الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٩

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل10%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 576

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 576 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 264315 / تحميل: 11787
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٩

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

أدلة استقلال الروح

كان الكلام حتى الآن عن الماديين الذين يصرّون على أنّ الظواهر الروحية هي افرازات لخلايا الدماغ ، ويعتبرون الفكر والإبداع والحب والتنفر والغضب وجميع العلوم ، مثل القضايا المادية التي تخضع لأسلوب العمل المختبري وتشملها قوانين المادة ، إلّا أنّ الفلاسفة الذي يعتقدون باستقلالية الروح ذكروا أدلة قاطعة على نفي هذه العقيدة ، منها :

أوّلا : ادراك الواقع الخارجي

إنّ أوّل سؤال يمكن أن نطرحه على الماديين ، هو أنّه إذا كانت الأفكار والظواهر الروحية هي نفسها الخواص (الفيزيكيميائية) للدماغ ، ففي مثل هذه الحالة ينبغي أن تنعدم الخلافات والفروق بين عمل الدماغ وبين عمل المعدة أو الكلية أو الكبد ، حيث أنّ عمل المعدة هو التركيب الأساس ومجموعة من الفعاليات الفيزيائية والكيميائية ، إذ بواسطة نشاط معين وإفرازات حامضية تتم عملية هضم الطعام ويصبح جاهزا للامتصاص من قبل الجسم. وإذا كان إفراز اللعاب عملا فيزيائيا وكيميائيا في آن واحد ، فإنّنا نرى أنّ العمل الروحي يختلف عن هذه الأعمال.

إن كل أعمال أجهزة الجسم لها تشابه بدرجة معينة مع بعضها البعض ، ما عدا (الدماغ) الذي له وضع استثنائي ، إنّ أجهزة الجسم مرتبطة جميعا بجوانب داخلية ، في حين أنّ الظواهر الروحية لها جهة خارجية وتخبرنا عن الواقع الخارجي المحيط بنا.

ولأجل توضيح هذا الكلام يجب ذكر بعض الملاحظات :

الملاحظة الأولى : هل هناك عالم خارج وجودنا؟

من البديهي وجود مثل هذا العالم ، أمّا المثاليين الذين ينكرون وجود العالم

١٢١

الخارجي ويقولون بأنّ كل ما وجود هو (نحن) و (تصوراتنا) ويعتبرون العالم الخارجي مجموعة من التصورات والأحلام التي تشاهد في النوم ، فهؤلاء على خطأ ، وقد أثبتنا خطأهم هذا في أحد الأبحاث ، وأثبتنا أنّه كيف يتحول هؤلاء المثاليون إلى واقعيين في العمل، إذ أن ما يفكرون به في محيط مكتباتهم ينسونه عند ما يتجولون في الشارع ويتنقلون من مكان إلى آخر.

الملاحظة الثّانية : هل ندرك ونعلم بوجود العالم الخارجي ، أم لا؟

بالطبع الجواب على هذا السؤال بالإيجاب ، لأنّنا نملك معرفة كبيرة عن العالم الخارجي، وعندنا معلومات كثيرة عن الموجودات المحيطة بنا.

والآن نصل إلى هذا السؤال : هل هناك وجود للعالم الخارجي في داخل وجودنا؟ طبعا لا ، ولكن ارتساماته وصورته منعكسة في أذهاننا حيث نستفيد من خاصية (انعكاس الواقع الخارجي) لإدراك العالم الخارجي.

هذا الإدراك الذهني للعالم الخارجي ـ في الحقيقة ـ ليس من الخواص الفيزيكيميائية للدماغ لوحدها ، إذ أنّ هذه الخواص وليدة إحساسنا وتأثرنا بالعالم الخارجي ، وفي الاصطلاح : فإنّها معلولة لها. ونفس الشيء يقال بالنسبة لتأثير الطعام على معدتنا ، فهل تأثير الطعام على معدتنا والنشاطات الفيزيائية والكيميائية تكون سببا لمعرفة المعدة بالأطعمة؟

إذن كيف يستطيع الدماغ أن يتعرف على عالمه الخارجي؟

بعبارة أخرى نقول : في التعرف على الموجودات الخارجية هناك حاجة إلى نوع من الإحاطة بها ، وهذه الإحاطة ليست من عمل الخلايا الدماغية ، إذ الخلايا الدماغية تتأثر بالخارج فقط ، وهذا التأثر مثله كمثل سائر أجهزة الجسم ، وهذا الموضوع ندركه نحن بشكل جيد.

وإذا كان مجرّد التأثّر بالخارج دليلا على إدراكنا ومعرفتنا بالواقع الموضوعي الخارجي ، فيجب أن تتساوى في ذلك معدتنا ولساننا وأن يكون لها

١٢٢

نفس قابلية الفهم ، في حين أنّنا نعرف أنّ واقع الحال ليس كذلك. وخلاصة القول : إنّ الوضع الاستثنائي لإدراكنا دليل على أنّ هناك حقيقة أخرى كامنة فيها ، بحيث أنّ نظامها والقوانين المتحكمة فيه تختلف عن القوانين والنظم الفيزيائية والكيميائية. (فتدبّر ذلك).

ثانيا : وحدة الشخصية

الدليل الآخر على استقلال الروح وتمايزها هو مسألة وحدة الشخصية في طول عمر الإنسان.

إذا أردنا نشك في كل شيء ، فإنّنا لا نستطيع أن نشك في موضوع وجودنا (أي مقولة : أنا موجود) وليس ثمّة شك في وجودي وفي علمي بوجودي أو ما يصطلح عليه بـ «العلم الحضوري» وليس «العلم الحصولي» أي أنّني موجود عند نفسي وغير منفصل عنها.

على أي حال إنّ معرفتنا بأنفسنا من أوضح معلوماتنا ، ولا تحتاج إلى استدلال وإثبات.

أمّا بالنسبة للاستدلال المشهور الذي استدلّ به الفيلسوف الفرنسي ديكارت حول وجوده ، والذي يقول فيه (بما أنّني أفكر فإذن أنا موجود) فهو استدلال زائد وغير صحيح، لأنّه قبل أن يثبت وجوده اعترف مرّتين بوجوده (المرّة الأولى عند ما يقول : إنّني ، والثّانية عند ما يقول : أنا) هذا من جانب.

ومن جانب ثان فإنّ (إنّني) هذه منذ بداية العمر حتى نهايته واحدة ف (إنّني اليوم) هي نفسها (إنّني بالأمس) وهي نفسها (إنّني منذ عشرين عاما) ف (أنا) منذ الطفولة وحتى الآن تعبير عن شخص واحد لا أكثر ، إنّني نفس ذلك الشخص الذي كنت وسأبقى إلى آخر عمري نفس ذلك الشخص ، وليس شخصا آخر ، طبعا خلال هذه الفترة يكون الإنسان قد درس وتعلم ووصل إلى مراحل عالية

١٢٣

في العلم ، ولكن في جميع الأحوال يبقى هو هو ، ولا يصبح إنسانا آخر ، وهكذا في تعامل الآخرين معه حيث يعتبره الآخرون شخصية واحدة منذ أوّل حياته وإلى آخر لحظة فيها باسم واحد وجنسية معينة.

والآن لنرى ما هو هذا الكائن المتوغّل في اعماقنا؟ فهل هو ذرات وخلايا جسدنا ومجموعة الخلايا الدماغية وتأثيراتها؟ إنّ كل هذه الأمور قد تغيّرت على مدى عمرنا عدّة مرّات ، تقريبا في كل سبع سنوات مرّة واحدة ، حيث نعرف أنّه في كل يوم تموت ملايين الخلايا في جسدنا لتحل محلها ملايين أخرى جديدة ، ومثلها في ذلك مثل البناء الذي يتمّ إخراج الطابوق القديم منه ووضع طابوق جديد في مكانه فلو استمر التعمير في هذا البناء فإنّ البنية الأساسية لن تتغير ، ولكن يبقى البيت هو نفس ذاك البيت برغم أنّ الناس السطحيين لا يلتفتون لذلك. ومثل خلايا الجسم التي تموت وتحيا كمثل المسبح الكبير الذي يدخله الماء ببطء ويخرج من طرف آخر. طبيعي أنّ ماء هذا المسبح سيتغير بعد مدّة بشكل كامل بالرغم من عدم التفات الناس إلى ذلك ، إذ يظنون أنّ ماء المسبح ما زال على حاله لم يتغيّر.

وبشكل عام ، إنّ كل موجود يحصل على الطعام ومن جانب ثان يستهلك هذا الطعام ، فإنّه في الواقع يتجدّد ويتغّير بالتدريج.

لذا فإنّ إنسانا في السبعين من عمره لا يبعد أن يكون جسمه قد تغّير عشر مرات ، وإذا كان الأمر كما يقول الماديون ، من أنّ الإنسان هو نفس جسمه وأجهزته الدماغية والعصبية وخواصه الفيزيائية والكيميائية ، ففي هذه الحالة يجب أن يكون ال (أنا) قد تغيّر عشر مرات خلال هذه السنوات السبعين! ولهذا يكون هذا الإنسان ليس الإنسان السابق، إلّا أنّ هذا الكلام لا يقبله أي وجدان.

ومن هنا يتّضح أن ثمّة حقيقة واحدة ثابتة على طول العمر ، هي غير الأجزاء المادية، هذه الحقيقة لا تتغّير كالأجزاء المادية ، وهي أساس وجودنا وتتحكم في حياتنا وهي سبب وحدة شخصيتنا.

١٢٤

الحذر من هذا الاشتباه!

البعض يتصوّر أن الخلايا الدماغية لا تتغّير ، ويقولون : لقد قرأنا في الكتب الفسيولوجية أنّ عدد الخلايا الدماغية واحد وثابت منذ البداية وحتى نهاية العمر ، وهي لا تزيد ولا تنقص وإنّما تكبر. لذلك إذا أصيبت بخلل فلن تكون قابلة للعلاج. وعلى هذا الأساس فإنّنا نملك وحدة ثابتة في مجموع بدننا ، هذه الوحدة هي الخلايا الدماغية التي تحفظ لنا وحدة شخصيتنا.

إنّ هذا الكلام ـ في الواقع ـ يمثل اشتباها كبيرا ، فهو خلط بين مسألتين ، إذ أن ما أثبته العلم من ثبات عدد الخلايا الدماغية منذ البداية حتى النهاية وأنّها غير قابلة للزيادة والنقصان ، لا يعني أنّ الذرات المكوّنة لهذه الخلايا لا تتغيّر ، فكما قلنا : إنّ خلايا الجسم التي تأخذ الطعام وتطرد الذرات القديمة بالتدريج تكون خاضعة للتغيير ، مثلها في ذلك مثل ذلك الشخص الذي يأخذ المال من طرف وينفقه من طرف آخر ، فهذا الشخص سيتغير رأس ماله بالتدريج ، بالرغم من أن مقدار رأس المال لم يتغيّر. وكذلك يمكن أن نذكّر بمثال ماء المسبح.

لذلك ، يتبيّن أنّ الخلايا الدماغية ليست ثابتة ، بل متغيّرة مثل سائر خلايا الجسم.

ثالثا : عدم تطابق الكبير مع الصغير

افترضوا أنّنا جلسنا على ساحل البحر ، وشاهدنا أمامنا عددا من الزوارق مع باخرة كبيرة ، ثمّ نظرنا إلى جانب الشمس فرأيناها تميل للغروب ، بينما القمر بدأ يبزغ من الجانب الآخر. وعلى الشاطئ هناك صفوف من طيور الماء الجميلة وقد اقترب بعضها نحو الماء. ونشاهد على الطرف الآخر جبلا عظيما تناطح قمته السماء علوا. والآن ، إزاء هذا المنظر ، لنغمض عيوننا برهة من الزمن ونتخيل ما شاهدناه : جبل عظيم ، بحر واسع ، سفينة كبيرة ، كل هذه الأمور ترتسم في مخيلتنا

١٢٥

كاللوحة الكبيرة للغاية في مقابل روحنا ، أو في داخل روحنا.

والسؤال هنا : أين مكان هذا المخطط في وجودنا هل تستطيع الخلايا الدماغية الصغيرة والمحدودة للغاية أن تستوعب حجم اللوحة الكبيرة والمخطط الكبير؟ الإجابة ـ طبعا ـ هي النفي ، ولذلك لا بدّ أنّنا نمتلك قسما آخر في وجودنا يكون فوق المادة الجسمية ، وهو من السعة بمقدار بحيث يستوعب كل هذه المناظر والمخططات واللوحات.

وإلّا فهل نستطيع تنفيذ مخطط لبناية ذات مساحة (٥٠٠) متر على قطعة أرض ذات مساحة بضعة ميلي مترات؟

الجواب ـ طبعا ـ سيكون بالنفي ، لأنّ موجودا أكبر لا يمكنه الانطباق على موجود أصغر مع احتفاظه بكبره وسعته ، إذ من ضرورات الانطباق أن يكونا متساويين ، أو أن يكون أحدهما أصغر من الثّاني ، فيمكن حينذاك تنفيذ الصغير على الكبير.

مع هذا الوضع كيف يمكن لخلايا دماغنا الصغيرة استيعاب الصور الذهنية الكبيرة؟

إنّنا نستطيع تصوّر الكرة الأرضية بحزامها الذي يبلغ أربعين مليون متر في أذهاننا ، ونستطيع أن نتصوّر ذهنيا كرة الشمس التي تكبر الأرض بمقدار مليون ومائتي ألف مرّة ، وكذلك يمكننا تصوّر المجرات والتي هي أكبر من الشمس بملايين المرّات. ولكن كل هذه الصور لا يمكن ارتسامها عمليا في خلايا الدماغ الصغيرة ، وذلك وفقا لقاعدة عدم انطباق الكبير على الصغير.

إذن يجب أن نعترف ونقرّ بوجود كامن فينا هو أكبر من جسمنا في قدرة استيعابه وإحاطته بالأشياء والمخطوطات والموجودات الكبيرة :

١٢٦

سؤال مهم :

يمكن أن يقول البعض : إن تصوراتنا الذهنية هي مثل المايكرو فيلم أو الخرائط الجغرافية التي تحتوي على مقياس للرسم مثل ١٠٠٠٠٠٠ / (١) أو ١٠٠٠٠٠٠٠٠ / (١) حيث يرمز هذا المقياس إلى مقدار التصغير وكذلك كثيرا ما يحدث لادراك عظمة باخرة كبيرة جدا وتصوير حجمها أن أحد الأشخاص يقف على عرشتها ويؤخذ لهما صورة لكي يعرف الناظر لها عظمة حجمها من خلال روية الشخص الواقف عليها.

وتصوراتنا الذهنية على منوال الصور المصغّرة وذات مقايس رسم معينة ، وعند ما نكبّرها بنفس المقدار فإنّنا نحصل على المخطط أو الحجم الصحيح والواقعي. وبالطبع فإنّ المخططات والأحجام الصغيرة يمكن أن تستوعبها الخلايا الدماغية.

في الجواب نقول : إنّ المايكرو فيلم يتمّ تكبيرة بواسطة (البرجكتر والشاشة الكبيرة التي تنعكس عليها الصور) كما أنّ الخرائط الجغرافية نستطيع التعرّف على ما تطويه من أحجام حقيقية بواسطة الأرقام الموجودة تحت الخرائط ، فعند ما نضرب المساحات بهذا الرقم نحصل على الخريطة الكبيرة الواقعية مجسمة في أذهاننا.

والآن نطرح هذا السؤال : أين هي هذه الشاشة أو الصفحة العظيمة التي ينعكس عليها مايكروفيلم الذهن؟ هل تمثل الخلايا الدماغية الصفحة أو الشاشة المعنية؟

بالطبع لا ، لأنّ الخريطة الجغرافية الصغيرة التي نضربها بمقياس الرسم لتتحوّل إلى حجمها الحقيقي ، لا يمكن أن يكون مكانها الخلايا الدماغية الصغيرة في حجمها.

وبعبارة أوضح نقول : بالنسبة إلى المايكرو فيلم والخارطة الجغرافية ، فإنّنا

١٢٧

نرى أنّ الشيء الموجود في الخارج هو الفيلم والخارطة الصغيرة ، إلّا أنّه في صورنا وإدراكاتنا الذهنية تكون الصور بمقدار وجودها الخارجي ، ولا بدّ بالتالي من مكان يستوعبها ، فهل يمكن للخلايا الدماغية وهي بمساحتها وحجمها المعروف أن تستوعب كل هذه الأحجام العظيمة؟

وخلاصة القول : إنّنا نتصوّر الصور الذهنية للأشياء بنفس أحجامها وسعتها في موضوعاتها الخارجية ، وهذا التصوّر العظيم لا يمكن أن ينعكس في الخلايا الدماغية ، لذلك فهي تحتاج إلى مكان ومحل خاص ، وهكذا ندرك أن فينا وجودا حقيقيا أكبر من هذه الخلايا وفوقها جميعا.

رابعا : عدم تشابه الظواهر الروحية مع الأوضاع المادية

هناك دليل آخر على استقلال الروح وعدم ماديتها ، ففي الظواهر الروحية نشاهد خواصا وأوضاعا معينة تختلف عن الخواص والأوضاع المادية ، وليس ثمّة تشابه بينهما. ومثال ذلك ما يلي :

١ ـ الموجودات المادية تحتاج إلى الزمان ولها بعد تدريجي.

٢ ـ بمرور الزمن تبلى هذه الموجودات المادية.

٣ ـ من صفاتها أنّها قابلة للتقسيم إلى أجزاء متعدّدة.

ولكن الظواهر الذهنية ليست لها هذه الآثار والخواص ، حيث أنّنا نستطيع أن نتصوّر عالما كعالمنا الحالي في ذهننا دون الحاجة إلى مرور الزمن والتدرّج.

وإضافة إلى ذلك ، فإنّ اللقطات الموجودة في الذهن منذ عهد الطفولة لا تصبح قديمة ولا تستهلك أو تبلى بمرور الزمن ، بل تحتفظ بنفس شكلها ، ويمكن أن يستهلك دماغ الإنسان ، إلّا أنّ صورة البيت المتجسّدة في الدماغ منذ عشرين عامّا ثابتة فيه لا تتغيّر ولا تستهلك ولها نوع من الثبات الذي هو صفة عالم ما وراء الطبيعة.

١٢٨

إنّ روحنا تظهر خلاقية عجيبة اتجاه الصور ، وفي لحظة واحدة وبدون أي مقدمة يمكن رسم صور معينة في أذهاننا كالكرات السماوية والمجرات والكائنات الأرضية والجبال وما شابهها. إنّ هذه الخاصية ليست لكائن مادي ، بل هي دليل لكائن ما فوق المادة.

إضافة إلى ذلك فإنّنا لا نشك في أن (٢ + ٢ = ٤) حيث يمكن تجزئة طرفي المعادلة ، مثلا تجزئة الرقم (٢) أو الرقم (٤) إلّا أنّ هذا مفهوم التساوي هذا لا يمكن تجزئته ، فنقول مثلا : إنّ التساوي له نصفان وكل نصف هو غير النصف الآخر ، فالتساوي مفهوم لا يقبل التجزئة ، فإمّا أن يكون موجود أو غير موجود ، إذ لا يمكن تنصيفه أبدا.

لذا فإنّ هذا النوع من المفاهيم الذهنية غير قابل للتقسيم ، ولهذا السبب فهي ليست مادية ، إذ لو كانت مادية لكان يمكن تجزئتها ، ولهذا السبب فإنّ روحنا التي هي مركز للمفاهيم غير المادية لا يمكن أن تكون مادية ، لذا فإنّها فوق المادة. (فدقق في ذلك)(١)

* * *

__________________

(١) عرض وتلخيص عن كتاب : المعاد وعالم ما بعد الموت ، الفصل المتعلق باستقلال الروح.

١٢٩

الآيتان

( وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنا وَكِيلاً (٨٦) إِلاَّ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كانَ عَلَيْكَ كَبِيراً (٨٧) )

التّفسير

ما عندك هو من رحمته وبركته :

تحدثت الآيات السابقة عن القرآن ، أمّا الآيتان اللتان نبحثهما الآن فهما أيضا ينصبان في نفس الاتجاه.

ففي البداية تقول الآية :( وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ ) . وبعد ذلك:( ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنا وَكِيلاً ) إنّنا نحن الذين أعطيناك هذه العلوم حتى تكون قائدا وهاديا للناس ، ونحن الذين إذا شئنا استرجعناها منك ، وليس لأحد أن يعترض على ذلك.

وعند ربط هذه الآيات بالآية السابقة التي كانت تقول :( وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً ) فإنّنا نعرف أنّ الله إذا شاء يأخذ حتى هذا العلم الذي أعطاه لرسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

الآية التي بعدها جاءت لتستثني ، فهي تبيّن أنّنا إذا لم نأخذ ما أعطيناك ، فليس ذلك سوى رحمة من عندنا ، حيث يقول تعالى :( إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ ) وهذه

١٣٠

الرحمة لأجل هدايتك وإنقاذك ، وكذلك لهداية وإنقاذ العالم البشري ، وهذه الرحمة ـ في الواقع ـ مكمّلة لرحمة الخلق.

إنّ الله الذي خلق البشر بمقتضى رحمته الخاصّة والعامّة ، وألبسهم لباس الوجود الذي هو أفضل الألبسة ، هو نفسه الذي بعث إليهم قادة وأعين معصومين وحريصين رؤوفين ذوي استقامة وقدرة لهداية الناس ، لأنّ من مقتضيات رحمة الله أن لا تخلو الأرض من حجّة لهعزوجل .

وفي نهاية الآية ولأجل تأكيد المعنى السابق جاء قوله تعالى :( إِنَّ فَضْلَهُ كانَ عَلَيْكَ كَبِيراً ) .

إنّ وجود القابلية لهذا الفضل في قلبك الكبير بجهادك وعبادتك من جهة ، وحاجة العباد إلى مثل قيادتك من جهة أخرى ، جعلا فضل الله عليك كبيرا للغاية فقد فتح الله أمامك أبواب العلم ، وأنبأك بأسرار هداية الإنسان ، وعصمك من الخطأ ، حتى تكون أسوة وقدرة لجميع الناس إلى نهاية هذا العالم.

كما أنّه ينبغي أن نشير إلى أنّ الجملة الاستثنائية الواردة هنا ترتبط مع الآية السابقة ، ومفهوم المستثنى والمستثنى منه هو هكذا : إذا أردنا فإنّنا نستطيع أن نمنع عنك هذا الوحي الذي أرسلناه لك ، إلّا أنّنا لا نفعل ، لأنّ الرحمة الإلهية شملتك وتشمل جميع الناس(١) .

ومن الواضح أنّ هذا الاستثناء لا يعني أنّ الله يحجب في يوم من الأيّام رحمته عن نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، بل هو دليل على أنّ الرّسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يملك شيئا من عنده ، فعلمه ووحيه السماوي هو من الله ومرتبط بمشيئته وإرادته.

* * *

__________________

(١) في الحقيقة إنّ مفهوم الجملة هو هكذا : «ولكن لا نشاء أن نذهب بالذي أوحينا إليك رحمة من ربّك».

١٣١

الآيتان

( قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً (٨٨) وَلَقَدْ صَرَّفْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً (٨٩) )

التّفسير

معجزة القرآن :

الآيات التي بين أيدينا تتحدث عن إعجاز القرآن ، ولأنّ الآيات اللاحقة تتحدّث عن حجج المشركين في مجال المعجزات ، فإنّ الآية التي بين أيدينا ـ في الحقيقة ـ مقدمة للبحث القادم حول المعجزات.

إنّ أهم وأقوى دليل ومعجزة لرسول الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والتي هي معجزته الدائمة على طول التأريخ ، هو القرآن الكريم الذي بوجوده تبطل حجج المشركين.

بعض المفسّرين أراد أن يؤكّد ارتباط هذه الآية بالآيات السابقة من خلال

١٣٢

مجهولية الروح وأسرارها وقياسها بمجهولية القرآن وأسراره. ولكن العلاقة التي أشرنا إليها آنفا تبدو أكثر من هذا الربط(١) .

على أية حال فإنّ الله يخاطب رسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويقول له :( قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً ) .

إنّ هذه الآية دعت ـ بصراحة ـ العالمين جميعهم ، صغارا وكبارا ، عربا وغير عرب ، الإنسان أو أي كائن عاقل آخر ، العلماء والفلاسفة والأدباء والمؤرخين والنوابغ وغيرهم لقد دعتهم جميعا لمواجهة القرآن ، وتحدّيه الكبير لهم ، وقالت لهم : إذا كنتم تظنون أنّ هذا الكلام ليس من الخالق وأنّه من صنع الإنسان ، فأنتم أيضا بشر ، فأتوا إذا بمثله ، وإذا لم تستطيعوا ذلك بأجمعكم ، فهذا العجز أفضل دليل على إعجاز القرآن.

إنّ هذه الدّعوة للمقابلة والتي يصطلح عليها علماء العقائد بـ «التحدّي» هي أحد أركان المعجزة ، وعند ما يرد هذا التعبير في أي مكان ، نفهم بوضوح أنّ هذا الموضوع هو من المعجزات.

ونلاحظ في هذه الآية عدّة نقاط ملفتة للنظر :

١ ـ عمومية دعوة التحدّي والتي تشمل كل البشر والموجودات العاقلة الأخرى.

٢ ـ خلود دعوة التحدّي واستمرارها ، إذ هي غير مقيّدة بزمان ، وعلى هذا الأساس فإنّ هذا التحدّي اليوم جار مثلما كان في أيّام النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وسيبقى كذلك

__________________

(١) يراجع في ظلال القرآن ، ج ٥ ، ص ٣٥٨.

١٣٣

في المستقبل.

٣ ـ استخدام كلمة «اجتمعت» إشارة لأشكال التعاون والتعاضد والتساند الفكري والعملي ، الذي يضاعف حتما من نتائج أعمال الأفراد مئات ، بل آلاف المّرات.

٤ ـ إنّ تعبير( وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً ) تأكيد مجدّد على قضية التعاون والتعاضد ، وهي أيضا إشارة ضمنية إلى قيمة هذا العمل وتأثيره على صعيد تحقق الأهداف وتنجزها.

٥ ـ إنّ تعبير( بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ ) دلالة على الشمول والعموم ، وهو يعني (المثل) في جميع النواحي والأمور ، من حيث الفصاحة والبلاغة والمحتوى ، ومن حيث تربية الإنسان، والبحوث العلمية والقوانين الاجتماعية ، وعرض التأريخ ، والتنبؤات الغيبية المرتبطة بالمستقبل إلى آخر ما في القرآن من أمور.

٦ ـ إنّ دعوة جميع الناس للتحدّي دليل على أنّ الإعجاز لا ينحصر في ألفاظ القرآن وفصاحته وبلاغته وحسب ، وإلّا لو كان كذلك ، لكانت دعوة غير العرب عديمة الفائدة.

٧ ـ المعجزة تكون قوية عند ما يقوم صاحب المعجزة بإثارة وتحدّي أعدائه ومخالفيه،وبتعبيرنا تقول : يستفزهم ، ثمّ تظهر عظمة الإعجاز عند ما يظهر عجز أولئك وفشلهم.

وفي الآية التي نبحثها يتجلى هذا الأمر واضحا ، فمن جانب دعت جميع الناس،ومن جانب آخر تستفزهم بصراحة في قولها( لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ ) ثمّ تحرضهم وتدفعهم للتحدي بالقول( وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً ) .

الآية التي بعدها ـ في الواقع ـ توضيح لجانب من جوانب الإعجاز القرآني ، متمثلا في شموليته وإحاطته بكل شيء ، إذ يقول تعالى :( وَلَقَدْ صَرَّفْنا لِلنَّاسِ فِي

١٣٤

هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ ) . ولكن بالرغم من ذلك :( فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً ) .

«صرّفنا» من «تصريف» بمعنى التغيير أو التبديل.

أمّا «كفورا» فتعني إنكار الحق.

حقّا إنّ التنوع الذي يتضمّنه القرآن الكريم تنوع عجيب ، خاصّة وأنّه صدر من شخص لا يعرف القراءة والكتابة ، ففي هذا الكتاب وردت الأدلة العقلية بجزئياتها الخاصّة حول قضايا العقائد ، وذكرت ـ أيضا ـ الأحكام المتعلقة بحاجات البشر في المجالات كافة. وتعرّض القرآن ـ أيضا ـ إلى قضايا وأحداث تأريخية تعتبر فريدة في نوعها ومثيرة في بابها،وخالية من الخرافات.

وتعرض إلى البحوث الأخلاقية التي تؤثّر في القلوب المستعدّة كتأثير المطر في الأرض الميتة.

القضايا العلمية ورد ذكرها في القرآن الكريم ، إذ ذكرت بعض الحقائق التي لم تكن تعرف في ذلك الزمان من قبل أي عالم.

والخلاصة : إنّ القرآن سلك كل واد وتناول في آياته أفضل النماذج.

وإذا توجهنا إلى حقيقة محدودية معلومات الإنسان كائنا من كان (كما تشير إلى ذلك أيضا الآيات القرآنية) وأنّ رسول الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد ترعرع في بيئة محدودة في القضايا العلمية والمعرفية حتى أنّها لم تبلغ من معلومات ومعارف الإنسان في زمانها إلّا مبلغا يكاد لا يذكر وسط كل ذلك ، ألا يعتبر التنوع في القرآن في قضايا التوحيد والأخلاق والاجتماع والسياسة والأمور العسكرية وغيرها ، دليلا على أنّ هذا القرآن ليس من صنع عقل بشري،بل من الخالق جلّ وعلا؟

ولهذا السبب إذا اجتمعت الجن والإنس على أن يأتوا بمثله فلا يستطيعون ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا.

١٣٥

لنفترض أنّ جميع العلماء والمتخصصين يجتمعون اليوم لتأليف دائرة معارف، وينظموها بأفضل ما لديهم من خبرات فنية ومعرفية ، فإنّ النتيجة ستكون عملا يلقى صداه الحسن في مجتمع اليوم ، أمّا بعد خمسين عاما فسيعتبر هذا العمل ناقصا وقديما.

أمّا القرآن ففي أي عصر وزمان يقرأ ، وخاصّة في زماننا الحاضر ، فإنّه يبدو كأنّه نزل ليومنا هذا ، ولا يوجد فيه أي أثر يدل على أنّه قديم.

* * *

١٣٦

الآيات

( وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً (٩٠) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيراً (٩١) أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً (٩٢) أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلاَّ بَشَراً رَسُولاً (٩٣) )

سبب النّزول

لقد ذكر المفسّرون استنادا للروايات الواردة أسبابا عديدة لنزول هذه الآيات ، وفيما يلي سنتعرض بشكل موجز إلى هذه الأسباب معتمدين بشكل مباشر على تفسير مجمع البيان الذي قال :

إنّ جماعة من وجهاء قريش ـ وفيهم الوليد بن المغيرة وأبو جهل ـ اجتمعوا عند الكعبة ، وقال بعضهم لبعض : ابعثوا إلى محمّد فكلّموه وخاصموه. فبعثوا إليه : إنّ أشراف قومك قد اجتمعوا لك. فبادرصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إليهم ظنّا منه ، أنّهم بدا لهم في أمره ، وكان حريصا على رشدهم ، فجلس إليهم ، فقالوا : يا محمّد إنا دعوناك لنعذر إليك ،

١٣٧

فلا نعلم أحدا أدخل على قومه ما أدخلت على قومك ، شتمت الآلهة ، وعبت الدين وسفهت الأحكام ، وفرقت الجماعة ، فإن كنت جئت بهذا لتطلب مالا أعطيناك ، وإن كنت تطلب الشرف سوّدناك علينا ، وإن كانت علّة غلبت عليك طلبنا لك الأطباء.

فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ليس شيء من ذلك ، بل بعثني الله إليكم رسولا ، وأنزل كتابا ، فإن قبلتم ما جئت به فهو حظكم في الدنيا والآخرة ، وإن تردّوه أصبر حتى يحكم الله بيننا».

قالوا : فإذن ليس أحد أضيق بلدا منّا فاسأل ربّك أن يسيّر هذه الجبال ، ويجري لنا أنهارا كأنهار الشام والعراق ، وأن يبعث لنا من مضى وليكن فيهم قصيّ فإنّه شيخ صدوق لنسألهم عمّا تقول أحق أم باطل.

فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ما بهذا بعثت».

قالوا : فإن لم تفعل ذلك فاسأل ربّك أن يبعث ملكا يصدقك ويجعل لنا جنات وكنوزا وقصورا من ذهب.

فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ما بهذا بعثت ، وقد جئتكم بما بعثني الله به ، فإن قبلتم وإلّا فهو يحكم بيني وبينكم».

قالوا : فأسقط علينا السماء كما زعمت ، إن ربّك إن شاء فعل ذلك.

قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ذاك إلى الله إن شاء فعل».

وقال قائل منهم : لا نؤمن حتى تأتي بالله والملائكة قبيلا.

فقام النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقام معه عبد الله بن أبي أمية المخزومي ابن عمته عاتكة بنت عبد المطلب ، فقال : يا محمّد عرض عليك قومك ما عرضوا فلم تقبله ، ثمّ سألوك لأنفسهم أمورا فلم تفعل ، ثمّ سألوك أن تعجّل ما تخوفهم به فلم تفعل ، فو الله لا أؤمن بك أبدا حتى تتخذ سلّما إلى السماء ثمّ ترقى فيه وأنا أنظر ، ويأتي معك نفر من الملائكة يشهدون لك ، وكتاب يشهد لك.

١٣٨

وقال أبو جهل : إنّه أبى إلّا سبّ الآلهة وشتم الآباء ، وأنا أعاهد الله لأحملن حجرا فإذا سجد ضربت به رأسه.

فانصرف رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حزينا لما رأي من قوله ، فأنزل الله سبحانه الآيات أعلاه(١) .

* * *

التّفسير

أعذار وذرائع مختلفة :

بعد الآيات السابقة التي تحدثت عن عظمة وإعجاز القرآن ، جاءت هذه الآيات تشير إلى ذرائع المشركين ، هذه الذرائع تثبت أنّ مواقف هؤلاء المشركين إزاء دعوة الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم التي جاءت أصلا لإحيائهم ، لم تكن إلّا للعناد والمكابرة ، حيث أنّهم كانوا يطالبون بأشياء غير معقولة في مقابل اقتراح الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المنطقي وإعجاز القوي.

هذه الطلبات وردت على ستة أقسام هي :

١ ـ في البداية يقولون :( وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً ) .

«فجور وتفجير» بمعنى الشق. وهي عامّة ، سواء كان شق الأرض بواسطة العيون أو شق الأفق بواسطة نور الصباح (مع الأخذ بنظر الإعتبار أن تفجير هي صيغة مبالغة لفجور).

«ينبوع» مأخوذة من «نبع» وهو محل فوران الماء ، والبعض قالوا بأنّ الينبوع هي عين الماء التي لا تنتهي أبدا.

__________________

(١) يراجع تفسير مجمع البيان أثناء تفسير الآيات. وكذلك جاء مثله مع تفاوت في الدر المنثور للسيوطي أثناء تفسير الآيات.

١٣٩

٢ ـ قولهم كما في الآية :( أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيراً ) .

٣ ـ( أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً ) .

٤ ـ( أَوْ تَأْتِيَ بِاللهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً ) .

«قبيل» تعني في بعض الأحيان «الكفيل والضامن» وتعني ـ في أحيان أخرى ـ الشيء الذي يوضع قبال الإنسان وفي مواجهته ، وقال بعضهم بأنّها جمع (قبيلة) أي الجماعة من الناس.

وطبقا للمعنى الأوّل يكون معنى الآية أن تأتي بالله والملائكة كضامنين على صدقك!

وأمّا طبقا للمعنى الثّاني فيكون المعنى أن تأتي بالله والملائكة وتضعهما في مقابلنا! وأمّا طبقا للمعنى الثّالث فيكون معنى الآية أن تأتي بالله والملائكة على شكل مجموعة مجموعة!

ويجب الانتباه إلى أنّ هذه المفاهيم الثلاثة لا تتعارض فيما بينها ، ويمكن أن تكون مجتمعة في مفهوم الآية ، لأنّ استخدام كلمة واحدة لأكثر من معنى ممكن عندنا.

٥ ـ( أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ ) .

«زخرف» في الأصل تعني (الزينة) ، ويقال للذهب «زخرف» لأنّه من الفلزات المعروفة والمستخدمة لأغراض الزينة ، ويقال للبيوت المزيّنة والملونة أنّها (مزخرفة) ، كما يقال للكلام المزوّق والمخادع بأنّه «كلام مزخرف».

٦ ـ( أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ ) .

ثمّ يصدر الأمر من الخالق جلّ وعلا لرسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يقول لهؤلاء في مقابل اقتراحاتهم هذه :( قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولاً ) .

* * *

١٤٠

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

وهذه الآيات ـ التي نبحثها ـ في الحقيقة تقف على نماذج للأمم السابقة ممّن شاهدوا أنواع المعاجز والأعمال غير العادية ، إلّا أنّهم استمروا في الإنكار وعدم الإيمان.

في البدء يقول تعالى :( وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ ) . سنشير في نهاية هذا البحث إلى هذه الآيات التسع وماهيتها.

ولأجل التأكيد على الموضوع اسأل ـ والخطاب موّجه إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ بني إسرائيل (اليهود) أمام قومك المعارضين والمنكرين :( فَسْئَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ إِذْ جاءَهُمْ ) .

إلّا أنّ الطاغية الجبار فرعون ـ برغم الآيات ـ لم يستسلم للحق ، بل أكثر من ذلك اتّهم موسى( فَقالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا مُوسى مَسْحُوراً ) .

وفي بيان معنى «مسحور» ذكر المفسّرون تفسيرين ، فالبعض قالوا : إنّها تعني الساحر بشهادة آيات قرآنية أخرى ، تقول بأنّ فرعون وقومه اتّهموا موسى بالساحر ، ومثل هذا الاستخدام وارد وله نظائر في اللغة العربية ، حيث يكون اسم المفعول بمعنى الفاعل ، كما في (مشؤوم) التي يمكن أن تأتي بمعنى «شائم» و (ميمون) بمعنى «يامن».

ولكن قسم آخر من المفسّرين أبقى كلمة «مسحور» بمعناها المفعولي والتي تعني الشخص الذي أثّر فيه الساحر ، كما يستفاد من الآية (39) من سورة الذاريات التي نسبت السحر إليه ، والجنون أيضا ،( فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقالَ ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ ) .

على أي حال ، فإنّ التعبير القرآني يكشف عن الأسلوب الدعائي التحريضي الذي يستخدمه المستكبرون ويتهمون فيه الرجال الإلهيين بسبب حركتهم الإصلاحية الربانية ضدّ الفساد والظلم ، إذ يصف الظالمون والطغاة معجزاتهم بالسحر أو ينعتونهم بالجنون كي يؤثروا من هذا الطريق في قلوب الناس

١٦١

ويفرّقوهم عن الأنبياء.

ولكن موسىعليه‌السلام لم يسكت أمام اتّهام فرعون له ، بل أجابه بلغة قاطعة يعرف فرعون مغزاها الدقيق ، إذ قال له :( قالَ لَقَدْ عَلِمْتَ ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بَصائِرَ ) .

لذا فإنّك ـ يا فرعون ـ تعلم بوضوح أنّك تتنكر للحقائق ، برغم علمك بأنّها من الله! فهذه «بصائر» أي أدلة واضحة للناس كي يتعرفوا بواسطتها على طريق الحق. وعند ما سيسلكون طريق السعادة. وبما أنّك ـ يا فرعون ـ تعرف الحق وتنكره ، لذا :( وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً ) .

(مثبور) من (ثبور) وتعني الهلاك.

ولأنّ فرعون لم يستطع أن يقف بوجه استدلالات موسى القوية ، فإنّه سلك طريقا يسلكه جميع الطواغيت عديمي المنطق في جميع القرون وكافة الأعصار ، وذاك قوله تعالى:( فَأَرادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْناهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعاً ) .

«يستفز» من «استفزاز» وتعني الإخراج بقوة وعنف.

ومن بعد هذا النصر العظيم :( وَقُلْنا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنا بِكُمْ لَفِيفاً ) . فتأتون مجموعات يوم القيامة للحساب.

«لفيف» من مادة «لفّ» وهنا تعني المجموعة المتداخلة المعقّدة بحيث لا يعرف الأشخاص ، ولا من أي قبيلة هم!

* * *

بحوث

1 ـ المقصود من الآيات التسع

لقد ذكر القرآن الكريم آيات ومعجزات كثيرة لموسىعليه‌السلام منها ما يلي :

1 ـ تحوّل العصا إلى ثعبان عظيم يلقف أدوات الساحرين ، كما في الآية

١٦٢

(20) من سورة طه :( فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى ) .

2 ـ اليد البيضاء لموسىعليه‌السلام والتي تشع نورا :( وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلى جَناحِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرى ) (1) .

3 ـ الطوفان :( فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ ) (2) .

4 ـ الجراد الذي أباد زراعتهم وأشجارهم( وَالْجَرادَ ) (3) .

5 ـ والقمل الذي هو نوع من الأمراض والآفات التي تصيب النبات : و( الْقُمَّلَ ) (4) .

6 ـ (الضفادع) التي جاءت من النيل وتكاثرت وأصبحت وبالا على حياتهم:( وَالضَّفادِعَ ) (5) .

7 ـ الدم ، أو الابتلاء العام بالرعاف ، أو تبدّل نهر النيل إلى لون الدم ، بحيث أصبح ماؤه غير صالح لا للشرب ولا للزراعة :( وَالدَّمَ آياتٍ مُفَصَّلاتٍ ) (6) .

8 ـ فتح طريق في البحر بحيث استطاع بنو إسرائيل العبور منه :( وَإِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ ) (7) .

9 ـ نزول ال (منّ) و (السلوى) من السماء ، وقد شرحنا ذلك في نهاية الآية (57) من سورة البقرة( وَأَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى ) (8) .

10 ـ انفجار العيون من الأحجار :( فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً ) (9) .

11 ـ انفصال جزء من الجبل ليظلّلهم :( وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ

__________________

(1) طه ، 22.

(2) و (3) و (4) و (5) و (6) ـ الأعراف ، 133.

(7) البقرة ، 50.

(8) البقرة ، 57.

(9) البقرة ، 60.

١٦٣

ظُلَّةٌ ) (1) .

12 ـ الجفاف ونقص الثمرات :( وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ ) (2) .

13 ـ عودة الحياة إلى المقتول والذي أصبح قتله سببا للاختلاف بين بني إسرائيل:( فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها كَذلِكَ يُحْيِ اللهُ الْمَوْتى ) (3) .

14 ـ الاستفادة من ظل الغمام في الاحتماء من حرارة الصحراء بشكل إعجازي :( وَظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ ) (4) .

ولكن الكلام هنا هو : ما هو المقصود من (الآيات التسع) المذكورة في الآيات التي نبحثها؟

يظهر من خلال التعابير المستخدمة في هذه الآيات أنّ المقصود هو المعاجز المرتبطة بفرعون وأصحابه ، وليست تلك المتعلقة ببني إسرائيل من قبيل نزول المنّ والسلوى وتفجّر العيون من الصخور وأمثال ذلك.

لذا يمكن القول أنّ الآية (133) من سورة الأعراف تتعرض إلى خمسة مواضيع من الآيات التسع وهي : (الطوفان ، القمّل ، الجراد ، الضفادع ، والدم).

كذلك اليد البيضاء والعصا تدخل في الآيات التسع ، يؤيد ذلك ورود تعبير (الآيات التسع) في الآيات (10 ـ 12) من سورة النمل بعد ذكر هاتين المعجزتين الكبيرتين.

وبذلك يصبح مجموع هذه المعاجز ـ الآيات ـ سبعا ، فما هي الآيتان الأخيرتان؟

بلا شك إنّنا لا نستطيع اعتبار غرق فرعون وقومه في عداد الآيات التسع ،

__________________

(1) الأعراف ، 171.

(2) الأعراف ، 130.

(3) البقرة ، 73.

(4) البقرة ، 57.

١٦٤

لأنّ الهدف من الآيات أن تكون دافعا لهدايتهم وسببا لقبولهم بنبوة موسىعليه‌السلام ، لا أن تقوم بهلاك فرعون وقومه.

عند التدقيق في آيات سورة الأعراف التي جاء فيها ذكر العديد من هذه الآيات يظهر أنّ الآيتين الأخريتين هما : (الجفاف) و (نقص الثمرات) حيث أننا نقرأ بعد معجزة العصا واليد البيضاء وقبل تبيان الآيات الخمس (الجراد ، والقمل ...) قوله تعالى :( وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ ) .

وبالرغم من أنّ البعض يتصوّر أنّ الجفاف لا يمكن فصله عن نقص الثمرات وبذا تعتبر الآيتان آية واحدة ، إلّا أنّ الجفاف المؤقت والمحدود ـ كما قلنا في تفسير الآية (130) من سورة الأعراف ـ لا يؤثّر تأثيرا كبيرا في الأشجار ، أمّا عند ما يكون جفافا طويلا فإنّه سيؤدي إلى إبادة الأشجار ، لذا فإنّ الجفاف لوحده لا يؤدي دائما إلى نقص الثمرات.

إضافة إلى ما سبق يمكن أن يكون السبب في نقص الثمرات هو الأمراض والآفات وليس الجفاف.

والنتيجة أنّ الآيات التسع التي وردت الإشارة إليها في الآيات التي نبحثها هي:العصا، اليد البيضاء ، الطوفان ، الجراد ، القمل ، الضفادع ، الدم ، الجفاف ، ونقص الثمرات.

ومن نفس سورة الأعراف نعرف أنّ هؤلاء ـ برغم الآيات التسع هذه ـ لم يؤمنوا ، لذلك انتقمنا منهم وأغرقناهم في اليم بسبب تكذيبهم(1) .

هناك روايات عديدة وردت في مصادرنا حول تفسير هذه الآية ، ولاختلافها فيما بينها لا يمكن الاعتماد عليها في إصدار الحكم.

__________________

(1) الأعراف ، 136.

١٦٥

2 ـ هل أنّ السائل هو الرّسول نفسه؟

ظاهر الآيات أعلاه يدل على أنّ الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان قد أمر بسؤال بني إسرائيل حول الآيات التسع التي نزلت على موسى ، وكيف أنّ فرعون وقومه صدّوا عن حقانية موسىعليه‌السلام بمختلف الذرائع رغم الآيات.

ولكن بما أنّ لدى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من العلم والعقل بحيث أنّه لا يحتاج إلى السؤال ، لذا فإنّ بعض المفسّرين ذهب الى أن المأمور بالسؤال هم المخاطبون الآخرون.

ولكن يمكن أن يقال : إنّ سؤال الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يكن لنفسه ، بل للمشركين ، لذلك فما المانع من أن يكون شخص الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو الذي يسأل حتى يعلم المشركون أنّه عند ما لم يوافق على اقتراحاتهم ، فذلك لأنّها اقتراحات باطلة قائمة على التعصّب والعناد ، كما قرأنا في قصّة موسى وفرعون ونظير ذلك.

3 ـ ما المراد ب (الأرض) المذكورة في الآيات؟

قرأنا في الآيات أعلاه أنّ الله أمر بني إسرائيل بعد أن انتصروا على فرعون وجنوده أن يسكنوا الأرض ، فهل الغرض من الأرض هي مصر (نفس الكلمة وردت في الآية السابقة والتي بيّنت أنّ فرعون أراد أن يخرجهم من تلك الأرض.

وبنفس المعنى أشارت آيات أخرى إلى أنّ بني إسرائيل ورثوا فرعون وقومه) أو أنّها إشارة إلى الأرض المقدّسة فلسطين ، لأنّ بني إسرائيل بعد هذه الحادثة اتجهوا نحو أرض فلسطين وأمروا أن يدخلوها.

بالنسبة لنا فإنّنا لا نستبعد أيّا من الاحتمالين ، لأنّ بني إسرائيل ـ بشهادة الآيات القرآنية ـ ورثوا أراضي فرعون وقومه ، وامتلكوا أرض فلسطين أيضا.

١٦٦

4 ـ هل تعني كلمة (وعد الآخرة) يوم البعث والآخرة؟

ظاهرا إنّ الإجابة بالإيجاب ، حيث أنّ جملة( جِئْنا بِكُمْ لَفِيفاً ) قرينة على هذا الموضوع ، ومؤيّدة لهذا الرأي. إلّا أنّ بعض المفسّرين احتملوا أنّ (وعد الآخرة) إشارة إلى ما أشرنا إليه في بداية هذه السورة ، من أنّ الله تبارك وتعالى قد توعّد بني إسرائيل بالنصر والهزيمة مرّتين ، وقد سمى الأولى بـ «وعد الأولى» والثّانية بـ «وعد الآخرة» ، إلّا أنّ هذا الاحتمال ضعيف مع وجود قوله تعالى :( جِئْنا بِكُمْ لَفِيفاً ) (فدقق في ذلك).

* * *

١٦٧

الآيات

( وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً (105) وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلاً (106) قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً (107) وَيَقُولُونَ سُبْحانَ رَبِّنا إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولاً (108) وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً (109) )

التّفسير

عشاق الحق

مرّة أخرى يشير القرآن العظيم إلى أهمية وعظمة هذا الكتاب السماوي ويجيب على بعض ذرائع المعارضين.

في البداية تقول الآيات :( وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ ) ، ثمّ تضيف بلا أدنى فاصلة( وَبِالْحَقِّ نَزَلَ ) .

ثمّ تقول :( وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا مُبَشِّراً وَنَذِيراً ) إذ ليس لك الحق في تغيير محتوى القرآن.

١٦٨

لقد ذكر المفسّرون آراء مختلفة في الفرق بين الجملة الأولى :( وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ ) والجملة الثّانية :( وَبِالْحَقِّ نَزَلَ ) منها :

1 ـ المراد من الجملة الأولى : إنّنا قدّرنا أن ينزل القرآن بالحق. بينما تضيف الجملة الثّانية أنّ هذا الأمر أو التقدير قد تحقق ، لذا فإنّ التعبير الأوّل يشير إلى التقدير ، بينما يشير الثّاني إلى مرحلة الفعل والتحقق(1) .

2 ـ الجملة الأولى تشير إلى أنّ مادة القرآن ومحتواه هو الحق ، أمّا التعبير الثّاني فانّه يبيّن أن نتيجته وثمرته هي الحق أيضا(2) .

3 ـ الرأي الثّالث يرى أنّ الجملة الأولى تقول : إنّنا نزّلنا هذا القرآن بالحق بينما الثّانية تقول : إنّ الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يتدخل في الحق ولم يتصرف به ، لذا فقد نزل الحقّ.

وثمّة احتمال آخر قد يكون أوضح من هذه التّفاسير ، وهو أنّ الإنسان قد يبدأ في بعض الأحيان بعمل ما ، ولكنّه لا يستطيع إتمامه بشكل صحيح وذلك بسبب من ضعفه ، أمّا بالنسبة للشخص الذي يعلم بكل شيء ويقدر على كل شيء ، فإنّه يبدأ بداية صحيحة ، وينهي العمل نهاية صحيحة. وكمثال على ذلك الشخص الذي يخرج ماء صافيا من أحد العيون ، ولكن خلال مسير هذا الماء لا يستطيع ذلك الشخص أن يحافظ على صفاء هذا الماء ونظافته أو يمنعه من التلوث ، فيصل الماء في هذه الحالة إلى الآخرين وهو ملوّث. إلّا أنّ الشخص القادر والمحيط بالأمور ، يحافظ على بقاء الماء صافيا وبعيدا عن عوامل التلوث حتى يصل إلى العطاشى والمحتاجين له.

القرآن كتاب نزل بالحق من قبل الخالق ، وهو محفوظ في جميع مراحله سواء في المرحلة التي كان الوسيط فيها جبرائيل الأمين ، أو المرحلة التي كان

__________________

(1) يراجع تفسير القرطبي ، ج 6 ، ص 3955.

(2) في ظلال القرآن ، أننا تفسير الآية.

١٦٩

الرّسول فيها هو المتلقي ، وبمرور الزمن له تستطيع يد التحريف والتزوير أن تمتد إليه بمقتضى قوله تعالى :( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ ) فالله هو الذي يتكفل حمايته وحراسته.

لذا فإنّ هذا الماء النقي الصافي الوحي الإلهي القويم لم تناله يد التحريف والتبديل منذ عصر الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وحتى نهاية العالم.

الآية التي تليها ترد على واحدة من ذرائع المعارضين وحججهم ، إذ كانوا يقولون: لماذا لم ينزل القرآن دفعة واحدة على الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولماذا كان نزوله تدريجيا؟ كما تشير إلى ذلك الآية (32) من سورة الفرقان التي تقول :( وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً ، كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلاً ) فيقول الله في جواب هؤلاء:( وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ ) (1) حتى يدخل القلوب والأفكار ويترجم عمليا بشكل كامل.

ومن أجل التأكيد أكثر تبيّن الآية ـ بشكل قاطع ـ أنّ جميع هذا القرآن أنزلناه نحن:( وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلاً ) .

إنّ القرآن كتاب السماء إلى الأرض ، وهو أساس الإسلام ودليل لجميع البشر ، والقاعدة المتينة لجميع الشرائع القانونية والاجتماعية والسياسية والعبادية لدنيا المسلمين ، لذلك فإنّ شبهة هؤلاء في عدم نزوله دفعة واحدة على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يجاب عليها من خلال النقاط الآتية :

أوّلا : بالرغم من أنّ القرآن هو كتاب ، إلّا أنّه ليس ككتب الإنسان المؤلّفة حيث يجلس المؤلّف ويفكّر ويكتب موضوعا ، ثمّ ينظّم فصول الكتاب وأبوابه لينتهي من تحرير الكتاب ، بل القرآن له ارتباط دقيق بعصره ، أي ارتباط ب (23) سنة ، هي عصر نبوة نبي الإسلام بكل ما كانت تتمخض به من حوادث وقضايا.

__________________

(1) مجيء كلمة (قرآن) منصوبة في الآية أعلاه يفسّره المفسّرين بأنّه مفعول لفعل مقدّر تقديره (فرقناه) ، وبذلك تصبح الجملة هكذا : (وفرقناه قرآنا).

١٧٠

لذا كيف يمكن لكتاب يتحدث عن حوادث (23) سنة متزامنا لها أن ينزل في يوم واحد؟

هل يمكن جمع حوادث (23) سنة نفسها في يوم واحد ، حتى ينزل القرآن في يوم واحد؟

إنّ في القرآن آيات تتعلق بالغزوات الإسلامية ، وآيات تختص بالمنافقين ، وأخرى ترتبط بالوفود التي كانت تفد على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . فهل يمكن أن يكتب مجموع كل ذلك منذ اليوم الأوّل؟

ثانيا : ليس القرآن كتابا ذا طابع تعليمي وحسب ، بل ينبغي لكل آية فيه أن تنفّذ بعد نزولها ، فإذا كان القرآن قد نزل مرّة واحدة ، فينبغي أن يتمّ العمل به مرّة واحدة أيضا ، ونعلم بأنّ هذا محال ، لأنّ إصلاح مجتمع مليء بالفساد لا يتمّ في يوم واحد ، إذ لا يمكن إرسال الطفل الأمي دفعة واحدة من الصف الأوّل إلى الصفوف المتقدمة في الجامعة في يوم واحد. لهذا السبب نزل القرآن نجوما ـ أي بشكل تدريجي ـ كي ينفذ بشكل جيّد ويستوعبه الجميع وكي يكون للمجتمع قابلية قبوله واستيعابه وتمثله عمليا.

ثالثا : بدون شك ، إنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كقائد هذه النهضة العظيمة سيكون ذا قدرات وإمكانيات أكبر عند ما يقوم بتطبيق القرآن جزءا جزءا ، بدلا من تنفيذه دفعة واحدة. صحيح أنّه مرسل من الخالق وذو عقل واستعداد كبيرين ليس لهما مثيل ، إلّا أنّه برغم ذلك فإنّ تقبّل الناس للقرآن وتنفيذ تعاليمه بصورة تدريجية سيكون أكمل وأفضل ممّا لو نزل دفعة واحدة.

رابعا : النّزول التدريجي يعني الارتباط الدائمي للرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مع مصدر الوحي ، إلّا أنّ النّزول الدفعي يتمّ بمرحلة واحدة لا يتسنى للرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الارتباط بمصدر الوحي لأكثر من مرّة واحدة.

آخر الآية (32) من سورة الفرقان تقول :( كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَرَتَّلْناهُ

١٧١

تَرْتِيلاً ) وهي إشارة إلى السبب الثّالث ، بينما الآية التي نبحثها تشير إلى السبب الثّاني من مجموع الأسباب الأربعة التي أوردناها. ولكن الحصيلة أنّ مجموع هذه العوامل تكشف بشكل حي وواضح أسباب وثمار النّزول التدريجي للقرآن.

الآية التي تليها استهدفت غرور المعارضين الجهلة حيث تقول :( قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً ) .

* * *

ملاحظات

في هذه الآية ينبغي الالتفات إلى الملاحظات الآتية :

أوّلا : يعتقد المفسّرون أنّ جملة( آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا ) يتبعها جملة محذوفة قدّروها بأوجه متعدّدة ، إذ قال بعضهم : إن المعنى هو : سواء آمنتم أم لم تؤمنوا فلا يضر ذلك بإعجاز القرآن ونسبته إلى الخالق.

بينما قال البعض : إنّ التقدير يكون : سواء آمنتم به أو لم تؤمنوا فإنّ نفع ذلك وضرره سيقع عليكم.

لكن يحتمل أن تكون الجملة التي بعدها مكمّلة لها ، وهي كناية عن أنّ عدم الإيمان هو سبب عدم العلم والمعرفة ، فلو كنتم تعلمون لآمنتم به. وبعبارة أخرى : يكون المعنى : إذا لم تؤمنوا به فإنّ الأفراد الواعين وذوي العلم يؤمنون به.

ثانيا : إنّ المقصود من( الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ ) هم مجموعة من علماء اليهود والنصارى من الذين آمنوا بعد أن سمعوا آيات القرآن ، وشاهدوا العلائم التي قرءوها في التوراة والإنجيل ، والتحقوا بصف المؤمنين الحقيقيين ، وأصبحوا من علماء الإسلام.

وفي آيات أخرى من القرآن تمت الإشارة إلى هذا الموضوع ، كما في قوله

١٧٢

تعالى في الآية (113) من سورة آل عمران :( لَيْسُوا سَواءً مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ يَتْلُونَ آياتِ اللهِ آناءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ ) .

ثالثا : «يخرّون» بمعنى يسقطون على الأرض بدون إرادتهم ، واستخدام هذه الكلمة بدلا من السجود ينطوي على إشارة لطيفة ، هي أنّ الواعين وذوي القلوب اليقظة عند ما يسمعون آيات القرآن وكلام الخالقعزوجل ينجذبون إليه ويولهون به الى درجة أنّهم يسقطون على الأرض ويسجدون خشية بدون وعي واختيار(1) .

رابعا : (أذقان) جمع (ذقن) ومن المعلوم أن ذقن الإنسان عند السجود لا يلمس الأرض ، إلّا أن تعبير الآية إشارة إلى أنّ هؤلاء يضعون كامل وجههم على الأرض قبال خالقهم حتى أنّ ذقنهم قد يلمس الأرض عند السجود.

بعض المفسّرين احتمل أنّ الإنسان عند سجوده يضع أوّلا جبهته على الأرض ، ولكن الشخص المدهوش عند ما يسقط على الأرض يضع ذقنه أولا ، فيكون استخدام هذا التعبير في الآية تأكيدا لمعنى (يخرون)(2) .

الاية التي بعدها توضح قولهم عند ما يسجدون :( وَيَقُولُونَ سُبْحانَ رَبِّنا إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولاً ) (3) . هؤلاء يعبرون بهذا الكلام عن عمق إيمانهم واعتقادهم بالله وبصفاته وبوعده. فهذا الكلام يشمل الإيمان بالتوحيد والصفات الحقة والإيمان بنبوة الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبالمعاد. والكلام على هذا الأساس يجمع أصول الدين في جملة واحدة.

وللتأكيد ـ أكثر ـ على تأثّر هؤلاء بآيات ربّهم ، وعلى سجدة الحب التي

__________________

(1) يقول الراغب في (المفردات) : «يخرون» من مادة «خرير» ويقال لصوت الماء والريح وغير ذلك ممّا يسقط من علّو. وقوله تعالى :( خَرُّوا لَهُ سُجَّداً ) تنبيه على اجتماع أمرين : السقوط وحصول الصوت منهم بالتسبيح ، والتنبيه أنّ ذلك الخرير كان صوت تسبيحهم بحمد الله لا بشيء آخر. ودليله قوله تعالى فيما بعد:( وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ ) .

(2) تفسير المعاني ، ج 15 ، ص 175.

(3) (إنّ) في قوله :( إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا ) غير شرطية ، بل هي تأكيدية ، وهي مخففة من الثقيلة.

١٧٣

يسجدونها تقول الآية التي بعدها :( وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً ) .

إنّ تكرار جملة( يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ ) دليل على التأكيد ، وعلى الاستمرار أيضا.

الفعل المضارع (يبكون) دليل على استمرار البكاء بسبب حبّهم وعشقهم لخالقهم.

واستخدام الفعل المضارع في جملة( يَزِيدُهُمْ خُشُوعاً ) دليل على أنّهم لا يتوقفون أبدا على حالة واحدة ، بل يتوجهون باستمرار نحو ذروة التكامل ، وخشوعهم دائما في زيادة (الخشوع هو حالة من التواضع والأدب الجسدي والروحي للإنسان في مقابل شخصية معينة أو حقيقة معينة).

* * *

بحثان :

1 ـ التخطيط للتربية والتعلم

من الدروس المهمّة التي نستفيدها من الآيات أعلاه ، هو ضرورة التخطيط لأي ثورة أو نهضة ثقافية أو فكرية أو اجتماعية أو تربوية ، فإذا لم يتمّ تنظيم مثل هذا البرنامج فالفشل سيكون النتيجة الحتمية لمثل هذه الجهود. إنّ القرآن الكريم لم ينزل على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مرّة واحدة بالرغم من أنّه كان موجودا في مخزون علم الله كاملا ، وقد تمّ عرضه في ليلة القدر على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دفعة واحدة ، إلّا أنّ النّزول التدريجي استمرّ طوال (23) سنة ، وضمن مراحل زمنية مختلفة وفي إطار برنامج عملي دقيق.

وعند ما يقوم الخالق جلّ وعلا بهذا العمل بالرغم من عمله وقدرته المطلقة وغير المتناهية عند ذلك سيتّضح دورنا وتكليفنا نحن إزاء هذا المبدأ. وعادة ما يكون هذا قانونا وتكليفا إلهيا ، حيث أنّ وجوده العيني لا يختص بعالم التشريع

١٧٤

وحسب ، بل في عالم التكوين أيضا. إنّه من غير المتوقع أن تنصلح أمور مجتمع في مرحلة البناء خلال ليلة واحدة لأنّ البناء الحضاري الفكري والثقافي والاقتصادي والسياسي يحتاج إلى المزيد من الوقت.

وهذا الكلام يعني أنّنا إذا لم نصل إلى النتيجة المطلوبة في وقت قصير فعلينا أن لا نيأس ونترك بذل الجهد أو المثابرة. وينبغي أن نلتفت إلى أنّ الانتصارات النهائية والكاملة تكون عادة لأصحاب النفس الطويل.

2 ـ علاقة العلم بالإيمان

الموضوع الآخر الذي يمكن أن نستفيده من الآيات أعلاه هو علاقة العلم بالإيمان، إذ تقول الآيات : إنّكم سواء آمنتم بالله أو لم تؤمنوا فإنّ العلماء سيؤمنون بالله إلى درجة أنّهم يعشقون الخالق ويسقطون أرضا ساجدين من شدّة الوله والحبّ ، وتجري الدّموع من أعينهم، وإنّ هذا الخشوع والتأدّب يتصف بالاستمرار في كل عصر وزمان.

إنّ الجهلة ـ فقط ـ هم الذين لا يعيرون أهمية للحقائق ويواجهونها بالاستهزاء والسخرية ، وإذا أثّر فيهم الإيمان في بعض الأحيان فإنّه سيكون تأثيرا ضعيفا خاليا من الحبّ والحرارة.

إضافة إلى ذلك ، فإنّ في الآية ما يؤكّد خطأ وخطل النظرية التي تربط بين الدين والجهل أو الخوف من المجهول. أمّا القرآن فإنّه يؤكّد على عكس ذلك تماما ، إذ يقول في مواقع متعدّدة : إنّ العلم والإيمان توأمان ، إذ لا يمكن أن يكون هناك إيمان عميق ثابت من دون علم ، والعلم في مراحلة المتقدمة يحتاج إلى الإيمان. (فدقق في ذلك).

* * *

١٧٥

الآيتان

( قُلِ ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً (110) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً (111) )

سبب النّزول

وردت آراء متعدّدة في سبب نزول هاتين الآيتين منها ما نقله صاحب مجمع البيان عن ابن عباس الذي قال : كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ساجدا ذات ليلة بمكّة يدعو : يا رحمن يا رحيم ، فقال المشركون متهمين رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّه يدعونا إلى إله واحد ، بينما يدعو هو مثنى مثنى. يقصدون بذلك قول رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يا رحمن يا رحيم. فنزلت الآية الكريمة أعلاه(1) .

__________________

(1) يراجع مجمع البيان أثناء تفسير الآية.

١٧٦

التّفسير

آخر الذرائع والأغذار

بعد سلسلة من الذرائع التي تشبث بها المشركون امام دعوة الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، نصل مع الآيات التي بين أيدينا إلى آخر ذريعة لهم ، وهي قولهم : لماذا يذكر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الخالق بأسماء متعدّدة بالرغم من أنّه يدّعي التوحيد. القرآن ردّ على هؤلاء بقوله :( قُلِ ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى ) . إنّ هؤلاء عميان البصيرة والقلب ، غافلون عن أحداث ووقائع حياتهم اليومية حيث كانوا يذكرون أسماء مختلفة لشخص واحد أو لمكان واحد ، وكل اسم من هذه الأسماء كان يعرّف بشطر أو بصفة من صفات ذلك الشخص أو المكان.

بعد ذلك ، هل من العجيب أن تكون للخالق أسماء متعدّدة تتناسب مع أفعاله وكمالاته وهو المطلق في وجوده وفي صفاته والمنبع لكل صفات الكمال وجميع النعم ، وهو وحدهعزوجل الذي يدير دفة هذا العالم والوجود؟

أساسا ، فانّ الله تعالى لا يمكن معرفته ومناجاته باسم واحد إذ ينبغي أن تكون أسماؤه مثل صفاته غير محدودة حتى تعبّر عن ذاته ، ولكن لمحدودية ألفاظنا ـ كما هي أشياؤنا الأخرى أيضا ـ لا نستطيع سوى ذكر أسماء محدودة له ، وإنّ معرفتنا مهما بلغت فهي محدودة أيضا ، حتى أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو من هو في منزلته وروحه وعلو شأنه ، نراه يقول : «ما عرفناك حق معرفتك».

إنّ الله تعالى في قضية معرفتنا إيّاه لم يتركنا في أفق عقولنا ودرايتنا الخاصّة ، بل ساعدنا كثيرا في معرفة ذاته ، وذكر نفسه بأسماء متعدّدة في كتابه العظيم ، ومن خلال كلمات أوليائه تصل أسماؤه ـ تقدس وتعالى ـ إلى ألف اسم.

وطبيعي أنّ كل هذه أسماء الله ، وأحد معاني الأسماء العلّامة ، لذا فإنّ هذه علامات على ذاته الطاهرة ، وجميع هذه الخطوط والعلامات تنتهي إلى نقطة

١٧٧

واحدة ، وهي لا تقلّل من شأن توحيد الذات والصفات.

وهناك قسم من هذه الأسماء ذو أهمية وعظمة أكثر ، حيث تعطينا معرفة ووعيا أعظم، تسمى في القرآن الكريم وفي الرّوايات الإسلامية ، بالأسماء الحسنى ، وهناك رواية معروفة عن رسول الهدىصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما مضمونها : «إن الله تسعا وتسعين اسما ، من أحصاها دخل الجنّة».

وهناك شرح مفصل للأسماء الحسنى ، والأسماء التسعة والتسعين بالذات ، أوردناه في نهاية الحديث عن الآية (180) من سورة الأعراف ، في قوله تعالى :( وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها ) .

لكن علينا أن نفهم أنّ الغرض من عد الأسماء الحسنى ليس ذكرها على اللسان وحسب ، حتى يصبح الإنسان من أهل الجنّة ومستجاب الدعوة ، بل إنّ الهدف هو التخلّق بهذه الأسماء وتطبيق شذرات من هذه الأسماء ، مثل (العالم ، والرحمن ، والرحيم ، والجواد،والكريم) في وجودنا حتى نصبح من أهل الجنّة ومستجابي الدعوة.

وهناك كلام ينقله الشيخ الصدوقرحمه‌الله في كتاب التوحيد عن هشام بن الحكم جاء فيه :

يقول هشام بن الحكم : سألت أبا عبد الله الصادقعليه‌السلام عن أسماء الله عزّ ذكره واشتقاقها فقلت : الله ممّا هو مشتق؟

قالعليه‌السلام : «يا هشام ، الله مشتق من إله ، وإله يقتضي مألوها ، والاسم غير المسمّى ، فمن عبد الاسم دون المعنى فقد كفر ولم يعبد شيئا ، ومن عبد الاسم والمعنى فقد أشرك وعبد الاثنين ، ومن عبد المعنى دون الاسم فذاك التوحيد.

أفهمت يا هشام؟».

قال هشام : قلت : زدني.

قالعليه‌السلام : «للهعزوجل تسعة وتسعون اسما ، فلو كان الاسم هو المسمى لكان

١٧٨

كلّ اسم منها هو إلها ، ولكن اللهعزوجل معنى يدلّ عليه بهذه الأسماء وكلّها غيره.

يا هشام ، الخبز اسم للمأكول ، والماء اسم للمشروب ، والثوب اسم للملبوس ، والنار اسم للمحرق»(1) .

والآن لنعد إلى الآيات. ففي نهاية الآية التي نبحثها نرى المشركين يتحدّثون عن صلاة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويقولون : إنّه يؤذينا بصوته المرتفع في صلاته وعبادته ، فما هذه العبادة؟ فجاءت التعليمات لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عبر قوله تعالى :( وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً ) .

لذلك فإنّ الآية أعلاه لا علاقة لها بالصلوات الجهرية والإخفاتية في اصطلاح الفقهاء، بل إنّ المقصود منها يتعلق بالإفراط والتفريط في الجهر والإخفات ، فهي تقول : لا تقرأ بصوت مرتفع بحيث يشبه الصراخ ، ولا أقل من الحد الطبيعي بحيث تكون حركة شفاه وحسب ولا صوت فيها.

أسباب النّزول الواردة ـ حول الآية ـ التي يرويها الكثير من المفسّرين نقلا عن ابن عباس تؤيّد هذا المعنى.(2)

وهناك آيات عديدة من طرق أهل البيت نقلا عن الإمام الباقر والصادقعليهما‌السلام وتؤيد هذا المعنى وتشير إليه(3) .

لذا فإنا نستبعد التفاسير الأخرى الواردة حول الآية.

أمّا ما هو حد الاعتدال ، وما هو الجهر والإخفات المنهي عنهما؟ الظاهر أنّ الجهر هو بمعنى (الصراخ) ، و (الإخفات) هو من السكون بحيث لا يسمعه حتى فاعله.

وفي تفسير علي بن إبراهيم عن الإمام الصادقعليه‌السلام أنّه قال في تفسير الآية :

__________________

(1) توحيد الصدوق نقلا عن تفسير الميزان أثناء تفسير الآية.

(2) ـ يمكن مراجعة نور الثقلين ، ج 3 ، ص 233 فما بعد.

١٧٩

«الجهر بها رفع الصوت ، والتخافت بها ما لم تسع نفسك ، واقرأ بين ذلك»(1) .

أمّا الإخفات والجهر في الصلوات اليومية ، فهو ـ كما أشرنا لذلك ـ له حكم آخر، أو مفهوم آخر ، أي له أدلة منفصلة ، حيث ذكرها فقهاؤنا رضوان الله عليهم في (كتاب الصلاة) وبحثوا عنها.

* * *

ملاحظة

هذا الحكم الإسلامي في الدعوة إلى الاعتدال بين الجهر والإخفات يعطينا فهما وإدراكا من جهتين :

الأولى : لا تؤدوا العبادات بشكل تكون فيه ذريعة بيد الأعداء ، فيقومون بالاستهزاء والتحجج ضدكم ، إذ الأفضل أن تكون مقرونة بالوقار والهدوء والأدب ، كي تعكس بذلك نموذجا لعظمة الأدب الإسلامي ومنهج العبادة في الإسلام.

فالذين يقومون في أوقات استراحة الناس بإلقاء المحاضرات الدينية بواسطة مكبرات الصوت ، ويعتقدون أنّهم بذلك يوصلون صوتهم إلى الآخرين ، هم على خطأ ، وعملهم هذا لا يعكس أدب الإسلام في العبادات ، وستكون النتيجة عكسية على قضية التبليغ الديني.

الثّانية : يجب أن يكون هذ التوجيه مبدأ لنا في جميع أعمالنا وبرامجنا الاجتماعية والسياسية والاقتصادية ، وتكون جميع هذه الأمور بعيدة عن الإفراط والتفريط ، إذ الأساس هو :( وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً ) .

أخيرا نصل إلى الآية الأخيرة من سورة الإسراء ، هذه الآية تنهي السورة المباركة بحمد الله ، كما افتتحت بتسبيحه وتنزيه ذاتهعزوجل . إنّ هذه الآية ـ في

__________________

(1) نور الثقلين ، ج 3 ، ص 234.

١٨٠

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576