الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٩

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل10%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 576

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 576 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 264409 / تحميل: 11789
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٩

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

بحوث

١ ـ جواب الرّسول للمتذرعين

لقد تبيّن من خلال الآيات أعلاه والحديث الوارد في أسباب النّزول ، أنّ طلبات المشركين العجيبة والغريبة لم تكن تنع من روح نشدان الحقيقة ، بل كان هدفهم البقاء على الشرك وعبادة الأصنام لأنّه كان يمثل الدعامة الأساسية والقوّة المادية لزعماء مكّة ، وكذلك منع النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الاستمرار في طريق الدعوة الى التوحيد بأي صورة ممكنة.

إلّا أنّ الرّسول الهاديصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أجابهم بجوابين منطقيين وفي جملة واحدة وقصيرة :

الجواب الأوّل : إنّ الخالق جلّ وعلا منزّه عن هذه الأمور ، منزّه التأثّر بهذا وذاك ، ومنزّه من أن يستسلم للاقتراحات الباطلة والواهية لأصحاب العقول السخيفة :( سُبْحانَ رَبِّي ) .

الجواب الثّاني : بغض النظر عمّا مضى فإنّ الإتيان بالمعجزات ليس من عملي ، فأنا بشر مثلكم ، إلّا أنّني رسول الله ، والقيام بالمعاجز من عمل الخالق وبإرادته تتمّ ، وبأمره تنجز ، فأنا لا أستطيع أن أطلب مثل هذه الأمور من الخالق ولا يحق لي أن أتدخل في مثل الأمور ، فمتى شاء سبحانه فسيبعث بالمعجزات الإثبات صدق دعوة رسوله :( هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولاً ) .

صحيح أنّ هناك ترابط بين هذين الجوابين ، إلّا أنّهما يعتبران جوابين منفصلين ، فأحدهما يثبت ضعف البشر في مقابل هذه الأمور ، والثّاني تنزيه ربّ البشر عن القبول بهذه المعجزات المقترحة.

وعادة فإنّ الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليس إنسانا استثنائيا يجلس في مكان معين ، ويأتي الأشخاص يقترحون عليه المعجزات كيفما يشاءون ، ويتلاعبون بقوانين وسنن الخلق والوجود، وإذا لم تعجبهم معجزة معينة يطلبون غيرها وهكذا.

١٤١

إنّ مسئولية الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هي إثبات ارتباطه بالخالق عن طريق المعجزة ، وعند ما يأتي بالقدر الكافي من المعاجز ، فليست عليه أية مسئولية أخرى.

إنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد لا يعرف بزمان نزول المعجزات ، وقد يطلب المعجزة من ربّه عند ما يعلم بأنّ الإتيان بها يرضي الله تعالى.

٢ ـ الأفكار المحدودة والطلبات غير المعقولة

كل إنسان يتكلم بحدود فكره ، ولهذا السبب فإنّ حديث أي شخص هو دليل على مقدار عمق أفكاره.

الأفراد الذي لا يفكرون إلا بالمال والجاه يتصورون أنّ كل من يتحدث عن شيء إنّما يقصد هذا المجال.

لهذا السبب كان مشركو مكّة يقترحون ـ بسبب قصور تفكيرهم ـ على رسول الله اقتراحات تتصل بالمال وقضاياه ، يطلبون منه أن يترك دعوته مقابل المال ، إنّهم يقيسون الروح الواسعة لرسول الهدىصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بضيق أفكارهم.

إنّ هؤلاء كانوا يعتقدون بأنّ من لا يجاهد في سبيل المال أو المقام مجنون حتما ، ومثلهم كمثل المسجون في غرفة صغيرة لا يرى السماء الواسعة والشمس العظيمة والجبال الشامخة والبحار الواسعة ولا يحس بعظمة عالم الوجود. لقد أرادوا مقايسة الروح السمحة العظيمة لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بمقاييسهم.

إضافة لذلك ، لنر ما هي الأشياء التي أرادوها من الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولم تكن موجودة في الإسلام ، لقد أرادوا الأراضي المزروعة والعيون المتفجّرة ، وبساتين النخيل والأعناب ، والبيوت المزخرفة. ونحن نعلم أنّ الإسلام قد فتح أبواب التقدّم والتكنولوجيا بحيث يمكن في ظل التقدم الاقتصادي تحقيق الكثير من هذه الأمور ، بل ونلاحظ بأنّ المسلمين في ظل البرامج القرآنية وصلوا إلى تحقيق تقدّم أكثر ممّا كان يدور في عقول المشركين ذوي الأفق الضيق.

١٤٢

فهؤلاء لو كانوا ينظرون بعين الحقيقة لكانوا قد شاهدوا هذا التطوّر المعنوي العظيم في هذا الدين ، وكذلك الانتصارات المادية المنظورة حيث يضمن القرآن سعادة الإنسان في المجالين الدنيوي والأخروي.

بالإضافة إلى ذلك ، فإنّ اقتراحاتهم السفيهة الأخرى تدل على مدى التكبّر والغرور والجهل المسيطر على عقولهم كقولهم : أو تسقط السماء علينا

وقولهم : أن تضع سلما وتصعد الى السماء.

وقولهم : أن تحضر أمّامنا الله والملائكة!! حتى أنّهم لم يطلبوا منه أن يأخذهم الى الله تعالى فما اشدّ هذا الجهل والغرور والتكبر!!

٣ ـ ذريعة أخرى لنفي الإعجاز

بالرغم من وضوح الآيات أعلاه ، وأنّها غير معقّدة ، وأنّ طلبات المشركين من رسولاللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واضحة ، وكذلك سبب تعامل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم السلبي مع هؤلاء معلوم أيضا ، إلّا أنّ الآيات أصبحت ذريعة بيد بعض المتذرعين في عصرنا الذين يصرّون على نفي أي معجزة لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

وهؤلاء يعتبرون هذه الآيات من أوضح الأدلة على نفي الإعجاز عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حيث طلب المشركون منهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يأتي ستة أنواع من المعاجز سواء من الأرض أو السماء وسواء كانت مفيدة لهم أو قاضية بموتهم ، إلّا أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يستطيع تنفيذ أيّ منها ، جوابه الوحيد لهم كان( سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولاً ) .

نحن نقول : إذا لم يكن متذرعو اليوم كأسلافهم ، فإنّ ما ورد في الآيات يكفيهم جوابا على ما أوردوا ، إذ ينبغي أن نلاحظ ما يلي :

١ ـ البعض من الطلبات الهزيلة ، كمثل طلبهم إحضار الخالق جلّ وعلا والملائكة ، أو المجيء برسالة من السماء فيها أسماؤهم وعناوينهم! البعض

١٤٣

الآخر مما طلبوا ، فيها أجابهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إليه ، سوف لن يبقى أثر لهم ، وبالتالي لن تكون قضية المعجزة ذات أثر في إيمانهم أو عدمه ، مثل قولهم أن يسقط عليهم كسفا من السماء ، أي أن تنزل عليهم صخور من السماء.

أمّا بقية الطالبات المقترحة فتشمل الحصول على المزيد من وسائل الحياة المرفّهة والأموال والثروات الكبيرة ، في حين أنّ الأنبياء لم يأتوا لتحقيق هذه الأمور.

وإذا افترضنا خلو ما اقترحه المشركون من المآخذ ، فإنّنا نعلم ـ كما تخبر بذلك الآيات ـ أنّ ما طلبوه كان من نمط التحجّج والتذرّع أمام دعوة الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليس من مسئولية رسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يجيبهم إلى ذرائعهم وتحججاتهم هذه ، بل إنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقدّم المعجزة بمقدار ما يثبت صدق دعوته ، ولا شيء أكثر من ذلك.

٢ ـ بعض تعابير هذه الآيات توضح بنفسها ـ بصراحة شديدة ـ مدى عناد وتذرّع هؤلاء بمثل هذه الطلبات ، فمثلا هم يقترحون على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الصعود الى السماء ، ولكنّهم يقولون له ، بأنّنا لا نصدّق صعودك إن لم تأتنا برسالة من السماء.

إذا كان هؤلاء طلّاب معجزة ـ فقط ـ فلما ذا لا يكفيهم صعود الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم السماء ، ثمّ هل هناك دليل أوضح من هذا على عدم واقعية هؤلاء القوم وعدم منطقية عروضاتهم؟

٣ ـ إضافة إلى كلّ ما مر ، فإنّنا نعلم أنّ المعجزة من عمل الخالق جلّ وعلا وليست من عمل الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، في حين يظهر واضحا من كلامهم أنّهم كانوا يعتبرون المعجزة من فعلهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لذا كانوا ينسبون جميع الأعمال إليه مثل قولهم :( تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً ، أَوْ تَأْتِيَ بِاللهِ وَالْمَلائِكَةِ ) وما إلى ذلك من طلبات.

الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يعتقد بأنّ عليه أن يزيل هذه الأوهام من عقولهم ، ويثبت

١٤٤

لهم بأنّه ليس هو الله ولا هو شريكه ، والمعجزة من الله دون سواه ، فأنا بشر مثلكم ، والفارق أنّ الوحي ينزل عليّ ، وبمقدار ما يلزم الأمر فإنّ الله ينزل المعاجز على يدي ، ولا أستطيع أن أفعل أكثر من هذا ، وقوله( سُبْحانَ رَبِّي ) شاهد على هذا المعنى ، إذا أنّ الخالق منزّه عن أي شريك وشبيه.

وبالرغم من أنّ القرآن ذكر معاجز متعدّدة لعيسىعليه‌السلام مثل إحياء الموتى وشفاء المرضى وغير ذلك ، إلّا أنّ هذه المعجزات جميعا كانت ملحقة بكلمة «بإذني» أو «بإذن الله» أي إنّها تتم ـ فقط ـ بإذن الخالق ، وأجريت على يد المسيحعليه‌السلام (١) .

٤ ـ أيّ إنسان يصدّق بأنّ إنسانا يدّعي النّبوة ، بل يعتبر نفسه خاتم النّبيين ، ويذكر في كتابه المعاجز الكثيرة للأنبياء السابقين ، إلّا أنّه نفسه لا يستطيع أن يأتي بمعجزة؟!

ثمّ إنّ الناس على هذا الفرض ، ألا يعترضون على مثل هذا النّبي ويقولون له : كيف تكون نبيّا في حين أنّك تعجز عن القيام بمعاجز مثل معاجز الأنبياء الآخرين فإن كنت تدّعي أنّك أفضل منهم جميعا وخاتمهم ، فكيف إذن تستقيم الدعوة مع عدم الإتيان بالمعجزات؟

إنّ هذا الواقع ـ بحدّ ذاته ـ دليل على أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد جاء ـ عند الضرورة واللزوم ـ بالمعجزات ، ومن هنا يتّضح أن عدم استسلام رسول الهدىصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لطلبات المشركين الآنفة إنّما يعود لعلمهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعدم جدواها في إثبات ما يلزم من نبوته ، وأنّها انطلقت ـ فقط ـ على سبيل التحجج والتذرّع من قبل عتاة قريش وكبرائها ، لذلك أهملصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هذا الكلام ولم يستجب لاقتراحاتهم غير المنطقية وغير المعقولة.

* * *

__________________

(١) يمكن في هذا الصدد مراجعة الآيات (١١٠) من سورة المائدة ، و (٤٩) من سورة آل عمران.

١٤٥

الآيتان

( وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى إِلاَّ أَنْ قالُوا أَبَعَثَ اللهُ بَشَراً رَسُولاً (٩٤) قُلْ لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولاً (٩٥) )

التّفسير

ذريعة عامّة :

الآيات السابقة تحدّثت عن تذرّع المشركين ـ أو قسم منهم ـ في قضية التوحيد ، أمّا الآيات التي نبحثها فإنّها تشير إلى ذريعة عامّة في مقابل دعوة الأنبياء ، حيث تقول :( وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى إِلَّا أَنْ قالُوا أَبَعَثَ اللهُ بَشَراً رَسُولاً ) .

هل يمكن التصديق بأنّ هذه المهمّة والمنزلة الرفيعة تقع على عاتق الإنسان ثمّ والكلام للمشركين ـ ألم يكن الأولى والأجدر أن تقع هذه المهمّة ـ وهذه المسؤولية ـ على عاتق مخلوق أفضل كالملائكة ـ مثلا ـ كي يستطيعوا أداء هذه المهمّة بجدارة إذ أين الإنسان الترابي والرسالة الإلهية؟!

إنّ هذا المنطق الواهي الذي تحكيه الآية على لسان المشركين لا يخص

١٤٦

مجموعة أو مجموعتين من الناس ، بل إنّ أكثر الناس وفي امتداد تأريخ النّبوات قد تذرّعوا به في مقابل الأنبياء والرّسل.

قوم نوحعليه‌السلام ـ مثلا ـ كانوا يعارضون نبيّهم بمثل هذا المنطق ويصّرحون :( ما هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ ) كما حكت ذلك الآية (٢٤) من سورة المؤمنون.

أمّا قوم هود فقد كانوا يواجهون نبيّهم بالقول :( ما هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ ) كما ورد في الآية (٣٣) من سورة المؤمنون. ثمّ أضافت الآية (٣٤) من نفس السورة قولهم :( وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ ) .

نفس هذه الذريعة تمسّك بها المشركون ضد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأمام دعوة الإسلام التي جاء بها ، إذ قالوا :( ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ لَوْ لا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً ) (١) .

القرآن الكريم أجاب هؤلاء جميعا في جملة قصيرة واحدة مليئة بالمعاني والدلالات ، قال تعالى :( قُلْ لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولاً ) .

يعني أنّ القائد يجب أن يكون من سنخ من بعث إليه ، ومن جنس أتباعه ، فالإنسان لجماعة البشر ، والملك لجماعة الملائكة.

ودليل هذا التجانس والتطابق بين القائد وأتباعه واضح ؛ فمن جانب يعتبر التبليغ العملي أهم وظيفة في عمل القائد من خلال كونه قدوة وأسوة ، وهذا لا يتمّ إلّا أن يكون القائد من جنسهم ، يمتلك نفس الغرائز والأحاسيس ، ونفس مكونات البناء الجسمي والروحي الذي يملكه كل فرد من أفراد جماعته ، فلو كان الرّسول إلى البشر من جنس الملائكة الذين لا يملكون الشهوة ولا يحتاجون إلى الطعام والمسكن والملبس ، فلا يستطيع أن يتمثل معنى الأسوة والقدوة لمن

__________________

(١) الفرقان ، ٧.

١٤٧

بعث إليهم ، بل إنّ الناس سوف يقولون : إنّ هذا النّبي المرسل لا يعرف ما في قلوبنا وضمائرنا ، ولا يدرك ما تنطوي عليه أرواحنا من عوامل الشهوة والغضب وما إلى ذلك ، إنّ مثل هذا الرّسول سوف يتحدث إلى نفسه فقط ، إذ لو كان مثلنا يملك نفس أحاسيسنا ومشاعرنا لكان مثل حالنا أو أسوأ ، لذا لا اعتبار لكلامه.

أمّا عند ما يكون القائد مثل أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام الذي يقول: «إنّما هي نفسي أروضها بالتقوى لتأتي أمنة يوم الخوف الأكبر»(١) . فإنّ مثله يصلح أن يكون الأسوة والقدوة لمن يقودهم.

من جانب آخر ينبغي للقائد أن يدرك جميع احتياجات ومشاكل أتباعه كي يكون قادرا على علاجهم ، والإجابة على أسئلتهم ، لهذا السبب نرى أنّ الأنبياء برزوا من بين عامّة الناس ، وعانوا في حياتهم كما يعاني الناس ، وذاقوا جميع مرارات الحياة ، ولمسوا الحقائق المؤلمة بأنفسهم وهيأوا أنفسهم لمعالجتها ومصابرة مشكلات الحياة.

* * *

ملاحظات

١ ـ قوله تعالى :( وَما مَنَعَ النَّاسَ ) يعني إن سبب عدم إيمانهم هو هذا التذرّع، إلّا أنّ هذا التعبير ليس دليلا على الحصر ، بل هو للتأكيد وبيان أهمية الموضوع.

٢ ـ عبارة :( مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ ) موضع اختلاف في أقوال وآراء المفسّرين ، فالبعض يعتبرها إشارة إلى قول عرب الجاهلية الذين كانوا يقولون بأنّنا كنّا نعيش في هذه الجزيرة حياة هادئة ، وقد جاء محمّد ليجلب الفوضى والقلق ، إلّا أنّهم جوبهوا بقول القرآن لهم بأنّه حتى لو كانت الملائكة تسكن

__________________

(١) نهج البلاغة ، الرسالة رقم ٤٥.

١٤٨

الأرض وكانوا يعيشون حياة هادئة ـ كما تدّعون ـ فإنّنا كنّا سنرسل لهم رسولا من جنسهم وصنفهم.

البعض الآخر من المفسّرين فسّرها بأنّها «اطمئنان إلى الدنيا ولذاتها والابتعاد عن أي مذهب ودين».

وأخيرا فسّرها بعضهم بمعنى (السكن والتوطّن) في الأرض.

لكن الاحتمال الأقوى هو أن يكون هدف الآية : لو كانت الملائكة ساكنة في الأرض ، وكانوا يعيشون حياة هادئة وخالية من الصراع والنزاع ، فرغم ذلك كانوا سيشعرون بالحاجة إلى قائد من جنسهم ، حيث أنّ الهدف من إرسال الأنبياء وبعثهم ليس لإنهاء الصراع والنزاع وإيجاد أسباب الحياة المادية الهادئة وحسب ، بل إنّ هذه الأمور هي مقدمة لطي سبيل التكامل والتربية في المجالات المعنوية والإنسانية ، ومثل هذا الهدف يحتاج إلى قائد إلهي.

٣ ـ يستفيد العلّامة الطباطبائي في تفسير الميزان من كلمة «أرض» في الآية أعلاه، أنّ طبيعة الحياة المادية على الأرض تحتاج إلى نبي ، وبدونه لا يمكن الحياة.

إضافة الى ذلك فإنّه يرى أنّ هذه الكلمة إشارة لطيفة إلى جاذبية الأرض حيث أنّ التحرّك بهدوء واطمئنان بدون وجود الجاذبية يعتبر أمرا محالا.

* * *

١٤٩

الآيتان

( قُلْ كَفى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (٩٦) وَمَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّما خَبَتْ زِدْناهُمْ سَعِيراً (٩٧) )

التّفسير

المهتدون الحقيقيون :

بعد أن قطعت الآيات السابقة أشواطا في مجال التوحيد والنّبوة وعرض حديث المعارضين والمشركين ، فإنّ هذه الآيات عبارة عن خاتمة المطاف في هذا الحديث ، إذ تضع النتيجة الأخيرة لكل ذلك. ففي البداية تقول الآية إذا لم يقبل أولئك أدلتك الواضحة حول التوحيد والنّبوة والمعاد فقل لهم :( قُلْ كَفى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً ) (١) .

إنّ هذه الآية تستهدف أمرين فهي أوّلا : تهدّد المعارضين المتعصبين

__________________

(١) من حيث التركيب : إنّ «الباء» في( كَفى بِاللهِ ) زائدة ، و «الله» فاعل «كفى» و «شهيدا» تمييز، أو حال كما يقول البعض.

١٥٠

والمعاندين ، بأنّ الله خبير وبصير ويشهد أعمالنا وأعمالكم ، فلا تظنوا بأنّكم خارجون عن محيط قدرته أو أنّ شيئا من أعمالكم خاف عنه.

الأمر الثّاني : هو أنّ الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أظهر إيمانه القاطع بما قال ، حيث أنّ ايمان المتحدّث القوي بما يقول له أثر نفسي عميق في المستمع ، وعسى أن يكون هذا التعبير القاطع والحاسم المقرون بنوع من التهديد مؤثرا فيهم ، ويهز وجودهم ، ويوقظ فكرهم ووجدانهم ويهديهم إلى الطريق الصحيح.

الآية التالية تؤكّد على أن الشخص المهتدي هو الذي قذف الله تعالى بنور الإيمان في قلبه :( وَمَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ ) أمّا من أظلّه الله بسوء أعماله :( وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِهِ ) . فالطريق الوحيد هو أن يرجعوا إليه ويطلبوا نور الهداية منه.

هاتان الجملتان تثبتان أنّ الدليل القوي والقاطع لا يكفي للإيمان ، فما لم يكن هناك توفيق إلهى لا يستقر الإيمان أبدا.

هذا التعبير يشبه دعوتنا لمجموعة لأن تفعل الخير بعد أن نشرح لهم أهمية الموضوع بواسطة الأدلة المختلفة ، إلّا أنّ الحصيلة العملية ستكون موافقة البعض ، وامتناع البعض الآخر عن فعل الخير برغم صحة الأدلة. وبذلك لا يكون كل واحد لائقا لفعل الخير.

وهذه حقيقة فليس كل قلب يليق لأن ينال نور الحق ، إضافة إلى أنّ الكلام يثير المستمع ، وقد يحدث أن يترك الشخص بتأثير هذا الكلام عناده ولجاجته ليثبت لياقته للحق ويستسلم له.

وقلنا مرارا : إنّ الهداية والضلالة الإلهيتين ليستا شيئين جبريين ، بل تخضعان للأثر المباشر لأعمال الإنسان وصفاته ، فالأشخاص الذين جاهدوا أنفسهم وسعوا بجدية في طريق القرب الإلهي ، فمن البديهي أن الله سيوفّقهم

١٥١

ويهديهم :( وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا ) (١) .

أمّا أولئك الذين يسلكون طريق العناد والمكابرة وتتلوّث فطرتهم وقلوبهم بأنواع الذنوب والمفاسد والمظالم ، فإنّهم قد قضوا على أي استعداد أو جدارة لديهم في قبول الحق بالتالي مستحق للضلالة :( وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ ) (٢) .( وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّاالْفاسِقِينَ ) (٣) .( كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتابٌ ) (٤) .

أمّا عن سبب مجيء «أولياء» بصيغة الجمع ، فقد يعود ذلك للإشارة إلى تعدّد الآلهة الوهمية أو تنوع الوسائل التي يلجأون إليها ، فيكون المقصود أنّ جميع هذه الوسائل وجميع البشر وغير البشر ، وكل ما تؤلهون من آلهة من دون الله ، لا يستطيع أن ينقذكم من الضلالة وسوء العاقبة.

ثمّ تذكر الآيات ـ بصيغة التهديد القاطع ـ جانبا من مصيرهم بسبب أعمالهم في يوم القيامة فتقول :( وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ ) فبدلا من الدخول بشكل عادي وبقامة منتصبة ، فإنّ الملائكة الموكلين بهم يسحبونهم إلى جهنّم على وجوهم تعذيبا لهم.

البعض يعتقد أنّ هؤلاء يسبحون يوم القيامة بسبب عجزهم في ذلك اليوم عن المشي،لذلك فإنّهم يزحفون كالزواحف على وجوههم وصدورهم بشكل ذليل ومؤلم.

نعم ، فأولئك محرومون من نعمة كبيرة ، هي نعمة المشي على الأرجل ، لأنّهم لم يستفيدوا من هذه الوسيلة في هذه الدنيا في سلوك طريق السعادة والهداية ، بل خصصوها لسلوك طرق الذنوب والمعاصي.

ثمّ هم يحشرون :( عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا ) . وهنا قد يطرح هذا السؤال ، وهو : إنّ

__________________

(١) العنكبوت ، ٦٩.

(٢) إبراهيم ، ٢٧.

(٣) البقرة ، ٢٦.

(٤) غافر ، ٣٤.

١٥٢

المجرمين وأهل الجحيم ينظرون ويسمعون ويتكلمون ، فكيف تقول هذه الآية( عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا ) (١) ؟

للمفسّرين أقوال متعدّدة في الإجابة على هذا السؤال ، إلّا أن أفضلها جوابان نستطيع إجمالهما فيما يلي :

أوّلا : إنّ مراحل ومواقف يوم القيامة متعدّدة ، ففي بعض المراحل والمواقف يكون هؤلاء صما وبكما وعميا ، وهذا نوع من العقاب لهم ، لأنّهم لم يستفيدوا من هذه النعم الإلهية بصورة صحيحة في حياتهم الدنيا. إلّا أنّه ـ في مراحل لاحقة ـ فإنّ عيونهم تبدأ بالنظر ، وآذانهم بالسماع ، وألسنتهم بالنطق حتى يروا منظر العذاب ويسمعون كلام الشامتين ، ويبدأون بالتأوه والصراخ وإظهار ضعفهم ، حيث أن كل هذه الأمور هي نوع آخر من العقاب لهم.

ثانيا : إنّ المجرمين وأهل النار محرومون من رؤية ما هو سارّ ومن سماع أمور تبعث على الفرح ، ومن قول كلام يستوجب نجاتهم ، بل على العكس من ذلك ، فهم لا ينظرون ولا يسمعون ولا يقولون إلّا ما يؤذي ويؤلم.

في الختام تقول الآية :( مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ ) .

لكن لا تظنّوا أنّ نارها كنار الدنيا تنطفي في النهاية ، بل هي :( كُلَّما خَبَتْ زِدْناهُمْ سَعِيراً )

* * *

__________________

(١) في الآية (٥٣) من سورة الكهف نقرأ قوله تعالى :( وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ ) وفي الآية (١٣) من سورة الفرقان قوله تعالى :( دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً ) وفي الآية (١٢) من الفرقان نقرأ :( سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً ) .

١٥٣

الآيات

( ذلِكَ جَزاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآياتِنا وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً (٩٨) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ قادِرٌ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً لا رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلاَّ كُفُوراً (٩٩) قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفاقِ وَكانَ الْإِنْسانُ قَتُوراً (١٠٠) )

التّفسير

كيف يكون المعاد ممكنا؟

في الآيات السابقة رأينا كيف أنّ يوما سيئا ينتظر المجرمين في العالم الآخر. هذه العاقبة التي تجعل أي عاقل يفكّر في هذا المصير ، لذلك فإنّ الآيات التي بين أيدينا تقف على هذه الموضوع بشكل آخر.

في البداية تقول :( ذلِكَ جَزاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآياتِنا وَقالُوا إِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً إِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً ) .

«رفات» كما يقول الراغب في «المفردات» هي قطع من (التبن) لا تتهشم بل

١٥٤

تنتشر وتتناثر هنا وهناك. والأمر لا يحتاج إلى مزيد توضيح ، فالإنسان يتحول تحت التراب إلى عظام نخرة ثمّ إلى تراب ، ثمّ تتلاشى ذرات التراب هذه وتنتشر.

وبعد تعجبهم من المعاد الجسماني واعتبارهم ذلك أمرا غير ممكن ، يقول القرآن بأسلوب واضح ومباشر وبلا فصل :( أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ قادِرٌ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ ) . وعلى هؤلاء أن لا يعجلوا فإنّ القيامة وإن تأخّرت ، إلّا أنّها سوف تتحقق بلا ريب :( وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً لا رَيْبَ فِيهِ ) .

ولكن هؤلاء الظالمين والمعادين مستمرون على ما هم فيه رغم سماعهم هذه الآيات :( فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلَّا كُفُوراً ) .

وحيث أنّهم كانوا يصرخون ويصّرون على أن لا يكون النّبي من البشر حسدا من عند أنفسهم وجهلا وضلالا ، وقد منعهم هذا الحسد والجهل من التصديق بإمكانية أن يعطي الله كل هذه المواهب لإنسان ، لذا فإنّ الخالق جلّ وعلا يخاطبهم بقوله :( قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفاقِ ) . ثمّ يقول :( وَكانَ الْإِنْسانُ قَتُوراً ) .

«قتور» من «قتر» على وزن «قتل» وهي تعني الإمساك في الصرف ، وبما أنّ (قتور) صيغة مبالغة فإنّها تعني شدّة الإمساك وضيق النظر.

* * *

ملاحظات

١ ـ المعاد الجسماني

الآيات أعلاه من أوضح الآيات المرتبطة بإثبات المعاد الجسماني ، فالمشركين كانوا يعجبون من إمكانية عودة الحياة إلى العظام النخرة ، والقرآن يجيبهم بأنّ القادر على خلق السماوات والأرض ، لديه القدرة على جمع الأجزاء

١٥٥

المتناثرة للإنسان وأن يهبها الحياة مرّة أخرى.

ولا ندري كيف ينكر بعض من يدعي الإسلام قضية المعاد الجسماني ، ويقتصرون في إيمانهم على المعاد الروحي برغم الدلالات الواضحة لهذه الآيات وغيرها؟

كما إنّ الاستدلال بالقدرة الكلية للخالقعزوجل في إثبات المعاد ، هو واحد من الأدلة التي يذكرها القرآن مرارا ويعتمد عليها كثيرا. ويظهر مثل هذا النمط من الاستدلال بالقدرة الكلية على المعاد في الآية الأخيرة من سورة (يس) والتي تتضمّن عدّة أدلة لإثبات المعاد الجسماني(١) .

٢ ـ أيّ الآيات؟

هناك احتمالات عديدة في أنّ الغرض من هذه (الآيات) في جملة( كَفَرُوا بِآياتِنا ) هي آيات التوحيد أو أدلة النّبوة ، أو الآيات المرتبطة بالمعاد. ولكن وقوع الجملة في بحث المعاد ، ترجح اعتقادنا بأنّها إشارة إلى آيات المعاد ، وهي في الحقيقة مقدمة للردّ على منكري المعاد.

٣ ـ ما هو الغرض من «مثلهم»؟

إنّنا نعرف أنّ الله ـ بسبب قدرته العظيمة ـ قادر في يوم القيامة على إرجاع الناس ، في حين أنّنا نقرأ في الآيات أعلاه أنّه يستطيع أن يخلق مثلهم. وقد يكون هذا التعبير مدعاة لاشتباه أو استفسار البعض عمّا إذا كان الناس الذين يردون القيامة هم ليسوا هؤلاء الناس أنفسهم؟

بعض المفسّرين يرى أن الغرض من (مثل) هنا هو (عين) ففي بعض الأحيان نقول (مثلك يجب ألّا يقوم بهذا العمل) إلّا أنّنا نقصد أنّك أنت الذي يجب أن لا

__________________

(١) لمزيد من التفاصيل يراجع كتاب : «العالم والمعاد بعد الموت».

١٥٦

تقوم بهذا العمل ، لكن هذا التّفسير بعيد ، لأنّ مثل هذه التعابير لها محل آخر لا يتناسب مع ما نبحثه الآن.

الظاهر أنّ الغرض من استخدام تعبير (مثل) في هذه الآية هو إعادة الحياة. فإعادة الخلق مرّة ثانية لا تكون حتما كالمرّة الأولى ، حيث هناك على الأقل زمان آخر وظروف أخرى ، وصورة جديدة بالرغم من أنّ المادة هي نفس المادة القديمة. وكمثال لذلك إذا جمعنا اجزاء متناثرة لقطعة من الآجر ووضعناها في قالبها القديم ، فإنّنا لا نستطيع أن نقول عن الآجر الجديد أنّه نفس قطعة الآجر القديمة ، بالرغم من أنّه ليس إلّا الطين السابق. بل نقول: إنّه مثله. وهذا دليل على التعابير المختارة والمنتخبة في القرآن الكريم.

ومن المسلّم به أنّ روح الإنسان تحدّد شخصيته ، ونحن نعلم أنّ الروح الأولى هي التي عند البعث ، إلّا أنّ المعاد الجسماني يقول لنا : إنّ الروح ستكون مع نفس المادة الأولى ، يعني أنّ تلك المادة المتلاشية ستتجمّع مرّة أخرى وتندمج مع روحها ، وفي موضوع المعاد أثبتنا أن روح الإنسان بعد أن تتخذ شكلا معينا لا يمكنها أن تنسجم مع غير جسدها الأصلي الذي تربت وعاشت معه. وهذا هو السر في البعث الروحي والجسدي معا.

٤ ـ ما هو (الأجل)؟

إنّ (الأجل) هو نهاية العمر. ولكن هل (الأجل) في هذه الآيات إشارة إلى نهاية العمر أو هو إشارة إلى نهاية عمر الدنيا وبداية البعث؟

وبما أنّ الحديث يدور حول المعاد ، لذا فإنّ المعنى الثّاني أكثر صحة. وأمّا ما قاله بعض المفسّرين الكبار من أنّ هذا الكلام لا يتناسب مع جملة( لا رَيْبَ فِيهِ ) لأنّ منكري المعاد كانوا يشكّون حتما في قضية المعاد. فإنّ ذلك غير صحيح ، لأنّ مفهوم مثل هذا التعبير هو أنّه يجب أن لا نسمح للشك بأنّ يدخل إلى أنفسنا نحن ،

١٥٧

لا أنّ أحدا لا يشك بذلك!

لذا فإنّ المفهوم الكلي للآية يصبح على هذه الصورة. إنّ الله الذي خلق السماوات والأرض يستطيع ـ حتما ـ أن يعيد الحياة لهؤلاء البشر ، أمّا إذا لم يحدث هذا الأمر بسرعة، فذلك بسبب أنّ السنة الإلهية لها أجل محدود وحتمي بحيث لا مجال للشك فيها.

وتصبح النتيجة : إنّ الدليل القاطع في قبال منكري المعاد هي هذه القدرة ، وأمّا قوله :( جَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً لا رَيْبَ فِيهِ ) فهو جواب على سؤال حول سبب تأخير القيامة. (فدقق في ذلك).

٥ ـ الترابط بين الآيات

عند مطالعة هذه الآيات يثار سؤال حول كيفية الارتباط والصلة بين كلمة (قتورا) التي هي بمعنى (بخيل) الواردة في آخر الآية ، وبين ما نبحثه؟

بعض المفسّرين قالوا : إنّ هذه الجملة إشارة إلى موضوع طرح قبل عدّة آيات من قبل عبدة الأصنام ، فقد طلبوا من الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يملأ أرض مكّة بالعيون والبساتين. أمّا القرآن فيقول في جواب هؤلاء :( قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً ) .

إلّا أنّ هذا التّفسير مستبعد لأنّ كلام المشركين لم يكن عن مالكية هذه العيون والبساتين ، بل إنّهم طالبوا الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأصل هذا العمل والذي يعتبر عملا إعجازيا.

التّفسير الآخر الذي ذكر في بيان الصلة وهو أفضل من التّفسير الأوّل ، هو أنّهم ـ بسبب بخلهم وضيق أنفسهم ـ كانوا يتعجبون من منح هذه الموهبة (النّبوة) للإنسان،وهذه الآية بمثابة ردّ عليهم حيث تقول لهم : إن بخلكم بلغ درجة بحيث أنّكم لو ملكتم جميع الدنيا فسوف لا تتركون صفاتكم السيئة والقبيحة هذه.

١٥٨

٦ ـ هل أن جميع البشر بخلاء؟

لقد قلنا ـ لمرّات عديدة ـ إنّ القرآن يذكر الإنسان بشكل عام ، ويلومه بأنواع اللوم، ويصفه بصفات كالبخل والجهل والعجول والظلوم وما شابهها.

إنّ هذه التعابير لا تتنافى مع كون المؤمنين والصالحين يتحلّون بضد هذه الصفات ، حيث يشير التعبير إلى أنّ الطبيعة الآدمية هي هكذا ، وإذا لم يخضع الإنسان لتربية القادة الإلهيين ، وترك لشأنه كالنباتات المتروكة فسيكون مستعدا للاتصاف بهذه الصفات السيئة. وهذا لا يعني أنّ ذاته خلقت هكذا ، أو أنّ عاقبة الجميع كذلك(١) .

٧ ـ استخدام تعبير( خَشْيَةَ الْإِنْفاقِ )

يعني الخوف من الفقر ، ذلك الفقر الذي يكون سببه كثرة الإنفاق ، كما يظنون.

* * *

__________________

(١) في البحوث السابقة تعرضنا لهذه القضية تفصيلا.

١٥٩

الآيات

( وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ فَسْئَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ إِذْ جاءَهُمْ فَقالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا مُوسى مَسْحُوراً (١٠١) قالَ لَقَدْ عَلِمْتَ ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلاَّ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بَصائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً (١٠٢) فَأَرادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْناهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعاً (١٠٣) وَقُلْنا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنا بِكُمْ لَفِيفاً (١٠٤) )

التّفسير

لم يؤمنوا رغم الآيات :

قبل بضعة آيات عرفنا كيف أنّ المشركين طلبوا أمورا عجبية غريبة من الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وبما أنّ هدفهم ـ باعترافهم هم أنفسهم ـ لم يكن لأجل الحق وطلبا له ، بل لأجل التذرّع والتحجج والتعجيز ، لذا فإنّ الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ردّ عليهم ورفض الانصياع إلى طلباتهم.

١٦٠

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

وتجد هذه المزيّة ظاهرة كمال الظُهور في رُكن الدولة، حين كَتب له المرزبان ابن بختيار ابن أخيه مُعزّ الدولة بقبض عضُد الدولة وأبي الفتح بن العميد على والده وعَمّيه سَنة أربع وستّين وثلاثمئة، ويذكر له الحيلة الّتي تمّت عليه، فألقى بنفسه عن سريره إلى الأرض وتمرّغ عليها، وامتنع مِن الأكل والشُرب عدّة أيّام، ومَرِض مرضاً لم يستقلّ منه باقي حياته، ولمّا كاتب ابن بقية رُكن الدولة بحاله وحال بختيار كَتب رُكن الدولة إليه وإلى المرزبان وغيرهما ممَّن احتمى لبختيار يأمرهم بالثبات والصبر، ويُعرّفهم أنّه على المسير إلى العراق لإخراج عضُد الدولة وإعادة بختيار، فاضطربت النواحي على عضُد الدولة، وتجاسر عليه الأعداء حيث علموا إنكار أبيه عليه، وانقطعت عنه مواد فارس والبحر، وسترى ذلك مبسوطاً في ترجمة عضُد الدولة - إن شاء الله - وجواب رسول عضُد الدولة الّذي أرسله لوالده يدلي إليه بعُذره ويُبيّن له أسباب قبضه على بختيار، فردّ رُكن الدولة الرسول ردّاً قبيحاً ولم يقبل لابنه عُذراً، وكان الرسول أبا الفتح بن العميد الّذي اتخذ شتّى الوسائط لاسترضائه عليه، وما ذنبه إلاّ أداؤه رسالة ابنه، ولم يرضَ إلاّ بإعادة عضُد الدولة إلى فارس مملكته وتقرير العراق لبختيار، فأنت ترى أنّ رُكن الدولة عرّض مملكة ولده، بل حياته للخطر في سبيل صلته لرحمِه، ومُراعاته لابن أخيه مُعزّ الدولة الّذي كان يُحبّه محبّة شديدة؛ لأنّه رباه فكان عنده بمنزلة الولد.

وفاة رُكن الدولة ومُلك عضُد الدولة:

في المُحرّم سَنة ستّ وستّين وثلاثمئة تُوفّي رُكن الدولة أبو علي الحسن بن بويه واستخلف على ممالكه ابنه عضُد الدولة، وكان ابتداء مرضه حين سمع بقبض بختيار ابن أخيه مُعزّ الدولة، وكان ابنه عضُد الدولة قد عاد مِن بغداد بعد أن أطلق بختيار على الوجه الّذي قد تقرّر، وظهر عند الخاصّ والعامّ غَضَب والده عليه، فخاف أنْ يموت أبوه وهو على حال غضبه فيختلّ مُلكه، وتزول طاعته، فأرسل إلى أبي الفتح بن العميد وزير والده يطلب منه أنْ يتوصّل مع أبيه وإحضاره عنده، وأنْ يعهد إليه بالمُلك بعده، فسعى أبو الفتح في ذلك فأجابه إليه رُكن الدولة، وكان قد وجد في نفسه خِفّة، فسار مِن الريّ إلى أصبهان، فوصلها في جمادى الأُولى سنة خمس وستّين وثلاثمئة،

١٨١

وأحضر ولده عضُد الدولة مِن فارس، وجمع عنده أيضاً سائر أولاده بأصبهان، فعمِل أبو الفتح بن العميد دعوة عظيمة حضرها رُكن الدولة وأولاده والقوّاد والأجناد، فلمّا فَرِغوا مِن الطعام عهِد رُكن الدولة إلى ولده عضُد الدولة بالمُلك بعده، وجعل لولده فَخر الدولة أبي الحسن علي همذان وأعمال الجبل، ولولده مؤيّد الدولة أصبهان وأعمالها، وجعلهما في هذه البلاد بحُكم أخيما عضُد الدولة، وخلع عضُد الدولة على سائر الناس ذلك اليوم الأقبية والأكسية على زيّ الديلم، وحيّاه القوّاد وإخوته بالريحان على عادتهم مع مُلوكهم، وأوصى رُكن الدولة أولاده بالاتّفاق، وترك الاختلاف وخلع عليهم، ثُمّ سار عن أصبهان في رجب نحو الريّ فدام مرضه إلى أنْ تُوفّي فأُصيب به الدين والدُنيا جميعاً لاستكمال جميع خلال الخير فيه، وكان عُمره قد زاد على سبعين سَنة، وكانت إمارته أربعاً وأربعين سَنة.

بعض سيرته:

قال ابن الأثير:

بعد هذا الّذي نقلنا عن تاريخه الكامل - ذاكراً بعض سيرته - كان حليماً، كريماً، واسع الكرم، كثير البذل، حَسِن السياسة لرعاياه وجُنده، رؤوفاً بهم، عادلاً في الحُكم بينهم، وكان بعيد الهمّة، عظيم الجدّ والسعادة، مُتحرّجاً مِن الظُلم، مانعاً لأصحابه منه، عفيفاً عن الدِماء، يرى حقنها واجباً، إلاّ فيما لا بُدّ مِنه، وكان يُحامي على أهل البيوتات، أو كان يُجري عليهم الأرزاق، ويصونهم عن التبذل، وكان يَقصد المساجد الجامعة في أشهر الصيام للصلاة، وينتصب لردِّ المظالم، ويتعهّد العلويّين بالأموال الكثيرة، ويتصدّق بالأموال الجليلة على ذوي الحاجات، ويُلين جانبه للخاصّ والعام.

قال له بعض أصحابه في ذلك، وذَكر له شدّة مرداويج على أصحابه، فقال:

انظر كيف اخترم ووثب عليه أخصّ أصحابه به وأقربهم منه؛ لعُنفه وشدّته، وكيف عمرتُ وأحبّني الناس للين جانبي. وحُكي عنه أنّه سار في سفر، فنزل في خركاه قد ضُربت له قِبَل أصحابه، وقُدّم إليه طعام، فقال لبعض أصحابه:

لأيّ شيء قيل في المثل: خيرُ الأشياءِ في القريةِ الإمارة.

فقال صاحبه: لقعودك في الخركاه وهذا الطعام بين يديك، وأنا لا خركاه ولا طعام، فضحك وأعطاه الخركاه والطعام.

فانظر إلى هذا الخُلُق ما

١٨٢

أحسنه ما أجمله، وفي فعله في حادثة بختيار ما يَدلّ على كمال مروءته وحُسن عهده وصلته لرحمه، رضي الله عنه وأرضاه، وكان له حُسن عهد ومودّة وإقبال.

قال ابن خلكان في وَفَياته:

وكان مسعوداً ورُزق السعادة في أولاده الثلاثة، وقَسّم عليهم الممالك، فقاموا بها أحسن قيام، وتُوفّي رُكن الدولة ليلة السبت لاثنتي عشرة ليلة بقيت مِن المُحرّم سَنة ستّ وستّين وثلاثمئة بالري، ودُفن في مشهده، ومولده تقديراً في سَنة أربع وثمانين، قال أبو إسحاق الصابي: ومَلك أربعاً وأربعين سَنة وشهراً وتسعة أيّام، وتولّى بعده ولده مؤيّد الدولة رحمهما الله تعالى.

وقال ابن كثير في حوادث سنة ٣٥٦:

فيها قَسّم رُكن الدولة بن بويه ممالكه بين أولاده (الثلاثة) عندما كَبُرت سِنّه، فجعل لولده عضُد الدولة بلاد فارس وكرمان وأرجان، ولولده مؤيَّد الدولة الري وأصبهان، ولفخر الدولة همذان والدينور، وجعل ولده أبا العبّاس في كنف عضُد الدولة وأوصاه به.

أمّا ذكره بلاد فارس فيما اختص به ولده عضُد الدولة، فإنّ بلاد فارس لم تكن مِن ممالكه، بل كانت مملكة أخيه عِماد الدولة الّذي لم يُرزق وَلداً ذَكراً يرثها منه، بل عهِد بها لعضُد الدولة كما مرّ بيان ذلك في ترجمة عِماد الدولة.

وقال في حوادث سنة (٣٦٦):

فيها توفّي رُكن الدولة بن علي بن بويه، وقد جاوز التسعين سَنة، ثُمّ ذَكر بعد ذلك قَصد عضُد الدولة العراق ليأخذها مِن ابن عمّه بختيار، والتقائه به في الأهواز، وانهزامه منه، واستظهاره عليه وإذلاله، ثُمّ القبض على وزيره ابن بقية إلى أنْ قال: وكذلك أمرُ رُكن الدولة بالقبض على وزير أبيه أبي الفتح بن العميد لموجدة تقدّمت منه إليه.

وفي ذلك أغلاط نربأ بابن كثير أنْ يرتكبها:

الأول: جعله عليّاً أباً لرُكن الدولة، وعلي وهو عماد الدولة أكبر الأُخوة الثلاثة أخو رُكن الدولة.

الثاني: قوله: إنّ رُكن الدولة قد جاوز التسعين، وقد عرفتَ ممّا نقلناه عن ابن الأثير وابن خلكان، أمّا الأوّل فيقول إنّ عُمره قد زاد على السبعين، والثاني يُقدّر عُمره باثنتين وثمانين سَنة، فقول ابن كثير قولاً ثالث، إنْ كانت التسعين غير مُحرّفة عن السبعين.

الثالث: قوله: إنّ رُكن الدولة أمرَ بالقبض

١٨٣

على وزير أبيه أبي الفتح، فإنّ أبا رُكن الدولة وهو بويه لم يكن مَلكاً ليستوزر، وإنّما كان أولاده الثلاثة مُلوكاً، وأوسطهم سِنّاً رُكن الدولة، وأبو الفتح كان وزير رُكن الدولة بعد أبيه أبي الفضل بن العميد، والآمر بالقبض عليه هو عضُد الدولة، وكان ذلك بعد وفاة أبيه رُكن الدولة، وإنّنا لَنَحسَب هذه الأغلاط مِن تحريف الناسخين؛ لأنّه مِن المُستبعد أنْ تقع مِن هذا المؤرّخ الكبير.

الثالث: أبو الحسين أحمد بن أبي شجاع بويه مُعزّ الدولة:

هو أصغر الأُخوة الثلاثة مُؤسّسي الدولة البويهيّة، وقد كنّاه بعضُ المُؤرّخين بأبي الحسن، وهي كُنية أخيه عماد الدولة والحسن اسم رُكن الدولة.

قال ابن خلكان:

وهو عمُّ عضُد الدولة وأحد مُلوك الديلم، كان صاحب العراق والأهواز، وكان يُقال له الأقطع؛ لأنّه كان مقطوع اليد اليُسرى وبعض أصابع اليُمنى.

مولده ووفاته:

وُلد في سَنة ثلاث وثلاثمئة، وتُوفّي يوم الاثنين سابع عشر شهر ربيع الآخر سَنة ستّ وخمسين وثلاثمئة ببغداد، ودفن في داره، ثُمّ نُقل إلى مشهد بُني له في مقابر قُريش.

أوّل عهده في المُلك:

قال ابن خلكان في سبب تلقيبه بالأقطع:

إنّه كان في مَبدأ عُمره وحداثة سِنّه تَبَعاً لأخيه عِماد الدولة، وكان قد توجّه إلى كرمان بإشارة أخَويه عِماد الدولة ورُكن الدولة، فلمّا وصلها سمِع به صاحبها، فتركها ورَحل إلى سجستان مِن غَير حَرب فملكها، وكان بتلك الأعمال طائفة مِن الأكراد قد تغلّبوا عليها، وكانوا يحملون لصاحب كرمان في كلّ سَنة شيئاً مِن المال بشرط أنْ لا يطأوا بِساطه، فلمّا وصلَ مُعزّ الدولة سَيّر إليه رئيس القوم، وأخذ عُهوده ومواثيقه بإجرائهم على عادتهم، ففعل ذلك، ثُمّ أشار عليه كاتبه بنقض العهد، وأنْ يسري إليهم على غَفلة، ويأخذ أموالهم وذخائرهم ففعل

١٨٤

مُعزّ الدولة ذلك، وقصدهم في الليل في طريق مُتوعّرة فأحسّوا به، فقعدوا له على مَضيق، فلمّا وصل إليهم بعسكره ثاروا عليهم مِن جميع الجوانب، فقتلوا وأسروا، ولم يَفلُت منهم إلاّ اليسير، ووقع بمُعزّ الدولة ضربات كثيرة، وطاحت يدُه اليُسرى وبعض أصابع يده اليمنى، وأُثخن بالضرب في رأسه وسائر جسده، وسقط بين القتلى، ثُمّ سَلُم بعد ذلك.

قال ابن الأثير في حوادث سنة ٣٢٤:

في هذه السَنة سار أبو الحُسين أحمد بن بويه المُلقَّب بمُعزّ الدولة إلى كرمان، وسببُ ذلك أنّ عِماد الدولة بن بويه وأخاه رُكن الدولة لمّا تمكّنا مِن بلاد فارس وبلاد الجبل، وبقي أخوهما الأصغر أبو الحسين أحمد بغير ولاية يستبدّ بها، رأيا أنْ يُسيّراه إلى كرمان ففعلا ذلك، وسار إلى كرمان في عسكرٍ ضَخم شثجعان، فلمّا بَلغَ السيرجان استولى عليها وجبى أموالها وأنفقها في عسكره، وكان إبراهيم بن سيمجور والدواني يُحاصِر محمّد بن غلياس بن اليسع بقلعة هُناك بعساكر نصر بن أحمد صاحب خُراسان، فلمّا بَلغَه إقبال مُعزّ الدولة سار عن كرمان إلى خُراسان، ونَفّس عن محمّد بن إلياس، فتَخلّص مِن القلعة، وسار إلى مدينته بَم، وهي على طرف المفازة بين كرمان وسجستان، فسار إليه أحمد بن بويه، فرَحل مِن مكانه إلى سجستان بغير قتال، فسار أحمد إلى جيرفت - وهي قصبة كرمان - واستخلف على بَم بعض أصحابه، فلمّا قارب جيرفت أتاه رسول عليّ بن الزنجي المعروف بعلي كلويه، وهو رئيس القفص والبلوص، وكان هو وأسلافه مُتغلّبين على تلك الناحية، إلاّ أنّهم يُجاملون كلّ سلطان يَرِد البلاد، ويُطيعونه ويَحملون إليه مالاً مَعلوماً ولا يطؤون بساطه، فبذل لابن بويه ذلك المال، فامتنع أحمد مِن قبوله إلاّ بعد دُخول جيرفت، فتأخّر عليّ بن كلويه نحو عشرة فراسخ، ونَزل بمكان صَعِب المَسلك، ودخل أحمد بن بويه جيرفت، واصطلح هو وعلي وأخذ رهائنه وخَطَب له، فلمّا استقرّ الصُلح وانفصل الأمر أشار بعضُ أصحاب ابن بويه عليه بأنْ يَقصد عليّاً ويَغدر به، ويَسري إليه سرّاً على غَفلة، وأطمعه في أمواله وهوّن عليه أمره بسكونه إلى الصُلح، فأصغى الأمير أبو الحسين أحمد إلى ذلك لحداثة سِنّه، وجمع أصحابه وأسرى نحوهم جريدة، وكان عليّ مُحترزاً، ومَن معه قد وضعوا العيون على ابن بويه، فساعة تَحرّك بلغته الأخبار، فجمع أصحابه ورتَبَهُم بمضيق على الطريق، فلمّا اجتاز بهم ابن بويه ثاروا به ليلاً مِن

١٨٥

جوانبه، فقتلوا في أصحابه وأسروا، ولم يُفلِت منهم إلاّ اليسير، ووقعت بالأمير أبي الحسين ضربات كثيرة، ووقعت ضربة منها في يَده اليُسرى فقطعتها مِن نصف الذراع، وأصاب يده اليُمنى ضَربة أُخرى سقط منها بعض أصابعه، وسقط مثخناً بالجراح بين القتلى، وبلغ الخَبر بذلك إلى جيرفت فهرب كلّ مَن بها مِن أصحابه، ولمّا أصبح علي كلويه تتبّع القتلى، فرأى الأمير أبا الحسين قد أشرف على التلف، فحمله إلى جيرفت، وأحضر له الأطبّاء، وبالغ في علاجه، واعتذر إليه، وأنفذ رُسله يَعتذر إلى أخيه عماد الدولة بن بويه، ويُعرّفه غدر أخيه، ويَبذل مِن نفسه الطاعة، فأجابه عماد الدولة إلى ما بذله، واستقرّ بينهما الصُلح، وأطلق عليّ كلّ مَن عنده مِن الأسرى وأحسن إليهم، ووصل الخبر إلى محمّد بن إلياس بما جرى على أحمد بن بويه، فسار مِن سجستان إلى البلد المعروف بجنابة، فتوجّه إليه ابن بويه وواقعه، ودامت الحرب بينهما عِدّة أيّام، فانهزم ابن إلياس، وعاد أحمد بن بويه ظافراً، وسار نحو علي كلويه لينتقم منه، فلمّا قاربه أسرى إليه في أصحابه الرجّالة، فكبسوا عسكره ليلاً في ليلة شديدة المَطر ن فأثّروا فيهم، وقتلوا ونهبوا وعادوا، وبقي ابن بويه باقي ليلته، فلمّا أصبح سار نحوهم فقَتَل منهم عدداً كثيراً، وانهزم علي كلويه، وكتب ابن بويه إلى أخيه عِماد الدولة بما جرى له مَعه ومع ابن إلياس وهزيمته، فأجابه أخوه يأمره بالوقوف بمكانه ولا يتجاوزه، وأنفذ إليه قائداً مِن قوّاده يأمره بالعودة إلى فارس ويُلزمه بذلك. فعاد إلى أخيه، وأقام عنده باصطخر إلى أن قصدهم أبو عبد الله البريدي منهزماً مِن ابن رائق وبجكم، فأطمع عماد الدولة في العراق وسهّل عليه مُلكه.

استيلاء مُعزّ الدولة على الأهواز:

كان مِن نتيجة إطماع البريدي عِماد الدولة في العراق، وتسهيله عليه مُلكه أنْ سار مُعزّ الدولة في سَنة ستّ وعشرين إلى الأهواز وتلك البلاد، فملكها واستولى عليها ومعه البريدي، وترك البريدي ولديه أبا الحسن محمّداً وأبا جعفر الفياض عند عماد الدولة رهينة وساروا، فبلغ الخبر إلى بجكم بنزولهم أرجان، فسار لحربهم فانهزم مِن بين أيديهم، وكان سَبَب الهزيمة أنّ المطر اتّصل أيّاماً كثيرة، فعطلت أوتار قُسي الأتراك، فلم يقدروا على رمي

١٨٦

النشّاب، فعاد بجكم وأقام بالأهواز، وجعل بعض عسكره بعسكر مكرم، فقاتلوا مُعزّ الدولة بها ثلاثة عشر يوماً، ثُمّ انهزموا إلى تستر، فاستولى مُعزّ الدولة على عسكر مكرم، وسار بجكم إلى تستر مِن الأهواز، وأخذ معه جماعة مِن أعيان الأهواز، وسار هو وعسكره إلى واسط، وأرسل مِن الطرق إلى ابن رائق يُعلمه الخبر، ويقول له:

إن العسكر مُحتاج إلى المال، فإن كان معك مائتا ألف دينار فتُقيم بواسط حتّى نَصل إليك ونُنفق فيهم المال، وقد مرّ تفصيل ذلك كلّه في أخبار عِماد الدولة، فليُرجَع إليها.

مُخالفة البريدي على مُعزّ الدولة:

في أخبار عِماد الدولة في تلك الصفحات - الّتي ذَكر فيها استيلاء مُعزّ الدولة - خبر خلاف البريدي عليه بعد تمهيده لأخيه عِماد الدولة، وله أمر الاستيلاء على العراق وإبقاء ولديه رهينة عند عماد الدولة، واستقرار البريدي أخيراً في البصرة، وبقاء مُعزّ الدولة في الأهواز، ثُمّ تقلّبت على البريدي أُمور وأحوال، وهو لم يكن يَثبُت على حال، ولا يُبرم عهداً إلاّ، وهو يَضمر في دخيلة نفسه نقضه.

ذهاب مُعزّ الدولة إلى البصرة وعوده منها على غير ما يُريد:

في المُحرّم سَنة إحدى وثلاثين وثلاثمئة وصل مُعزّ الدولة إلى البصرة، فحارب البريدييّن وأقام عليهم مدّة، ثُمّ استأمن جماعة مِن قوّاد إلى البريديّين، فاستوحش مِن الباقين فانصرف عنهم.

وصول مُعزّ الدولة إلى واسط وعوده عنها:

في آخر رجب سنة ٣٣٣هـ وصل مُعزّ الدولة إلى مدينة واسط، فسمع تورون به، فسار هو والمُستكفي بالله مِن بغداد إلى واسط، فلمّا سَمِع مُعزّ الدولة بمسيرهم إليه فارقها سادس رمضان.

استيلاء مُعزّ الدولة على بغداد:

لمّا مات تورون ووُلّي مكانه شيرزاد، وزاد هذا الأجناد زيادة ضاقت عليه الأموال بسببها، فكثر الظُلم والاعتداء على الناس كَاتبَ ينال كوشة - وكان يلي لشيرزاد عمل واسط - مُعزّ الدولة وهو بالأهواز يَستقدِمه، ودخل

١٨٧

في طاعته، فسار مُعزّ الدولة نحوه، فاضطرب الناس ببغداد، فلمّا وصل إلى باجسرى اختفى المُستكفي بالله وابن شيرزاد، فلمّا استَتر شيرزاد سار الأتراك إلى الموصل، فلمّا أبعدوا ظهر المُستكفي، وعاد إلى بغداد إلى دار الخلافة، وقدم أبو محمّد الحسن بن محمّد المهلبي صاحب مُعزّ الدولة إلى بغداد، فاجتمع بابن شيرزاد بالمكان الّذي استتر فيه، ثُمّ اجتمع بالمُستكفي، فأظهر المُستكفي السُرور بقدوم مُعزّ الدولة، وأعلمه أنّه إنّما استَتَر مِن الأتراك ليتَفرّقوا فيحصل الأمر لمُعزّ الدولة بلا قِتال، ووصل مُعزّ الدولة إلى بغداد حادي عشر جمادى الأولى سنة ٣٣٤، فنزل بباب الشماسيّة، ودخل مِن الغد إلى الخليفة المُستكفي وبايعه وحَلف له المُستكفي، وسأله مُعزّ الدولة أنْ يأذن لابن شيرزاد بالظُهور، وأنْ يأذن أنْ يَستكتبه، فأجابه إلى ذلك، فظَهر ابن شيرزاد، ولقي مُعزّ الدولة فولاّه الخراج وجباية الأموال، وخَلعَ الخليفة على مُعزّ الدولة، ولقّبه ذلك اليوم مُعزّ الدولة، ولقّب أخاه عليّاً عِماد الدولة، ولقّب أخاه الحسن رُكن الدولة، وأمَر أنْ تُضرب ألقابهم وكُناهم على الدنانير والدراهم، ونَزَل مُعزّ الدولة بدار مؤنس، ونزل أصحابه في دور الناس، فلحِق الناس مِن ذلك شدّة عظيمة، وصار - نزول الجيش في دور الناس - رسماً عليهم بعد ذلك، وهو أوّل مَن فعله ببغداد، ولم يُعرف بها قبله، وأُقيم للمُستكفي بالله كلّ يوم خمسة آلاف درهم لنفقاته، وكان ربما تأخرت عنه، فأُقرّت له مع ذلك ضياع سُلّمت إليه تولاّها أبو أحمد الشيرازي كاتبه.

خَلْعُ المُستكفي بالله:

وفي هذه السنة خُلِعَ المُستكفي بالله لثمان بقين مِن جمادى الآخرة؛ وكان سبَبُ ذلك أنّ علم القهرمانة صنعتْ دعوةً عظيمةً حضرها جماعةٌ مِن قوّاد الديلم والأتراك، فاتّهمها مُعزّ الدولة أنّها فعلت ذلك لتأخذ عليهم البيعة للمُستكفي، ويُزيلوا مُعزّ الدولة، فساء ظنّه لذلك لمّا رأى مِن إقدام عَلَم، وحضر اسفهدوت عند مُعزّ الدولة، وقال:

قد راسلني الخليفة في أنْ ألقاه مُتنكّراً، فلمّا مضى اثنتان وعشرون يوماً مِن جمادى الآخرة حضر مُعزّ الدولة والناس عند الخليفة، وحضر رسول صاحب خُراسان، ومُعزّ الدولة جالس، ثُمّ حَضَر رجلان مِن نُقباء الدَيلم يصيحان، فتناولا يد المُستكفي بالله، فظّن أنّهما يُريدان تقبيلهُا، فمدّها إليهما فجذباه عن سريره

١٨٨

وجعلا عِمامته في حَلقه، ونهض مُعزّ الدولة، واضطرب الناس، ونهبت الأموال، وساق الديلميّان المُستكفي بالله ماشياً إلى دار مُعزّ الدولة، فاعتُقل بها، ونُهبت دار الخلافة حتّى لم يبقَ بها شيء، وقُبض على أبي أحمد الشيرازي كاتب المُستكفي، وأُخذت عَلَم القهرمانة فقُطع لسانها.

خلافة المُطيع واستيلاء مُعزّ الدولة على أُمور الخلافة:

لمّا وُلّي المُستكفي بالله الخلافة خافه المُطيع واستَتَرَ منه، فطلبه المُستكفي أشدّ الطَلَب، فلم يظفر به، فلمّا قدِم مُعزّ الدولة بغداد قيل إنّ المطيع انتقل إليه واستتر عنده، وأغراه بالمُستكفي حتّى قبض عليه وسَمله، فلمّا قُبِض المُستكفي بويعَ للمُطيع لله بالخلافة، ولقُب المطيع لله، وأُحضر المُستكفي عنده فسلّم عليه بالخلافة، وأُشهد على نفسه بالخَلع، وازداد أمر الخلافة إدباراً، ولم يبقَ لهم مِن الأمر شيء البتّة، وكانوا يُراجَعون ويؤخذ أمرهم فيما يُفعل والحرمةُ قائمةٌ بعض الشيء، فلمّا كان أيّام مُعزّ الدولة زال ذلك جميعه، بحيث إنّ الخليفة لم يبقَ له وزير، إنّما كان له كاتب يُدير إقطاعه وإخراجاته لا غير، وصارت الوزارة لمُعزّ الدولة يستوزر لنفسه مَن يريد، وكان مِن أعظم الأسباب في ذلك أنّ الديلم كانوا يتشيّعون ويُغالون في التشيّع، ويعتقدون أنّ العباسيّين قد غصبوا الخلافة وأخذوها مِن مُستحقّيها، فلم يكنْ عِندهم باعث ديني يَحثّهم على الطاعة، حتّى لقد بلغني أنّ مُعزّ الدولة استشار جماعة مِن خواصّ أصحابه في إخراج الخلافة مِن العباسيّين، والبيعة للمُعزّ لدين الله العلوي، أو لغيره مِن العلويّين، فكلّهم أشار عليه بذلك ما عدا بعض خواصّه، فإنّه قال :

ليس هذا برأي، فإنك اليوم مع خليفة تعتقد أنت وأصحابك أنّه ليس مِن أهل الخلافة ولو أمرتهم بقتله لقتلوه مُستحلّين دمه، ومتى أجلست بعض العلويين خليفة كان معك مَن تعتقد أنت وأصحابك صحّة خلافته، فلو أمرهم بقتلك لفعلوه، فأعرض عن ذلك، وتسلم مُعزّ الدولة العراق بأسره، ولم يبقَ بيد الخليفة منه شيء البتة، إلاّ ما أقطعه مُعزّ الدولة ممّا يقوم ببعض حاجته.

هذا ما جاء في كامل ابن الأثير، أمّا ما جاء مِن تعليله عَدم إخلاص الديلم الطاعة للعباسيّين، واستشارة مُعزّ الدولة خواصّ أصحابه في إخراج الخلافة منهم إلى المُعزّ لدين الله العلوي أو لغيره مِن العلويين، ففي ذلك

١٨٩

بَعْد:

(١) إنّ الديلم مِن الشيعة الإماميّة، والإماميّة كما لا يَرون صحّة الخلافة العباسيّة ووجوب طاعة الخُلفاء العباسيّين، لا يرون وجوب طاعة مَن يليها مِن العلويّين أيضاً، سواء أكانوا سُنّة أم شيعة، ومذهبهم في الإمامة والخلافة مَعروف، وهي أنّها لا تكون إلاّ بالنصّ.

(٢) إنّ مُعزّ الدولة الّذي يَركن إليه أخوه عِماد الدولة، وهو مؤسّس الدولة البويهيّة، والداهية المُحنّك في الاستيلاء على العراق، ويفوض إليه هذا الأمر، وهو جدّ عليم أنّ ذلك لا يَتطلّب الشجاعة وقوّة الجيش وكثرة العدد فحسب، بل يَتطلّب الحكمة والتدبير وبراعة السياسة، ولا سيّما في قُطر كقُطر العراق، والطامحون في الاستيلاء عليه والنُفوذ على سُلطان الخلافة مِن التُرك والأكراد والعرب والديلم كثيرون، فهل يخفى على مُعزّ الدولة أنّ مِثل هذه المُحاولة لا تتمّ له إنْ قصد إليها، وهل يَجهل أنّ صرف الخلافة عن العباسيّين ليست مِن الأُمور الهيّنة، وحتّى مِن الشيعة العَرب مَن يتعصّب لها، دع ما لها مِن العصبيّة السنيّة مِن مُختلف العناصر، على أنّه لا يجهل أنّ إفريقيا قاعدة الخُلفاء العلويّين لا تَزيد في نُفوذ سلطانه، بل هي أحوج إلى مَن يردّ عنها أيدي المُتغلّبين، دع ما بين ممالك أخَويه وبين العراق مِن قُرب المسافات، والبُعد ما بينها وبين إفريقية، ولِقُربِ المواصلات وبُعدها أثرها البيِّن في سَوق الجيوش، ونقل العَتاد إذا احتاج إلى نجدتهم.

(٣) على افتراض صحَّة الخلافة العلويّة عند الإماميّة الاثني عشريّة، ومُعزّ الدولة والديالمة منهم، فهل يَرون صحّة خلافة مَن لم يكن على طريقتهم ومَذهبهم؟ فهل والحالة هذه لا يرون خلافة العلوي الإسماعيلي أو غيره أصحّ مِن خلافة العبّاسي السُنّي؟

فأنت ترى أنّ مُحاولة مِثل هذا الأمر لا تنطبق على المذهب الإماميّ، ولا على السياسة الملكيّة الرشيدة، وهُما ممّا لا يجهلهما مُعزّ الدولة ومُستشاروه.

الحربُ بين مُعزّ الدولة وناصر الدولة الحمداني:

في رجب سنة ٣٣٤ جرت حربٌ بين مُعزّ الدولة وناصر الدولة الحمداني انتهت بفوز مُعزّ الدولة في المُحرّم سَنة ٣٣٥ فاستقرار الصُلح بينه وبين ناصر الدولة. وقد بسطنا ذلك في تاريخ بني حَمدان وأخبار ناصر الدولة.

١٩٠

إقطاع البلاد وتخريبها واضطراب الأُمور:

وفي هذه السَنة شَغَبَ الجُند على مُعزّ الدولة وأسمعوه المكروه، فضمن لهم إيصال أرزاقهم في مُدّة ذكرها لهم، فاضطرّ إلى خبط الناس وأخذ الأموال مِن غير وجوهها، وأقطع قوّاده وأصحاب القُرى جميعها الّتي للسلطان وأصحاب الأملاك، فبطل لذلك أكثر الدواوين، وزالت أيدي العُمّال، وكانت البلاد قد خَرِبَت مِن الاختلاف والغلاء والنَهب، فأخذ القوّاد القُرى العامرة، وزادت عِمارتها معهم، وتَوفّر دخلها بسَبَب الجاه، فلم يُمكن مُعزّ الدولة العود عليهم بذلك.

وأما الأتباع، فإنّ الّذي أخذوه ازداد خَراباً فردّوه، وطلبوا العوض عنه فعُوّضوا، وترك الأجناد الاهتمام بمشارب القُرى وتسوية طُرقها، فهلكت وبطل الكثير منها، وأخذ غُلمّان المُقطعين في ظُلم وتحصيل العاجل، فكان أحدُهم إذا عجز الحاصل تمّمه بمُصادراتها.

ثُمّ إنّ مُعزّ الدولة فوّض حماية كلّ موضع إلى بعض أكابر أصحابه، فاتّخذه مُسكناً وأطمعه، فاجتمع إليهم الأُخوة وصار القوّاد يَدّعون الخسارة في الحاصل، فلا يقدر وزيره ولا غيره على تحقيق ذلك، فإنْ اعترضهم مُعترض صاروا أعداءً له، فتُركوا وما يُريدون، فازداد طَمعهم ولم يقِفوا عند غاية، فتَعذّر على مُعزّ الدولة جَمعُ ذخيرة تكون للنوائب والحوادث، وأكثَرَ مِن إعطاء غُلمانه الأتراك والزيادة لهم في الإقطاع، فحسدهم الديلم، وتولّد مِن ذلك الوحشة والمُنافرة، فكان منهُما البلاء على مُعزّ الدولة.

صُلح مُعزّ الدولة وأبي القاسم البريدي:

في هذه السنة اصطلح مُعزّ الدولة وأبو القاسم البريدي، وضَمِن أبو القاسم مدينة واسط وأعمالها منه.

استقرار مُعزّ الدولة ببغداد وإعادة المُطيع إلى دار الخلافة وصُلح مُعزّ الدولة وناصر الدولة:

في المُحرّم سَنة ٣٣٥ استقرّ مُعزّ الدولة ببغداد، وأعاد المُطيع لله إلى دار الخلافة بعد أن استوثق منه، وفيها اصطلح مُعزّ الدولة وناصر الدولة

١٩١

كما سبق بيان ذلك، وكانت الرُسل تَتردّد بينهما بغير عِلمٍ مِن الأتراك التورونيّة.

اختلاف مُعزّ الدولة وأبي القاسم البريدي:

في هذه السَنة اختلف مُعزّ الدولة وأبو القاسم بن البريدي والي البصرة، فأرسل مُعزّ الدولة جيشاً إلى واسط، فسيَّر إليهم ابن البريدي جيشاً مِن البصرة في المّاء وعلى الظَهر، فالتقوا واقتتلوا فانهزم أصحاب البريدي، وأُسِر مِن أعيانهم جماعة كثيرة.

استيلاء مُعزّ الدولة على البصرة:

في سنة ٣٣٦ سار مُعزّ الدولة ومعه المُطيع لله إلى البصرة؛ لاستنقاذها مِن يد أبي القاسم عبد الله بن أبي عبد الله البريدي، وسلكوا البريّة إليها، فأرسل القرامطة مِن هَجَر إلى مُعزّ الدولة يُنكرون عليه مسيره إلى البريّة بغير أمرهم وهي لهم، فلم يُجبهم عن كتابهم، وقال للرسول:

قل لهم: مَن أنتم حتّى تستأمروا، وليس قصدي مِن أخذ البصرة غيركم، وستعلمون ما تقولون منّي.

ولمّا وصل مُعزّ الدولة إلى الدرهميّة استأمن إليه عساكر أبي القاسم البريدي، وهرب أبو القاسم في الرابع والعشرين مِن ربيع الآخر إلى هَجَر والتجأ إلى القرامطة، ومَلَك مُعزّ الدولة البصرة، فانحلّت الأسعار ببغداد انحلالاً كثيراً، وسار مُعزّ الدولة مِن البصرة إلى الأهواز ليلقى أخاه عِماد الدولة، وأقام الخليفة وأبو جعفر الصيمري بالبصرة، وخالف كوركير - وهو مِن أكابر القوّاد - على مُعزّ الدولة، فسيّر إليه الصيمري فقاتله فانهزم كوركير، وأُخذ أسيراً فحبسه مُعزّ الدولة بقلعة رامهرمز، ولقي مُعزّ الدولة أخاه عِماد الدولة بأرجان في شعبان، وقبَّلَ الأرض بين يديه، وكان يقف قائماً عنده فيأمره بالجلوس فلا يفعل، ثُمّ عاد إلى بغداد، وعاد المُطيع أيضاً إليها، وأظهر مُعزّ الدولة أنّه يُريد أنْ يسيرَ إلى الموصل، فتردّدت الرُسل بينه وبين ناصر الدولة واستقر الصُلح، وحَمل المّال إلى مُعزّ الدولة فسكت عنه.

مِلكُ مُعزّ الدولة الموصل وعوده منها:

في سنة سبع وثلاثين وثلاثمئة سار مُعزّ الدولة مِن بغداد إلى الموصل

١٩٢

قاصداً ناصر الدولة، وانتهى الأمر مَعه إلى ما مرَّ في ترجمة رُكن الدولة.

حرب الصيمري وزير مُعزّ الدولة لعِمران بن شاهين وعوده بأمر مُعزّ الدولة بعد تَضييقه على عِمران:

في سنة ٣٣٨ استفحل أمرُ عِمران بن شاهين وقوي شأنه، وخافته القوافل حتّى انتهى الأمر بتسيير مُعزّ الدولة وزيره أبي جعفر الصيمري لمُحاربته، فعودته بأمره مِن محاربته، بسبب موت أخيه عماد الدولة، واضطراب جيشه بفارس، وإرسال الصيمري إلى شيراز لإصلاح الأُمور فيها، وقد ذكرنا ذلك في تاريخ بني عِمران بن شاهين، كما استوفينا جميع أخبارهم مِن مُبتدأ أمرهم إلى انتهائه، فليُطلَب في موضعه مِن هذا التاريخ.

وفي سنة ٣٣٩ توفّي أبو جعفر محمّد بن أحمد الصيمري بأعمال الجامدة الّتي كانت تحت سلطة عِمران بن شاهين، وكان قد عاد مِن فارس مُحاصِراً لابن شاهين، فاستوزر مُعزّ الدولة بعده أبا محمّد الحسن بن محمّد المهلبي، وكان يَخلُف الصيمري بحضرة مُعزّ الدولة، فعرف أحوال الدواوين، فامتحنه مُعزّ الدولة، فرأى فيه ما يُريد مِن الأمانة والكفاية والمَعرفة بمصالح الدولة وحُسن السيرة، فاستوزره ومكّنه مِن وزارته فأحسن السيرة، وأزال كثيراً مِن المظالم خُصوصاً بالبصرة، فإنّ البريديّين كانوا قد أظهروا فيها كثيراً مِن المظالم، فأزالها وقرّب أهل العِلم والأدب وأحسن إليهم، وتنقّل في البلاد لكشف ما فيها مِن المظالم وتخليص الأموال، فحَسُن أثره رحمه الله.

مُعاودة مُعزّ الدولة حرب عِمران بن شاهين:

في هذه السنة بعد موت الصيمري ازداد ابن شاهين قوّة وجُرأة، فسيّر إليه مُعزّ الدولة جيشاً يقوده المهلبي، فانهزم جيش المهلبي، وجرتْ أُمور انتهت بمُصالحة مُعزّ الدولة لابن شاهين، وتقليده له أعمال البطائح ممّا زاد في استفحال أمره، ولا يُفيد تفاصيل هذه الأخبار؛ لأنّها مبسوطة في تاريخ دولة بني شاهين مِن هذا الكتاب.

١٩٣

حِصار يوسف بن وجيه البصرة وانهزامه:

في سنة ٣٤١ سار يوسف بن وجيه صاحب عمان في البحر والبرّ إلى البصرة فحصرها، وكان سَبَب ذلك أنْ مُعزّ الدولة لمّا سلك البريّة إلى البصرة، وأرسل القرامطة يُنكرون عليه ذلك، وأجابهم بما سبق ذِكره في غير هذا المكان، عَلِم يوسف بن وجيه استيحاشهم مِن مُعزّ الدولة، فكَتب إليهم يُطمعهم في البصرة، وطلب منهم أنْ يَمدّوه مِن ناحية البر، فأمدّوه بجمع كثير منهم، وسار يوسف في البحر فبلغَ الخبر إلى الوزير المهلبي، وقد فرغ مِن الأهواز والنظر فيها، فسار مُجدّاً في العساكر إلى البصرة، فدخلها قَبل وصول يوسف إليها وشحنها بالرجال، وأمدَّه مُعزّ الدولة بالعساكر وما يحتاج إليه، وتحارب هو وابن وجيه أيّاماً، ثُمّ انهزم ابن وجيه وظَفرَ المهلبي بمراكبه وما معه مِن سلاح وغيره.

ضَربُ مُعزّ الدولة وزيره المهلبي بالمقارع:

وفي هذه السنة في ربيع الأوّل ضَربَ مُعزّ الدولة وزيره أبا محمّد المهلبي بالمقارع مئةً وخمسين مقرعة، ووكّل به في داره ولم يَعزله مِن وزارته، وكان نَقِم عليه أُموراً ضربه بسببها.

الخطبة لمُعزّ الدولة في مكة:

في سنة ٣٤٢ سيَّر الحجّاج الشريفين أبا الحسن محمّد بن عبد الله وأبا عبد الله أحمد بن عمر بن يحيى العلويّين، فجرى بينهما وبين عساكر المصريّين مِن أصحاب ابن طغج حَرب شديدة، وكان الظفر لهُما فُخطِب لمُعزّ الدولة بمكّة، فلمّا خرجا مِن مكّة لحقهما عسكر مصر فقاتلهما، فظفرا به أيضاً.

وفي سنة ٣٤٣ وقعت الحرب بمكّة بين أصحاب مُعزّ الدولة، فخُطب بمكة والحجاز لرُكن الدولة ومُعزّ الدولة وولده عزّ الدولة بختيار وبعدهم لابن طغج.

١٩٤

إرسالُ مُعزّ الدولة سبكتكين في جيش لشهرزور:

وفي هذه السَنة أرسل مُعزّ الدولة سبكتكين في جيش إلى شهرزور في رجب، ومعه المنجنيقات لفتحها، فسار إليها وأقام بتلك الولاية إلى المُحرّم مِن سَنة أربع وأربعين وثلاثمئة، فعاد ولم يُمكنه فتحها؛ لأنّه اتّصل به خروج عساكر خُراسان إلى الري.

مَرض مُعزّ الدولة وانتقاض ابن شاهين:

في سنة ٣٤٣ في ذي القعدة عرض لمُعزّ الدولة مَرض، وهو دوام الإنعاظ - يُسمى فريافسمس - مع وجع شديد في ذَكَرِه مع تَوتُّر أعصابه، وكان مُعزّ الدولة خوّاراً في أمراضه، فأرجف الناس به، واضطربت بغداد، فاضطرّ إلى الرُكوب فركب في ذي الحجّة على ما به مِن شِدّة المرض، فلمّا كان في المُحرّم مِن سنة ٣٤٤ أوصى إلى ابنه بختيار، وقلَّده الأمر بعده وجعله أمير الأُمراء، وبلغَ عِمران بن شاهين أنّ مُعزّ الدولة قد مات، فجرتْ منه أُمور أدّت إلى انفساخ الصُلح، وقد ذُكِر هذا في دولة بني شاهين.

إنجاده أخاه رُكن الدولة بعسكر لمُدافعة الخُراسانيّة:

وفي هذه السَنة استمدّ أخوه رُكن الدولة لمُدافعة الخُراسانيّة الخارجين إلى مملكته في الري، فأمدّه بعسكر مُقدّمهم الحاجب سبكتكين، وقد مرَّ خَبر ذلك في ترجمة رُكن الدولة.

عصيان روزبهان على مُعزّ الدولة:

في سَنة ٣٤٥ خَرج روزبهان بن ونداد خرشيد الديلمي على مُعزّ الدولة، وعصى عليه، وخرج أخوه بلكا بشيراز، وخرج أخوهما أسفار بالأهواز، ولحق به روزبهان إلى الأهواز، وكان يُقاتل عِمران بالبطيحة، فعاد إلى واسط وسار إلى الأهواز في رَجب وبها الوزير المهلبي، فأراد مُحاربة روزبهان فاستأمن رجاله إلى روزبهان، فانحاز المهلبي عنه، وورد الخبر بذلك إلى مُعزّ الدولة فلم يُصدّق به، لإحسانه إليه، لأنّه رفعه بعد الضِعَة ونَوّه

١٩٥

بذِكره بعد الخُمول، فتجّهز مُعزّ الدولة إلى محاربته، ومال الديلم بأسرهم إلى روزبهان، ولقوا مُعزّ الدولة بما يَكره، واختلفوا عليه وتتابعوا على المسير إلى روزبهان، وسار مُعزّ الدولة عن بغداد خامس شعبان، وخرج الخليفة المُطيع لله مُنحدراً إلى مُعزّ الدولة؛ لأنّ ناصر الدولة لمّا بَلغه الخبر سيَّر العساكر مِن الموصل مع ولده أبي المرجا جابر لقصد بغداد والاستيلاء عليها، فلمّا بَلغَ ذلك الخليفة انحدر مِن بغداد، فأعاد مُعزّ الدولة الحاجب سبكتكين وغيره ممَّن يثقُ بهم مِن عسكره إلى بغداد، فشَغبَ الديلم الّذين ببغداد، فوُعِدوا بأرزاقهم فسكنوا، وهُم على قنوط مِن مُعزّ الدولة.

وأمّا مُعزّ الدولة، فإنّه سار إلى أنْ بلغ قنطرة أدبق فنزل هُناك، وجعل على الطرق مَن يحفظ أصحاب الديلم مِن الاستئمان إلى روزبهان؛ لأنّهم كانوا يأخذون العطاء منه ثُمّ يهربون عنه، وكان اعتماد مُعزّ الدولة على أصحابه الأتراك ومماليكه ونَفَرٌ يسيرٌ مِن الديلم، فلمّا كان سلخ رمضان أراد مُعزّ الدولة العُبور هو وأصحابه الّذين يثقُ بهم إلى مُحاربة روزبهان، فاجتمع الديلم وقالوا لمُعزّ الدولة:

إنْ كُنّا رجالك فأخرجنا معك نقاتل بين يديك، فإنّه لا صبر لنا على القعود مع الصبيان والغُلمّان، فإنْ ظفرت كان الاسم لهؤلاء دوننا، وإنْ ظفرَ عدوّك لَحِقنا العار. وإنّما قالوا هذا الكلام خديعة ليُمكّنهم مِن العبور معه فيتمكّنون منه، فلمّا سمع قولهم سألهم التوقّف، وقال:

إنّما أُريد أنْ أذوق حَربهم ثُمّ أعود، فإذا كان الغد لقيناهم بأجمعنا وناجزناهم. وكان يُكثر لهم العطاء فأمسكوا عنه، وعبر مُعزّ الدولة وعبر أصحابه كراديس تتناوب الحملات، فما زالوا كذلك إلى غروب الشمس، ففني نشّاب الأتراك وتعبوا، وشكوا إلى مُعزّ الدولة ما أصابهم مِن التَعب، وقالوا:

نَستريح الليلة ونعود غَداً، فعلِم مُعزّ الدولة أنّه إنْ رجِع رجف إليه روزبهان والديلم، وثار معهم أصحابه الدَيلم يهلُك ولا يُمكنه الهَرب، فبكى بين يَدَي أصحابه وكان سريع الدمعة، ثُمّ سألهم أنْ تُجمع الكراديس كلّها ويحملوا حَملة واحدة، وهو في أوّلهم فإمّا أنْ يَظفروا، وإمّا أنْ يُقتل أوّل مَن يُقتل، فطالبوه بالنشاب، فقال:

قد بقيَ مع صغار الغُلمّان نشّاب فخذوه واقسّموه، وكان جماعة صالحة مِن الغُلمّان الأصاغر تحتهم الخيل الجياد وعليهم اللبس الجيّد، كانوا سألوا مُعزّ الدولة أنْ يأذن لهم في الحرب فلم يَفعل، وقال:

إذا جاء وقت يَصلح لكم أذنت لكُم في القتال، فوجّه إليهم

١٩٦

تلك الساعة مَن يأخذ منهم النشّاب، وأومأ مُعزّ الدولة إليهم بيده أنْ اقبلوا منه، وسلّموا إليه النشّاب، فظنّوا أنّه يأمرهم بالحملة، فحملوا وهُم مستريحون، فصدموا صفوف روزبهان فخرقوها، وألقوا بعضها فوق بعض فصاروا خَلفهم، وحمل مُعزّ الدولة فيمَن معه باللتوت، فكانت الهزيمة على روزبهان وأصحابه، وأُخذ روزبهان أسيراً وجماعة مِن قوّاده، وقتَل مِن أصحابه خَلق كثير، وكَتب مُعزّ الدولة بذلك، فلمْ يُصدِق الناس لما علموا مِن قُوّة روزبهان وضعف مُعزّ الدولة، وعاد إلى بغداد ومَعَه روزبهان يراه الناس، وسَيَّر سبكتكين إلى أبي المرجا بن ناصر الدولة، وكان بعكبرا فلم يَلحقه؛ لأنّه لمّا بلغه الخبر عاد إلى الموصل، وسَجن مُعزّ الدولة روزبهان، فبلغه أنْ الديلم قد عزموا على إخراجه قهراً، والمُبايعة له فأخرجه ليلاً وغَرّقه.

وأمّا أخو روزبهان الّذي خرج بشيراز، فإنّ الأُستاذ أبا الفضل بن العميد سار إليه في الجيوش فقاتله فظفرَ به، وأعاد عضُد الدولة بن رُكن الدولة إلى مُلكه، وانطوى خبَر روزبهان وأخوته، وكان قد اشتعل اشتعال النار، فقَبض مُعزّ الدولة على جماعة مِن الديلم وترك مَن سواهم، واصطنع الأتراك وقدّمهم، وأمرهم بتوبيخ الديلم والاستطالة عليهم، ثُمّ أطلق للأتراك إطلاقات زائدة على واسط والبصرة، فساروا لقبضها مُدلين بما صنعوا، فأخربوا البلاد ونهبوا الأموال، وصار ضرَرُهم أكثر مِن نفعهم.

استيلاء مُعزّ الدولة على الموصل:

لم يكن ناصر الدولة يَثبت مع مُعزّ الدولة على عَهد وصلح، فما يَبرم معه عهداً وصُلحاً حتّى يُنقضه ما بين عشيّة، كلمّا لاحت له فرصة الخروج فقد اختلفا كثيراً، وانتهى اختلافهما إلى اتّفاق وسُرعان ما يعود ناصر الدولة فينسخ ذلك الاتّفاق، وقد عرفت في خَبر خُروج روزبهان وأخَوَيه أنْ ناصر الدولة انتهزها فُرصة فسيّر ولده أبا المرجا إلى بغداد، وكان ذلك بعد صُلح معقود على ألفَي ألف درهم كلّ سَنة، ولكنّ ناصر الدولة أخّر حمل المال مُضافاً إلى ما أساء إليه في وقت الشدّة، وكان ذلك في سنة ٣٤٧، ممّا اضطرّ مُعزّ الدولة للتجهُّز إلى الموصل، فسار نحوها في مُنتصف جمادى الأولى ومعه وزيره المهلبي، وانتهى الأمر بعد مواقع وحُروب بينهما إلى فِرار ناصر الدولة إلى أخيه سيف الدين في

١٩٧

حلب، وتوسّط سيف الدولة في الصُلح وكفالته المال المُرتّب عليه، إلى غير ذلك ممّا بسطناه في تاريخ الحمدانيّين أحد أجزاء هذا الكتاب.

زواجُ مُؤيّد الدولة بن رُكن الدولة بابنة عمّه مُعزّ الدولة:

في سنة ٣٤٨ سار مؤيّد الدولة بن رُكن الدولة مِن الريّ إلى بغداد، فتَزوّج بابنة عمّه مُعزّ الدولة، ونقلها معه إلى الري، ثُمّ عاد إلى أصبهان.

بِناءُ مُعزّ الدولة دورَه ببغداد بعد إبلاله مِن مرض أقلقه:

في المُحرّم سنة ٣٥٠هـ مرض مُعزّ الدولة وامتنع عليه البول، ثُمّ كان يبول بعد جُهد ومشقّة دماً، وتبعه البول والحصار، فاشتدّ جَزعه وقلقه، وأحضر الوزير المهلبي والحاجب سبكتكين، فأصلح بينهما ووصّاهما بابنه بختيار، وسلّم جميع ماله إليه، ثُمّ إنّه عوفي، فعَزِم على المسير إلى الأهواز؛ لأنّه اعتقد أنّ ما اعتاده مِن الأمراض إنّما هو بسبب مقامه ببغداد، وظنّ أنّه إنْ عاد إلى الأهواز عاوده ما كان فيه مِن الصحّة ونَسيَ الكِبَر والشباب، فلمّا انحدر إلى كلواذا ليتوجّه إلى الأهواز أشار عليه أصحابه بالمَقام، وأنْ يُفكّر في هذه الحَركة ولا يَعجل، فأقام بها، ولم يُؤثِر أحدٌ مِن أصحابه انتقاله لمُفارَقة أوطانهم، وأسَفَاً على بغداد كيف تَخرب بانتقال دار المَلك عنها، فأشاروا عليه بالعود إلى بغداد، وأنْ يبني بها له داراً في أعلى بغداد لتكون أرقّ هواء وأصفى ماء ففعل، وشَرع في بناء داره في موضع المسناة المُعزيّة، فكان مَبلَغ ما خَرَجَ عليها إلى أنْ مات: ثلاثة عشر ألف ألف درهم، فاحتاج بسَبَب ذلك إلى مُصادرة جماعة مِن أصحابه.

تَوليتهُ القضاءِ بالضمان:

في هذه السَنة تولّى قضاء القضاة أبو العبّاس بن عبد الله بن الحسن بن أبي الشوارب، وضَمِن أنْ يؤدّي كلّ سَنة مئتي ألف دِرهم، وهو أوّل مَن ضَمِن القضاء، وكان ذلك أيام مُعزّ الدولة، ولم يُسمع بذلك قبله، فلم يأذن له الخليفة المُطيع لله بالدخول عليه، وأمر بأنْ لا يحضر الموكب لِما ارتكبه مِن ضمان القضاء، ثُمّ ضُمِنَت بعدُ الحُسبة والشَرطة ببغداد.

١٩٨

استئمانُ أبي القاسم أخي عِمران بن شاهين إلى مُعزّ الدولة:

في هذه السَنة وصل أبو القاسم أخو عِمران بن شاهين إلى مُعزّ الدولة مُستأمِناً.

ما كُتِبَ على مساجد بغداد بأمر مُعزّ الدولة:

في ربيع الآخر مِن سنة ٣٥١هـ كَتب عامّة الشيعة ببغداد بأمر مُعزّ الدولة على المساجد ما هذه صورته:(لُعِن معاوية بن أبي سفيان، ولُعِن مَن غَصب فاطمة (رضي الله عنها) فَدكاً، ومَن مَنع مِن أنْ يُدفن الحسن عند قبر جدّه (عليه السلام)، ومَن نفى أبا ذرٍّ الغفاري، ومَن أخرج العبّاس مِن الشورى).

فأمّا الخليفة، فكان مَحكوماً عليه لا يقدر على المَنع، وأمّا مُعزّ الدولة، فبأمره كان ذلك، فلمّا كان الليل حكّه بعضُ الناس، فأراد مُعزّ الدولة إعادته، فأشار عليه الوزير أبو محمّد المهلبي بأنْ يَكتب مكان ما مُحي:(لعن الله الظالمين لآل رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)) ، ولا يَذكر أحداً في اللعن إلاّ معاوية، ففعل ذلك.

وفاةُ المهلبي وأُمور غريبة صدرت مِن مُعزّ الدولة:

في جمادى الآخرة سن ٣٥٢هـ سار الوزير المهلبي وزير مُعزّ الدولة في جيش كَثيف إلى عُمان ليفتحها، فلمّا بلغَ البحر اعتلّ واشتدّت عِلّته فأُعيد إلى بغداد فدُفن بها، وقبضَ مُعزّ الدولة أمواله وذخائره وكلّ ما كان له، وأخذ أهله وأصحابه وحواشيه حتّى ملاّحه ومَن خدمه يوماً واحداً، فقبض عليهم وحبسهم، فاستعظم الناس ذلك واستقبحوه، وكانت مُدّة وزارته ثلاث عشرة سَنة وثلاثة أشهر، وكان كريماً فاضلاً ذا عقل ومروءة فمات بموته الكرم، ونظر في الأُمور بعده أبو الفضل العبّاس بن الحسين الشيرازي، وأبو الفَرَج محمّد بن العبّاس بن فسانجس مِن غير تسمية لأحدهما بوزارة.

أمرُ مُعزّ الدولة الناس بإبطال أعمالهم وإقامة عزاء الحسين بن علي (عليه السلام):

في عاشر المُحرّم مِن هذه السَنة أمر مُعزّ الدولة الناس أنْ يُغلقوا دكاكينهم، ويُبطلوا الأسواق والبيع والشراء، وأنْ يُظهروا النياحة ويلبسوا قباباً

١٩٩

عملوها بالمسوح، وأنْ يَخرُج النساء مُنشرات الشُعور، مُسودّات الوجوه، قد شققنَ ثيابهنّ، يَدرن في البلد بالنوائح، ويلطمن وجوههن على الحسين بن علي رضي الله عنهما، ففعل الناس ذلك، ولم يكن للسُنّة قُدرة على المنع منه؛ لكثرة الشيعة، ولأنّ السلطان معهم.

ومُعزّ الدولة هو أوّل مَن سنَّ هذه السُنّة، وألزم الناس بها في كلِّ يوم عاشر مِن مُحرّم كلّ سَنة، وكانت مَثارة فِتن بين السُنّة والشيعة.

مِلكُ مُعزّ الدولة الموصل وعوده منها:

وفي رجب سنة ٣٥٣هـ سار مُعزّ الدولة مِن بغداد إلى الموصل وملكها، وبعد تضييقه على ناصر الدولة وفراره منه أعاده إليه، وقرّر بينهما الصُلح، وقد استوفينا خَبر ذلك في أخبار الحمدانيّين فلا نُعيده.

طاعةُ أهل عُمان مُعزّ الدولة وما كان مِنهم:

وفي سنة ٣٥٤هـ سيَّر مُعزّ الدولة عسكراً إلى عُمان، فلقوا أميرها وهو نافع مولى يوسف بن وجيه، وكان يوسف قد هَلك ومَلكَ نافع البلد بعده، وكان أسود، فدخل نافع في طاعة مُعزّ الدولة، وخطب له وضرب له اسمه على الدينار والدرهم، فلمّا عادَ العسكر عنه وثب به أهل عُمان فأخرجوه عنهم، وأدخلوا القرامطة الهَجريّين إليهم، وتَسلّموا البَلد فكانوا يُقيمون فيها نهاراً ويَخرجون ليلاً إلى مُعسكرهم، وكتبوا إلى أصحابهم بهَجَر يُعرّفونهم الخبر ليأمروهم بما يفعلون.

ما تَجدّد لعُمان واستيلاء مُعزّ الدولة عليها:

بعد هرب نافع عن عُمان واستيلاء القرامطة عليها، كان معهم كاتب يُعرَف بعلي بن أحمد ينظر في أُمور البلد، وكان بعُمان قاضٍ له عشيرة وجاه، فاتّفق هو وأهل البلد أنْ يَنصبوا في الإمرة رجلاً يُعرف بابن طغان، وكان مِن صِغار القوّاد بعُمان وأدناهم مَرتبة، فلمّا استقرّ في الإمرة خافَ ممَّن فوقه مِن القوّاد، فقبضَ على ثمانين قائداً، فقتل بعضهم وغَرّق بعضهم، وقَدِم البلد ابنا أُخت رجُل ممَّن قد غرَّقهم فأقاما مُدّة، ثُمّ إنّهما دخلا على طغان يوماً مِن أيّام السلام، فسلما عليه فلمّا تقوّض المجلس قتلاه، فاجتمع

٢٠٠

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576