الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٩

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل13%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 576

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 576 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 264407 / تحميل: 11789
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٩

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

الواقع ـ هي خلاصة أخيرة لكل البحوث التوحيدية التي وردت في السورة ، وهي ثمرة لمفاهيمها جميعا ، إذ هي تخاطب الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالقول :( وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِ ) .

ومثل هذا الرّب في مثل هذه الصفات ، هو أفضل من كل ما تفكّر به :( وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً ) .

ونلاحظ في هذه الآية عدة أمور :

١ ـ تناسب الصفات الثلاثية

في الآيات أعلاه تمّت الإشارة إلى ثلاث صفات من صفات الله ، ثمّ بملاحظة الأمر الوارد في نهاية الآية تكتمل الى اربع صفات.

أوّلا : نفي الولد ، لأنّ امتلاك الولد دليل على الحاجة ، وأنّه جسماني ، وله شبيه ونظير ، والخالق جلّ وعلا ليس بجسم ولا يحتاج لولد ، وليس له شبيه ونظير.

الثّاني : نفي الشريك( وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ ) حيث أن وجود الشريك دليل محدودية القدرة والحكومة والسلطة ، وهو دليل العجز والضعف ، ويقتضي وجود الشبيه والنظير. والخالق جلّ وعلا منزّه عن هذه الصفات ، فقدرته كما هي حكومته غير محدودة ، وليس له أي شبيه.

الثّالث : نفي الولي والحامي عند التعرّض للمشاكل والهزائم( وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِ ) .

ونفي هذه الصفة عن الخالق يعتبر أمر بديهي إنّ الآية تنفي أي مساعد للخالق أو شبيه له ، سواء كان ذلك في مرحلة أدنى (كالولد) أو في مرحلة مساوية (كالشريك) أو أفضل منه (كالولي).

نقل العلّامة الطبرسي في (مجمع البيان) عن بعض المفسّرين الذين لم يذكر

١٨١

أسماءهم بصراحة قولهم : «إنّ هذه الآية تنفي ثلاثة اعتقادات منحرفة لثلاث مجاميع:المجموعة الأولى هم المسيحيون واليهود الذين يقولون بوجود الولد للخالق ، والثّانية مجموعة مشركي العرب الذين قالوا بوجود الشريك له سبحانه ، لذلك فإنّهم كانوا يقولون عند كل صباح وفي طقوس خاصّة : لبيك لا شريك لك ، إلّا شريكا هو لك! أمّا المجموعة الثّالثة ، فهم عبدة النجوم والمجوس الذين يقولون بوجود الولي والحامي للخالق».

٢ ـ ما هو التكبير؟

القرآن يؤكّد على رسوله أن يكبّر الله ، وهذا تعني أنّ الغرض من ذلك هو الإعتقاد بهذا الأمر ، وليس فقد ذكر (الله أكبر) على اللسان.

إنّ معنى الإعتقاد بأنّ (الله أكبر) أن لا نقيسه مع المخلوقات الأخرى ، ونقول بأنّه أعظم وأكبر منها ، لأنّ مثل هذه المقايسة خطأ من الأساس. إنّنا يجب أن نعتبره أعظم وأكبر من أن نقيسه بشيء ، كما يعلمنا ذلك الإمام الصادقعليه‌السلام في مقولته القصيرة اللفظ والكبيرة المعنى ، حيث نقرأ فيها ما نصّه :

قال رجل عند الإمام الصادقعليه‌السلام : الله أكبر.

فقالعليه‌السلام : «الله أكبر من أي شيء؟».

قال الرجل : من كل شيء.

فقالعليه‌السلام : «حددته».

فقال الرجل : كيف أقول؟

قالعليه‌السلام : قل : «الله أكبر من أن يوصف»(١) .

وفي حديث آخر عن الإمام الصادقعليه‌السلام أيضا نقرأ عن جميع بن عمير قال : قال أبو عبد اللهعليه‌السلام : «أي شيء ، الله أكبر».

__________________

(١) نور الثقلين ، ج ٣ ، ص ٢٣٩.

١٨٢

فقلت : الله أكبر من كل شيء.

فقال : «وكان ثمّ شيء فيكون أكبر منه».

فقلت : فما هو؟

قالعليه‌السلام : «أكبر من أن يوصف»(١) .

٣ ـ الإجابة على هذا السؤال

قد يطرح هنا هذا السؤال : كيف يكون حمد الخالق في الآية أعلاه في قبال الصفات السلبية ، في حين أنّنا نعلم بأنّ (الحمد) هو في قبال الصفات الثبوتية كالعلم والقدرة ، أمّا صفات مثل نفي الولد والشريك والولي فهي تتلاءم مع التسبيح فكيف مع الحمد؟

في الجواب على هذا السؤال نقول : بالرغم من أنّ طبيعة الصفات السلبية والثبوتية تختلف بضعها عن بعض وإنّ إحداهما تتلاءم مع التسبيح والأخرى تتلاءم مع الحمد ، إلّا أنّه في الوجود الخارجي (العيني) يكون الاثنان لازمين وملزومين ، فنفي الجهل عن الخالق يكون ملازما لإثبات العلم له ، كما أنّ إثبات العلم لذاته جلّ وعلا ملازم لنفي الجهل.

وعلى هذا الأساس فلا مانع تارة من ذكر اللازم وأخرى من ذكر الملزوم.

كما ذكر التسبيح في بداية هذه السورة لأمر في قوله :( سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى ) .

دعاء الختام : إلهي املأ قلوبنا بنور العلم حتى نخضع لعظمتك ، ونؤمن بما وعدت ، ونلتزم ما أمرت ، لا نعبد غيرك ، ولا نتوكل إلّا عليك.

إلهنا ، وفقنا في حياتنا اليومية في أن لا نخرج عن حدّ الاعتدال ، وأن نبتعد عن كل إفراط وتفريط.

__________________

(١) المصدر السّابق.

١٨٣

إلهنا ، لك الحمد ولك الشكر ، وأنت الواحد الكبير ، أكبر من أن تحدّ في وصف،فاغفر لنا ، وثبتنا في خطواتنا ، وانصرنا على أعدائنا ، وأوصل انتصاراتنا بالانتصار النهائي للمصلح المهديعليه‌السلام ، ووفقنا لتكميل هذا التّفسير وارحمنا برحمتك وتقبلنا في رضاك.

نهاية سورة الإسراء

* * *

١٨٤

سورة الكهف

مكّية

وعدد آياتها مائة وعشر آيات

١٨٥
١٨٦

سورة الكهف

فضيلة سورة الكهف

١ ـ عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «ألا أدلكم على سورة شيعها سبعون ألف ملك، حين نزلت ملأت عظمتها ما بين السماء والأرض؟ قالوا : بلى.

قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : سورة أصحاب الكهف من قرأها يوم الجمعة غفر الله له إلى الجمعة الأخرى ، وزيادة ثلاثة أيّام ، وأعطي نورا يبلغ السماء ، ووقي فتنة الدجّال»(١) .

٢ ـ وعن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «من حفظ عشر آيات من أوّل سورة الكهف،ثمّ أدرك الدجّال لم يضره. ومن حفظ خواتيم سورة الكهف كانت له نورا يوم القيامة»(٢) .

٣ ـ وعن الإمام أبي عبد الله الصادقعليه‌السلام قال في فضل سورة الكهف : «من قرأ سورة الكهف في كلّ ليلة جمعة لم يمت إلّا شهيدا ، وبعثه الله مع الشهداء ، ووقف يوم القيامة مع الشهداء»(٣) .

لقد قلنا مرارا : إنّ عظمة السور القرآنية وتأثيرها المعنوي ، وبركاتها

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ٣ ص ٤٤٧.

(٢) المصدر السابق.

(٣) مجمع البيان ، ج ٣ ، ص ٤٤٧.

١٨٧

الأخلاقية ، إنّما يكون بسبب الإيمان بها والعمل وفقا لمضامينها.

وبما أنّ قسما مهمّا من هذه السورة يتعرض إلى قصّة تحرك مجموعة من الفتية ضدّ طاغوت عصرهم ، ودجّال زمانهم ، هذا التحّرك الذي عرّض حياتهم ووجودهم للخطر وللموت لولا عناية الباري بهم ورعايته لهم. لذا فإنّ الالتفات إلى هذه الحقيقة ينير القلب بنور الإيمان ، ويحفظه من الذنوب وإغواءات الدجالين ، ويعصمه من الذوبان في المحيط الفاسد.

إنّ ممّا يساعد على تكميل هذا الأثر النفوس والقلوب هو ما تثيره السورة من أوصاف الآخرة ويوم الحساب ، والمستقبل المشؤوم الذي ينتظر المستكبرين ، وضرورة الالتفات إلى علم الخالق المطلق وإحاطته بكل شيء.

إنّ كل ذلك ممّا يحفظ الإنسان من فتن الشيطان ، ويجعل نور الإيمان يشع فيه ، ويغرس العصمة في قلبه ، وتكون عاقبته مع الشهداء والصدقين.

محتوى سورة الكهف

تبدأ السورة بحمد الخالق جلّ وعلا ، وتنتهي بالتوحيد والإيمان والعمل الصالح.

يشير محتوى السورة ـ كما في أغلب السور المكّية ـ إلى قضية المبدأ والمعاد والترغيب والإنذار. وتشير أيضا إلى قضية مهمّة كان المسلمون يحتاجونها في تلك الأيّام بشدّة ، وهي عدم استسلام الأقلية ـ مهما كانت صغيرة ـ إلى الأكثرية مهما كانت قوية في المقاييس الظاهرية ، بل عليهم أن يفعلوا كما فعلت المجموعة الصغيرة القليلة من أصحاب الكهف ، أن يبتعدوا عن المحيط الفاسد ويتحركوا ضدّه.

فإذا كانت لديهم القدرة على المواجهة ، فعليهم خوض الجهاد والصراع ، وإن

١٨٨

عجزوا عن المواجهة فعليهم بالهجرة.

من قصص هذه السورة أيضا قصّة شخصين ، أحدهما غنيّ مرفه إلّا أنّه غير مؤمن ، والآخر فقير مستضعف ولكنّه مؤمن. وقد صمد الفقير المستضعف المؤمن ولم يفقد شرفه عزته وإيمانه أمام الغني ، بل قام بنصيحته وإرشاده ، ولمّا لم ينفع معه تبرأ منه ، وقد انتهت المواجهة إلى انتصاره.

وهذه القصّة تذكر المسلمين وخاصّة في بداية عصر الإسلام وتقول لهم : إنّ من سنة الأغنياء أن يكون لهم فورة من حركة ونشاط مؤقت سرعان ما ينطفئ لتكون العاقبة للمؤمنين.

كما يشير جانب آخر من هذه السورة إلى قصة موسى والخضرعليهما‌السلام لم يستطع الصبر في مقابل أعمال كان ظاهرها يبدو مضرا ، ولكنّها في الواقع كانت مليئة بالأهداف والمصالح ، إذ تبيّنت لموسىعليه‌السلام وبعد توضيحات الخضر مصالح تلك الأعمال ، فندم على تعجله.

وفي هذا درس للجميع أن لا ينظروا إلى ظاهر الحوادث والأمور ، وليتبصروا بما يكمن خلف هذه الظواهر من بواطن عميقة وذات معنى.

قسم آخر من السورة يشرح أحوال (ذي القرنين) وكيف استطاع أن يطوي العالم شرقه وغربه ، ليواجه أقواما مختلفة بآداب وسنن مختلفة ، وأخيرا استطاع بمساعدة بعض الناس أن يقف بوجه مؤامرة (يأجوج) و (مأجوج) وأقام سدا حديديا في طريقهم ليقطع دابرهم (تفصيل كل هذه الإشارات المختصرة سيأتي لاحقا إن شاء الله تعالى) حتى تكون دلالة هذه القصة بالنسبة للمسلمين ، هو أن يهيئوا أنفسهم ـ بأفق أوسع ـ لنفوذ إلى الشرق والغرب بعد أن يتحدوا ويتحصنوا ضدّ أمثال يأجوج ومأجوج.

الظريف أنّ السورة تشير إلى ثلاث قصص (قصة أصحاب الكهف ، قصة

١٨٩

موسى والخضر ، وقصة ذي القرنين) حيث أنّ هذه القصص بخلاف أغلب القصص القرآنية لم تكرّر في مكان آخر من القرآن (أشارت الآية (٩٦) من سورة الأنبياء إلى يأجوج ومأجوج دون ذكر ذي القرنين). وهذه الإشارة تعتبر واحدة من خصائص هذه السورة المباركة.

وخلاصة الكلام أن السورة تحتوي على مفاهيم تربوية مؤثرة في جميع الأحوال.

* * *

١٩٠

الآيات

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

( الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً (١) قَيِّماً لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً (٢) ماكِثِينَ فِيهِ أَبَداً (٣) وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً (٤) ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لِآبائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِباً (٥) )

التّفسير

البداية باسم الله ، والقرآن :

تبدأ سورة الكهف ـ كما في بعض السور الأخرى ـ بحمد الله ، وبما أنّ الحمد يكون لأجل عمل أو صفة معينة مهمّة ومطلوبة ، لذا فإنّ الحمد هنا لأجل نزول القرآن الخالي من كل اعوجاج ، فتقول الآية :( الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً ) .

هذا الكتاب هو كتاب ثابت ومحكم ومعتدل ومستقيم ، وهو يحفظ المجتمع الإنساني ويحمي سائر الكتب السماوية.

١٩١

( قَيِّماً ) وينذر الظالمين من عذاب شديد :( لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ ) . وفي نفس الوقت فهو :( وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً ) . وهؤلاء في نعيمهم( ماكِثِينَ فِيهِ أَبَداً ) .

ثمّ تشير الآيات إلى واحدة من انحرافات المعارضين ، سواء كانوا نصارى أو يهود أو مشركين ، حيث تنذرهم هذا الأمر فتقول :( وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً ) فهي تحذر النصارى بسبب اعتقادهم بأنّ المسيح ابن الله ، وتحذر اليهود لأنّهم اعتقدوا بأنّ عزير ابن الله، وتحذّر المشركين لظّنهم بأنّ الملائكة بنات الله.

ثمّ تشير الآيات إلى أصل أساسي في إبطال هذه الادعاءات الفارغة فتقول : إنّ هؤلاء لا علم لهم ولا يقين بهذا الكلام ، وإنّما هم مقلدون فيه للآباء ، وإنّ آباءهم على شاكلتهم في الجهل وعدم العلم :( ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لِآبائِهِمْ ) . بل : ولد؟ أو أن يحتاج إلى الصفات المادية وأن يكون محدودا إنّه كلام رهيب ، ومثل هؤلاء الذين يتفوهون به لا ينطقون إلّا كذبا :( إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً ) .

بحوث

* * *

١ ـ افتتاح السورة بحمد الله سبحانه وتعالى

هناك خمس سور في القرآن الكريم تبدأ بحمد الله ، ثمّ تعرج بعد الحمد والثناء على قضايا خلق السموات والأرض (أو ملكية الله سبحانه وتعالى لها) أو هداية العالمين ، عدا هذه السورة التي تتناول بعد الحمد والثناء مسألة نزول القرآن على نبيّنا محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

وفي حقيقة الأمر إنّ السور الأربع «الأنعام ـ سبأ ـ فاطر ـ الحمد» تتناول القرآن التكويني ، فيما تتطرق سورة الكهف إلى القرآن التدويني ، وكما هو معلوم فإنّ الكتابين، أي (القرآن التدويني) وخلق الكون وما فيه (القرآن التكويني) كل

١٩٢

منهما مكمّل للآخر ، وهذا يوضح أنّ للقرآن وزن يعادل الخلق. وأساسا فإنّ تربية الخلائق الواردة في الآية( الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ ) غير ممكنة ، ما لم يستفاد بصورة تامة من الكتاب السماوي العظيم ، أي القرآن.

٢ ـ القرآن كتاب ثابت ومستقيم وحافظ

كلمة «قيّم» على وزن كلمة «سيّد» ومشتقة من مصدر الكلمة «قيام» وهنا تأتي بمعنى (الثبات والصمود) إضافة إلى أنّها تعني المدبّر والحافظ لبقية الكتب السماوية ، كما تعني كلمة «قيّم» في نفس الوقت الاعتدال والاستقامة التي لا اعوجاج فيها وإضافة إلى أنّ كلمة «قيم» هي وصف للقرآن في عدم وجود أي اعوجاج في آياته ، بل إنّ في مضمونها تأكيد على استقامة واعتدال القرآن ، وخلوّه من أي شكل من أشكال التناقض ، وإشارة إلى أبدية وخلود هذا الكتاب السماوي العظيم ، وكونه أسوة لحفظ الأصالة ، وإصلاح الخلل ، وحفظ الأحكام الإلهية والعدل والفضائل البشرية.

صفة (القيّم) مشتقة من (قيمومة) الباريعزوجل التي تعني اهتمام الباريعزوجل وحفظه جميع الكائنات ، والقرآن الذي هو كلام الله له نفس الصفة أيضا.

كما وصف الله سبحانه وتعالى دينه في عدّة آيات قرآنية بأنّه (القيّم) حتى أنّه أمر نبيّه الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالعمل وفق ما يمليه الدين القيّم والمستقيم :( فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ ) (١) .

وما ذكر أعلاه بشأن تفسير كلمة «قيّم» ، أخذ من عدّة تفاسير مختلفة ، وهو خلاصة لما قاله المفسّرون من أنّ كلمة «قيّم» تعني الكتاب الباقي الذي لا ينسخ ، أو الكتاب الحافظ للكتب السابقة ، أو الكتاب القيّم على الدين ، أو الخالي من الاختلافات والتناقضات ، وكل هذه المعاني انصبت في المفهوم الذي ذكرناه.

__________________

(١) الروم ، ٤٣.

١٩٣

واعتبر بعض المفسّرين أنّ جملة( لَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً ) تعني فصاحة ألفاظ القرآن وكلمة «قيما» تعني البلاغة والاستقامة بالرغم من عدم امتلاكهم لأي دليل واضح على هذا التباين(١) ، والظاهر أنّ الكلمتين تؤكّد كل منهما الأخرى ، مع فرق أن كلمة «قيّم» لها مفهوم واسع ، وتعني اضافة إلى معنى الاستقامة ، المحافظ والمصلح للكتب المساوية الأخرى(٢) .

٣ ـ انذارين شديدين عام وخاص :

بعد الإنذار العام الذي وجهته الآيات في البداية لكافة البشر ، وجهت الآيات المذكورة آنفا إنذارا خاصّا للذين ادّعوا بأنّ لله ولدا وهذا ما يوضح خطورة الانحراف العقائدي الذي أصاب المسيحيين واليهود والمشركين ، وانتشر بصورة واسعة في الأجواء التي نزل القرآن ، ومن الطبيعي فإنّ انتشار مثل هذه الأفكار يقضي على روح التوحيد في ذلك المجتمع ، إذ حدّوا الله سبحانه وتعالى بحدود مادية وجسمية ، وأنّه يمتلك عواطف وأحاسيس بشرية ، إضافة إلى وجود أكفاء وشركاء له ، وأنّه يحتاج إلى الآخرين.

وبسبب هذه المعتقدات نزلت آيات عديدة للردّ على تلك الشبهات ، ومنها الآية (٦٨) في سورة يونس :( قالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً سُبْحانَهُ هُوَ الْغَنِيُ ) والآيات من (٨٨) إلى (٩١) في سورة مريم :( وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا ، تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً ) .

وما جاء في هذه الآيات المباركة يوضح قوّة الرّد الإلهي على تلك الادعاءات ، حيث أكّدت على العقاب الشديد الذي ينتظر من يعتقدون بمثل هذه

__________________

(١) روح المعاني ، المجلد ١٥ ، أثناء تفسير الآية.

(٢) «قيم» من الناحية اللغوية «حال» وعامله «أنزل».

١٩٤

الخرافة ، لأنّ من يدّعي باتّخاذ الله سبحانه وتعالى ولدا ، إنّما يمس كبرياء الباريعزوجل وعظمته ، وينزله إلى المستوى البشري المادي(١) .

٤ ـ الادعاء الفارغ

إنّ البحث في المعتقدات والمبادئ المنحرفة ، كشف عن أنّ أغلبها ليس له أي دليل واقعي ، ولكن بعض الأشخاص يتخذها كشعار كاذب كي يتبعه الآخرون ، وتنتقل أحيانا من جيل إلى آخر كعادة. والقرآن هنا يلقي علينا دروسا في تجنب الادعاءات التي ليس لها أي دليل أو سند قوي ، ويأمرنا بعدم إعارة أية أهمية لناقلها ومروجها ، وقد اعتبر الله تبارك وتعالى تلك الأعمال من الكبائر ، وعدّها مصدرا للكذب والدجل.

ولو اتّخذ المسلمون هذا الأصل منهجا في حياتهم ، أي عدم التحدّث بشيء من دون التأكيد منه ، ورفض أي شيء ليس له دليل ، وعدم الاهتمام بالإشاعات الفارغة ، لتحسن الكثير من أمورهم وتصرفاتهم الخاطئة.

٥ ـ العمل الصالح برنامج مستمر

الآيات المذكورة أعلاه عند ما تتحدّث عن المؤمنين ، تعتبر العمل الصالح بمثابة برنامج مستمر ، إذ أنّ كلمة (يعملون في قوله تعالى :( يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ ) فعل مضارع ، والفعل المضارع يدل على الاستمرارية ، فالعمل الصالح يمكن أن يصدر صدفة أو بسبب ما عن أي شخص ، فلا يكون حينئذ دليلا على الإيمان الصادق ، لكن استدامة العمل الصالح دليل الإيمان الصادق.

__________________

(١) حول عقيدة التثليث واعتقاد المسيحيين بأنّ المسيح ابن الله يمكن مراجعة ما جاء في ذيل الآية (١٧١) من سورة النساء في تفسيرنا هذا.

١٩٥

٦ ـ صفة العبد أرقى وسام للإنسان

وأخيرا ، إنّ القرآن عند ما يتحدّث في آياته عن قضية نزول الكتاب السماوي يقول:( الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ ) وهذا يعني أن صفة «العبد» هي أرقى وسام وأعلى مرتبة ينالها الإنسان في معراج تكامله المعنوي ، فإذا نال الإنسان وسام العبودية لله تعالى ، فإنّه يرى أن كل شيء في العالم ملكا لله ، وعملا يسلك سبيل الطاعة لأوامر الله والتمسك بالنهج الذي رسمه وحدّده تعالى للإنسان ، ولا يفكر في سواه ويرى أنّ خير شرف للإنسان أن يكون عبدا صالحا وملتزما بأوامر ونواهي الباريعزوجل .

* * *

١٩٦

الآيات

( فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً (٦) إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً (٧) وَإِنَّا لَجاعِلُونَ ما عَلَيْها صَعِيداً جُرُزاً (٨) )

التّفسير

العالم ساحة اختبار :

الآيات السابقة كانت تتحدّث عن الرسالة وقيادة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لذا فإنّ أوّل آية نبحثها الآن ، تشير إلى أحد أهم شروط القيادة ، ألا وهي الإشفاق على الأمّة فتقول:( فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً ) .

وهنا يجب الانتباه إلى بعض الملاحظات :

أوّلا : «باخع» من «بخع» على وزن ، «نخل» وهي بمعنى إهلاك النفس من شدّة الحزن والغم.

ثانيا : كلمة «أسفا» والتي تبيّن شدّة الحزن والغم ، هي تأكيد على هذا الموضوع.

ثالثا : «آثار» جمع «أثر» وهي في الأصل تعني محل موضع القدم ، إلّا أنّ أي

١٩٧

علامة تدل على شيء معين تسمّى أثرا.

إنّ الاستفادة من هذا التعبير في الآيات أعلاه تشير إلى ملاحظة لطيفة ، وهي أنّ الإنسان قد يغادر في بعض الأحيان مكانا ما ، ولكنّ آثاره ستبقى بعده ، وتزول إذا طال زمن المغادرة. فالآية تريد أن تقول : أنّك على قدر من الحزن والغم ولعدم إيمانهم بحيث تريد أن تهلك نفسك من شدّة الحزن قبل أن تمحى آثارهم.

ويحتمل أن يكون الغرض من الآثار أعمالهم وتصرفاتهم.

رابعا : استخدام كلمة (حديث) للتعبير عن القرآن ، هو إشارة إلى ما ورد من معارف جديدة في هذا الكتاب السماوي الكبير ، يعني أنّ هؤلاء لم يفكروا في أن يستفيدوا ويبحثوا في هذا الكتاب الجديد ذي المحتويات المستجدّة. وهذا دليل على عدم المعرفة ، بحيث أنّ الإنسان بقدر قربه من هذا الكتاب ، إلّا أنّه لا يلتفت إليه.

خامسا : صفة الإشفاق لدى القادة الإلهيين.

نستفيد من الآيات القرآنية وتأريخ النبوات ، أنّ القادة الإلهيين كانوا يتألمون أكثر ممّا نتصور لضلال الناس ، وكانوا يريدون لهم الإيمان والهداية. ويألمون عند ما يشاهدون العطاشى جالسين بجوار النبع الصافي ، ويأنون من شدّة العطش ، الأنبياء يبكون لهم ويجهدون أنفسهم ليلا ونهارا ، ويبلغون سرّا وجهارا ، وينادون في المجتمع من أجل هداية الناس. إنّهم يألمون بسبب ترك الناس للطريق الواضح الى الطرق المسدودة ، هذا الألم يكاد يوصلهم في بعض الأحيان إلى حدّ الموت. ولو لم يكن القادة بهذه الدرجة من الاهتمام لما انطبق عليهم المفهوم العميق للقائد.

وبالنسبة لرسول الهدىصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كانت تصل به حالة الحزن والشفقة إلى مرحلة خطرة على حياته بحيث أنّ الله تبارك وتعالى يسلّيه.

في سورة الشعراء نقرأ في الآيتين (٣ ، ٤) قوله تعالى( لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا

١٩٨

يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ ) .

الآية التي بعدها تجسّد وضع هذا العالم وتكشف عن أنّه ساحة للاختبار والتمحيص والبلاء ، وتوضح الخط الذي ينبغي أن يسلكه الإنسان :( إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها ) .

لقد ملأنا العالم بأنواع الزينة ، بحيث أنّ كلّ جانب فيه يذهب بالقلب ، ويحيّر الأبصار ، ويشير الدوافع الداخلية في الإنسان ، كيما يتسنى امتحانه في ظل هذه الإحساسات والمشاعر ووسط أنواع الزينة وأشكالها ، لتظهر قدرته الإيمانية ، ومؤهلاته المعنوية.

لذلك تضيف الآية مباشرة قوله تعالى :( لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً ) .

أراد بعض المفسّرين حصر معنى( ما عَلَى الْأَرْضِ ) بالعلماء أو بالرجال فقط، ويقولوا : إنّ هؤلاء هم زينة الأرض ، في حين أنّ لهذه الكلمة مفهوما واسعا يشمل كل الموجودات على الكرة الأرضية.

والظّريف هنا استخدام الآية لتعبير( أَحْسَنُ عَمَلاً ) وليس (أكثر عملا) وهي إشارة إلى أنّ حسن العمل وكيفيته العالية هما اللذان يحدّدان قيمته عند ربّ العالمين ، وليس كثرة العمل أو كميته.

على أي حال فإنّ هنا إنذار لكل الناس ، لكل المسلمين كي لا ينخدعوا في ساحة الاختبار بزينة الحياة الدنيا ، وبدلا من ذلك عليهم أن يفكروا بتحسين أعمالهم.

ثمّ يبيّن تعالى أنّ أشياء الحياة الدنيا ليست ثابتة ولا دائمة ، بل مصيرها إلى المحو والزوال :( وَإِنَّا لَجاعِلُونَ ما عَلَيْها صَعِيداً جُرُزاً ) .

«صعيد» مشتقّة من «صعود» وهي هنا تعني وجه الأرض ، الوجه الذي يتّضح فيه التراب.

١٩٩

و «جرز» تعني الأرض التي لا ينبت فيها الكلأ وكأنّما هي تأكل نباتها ، وبعبارة أخرى فإنّ «جرز» تطلق على الأرض الموات بسبب الجفاف وقلّة المطر.

إنّ المنظر الذي نشاهده في الربيع في الصحاري والجبال عند ما تبتسم الورود وتتفتح النباتات ، وحيث تتناجى الأوراق ، وحيث خرير الماء في الجداول إنّ هذه الحالة سوف لا تدوم ولا تبقى ، إذ لا بدّ أن يأتي الخريف ، حيث تتعرى الأغصان وتنطفئ البسمة من شفاه الورود ، وتذبل البراعم ، وتجف الجداول ، وتموت الأوراق ، وتسكت فيها نغمة الحياة.

حياة الإنسان المادية تشبه هذا التحوّل ، فلا بدّ أن يأتي ذلك اليوم الذي يضع نهاية للقصور التي تناطح السماء ، ولملابس الباذخة والنعم الكثيرة التي يرفل بها الإنسان ، كذلك تنتهي المناصب والمواقع والاعتبارات ، وسوف لن يبقى شيء من المجتمعات البشرية سوى القبور الساكنة اليابسة ، وهذا درس عظيم.

* * *

٢٠٠

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

والبعض الآخر قال : إنّها مسألة الخلق والرزق والحياة والموت والعزّة والذلّة فقط.

والبعض الآخر عنون مسألة الخلق والموت بالنسبة للإنسان وقال : إنّ لله جيوشا ثلاثة : جيش ينتقل من أصلاب الآباء إلى أرحام الامّهات ، وجيش يخرج إلى عالم الدنيا من أرحام الامّهات ، وجيش يساق من عالم الدنيا إلى القبور.

وكما قلنا فإنّ للآية مفهوما واسعا يشمل كلّ خلق جديد وخلقة جديدة ، ويشمل كلّ تغيير وتحوّل في هذا العالم.

ونقرأ في رواية لأمير المؤمنينعليه‌السلام أنّه قال في أحد خطبه : «الحمد لله الذي لا يموت ولا تنقضي عجائبه لأنّه كلّ يوم هو في شأن ، من إحداث بديع لم يكن»(١) .

ونقرأ في حديث آخر للرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في تفسيره الآية الكريمة : «من شأنه أن يغفر ذنبا ويفرّج كربا ويرفع قوما ويضع آخرين»(٢) .

ولا بدّ من الانتباه لهذه النقطة أيضا : إنّ المقصود من (يوم) هو ليس (النهار) في مقابل (الليل) بل يشمل الأحقاب المتزامنة ، وكذلك الساعات واللحظات ، ومفهومه أنّ الله المتعال في كلّ زمان في شأن وعمل.

كما أنّ البعض ذكروا شأنا نزوليا للآية ، وهو أنّها نزلت ردّا على قول اليهود الذين يعتقدون أنّ اللهعزوجل يعطّل كلّ الأعمال في يوم السبت ، ولا يصدر أي حكم(٣) . فالقرآن الكريم يقول : إنّ خلق الله وتدبيره ليس له توقّف.

ومرّة اخرى ـ بعد هذه النعم المستمرّة والإجابة لاحتياجات جميع خلقه من أهل السماوات والأرض يكرّر قوله سبحانه :( فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ ) .

* * *

__________________

(١) أصول الكافي مطابق نقل نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ١٩٣.

(٢) مجمع البيان نهاية الآية مورد البحث ، ونقل هذا الحديث أيضا في روح المعاني من صحيح البخاري.

(٣) مجمع البيان ، ج ٩ ، ص ٢٠٢.

٤٠١

بحوث

١ ـ ما هي حقيقة الفناء؟

ما مرّ بنا في الآيات السابقة وهو أنّ «الكلّ يفنى إلّا الله» ليس بمعنى الفناء المطلق ، وأنّ روح الإنسان تفنى أيضا أو أنّ التراب الناشئ من بدنه بعد الموت سينعدم أيضا ، إذ أنّ الآيات القرآنية صرّحت بوجود عالم البرزخ إلى يوم القيامة(١) .

ومن جهة اخرى فإنّ الله سبحانه يذكر لمرّات عدّة أنّ الموتى يخرجون من قبورهم يوم القيامة(٢) .

ويذكر سبحانه في آية اخرى أنّ رميم العظام يلبس الحياة مرّة اخرى بأمر الله(٣) .

وهذه الآيات كلّها شاهد على أنّ الفناء في الآية والآيات الاخرى بمعنى اضطراب نظام الجسم والروح وقطع الارتباط بينهما واضطراب عالم الخلقة كذلك ، وحلول عالم جديد محلّ العالم السابق.

٢ ـ استمرار الخلق والإبداع

قلنا : إنّ الآية الكريمة :( كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ ) تدلّ على دوام الخلقة واستمرار الخلق ، وأنّها مبعث أمل من جهة ، ونافية للغرور من جهة اخرى ، لذا فانّ القادة الإسلاميين يعتمدون عليها كثيرا لبعث الأمل في النفوس ، كما نقرأ ذلك في تبعيد الصحابي الجليل «أبى ذرّ الغفاري» إلى (الربذة) حيث يذكر التاريخ أنّ علياعليه‌السلام جاء لتوديعه فواساه بكلمات مؤثّرة ، ثمّ أعقبه ابنه الإمام الحسنعليه‌السلام حيث خاطب أبا ذر رضى الله عنه بقوله «يا عمّاه» تكريما له وأعقبه أخوه سيّد الشهداء الإمام

__________________

(١) المؤمنون ، ١٠٠.

(٢) سورة يس ، ٥١.

(٣) سورة يس ، ٧٩.

٤٠٢

الحسينعليه‌السلام بقوله لأبي ذرّ : «يا عمّاه إنّ الله تعالى قادر على أن يغيّر ما قد ترى. الله كلّ يوم في شأن ، وقد منعك هؤلاء القوم دنياهم ومنعتهم دينك فاسأل الله الصبر والنصر(١)

ونقرأ أيضا أنّ الإمام الحسينعليه‌السلام وهو في طريقه إلى كربلاء لقي الشاعر «الفرزدق» عند (صفاح) فسأله الإمامعليه‌السلام عن خبر الناس خلفه ـ إشارة إلى أهل العراق ـ فقال : الخبير سألت ، قلوب الناس معك ، وسيوفهم مع بني أميّة ، والقضاء ينزل من السماء والله يفعل ما يشاء. فقال الإمام الحسينعليه‌السلام : (صدقت لله الأمر يفعل ما يشاء وكلّ يوم ربّنا في شأن)(٢) .

وكلّ ذلك يرينا أنّ هذه الآية هي الآية باعثة للأمل في نفوس المؤمنين.

وثمّة قصّة اخرى في هذا الصدد حيث ذكروا أنّ أحد الأمراء سأل وزيره عن تفسير هذه الآية ، إلّا أنّ الوزير أعلن عن عدم علمه بها وطلب مهلة ليوم غد ، ورجع إلى البيت محزونا ، وكان لديه غلام أسود ذو علم ومعرفة ، فسأله عمّا به ، فحدّث غلامه بالقصّة ، فأجابه : إذا ذهبت إلى الأمير فأخبره إذا كان يرغب في معرفة تفسير هذه الآية فأنا مستعدّ لذلك فطلبه الأمير وسأله ، فأجابه الغلام : يا أمير ، شأنه يولج الليل في النهار ، ويولج النهار في الليل ، ويخرج الحيّ من الميّت ، ويخرج الميّت من الحيّ ، ويشفي سقيما ، ويسقم سليما ، ويبتلي معافى ، ويعافي مبتلى ، ويعزّ ذليلا ، ويذلّ عزيزا ، ويفقر غنيّا ، ويغني فقيرا

فقال الأمير : «فرّجت عنّي فرّج الله عنك» ثمّ أكرمه وأنعمه(٣) .

٣ ـ الحركة الجوهرية

__________________

(١) الغدير ، ج ٨ ، ص ٣٠١.

(٢) الكامل لابن الأثير ، ج ٤ ، ص ٤٠.

(٣) تفسير القرطبي ، ج ٩ ، ص ٦٣٣٧.

٤٠٣

بعض المؤيديّن للحركة الجوهرية يستدلّون لإثبات مرادهم بالآيات القرآنية أو يعتبرونها إشارة لمقصودهم ، ومن ضمن ما يستشهدون به الآية الكريمة :( كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ ) .

التوضيح : يعتقد الفلاسفة القدماء أنّ للحركة أربع مقولات عرضية هي : (أين ، كيف ، كم ، وضع).

وبتعبير أوضح أنّ حركة الجسم تكون بتغيير مكانه وذلك بانتقاله ، وهذه هي مقولة (الأين) ، أو بنموّه أو زيادة كمّيته وهذه مقولة «الكم». أو تغيّر اللون والطعم والرائحة (كشجرة التفاح) وهذا المقصود من «الكيف» ، أو أن يدور في مكانه حول نفسه كالحركة الوضعية للأرض وهذا ما يراد به من «الوضع».

وقد كان سائدا أنّ الحركة غير ممكنة في جوهر وذات الجسم أبدا ، لأنّه في كلّ حركة يجب أن تكون ذات الجسم المتحرّك ثابتة ، إلّا أنّ عوارضه قد تتغيّر ، فالحركة لا تتصوّر في ذات الشيء وجوهره ، بل في اعراضه.

لكنّ الفلاسفة المتأخرّين رفضوا هذه النظرية واعتقدوا بالحركة الجوهرية ، وقالوا : إنّ أساس الحركة هي الذات ، الجوهر ، والتي تظهر آثارها في العوارض.

وأوّل شخص طرح هذه النظرية بشكل تفصيلي استدلالي هو المولى صدر الدين الشيرازي حيث قال : إنّ كلّ ذرّات الكائنات وعالم المادّة في حركة دائبة ، أو بتعبير آخر : إنّ مادّة الأجسام وجود سيّال متغيّر الذات دائما ، وفي كلّ لحظة له وجود جديد يختلف عن الوجود السابق له ، ولكون هذه التغيّرات متّصلة مع بعضها فإنّها تحسب شيئا واحدا ، وبناء على هذا فإنّ لنا في كلّ لحظة وجودا جديدا ، إلّا أنّ هذه الوجودات متصلة ومستمرة ولها صورة واحدة ، أو بتعبير آخر : إنّ المادة لها أربعة أبعاد (طول وعرض وعمق وأمّا البعد الآخر فهو ما نسمّيه (الزمان) وهذا الزمان ليس بشيء إلّا مقدار الحركة في الجوهر) لاحظوا جيّدا.

وممّا يجدر ذكره أنّ الحركة الجوهرية لا ترتبط بمسألة الحركة في داخل

٤٠٤

الذرّة لأنّها حركة وضعية وعرضية ، أمّا الحركة في الجوهر فلها مفهوم عميق جدّا تشمل الذات والجوهر.

والعجيب هنا أنّ المتحرّك هو نفس الحركة.

ولإثبات هذا المقصود فإنّهم يستدلّون بدلائل عديدة لا مجال لذكرها هنا ، إلّا أنّه لا بأس بالإشارة إلى نتيجة هذا الرأي الفلسفي وهو أنّه ممّا لا شكّ فيه أنّ إدراكنا لمسألة معرفة الله أوضح من أي زمان ، لأنّ الخلق والخلقة لم تكن في بداية الخلق فحسب ، بل إنّها في كلّ ساعة وكلّ لحظة ، وإنّ الله سبحانه مستمر في خلقه ، ونحن مرتبطون به دائما ومستفيضون من فيض ذاته وهذا معنى( كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ ) .

ومن الطبيعي أن لا مانع من أن يكون هذا المفهوم جزءا من المفهوم الواسع للآية الكريمة.

* * *

٤٠٥

الآيات

( سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ (٣١) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٣٢) يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطانٍ (٣٣) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٣٤) يُرْسَلُ عَلَيْكُما شُواظٌ مِنْ نارٍ وَنُحاسٌ فَلا تَنْتَصِرانِ (٣٥) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٣٦) )

التّفسير

التحدّي المشروط :

النعم الإلهيّة التي استعرضتها الآيات السابقة كانت مرتبطة بهذا العالم ، إلّا أنّ الآيات مورد البحث تتحدّث عن أوضاع يوم القيامة ، وخصوصيات المعاد ، وفي الوقت الذي تحمل تهديدا للمجرمين ، فإنّها وسيلة لتربية وتوعية وإيقاظ المؤمنين ، بالإضافة إلى أنّها مشجّعة لهم للسير في طريق مرضاته سبحانه ، ومن هنا فإنّنا نعتبرها نعمة. لذلك بعد ذكر كلّ واحدة من هذه النعم يتكرّر نفس السؤال الذي كان يعقّب ذكر كلّ نعمة من النعم السابقة.

٤٠٦

يقول سبحانه في البداية :( سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ ) (١) (٢) .

نعم ، إنّ الله العالم القادر سيحاسب في ذلك اليوم الإنس والجنّ حسابا دقيقا على جميع أعمالهم وأقوالهم ونيّاتهم ، ويعيّن لكلّ منهم الجزاء والعقاب.

ومع علمنا بأنّ الله سبحانه لا يشغله عمل عن عمل ، وعلمه محيط بالجميع في آن واحد ، ولا يشغله شيء عن شيء (ولا يشغله شأن عن شأن) ولكنّنا نواجه التعبير في (سنفرغ) والتي تستعمل غالبا بالتوجّه الجادّ لعمل ما ، والانصراف الكلّي له ، وهذا من شأن المخلوقات بحكم محدوديتها.

إلّا أنّه استعمل هنا لله سبحانه ، تأكيدا على مسألة حساب الله تعالى لعباده بصورة لا يغادر فيها صغيرة ولا كبيرة إلّا أحصاها ، ولا يغفل عن مثقال ذرّة من أعمال الإنسان خيرا أو شرّا ، والأظرف من ذلك أنّ الله الكبير المتعال هو الذي يحاسب بنفسه عبده الصغير ، وعلينا أن نتصوّركم هي مرعبة ومخيفة تلك المحاسبة.

(الثقلان) من مادّة (ثقل) على وزن (كبر) بمعنى الحمل الثقيل وجاءت بمعنى الوزن أيضا ، إلّا أنّ (ثقل) على وزن (خبر) تقال عادة لمتاع وحمل المسافرين ، وتطلق على جماعة الإنس والجنّ وذلك لثقلهم المعنوي ، لأنّ الله تبارك وتعالى قد أعطاهم عقلا وشعورا وعلما ووعيا له وزن وقيمة بالرغم من أنّ الثقل الجسدي لهم ملحوظ أيضا كما قال تعالى :( وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها ) ،(٣) حيث ورد أنّ أحد معانيها هو خروج الناس من القبور في يوم القيامة ، إلّا أنّ التعبير في الآية مورد البحث جاء باللحاظ المعنوي ، خاصّة وأنّ الجنّ ليس لهم ثقل مادّي.

__________________

(١) يجب الالتفات إلى أنّ رسم الخطّ القديم في القرآن المجيد كتبت (أيّها) في موارد بصورة (أيّه) والتي هي في الآية مورد البحث وآيتين أخريين (النور آية ٣١ ، والزخرف آية ٤٩) في الوقت الذي تكتب (أيّها) في الحالات الاخرى بالألف الممدودة ، والملاحظ أنّها كانت على أساس قاعدة رسم الخطّ القديم.

(٢) مع كون «الثقلين» تنبيه فالضمير في لكم أتى جمعا وذلك إشارة إلى مجموعتين.

(٣) الزلزلة ، ٢.

٤٠٧

التأكيد على هاتين الطائفتين بالخصوص لأنّ التكاليف الإلهيّة مختّصة بهما في الغالب.

وبعد هذا يكرّر الله سبحانه سؤاله مرّة اخرى :( فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ ) .

وتعقيبا على الآية السابقة التي كانت تستعرض الحساب الإلهي الدقيق ، يخاطب الجنّ والإنس مرّة اخرى بقوله :( يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ) للفرار من العقاب الإلهي( فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطانٍ ) أي بقوّة إلهية ، في حين أنّكم فاقدون لمثل هذه القوّة والقدرة.

وبهذه الصورة فإنّكم لن تستطيعوا أن تفرّوا من محكمة العدل الإلهي ، فحيثما تذهبون فهو ملكه وتحت قبضته ومحلّ حكومته تعالى ، ولا مناصّ لهذا المخلوق الصغير من الفرار من ميدان القدرة الإلهيّة؟ كما قال الإمام عليعليه‌السلام في دعاء كميل بن زياد المربي للروح : (ولا يمكن الفرار من حكومتك).

«معشر» في الأصل من (عشر) مأخوذ من عدد «عشرة» ، ولأنّ العدد عشرة عدد كامل ، فإنّ مصطلح (معشر) يقال : للمجموعة المتكاملة والتي تتكوّن من أصناف وطوائف مختلفة.

«أقطار» جمع (قطر) بمعنى أطراف الشيء.

«تنفذوا» من مادّة (نفوذ) ، وهي في الأصل بمعنى خرق وعبور من شيء ، والتعبير (من أقطار) إشارة إلى شقّ السماوات وتجاوزها إلى خارجها.

وبالمناسبة فإنّ تقديم «الجنّ» هنا جاء لاستعدادهم الأنسب للعبور من السماوات ، وقد ورد اختلاف بين المفسّرين على أنّ الآية أعلاه هل تتحدّث عن القيامة ، أو أنّ حديثها عن عالم الدنيا ، أو كليهما؟

ولأنّ الآيات السابقة واللاحقة تتحدّث عن وقائع العالم الآخر ، فإنّ المتبادر إلى الذهن أنّ الآية تتحدّث عن الهروب والفرار من يد العدالة الإلهية الذي يفكّر به

٤٠٨

العاصون في ذلك اليوم.

إلّا أنّ البعض بلحاظ جملة :( لا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطانٍ ) اعتبرها إشارة إلى الرحلات الفضائية للإنسانية ، وقد ذكر القرآن شروطها من القدرة العلمية والصناعية.

ويحتمل أيضا أن يكون المقصود منها هو عالم الدنيا وعالم القيامة ، يعني أنّكم لن تتمكّنوا من النفوذ بدون قدرة الله في أقطار السماوات ليس في هذه الدنيا فحسب ، بل في عالم الآخرة أيضا ، حيث وضعت في الدنيا وسيلة محدودة لاختباركم ، أمّا في الآخرة فلا توجد أيّة وسيلة لكم.

وفسّرها البعض تفسيرا رابعا حيث قالوا : إنّ المقصود بالنفوذ هو النفوذ الفكري والعلمي في أقطار السماوات ، الذي يمكن للبشر إنجازه بواسطة القدرة الاستدلالية.

إلّا أنّ التّفسير الأوّل مناسب أكثر ، خاصّة وأنّ بعض الأخبار التي نقلت من المصادر الإسلامية تؤيّده ، ومن جملتها حديث عن الإمام الصادقعليه‌السلام حيث يقول :

«إذا كان يوم القيامة جمع الله العباد في صعيد واحد ، وذلك أن يوحي إلى السماء الدنيا أن اهبطي بمن فيك ، فيهبط أهل السماء الدنيا بمثلي من في الأرض من الجنّ والإنس والملائكة ، ثمّ يهبط أهل السماء الثانية بمثل الجميع مرتين ، فلا يزالون كذلك حتّى يهبط أهل سبع سماوات فتصير الجنّ والإنس في سبع سرادقات من الملائكة ثمّ ينادي مناد ،( يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطانٍ ) فينظرون فإذا قد أحاط بهم سبع أطواق من الملائكة»(١) .

__________________

(١) تفسير الصافي ص ٥١٧ وتفسير مجمع البيان ج ٩ ص ٢٠٥.

٤٠٩

كما أنّ الجمع بين التفاسير ممكن أيضا.

ويخاطب سبحانه هاتين المجموعتين «الجنّ والإنس» بقوله :( فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ ) .

والتهديد هنا لطف إلهي أيضا ، فالبرغم من أنّه يحمل تهديدا ظاهريا ، إلّا أنّه عامل للتنبيه والإصلاح والتربية ، حيث أنّ وجود المحاسبة في كلّ نظام هو نعمة كبيرة.

وما ورد في الآية اللاحقة تأكيد لما تقدّم ذكره في الآيات السابقة ، والذي يتعلّق بعدم قدرة الجنّ والإنس من الفرار من يد العدالة الإلهيّة حيث يقول سبحانه :( يُرْسَلُ عَلَيْكُما شُواظٌ مِنْ نارٍ وَنُحاسٌ فَلا تَنْتَصِرانِ ) .

«شواظ» كما ذكر الراغب في المفردات ، وابن منظور في لسان العرب ، وكثير من المفسّرين أنّه بمعنى (الشعلة العديمة الدخان) وفسّرها آخرون بأنّها (ألسنة النار) التي تقتطع من النار نفسها حسب الظاهر ، وتكون خضراء اللون. وعلى كلّ حال فإنّ هذا التعبير يشير إلى شدّة حرارة النار.

و «نحاس» بمعنى الدخان أو (الشعل ذات اللون الأحمر مصحوبة بالدخان) والتي تكون بلون النحاس ، وفسّرها البعض بأنّها (النحاس المذاب) وهي لا تتناسب في الظاهر مع ما ورد في الآية مورد البحث ، لأنّها تتحدّث عن موجود يحيط بالإنسان في يوم القيامة ويمنعه من الفرار من حكومة العدل الإلهي.

وكم هي عجيبة (محكمة القيامة) حين يحاط الإنسان إحاطة تامّة بالملائكة والنار الحارقة والدخان القاتل ، ولا مناص إلّا التسليم لحكم الواحد الأحد في ذلك اليوم الرهيب.

ثمّ يضيف سبحانه قوله :( فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ ) .

والكلام هنا عن النعم والآلاء من أجل ما ذكرنا من اللطف في الآية السابقة.

* * *

٤١٠

الآيات

( فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ فَكانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهانِ (٣٧) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٣٨) فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ (٣٩) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٤٠) يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي وَالْأَقْدامِ (٤١) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٤٢) هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ (٤٣) يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ (٤٤) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٤٥) )

التّفسير

يعرف المجرمون بسيماهم :

تكملة للآيات السابقة يتحدّث القرآن الكريم عن بعض مشاهد يوم القيامة ، والآيات أعلاه تذكر خصوصيات من مشاهد ذلك اليوم الموعود ، وعن كيفية الحساب والجزاء والعقاب ، يقول سبحانه في بداية الحديث :( فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ

٤١١

فَكانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهانِ ) (١) .

ويستفاد من مجموع آيات «القيامة» بصورة واضحة أنّ النظام الحالي للعالم سوف يتغيّر ويضطرب وتقع حوادث مرعبة جدّا في كلّ الوجود ، فتتغيّر الكواكب والسيّارات والأرض والسماء ، وتحصل تغيّرات يصعب تصورها ، ومن جملتها ما ذكر في الآية أعلاه ، وهي انشقاق وتناثر الكرات السماوية ، حيث يصبح لونها أحمر بصورة مذابة كالدهن.

(وردة) و (ورد) هو الورد المتعارف ، ولأنّ لون الورد في الغالب يكون أحمر ، فإنّ معنى الاحمرار يتداعى للذهن منها.

ويأتي هذا المصطلح أيضا بمعنى «الخيل الحمر» ، وبما أنّ لونها يتغيّر في فصول السنة حين يكون في الربيع مائلا إلى الصفرة ، وفي الشتاء يحمّر ، ويقتم لونها في البرد الشديد ، فتشبيه السماء يوم القيامة بها هو بلحاظ التغيّرات التي تحصل في ألوانها فتارة يكون لونها كالشعلة الوهاجة أحمر حارقا ، وأحيانا أصفر ، واخرى أسود قاتم ومعتم.

«دهان» على وزن (كتاب) ، بمعنى الدهن المذاب ، وتطلق أحيانا على الرسوبات المتخلّفة للمادّة الدهنية ، وغالبا ما تكون لها ألوان متعدّدة ، ومن هنا ورد هذا التشبيه حيث يصبح لون السماء كالدهن المذاب بلون الورد الأحمر ، أو إشارة إلى ذوبان الكرات السماوية أو اختلاف لونها.

وفسّر البعض «الدهان» بمعنى الجلد أو اللون الأحمر ، وعلى كلّ حال فإنّ هذه التشبيهات تجسّد لنا صورة من مشهد ذلك اليوم العظيم. حيث أنّ حقيقة الحوادث في ذلك اليوم ليس لها شبيه مع أيّة حوادث اخرى من حوادث عالمنا

__________________

(١) توجد احتمالات متعدّدة في أنّ (إذا) في الآية هل هي شرطية ، أم فجائية ، أم ظرفية ، والظاهر أنّ الاحتمال الأوّل هو الأولى ، وجزاء الشرط محذوف ويمكن تقديره هكذا : (فإذا انشقّت السماء فكانت وردة كالدهان ، كانت أهوال لا يطيقها البيان).

٤١٢

هذا. فهذه المشاهد لا نستطيع إدراكها إلّا إذا رأيناها.

ولأنّ الإخبار بوقوع هذه الحوادث المرعبة في يوم القيامة ـ أو قبلها ـ تنبيه وإنذار للمؤمنين والمجرمين على السواء ، ولطف من ألطاف الله سبحانه ، يتكرّر هذا السؤال :( فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ ) .

وفي الآية اللاحقة ينتقل الحديث من الحوادث الكونية ليوم القيامة إلى حالة الإنسان المذنب في ذلك اليوم ، حيث يقول سبحانه :( فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌ ) .

ولماذا هذا السؤال وكلّ شيء واضح في ذلك اليوم ، فهو يوم البروز ، وكلّ شيء يقرأ في وجه الإنسان.

قد يتوهّم أنّ المعنى الوارد في هذه الآية يتنافى مع الآيات الاخرى التي تصرّح وتؤكّد مسألة سؤال الله تعالى لعباده في يوم القيامة ، كما ورد في الآية :( وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ ) ،(١) وكما في قوله تعالى :( فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ ) .(٢)

ويحلّ هذا الإشكال إذا علمنا أنّ يوم القيامة يوم طويل جدّا ، وعلى الإنسان أن يجتاز محطّات ومواقف متعدّدة فيه ، حيث لا بدّ من التوقّف في كلّ محطّة مدّة زمنية ، وطبقا لبعض الرّوايات فإنّ عدد هذه المواقف خمسون موقفا ، وفي بعضها لا يسأل الإنسان إطلاقا ، إذ أنّ سيماء وجهه تحكي عمّا في داخله ، كما ستبيّنه الآيات اللاحقة.

كما أنّ بعض المواقف الاخرى لا يسمح له بالكلام ، حيث تشهد عليه أعضاء بدنه قال تعالى :( الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا

__________________

(١) الصافات ، ٢٤.

(٢) الحجر ، ٩٢ ـ ٩٣.

٤١٣

يَكْسِبُونَ ) .(١)

كما أنّ في بعض المحطّات يسأل الإنسان وبدقّة متناهية عن كافّة أعماله(٢) .

وفي بعض المواقف يسلك الإنسان سبيل الجدل والدفاع والمخاصمة(٣) .

وخلاصة القول : إنّ كلّ محطّة لها شروطها وخصوصياتها ، وكلّ واحدة منها أشدّ رعبا من الاخرى.

ومرّة اخرى يخاطب سبحانه عباده حيث يقول :( فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ ) .

نعم إنّه لا يسأل حيث( يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ ) (٤) فهناك وجوه تطفح بالبشر والنور وتعبّر عن الإيمان وصالح الأعمال ، واخرى مسودّة قاتمة مكفهّرة غبراء تحكي قصّة كفرهم وعصيانهم قال تعالى :( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ تَرْهَقُها قَتَرَةٌ ) .(٥)

ثمّ يضيف سبحانه :( فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي وَالْأَقْدامِ ) .

«النواصي» : جمع ناصية وكما يقول الراغب في المفردات أنّ الأصل بمعنى الشعر بمقدّمة الرأس من مادّة (نصأ) على وزن (نصر) وتعني الاتّصال والارتباط ، «وأخذ بناصيته» بمعنى أخذه من شعره الذي في مقدّمة رأسه ، كما تأتي أحيانا كناية عن الغلبة الكاملة على الشيء.

أقدام : جمع «قدم» بمعنى الأرجل.

والمعنى الحقيقي للآية المباركة هو أنّ الملائكة تأخذ المجرمين في يوم القيامة من نواصيهم وأرجلهم ، ويرفعونهم من الأرض بمنتهى الذلّة ويلقونهم في

__________________

(١) سورة يس ، ٦٥.

(٢) كما ورد في الآية موضع البحث والآيتين المشار لهما أعلاه.

(٣) كما ورد في الآية في سورة النحل الآية (١١١).

(٤) (سيما) في الأصل بمعنى العلامة ، وتشمل كلّ علامة في الوجه وسائر مواضع البدن ، ولأنّ علامة الرضا والغضب تبدو في الوجه أوّلا ، فإنّه يتداعى ذكر الوجه في ذكر هذه المفردات.

(٥) عبس. ٣٩ ـ ٤١.

٤١٤

جهنّم ، أو أنّه كناية عن منتهى ضعف المجرمين وعجزهم أمام ملائكة الرحمن ، حيث يقذفونهم في نار جهنّم بذلّة تامّة ، فما أشدّ هذا المشهد وما أرعبه!!

ومرّة اخرى يضيف سبحانه :( فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ ) لأنّ التذكير بيوم القيامة هو لطف منه تعالى.

ثمّ يقول سبحانه :( هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ ) .

وذكر المفسّرون تفاسير مختلفة حول المخاطبين المقصودين في هذه الآية الكريمة ، وهل هم حضّار المحشر؟ أو أنّ المخاطب هو شخص الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فحسب ، وقد ذكر له هذا المعنى في الدنيا؟ والمرجّح في رأينا هو المعنى الثاني خاصّة ، لأنّ الفعل (يكذّب) جاء بصيغة المضارع. وأستفيد من (المجرمون) ما يحمل على الغائب ، وهذا يوضّح أنّ الله تعالى قال لرسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : هذه أوصاف جهنّم التي ينكرها المجرمون باستمرار في هذه الدنيا. وقيل : إنّ المخاطب هو جميع الجنّ والإنس حيث يوجّه لهم إنذار يقول لهم فيه : هذه جهنّم التي ينكرها المجرمون ، لها مثل هذه الأوصاف التي تسمعونها ، لذلك يجب أن تنتبهوا وتحذروا أن يكون مصيركم هذا المصير.

ويضيف سبحانه في وصف جهنّم وعذابها المؤلم الشديد حيث يقول :( يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ ) .

«آن» و «آني» هنا بمعنى الماء المغلي وفي منتهى الحرارة والإحراق ، وفي الأصل من مادّة (إنّا) على وزن (رضا) بمعنى الوقت لأنّ الماء الحارق وصل إلى وقت ومرحلة نهائية.

وبهذه الحالة فإنّ المجرمين يحترقون وسط هذا اللهيب الحارق لنار جهنّم ، ويظمأون ويستغيثون للحصول على ماء يروي ظمأهم ، حيث يعطى لهم ماء مغلي (أو يصبّ عليهم) ممّا يزيد ويضاعف عذابهم المؤلم.

ويستفاد من بعض الآيات القرآنية أنّ (عين حميم) الحارقة تكون بجنب

٤١٥

جهنّم ، ويلقى فيها من يستحقّ عذابها ثمّ في النار يسجرون ، قال تعالى :( يُسْحَبُونَ فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ ) .(١)

والتعبير بـ( يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ ) في الآية مورد البحث ، يتناسب أيضا مع هذا المعنى.

ومرّة اخرى بعد هذا التنبيه والتحذير الشديد الموقظ ، الذي هو لطف من الله يقول البارئعزوجل :( فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ )

* * *

__________________

(١) المؤمن ، ٧١ ـ ٧٢.

٤١٦

الآيات

( وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ (٤٦) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٤٧) ذَواتا أَفْنانٍ (٤٨) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٤٩) فِيهِما عَيْنانِ تَجْرِيانِ (٥٠) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٥١) فِيهِما مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ زَوْجانِ (٥٢) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٥٣) مُتَّكِئِينَ عَلى فُرُشٍ بَطائِنُها مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دانٍ (٥٤) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٥٥) )

التّفسير

الجنّتان اللتان أعدتا للخائفين :

يترك القرآن الكريم وصفه لأهل النار وحالاتهم البائسة لينقلنا إلى صفحة جديدة من صفحات يوم القيامة ، ويحدّثنا فيها عن الجنّة وأهلها ، وما أعدّ لهم من النعم فيها ، والتي يصوّرها سبحانه بشكل مشوّق ومثير ينفذ إلى أعماق القلوب في عملية مقارنة لما عليه العاصون من عذاب شديد يحيط بهم والتي تحدّثت عنها الآيات السابقة ، وما ينتظر المؤمنين من جنّات وعيون وقصور وحور في الآيات

٤١٧

أعلاه ، يقول سبحانه :( وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ ) .

«الخوف» من مقام الله ، جاء بمعنى الخوف من مواقف يوم القيامة والحضور أمام الله للحساب ، أو أنّها بمعنى الخوف من المقام العلمي لله ومراقبته المستمرّة لكلّ البشر(١) .

والتّفسير الثّاني يتناسب مع ما ذكر في الآية (٣٣) من سورة الرعد :( أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ ) .

ونقرأ في حديث للإمام الصادقعليه‌السلام في تفسيره لهذه الآية أنّه قال : «ومن علم أنّ الله يراه ويسمع ما يقول ، ويعلم ما يعلمه من خير أو شرّ فيحجزه ذلك عن القبيح من الأعمال ، فذلك الذي خاف مقام ربّه ونهى النفس عن الهوى»(٢) .

ويوجد هنا تفسير ثالث. هو أنّ الخوف من الله تعالى لا يكون بسبب نار جهنّم ، والطمع في نعيم الجنّة ، بل هو الخوف من مقام الله وجلاله فقط.

وهنالك تفسير رابع أيضا ، وهو أنّ المقصود من (مقام الله) هو الخوف من مقام عدالته ، لأنّ ذاته المقدّسة لا تستلزم الخوف ، إنّما هو الخوف من عدالته ، الذي مردّه هو خوف الإنسان من أعماله ، والإنسان المنزّه لا يخشى الحساب.

ومن المعروف أنّ المجرمين إذا مرّوا بالمحكمة أو السجن ينتابهم شيء من الخوف بسبب جناياتهم على عكس الأبرار حيث يتعاملون بصورة طبيعيّة مع الأماكن المختلفة.

وللخوف من الله أسباب مختلفة ، فأحيانا يكون بسبب قبح الأعمال وانحراف الأفكار ، واخرى بسبب القرب من الذات الإلهيّة حيث الشعور بالخوف والقلق من الغفلة والتقصير في مجال طاعة الله ، وأحيانا اخرى لمجرّد تصوّرهم لعظمة الله

__________________

(١) في الصورة الاولى يكون المقام اسم مكان ، وفي الثانية يكون مصدرا (ميميّا).

(٢) اصول الكافي طبقا لنقل نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ١٩٧ حيث يستفاد من ذيل الحديث أنّ الإمامعليه‌السلام ذكر هذا في تفسير الآية( وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى) سورة النازعات / ٤٠ بالرغم من كون محتوى الآيتين واحد

٤١٨

اللامتناهية وذاته اللامحدودة فينتابهم الشعور بالخوف والضعة أمام قدسيته العظيمة وهذا النوع من الخوف يحصل من غاية المعرفة لله سبحانه ، ويكون خاصا بالعارفين والمخلصين لحضرته.

ولا تضادّ بين هذه التفاسير فيمكن جمعها في مفهوم الآية.

وأمّا (جنّتان) فيمكن أن تكون الاولى ماديّة جسمية ، والثانية معنوية روحية ، كما في قوله تعالى :( لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَأَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ ) .(١)

ففي هذه الآية مضافا إلى الجنّة الماديّة حيث الأنهار تجري من تحت الأشجار والمطهّرات من الزوجات ، هناك جنّة معنوية أيضا حيث الحديث عن رضوان الله تعالى.

أو أنّ الجنّة الاولى جزاء أعمالهم ، والجنّة الثانية تفضل على العباد وزيادة في الخير لهم ، يقول سبحانه :( لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ ) .(٢)

أو أنّ هناك جنّة للطاعة واخرى لترك المعصية.

أو أنّ أحدهما للإيمان ، والثانية للأعمال الصالحة.

أو لأنّ المخاطبين من الجنّ والإنس ، لذا فإنّ كلّ واحدة من هاتين الجنّتين تتعلّق بطائفة منهما.

ومن الطبيعي أن لا دليل على كلّ واحد من هذه التفاسير ، ويمكن جمعها في مفهوم هذه الآية ، إلّا أنّ من الطبيعي أنّ الله تعالى هيّأ لعباده الصالحين نعما عديدة لهم في الجنّة حيث مستقرّهم ، ولأهل النار (مياه حارقة وسعير لا يطاق).

ومرّة اخرى : وبعد ذكر هذه النعم العظيمة يخاطب الجميع بقوله :( فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ ) .

__________________

(١) آل عمران ، ١٥.

(٢) النور ، ٣٨.

٤١٩

ثمّ يضيف سبحانه في وصفه لهاتين الجنّتين بقوله :( ذَواتا أَفْنانٍ ) .

«ذواتا» تثنية (ذات) بمعنى صاحب ومالك(١) .

«أفنان» جمع (فنن) على وزن (قلم) والكلمة في الأصل بمعنى الغصون الطريّة المملوءة من الأوراق ، كما تأتي أحيانا بمعنى «النوع». ويمكن أن يستعمل المعنيان في الآية مورد البحث ، حيث في الصورة الاولى إشارة إلى الأغصان الطرية لأشجار الجنّة ، على عكس أشجار الدنيا حيث غصونها هرمة ويابسة.

كما يشير في الصورة الثانية إلى تنوّع نعم الجنّة وأنواع الهبات فيها ، لذا فلا مانع من استعمال المعنيين.

كما يحتمل أن يراد معنى آخر وهو أنّ لكلّ شجرة عدّة غصون مختلفة وفي كلّ غصن نوع من الفاكهة.

وبعد ذكر هذه النعم يكرّر سبحانه السؤال مرّة اخرى فيقول :( فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ ) .

ولأنّ البساتين النضرة والأشجار الزاهية ينبغي أن تكون لها عيون ، أضاف سبحانه في وصفه لهذه الجنّة بقوله :( فِيهِما عَيْنانِ تَجْرِيانِ ) .

ثمّ يطرح مقابل هذه النعمة الإضافية قوله :( فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ ) .

وبالرغم من أنّ الآية أعلاه لم توضّح لنا شيئا عن طبيعة هاتين العينين الجاريتين وعبّرت عنها بصيغة نكرة ، فإنّ هذه الموارد عادة تكون دليلا على العظمة الإلهيّة ، وقد ذكر بعض المفسّرين أنّ المقصود بهاتين العينين هما «سلسبيل» وتسنيم» قال تعالى :( عَيْناً فِيها تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً ) ،(٢) وقال تعالى :

__________________

(١) يعتقد البعض أنّ أصل ذات والتي هي مفرد مؤنث كانت ذوات ، والواو حذفت للتخفيف وأصبحت ذات ولكون التثنية ترجع الكلمة إلى أصلها ، لذا أصبحت (ذواتان) وقد حذفت النون عند الإضافة ، وجاء في مجمع البحرين أنّ أصل (ذو) هو (ذوا) على وزن (عصا) ولذلك فلا عجب أنّ مؤنثها يصبح (ذوات).

(٢) الإنسان ، ١٨.

٤٢٠

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576