الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٩

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل10%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 576

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 576 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 264356 / تحميل: 11788
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٩

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

قول الله أصدق مِن قولك

زرارة قال: دخلت أنا وحمران على أبي جعفر الباقر (عليه السلام)، فقلت له: مَن وافقنا مِن علويٍّ أو غيره تولَّيناه، ومَن خالفنا مِن علويٍّ أو غيره برِئنا منه.

فقال لي: (يا زرارة، قول الله أصدق مِن قولك، فأين الذين قال الله عَزَّ وجَلَّ: ( إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيل ) (1).

أين المُرجَون لأمر الله؟!

أين الذين خلطوا عَملاً صالحاً وآخر سيِّئاً؟!

أين أصحاب الأعراف؟!

أين المُؤلَّفة قلوبهم؟!) (2) .

____________________

(1) النساء: 98.

(2) المعاد، ج1.

١٠١

...............................

إنَّ سعد بن عبادة قال: إنَّ بَكراً أخا بني ساعدة، توفِّيت أُمَّه وهو غائب عنها، فقال: يا رسول الله، إنَّ أُمِّي توفِّيت وأنا غائب عنها، فهل ينفعها إنْ تصدَّقت بشيء عنها؟

قال: (نعم).

قال: فإنِّي أُشهِدك أنَّ حائط المَخْرَف صدقة عليها.

الولد الصالح كالصدقة الجارية، مصدر أجر وثواب للوالدين في عالم البرزخ، فالولد الصالح يستغفر أحياناً لوالديه، وهذا الأمر يجعل الوالدين يتمتَّعان بالعفوِّ الإلهي، والرحمة الإلهيَّة في عالم البرزخ، أو أنَّ الولد الصالح، ونظراً لأنَّ تربيته تربية صالحة مِن قِبَل أبويه، هي التي جعلته يقوم بهذا العمل الصالح الحسن؛ فإنَّ ثواب وأجر هذا العمل الصالح، الذي قام به الولد يعود إلى والديه في عالم البرزخ.

عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال:

مَرَّ عيسى بن مريم (عليه السلام) بقبر يُعذَّب صاحبه، ثمَّ مَرَّ به مِن قابل، فإذا هو ليس يُعذَّب، فقال: (يا رَبِّ مررت بهذا القبر عامَ أوَّلٍ فكان صاحبه يُعذَّب؟!).

فأوحى الله عَزَّ وجَلَّ إليه: (يا روح الله، إنَّه أدرك له ولد صالح، فأصلح طريقاً وآوى يتيماً؛ فغفرت له بما فعل ابنه) (1) .

____________________

(1) المعاد، ج1.

١٠٢

كرامة عبد المُطَّلب جَدُّ النبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)

قام إبراهيم الخليل، وابنه إسماعيل، بأمر مِن الله ببناء الكعبة، وإقامة ذلك البيت المَقْدس، وأقام إسماعيل في مَكَّة، وكان إبراهيم (عليه السلام) يأتي إلى مَكَّة في مواسم الحَجِّ، وكان إسماعيل يشكو لوالده شُحَّ المياه، وطلب منه أنْ يُساعده للتغلُّب على هذه المُشكلة، فأوحى الله إلى إبراهيم أنْ يقوم بحفر بئر لتأمين مِياه الشِّرب للحجيج، وتوفير سُبل الراحة لهم، وبالطبع فإنَّ عمليَّة حَفر البئر في تلك المنطقة، والوصول إلى الماء لم تكن عمليَّة سهلة، فأمر الله جبرائيل أنْ يُحدِّد نقطة مُعيَّنة، أو مكان مُعيَّن يُحفر فيه البئر، وهذا المكان هو الذي يقع فيه اليوم بِئر زمزم.

قاموا بالفعل بحفر البئر، وخلافاً للتوقُّعات، وصلوا إلى الماء على عُمقٍ قليل، وفرحوا كثيراً لهذه العناية الإلهيَّة.

بعد ذلك، طلب جبرائيل مِن إبراهيم أنْ ينزل إلى داخل البئر، وتبعه جبرائيل الذي طلب مِن إبراهيم أنْ يضرب بفأسه في كلِّ زاوية مِن الزوايا الأربع، في قعر البئر، وأنْ يذكر اسم الله في كلِّ مَرَّة يضرب فيها بمِعوله، وكان إبراهيم يفعل ذلك، فكان الماء يتدفَّق مِن كلِّ زاوية مِن زوايا البئر.

فقال جبرائيل: (يا إبراهيم، اشرب الآن مِن ماء البئر وادع لولدك بالبركة)، ثمَّ خرج إبراهيم وجبرائيل مِن البئر.

وفي فترة كانت قبيلة جُرهم تُسيطر على مدينة مَكَّة، وتتولَّى سَدانة الحرم الإلهي، حيث كان المسؤولون عن شؤون الكعبة، يستلمون الهدايا والقرابين، التي كان الناس في الجاهليَّة يهدونها ويُقدِّمونها إلى آلهتهم، التي كانت موجودة في داخل الكعبة، ويحتفظون بها في مكان خاصٍّ يخضع لإشرافهم.

كان في الكعبة غَزالان مِن ذهب، وخمسة أسياف فلمَّا غلبت خُزاعة جُرهم على

١٠٣

الحرم، ألقت جُرهم الأسياف والغزالين في بِئر زمزم، وألقوا فيها الحِجارة، وطمُّوها وعموا أثرها، فلمَّا غلب قُصي على خُزاعة، لم يعرفوا موضع زمزم وعَمِيَ عليهم، وبقي مكان بئر زمزم مجهولاً لا يعرفه أحد، حتى جاء دور السيادة لعبد المُطَّلب جَدِّ الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، الذي كان يحظى بمكانةٍ عظيمة، وموقعٍ اجتماعيٍّ كبيرٍ بين القبائل العربيَّة في ذلك الوقت؛ بحيث إنَّهم كانوا يفرشون له البساط لكي يستريح عليه في ظِلِّ جِدار الكعبة، ولم يكونوا يفعلون ذلك لأحدٍ مِن قبله، وفي إحدى المَرَّات، عندما كان عبد المُطَّلب نائماً عند جدار الكعبة، رأى في المنام أنَّ شَخصاً جاء إليه، وقال له: احفر زمزم واعلم أنَّه يوجد في مكان زمزم غُراب أبيض الجناحين، ووَكر للنمل، وكان بالفعل يوجد في مكان بئر زمزم صخرة، تحتها وَكْر للنمل، وفي النهار عندما كان النمل يخرج مِن وكره، كان يأتي غراب أبيض الجناح، ويلتقط النمل بمنقاره ويأكله.

وقد عرف عبد المُطَّلب مكان بئر زمزم، استناداً إلى تلك الرُّؤيا الحقيقية؛ فقام هو وأبناؤه بحفر ذلك المكان، وأزالوا عنه الحِجارة والرِّمال، حتَّى عثروا على الماء، فكبَّروا الله.

مِن خلال هذه الرُّؤيا ظهر مكان بئر زمزم، الذي كان يجهله الناس في ذلك الوقت، ظهر بصورة حقيقيَّة كما هو، وتعرَّف عبد المُطَّلب - بموجب تلك الرُّؤيا - على مكان البئر المجهول، وأُلهِم بحقيقة كانت مَخفيَّة وغير معروفة، دون أنْ تكون هناك حاجة إلى تفسير هذه الرؤيا (1) .

____________________

(1) المعاد، ج1.

١٠٤

عبد المُطَّلب وحُلْم الشجرة التي تنبت في ظهره

كان عبد المُطَّلب في إحدى الليالي إلى جانب الكعبة، بالقُرب مِن الحَجر الأسود، فرأى حُلْماً بَدَّاً عَجيباً بنظره، فسيطر عليه الخوف والهلع؛ فذهب إلى أحد مُفسِّري الأحلام، وأخبره بما رآه في المنام، وقال: رأيت في المنام أنَّ شجرة نبتت في ظهري، امتدَّت أغصانها إلى عِنان السماء، وغطَّت أوراقها وأغصانها الشرق والغرب، ثمَّ رأيت نوراً ينبعث مِن تلك الشجرة، وهو أكثر بريقاً مِن نور الشمس وضوئها، ورأيت الناس مِن العرب والعَجم يسجدون لهذه الشجرة، وكلُّ يوم كان يمرُّ كانت هذه الشجرة تزداد نوراً، ورأيت أنَّ جماعة مِن قريش جاءت لكي تجتثُّ تلك الشجرة، وتقتلعها مِن جذورها، ولكنْ كلَّما اقتربوا مِن تلك الشجرة بهدف الإساءة إليها، كان يظهر شابٌّ حَسَن الملبس والمظهر، فيصدُّهم عنها، ويقصم ظهورهم، ويقتلع عيونهم، وقد مدْدْت يدي لكي آخذ غِصناً مِن أغصانها؛ فصاح بي الشابُّ الوسيم قائلاً: أنْ أيضاً ليس لك نصيب مِن هذه الشجرة، فقلت له: ومَن هم الذين لهم نصيب منها؟

فقال: إنَّ هذه الشجرة هي مِلك للذين يتمسَّكون بها، ويُمسكون بأغصانها؛ فتغيَّر وجه الشخص الذي كان يستمع إلى هذه الرؤيا مِن عبد المُطَّلب واضطربت أحواله.

ثمَّ قال: لئِن صدقت، ليخرجَنَّ مِن صُلْبك وَلد يَمْلك الشرق والغرب، ويُنبِّأ في الناس... وكان أبو طالب يُحدِّث بهذا الحديث، والنبي قد خرج ويقول: كانت الشجرة - والله - أبا القاسم الأمين.

ووفقاً لما قاله الشخص، الذي فسَّر هذه الرؤيا، فإنَّ الرؤيا المذكورة تتضمَّن مجموعة مِن الأنباء الغيبيَّة، بدأت تتحقَّق بصورة تدريجيَّة بعد ذلك بعشرات السنين، ففي بداية الأمر يُرزَق عبد المُطَّلب بولدٍ.

١٠٥

وثانياً: هذا الولد يَحُكم الشرق والغرب.

وثالثاً: يقوم بنشر وترويج التعاليم الإلهيَّة بين الناس.

ورابعاً: هذا المولود يرتفع نجمه، وتزداد شُهرته، وتتعزَّز مكانته يوماً بعد يوم.

خامساً: مجموعة مِن قريش تبدأ في مُناهضته ومُعارضة رسالته، وبالتالي فهي تسعى للقضاء عليه.

سادساً: إنَّ شابَّاً ينبري للدفاع عن هذه الشجرة، ويقضي على المُعارضين، وهذا الشاب ليس سوى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام).

سابعاً: إنَّ يَد عبد المُطَّلب لا تصل إلى أغصان الشجرة؛ لأنَّه يُفارق الحياة قبل أنْ يُبعث الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) (1) .

____________________

(1) المعاد، ج1.

١٠٦

إيَّاكم وتعلُّم النجوم إلاَّ ما يُهتدى به في بَرٍّ أو بحر

عندما أعدَّ عليٌّ (عليه السلام) جنوده لمُحاربة الخوارج، واستعدَّ للانطلاق، تقدَّم إليه رجل، وقال له: إذا ذهبت إلى الحرب في هذا الوقت بالذات، أخاف أنْ لا تحقَّق هدفك، وتعود مُنهزماً، وقد عرفت ذلك عن طريق الحسابات الفلكيَّة، والتدقيق في أوضاع الكواكب والنجوم في السماء.

فقال (عليه السلام): (أتزعم أنَّك تهدي إلى الساعة، التي مَن سار فيها صُرِف عنه السوء، وتُخوِّف مِن الساعة، التي مَن سار فيها حاق به الضُّرُّ؟! فمَن صَدَّقك بهذا؛ فقد كَذَّب القرآن؛ واستغنى عن الاستعانة بالله في نيل المَحبوب، ودفع المكروه، وتبتغي في قولك للعامل بأمرك أنْ يُولْيك الحمد دون رَبِّه؛ لأنَّك بزعمك أنت هديته إلى الساعة التي نال فهيا النفع وأمن الضُّرَّ).

ثمَّ أقبل (عليه السلام) على الناس فقال: (أيُّها الناس، إيَّاكم وتعلُّم النجوم، إلاَّ ما يُهتدى به في بَرٍّ أو بحرٍ؛ فإنَّها تدعو إلى الكَهانة، والمُنجِّم كالكاهن، والكاهن كالساحر، والساحر كالكافر، والكافر في النار، سيروا على اسم الله) (1) .

____________________

(1) المعاد، ج1.

١٠٧

ما مؤمن يموت..

إلاَّ قيل لروحه: الحَقْي بوادي السلام

عن حبَّة العَرني قال: خرجت مع أمير المؤمنين (عليه السلام) إلى الظهر، فوقف بوادي السلام، كأنَّه مُخاطب لأقوام، فقُمت بقيامه حتَّى أعييت، ثمَّ جلست حتَّى مَلَلت، ثمَّ قُمت حتَّى نالني مِثل ما نالني أوَّلاً، ثمَّ جلست حتَّى مَلَلت، ثمَّ قُمت وجمعت ردائي، فقلت: يا أمير المؤمنين، إنِّي قد أشفقت عليك مِن طول القيام فراحة ساعة.

ثمَّ طرحت الرداء ليجلِس عليه، فقال لي: (يا حبَّة، إنْ هو إلاّ مُحادثة مؤمن أو مُؤانسته).

قلت: يا أمير المؤمنين، وإنَّهم لكذلك؟!

قال: (نعم، ولو كُشِف لك لرأيتهم حلقاً حلقاً، مُحتَبين يتحادثون).

فقلت: أجسام أمْ أرواح؟

فقال: (أرواح، وما مؤمن يموت في بُقعة مِن بِقاع الأرض، إلاَّ قيل لروحه: الحقي بوادي السلام، وإنَّها لبُقعة مِن جَنَّة عَدْنٍ) (1) .

____________________

(1) المعاد، ج1.

١٠٨

سلمان وتكليم المَيِّت له

عيَّن أمير المؤمنين (عليه السلام) سلمان الفارسي والياً على المَدائن.

ويقول أصبغ بن نُباتة: كنت مع سلمان في المدائن، وكنت أُكثِر مِن زيارته ولقائه. وفي أحد الأيَّام ذهبت لعيادته عندما كان مريضاً، وهو المرض الذي أودى بحياته في نهاية الأمر، وكنت أعوده باستمرار، وأسأل عن حاله وشيئاً فشيئاً اشتدَّ به المرض، وأيقن بالموت، فالتفت إليَّ وقال لي: يا أصبغ، عهدي برسول الله يقول: (يا سلمان، سيُكلِّمك مَيِّت إذا دنت وفاتك)، وقد اشتهيت أنْ أدري أدنت أم لا؟.

فقال أصبغ: يا سلمان، اطلب ما تُريده فسأُنجزه لك.

فقال: تذهب الآن، وتُحضِر لي تابوتاً، وتفرش في داخله نفس البساط الذي يُفرش للموتى عندما يوضعون داخل التابوت، ومِن ثمَّ تُحضر معك أربعة أشخاص، فتحملوني إلى المقبرة، فقام أصبغ على عَجَلٍ، وعاد بعد ساعة وقد أحضر كلَّ ما طلبه منه سلمان الفارسي، وفعل كلَّ ما أمره به، وحمله إلى المقبرة، وعندما وصل إلى هناك وضع التابوت على الأرض.

فقال سلمان: ضعوني أمام القبلة؛ ففعلوا ذلك، عندها نادى سلمان بأعلى صوته:

السلام عليكم يا أهل عَرصة البلاء، السلام عليكم يا مُحتجبين عن الدنيا، فلم يسمع جواباً. ثمَّ كرَّر السلام عليهم قائلاً:

أقسمتكم بالله وبرسوله الكريم، أنْ يُجيبني واحد منكم، فأنا سلمان الفارسي صاحب رسول الله، وهو الذي أخبرني: بأنَّه إذا دنا أجلي، فإنَّ مَيِّتاً سيُكلِّمني، وإنِّي أُريد أنْ أعرف هل دنا أجلي أم لا؟

عندها سمع سلمان الجواب مِن الروح الذي رَدَّ السلام، وقال لسلمان:

لقد سمعنا كلامك، فاسأل ما تُريد.

١٠٩

فسأل سلمان الروح قائلاً: هل أنت مِن أهل الجَنَّة أمْ مِن أهل النار؟

فقال الروح: بلْ أنا مِن الذين شملتهم الرَّحمة والمَغفرة الإلهيَّة وفازا بالجَنَّة.

ثمَّ سأل سلمان الروح عن كيفيَّة مُفارقته الدنيا، وعن الأوضاع بعد الموت، وكان الروح يُجيب على أسئلة سلمان الفارسي واحداً واحداً، وبعد أنْ انتهى الحديث بين سلمان والروح، أخرجوه مِن التابوت، ووضعوه على الأرض فتوجَّه سلمان إلى الله قائلاً:

يا مَن بيده ملكوت كلِّ شيء، وإليه تُرجعون، وهو يُجير ولا يُجار عليه، بك آمنت ولنبيِّك اتَّبعت، وبكتابك صدقت، وقد أتاني ما وعدتني، يا مَن لا يُخلف الميعاد اقبضني إلى رحمتك، وأنزلني دار كرامتك (1) .

____________________

(1) المعاد، ج1.

١١٠

صَفاء الروح وقوَّة الحُلْم

قبل سنوات عديدة، كان يعيش في إحدى مُدن إيران رجل شريف ومؤمن، وكان ولده الأكبر أيضاً رجلاً صالحاً ومؤمناً، كوالده وكان الأب والابن يعيشان في منزلٍ عاديٍّ، في وضع ماديٍّ صعب؛ حيث كانا يقتصدان كثيراً في النفقات؛ لكي يُحافظا على سُمعتهما، ولا يمدَّا يد الحاجة إلى الآخرين، وقد بلغ بهما الوضع حَدَّاً، بحيث إنَّهما صارا يستعملا ماء الحنفيَّة في المنزل للشرب والطبخ فقط. أمَّا لغسل الملابس ومَلء الحوض الموجود في باحة المنزل، وسقي حديقة المنزل، فإنَّهما كانا يستعملان ماء البئر، كما أنَّهما قاما ببناء غرفة صغيرة فوق البئر؛ لكي تقي الأشخاص الذين يُريدون إخراج الماء، مِن البئر الحَرَّ، وأشعَّة الشمس المُحرقة في فصل الصيف، والبرد والأمطار والثلوج في فصل الشتاء، كما أنَّ وجود مِثل هذه الغرفة الصغيرة، يمنع سقوط الأجسام الغريبة، والقاذورات، والأحجار، وغيرها في داخل البئر، وبالتالي تُحافظ على نظافة البئر.

لقد كان الأب وابنه يقومان - بنفسهما - بسحب الماء مِن البئر، ولم يستأجرا أحداً للقيام بهذا العمل.

وفي أحد الأيَّام، لاحظ الأب وابنه أنَّ الطبقة الطينيَّة، التي تُغطِّي سقف هذه الغرفة مِن الداخل، يُمكن أنْ تسقط على الأرض، أو في داخل البئر، أو يُمكن أنْ تسقط على رأس أحد، يُصادف وجوده في الغرفة في تلك اللحظة، ونظراً لأنَّهما لا يملكان المال اللازم لاستخدام عمَّال بناء، يقومون بصيانة السقف وترميمه، فقد قررَّا أنْ يقوما بنفسيهما بهذا العمل في يوم عطلة.

وبالفعل قاما في اليوم المُتَّفق عليه بتغطية فوهة البئر، بقطع الأخشاب، وقطعة مِن البساط، وبدءا بإزالة الطبقة الطينيَّة مِن السقف، وقاما بتجميع هذه القطع في باحة

١١١

المنزل، وصبَّا عليها الماء، حتَّى أصبحت ليِّنة طريَّة، وأخذ الأب يقوم بعمل البناء، وابنه يُناوله الطين، حتَّى انتهى الأب مِن تغطية سقف الغرفة بأكمله، بالطين المخلوط بالقَشِّ أو التبن، وبعد انتهاء العمل لاحظ الأب أنَّ خاتمه ليس موجوداً في إصبعه، فاعتقد في بادئ الأمر أنَّه نسيه إلى جانب الحوض، عندما كان يغسل يديه، ولكنَّه لم يعثر عليه هناك.

وظلَّ الأب يبحث عن خاتمه، على مدى يومين كاملين في كلِّ مكان، ولكنَّه لم يعثر على أيِّ أثرٍ، وتأثَّر كثيراً لضياع خاتمه، ويئس مِن إمكانيَّة العثور عليه، وظلَّ لفترة مِن الوقت يتحدَّث مع أهله وعياله عن الخاتم المفقود، وكان يتأسَّف كثيراً على ذلك، وبعد عِدَّة سنوات مِن هذه القضيَّة توفِّي الأب إثر نوبة قلبيَّة.

يقول الابن: بعد فترة مِن وفاة والدي، رأيته يوماً في المنام، وكنت أعلم أنَّه ميِّت، فاقترب مِنِّي، وسلَّم عليَّ، وسألني عن أحوالي، ثمَّ قال لي: يا ولدي، إنَّني مَدينٌ للشخص الفلاني بخمسمائة تومان، فأرجو أن تخلصني مِن العذاب.

استيقظ الولد مِن نومه، ولم يكترث بالحُلْم الذي رآه، ولم يعمل بما طلبه منه أبوه، وبعد فترة رأى الابن والده مَرَّة أُخرى في المنام، وكرَّر ما سبق أنْ طلبه منه، وعاتبه على عدم تلبية طلبه، فقال له الابن - وهو في المنام ويعلم أنَّ والده مَيِّت ـ: أعطني عَلامة؛ حتَّى أطمئن بأنَّك والدي.

قال له: أتذكر قبل عِدَّة سنوات، أنَّنا قُمنا - معاً - بتغطية سقف غرفة البئر بالطين، وبعدها اكتشفت أنَّ خاتمي مفقود، وبحثنا عنه في كلِّ مكان، فلم نعثر عليه.

قال الابن: نعم، أذكر ذلك.

قال الأب: إنَّ الشخص عندما يموت، تتَّضح له كثير مِن القضايا والأُمور المجهولة، فلقد عرفت بعد موتي أنَّ خاتمي أضعته داخل الطين الذي أصلحت به سقف الغرف، حيث انزلق الخَاتم مِن إصبعي عندما كنت أعِجن الطين وأقلبه. ولكي

١١٢

تطمئنَّ بأنِّي أبوك الذي أتحدَّث معك، عليك أنْ تُزيل الطين مِن السقف وتخلطه بالماء، حتَّى يُصبح طريَّاً عندها سوف تعثر على الخاتم.

في الصباح نفَّذ الولد ما قاله له أبوه، دون أنْ يُخبر أحداً بالأمر، فعثر بالفعل على خاتم والده.

يقول الابن: بعد ذلك ذهبت إلى السوق، للشخص الذي أخبرني به والدي، فسلَّمت عليه وسألته عن حاله، ثمَّ قلت له: هل أنَّ والدي مَدينٌ لك بمبلغ مِن المال؟

قال الرجل صاحب الدُّكَّان: لماذا تسأل مِثل هذا السؤال؟

قلت: أُريد أنْ أعرف حقيقة الأمر.

قال: أطلب والدك بخمسمائة تومان.

سألته: كيف كان ذلك؟

قال: جاءني أبوك يوماً إلى هنا، وطلب مِنِّي قرضاً بمبلغ خمسمائة تومان، فأعطيته المبلغ دون أنْ آخذ منه إيصالاً بذلك، وبعد فترة توفِّي والدك بالنوبة القلبيَّة.

ـ لماذا لم تُطالب بقرضك؟

قال الرجل: لأنِّي لم أكُن أملك وثيقة أو إيصالاً، ورأيت أنَّ مِن غير المُناسب أنْ أُطالب بالمبلغ، فقد لا تصدِّقونني.

سلَّم الابن المبلغ المذكور إلى الدائن صاحب الدُّكَّان، ونقل له القِصَّة مِن أوَّلها إلى آخرها (1) .

____________________

(1) المعاد، ج1.

١١٣

توقَّع الموت صباحاً ومساءً

جاء موسى العطَّار إلى أبي عبد الله الصادق (عليه السلام)، فقال له: يا ابن رسول الله، رأيت رؤيا هالتني: رأيت صِهراً لي مَيِّتاً، وقد عانقني، وقد خِفت أنْ يكون الأجل قد اقترب.

فقال: (يا موسى، توقَّع الموت صباحاً ومساءً؛ فإنَّه مُلاقينا، ومُعانقة الأموات الأحياء أطول لأعمارهم فما كان اسم صِهرك؟).

قال: حسين.

فقال: (أمَّا رؤياك تدلُّ على بقائك وزيارتك لأبي عبد الله الحسين { عليه السلام }) (1) .

____________________

(1) المعاد، ج1.

١١٤

ليس هناك ليلٌ وإنَّما هو ضوء ونور

قال رجل: يا رسول الله، هل في الجَنَّة مِن ليلٍ؟

قال: (وما هيَّجك على هذا؟).

قال: سمعت الله يذكر في الكتاب: ( ... وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيّاً ) (مريم)، والليل مِن البُّكْرة والعَشيِّ.

فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): (ليس هناك ليلٌ، وإنَّما هو ضوء ونور يَرد الغُدوَّ على الرواح والرواح على الغدوِّ، وتأتيهم طرف الهدايا مِن الله لمواقيت الصلوات، التي كانوا يُصلُّون فيها في الدنيا، وتُسلِّم عليهم الملائكة) (1) .

____________________

(1) المعاد، ج2.

١١٥

امرأة تدخل النار في هِرَّة حبستها

وأُخرى تدخل الجَنَّة في كلب سقته

عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: (اطَّلعت ليلة الإسراء على النار فرأيت امرأة تُعذَّب، فسألت عنها: فقيل: إنَّها ربطت هِرَّة، ولم تُطعمها، ولم تُسقها، ولم تدعها تأكل مِن خَشاش الأرض حتَّى ماتت، فعذَّبها بها بذلك.

واطَّلعت على الجَنَّة، فرأيت امرأة مومس، فسألت عنها: فقيل: إنَّها مَرَّت بكلب يلهث مِن العطش، فأرسلت إزارها في بئر، فعصرته في حلقه حتَّى روي فغفر الله لها) (1) .

____________________

(1) المعاد، ج2.

١١٦

البئر صدقة

خَرج سعد يُرافقه عدد مِن الأشخاص يوماً مِن المدينة، مع الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) في طريقهم إلى الحرب، وكانت أُمُّ سعد مريضة، حيث فارقت الحياة أثناء غياب ابنها، وكان سعد مُقاتلاً في جيش الإسلام ويُحبُّ والدته كثيراً، وعندما سمع بوفاتها لدى عودته تأثَّر كثيراً، فجاء إلى الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وقال له: أردت قبل سفري أنْ أُعطي صدقة عن والدتي، ولكنِّي لم أستطع، والآن حيث فارقت والدتي الدنيا هل ينفعها إذا قدَّمت صدقة عنها؟

فقال الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم): (نعم).

فقال سعد: ما هي أفضل صدقة أُقدِّمها لها؟

فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): (لقد رأيت أنَّ الجنود يُعانون أثناء الطريق مِن شَحَّة الماء، فبإمكانك أنْ تحفر بئراً في الطريق؛ لكي تستفيد منه القوافل التي تمرُّ مِن هناك، وتكون صدقة جارية لوالدتك).

فقام سعد - استجابة لأمر الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) - بحفر بئر على نيَّة والدته، وأسماه: بئر أُمَّ سعد وجعلها وقفاً للجميع (1).

____________________

(1) المعاد، ج2.

١١٧

غفر لك بالخوف فانظر كيف تكون فيما تستقبل

عن أبي حمزة الثمالي، عن علي بن الحسين (صلوات الله عليهما) قال: (إنَّ رجلاً ركب البحر بأهله، فكُسر بهم فلم ينجُ مِمَّن كان في السفينة إلاَّ امرأة الرجل، فإنَّها نجت على لوح مِن ألواح السفينة، حتَّى لجأت إلى جزيرة مِن جُزر البحر، وكان في تلك الجزيرة رجل يقطع الطريق، ولم يَدَعْ لله حُرمَة إلاَّ وانتهكها، فلم يعلم إلاَّ والمرأة قائمة على رأسه، فرفع رأسه إليها، فقال: إنسيَّة أمْ جِنِّيَّة؟

قالت: إنسيَّة.

فلم يكلِّمها كلمة، حتَّى جلس منها مجلس الرجل مِن أهله، فلمَّا أنْ همَّ بها اضطربت، فقال لها: ما لك تضطربين؟

قالت: أفرق مِن هذا، وأومأت بيدها إلى السماء.

قال: وما صنعتِ مِن هذا الشيء، وإنَّما أستكرِهُك استكراهاً، فأنا - والله - أولى بهذا الفَرق والخوف أحقُّ منك.

[ قال: ] فقام ولم يُحدِث شيئاً، ورجع إلى أهله، وليست له هِمَّة إلاَّ التوبة والمُراجعة.

فبينا هو يمشي، إذ صادفه راهب يمشي في الطريق، فحميت عليهما الشمس، فقال الراهب للشابِّ: ادعُ الله يُظلُّنا بغَمامة، فقد حَميت علنيا الشمس.

فقال الشابُّ: ما أعلم أنَّ لي عند رَبِّي حسنة، فأتجاسر على أنْ أسأله شيئاً.

قال: فأدعو أنا، وتؤمِّن أنت؟

قال: نعم.

فأقبل الراهب يدعو والشابُّ يؤمِّن، فما كان بأسرع مِن أنْ أظلَّتهما غَمامة، فمشيا

١١٨

تحتها مَليَّاً مِن النهار، ثمَّ تفرَّقت الجادَّة جادَّتين، فأخذ الشابُّ في واحدة، وأخذ الراهب في واحدة، فإذا السحابة مع الشابِّ، فقال الراهب: أنت خيرٌ مِنِّي، لك استُجيب، ولم يُستجَب لي، فأخبرني ما قِصَّتك، فأخبره بخبر المرأة.

فقال: غُفر لك ما مضى؛ حيث دخلك الخوف، فانظر كيف تكون فيما تستقبل) (1) .

____________________

(1) المعاد، ج2.

١١٩

المرء مع مَن أحبَّ

عن أنس قال: جاء رجل مِن أهل البادية - وكان يُعجبنا أنْ يأتي الرجل مِن أهل البادية يسأل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) - فقال يا رسول الله: متى قيام الساعة؟

فحضرت الصلاة، فلمَّا قضى (صلى الله عليه وآله وسلم) صلاته، قال: (أين السائل عن الساعة؟).

قال: أنا يا رسول الله.

قال: (أعددت لها؟).

قال: والله، ما أعددت لها مِن كثيرِ عملٍ، صلاة ولا صوم، إلاَّ أنِّي أُحبُّ الله ورسوله.

فقال له النبي (صلى الله عليه وآله): (المرء مع مَن أحبَّ).

قال أنس: فما رأيت المسلمين فرحوا بعد الإسلام بشيء أشدُّ مِن فرحهم بهذا (1) .

____________________

(1) المعاد، ج3.

١٢٠

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

الواقع ـ هي خلاصة أخيرة لكل البحوث التوحيدية التي وردت في السورة ، وهي ثمرة لمفاهيمها جميعا ، إذ هي تخاطب الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالقول :( وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِ ) .

ومثل هذا الرّب في مثل هذه الصفات ، هو أفضل من كل ما تفكّر به :( وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً ) .

ونلاحظ في هذه الآية عدة أمور :

١ ـ تناسب الصفات الثلاثية

في الآيات أعلاه تمّت الإشارة إلى ثلاث صفات من صفات الله ، ثمّ بملاحظة الأمر الوارد في نهاية الآية تكتمل الى اربع صفات.

أوّلا : نفي الولد ، لأنّ امتلاك الولد دليل على الحاجة ، وأنّه جسماني ، وله شبيه ونظير ، والخالق جلّ وعلا ليس بجسم ولا يحتاج لولد ، وليس له شبيه ونظير.

الثّاني : نفي الشريك( وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ ) حيث أن وجود الشريك دليل محدودية القدرة والحكومة والسلطة ، وهو دليل العجز والضعف ، ويقتضي وجود الشبيه والنظير. والخالق جلّ وعلا منزّه عن هذه الصفات ، فقدرته كما هي حكومته غير محدودة ، وليس له أي شبيه.

الثّالث : نفي الولي والحامي عند التعرّض للمشاكل والهزائم( وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِ ) .

ونفي هذه الصفة عن الخالق يعتبر أمر بديهي إنّ الآية تنفي أي مساعد للخالق أو شبيه له ، سواء كان ذلك في مرحلة أدنى (كالولد) أو في مرحلة مساوية (كالشريك) أو أفضل منه (كالولي).

نقل العلّامة الطبرسي في (مجمع البيان) عن بعض المفسّرين الذين لم يذكر

١٨١

أسماءهم بصراحة قولهم : «إنّ هذه الآية تنفي ثلاثة اعتقادات منحرفة لثلاث مجاميع:المجموعة الأولى هم المسيحيون واليهود الذين يقولون بوجود الولد للخالق ، والثّانية مجموعة مشركي العرب الذين قالوا بوجود الشريك له سبحانه ، لذلك فإنّهم كانوا يقولون عند كل صباح وفي طقوس خاصّة : لبيك لا شريك لك ، إلّا شريكا هو لك! أمّا المجموعة الثّالثة ، فهم عبدة النجوم والمجوس الذين يقولون بوجود الولي والحامي للخالق».

٢ ـ ما هو التكبير؟

القرآن يؤكّد على رسوله أن يكبّر الله ، وهذا تعني أنّ الغرض من ذلك هو الإعتقاد بهذا الأمر ، وليس فقد ذكر (الله أكبر) على اللسان.

إنّ معنى الإعتقاد بأنّ (الله أكبر) أن لا نقيسه مع المخلوقات الأخرى ، ونقول بأنّه أعظم وأكبر منها ، لأنّ مثل هذه المقايسة خطأ من الأساس. إنّنا يجب أن نعتبره أعظم وأكبر من أن نقيسه بشيء ، كما يعلمنا ذلك الإمام الصادقعليه‌السلام في مقولته القصيرة اللفظ والكبيرة المعنى ، حيث نقرأ فيها ما نصّه :

قال رجل عند الإمام الصادقعليه‌السلام : الله أكبر.

فقالعليه‌السلام : «الله أكبر من أي شيء؟».

قال الرجل : من كل شيء.

فقالعليه‌السلام : «حددته».

فقال الرجل : كيف أقول؟

قالعليه‌السلام : قل : «الله أكبر من أن يوصف»(١) .

وفي حديث آخر عن الإمام الصادقعليه‌السلام أيضا نقرأ عن جميع بن عمير قال : قال أبو عبد اللهعليه‌السلام : «أي شيء ، الله أكبر».

__________________

(١) نور الثقلين ، ج ٣ ، ص ٢٣٩.

١٨٢

فقلت : الله أكبر من كل شيء.

فقال : «وكان ثمّ شيء فيكون أكبر منه».

فقلت : فما هو؟

قالعليه‌السلام : «أكبر من أن يوصف»(١) .

٣ ـ الإجابة على هذا السؤال

قد يطرح هنا هذا السؤال : كيف يكون حمد الخالق في الآية أعلاه في قبال الصفات السلبية ، في حين أنّنا نعلم بأنّ (الحمد) هو في قبال الصفات الثبوتية كالعلم والقدرة ، أمّا صفات مثل نفي الولد والشريك والولي فهي تتلاءم مع التسبيح فكيف مع الحمد؟

في الجواب على هذا السؤال نقول : بالرغم من أنّ طبيعة الصفات السلبية والثبوتية تختلف بضعها عن بعض وإنّ إحداهما تتلاءم مع التسبيح والأخرى تتلاءم مع الحمد ، إلّا أنّه في الوجود الخارجي (العيني) يكون الاثنان لازمين وملزومين ، فنفي الجهل عن الخالق يكون ملازما لإثبات العلم له ، كما أنّ إثبات العلم لذاته جلّ وعلا ملازم لنفي الجهل.

وعلى هذا الأساس فلا مانع تارة من ذكر اللازم وأخرى من ذكر الملزوم.

كما ذكر التسبيح في بداية هذه السورة لأمر في قوله :( سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى ) .

دعاء الختام : إلهي املأ قلوبنا بنور العلم حتى نخضع لعظمتك ، ونؤمن بما وعدت ، ونلتزم ما أمرت ، لا نعبد غيرك ، ولا نتوكل إلّا عليك.

إلهنا ، وفقنا في حياتنا اليومية في أن لا نخرج عن حدّ الاعتدال ، وأن نبتعد عن كل إفراط وتفريط.

__________________

(١) المصدر السّابق.

١٨٣

إلهنا ، لك الحمد ولك الشكر ، وأنت الواحد الكبير ، أكبر من أن تحدّ في وصف،فاغفر لنا ، وثبتنا في خطواتنا ، وانصرنا على أعدائنا ، وأوصل انتصاراتنا بالانتصار النهائي للمصلح المهديعليه‌السلام ، ووفقنا لتكميل هذا التّفسير وارحمنا برحمتك وتقبلنا في رضاك.

نهاية سورة الإسراء

* * *

١٨٤

سورة الكهف

مكّية

وعدد آياتها مائة وعشر آيات

١٨٥
١٨٦

سورة الكهف

فضيلة سورة الكهف

١ ـ عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «ألا أدلكم على سورة شيعها سبعون ألف ملك، حين نزلت ملأت عظمتها ما بين السماء والأرض؟ قالوا : بلى.

قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : سورة أصحاب الكهف من قرأها يوم الجمعة غفر الله له إلى الجمعة الأخرى ، وزيادة ثلاثة أيّام ، وأعطي نورا يبلغ السماء ، ووقي فتنة الدجّال»(١) .

٢ ـ وعن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «من حفظ عشر آيات من أوّل سورة الكهف،ثمّ أدرك الدجّال لم يضره. ومن حفظ خواتيم سورة الكهف كانت له نورا يوم القيامة»(٢) .

٣ ـ وعن الإمام أبي عبد الله الصادقعليه‌السلام قال في فضل سورة الكهف : «من قرأ سورة الكهف في كلّ ليلة جمعة لم يمت إلّا شهيدا ، وبعثه الله مع الشهداء ، ووقف يوم القيامة مع الشهداء»(٣) .

لقد قلنا مرارا : إنّ عظمة السور القرآنية وتأثيرها المعنوي ، وبركاتها

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ٣ ص ٤٤٧.

(٢) المصدر السابق.

(٣) مجمع البيان ، ج ٣ ، ص ٤٤٧.

١٨٧

الأخلاقية ، إنّما يكون بسبب الإيمان بها والعمل وفقا لمضامينها.

وبما أنّ قسما مهمّا من هذه السورة يتعرض إلى قصّة تحرك مجموعة من الفتية ضدّ طاغوت عصرهم ، ودجّال زمانهم ، هذا التحّرك الذي عرّض حياتهم ووجودهم للخطر وللموت لولا عناية الباري بهم ورعايته لهم. لذا فإنّ الالتفات إلى هذه الحقيقة ينير القلب بنور الإيمان ، ويحفظه من الذنوب وإغواءات الدجالين ، ويعصمه من الذوبان في المحيط الفاسد.

إنّ ممّا يساعد على تكميل هذا الأثر النفوس والقلوب هو ما تثيره السورة من أوصاف الآخرة ويوم الحساب ، والمستقبل المشؤوم الذي ينتظر المستكبرين ، وضرورة الالتفات إلى علم الخالق المطلق وإحاطته بكل شيء.

إنّ كل ذلك ممّا يحفظ الإنسان من فتن الشيطان ، ويجعل نور الإيمان يشع فيه ، ويغرس العصمة في قلبه ، وتكون عاقبته مع الشهداء والصدقين.

محتوى سورة الكهف

تبدأ السورة بحمد الخالق جلّ وعلا ، وتنتهي بالتوحيد والإيمان والعمل الصالح.

يشير محتوى السورة ـ كما في أغلب السور المكّية ـ إلى قضية المبدأ والمعاد والترغيب والإنذار. وتشير أيضا إلى قضية مهمّة كان المسلمون يحتاجونها في تلك الأيّام بشدّة ، وهي عدم استسلام الأقلية ـ مهما كانت صغيرة ـ إلى الأكثرية مهما كانت قوية في المقاييس الظاهرية ، بل عليهم أن يفعلوا كما فعلت المجموعة الصغيرة القليلة من أصحاب الكهف ، أن يبتعدوا عن المحيط الفاسد ويتحركوا ضدّه.

فإذا كانت لديهم القدرة على المواجهة ، فعليهم خوض الجهاد والصراع ، وإن

١٨٨

عجزوا عن المواجهة فعليهم بالهجرة.

من قصص هذه السورة أيضا قصّة شخصين ، أحدهما غنيّ مرفه إلّا أنّه غير مؤمن ، والآخر فقير مستضعف ولكنّه مؤمن. وقد صمد الفقير المستضعف المؤمن ولم يفقد شرفه عزته وإيمانه أمام الغني ، بل قام بنصيحته وإرشاده ، ولمّا لم ينفع معه تبرأ منه ، وقد انتهت المواجهة إلى انتصاره.

وهذه القصّة تذكر المسلمين وخاصّة في بداية عصر الإسلام وتقول لهم : إنّ من سنة الأغنياء أن يكون لهم فورة من حركة ونشاط مؤقت سرعان ما ينطفئ لتكون العاقبة للمؤمنين.

كما يشير جانب آخر من هذه السورة إلى قصة موسى والخضرعليهما‌السلام لم يستطع الصبر في مقابل أعمال كان ظاهرها يبدو مضرا ، ولكنّها في الواقع كانت مليئة بالأهداف والمصالح ، إذ تبيّنت لموسىعليه‌السلام وبعد توضيحات الخضر مصالح تلك الأعمال ، فندم على تعجله.

وفي هذا درس للجميع أن لا ينظروا إلى ظاهر الحوادث والأمور ، وليتبصروا بما يكمن خلف هذه الظواهر من بواطن عميقة وذات معنى.

قسم آخر من السورة يشرح أحوال (ذي القرنين) وكيف استطاع أن يطوي العالم شرقه وغربه ، ليواجه أقواما مختلفة بآداب وسنن مختلفة ، وأخيرا استطاع بمساعدة بعض الناس أن يقف بوجه مؤامرة (يأجوج) و (مأجوج) وأقام سدا حديديا في طريقهم ليقطع دابرهم (تفصيل كل هذه الإشارات المختصرة سيأتي لاحقا إن شاء الله تعالى) حتى تكون دلالة هذه القصة بالنسبة للمسلمين ، هو أن يهيئوا أنفسهم ـ بأفق أوسع ـ لنفوذ إلى الشرق والغرب بعد أن يتحدوا ويتحصنوا ضدّ أمثال يأجوج ومأجوج.

الظريف أنّ السورة تشير إلى ثلاث قصص (قصة أصحاب الكهف ، قصة

١٨٩

موسى والخضر ، وقصة ذي القرنين) حيث أنّ هذه القصص بخلاف أغلب القصص القرآنية لم تكرّر في مكان آخر من القرآن (أشارت الآية (٩٦) من سورة الأنبياء إلى يأجوج ومأجوج دون ذكر ذي القرنين). وهذه الإشارة تعتبر واحدة من خصائص هذه السورة المباركة.

وخلاصة الكلام أن السورة تحتوي على مفاهيم تربوية مؤثرة في جميع الأحوال.

* * *

١٩٠

الآيات

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

( الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً (١) قَيِّماً لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً (٢) ماكِثِينَ فِيهِ أَبَداً (٣) وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً (٤) ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لِآبائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِباً (٥) )

التّفسير

البداية باسم الله ، والقرآن :

تبدأ سورة الكهف ـ كما في بعض السور الأخرى ـ بحمد الله ، وبما أنّ الحمد يكون لأجل عمل أو صفة معينة مهمّة ومطلوبة ، لذا فإنّ الحمد هنا لأجل نزول القرآن الخالي من كل اعوجاج ، فتقول الآية :( الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً ) .

هذا الكتاب هو كتاب ثابت ومحكم ومعتدل ومستقيم ، وهو يحفظ المجتمع الإنساني ويحمي سائر الكتب السماوية.

١٩١

( قَيِّماً ) وينذر الظالمين من عذاب شديد :( لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ ) . وفي نفس الوقت فهو :( وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً ) . وهؤلاء في نعيمهم( ماكِثِينَ فِيهِ أَبَداً ) .

ثمّ تشير الآيات إلى واحدة من انحرافات المعارضين ، سواء كانوا نصارى أو يهود أو مشركين ، حيث تنذرهم هذا الأمر فتقول :( وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً ) فهي تحذر النصارى بسبب اعتقادهم بأنّ المسيح ابن الله ، وتحذر اليهود لأنّهم اعتقدوا بأنّ عزير ابن الله، وتحذّر المشركين لظّنهم بأنّ الملائكة بنات الله.

ثمّ تشير الآيات إلى أصل أساسي في إبطال هذه الادعاءات الفارغة فتقول : إنّ هؤلاء لا علم لهم ولا يقين بهذا الكلام ، وإنّما هم مقلدون فيه للآباء ، وإنّ آباءهم على شاكلتهم في الجهل وعدم العلم :( ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لِآبائِهِمْ ) . بل : ولد؟ أو أن يحتاج إلى الصفات المادية وأن يكون محدودا إنّه كلام رهيب ، ومثل هؤلاء الذين يتفوهون به لا ينطقون إلّا كذبا :( إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً ) .

بحوث

* * *

١ ـ افتتاح السورة بحمد الله سبحانه وتعالى

هناك خمس سور في القرآن الكريم تبدأ بحمد الله ، ثمّ تعرج بعد الحمد والثناء على قضايا خلق السموات والأرض (أو ملكية الله سبحانه وتعالى لها) أو هداية العالمين ، عدا هذه السورة التي تتناول بعد الحمد والثناء مسألة نزول القرآن على نبيّنا محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

وفي حقيقة الأمر إنّ السور الأربع «الأنعام ـ سبأ ـ فاطر ـ الحمد» تتناول القرآن التكويني ، فيما تتطرق سورة الكهف إلى القرآن التدويني ، وكما هو معلوم فإنّ الكتابين، أي (القرآن التدويني) وخلق الكون وما فيه (القرآن التكويني) كل

١٩٢

منهما مكمّل للآخر ، وهذا يوضح أنّ للقرآن وزن يعادل الخلق. وأساسا فإنّ تربية الخلائق الواردة في الآية( الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ ) غير ممكنة ، ما لم يستفاد بصورة تامة من الكتاب السماوي العظيم ، أي القرآن.

٢ ـ القرآن كتاب ثابت ومستقيم وحافظ

كلمة «قيّم» على وزن كلمة «سيّد» ومشتقة من مصدر الكلمة «قيام» وهنا تأتي بمعنى (الثبات والصمود) إضافة إلى أنّها تعني المدبّر والحافظ لبقية الكتب السماوية ، كما تعني كلمة «قيّم» في نفس الوقت الاعتدال والاستقامة التي لا اعوجاج فيها وإضافة إلى أنّ كلمة «قيم» هي وصف للقرآن في عدم وجود أي اعوجاج في آياته ، بل إنّ في مضمونها تأكيد على استقامة واعتدال القرآن ، وخلوّه من أي شكل من أشكال التناقض ، وإشارة إلى أبدية وخلود هذا الكتاب السماوي العظيم ، وكونه أسوة لحفظ الأصالة ، وإصلاح الخلل ، وحفظ الأحكام الإلهية والعدل والفضائل البشرية.

صفة (القيّم) مشتقة من (قيمومة) الباريعزوجل التي تعني اهتمام الباريعزوجل وحفظه جميع الكائنات ، والقرآن الذي هو كلام الله له نفس الصفة أيضا.

كما وصف الله سبحانه وتعالى دينه في عدّة آيات قرآنية بأنّه (القيّم) حتى أنّه أمر نبيّه الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالعمل وفق ما يمليه الدين القيّم والمستقيم :( فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ ) (١) .

وما ذكر أعلاه بشأن تفسير كلمة «قيّم» ، أخذ من عدّة تفاسير مختلفة ، وهو خلاصة لما قاله المفسّرون من أنّ كلمة «قيّم» تعني الكتاب الباقي الذي لا ينسخ ، أو الكتاب الحافظ للكتب السابقة ، أو الكتاب القيّم على الدين ، أو الخالي من الاختلافات والتناقضات ، وكل هذه المعاني انصبت في المفهوم الذي ذكرناه.

__________________

(١) الروم ، ٤٣.

١٩٣

واعتبر بعض المفسّرين أنّ جملة( لَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً ) تعني فصاحة ألفاظ القرآن وكلمة «قيما» تعني البلاغة والاستقامة بالرغم من عدم امتلاكهم لأي دليل واضح على هذا التباين(١) ، والظاهر أنّ الكلمتين تؤكّد كل منهما الأخرى ، مع فرق أن كلمة «قيّم» لها مفهوم واسع ، وتعني اضافة إلى معنى الاستقامة ، المحافظ والمصلح للكتب المساوية الأخرى(٢) .

٣ ـ انذارين شديدين عام وخاص :

بعد الإنذار العام الذي وجهته الآيات في البداية لكافة البشر ، وجهت الآيات المذكورة آنفا إنذارا خاصّا للذين ادّعوا بأنّ لله ولدا وهذا ما يوضح خطورة الانحراف العقائدي الذي أصاب المسيحيين واليهود والمشركين ، وانتشر بصورة واسعة في الأجواء التي نزل القرآن ، ومن الطبيعي فإنّ انتشار مثل هذه الأفكار يقضي على روح التوحيد في ذلك المجتمع ، إذ حدّوا الله سبحانه وتعالى بحدود مادية وجسمية ، وأنّه يمتلك عواطف وأحاسيس بشرية ، إضافة إلى وجود أكفاء وشركاء له ، وأنّه يحتاج إلى الآخرين.

وبسبب هذه المعتقدات نزلت آيات عديدة للردّ على تلك الشبهات ، ومنها الآية (٦٨) في سورة يونس :( قالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً سُبْحانَهُ هُوَ الْغَنِيُ ) والآيات من (٨٨) إلى (٩١) في سورة مريم :( وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا ، تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً ) .

وما جاء في هذه الآيات المباركة يوضح قوّة الرّد الإلهي على تلك الادعاءات ، حيث أكّدت على العقاب الشديد الذي ينتظر من يعتقدون بمثل هذه

__________________

(١) روح المعاني ، المجلد ١٥ ، أثناء تفسير الآية.

(٢) «قيم» من الناحية اللغوية «حال» وعامله «أنزل».

١٩٤

الخرافة ، لأنّ من يدّعي باتّخاذ الله سبحانه وتعالى ولدا ، إنّما يمس كبرياء الباريعزوجل وعظمته ، وينزله إلى المستوى البشري المادي(١) .

٤ ـ الادعاء الفارغ

إنّ البحث في المعتقدات والمبادئ المنحرفة ، كشف عن أنّ أغلبها ليس له أي دليل واقعي ، ولكن بعض الأشخاص يتخذها كشعار كاذب كي يتبعه الآخرون ، وتنتقل أحيانا من جيل إلى آخر كعادة. والقرآن هنا يلقي علينا دروسا في تجنب الادعاءات التي ليس لها أي دليل أو سند قوي ، ويأمرنا بعدم إعارة أية أهمية لناقلها ومروجها ، وقد اعتبر الله تبارك وتعالى تلك الأعمال من الكبائر ، وعدّها مصدرا للكذب والدجل.

ولو اتّخذ المسلمون هذا الأصل منهجا في حياتهم ، أي عدم التحدّث بشيء من دون التأكيد منه ، ورفض أي شيء ليس له دليل ، وعدم الاهتمام بالإشاعات الفارغة ، لتحسن الكثير من أمورهم وتصرفاتهم الخاطئة.

٥ ـ العمل الصالح برنامج مستمر

الآيات المذكورة أعلاه عند ما تتحدّث عن المؤمنين ، تعتبر العمل الصالح بمثابة برنامج مستمر ، إذ أنّ كلمة (يعملون في قوله تعالى :( يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ ) فعل مضارع ، والفعل المضارع يدل على الاستمرارية ، فالعمل الصالح يمكن أن يصدر صدفة أو بسبب ما عن أي شخص ، فلا يكون حينئذ دليلا على الإيمان الصادق ، لكن استدامة العمل الصالح دليل الإيمان الصادق.

__________________

(١) حول عقيدة التثليث واعتقاد المسيحيين بأنّ المسيح ابن الله يمكن مراجعة ما جاء في ذيل الآية (١٧١) من سورة النساء في تفسيرنا هذا.

١٩٥

٦ ـ صفة العبد أرقى وسام للإنسان

وأخيرا ، إنّ القرآن عند ما يتحدّث في آياته عن قضية نزول الكتاب السماوي يقول:( الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ ) وهذا يعني أن صفة «العبد» هي أرقى وسام وأعلى مرتبة ينالها الإنسان في معراج تكامله المعنوي ، فإذا نال الإنسان وسام العبودية لله تعالى ، فإنّه يرى أن كل شيء في العالم ملكا لله ، وعملا يسلك سبيل الطاعة لأوامر الله والتمسك بالنهج الذي رسمه وحدّده تعالى للإنسان ، ولا يفكر في سواه ويرى أنّ خير شرف للإنسان أن يكون عبدا صالحا وملتزما بأوامر ونواهي الباريعزوجل .

* * *

١٩٦

الآيات

( فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً (٦) إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً (٧) وَإِنَّا لَجاعِلُونَ ما عَلَيْها صَعِيداً جُرُزاً (٨) )

التّفسير

العالم ساحة اختبار :

الآيات السابقة كانت تتحدّث عن الرسالة وقيادة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لذا فإنّ أوّل آية نبحثها الآن ، تشير إلى أحد أهم شروط القيادة ، ألا وهي الإشفاق على الأمّة فتقول:( فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً ) .

وهنا يجب الانتباه إلى بعض الملاحظات :

أوّلا : «باخع» من «بخع» على وزن ، «نخل» وهي بمعنى إهلاك النفس من شدّة الحزن والغم.

ثانيا : كلمة «أسفا» والتي تبيّن شدّة الحزن والغم ، هي تأكيد على هذا الموضوع.

ثالثا : «آثار» جمع «أثر» وهي في الأصل تعني محل موضع القدم ، إلّا أنّ أي

١٩٧

علامة تدل على شيء معين تسمّى أثرا.

إنّ الاستفادة من هذا التعبير في الآيات أعلاه تشير إلى ملاحظة لطيفة ، وهي أنّ الإنسان قد يغادر في بعض الأحيان مكانا ما ، ولكنّ آثاره ستبقى بعده ، وتزول إذا طال زمن المغادرة. فالآية تريد أن تقول : أنّك على قدر من الحزن والغم ولعدم إيمانهم بحيث تريد أن تهلك نفسك من شدّة الحزن قبل أن تمحى آثارهم.

ويحتمل أن يكون الغرض من الآثار أعمالهم وتصرفاتهم.

رابعا : استخدام كلمة (حديث) للتعبير عن القرآن ، هو إشارة إلى ما ورد من معارف جديدة في هذا الكتاب السماوي الكبير ، يعني أنّ هؤلاء لم يفكروا في أن يستفيدوا ويبحثوا في هذا الكتاب الجديد ذي المحتويات المستجدّة. وهذا دليل على عدم المعرفة ، بحيث أنّ الإنسان بقدر قربه من هذا الكتاب ، إلّا أنّه لا يلتفت إليه.

خامسا : صفة الإشفاق لدى القادة الإلهيين.

نستفيد من الآيات القرآنية وتأريخ النبوات ، أنّ القادة الإلهيين كانوا يتألمون أكثر ممّا نتصور لضلال الناس ، وكانوا يريدون لهم الإيمان والهداية. ويألمون عند ما يشاهدون العطاشى جالسين بجوار النبع الصافي ، ويأنون من شدّة العطش ، الأنبياء يبكون لهم ويجهدون أنفسهم ليلا ونهارا ، ويبلغون سرّا وجهارا ، وينادون في المجتمع من أجل هداية الناس. إنّهم يألمون بسبب ترك الناس للطريق الواضح الى الطرق المسدودة ، هذا الألم يكاد يوصلهم في بعض الأحيان إلى حدّ الموت. ولو لم يكن القادة بهذه الدرجة من الاهتمام لما انطبق عليهم المفهوم العميق للقائد.

وبالنسبة لرسول الهدىصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كانت تصل به حالة الحزن والشفقة إلى مرحلة خطرة على حياته بحيث أنّ الله تبارك وتعالى يسلّيه.

في سورة الشعراء نقرأ في الآيتين (٣ ، ٤) قوله تعالى( لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا

١٩٨

يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ ) .

الآية التي بعدها تجسّد وضع هذا العالم وتكشف عن أنّه ساحة للاختبار والتمحيص والبلاء ، وتوضح الخط الذي ينبغي أن يسلكه الإنسان :( إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها ) .

لقد ملأنا العالم بأنواع الزينة ، بحيث أنّ كلّ جانب فيه يذهب بالقلب ، ويحيّر الأبصار ، ويشير الدوافع الداخلية في الإنسان ، كيما يتسنى امتحانه في ظل هذه الإحساسات والمشاعر ووسط أنواع الزينة وأشكالها ، لتظهر قدرته الإيمانية ، ومؤهلاته المعنوية.

لذلك تضيف الآية مباشرة قوله تعالى :( لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً ) .

أراد بعض المفسّرين حصر معنى( ما عَلَى الْأَرْضِ ) بالعلماء أو بالرجال فقط، ويقولوا : إنّ هؤلاء هم زينة الأرض ، في حين أنّ لهذه الكلمة مفهوما واسعا يشمل كل الموجودات على الكرة الأرضية.

والظّريف هنا استخدام الآية لتعبير( أَحْسَنُ عَمَلاً ) وليس (أكثر عملا) وهي إشارة إلى أنّ حسن العمل وكيفيته العالية هما اللذان يحدّدان قيمته عند ربّ العالمين ، وليس كثرة العمل أو كميته.

على أي حال فإنّ هنا إنذار لكل الناس ، لكل المسلمين كي لا ينخدعوا في ساحة الاختبار بزينة الحياة الدنيا ، وبدلا من ذلك عليهم أن يفكروا بتحسين أعمالهم.

ثمّ يبيّن تعالى أنّ أشياء الحياة الدنيا ليست ثابتة ولا دائمة ، بل مصيرها إلى المحو والزوال :( وَإِنَّا لَجاعِلُونَ ما عَلَيْها صَعِيداً جُرُزاً ) .

«صعيد» مشتقّة من «صعود» وهي هنا تعني وجه الأرض ، الوجه الذي يتّضح فيه التراب.

١٩٩

و «جرز» تعني الأرض التي لا ينبت فيها الكلأ وكأنّما هي تأكل نباتها ، وبعبارة أخرى فإنّ «جرز» تطلق على الأرض الموات بسبب الجفاف وقلّة المطر.

إنّ المنظر الذي نشاهده في الربيع في الصحاري والجبال عند ما تبتسم الورود وتتفتح النباتات ، وحيث تتناجى الأوراق ، وحيث خرير الماء في الجداول إنّ هذه الحالة سوف لا تدوم ولا تبقى ، إذ لا بدّ أن يأتي الخريف ، حيث تتعرى الأغصان وتنطفئ البسمة من شفاه الورود ، وتذبل البراعم ، وتجف الجداول ، وتموت الأوراق ، وتسكت فيها نغمة الحياة.

حياة الإنسان المادية تشبه هذا التحوّل ، فلا بدّ أن يأتي ذلك اليوم الذي يضع نهاية للقصور التي تناطح السماء ، ولملابس الباذخة والنعم الكثيرة التي يرفل بها الإنسان ، كذلك تنتهي المناصب والمواقع والاعتبارات ، وسوف لن يبقى شيء من المجتمعات البشرية سوى القبور الساكنة اليابسة ، وهذا درس عظيم.

* * *

٢٠٠

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576