الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٩

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل10%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 576

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 576 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 262990 / تحميل: 11723
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٩

مؤلف:
العربية

١
٢

٣
٤

الآيات

( وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَما يَزِيدُهُمْ إِلاَّ نُفُوراً (٤١) قُلْ لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَما يَقُولُونَ إِذاً لابْتَغَوْا إِلى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً (٤٢) سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيراً (٤٣) تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً (٤٤) )

التّفسير

كيف يفرّون من الحق؟

كان الحديث في الآيات السابقة يتعلّق بقضيتي التوحيد والشرك ، لذا فإنّ هذه الآيات تتابع هذا الموضوع بوضوح وقاطعية أكبر. ففي البداية تتحدث عن لجاجة بعض المشركين وعنادهم في قبال أدلة التوحيد فتقول :( وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَما يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُوراً ) .

«صرّف» مشتقّة من «تصريف» وهي تعني التغيير والتحويل ، وكونها على وزن «تفعيل» يؤكّد معنى الكثرة. ولأنّ القرآن يستخدم تعابير متنوعة وفنونا كلامية مختلفة من أجل تنبيه المشركين ، إذ يستخدم الاستدلال العقلي المنطقي

٥

والفطري أو التهديد والترغيب ، لذا فإنّ كلمة «صرّفنا» تناسب هذا التنوّع في هذا المقام.

القرآن الكريم يريد أن يقول : إنّنا سلكنا مختلف الطرق ، وفتحنا مختلف الأبواب من أجل أن ننير قلوب هؤلاء العميان بضياء التوحيد ، ولكن مجموعة من هؤلاء وصل بهم التعصب والعناد واللجاجة إلى درجة أنّ كل هذه الوسائل لم تؤثر في جذبهم إلى الحقيقة ، بل إنّها زادت في ابتعادهم ونفورهم.

وهنا قد يطرح هذا السؤال : إذا ما الفائدة من ذكر كلّ ذلك ، إذا كانت النتائج. معكوسة؟

إنّ جواب هذا السؤال واضح ، إذ أنّ القرآن لم ينزل لفرد أو لمجموعة خاصّة ، ولكنّه للمجتمع كافّة ، وطبيعي أن جميع الناس ليسوا على منوال المعاندين ، إذ هناك الكثير ممن يتبع طريق الحق إذا استبانت له أدلته من هذا النوع من الأدلّة القرآنية ، بالرغم من أنّها تؤدي بمجموعة أخرى من فاقدي بصيرة القلب إلى المزيد من العناد.

إضافة إلى أنّ وجود هؤلاء المعاندين مفيد للمجموعة الأخرى التي تقبل الحق وتنصاع إليه ، إذ يستبيّن من ينصاع للحق طريقة من خلال النظر إلى سلوك المعاندين إذ أنّ تقابل الظّلمة والنّور يوضح قيمة النور أكثر (الأشياء تعرف بأضدادها) كما أن تعلم الأخلاق والآداب يمكن أن يتمّ ـ أحيانا ـ بتوسط عديمي الأدب والخلق.

وهذا في الواقع درس مفيد في القضايا التربوية والتبليغية ، إذ يمكن أن نستفيد من هذه الآية ضرورة سلوك طرق مختلفة ووسائل متعدّدة لتحقيق الأهداف التربوية المنشودة ، حيث أنّ الاقتصار على طريق واحد يخالف التنوع الكبير في أذواق الناس ومؤهلاتهم ، وبالتالي يجافي الطريق الصحيح الذي ينبغي أن يتّبع.

٦

دليل التمانع :

الآية التي بعدها تشير إلى واحد من أدلة التوحيد والذي يعرف بين العلماء والفلاسفة بعنوان «دليل التمانع» إذ الآية تقول للنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : قل لهم :( قُلْ لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَما يَقُولُونَ إِذاً لَابْتَغَوْا إِلى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً ) .

وبالرغم من أنّ جملة( إِذاً لَابْتَغَوْا إِلى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً ) تفيد أنّهم لا بدّ أن يجدوا طريقا يؤدي بهم إلى صاحب العرش ، ولكن طبيعة الكلام توضح بأنّ الهدف هو العثور على سبيل للانتصار عليه (على ذي العرش) خاصّة وأنّ كلمة( ذِي الْعَرْشِ ) التي استخدمت بدلا من «الله» تشير إلى هذا الموضوع وتؤكّده. إذ تعني أنّهم أرادوا أن يكونوا مالكي العرش وحكومة عالم الوجود ، لذلك فإنّهم سيحاولون منازلة ذي العرش.

ومن الطبيعي هنا أنّ كل صاحب قدرة يسعى لمدّ قدرته وتكميلها ، لذا فإنّ وجود عدّة آلهة يؤدي إلى التنازع والتمانع فيما بينهم حول الحكم والسلطة في عالم الوجود.(١)

هنا قد يقال : إن من الممكن تصوّر وجود عدّة آلهة يحكمون العالم من خلال التعاون والتنسيق فيما بينهم ، لذلك فليس ثمّة من سبب للتنازع بينهم؟!

في الإجابة على هذا السؤال نقول : بصرف النظر عن أنّ كل موجود يسعى نحو توسيع قدرته بشكل طبيعي ، وبصرف النظر أيضا عن الآلهة التي يعتقد بها المشركون تحمل العديد من الصفات البشرية ، والتي تعتبر أوضحها جميعا هي الرغبة في السيطرة والحكم وتوسيع نطاق القدرة بغض النظر عن كلّ ذلك نقول : إنّ اللازمة الضرورية لتعدّد الوجود هي الاختلاف ، وحيث لا يوجد

__________________

(١) بعض المفسّرين قال : إنّ هذا الجزء من الآية يعني أنّ هناك آلهة أخرى تحاول أن تقرب نفسها إلى الله. وهذا يعني أنّ هذه الآلهة (الأصنام وغيرها) الوهمية عند ما لا تستطيع أن تقرّب نفسها لله فكيف تستطيع أن تقربكم أنتم؟ ولكن سياق هذه الآية التي بعدها لا يتواءمان مع هذا التّفسير.

٧

اختلاف بين وجودين إطلاقا ، فلا معنى لوجود التعدّد!! (دقق جيدا).

ونظير هذا البحث ورد في الآية (٢٢) من سورة الأنبياء حيث قوله تعالى( لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا ) . ومنعا للالتباس ينبغي أن نقول : هناك اختلاف بين الدليلين بالرغم من التشابه بينهما :

الأوّل يدلّ على فساد العالم ونظام الوجود بسبب تعدّد الآلهة.

أمّا الثّاني فيتحدّث ـ بغض النظر عن النظم في عالم الوجود ـ عن حالة التنازع والتمانع التي سوف تقوم بين الآلهة المتعدّدة. (سوف نبحث هذه الأمور مفصلا أثناء تفسير الآية (٢٢) من سورة الأنبياء).

وبما أنّ كلام المشركين وعباراتهم توحي بأنّهم نزلوا في إدراكهم للهعزوجل إلى مستوى أن يكون طرفا للنزاع ، لذا فإنّ الآية تقول بعد ذلك مباشرة :( سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيراً ) .

في الواقع إنّ هذا التعبير القرآني القصير ، يوضح ـ من خلال أربعة تعابير ـ علو الكبرياء الإلهية ونزاهتها عن مثل هذه التخيلات ، إذ تقول :

١ ـ استخدام كلمة( سُبْحانَهُ ) بمعنى التنزيه للذات الإلهية.

٢ ـ ثمّ تعبير( وَتَعالى عَمَّا يَقُولُونَ ) .

٣ ـ ثمّ استخدام( عُلُوًّا ) وهي مفعول مطلق يفيد التأكيد.

٤ ـ أخيرا ، جاءت كلمة( كَبِيراً ) للتأكيد مجددا على معاني التنزيه والعلو.

وبعد ذلك فإنّ جملة( عَمَّا يَقُولُونَ ) لها معنى واسع حيث أنّها تنفي كل أشكال التهم الباطلة ولوازمها.

ثمّ لأجل إثبات عظمة الخالق وأنّه منزّه عن خيالات واعتقادات وأوهام المشركين ، تتحدث الآية التالية عن تسبيح كائنات الوجود لذاته المقدسة إذ تقول :( تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَ ) . ثمّ تتطرق الآية إلى أنّ التسبيح لا يقتصر على ما هو موجود في السماوات والأرض ، وإنّما ليس هناك

٨

موجود إلّا ويسبّح ويحمد الله ، ولكن لا تدركون تسبيحهم :( وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ ) . ومع ذلك :( إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً ) . أي لا يؤاخذكم ولا يعاقبكم بسبب كفركم وشرككم مباشرة ، ولكن يمهلكم بالقدر الكافي ، ويفتح لكم أبواب التوبة ويتركها مفتوحة لإتمام الحجة.

بتعبير آخر : إنّكم تملكون القدرة على إدراك تسبيح ذرات الوجود والكائنات جميعا لله القادر المتعال ، وتدركون وجودهعزوجل ، ولكنّكم مع ذلك تقصّرون ، والله سبحانه وتعالى لا يؤاخذكم مباشرة على هذا التقصير ، ولا يجازيكم به فورا ولكن يعطيكم الفرصة الكافية لمعرفة التوحيد وترك الشرك.

تسبيح الكائنات :

تذكر الآيات القرآنية المختلفة تسبيح وحمد جميع موجودات عالم الوجود لله تعالى ، وإنّ أكثر الآيات صراحة بهذا الخصوص هي الآية التي نبحثها والتي تذكر لنا ـ بدون استثناء ـ أنّ جميع الموجودات في العالم ، الأرض والسماء ، النجوم والفضاء ، الأناس والحيوانات وأوراق الشجر ، وحتى الذرات الصغيرة ، تشترك جميعا في هذا التسبيح والحمد العام.

يبيّن القرآن الكريم أنّ عالم الوجود قطعة واحدة من التسبيح والحمد ، وأنّ كل موجود يؤدي هذا التسبيح ويقوم به بشكل معين ويثني على الباريعزوجل ، وأنّ أزير هذا التسبيح والحمد يملأ عالم الوجود المترامي الأطراف ، ولكن الجهلاء لا يستطيعون سماع هذا الأزيز ، بعكس المستبصرين المتأملين والعلماء الذين أضاء الله قلوبهم وأرواحهم بنور الإيمان ، فإنّ هؤلاء يسمعون هذا الصوت من جميع الجهات بشكل جيّد.

هناك كلام كثير بين العلماء والمفسّرين والفلاسفة حول تفسير حقيقة هذا الحمد والتسبيح ، فبعضهم اعتبر الحمد والتسبيح (حالا) والبعض الآخر (قولا) ،

٩

أمّا خلاصة أقوالهم فهي :

١ ـ البعض يعتقد أنّ جميع ذرات الوجود في هذا العالم لها نوع من الإدراك والشعور ، سواء كانت هذه الموجودات عاقلة أو غير عاقلة. وهي تقوم بالتسبيح والحمد في نطاق عالمها الخاص ، بالرغم من أنّنا لا نستطيع إدراك ذلك أو الإحساس بهذا الحمد والتسبيح وسماعه. آيات كثيرة تؤكّد هذا المعنى منها الآية رقم (٧٤) من سورة البقرة واصفة الحجارة أو نوع منها :( وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ ) . ثمّ قوله تعالى في الآية (١١) من سورة فصّلت :( فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ ) .

٢ ـ الكثير يعتقد أنّ هذا التسبيح والحمد هو على شاكلة ما نسميه بـ «لسان الحال» وهو حقيقي غير مجازي إلّا أنّه بلسان الحال وليس بالقول. (تأمّل ذلك).

ولتوضيح ذلك تقول : قد يحدث أن نشاهد آثار عدم الارتياح والألم ، وعدم النوم في وجه أو عيني شخص ما ونقول له : بالرغم من أنّك لم تتحدث عن شيء من هذا القبيل، إلّا أن عينيك تقولان بأنّك لم تنم الليلة الماضية ، ووجهك يؤكّد بأنّك غير مرتاح ومتألم! وقد يكون لسان الحال من الوضوح بدرجة بحيث أنّه يغطي على لسان القول لو حاول التستر عليها قولا.

وهذا هو المعنى الذي صرّح به أمير المؤمنين علي بن أبي طالبعليه‌السلام بقوله : «ما أضمر أحد شيئا إلّا ظهر في فلتات لسانه وصفحات وجهه»(١) .

من جانب آخر هل يمكن التصديق بأنّ لوحة فنية جميلة للغاية تدل على ذوق ومهارة رسامها ، لا تمدحه أو تثني عليه؟ وهل يمكن انكار ثناء دواوين أشعار أساطين الشعر والأدب وتمجيدها لقرائحهم واذواقهم الرفيعة؟ أو يمكن انكار أن بناء عظيما أو مصنعا كبيرا أو عقولا الكترونية معقدة أو أمثالها ، أنّها تمدح صانعها ومبتكرها بلسان حالها غير الناطق؟

__________________

(١) نهج البلاغة ، الكلمات القصار ، رقم ٢٦.

١٠

لذا يجب التصديق والتسليم بأنّ عالم الوجود العجيب ذا الأسرار المتعدّدة والعظمة الكبيرة ، والجزئيات العديدة المحيّرة ، يقوم بتسبيح وحمد الخالقعزوجل ، وإلّا فهل «التسبيح» سوى التنزيه عن جميع العيوب؟ فنظام عالم الوجود ناطق بأنّ خالقه ليس فيه أي نقص أو عيب :

ثمّ هل «الحمد» سوى بيان الصفات الكمالية؟ فنظام الخلق والوجود كلّه يتحدث عن الصفات الكمالية للخالق وعلمه وقدرته اللامتناهية وحكمته الوسيعة.

خاصّة وأنّ تقدم العلوم البشرية وكشف بعض أسرار وخفايا هذا العالم الواسع ، توضح هذا الحمد والتسبيح العام بصورة أجلى. فاليوم مثلا ألّف علماء النبات المؤلفات العديدة عن أوراق الأشجار ، وخلايا هذه الأوراق ، والطبقات السبع الداخلة في تكوينها ، والجهاز التنفسي لها ، وطريقة التغذية وسائر الأمور الأخرى التي تتصل بهذا العالم.

لذلك ، فإنّ كل ورقة توحد الله ليلا ونهارا ، وينتشر صوت تسبيحها في البساتين والغابات ، وفوق الجبال وفي الوديان ، إلّا أنّ الجهلاء لا يفقهون ذلك ، ويعتبرونها جامدة لا تنطق.

إنّ هذا المعنى للتسبيح والحمد الساري في جميع الكائنات يمكن دركه تماما ، وليست هناك حاجة لأن نعتقد بوجود إدراك وشعور لكل ذرات الوجود ، لأنّه لا يوجد دليل قاطع على ذلك ، والآيات السابقة يحتمل أن يكون مقصودها التسبيح والحمد بلسان الحال.

الجواب على سؤال :

يبقى سؤال واحد ، وهو إذا كان الغرض من الحمد والتسبيح هو تعبير نظام الكون عن نزاهة وعظمة وقدرة الخالقعزوجل ، وتبيان الصفات السلبية

١١

والثبوتية ، فلما ذا يقول القرآن :( لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ ) لأنّه إذا كان البعض لا يفقه ، فإنّ العلماء يفقهون ويعلمون؟.

هناك جوابان على هذا السؤال هما :

الأوّل : إنّ الآية توجّه خطابها إلى الأكثرية الجاهلة من عموم الناس ، خصوصا إلى المشركين ، حيث أنّ العلماء المؤمنين قلّة وهم مستثنون من هذا التعميم ، وفقا لقاعدة ما من عام إلّا وفيه استثناء.

الثّاني : هو أنّ ما نعلمه من أسرار وخفايا العالم في مقابل ما لا نعلمه كالقطرة في قبال البحر ، وكالذرة في قبال الجبل العظيم. وإذا فكرنا بشكل صحيح فلا نستطيع أن نسمّي الذي نعرفه بأنّه (علم). إنّنا في الواقع لا نستطيع أن نسمع تسبيح وحمد هذه الموجودات الكونية مهما أوتينا من العلم ، لأنّ ما نسمعه هو كلمة واحدة فقط من هذا الكتاب العظيم!!

وعلى هذا الأساس تستطيع الآية أن تخاطب العالم بأجمعه وتقول لهم : إنّكم لا تفقهون تسبيح وحمد الموجودات بلسان حالها ، أمّا الشيء الذي تفقهوه فهو لا يساوي شيئا بالنسبة إلى ما تجهلون.

٣ ـ بعض المفسّرين يحتمل أنّ الحمد والتسبيح هو تركيب من لسان : «الحال» و «القول». وبعبارة أخرى : يعتقدون بأنّه تسبيح تكويني وتشريعي ، لأنّ أكثر البشر وكل الملائكة يحمدون الله عن إدراك وشعور ؛ وكل ذرات الوجود نتحدّث عن عظمة الخالق بلسان حالها. وبالرغم من أنّ هذين النوعين من الحمد والتسبيح مختلفين ، إلّا أنّهما يشتركان في المفهوم الواسع لكلمتي الحمد والتسبيح.

ولكن التّفسير الثّاني ـ حسب الظاهر ـ أكثر قبولا للنفس من التّفسيرين الآخرين.

١٢

جانب من روايات العترة الطاهرة :

هناك تعابير لطيفة في هذا المجال وردت في أحاديث الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أهل البيتعليهم‌السلام ، منها :

* أحد أصحاب الإمام الصادقعليه‌السلام يقول : سألت الإمام عن تفسير قوله تعالى :( وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ ) فقالعليه‌السلام : «كل شيء يسبّح بحمده وإنّا لنرى أن ينقض الجدار وهو تسبيحها»(١) .

* وعن الإمام محمّد الباقرعليه‌السلام قال : «نهى رسول الله أن توسم البهائم في وجوهها، وأن تضرب وجوهها لأنّها تسبّح بحمد ربّها»(٢) .

* وعن الإمام الصادقعليه‌السلام قوله : «ما من طير يصاد في بر ولا بحر ، ولا شيء يصاد من الوحش إلّا بتضييعه التسبيح»(٣) .

* أمّا الإمام الباقرعليه‌السلام ، فعند ما سمع يوما صوت عصفور ، فقال لأبي حمزة الثمالي ـ وكان من خاصّة أصحابه ـ : «يسبحن ربّهنّعزوجل ويسألن قوت يومهن»(٤) .

* وفي حديث آخر نقرأ أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أتى إلى عائشة ، وقال لها : «اغسلي هذين الثوبين» فقالت : يا رسول الله ، لقد غسلتهما أمس ، فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أمّا علمت أنّ الثوب يسبّح فإذا اتسخ انقطع عن تسبيحه»(٥) .

* في حديث آخر عن الإمام الصادق نقرأ قولهعليه‌السلام : «للدابة على صاحبها ستة حقوق : لا يحملها فوق طاقتها ، ولا يتخذ ظهرها مجلسا يتحدث عليها ، ويبدأ بعلفها إذا نزل ، ولا يسمها في وجهها ، ولا يضربها فإنّها تسبح ، ويعرض عليها الماء

__________________

(١) نور الثقلين ، المجلد الثّالث ، صفحة (١٦٨).

(٢) نور الثقلين ، المجلد الثّالث ، صفحة (١٦٨).

(٣) المصدر السابق.

(٤) عن أبو نعيم الإصفهاني في حلية الأولياء (نقلا عن تفسير الميزان).

(٥) المصدر السابق.

١٣

إذا مرّ بها»(١) .

إنّ هذه المجموعة من الأحاديث والرّوايات والتي لبعضها معاني دقيقة ، تظهر أنّ التسبيح العام للموجودات يشمل كل شيء بدون استثناء ، وكل هذا يتطابق مع ما ذكرناه في التّفسير الثّاني (أي إن التسبيح هو تسبيح تكويني أو تسبيح بلسان الحال).

أمّا ما قرأناه في هذه الأحاديث من أنّ اللباس إذا توسخ ينقطع تسبيحه ، فهو كناية عن أنّ المخلوقات إذا كانت محافظة على نظافتها الطبيعية فسوف تذكّر الإنسان بخالقه ، أمّا إذا فقدت نظافتها الطبيعية فسوف لا تقوم بالتذكير.

* * *

__________________

(١) عن «الكافي» طبقا لما ذكره صاحب الميزان.

١٤

الآيات

( وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجاباً مَسْتُوراً (٤٥) وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً (٤٦) نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَسْحُوراً (٤٧) انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً (٤٨) )

سبب النّزول

تحدّث مجموعة من المفسّرين مثل الطبرسي في «مجمع البيان» والفخر الرازي في «التّفسير الكبير» وآخرون ، في شأن نزول هذه الآيات ، فقالوا : إنّها نزلت في مجموعة من المشركين كانوا يؤذون النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالليل إذا تلا القرآن وصلّى عند الكعبة ، وكانوا يرمونه بالحجارة ويمنعونه عن دعوة الناس إلى الدين ، فحال الله سبحانه بينه وبينهم حتى لا يؤذوه.

١٥

وقد احتمل الطبرسي أن يكون الله منع المشركين عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن طريق إلقاء الخوف والرعب في قلوبهم(١) .

أمّا الرازي فيقول في ذلك : «إنّ هذه الآية نزلت في قوم كانوا يؤذون رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا قرأ القرآن على الناس. روي أنّه عليه الصلاة والسّلام كان كلّما قرأ القرآن قام عن يمينه رجلان وعن يساره آخران من ولد قصي يصفقون ويصفرون ويخلطون عليه بالأشعار».

ثمّ أضاف : «وروي عن ابن عباس ، أنّ أبا سفيان والنضر بن الحرث وأبا جهل وغيرهم كانوا يجالسون النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويستمعون إلى حديثه ، فقال النضر يوما : ما أدري ما يقول محمّد غير أنّي أرى شفتيه تتحركان بشيء. وقال أبو سفيان : إنّي لأرى بعض ما يقوله حقّا ، وقال أبو جهل : هو مجنون. وقال أبو لهب : هو كاهن. (!!!) وقال حويطب بن عبد العزى : هو شاعر ، فنزلت الآية أعلاه :( وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ ) (٢) .

التّفسير

المغرورون وموانع المعرفة :

بعد الآيات السابقة قد يطرح الكثيرون هذا السؤال : رغم وضوح قضية التوحيد بحيث أنّ جميع مخلوقات العالم تشهد بذلك ؛ فلما ذا ـ اذن ـ لا يقبل المشركون هذه الحقيقة ولا ينصاعون للآيات القرآنية بالرغم من سماعهم لها؟

الآيات التي نبحثها يمكن أن تكون جوابا على هذا السؤال ، إذ تقول الآية الأولى فيها :( وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجاباً مَسْتُوراً ) . وهذا الحجاب والساتر هو نفسه التعصّب واللجاجة والغرور

__________________

(١) مجمع البيان ، المجلد الثّالث ، صفحة ٤١٨.

(٢) التّفسير الكبير ، المجلد ٢٠ ، صفحة ٢٢٠ ـ ٢٢١.

١٦

والجهل ، حيث تقوم هذه الصفات بصد حقائق القرآن عن أفكارهم وعقولهم ولا تسمح لهم بدرك الحقائق الواضحة مثل التوحيد والمعاد وصدق الرّسول في دعوته وغير ذلك.

وفيما يخص كلمة «مستور» هل أنّها صفة للحجاب ، أو لشخص الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو للحقائق القرآنية؟ فإنّ البحث عن ذلك سنشير إليه في البحوث.

وسنتناول في البحوث ـ أيضا ـ كيفية نسبة الحجاب للخالق جلّ وعلا.

أمّا الآية التي بعدها فتقول :( وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً ) أي أنّنا غطّينا قلوبهم بأستار لكي لا يفهموا معناه ، وجعلنا في آذانهم ثقلا ، لذلك فإنّهم( إِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً ) .

حقّا ما أعجب الهروب من الحق ؛ الهرب من السعادة والنجاة ، من النصر والفهم!إنّ شبيه هذا المعنى نجده ـ أيضا ـ في الآية (٥٠ ـ ٥١) من سورة المدثر :( كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ ) أي كالحمير الهاربة من الأسد.

ثمّ يضيف الله تبارك وتعالى مرّة أخرى :( نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ ) أي أنّ الله تعالى يعلم الغرض من استماعهم لكلامك وحضورهم في مجلسك و( إِذْ هُمْ نَجْوى ) يتشاورون ويتناجون( إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلاً مَسْحُوراً ) . إذ ـ في الحقيقة ـ إنّهم لا يأتون إليك من أجل سماع كلامك بقلوبهم وأرواحهم ، بل هدفهم هو التخريب ، وتصيّد الأخطاء (بزعمهم ودعواهم) حتى يحرفوا المؤمنين عن طريقهم إذا استطاعوا. وعادة يكون مثل هؤلاء الأشخاص وبمثل نواياهم ، قلوبهم موصدة ، وفي آذانهم وقر ، لذلك لا يجالسون رجال الحق إلّا لتحقيق أهداف شيطانية.

الآية الأخيرة خطاب للنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبالرغم من أنّ عبارة الآية قصيرة ، إلّا أنّها كانت قاضية بالنسبة لهذه المجموعة حيث قالت :( انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً ) . والآية لا تعني أنّ الطريق غير واضح والحق

١٧

خاف ، بل على أبصارهم غشاوة ، وقلوبهم مغلقة دون الاستجابة للحق ، وعقولهم معطّلة عن الهدى بسبب الجهل والحقد والتعصب والعناد.

بحوث

١ ـ خلاصة عامّة للآيات

الآيات الآنفة ترسم لنا بدقة أحوال الضالين والموانع التي تحول دون معرفتهم للهدى ، وبشكل عام تقول الآيات : إنّ ثمّة ثلاثة موانع لمعرفة هؤلاء للحق ، بالرغم من سهولة رؤية طريق الحق ، هذه الموانع هي :

أ ـ وجود الحجاب بينك وبينهم ، وهذا الحجاب في حقيقته إن هو إلّا أحقادهم وحسدهم وبغضهم والعداوة التي يضمرونها نحوك ، فهذا الحجاب بمكوناته هو الذي يمنعهم من النظر إلى شخصيتك الرسالية ، أو أن يدركوا كلامك ، حتى أنّ الحسنات تتحول في نظرهم إلى سيئات.

ب ـ سيطرة الجهل والتقليد الأعمى على قلوبهم بحيث أنّهم غير مستعدين لسماع كلمة الحق من أي شخص كان.

ج ـ إنّ حواس المعرفة لدى هؤلاء ، كالأذن ـ مثلا ـ تنفر من كلام الحق ، وتكون كأنّها صمّاء ، أمّا الكلام الباطل فإنّهم يتذوقونه ويفرحون به ، وينفذ إلى أعماقهم بسرعة ، خاصّة وأن التجربة أثبتت أنّ الإنسان إذا لم يكن راغبا بشيء فسوف لا يسمعه بسهولة. أمّا إذا كان راغبا فيه ، فإنّه سيدركه بسرعة ، وهذا يدل على أنّ الإحساسات الداخلية لها تأثيرها على الحواس الظاهرة ، بل وتستطيع أن تطبعها بالشكل الذي تريده.

أمّا نتيجة هذه الموانع الثلاثة فهي :

أوّلا : الهروب من سماع الحق ، خاص عند ما يكون الحديث عن وحدانية الخالق ، لأنّ هذه الوحدانية تتناقض مع أصول اعتقادات المشركين.

١٨

ثانيا : اللجوء إلى توجيهات خاطئة لتبرير انحرافهم ، حيث كانوا يصفون الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بتهم مختلفة كالساحر والشاعر والمجنون. وبذلك تكون عاقبة كل أعداء الحق أنّ أعمالهم الرذيلة تكون حجابا لهم دون الحق والهدى.

وهنا ينبغي القول بأنّ من يريد أن يسلك الصراط المستقيم وأن يأمن من الانحراف يجب عليه أوّلا وقبل كل شيء إصلاح نفسه. يجب تطهير القلب من البغض والحسد والعناد ، وتطهير الروح من التكبر والغرور ، وبشكل عام تطهير النفس من جميع الصفات الرذيلة ، لأنّ القلب إذا تطهّر من هذه الرذائل وأصبح نظيفا نقيّا ، فسوف يدرك جميع الحقائق. لهذا السبب نرى أنّ الأميين وأصحاب القلوب النقية يدركون الحقائق أسرع من العالم الذي لم يقم بتهذيب نفسه.

٢ ـ لماذا تنسب الحجب للخالق؟

الآيات تنسب الحجب إلى الخالق ، حيث قوله تعالى :( وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً ) . كذلك هناك آيات قرآنية أخرى بنفس المضمون. وهذه التعابير قد يستشم منها رائحة «الجبر» في حين أنّها لم تكن سوى صدى لأعمالهم. ولكن هذه الحجب ـ في الواقع ـ هي بسبب الذنوب والصفات الرّذيلة لنفس الإنسان ، وإن هي إلّا آثار الأعمال. ونسبة هذه الأمور إلى الخالق يعود إلى أنّه سبحانه وتعالى هو الذي خلق خواص الأمور ، فإنّ تلك الأعمال الرّذيلة والصفات القبيحة لها هذه الخواص. وقد تحدّثنا عن هذه الفكرة في البحوث السابقة مستفيدين من الشواهد القرآنية الكثيرة.

٣ ـ ما معنى الحجاب المستور؟!

هناك آراء كثيرة للمفسّرين حول الحجاب المستور ، منها :

أ ـ (مستور) صفة للحجاب ، ونستفيد من ظاهر التعبير القرآني أنّ هذا

١٩

الحجاب مخفي عن الأنظار. وفي الواقع إنّ حجاب الحقد والعداوة والحسد لا يمكن رؤيته بالعين ، لأنّها في نفس الوقت تضع حجابا سميكا بين الإنسان والشخص الذي يقوم بحسده والحقد عليه.

ب ـ البعض الآخر فسّر (مستور) بمعنى «الساتر» (لأنّ اسم المفعول قد يأتي بمعنى الفاعل كما فسّر بعض المفسّرين كلمة «مسحور» في هذه الآيات بمعنى الساحر)(١) .

ج ـ القسم الثّالث من المفسّرين اعتبر (مستور) وصفا مجازيا ، أي أنّه لا يعني أنّ الحجاب مستور ، بل إنّ الحقائق الموجودة خلف هذا الحجاب هي المستورة (مثل شخصية الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ) وصدق دعوته وعظمة أحاديثه).

وعند التدقيق في هذه التفاسير الثّلاثة يظهر أنّ التّفسير الأوّل يتلائم أكثر مع ظاهر الآية.

وفي بعض الرّوايات نقرأ أنّ أعداء الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كانوا يأتونه وهو مع أصحابه يتلو القرآن ، إلّا أنّهم لم يكونوا يرونه ، وكأن عظمة الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تمنعهم من رؤيته ومعرفته ، وبذلك يكون بعيدا عن أذاهم.

٤ ـ «أكنّة» و «وقر» ماذا يعنيان؟

(أكنّة) جمع «كنان» وهي على وزن «لسان» وفي الأصل تعني أي غطاء يمكن أن يستر شيئا ما ، أمّا «كن» على وزن «جن» فتعني الوعاء الذي يمكن أن نحفظ في داخله شيئا ما. أمّا جمع «كن» فهو «أكنان» وقد توسع هذا المعنى ليشمل أي شيء يؤدي إلى التستّر ، كالأستار والبيت والأجسام التي يتستر الإنسان خلفها.

__________________

(١) نقل عن الأخفش ، أنّ اسم المفعول قد يأتي في بعض الأحيان بمعنى اسم الفاعل مثل ميمون بمعنى يامن ، ومشئوم بمعنى شائم.

٢٠

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

٦١

بعد معرفة أنّ الأصل الأوّلي ومقتضى القاعدة الأوّليّة، هو أنّ الشارع إذا أوردً عنواناً معيّناً في دليلٍ من الأدلّة فإنّه يجب أن يبقى على معناه اللغوي.

أي أنّ كلّ دليل وردَ من الشارع يبقى على معناه اللغوي ما لم ينقله الشارع إلى الحقيقة الشرعيّة، هذا من جهة.

ومن جهةٍ أخرى، هناك أمر آخر يضيفه الأصوليّون، وهو تحقّق هذا العنوان وحصوله في الخارج.

فنحن تارة نتكلّم في مرحلة التأطير والتنظير، وفي أفق الذهن، أو في أفق اللوح باعتباره القانون، فحينئذٍ يبقى المعنى على حاله.

وتارةً نتكلّم عن مرحلة أخرى هي غير التنظير القانوني، بل هي مرحلة التطبيق في الخارج والوجود في الخارج، في هذه المرحلة أيضاً، فما لم يعبّدنا الشارع ويتصرّف في الوجود الخارجيّ لأيّ عنوان، فالأصل الأوّلي هو أن يكون وجوده ومجاله أيضاً عرفيّاً، سواء كان له وجودٌ تكويني، أو كان له وجود اعتباري لدى العرف، إلاّ أن يجعل الشارع له وجوداً خاصّاً بأن ينصب دليلاً على ذلك.

٦٢

أمثلةٌ على تحديد الوجود الخارجي للموضوع من الشارع المقدّس

مثال 1: في تحقّق الطلاق، لو قال الزوج: طلّقتُ امرأتي، أو أطلّقُكِ، أو سأُطلّقك، فكلّ هذه الصيغ لا يمضيها الشارع ولا يقرّها، وهي غير محقّقة، ولا موجّدة للطلاق، وإن كانت في العرف موجدةً له، لكن عند الشارع لا أثر لها، إلاّ أن يقول: أنتِ طالق، بلفظ اسم الفاعل المراد منه اسم المفعول.

هنا الشارع وإن لم يتصرّف في ماهيّة الطلاق ولم يتصرّف في عنوانه، بل أبقاه على معناه اللغوي، لكنّه تصرّف في كيفيّة وجوده وحصوله في الخارج.

مثال 2: الحلف لا يكون حلفاً شرعيّاً بالله، والنذر لا يكون نذراً لله إلاّ أن تأتي به بالصيغة الخاصّة، فهذا تصرّف في كيفيّة الوجود، فإن دلّ الدليل على كيفيّة تصرّف خاصّة من الشارع وفي كيفيّة الوجود، فلا يتحقّق ذلك الأمر إلاّ بها.

أمّا إذا لم يقم الدليل من الشارع على ذلك، فمقتضى القاعدة الأوّليّة أنّ وجوده يكون وجوداً عرفيّاً - تكوينيّاً كان أو اعتباريّاً - ما لم يرد دليل من الشارع لتحديد وجوده وحصوله في الخارج.

نرجع إلى محلّ البحث، لو لم يكن دليل إلاّ عموم آية( لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ ) .

وعموم آية:( ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ ) ، وقلنا: إنّ المعنى يبقى على حاله، حيث إنّ الشارع لم يتصرّف في معناه

٦٣

اللغوي الذي هو ما يقال عنه مرحلة تقنين القانون، ولم يتصرّف أيضاً في مرحلة التطبيق الخارجي من جهة خارجيّة، فما يتّفق عليه العرف بحيث يصبح تبياناً وإضاءةً لمعنى من المعاني الدينيّة، يصبح شعيرةً وشعاراً.

ويجدر التنبيه هنا على أنّ وجودات الأشياء على قسمين:

الوجودُ التكويني والوجود الاعتباري للأشياء

القسم الأوّل: هو الوجود التكويني مثل: وجود الماء، الحجر، الشجر، الإنسان، الحيوان.

القسم الثاني: وجود غير تكويني، بل هو اعتباري - أي فرضي، ولو من العرف - مثل: البيع، فالبائع والمشتري يتّفقان على البيع بخصوصيّاته، فيتقيّدان بألفاظ الإيجاب والقبول فيها، فحينئذٍ: هذا البيع، أو الإجارة، أو الوصيّة، أو المعاملة ليس لها وجود حسّي خارجيّ؛ وإنّما وجودها بكيفيّات اعتباريّة فرضيّة في عالَم فرضي يُمثّل القانون، سواء قانون الوضع البشري، أو حتّى قانون الوضع الشرعي عند الفقهاء، إذ يحملون هذا على الاعتبار الفرضي، فهو عالَم اعتبار لمَا يتّخذه العقلاء من فرضيّات.

العقلاء يفترضون عالَماً فرضيّاً معيّناً، لوحة خاصّة بالعقلاء، لوحة القانون العقلائي.

فوجودات الأشياء على أنحاء: تارةً نَسق الوجود التكويني، وتارة نَسق الوجود الاعتباري، وإن كانت اعتبارات الشارع، وتقنينات الشارع، وفرضيّات الشارع وقوانينه، يُطلق عليها أيضاً اعتبار شرعي، ولكن من الشارع.

٦٤

خلاصةُ القول

إنّ كلّ عنوان أُخذ في دليلٍ - كالبيع، أو الهبة، أو الوصيّة، أو الشعائر، أو الطلاق، أو الزوجيّة - إذا أُبقيَ على معناه اللغوي، وأيضاً أُبقي على ما هو عليه من الوجود عند العرف فبها، غاية الأمر أنّ الوجود عند العرف ليس وجوداً تكوينيّاً، بل وجودٌ طارئ اعتباري في لوحة تقنيناتهم وفي لوحة اعتبارهم، مثلاً: حينما يقول الشارع في الآية الكريمة:( أَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ ) (1) ليس معناه: أنّ البيع الذي هو بيع عند الشارع قد أحلّه الله ؛ لأنّ ذلك يكون تحصيل الحاصل، لأنّ البيع الذي عند الشارع هو حلال من أساسه، بل المقصود من:( أَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ ) ، وكذلك:( أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ ) (2) المراد أنّ البيع والعقود التي تكون متداولة في أُفق اعتباركم أنتم أيها العقلاء قد أوجبتُ - أنا الشارع - الوفاء بها، وقد أحللتُها لكم، فإذاً قد أبقاها الشارع على ما هي عليه من وجود ومعنىً لغوي عند العقلاء والعرف.

وقد يتصرّف الشارع في بعض الموارد - كما بينّا في الطلاق - حيث يقيّدها بوجود خاص.

فحينئذٍ، يتبيّن أنّ الأشياء قد يبقيها الشارع على معناها اللغوي، ويبقي وجودها في المقام الآخر على ما هي عليه من وجود إمّا تكويني أو

____________________

(1) البقرة: 275.

(2) المائدة: 1.

٦٥

اعتباري.

ومن جهةٍ أخرى، فإنّ العلامة أو (الدال) إمّا عقليّة أو طبعيّة، أو وضعية..

فهل الشعائر أو الشعيرة هي علامة تكوينيّة، أم عقليّة، أم طبعيّة، أم هي وضعيّة؟

الشعيرةُ علامة وضعيّة

نرى أنّ الشعيرة والشعار هي علامة وضعيّة وليست عقليّة ولا طبعيّة، وهنا مفترق خطير في تحليل الماهيّة؛ للتصدّي للكثير من الإشكالات أو النظريّات التي تُقال في قاعدة الشعائر.

نقول: إنّ الشعيرة هي علامة وضعيّة، بمعنى أنّ لها نوعاً من الاقتران والربط والعلقة الاعتباريّة، فالوضع هو اعتباري وفرضي بين الشيئين.

والأمر كذلك في الأمور الدينيّة أيضاً، مثلاً كان شعار المسلمين في بدر: (يا منصور أمِت)(1) ، حيث يستحب في باب الجهاد أن يضع قائد جيش المسلمين علامة وشعاراً معيّناً للجيش.

الشعائر أو الشعارة: هي ربط اعتباري ووضع جعلي فطبيعتها عند العرف هو الاعتبار، حتّى شعار الدولة، وشعار المؤسّسات، وشعار الأندية، والوزارات..

والشركات التجارية، والفِرق الرياضيّة، لكنّ كلّ ذلك أمر اعتباري..

____________________

(1) المنصور من أسماء الله سبحانه، أمِت: يعني أمِت الكافرين.

٦٦

فهو علامة حسّيّة دالّة على معنى معيّن، لكنّ الوضع والعلقة فيه اعتباريّة.

فلابدّ من الالتفات إلى تحليلٍ أعمق لماهيّة الشعائر والشعيرة، فماهيّة الشعار والشعيرة علامة حسّيّة لمعنى من المعاني الدينيّة، ولكنّ هذه العلامة ليست تكوينيّة، ولا عقليّة، ولا طبعيّة، وإنّما هي علامة وضعيّة.

فالشعائر هي التي تفيد الإعلام، وكلّ ما يُعلِم على معنى من المعاني الدينيّة، أو يدلّ على شيء له نسبة إلى الله عزّ وجل، فإنّ هذا الإعلام والربط بين الـمَعلم والـمُعلم به، وهذا الربط هو في الماهيّة وضعي اعتباري.

فالموضوع يتحقّق بالعُلقة، والوضع الاعتباري.

وإذا كان تحقّق ماهيّة الشعائر والشعيرة بالعُلقة الوضعيّة الاعتباريّة، وافتراضنا أنّ الشارع لم يتصرّف في كيفيّة الوجود، بمعنى أنّ المتشرّعة إذا اختاروا واتّخذوا سلوكاً ما علامة لمعنى ديني معيّن، فبالتالي يكون ذلك السلوك من مصاديق الشعائر.

وكما قلنا: إنّ ماهيّة الشعائر تتجسّد في كلّ ما يوجب الإعلام والدلالة فيها وضعيّة، والواضع ليس هو الشارع ؛ لأنّه لم يتصرّف بالموضوع، فبذلك يكون الوضع قد أُجيز للعرف والعقلاء.

كما ذكرنا في البيع أنّ له ماهيّة معيّنة، وكيفيّة خاصّة حسب ما يقرِّره العقلاء، وكيفيّة وجوده اعتباريّة، وذَكرنا أنّ الشارع إن لم يتصرّف في الماهيّة والمعنى في الدليل الشرعي، ولم يتصرّف في كيفيّة الوجود، فالماهيّة تبقى على حالها عند العقلاء، بخلاف الطلاق الذي تصرّف الشارع في كيفيّة وجوده في الخارج.

٦٧

الشعائرُ ومناسك الحج

وممّا تقدّم: تبيّن خطأ عدّ مناسك الحجّ - بما هي مناسك - شعائر.

حيث إنّ الشعائر صفة عارضة لها، وليست الشعائر هي عين مناسك الحجّ كما فسّرها بعض اللغويّين.

بيان ذلك: حينما نقول مثلاً: (الإنسانُ أبيض)، هل يعني أنّ الماهيّة النوعيّة للإنسان هي البياض، كلاّ، أو حين نقول: (الإنسان قائم)، فهل يعني أنّ الماهيّة النوعيّة للإنسان هي القيام، كلاّ، إذ القيام والبياض أو السمرة أو السواد ليست ماهيّةً للإنسان، وإنّما هذه عوارض قد تعرض على الماهيّة وقد تزول عنها.

إنّ كُنه الإنسان وماهيّته بشيء آخر، لا بهذه العوارض، وكذلك مناسك الحجّ، إذ ليست ماهيّة المنسك هي الشعار، بل الشِعار هو ما يكمُن وينطوي فيه جنبة الإعلام والعلانيّة لشيء من الأشياء.

مثال آخر: لفظة (زيد) كنهها ليس أنّها سِمة لهذا الإنسان، كُنهها: هو صوت متموّج يتركّب من حروف معيّنة، نعم، من عوارضها الطارئة عليها أنّها سِمة واسم وعلامة لهذا الإنسان، وهذا من عوارضها الاعتباريّة لا الحقيقيّة، حيث إنّها علامة على ذلك الجسم.

إذاً جنبة العلاميّة لون عارض على أعمال الحج، أو على العبادات، أو على الموارد الأخرى، لا أنّها عين كنه أعمال الحج، وليس كون الشعائر هي نفس العباديّة، ولا كون العباديّة هي الشعائر.

أمّا كيف يسمح الشارع في أن يتصرّف العرف بوضع الشعائر أو غير ذلك، فهذا ما سنقف عليه لاحقاً إن شاء الله تعالى.

٦٨

الترخيصُ في جَعل الشعائر بيد العُرف

إنّ الشارع حينما لا يتصرّف في معنى معيّن، ولا في وجوده في الخارج، فهل يعني هذا تسويغاً من الشارع في أن يتّخذ العرف والعقلاء ما شاءوا من علامة لمعاني الدين وبشكلٍ مطلق؟ أم هناك حدود وقيود، وما الدليل على ذلك؟

هل اتّخاذ المسلمين لهذه المعالِم الحسّيّة مَعلماً وشعاراً، سواء كانت مَعالم جغرافيّة: كموقع بدر، وغدير خمّ، أو مَعلماً زمنيّاً: كمولد النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وهجرته، وتواريخ الوقائع المهمّة، أو مَعلماً آخر غير زماني ولا مكاني، كأن يكون ممارسةً فعليّة، هل هذا فيه ترخيص من الشارع أم لا؟

للإجابة على هذا السؤال المهمّ لابدّ من تحرير النقاط التالية:

النقطة الأولى: وهذه هي جهة الموضوع في قاعدة الشعائر الدينيّة، وهي: أنّ العناوين التي ترد في لسان الشارع إذا لم يرد دليل آخر يدلّ على نقلها من الوضع اللغوي إلى الوضع الجديد والمعنى الجديد، فهي تبقى على حالها، وعلى معانيها الأوّليّة اللغويّة.

النقطة الثانية: أنّ تحقّق تلك الموضوعات وكيفيّة وجودها في الخارج، إن كان الشارع صرّح وتصرّف بها فنأخذ بذلك، وإلاّ فإنّها ينبغي أن تبقى على كيفيّة وجودها العرفي أو التكويني.

النقطة الثالثة: أنّ وجودات الأشياء على نسقَين:

( أ ) بعض الوجودات وجودات تكوينيّة.

٦٩

(ب) وبعض الوجودات وجودات اعتباريّة.

وقد أشرنا سابقاً لذلك، ولكن لزيادة التوضيح نقول: إنّ عناوين أغلب المعاملات وجودها اعتباري: كالبيع، والإجارة، والهبة، والوصيّة، والطلاق، والنكاح وما شابه ذلك، كلّ هذه العناوين كانت وجودات لدى العرف والعقلاء( أَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ... ) ،( أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ... ) وغيرها من العناوين.

فآية:( أَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ... ) لسانٌ شرعي وقضيّة شرعيّة تتضمّن حكماً شرعيّاً وهو الحلّيّة، بمعنى حلّيّة البيع وصحّته وجوازه، ولم يتصرّف الشارع بماهيّة البيع، ولا بكيفيّة وجوده، إلاّ ما استُثني(1) ، فكيفيّة وجوده عند العرف والعقلاء تكون معتبرة، فما يصدق عليه وما يسمّى وما يطلق عليه (بيع) في عرف العقلاء جُعل موضوعاً لقضيّة شرعيّة، وهي حلّيّة ذلك البيع، وإلاّ فإنّ هذا الدليل( أَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ... ) ليس المقصود منه البيع الشرعي، إذ البيع الشرعيّ أحلّه الله، ولو كان البيع المراد في هذا اللسان هو البيع الشرعي، لمَا كان هناك معنىً لحلّيّته؛ لأنّه سوف يكون تحصيلاً للحاصل، البيع الشرعي إذا كان شرعيّاً فهو حلال بذاته، فكيف يُرتّب عليه الشارع حكماً زائداً وهو الحلّيّة.

فلسان الأدلّة الشرعيّة - والتي وردت فيها عناوين معيّنة - إذا لم يتصرّف الشارع بها ولم يتعبّد بدلالة زائدة، تبقى على ما هي عليه من المعاني

____________________

(1) مثل: حُرمة وفساد بيع المكيل والموزون بجنسه مع التفاضل؛ لأنّه ربا، ومثل: بطلان بيع الكالئ بالكالئ وغيرها.

٧٠

الأوّليّة، وتبقى على ما هي عليه عند عُرف العقلاء.

حينئذٍ يأتي البيان المزبور في لفظة (الشعائر) الواردة في عموم الآيات:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ ) (1) أو:( ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ.. ) (2) وقد مرّ بنا أنّ ماهيّة الشعيرة، أو الشعائر التي هي بمعنى العلامة إذا أُضيفت إلى الله عزّ وجل، أو أُضيفت إلى الدين الإسلامي، أو أُضيفت إلى باب من أبواب الشريعة، فإنّها تعني علامة ذلك الباب، أو علامة أمر الله، أو علامة أحكام الله وما شابه ذلك.

والعلامة - كما ذكرنا - ليست عين المنسك، وليست عين العبادة، وليست عين الأحكام الأخرى في الأبواب المختلفة؛ وإنّما العلامة أو الإعلام شيء طارئ زائد على هذه الأمور، كاللون الذي يكون عارضاً وطارئاً على الأشياء، فيكون طارئاً على العبادة، أو المنسك، أو الحُكم المعيّن.

فجنبة الإعلام والنشر في ذلك الحُكم، أو في تلك العبادة، أو ذلك المنسك، تتمثّل بالشعيرة والشعائر، وبهذا النحو أيضاً تُستعمل في شعائر الدولة أو شعائر المؤسّسة والوزارة - مثلاً - فهي ليست جزءاً من أجزاء الوزارة أو المؤسّسة مثلاً، وإنّما هي علامةٌ عليها.

فالنتيجة: أنّ الشعيرة والشعائر والشِعار تبقى على حالها دون تغيير في كلا الصعيدين: صعيد المعنى اللغوي، وصعيد كيفيّة الوجود في الخارج.

____________________

(1) المائدة: 2.

(2) الحجّ: 32.

(1) الحجّ: 36.

٧١

فإطلاق الشعائر على مناسك الحجّ ليس من جهة وجودها التكويني أو الطبعي، بل من جهة الجعل والاتّخاذ من الله عزّ وجل:( وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ ) (1) يعني: باتّخاذ وضعي واعتباري أصبحت علامة ونبراساً للدين.

هذه الشعائر في مناسك الحج، جُعلت - بالوضع والاعتبار - علامةً للدين، ولعلوّ الدين، ولرقيّه وانتشاره وعزّته ونشر أحكامه.

بعد هذا البسط يتّضح من ماهيّة الشعيرة ومن وجود الشعيرة، أنّ وجودها ليس تكوينيّاً، والمقصود ليس نفي تكوينيّة وجود ذات الشعيرة، بل إنّ تَعَنون الشيء بأنّه شعيرة وجعله علامة على شيء آخر تَعنونه هذا، وجعله كذلك ليس تكوينيّاً بل اعتباريّاً، وإلاّ فالبُدن هي من الإبل، ووجودها تكويني.

ولكن كونها شعيرة وعلامة على حُكم من أحكام الدين، أو على عزّة الإسلام شيء اعتباري، نظير بقيّة الدلالات التي تدلّ على مدلولات أخرى بالاعتبار والجعل.

فالشعائر وإن كانت وجودات في أنفسها تكوينيّة، ولكن عُلقتها ودلالتها على المعاني اتّخاذيّة واعتباريّة، بواسطة عُلقة وضعيّة ربطيّة اعتباريّة، هذا من جهة وجودها.

ومن جهةٍ أخرى، فقد دلّلنا على أنّ الشعائر والشعيرة تكون بحسب ما تُضاف إليه، كما قد يتّخذ المسلمون الشعائر في الحرب مثلاً، كما وردَ

____________________

(1) الحجّ: 36.

٧٢

دليل خاص في باب الجهاد على استحباب اتّخاذ المسلمين شعاراً لهم، مثل ما اتّخذه المسلمون في غزوة بدر، وهو شعار: (يا منصور أمِت).

فالمقصود إذا لم يرد لدينا دليل خاصّ على التصرّف في معنى الشعائر أو الشعيرة - التي هي بمعنى العلامة كما ذكرنا - فإنّه يبقى على معناه اللغوي الأوّلي.

الوجودُ الاعتباري للشعيرة

وكذلك في الوجود الخارجي، إذ المفروض أنّ المتشرّعة إذا اتّخذوا شيئاً ما كشعيرة، يعني علامة على معنى ديني سامي، معنىً من المعاني الدينيّة السامية، أو حكماً من الأحكام العالية، وجعلوا له علامة، شعيرة وشِعار وشعائر. فالمفروض جَعل ذلك بما هي شعيرة لا بما هي هي، أي: بوجودها النفسي، لكن بما هي شعيرة، (كاللفظ بما هو دال على المعنى، لا يكون دالاً على المعنى إلاّ بالوضع..) فالشعيرة بما هي شعيرة، أي بما هي علامة دالّة على معنى سامي من المعاني الدينيّة، وتشير بما هي علامة على حُكم من الأحكام الدينيّة الركنيّة مثلاً، أو الأصليّة وهي دلالة اعتباريّة اتّخاذيّة وضعيّة.

وهذا يعني أنّها مجعولة في ذهن الجاعل، وبالتبادل وبالاتفاق تصبح شيئاً فشيئاً شعيرة وشِعار، مثل ما يجري في العرف بأن يضعوا للمنطقة الفلانيّة اسماً معيّناً مثلاً، وبكثرة الاستعمال شيئاً فشيئاً ينتشر بينهم ذلك الاسم فيتواضعون عليه، ويتعارف بينهم أنّ هذه المنطقة تُعرف باسم كذا، ويحصل الاستئناس في استعمال اللفظ في ذلك المعنى، فينتشر ويتداول، فحينئذٍ يكون اللفظ المخصوص له دلالة على المعنى المعيّن دلالةً وضعيّةً.

٧٣

خلاصةُ القول

إلى هنا عرفنا أنّ في آية:( لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ ) (1) ، وآية:( وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ ) (2) ثلاثة مَحاور:

محور الحُكم، ومحور المتعلّق، ومحور الموضوع.

فنقول: لو كنّا نحن ومقتضى القاعدة، لو كنّا نحن وهاتين الآيتين الشريفتين فقط وفقط فحينئذٍ، نقول: إنّ المعنى لشعائر الله - كالزوال، وكدِلوك الشمس - بقيَ على ما هو عليه في المعنى، ووجوده أيضاً على ما هو عليه من وجود، وقد بيّنّا في كيفيّة وجوده أنّها ليست تكوينيّة، بل هي وضعيّة واعتباريّة واتخاذيّة، كما في آية( أَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ... ) نبقيه على ما هو عليه من معنى، ونُبقيه على ما هو عليه من وجود، ووجوده هو وجود اعتباري لدى العقلاء.

وكذلك الأمر في شعائر الله، حيث هناك موارد قد تصرَّف فيها الشارع بنفسه وجعلَ شيئاً ما علامة، وغاية هذا التصرّف هو جعل أحد مصاديق الشعائر، كالمناسك في الحجّ.

وهناك موارد لم يتصرّف الشارع بها ولم يتّخذ بخصوصها علامات معيّنة.

وإنّما اتّخذ المتشرِّعة والمكلّفون شيئاً فشيئاً فعلاً من الأفعال - مثلاً -

____________________

(1) المائدة: 2.

(2) سورة الحج: 32.

٧٤

علامة وشعاراً على معنى من المعاني الإسلاميّة، فتلك الموارد يشملها عموم الآية:( ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ ) (1) ، وكذلك يشملها عموم:( لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ ) (2) .

فلو كنّا نحن وهاتين الآيتين فقط، يتقرّر أنّ معنى الشعائر ووجودها هو اتّخاذي بحسب اتّخاذ العرف.

لكن قبل أن يتّخذها العرف شعيرة ومشاعر، وقبل أن يتواضع عليها العرف، والمتشرِّعة والعقلاء والمكلّفون لا تكون شعيرة، وإنّما تتحقّق شعيريّتها بعد أن تتفشّى وتنتشر ويتداول استعمالها، فتصبح رسماً شعيرة وشعائر، ويشملها عموم( لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ ) ، و( ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ... ) .

فالمفروض أنّ المعنى اللغوي لشعائر الله، هو معنىً عام طُبّق في آية سورة المائدة، أو في آية سورة الحجّ على مناسك الحجّ.

ولكن لم تُحصر الشعائر بمناسك الحجّ، بل الآية الكريمة دالّة على عدمه:( وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ ) (3) ، و (من) دالّة على التبعيض والتعميم.

فإذن، اللفظ حسب معناه اللغوي عام، ونفس السياق - الذي هو سياق تطبيقي - ليس من أدوات الحصر، كما ذكرَ علماء البلاغة ؛ فإنّهم لم يجعلوا

____________________

(1) الحجّ: 32.

(2) المائدة: 2.

(3) الحج: 36.

٧٥

تطبيق العام على المصداق من أدوات الحصر.

بل عُلّل تعظيم مناسك الحج لكونها من الشعائر، فيكون من باب تطبيق العام على أفراده، وذَكرنا أنّ أغلب علماء الإماميّة - من مفسّريهم، وفقهائهم، ومحدّثيهم - ذَهبوا في فتاواهم وتفاسيرهم إلى عموم الآية لا إلى خصوصها، ومنهم: الشيخ الطوسي في التبيان، حيث ذَكر أقوالاً كثيرة نقلاً عن علماء العامّة، ثُمّ بعد ذلك ذهب إلى أقوائيّة عموم الآية، وإنّه لا دليل على تخصيصها.

كما أنّ هناك دليلاً على ذلك من الآية الشريفة( ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ ) (1) ، حيث إنّ من الواضح أنّ حُرمات الله أعمّ من حُرمات الحجّ، هنا الموضوع للحُكم هو مُطلق حُرمات الله، وكذلك الأمر بالنسبة لشعائر الله في الآية الأخرى.

فإذن لو كنّا نحن ومقتضى هاتين الآيتين، فهاتان الآيتان - بحسب معناهما اللغوي، وبحسب وجودهما بين العقلاء وعُرف المكلّفين - وجودهما اعتباري اتّخاذي، ولو من قِبَل المتشرِّعة.

هذا الكلام بحسب اللسان الأوّلي في أدلّة الشعائر وقاعدة الشعائر، أمّا بحسب اللسان الإلزامي، فالأمر أوضح بكثير كما سنتعرّض إليه.

الاعتراضُ بتوقيفيّة الشعائر

في مقابل ذلك، أدُّعي وجود أدلّة تُثبت اختصاص جعل الشعائر بيد

____________________

(1) الحج: 30.

٧٦

الشارع المقدّس من حيث تطبيق وجودها، كما أنّ الشارع حينما جعل البيع، صار له وجود وكيفيّة خاصّة، وهو ذلك الوجود الذي رتّب عليه الحلّيّة، وأخذَ فيه قيوداً معيّنة.

ويقرِّر ذلك بعينه في بحث الشعائر، كما هو الحال في الطلاق، حيث إنّ الشارع جعلَ له كيفيّة وجود خاصّة.

فالشعائر لابد أن تُتّخذ وتُجعل من قِبَل الشارع، ومن ثُمّ يَحرم انتهاكها، أمّا مجرّد اتّخاذها - والتعارف عليها والتراضي بها من قِبَل العرف والعقلاء - لا يجعلها شعيرة ولا يترتّب عليها الحُكم، أي: وجوب التعظيم وحرمة الهتك.

أدلّةُ المُعترض:

الأوّل: باعتبار أنّ الشعائر تعني أوامر الله، ونواهي الله، وأحكام الله، فلابدّ أن تكون الشعائر من الله، فكيف يوكَّل تشريعها غير الله سبحانه( إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ ) (1) .

الثاني: ما في الآية من سورة الحجّ( وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ ) (2) من كونها شعائر الله، إنّما هو بجعل الشارع لا بجعل المتشرِّعة.

وآية( لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ ) (3) ، وآية:( ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ

____________________

(1) الأنعام: 57.

(2) الحج: 36.

(3) المائدة: 2.

٧٧

فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ ) (1) ترتبط كلّ منها بموارد مناسك الحجّ، ومناسك الحجّ مجعولة بجعل الشارع.

فالحاصل أنّ ألفاظ الآيات ظاهرة في أنّ جعل الشعائر إنّما هو جعل من الله، وليس هو جعل وإنشاءٌ واتخاذٌ حسب قريحة واختيار المتشرِّعة.

الثالث: لو كانت الشعائر بيد العرف لاتّسع هذا الباب وترامى، ولمَا حُدّ بحدّ، بحيث يُعطى الزمام للعرف وللمتشرِّعة بأن يجعلوا لأنفسهم شعائر كيف ما اختاروا واقترحوا، وبالتالي سوف تطرأ على الدين تشريعات جديدة وأحكام مستحدَثة ورسوم وطقوس متعدّدة، حسب ما يراه العرف والمتشرِّعة، فتُجعل شعائر دينيّة.

فإيكال الشعائر إلى العرف والمتشرّعة وإلى عامّة الناس المتديّنين، سوف يستلزم إنشاء تشريع دين جديد وفقَ ما تُمليه عليهم رغباتهم وخلفيّاتهم الذهنيّة والاجتماعيّة.

الرابع: يلزم من ذلك تحليل الحرام، وتحريم الحلال، حيث سيتّخذون بعض ما هو محرّم شعائر فيجعلونها عَلَماً وعلامة على أمر ديني، وهذا تحليل للحرام، أو قد يجعلون لأشياء محلّلة حرمة معيّنة مثلاً ؛ لأنّها إذا اتُّخذت شعيرة وعُظِّمت فسوف يُجعل لها حرمة، مع أنّ حكمها في الأصل كان جواز الإحلال والابتذال.

أمّا بعد اتّخاذها شعيرة فقد أصبح ابتذالها حراماً وتعظيمها واجباً، فيلزم من ذلك تحريم الحلال.

____________________

(1) الحج: 30.

٧٨

جوابُ الاعتراض:

والجواب تارةً إجمالاً وأخرى تفصيلاً.. أمّا الجواب الإجمالي: فهو وجود طائفة الأدلّة من النوع الثاني والثالث، حيث مرّ أنّ لقاعدة الشعائر الدينيّة ثلاثة أنواع من الأدلّة:(1)

النوع الأول: لسان الآيات التي وردت فيها نفس لفظة الشعيرة والشعائر.

النوع الثاني: لسان آخر، وهو ظاهر الآيات التي وردت في وجوب نشر الدين، وإعلاء كلمة الله سبحانه، وبثّ الشريعة السمحاء.

وقد قلنا: إنّ قاعدة الشعائر الدينيّة تتقوّم برُكنين:

ركن الإعلام والنشر والبثّ، والانتشار لتلك العلامة الدينيّة ولِذيها.

وركن علوّ الدين واعتزازه، وهذا اللسان نلاحظه في جميع الألسن لبيان القاعدة، سواء كان في اللسان الأوّل الذي وردت فيه بلفظ الشعائر، أو في اللسان الثاني الذي لم يرد فيه لفظ الشعائر.

النوع الثالث : أو اللسان الثالث من الأدلّة: الذي ذكرنا بأنّه العناوين الخاصّة في الألفاظ الخاصّة.

فلو بنينا على نظريّة هذا المعترض؛ فإننّا لن ننتهي إلى النتيجة التي يتوخّاها بأنّ الشعائر حقيقة شرعيّة، أو وجودها حقيقة شرعيّة، لأنّ النتيجة

____________________

(1) راجع ص: 31 - 38 من هذا الكتاب.

٧٩

التي يريد أن يتوصّل إليها هي الحكم ببدعيّة كثير من الرسوم والطقوس التي تمارَس باسم الشعائر الدينيّة المستجدّة والمستحدَثة، وهذه النتيجة سوف لا يصل إليها حتّى لو سلّمنا بأنّ الشعائر الدينيّة هي بوضع الشارع وبتدخّله؛ لعدم انسجام ذلك مع النَمَطين الأخيرين من لسان أدلّ الشعائر، والوجه في ذلك يتّضح بتقرير الجواب التفصيلي على إشكالات المعترِض.

الجوابُ التفصيلي الأوّل

يتمّ بيانه عبر ثلاث نقاط:

النقطة الأولى: تعلّق الأوامر بطبيعة الكلّي

ما ذكرهُ علماء الأصول: من أنّ الشارع إذا أمرَ بفعل كلّي، مثل: الأمر بالصلاة( أَقِيمُواْ الصَّلاَةَ ) (1) ، أو الأمر بعتق رقبة، أو الاعتكاف، ولم يُخصِّص ذلك الفعل بزمن معيّن، أو بمكان معيّن، أو بعوامل معيّنة؛ وإنّما أمرَ بهذه الطبيعة على حدودها الكلّيّة، كأن يأمر الشارع مثلاً بصلاة الظهرين بين الحدّين، أي: بين الزوال والغروب، فالمكلّف يختار الصلاة في أيّ فردٍ زمني من هذه الأفراد، وإن كان بعض الأفراد له فضيلة، إلاّ أنّ المكلّف مُفوّض في إيجاد طبيعة الصلاة، وماهيّة الصلاة، وفعل الصلاة في أيّ فرد شاء، وفي أيّ آنٍ من الآنات بين الزوال والغروب، سواء في أوّل الوقت، أو وسط الوقت، أو آخر الوقت، كما أنّه مفوّض ومخيّر في إيقاع الصلاة في هذا المسجد، أو في ذلك المسجد، أو في منزل، جماعة أو فرادى، وبعبارة

____________________

(1) البقرة: 43، 83، 110.

٨٠

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576