ـ كلّ عمل صالح والآية تريد العقائد السليمة ، والنيات والأعمال الصالحة.

«نعيم» : وهي مفرد بمعنى النعمة ، ويراد به هنا «الجنّة» ، وجاءت بصيغة

٤٩٤

النكرة لبيان أهمية وعظمة هذه النعمة ، التي لا يصل لإدراك حقيقتها إلّا الله سبحانه وتعالى ، واختيرت كلمة «نعيم» بصيغة الصفة المشبهة ، للتأكيد على بقاء واستمرار هذه النعمة ، لأنّ الصفة المشبهة عادة ما تتضمّن ذلك.

«الفجّار» : جمع (فاجر) من (فجر) ، وهو الشقّ الواسع ، وقيل للصبح فجر لكونه فجر الليل ، أيّ شقّه بنور الصباح ، و (الفخور) : شقّ ستر الديانة والعفة ، والسير في طريق الذنوب.

«جحيم» : من (الجحمة) ، وهي تأجج النّار ، وتطلق الآيات القرآنية (الحجيم) على جهنّم عادة.

ويمكن أن يراد بقوله تعالى :( إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ ) الحال الحاضر ، أيّ : إنّ الأبرار يعيشون في نعيم الجنّة حاليّا ، وإنّ الفجّار قابعون في أودية النّار ، كما يفهم من إشارة الآية (٥٤) من سورة العنكبوت :( إِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ ) .

وقال بعض : المراد من الآيتين هو حتمية الوقوع المستقبلي ، لأنّ المستقبل الحتمي والمضارع المتحقق الوقوع يأتي بصيغة الحال في اللغة العربية ، وأحيانا يأتي بصيغة الماضي.

فالمعنى الأوّل أكثر انسجاما مع ظاهر الآية ، إلّا أنّ المعنى الثّاني أنسب للحال ، والله العالم.

وتدخل الآية التالية في تفصيل أكثر لمصير الفجّار :( يَصْلَوْنَها يَوْمَ الدِّينِ ) .

فإذا كانت الآية السابقة تشير إلى أنّ الفجّار هم في جهنّم حاليا ، فسيكون إشارة هذه الآية ، إلى أنّ دخولهم جهنّم سيتعمق ، وسيحسون بعذاب نارها ، بشكل أشدّ.

«يصلون» : من (المصلى) على وزن (سعي) ، و «صلى النّار» : دخل فيها ، ولكون الفعل في الآية قد جاء بصيغة المضارع ، فإنّه يدل على الاستمرار

٤٩٥

والملازمة في ذلك الدخول.

ولزيادة التفصيل ، تقول الآية التالية :( وَما هُمْ عَنْها بِغائِبِينَ ) .

اعتبر كثير من المفسّرين كون الآية دليلا على خلود الفجّار في العذاب ، وخلصوا إلى أنّ المراد بـ «الفجّار» هم «الكفّار» ، لكون الخلود في العذاب يختص بهم دون غيرهم.

ف «الفجّار» : إذن : هم الذين يشقون ستر التقوى والعفة بعدم إيمانهم وتكذيبهم بيوم الدين ، ولا يقصد بهم ـ في هذه الآيات ـ أولئك الذي يشقّون الستر المذكور بغلبة هوى النفس مع وجود حالة الإيمان عندهم.

وإتيان الآية بصيغة زمان الحال تأكيدا لما أشرنا إليه سابقا ، من كون هؤلاء يعيشون جهنّم حتّى في حياتهم الدنيا (الحالية) أيضا( ... وَما هُمْ عَنْها بِغائِبِينَ ) ، فحياتهم بحدّ ذاتها جهنّما ، وقبورهم حفرة من حفر النيران (كما ورد في الحديث الشريف) ، وعليه فجهنّم القبر والبرزخ وجهنّم الآخرة كلّها مهيأة لهم.

كما وتبيّن الآية أيضا : إنّ عذاب أهل جهنّم عذاب دائم ليس له انقطاع ، ولا يغيب عنهم ولو للحظة واحدة.

ولأهمية خطب ذلك اليوم العظيم ، تقول الآية التالية :( وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ ) .

( ثُمَّ ما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ ) .

فإذا كانت وحشة وأهوال ذلك اليوم قد أخفيت عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ وهو المخاطب في الآية ـ مع كلّ ما له من علم بـ القيامة ، المبدأ ، المعاد فكيف يا ترى حال الآخرين؟!!

والآيات قد بيّنت ما لأبعاد يوم القيامة من سعة وعظمة ، بحيث لا يصل لحدّها أيّ وصف أو بيان ، وكما نحن (السجناء في عالم المادة) لا نتمكن من إدراك حقيقة النعم الإلهية المودعة في الجنّة ، فكذا هو حال إدراكنا بالنسبة

٤٩٦