الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٩

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل10%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 576

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 576 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 264373 / تحميل: 11788
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٩

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

الآيات

( أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَباً (٩) إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقالُوا رَبَّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنا مِنْ أَمْرِنا رَشَداً (١٠) فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً (١١) ثُمَّ بَعَثْناهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى لِما لَبِثُوا أَمَداً (١٢) )

أسباب النّزول

لقد أورد المفسّرون قصّة لسبب نزول الآيات خلاصتها أنّ سادة قريش اجتمعوا ليبحثوا في أمر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقرروا إرسال اثنين منهم إلى أحبار اليهود في المدينة ، والاثنان هما النضر بن الحرث بن كلدة وعقبة بن أبي معيط.

قال زعماء قريش لهؤلاء : سلوا أحبار اليهود عن محمّد وصفا له صفته ، وخبراهم بقوله فإنّهم أهل الكتاب الأوّل وعندهم من علم الأنبياء ما ليس عندنا.

فخرجا حتى قدما المدينة. فسألا أحبار اليهود عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقالا لهم ما قالت قريش.

٢٠١

فقال لهما أحبار اليهود : اسألوه عن ثلاث فإن أخبركم بهن فهو نبي مرسل ، وإن لم يفعل فهو رجل متقوّل فروا فيه أريكم. سلوه عن فتية ذهبوا في الدهر الأوّل ما كان من أمرهم، فإنّه قد كان لهم حديث عجيب. وسلوه عن رجل طوّاف قد بلغ مشارق الأرض ومغاربها ما كان نبؤه. وسلوه عن الروح ما هو.

وفي رواية أخرى قالوا : فإن أخبركم عن اثنتين ولم يخبركم بالروح فهو نبي.

فانصرفا إلى مكّة فقالا : يا معشر قريش ، قد جئناكم بفصل ما بينكم وبين محمّد. وقصّا عليهم القصة.

فجاءوا إلى النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فسألوه. فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أخبركم بما سألتم غدا ولم يستثن ـ أي لم يقل إن الله ـ فانصرفوا عنه ، ومكثصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خمس عشرة ليلة لا يحدث الله إليه في ذلك وحيا ، ولا يأتيه جبرائيل حتى أرجف أهل مكّة وتكلموا في ذلك. فشق على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما يتكلم به أهل مكّة ، ثمّ جاءه جبرائيلعليه‌السلام عن الله بسورة الكهف ، وفيها ما سألوه عنه من أمر الفتية والرجل الطوّاف. وأنزل عليه آية( وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ ) .

وقد سأل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جبرائيل حين جاءه : «لقد احتبست عنّي يا جبرائيل» فقال له جبرائيلعليه‌السلام ( وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا ) الآية.

(من الجدير بالذكر هنا أنّ سورة الكهف تضمنت الجواب على سؤالين من الأسئلة الثلاثة. إلّا أنّ الآية التي تتحدث عن الروح قد مرّت علينا في سورة الإسراء. وهذا أمر لا يندر حدوثه في القرآن ، إذ تنزل آية في مناسبة معينة ، ثمّ توضع بأمر الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في سورة أخرى).

* * *

٢٠٢

التّفسير

بداية قصّة أصحاب الكهف

في الآيات السابقة كانت هناك صورة للحياة الدنيا ، وكيفية اختبار الناس فيها ، ومسير حياتهم عليها ، ولأنّ القرآن غالبا ما يقوم بضرب الأمثلة للقضايا الحسّاسة ، أو أنّه يذكر نماذج من التأريخ لتجسيد الوعي بالقضية ، لذا قام في هذه السورة بتوضيح قصّة أصحاب الكهف ، وعبرّت عنهم الآيات بأنّهم (أنموذج) أو (أسوة).

إنّهم مجموعة من الفتية الأذكياء المؤمنين ، الذين كانوا يعيشون في ظل حياة مترفة بالزّينة وأنواع النعم ، إلّا أنّهم انسلخوا من كل ذلك لأجل حفظ عقيدتهم وللصراع ضدّ الطاغوت ؛ طاغوت زمانهم ، وذهبوا إلى غار خال من جميع أشكال الزّينة والنعم ، وقد أثبتوا بهذا المسلك أمر استقامتهم في سبيل الإيمان والثبات عليه.

الملفت للنظر أنّ القرآن ذكر في البداية قصّة هذه المجموعة من الفتية بشكل مجمل ، موظفا بذلك أحد أصول فن الفصاحة والبلاغة ، وذلك لتهيئة أذهان المستمعين ضمن أربع آيات ، ثمّ بعد ذلك ذكر التفاصيل في (١٤) آية.

في البداية يقول تعالى :( أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَباً ) . إنّ لنا آيات أكثر عجبا في السموات والأرض ، وإن كل واحد منها نموذج لعظمة الخالق جلّ وعلا ، وفي حياتكم ـ أيضا ـ أسرار عجبية تعتبر كل واحدة منها علامة على صدق دعوتك ، وفي كتابك السماوي الكبير هذه آيات عجيبة كثيرة ، وبالطبع فإنّ قصّة أصحاب الكهف ليست بأعجب منها.

أمّا لماذا سميت هذه المجموعة بأصحاب الكهف؟ فذلك يعود إلى لجوئهم إلى الغار كي ينقذوا أنفسهم ، كما سيأتي ذلك لاحقا إن شاء الله.

٢٠٣

أمّا «الرقيم» ففي الأصل مأخوذة من (رقم) وتعني الكتابة(١) ، وحسب اعتقاد أغلب المفسّرين فإنّ هذا هو اسم ثان لأصحاب الكهف ، لأنّه في النهاية تمت كتابة أسمائهم على لوحة وضعت على باب الغار.

البعض يرى أنّ «الرقيم» اسم الجبل الذي كان فيه الغار.

والبعض الآخر اعتبر ذلك اسما للمنطقة التي كان الجبل يقع فيها.

أمّا بعضهم فقد اعتبر ذلك اسما للمدينة التي خرج منها أصحاب الكهف ، إلّا أنّ المعنى الأوّل أكثر صحة كما يظهر.

أمّا ما احتمله البعض من أنّ أصحاب الرقيم هم مجموعة أخرى غير أصحاب الكهف، وتنقل بعض المرويات قصّة تختص بهم ، فالظاهر أنّ هذا الرّاي لا يتناسب مع الآية، لأنّ ظاهر الآية يدل على أنّ أصحاب الكهف والرقيم كانوا مجموعة واحدة ، لذلك وبعد ذكر العنوانين تذكر السورة قصّة أصحاب الكهف ولا تذكر غيرهم. وهذا بنفسه دليل على الوحدة.

وفي الرّوايات المعروفة الواردة في تفسير نور الثقلين في ذيل الحديث عن الآية ، نرى أنّ الأشخاص الثلاثة الذين دخلوا الغار قد دعوا الله بأخلص ما عملوه لوجهه تعالى أن ينجيهم من محنتهم ، ولكن هذه الرّوايات لا تتحدث عن أصحاب الرقيم بالرغم من أنّ بعض كتب التّفسير قد تعرّضت لهم.

على أية حال يجب أن لا نتردّد في أنّ هاتين المجموعتين (أصحاب الكهف والرقيم) هم مجموعة واحدة ، وأنّ سبب نزول الآيات يعضد هذه الحقيقة.

ثمّ تقول الآيات بعد ذلك :( إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ ) وعند ما انقطعوا عن كل أمل توجهوا نحو خالقهم :( فَقالُوا رَبَّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً ) ثم :( وَهَيِّئْ لَنا مِنْ أَمْرِنا رَشَداً ) . أي أرشدنا إلى طريق ينقذنا من هذا الضيق ويقربنا من

__________________

(١) يقول الراغب في المفردات : إنّ رقم (على وزن زخم) تعني الخط الخشن والواضح ، والبعض اعتبره النقطة في خط. وفي كل الأحوال إنّ (رقيم) تعني الكتاب أو اللوح أو الرسالة التي يكتب فيها شيئا.

٢٠٤

مرضاتك وسعادتك ، الطريق الذي فيه الخير والسعادة وإطاعة أوامر الله تعالى.

وقد استجيبت دعوتهم :( فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً ) .

( ثُمَّ بَعَثْناهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى لِما لَبِثُوا أَمَداً ) .

* * *

ملاحظات

١ ـ جملة( أَوَى الْفِتْيَةُ ) من مادة (مأوى) وتعني المكان الآمن ، وهو إشارة إلى أنّ هؤلاء الفتية الهاربين من بيئتهم الفاسدة المنحرفة قد أحسّوا بالأمن عند ما وصلوا إلى الغار.

٢ ـ (فتية) جمع (فتى) وهو الشاب الحدث ، ولكنها تطلق أحيانا على الأشخاص الكبار والمسنين الذين يملكون روحية شابّة ، وقد ذكرت هذه الكلمة مع نوع من الإشادة والمدح لأصحاب الكهف بسبب صفات الفتوة والشهامة والتسليم في مقابل الحق.

والشاهد على هذا الكلام ما نقل عن الإمام الصادق في أصحاب الكهف إذ قال:«أمّا علمت أنّ أصحاب الكهف كانوا كلّهم كهولا فسمّاهم الله فتية بإيمانهم».

بعد ذلك أضاف الإمام الصادق في معنى الفتوة قولهعليه‌السلام : «من آمن بالله واتقى فهو الفتى»(١) .

وقد نقل عن الإمام الصادق ما يشبه هذا الحديث في (روضة الكافي)(٢) أيضا.

٣ ـ استخدام تعبير( مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً ) إشارة إلى أنّ هؤلاء الفتية عند ما لجأوا إلى الغار تركوا جميع الوسائل والأسباب الظاهرية ، وكانوا لا يأملون سوى

__________________

(١) نور الثقلين ، ج ٣ ، ص ٢٤٤ و ٢٤٥.

(٢) المصدر السّابق.

٢٠٥

رحمة الله.

٤ ـ جملة( فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ ) كناية لطيفة عن (التنويم) ، كأنّما يوضع ستار على أذن الشخص بحيث لا يسمع أي شيء ، وهو ستار النوم.

ولهذا فإنّ النوم الحقيقي هو النوم الذي يطغى على السمع ، وكذلك إذا أردنا أن نوقظ شخصا من نومه ، فإنّنا نصيح به ونناديه حتى ينفذ الصوت إلى مسامعه.

٥ ـ إنّ استخدام تعبير( سِنِينَ عَدَداً ) إشارة إلى أنّ نومهم قد استمرّ لعدّة سنين كما سيأتي تفسير ذلك في الآيات القادمة إن شاء الله تعالى.

٦ ـ إنّ استخدام تعبير( بَعَثْناهُمْ ) ليقظتهم من النوم ، قد يكون لأنّ نومهم أصبح من الطول بمقدار بحيث كانوا كالموتى. فيقظتهم من النوم كبعثهم إلى الحياة مرّة أخرى.

٧ ـ جملة( لِنَعْلَمَ ) لا تعني أنّ الله يريد أن يعلم شيئا جديدا. ويكثر استخدام هذا التعبير في القرآن ، والغرض منه هو تحقق العلم الإلهي ، بمعنى نحن أيقظناهم من المنام حتى يتحقق هذا المعنى ، أى حتى يسأل كل واحد الآخر عن مقدار نومهم.

٨ ـ عبارة( أَيُّ الْحِزْبَيْنِ ) إشارة لما سنتحدث عنه أثناء تفسير الآيات اللاحقة ، حيث أنّهم بعد يقظتهم اختلفوا في مقدار نومهم ، فالبعض قال : يوما ، والبعض الآخر قال: نصف يوم ، في حين أنّهم كانوا نائمين لسنين طويلة.

أمّا قول البعض بأنّ هذا التعبير هو شاهد على أنّ أصحاب الكهف هم غير أصحاب الرقيم ، فهذا كلام بعيد للغاية ولا يحتاج لمزيد توضيح(١) .

* * *

__________________

(١) ذهب إلى هذا الرأي صاحب كتاب (أعلام القرآن) في صفحة ١٧٩ من كتابه.

٢٠٦

الآيات

( نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْناهُمْ هُدىً (١٣) وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ إِذْ قامُوا فَقالُوا رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهاً لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً (١٤) هؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْ لا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً (١٥) وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَما يَعْبُدُونَ إِلاَّ اللهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقاً (١٦) )

التّفسير

القصّة المفصّلة لأصحاب الكهف :

بعد أن ذكرت الآيات بشكل مختصر قصّة أصحاب الكهف ، بدأت الآن مرحلة الشرح المفصّل لها ضمن (١٤) آية وكان المنطلق في ذلك قوله تعالى :( نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِ ) كلام خال من أي شكل من أشكال الخرافة والتزوير.( إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْناهُمْ هُدىً ) . وكما قلنا فإنّ (فتية) جمع

٢٠٧

(فتى) وهي تعني الشاب الحدث. وبما أنّ الجسم يكون قويا في مرحلة الشباب ، فهو على استعداد لقبول نور الحق ، ومنبع للحب والسخاء والعفة. ولذا كثيرا ما تستخدم كلمة (الفتى والفتوة) للتدليل على مجموع هذه الصفات حتى لو كان أصحابها من المسنيّن.

وتشير الآيات القرآنية ـ وما هو ثابت في التأريخ ـ إلى أنّ أصحاب الكهف كانوا يعيشون في بيئة فاسدة وزمان شاعت فيه عبادة الأصنام والكفر ، وكانت هناك حكومة ظالمة تحتمي مظاهر الشرك والكفر والانحراف.

مجموعة أهل الكهف ـ الذين كانوا على مستوى من العقل والصدق ـ أحسّوا بالفساد وقرروا القيام ضدّ هذا المجتمع ، وفي حال عدم تمكنهم من المواجهة والتغيير فإنّهم سيهجرون هذا المجتمع والمحيط الفاسد.

لذا يقول القرآن بعد البحث السابق :( وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ إِذْ قامُوا فَقالُوا رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهاً ) .

فإذا عبدنا غيره :( لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً ) .

نستفيد من تعبير( رَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ ) أنّ بذرة التوحيد وفكرته كانت منذ البداية مرتكزة في قلوبهم ، إلّا أنّهم لم تكن لديهم القدرة على إظهارها والتجاهر بها. ولكن الله بتقوية قلوبهم أعطاهم القدرة على أن ينهضوا ويعلنوا علانية نداء التوحيد.

وليس من الواضح فيما إذا كان هذا الإعلان قد تمّ أوّلا أمام ملك زمانهم الظالم (دقيانوس) أو أنّه تمّ أمام الناس ، أو أمام الاثنين معا (الحاكم الظالم والناس) أو أنّهم تجاهروا به فيما بينهم أنفسهم؟

لكن يظهر من كلمة (قاموا) أنّ إعلانهم كان وسط الناس ، أو أمام السلطان الظالم.

(شطط) على وزن (وسط) تعني الخروج عن الحد والإفراط في الابتعاد لذا

٢٠٨

فإنّ (شطط) تقال للكلام البعيد عن الحق ، ويقال لحواشي وضفاف الأنهار الكبيرة (شط) لكونها بعيدة عن الماء ، وكونها ذات جدران مرتفعة.

وفي الواقع ، إنّ هؤلاء الفتية المؤمنين ذكروا دليلا واضحا لإثبات التوحيد ونفي الآلهة. وهو قولهم : إنّنا نرى وبوضوح أنّ لهذه السماوات والأرض خالقا واحدا ، وأنّ نظام الخلق دليل على وجوده ، وما نحن إلّا جزء من هذا الوجود ، لذا فإنّ ربّنا هو نفسه ربّ السماوات والأرض.

ثمّ ذكروا دليلا آخر وهو :( هؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً ) .

فهل يمكن الإعتقاد بشيء بدون دليل وبرهان؟ :( لَوْ لا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطانٍ بَيِّنٍ ) .

وهل يمكن أن يكون الظن أو التقليد الأعمى دليلا على مثل هذا الإعتقاد؟ ما هذا الظلم الفاحش والانحراف الكبير :( فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً ) .

وهذا الافتراء هو ظلم للنفس ، لأنّ الإنسان يستسلم حينئذ لأسباب السقوط والشقاء ، وهو أيضا ظلم بحق المجتمع الذي تسري فيه هذه الانحرافات ، وأخيرا هو ظلم لله وتعرض لمقامه العظيم سبحانه وتعالى.

هؤلاء الفتية الموحدون قاموا بما يستطيعون لإزالة صدأ الشرك عن قلوب الناس ، وزرع غرسة التوحيد في مكانها ، إلّا أنّ ضجة عبادة الأصنام في ذلك المحيط الفاسد ، وظلم الحاكم الجبار كانتا من الشدّة بحيث حبستا أنفاس عبادة الله في صدورهم وانكمشت همهمات التوحيد في حناجرهم.

وهكذا اضطروا للهجرة لانقاذ أنفسهم والحصول على محيط أكثر استعدادا وقد تشاوروا فيما بينهم عن المكان الذي سيذهبون إليه ثمّ كان قرارهم :( وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَما يَعْبُدُونَ إِلَّا اللهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ ) . حتى :( يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقاً ) .

«يهيّئ» مشتقة من «تهيئة» بمعنى الإعداد.

٢٠٩

«مرفق» تعني الوسيلة التي تكون سببا للطف والرفق والراحة ، وبذا يكون معنى الجملة( وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقاً ) أنّ الخالق سبحانه وتعالى سيرتب لكم وسيلة للرفق والراحة.

وليس من المستبعد أن يكون (نشر الرحمة) الوارد في الجملة الأولى إشارة إلى الألطاف المعنوية لله تبارك وتعالى ، في حين أنّ الجملة الثّانية تشير إلى الجوانب المادية التي تؤدي إلى خلاصهم ونجاتهم.

* * *

ملاحظات

١ ـ الفتوة والإيمان

تتزامن روح التوحيد دائما مع سلسلة من الصفات الإنسانية العالية ، فهي تنبع منها وتؤثّر فيها أيضا ، ويكون التأثير فيما بينهما متبادلا. ولهذا السبب فإننا نقرأ في قصّة أصحاب الكهف أنّهم كانوا فتية آمنوا بربّهم.

وعلى هذا الأساس قال بعض العلماء : رأس الفتوة الإيمان.

وقال البعض الآخر منهم : الفتوة بذل الندى ، وكف الأذى ، وترك الشكوى.

والبعض الثّالث فسّر الفتوة بقوله : هي اجتناب المحارم واستعمال المكارم.

٢ ـ الإيمان والإمداد الإلهي

في عدّة مواقع من الآيات أعلاه تنعكس بوضوح حقيقة الإمداد الإلهي للمؤمنين، فإذا وضع الإنسان خطواته في طريق الله ، ونهض لأجله فإنّ الإمداد الإلهي سيشمله ، ففي مكان تقول الآية :( إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْناهُمْ هُدىً ) .

وفى مكان آخر تقول :( وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ ) . وفي نهاية الآيات كانوا بانتظار رحمة الخالق :( يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ ) .

٢١٠

الآيات القرآنية الأخرى تؤيد هذه الحقيقة بوضوح ، فعند ما يجاهد الإنسان من أجل الله ، فإنّ الله يهديه إلى طريق الحق :( وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا ) (١) وفي سورة محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم آية (١٧) نقرأ قوله تعالى :( وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً ) .

إنّ طريق الحق مليء بالموانع والصعوبات ، ومن العسير على الإنسان طي هذا الطريق والوصول إلى الأهداف من دون لطف الله وعنايته.

ونعلم أيضا إنّ لطف الله أكبر من أن يترك العبد في طريق الحق لوحده.

٣ ـ ملجأ باسم الغار

إنّ وجود (أل) التعريف في كلمة «الكهف» قد تكون إشارة إلى أنّهم (أصحاب الكهف) كانوا مصممين على الذهاب إلى مكان معين في حال عدم نجاح دعوتهم التوحيدية ، وذلك لإنقاذ أنفسهم من ذلك المحيط الملوّث.

(الكهف) كلمة ذات مفهوم واسع ، وتذكرنا بنمط الحياة الابتدائية للإنسان ، حيث ينعدم فيه الضوء ، ولياليه مظلمة وباردة ، وتذكرنا بآلام المحرومين ، إذ ليس ثمّة شيء من زينة الحياة المادية ، أو الحياة الناعمة المرفّهة.

ويتّضح الأمر أكثر إذا ما أخذنا بنظر الإعتبار أنّ التأريخ ينقل لنا أنّ أصحاب الكهف كانوا من الوزراء وأصحاب المناصب الكبيرة داخل الحكم. وقد نهضوا ضدّ الحاكم وضدّ مذهبه ، وكان اختيار حياة الكهوف على هذه الحياة قرارا يحتاج إلى المزيد من الشهامة والهمّة والروح والإيمان العالي.

وفي هذا الغار البارد المظلم الذي قد يتضّمن خطر الحيوانات المؤذية ، هناك عالم من النور والإخلاص والتوحيد والمعاني السامية.

إنّ خطوط الرحمة الإلهية متجلية على جدران هذا الغار ، وأمواج لطف

__________________

(١) العنكبوت ، الآية الأخيرة.

٢١١

الخالق تسبح في فضائه ، ليس هناك وجود للأصنام من أي نوع كانت ، ولا يصل طوفان ظلم الجبارين إلى هذا الكهف.

هؤلاء الفتية الموحدون تركوا الدنيا الملوثة الواسعة والتي كان سجنا لأرواحهم وذهبوا إلى غار مظلم جاف. وفعلهم هذا يشبه فعل النّبي يوسفعليه‌السلام حين أصروا عليه أن يستسلم لشهوة امرأة العزيز الجميلة ، وإلّا فالسجن الموحش المظلم سيكون في انتظاره ، لكن هذا الضغط زاد في صموده وقال متوجها إلى ربّه العظيم :( رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَ ) (١) .

* * *

__________________

(١) يوسف ، ٣٣.

٢١٢

الآيتان

( وَتَرَى الشَّمْسَ إِذا طَلَعَتْ تَزاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَإِذا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذاتَ الشِّمالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذلِكَ مِنْ آياتِ اللهِ مَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً (١٧) وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقاظاً وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَذاتَ الشِّمالِ وَكَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِراراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً (١٨) )

التّفسير

مكان أصحاب الكهف :

يشير القرآن في الآيتين أعلاه إلى التفاصيل الدقيقة المتعلّقة بالحياة العجيبة لأصحاب الكهف في الغار ، وكأنّها تحكى على لسان شخص جالس في مقابل الغار ينظر إليهم.

في هاتين الآيتين إشارة إلى ست خصوصيات هي :

أوّلا : فتحة الغار كانت باتجاه الشمال ، ولكونه في الجزء الشمالي من الكرة الأرضية، فإنّ ضوء الشمس كان لا يدخل الغار بشكل مباشر ، فالقرآن يقول إنّك

٢١٣

إذا رأيت الشمس حين طلوعها لرأيت أنّها تطلع من جهة يمين الغار ، وتغرب من جهة الشمال :( وَتَرَى الشَّمْسَ إِذا طَلَعَتْ تَزاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَإِذا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذاتَ الشِّمالِ ) .

وعلى هذا الأساس لم يكن ضوء الشمس يصل إلى أجسادهم بشكل مباشر ، وهو أمر لو حصل فقد يؤدي إلى تلف أجسادهم ، ولكن الأشعة غير المباشرة كانت تدخل الغار بمقدار كاف.

إنّ عبارة (تزاور) التي تعني (التمايل) تؤكّد على هذا المعنى ، وكأنّ الشمس كانت مأمورة بأن تمرّ من اليمين (يمين الغار). وكلمة (تقرض) التي تعني (القطع) تؤكّد نفس مفهوم السابق ، وإضافة إلى هذا فإنّ كلمة «تزاور» المشتقّة من كلمة (الزيارة) المقارنة لبداية الشيء تناسب مفهوم طلوع الشمس. (وتقرض) تعني القطع والنهاية وهو معنى يتجلى في غروب الشمس.

ولأنّ فتحة الغار كانت إلى الشمال فإنّ الرياح اللطيفة والمعتدلة كانت تهب من طرف الشمال وكانت تدخل بسهولة إلى داخل الغار ، وتؤدي الى تلطيف الهواء في جميع زوايا الغار.

ثانيا :( وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ )

لقد كان أولئك في مكان واسع من الغار ، وهذا يدل على أنّهم لم يأخذوا مستقرّهم في فتحة الغار التي تتسم بالضيق عادة ، بل إنّهم انتخبوا وسط الغار مستقرا لهم كي يكونوا بعيدين عن الأنظار ، وبعيدين أيضا عن الأشعة المباشر لضوء الشمس.

وهنا يقطع القرآن تسلسل الكلام ويستنتج نتيجة معنوية ، حيث يبيّن أنّ الهدف من ذكر هذه القصة هو لتحقيق هذا الغرض :( ذلِكَ مِنْ آياتِ اللهِ مَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً ) .

٢١٤

نعم ، إنّ الذين يضعون أقدامهم في طريق الله ، ويجاهدون لأجله فإنّ الله سيشملهم بلطفه في كل خطوة وليس في بداية العمل فقط. إنّ الله يرعى هؤلاء حتى في أدق التفاصيل.

ثالثا : إنّ نوم أصحاب الكهف لم يكن نوما عاديا :( وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقاظاً وَهُمْ رُقُودٌ ) . وهذا يدل على أنّ أجفانهم كانت مفتوحة بالضبط مثل الإنسان اليقظ ، وقد تكون هذه الحالة الاستثنائية لكي لا تقترب منهم الحيوانات المؤذية التي تخاف الإنسان اليقظ. أو لكي يكون شكلهم مرعبا كي لا يتجرأ إنسان على الاقتراب منهم. وهذا بنفسه أسلوب للحفاظ عليهم.

رابعا : وحتى لا تتهرأ أجسامهم بسبب السنين الطويلة التي مكثوا فيها نياما في الكهف ، فإنّ الله تبارك وتعالى يقول :( وَنُقَلِّبُهُمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَذاتَ الشِّمالِ ) .

حتى لا يتركز الدم في مكان معين ، ولا تكون هناك آثار سيئة على العضلات الملاصقة للأرض بسبب الضغط عليها لمدّة طويلة.

خامسا : في وصف جديد يقول تعالى :( وَكَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ بِالْوَصِيدِ ) .

كلمة «وصيد» وكما يقول الراغب في المفردات تعني في الأصل الغرفة أو المخزن الذي يتمّ إيجاده في الجبال لأجل خزن الأموال ، إلّا أنّ المقصود به هنا هو فتحة الغار.

برغم أنّ الآيات القرآنية لم تتحدث حتى الآن عن كلب أصحاب الكهف ، إلّا أنّ القرآن يذكر هنا تعابير خاصّة تتضح من خلالها بعض المسائل ، فمثلا ذكر حالة كلب أصحاب الكهف يفيد أنّه كان معهم كلب يتبعهم أينما ذهبوا ويقوم بحراستهم.

أمّا متى التحق هذا الكلب بهم ، وهل كان كلب صيدهم ، أو أنّه كلب ذلك الراعي الذي التقى بهم في منتصف الطريق ، وعند ما عرف حقيقتهم أرسل

٢١٥

حيواناته إلى القرية والتحق بهم ، لأنّه كان يبحث عن الحقيقة مثلهم وقد رفض هذا الكلب أن يتركهم واستمرّ معهم.

ألا يعني هذا الكلام أنّ جميع المحبّين ـ لأجل الوصول إلى الحق ـ يستطيعون سلوك هذا الطريق ، وأنّ الأبواب غير مغلقة أمام أحد سواء كانوا وزراء عند الملك الظالم ثمّ تابوا ، أو كان راعيا ، بل وحتى كلبه؟!

ألم يؤكّد القرآن أن جميع ذرات الوجود في الأرض والسماء ، وجميع الأشجار والأحياء تذكر الله ، وتحبّ الله في قلوبها وصميم وجودها؟ (راجع سورة الإسراء ـ الآية ٤٤).

سادسا : قوله تعالى :( لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِراراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً ) .

إنّها ليست المرّة الأولى ولا الأخيرة التي يحفظ فيها الله تبارك وتعالى عباده المؤمنين بالرعب والخوف ، فقد واجهتنا في الآية (١٥١) من سورة آل عمران صورة مماثلة جسّدها قول الله تبارك وتعالى :( سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ ) (١) .

وفي دعاء الندبة نقرأ كلاما حول رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ثمّ نصرته بالرعب».

أو ما هو سبب الرعب في مشاهدة أهل الكهف ، وهل يعود ذلك لظاهرهم الجسماني ، أو بسبب قوّة معنوية سرية؟

الآيات القرآنية لم تتحدّث عن ذلك ، ولكن المفسّرين ذكروا بحوثا مفصّلة في هذا المجال ، ولعدم قيام الدليل عليها صرفنا النظر عن ذكرها.

كما أنّ قوله تعالى :( وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً ) في الحقيقة علّة لقوله تعالى :

__________________

(١) لأجل التوضيح أكثر يمكن مراجعة ما جاء في ذيل الآية (١٤٨) من سورة آل عمران والآية (١٢) من سورة الأنفال من تفسيرنا هذا.

٢١٦

( لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِراراً ) يعني لكنت تهرب بسبب الخوف الذي يملأ قلبك ، وكأنّ قلبك مملوء بالخوف ، وينفذ إلى ذرّات وجودك بحيث أنّ جميع وجود الإنسان يصاب بالوحشة والخوف. على أي حال ، إذا أراد الله شيئا فإنّه يحقق أهم النتائج من خلال أبسط الطرق.

* * *

٢١٧

الآيتان

( وَكَذلِكَ بَعَثْناهُمْ لِيَتَساءَلُوا بَيْنَهُمْ قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّها أَزْكى طَعاماً فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً (١٩) إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً (٢٠) )

التّفسير

اليقظة بعد نوم طويل :

سوف نقرأ في الآيات القادمة ـ إن شاء الله تعالى ـ أنّ نوم أصحاب الكهف كان طويلا للغاية بحيث استمر (٣٠٩) سنة ، وعلى هذا الأساس كان نومهم أشبه بالموت ، ويقظتهم أشبه بالبعث ، لذا فإنّ القرآن يقول في الآيات التي نبحثها( وَكَذلِكَ بَعَثْناهُمْ ) .

يعني مثلما كنّا قادرين على إنامتهم نوما طويلا فإنّنا أيضا قادرون على

٢١٨

إيقاظهم. لقد أيقظناهم من النوم :( لِيَتَساءَلُوا بَيْنَهُمْ قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ ) (١) .

( قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ ) .

لعل التردّد والشك هنا يعود ـ كما يقول المفسّرون ـ إلى أن أصحاب الكهف دخلوا الغار في بداية اليوم ، ثمّ ناموا ، وفي نهاية اليوم استيقظوا من نومهم ، ولهذا السبب اعتقدوا في بادئ الأمر بأنّهم ناموا يوما واحدا ، وبعد أن رأوا حالة الشمس ، قالوا : بل( بَعْضَ يَوْمٍ ) .

وأخيرا ، بسبب عدم معرفته لمقدار نومهم قالوا :( قالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ ) .

قال بعضهم : إنّ قائل هذا الكلام هو كبيرهم المسمى (تلميخا) وبالنسبة لاستخدام صيغة الجمع على لسانه (قالوا) فهو متعارف في مثل هذه الموارد.

وقد يكون كلامهم هذا بسبب شكّهم في أنّ نومهم لم يكن نوما عاديا ، وذلك عند ما شاهدوا هندامهم وشعرهم وأظفارهم وما حلّ بملابسهم.

ولكنّهم ـ في كل الأحوال ـ كانوا يحسّون بالجوع وبالحاجة الشديدة إلى الطعام ، لأنّ المخزون الحيوي في جسمهم انتهى أو كاد ، لذا فأوّل اقتراح لهم هو إرسال واحد منهم مع نقود ومسكوكات فضية لشراء الغذاء :( فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّها أَزْكى طَعاماً فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ ) .

ثمّ أردفوا :( وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً ) . لماذا هذا التلطّف :( إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ ) .

ثمّ :( وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً ) .

* * *

__________________

(١) اللام في «ليتساءلوا» هي لام العاقبة وليست للعلّة. يعنى أنّ نتيجة يقظتهم هو أن سأل أحدهم الآخر عن طول مدّة نومهم.

٢١٩

بحوث

١ ـ أزكى الطعام

مع أنّ أصحاب الكهف كانوا بعد يقظتهم بحاجة شديدة إلى الطعام ، إلّا أنّهم قالوا للشخص الذي كلّفوه بشراء الطعام : لا تشتر الطعام من أيّ كان ، وإنّما انظر أيّهم أزكى وأطهر طعاما فأتنا منه.

بعض المفسّرين تأولوا المعنى وقالوا : إنّ المقصود من (أزكى) هو ما يعود إلى الحيوانات المذبوحة ، إذ أنّهم كانوا يعلمون أنّ في تلك المدينة من يبيع لحم الميتة (أي غير المذبوح على الطريقة الشرعية) وأنّ البعض يتكسّب بالحرام ، لذلك أوصوا صاحبهم بضرورة أن يتجنب مثل هؤلاء الأشخاص عند ما يحاول شراء الطعام.

ولكن يظهر أنّ لهذه الجملة مفهوما واسعا يشمل كافة أشكال الطهارات الظاهرية والباطنية (المعنوية) ، وكلامهم وتوصيتهم هي توصية لكافة أنصار الحق ، في أن لا يفكروا بطهارة غذائهم المعنوي وحسب ، بل عليهم أيضا الاهتمام بطهارة طعام الأجسام كي يكون زكيا نقيا من جميع الأرجاس والشبهات. وإنّ هذا الأمر ينبغي أن يلازمهم حتى في أصعب لحظات الحياة وأشدّها عسرا ، لأنّ هذا المعنى هو تعبير عن أصل في وجود المؤمن.

اليوم يسعى معظم أفراد عالمنا للاهتمام بجانب من هذا الأمر ، وهو الجانب المتعلق بالحفاظ على الطعام من أشكال التلوث الظاهري ، إذ يضعون الطعام في أواني مغطاة بعيدة عن الأيدي الملوّثة ، وعن الأتربة والغبار. وهذا العمل بحدّ ذاته جيد جدّا ، إلّا أنّ علينا أن لا نكتفي بهذا المقدار ، بل ينبغي تزكية الطعام وتطهيره من لوثة الشبهة والحرام والرّبا والغش وأي شكل من أشكال التلوّث المعنوي.

وفي الرّوايات الإسلامية هناك تأكيد كبير على الطعام الحلال النقي الزاكي وأثره في صفاء القلب واستجابة الدعاء.

٢٢٠

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

محمّد البدر، آخر أئمة الزيديّة، فليرجع إلى كتابنا (بحوث في الملل والنحل). (1)

فكما قامت للزيديّة دولة في المغرب واليمن، فهكذا قامت دولة زيديّة في طبرستان بين الأعوام (250 - 360هـ)؛ حيث ظهر الحسن بن زيد بن محمّد بن إسماعيل بن زيد بن الحسين في طبرستان أيّام المستعين الله، وتمكّن من بسط نفوذه على طبرستان وجُرجان، وقام بعده أخوه محمّد بن زيد، ودخل بلاد الديلم عام 277هـ، ثُمَّ ملك طبرستان بعد ذلك الناصر للحق الحسن بن عليّ المعروف بالأطروش، وجاء بعده الحسن بن القاسم، وبعده محمّد بن الحسن بن القاسم المتوفّى 360هـ.

هذه إلمامة موجزة وضعتها أمام القارئ عن ثوّارهم ودولهم.

عقائد الزيديّة

لم يكن زيد الشهيد صاحب نهج كلامي ولا فقهي، فلو كان يقول بالعدل والتوحيد ويكافح الجبر والتشبيه، فلأجل أنّه ورثهما عن آبائه (عليهم السّلام)، وإن كان يفتي في مورد أو موارد، فهو يصدر عن الحديث الّذي يرويه عن آبائه.

نعم، جاء بعد زيد مفكّرون وعاة، وهم بين دعاة للمذهب، أو بناة للدولة في اليمن وطبرستان، فساهموا في إرساء مذهب باسم المذهب الزيدي، متفتّحين في الأُصول والعقائد مع المعتزلة، وفي الفقه وكيفيّة الاستنباط مع الحنفيّة، ولكن الصلة بين ما كان عليه زيد الشهيد في الأُصول والفروع وما أرساه

____________________

(1) بحوث في الملل والنحل: 7/371 - 386.

٢٤١

هؤلاء في مجالي العقيدة والشريعة منقطعة إلاّ في القليل منهما.

ولا أُغالي إذا قلت: إنّ المذهب الزيدي مذهب ممزوج ومنتزع من مذاهب مختلفة في مجالي العقيدة والشريعة، ساقتهم إلى ذلك الظروف السائدة عليهم، وصار مطبوعاً بطابع مذهب زيد، وإن لم يكن له صلة بزيد إلاّ في القسم القليل.

ومن ثَمَّ التقت الزيديّة في العدل والتوحيد مع شيعة أهل البيت جميعاً، إذ شعارهم في جميع الظروف والأدوار رفض الجبر والتشبيه، والجميع في التديّن بذينك الأصلين عيال على الإمام عليّ بن أبي طالب (عليه السّلام)، كما أنّهم التقوا في الأُصول الثلاثة: ـ

1 - الوعد والوعيد.

2 - المنزلة بين المنزلتين.

3 - الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. - مع المعتزلة حيث أدخلوا هذه الأُصول في مذهبهم ورتّبوا عليه:

1 - خلود مرتكب الكبيرة في النار إذا مات بلا توبة، وحرمانه من الشفاعة؛ لأنّها للعدول دون الفسّاق.

2 - الشفاعة؛ بمعنى ترفيع الدرجة، لا الحطّ من الذنوب.

3 - الفاسق في منزلة بين المنزلتين؛ فهو عندهم لا مؤمن ولا كافر بل فاسق.

فاستنتجوا الأمرين الأوّلين من الأصل الأوّل، والثالث من الأصل الثاني.

٢٤٢

وأمّا الأصل الثالث، فهو ليس من خصائص الاعتزال، ولا الزيديّة، بل يشاركهم الإماميّة. هذه عقائدهم في الأُصول.

وأمّا الفروع فقد التفّت الزيديّة حول القياس والاستحسان والإجماع، وجعلوا الثالث بما هو هو حجّة، كما قالوا بحجيّة قول الصحابي وفعله، وبذلك صاروا أكثر فِرق الشيعة انفتاحاً على أهل السنّة.

ولكن العلامة الفارقة والنقطة الشاخصة الّتي تميّز هذا المذاهب عمّا سواه من المذاهب، ويسوقهم إلى الانفتاح على الإماميّة والإسماعيليّة، هو القول بإمامة عليّ والحسنين بالنصّ الجليّ أو الخفيّ عن النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، والقول بأنّ تقدّم غيرهم عليهم كان خطأ وباطلاً.

وها نحن نأتي برؤوس عقائدهم الّتي يلتقون في بعضها مع المعتزلة والإماميّة:

1 - صفاته سبحانه عين ذاته، خلافاً للأشاعرة.

2 - إنّ الله سبحانه لا يُرى ولا تجوز عليه الرؤية.

3 - العقل يدرك حسن الأشياء وقبحها.

4 - الله سبحانه مريد بإرادة حادثة.

5 - إنّه سبحانه متكلّم بكلام، وكلامه سبحانه فعله: وهو الحروف والأصوات.

6 - أفعال العباد ليست مخلوقة لله سبحانه.

7 - تكليف ما يطاق قبيح، خلافاً للمجبّرة والأشاعرة.

8 - المعاصي ليس بقضاء الله.

٢٤٣

9 - الإمامة تجب شرعاً لا عقلاً، خلافاً للإمامية.

10 - النصّ على إمامة زيد والحسنين عند الأكثريّة.

11 - القضاء في فدك صحيح، خلافاً للإماميّة.

12 - خطأ المتقدّمين على عليّ في الخلافة قطعيّ.

13 - خطأ طلحة والزبير وعائشة قطعيّ.

14 - توبة الناكثين صحيحة.

15 - معاوية بن أبي سفيان فاسق لبغيه لم تثبت توبته.

هذه رؤوس عقائد الزيديّة استخرجناها من كتاب (القلائد في تصحيح الاعتقاد)، المطبوع في مقدّمة البحر الزخّار. (1)

فرق الزيديّة:

قد ذكر مؤرّخو العقائد للزيديّة فِرقاً، بين مقتصر على الثلاث، وإلى مفيض إلى ست، وإلى ثمان، منهم: الجاروديّة والسليمانيّة والبتريّة والنعيميّة، إلى غير ذلك من الفِرق، وبما أنّ هذه الفِرق كلّها قد بادت وذهبت أدراج الريح، مع بقاء الزيديّة في اليمن، ولا يوجد اليوم في اليمن بين الزيديّة من المفاهيم الكلاميّة المنسوبة إلى الفِرق كالجاروديّة أو السليمانيّة أو البتريّة أو الصالحيّة إلاّ مفهوم واحد، وهو المفهوم العام الّذي تعرفت عليه، وهو القول بإمامة زيد والخروج

____________________

(1) البحر الزخّار: 52 - 96.

٢٤٤

على الظلمة، واستحقاق الإمامة بالطلب والفضل، لا بالوراثة، مع القول بتفضيل عليّ - كرم الله وجهه - وأولويتّه بالإمامة، وقصرها من بعده في البطنين الحسن والحسين.

وأمّا أسماء تلك الفِرق والعقائد المنسوب إليهم، فلا توجد اليوم إلاّ في بطون الكتب والمؤلَّفات في الفِرق الإسلاميّة كالمِلل والنحل ونحوها، فإذا كان الحال في اليمن كما ذكره الفضيل شرف الدين، فالبحث عن هذه الفِرق من ناحية إيجابيّاتها وسلبيّاتها ليس مهمّاً بعد ما أبادهم الدهر، وإنّما اللاّزم دراسة المفهوم الجامع بين فِرقهم.

٢٤٥

15

الإسماعيليّة

الإسماعيليّة فِرقة من الشيعة القائلة بأنّ الإمامة بالتنصيص من النبيّ أو الإمام القائم مقامه، غير أنّ هناك خلافاً بين الزيديّة والإماميّة والإسماعيليّة في عدد الأئمّة ومفهوم التنصيص.

فالأئمّة المنصوصة خلافتهم وإمامتهم بعد النبيّ عند الزيديّة لا يتجاوز عن الثلاثة: عليّ أمير المؤمنين (عليه السّلام)، والسبطين الكريمين: الحسن والحسين (عليهما السّلام)، وبشهادة الأخير أغلقت دائرة التنصيص وجاءت مرحلة الانتخاب بالبيعة كما تقدم.

وأمّا الأئمّة المنصوصون عند الإماميّة فاثنا عشر إماماً آخرهم غائبهم يظهره الله سبحانه عندما يشاء، وقد حوّل أمر الأُمّة - في زمان غيبته - إلى الفقيه العارف بالأحكام والسنن والواقف على مصالح المسلمين على النحو المقرّر في كتبهم وتآليفهم.

وأمّا الإمامة عند الإسماعيليّة فهي تنتقل عندهم من الآباء إلى الأبناء، ويكون انتقالها عن طريق الميلاد الطبيعي، فيكون ذلك بمثابة نصّ من الأب بتعيين الابن، وإذا كان للأب عدّة أبناء فهو بما أُوتي من معرفة خارقة للعادة يستطيع أن يعرف من هو الإمام الّذي وقع عليه النص، فالقول بأنّ الإمامة عندهم بالوراثة أولى من القول بالتنصيص.

٢٤٦

وعلى كلّ حال فهذه الفِرقة منشقّة عن الشيعة، معتقدة بإمامة إسماعيل بن جعفر بن الإمام الصادق (عليه السّلام)، وإليك نبذة مختصرة عن سيرة إسماعيل بن جعفر الصادق (عليه السّلام) (110 - 145هـ).

الإمام الأوّل للدعوة الإسماعيليّة:

إنّ إسماعيل هو الإمام الأوّل والمؤسّس للمذهب، فوالده الإمام الصادق (عليه السّلام) غنيّ عن التعريف وفضله أشهر من أن يُذكر، وأُمّه فاطمة بنت الحسين بن عليّ بن الحسين الّتي أنجبت أولاداً ثلاثة هم:

1 - إسماعيل بن جعفر.

2 - عبد الله بن جعفر.

3 - أُم فروة.

وكان إسماعيل أكبرهم، وكان أبو عبد الله (عليه السّلام) شديد المحبّة له والبرَّ به والإشفاق عليه، مات في حياة أبيه (عليه السلام) (بالعريض) وحمل على رقاب الرّجال إلى أبيه بالمدينة حتّى دفنه بالبقيع. (1)

استشهاد الإمام الصادق (عليه السّلام) على موته:

كان الإمام الصادق حريصاً على إفهام الشيعة بأنّ الإمامة لم تُكتب لإسماعيل، فليس هو من خلفاء الرسول الاثني عشر الّذين كُتبت لهم الخلافة والإمامة بأمر السماء وإبلاغ الرسول الأعظم.

____________________

(1) إرشاد المفيد: 284.

٢٤٧

ومن الدواعي الّتي ساعدت على بثّ بذر الشبهة والشكّ في نفوس الشيعة في ذلك اليوم؛ هو ما اشتهر من أنّ الإمامة للولد الأكبر، وكان إسماعيل أكبر أولاده، فكانت أماني الشيعة معقودة عليه، ولأجل ذلك تركّزت جهود الإمام الصادق (عليه السّلام) على معالجة الوضع واجتثاث جذور تلك الشبهة وأنّ الإمامة لغيره، فتراه تارة ينصّ على ذلك، بقوله وكلامه، وأُخرى بالاستشهاد على موت إسماعيل وأنّه قد انتقل إلى رحمة الله ولن يصلح للقيادة والإمامة.

وإليك نموذجاً يؤيّد النهج الّذي انتهجه الإمام لتحقيق غرضه في إزالة تلك الشبهة.

روى النعماني عن زرارة بن أعين، أنّه قال: دخلت على أبي عبد الله (عليه السّلام) وعند يمينه سيّد ولده موسى (عليه السّلام) وقدّامه مرقد مغطّى، فقال لي: «يا زرارة جئني بداود بن كثير الرقي وحمران وأبي بصير» ودخل عليه المفضّل بن عمر، فخرجت فأحضرت من أمرني بإحضاره، ولم يزل الناس يدخلون واحداً إثر واحد حتّى صرنا في البيت ثلاثين رجلا.

فلمّا حشد المجلس قال: «يا داود اكشف لي عن وجه إسماعيل»، فكشف عن وجهه، فقال أبو عبد الله (عليه السلام): «يا داود أحيٌّ هو أم ميّت؟» ، قال داود: يا مولاي هو ميّت، فجعل يعرض ذلك على رجل رجل، حتّى أتى على آخر من في المجلس، وانتهى عليهم بأسرهم، وكل يقول: هو ميّت يا مولاي، فقال: «اللّهم اشهد» ثُمَّ أمر بغسله وحنوطه، وإدراجه في أثوابه.

فلمّا فرغ منه قال للمفضّل: (يا مفضّل أحسر عن وجهه)، فحسر عن وجهه، فقال: «أحيُّ هو أم ميّت؟» فقال له: ميّت، قال(عليه السّلام): «اللّهم اشهد عليهم» ، ثُمَّ

٢٤٨

حمل إلى قبره، فلمّا وضع في لحده، قال: «يا مفضّل اكشف عن وجهه»، وقال للجماعة: (أحيّ هو أم ميّت؟)، قلنا له: ميّت، فقال: «اللّهم اشهد، واشهدوا فانّه سيرتاب المبطلون، يريدون إطفاء نور الله بأفواههم - ثُمَّ أومأ إلى موسى - والله متمّ نوره ولو كره المشركون»، ثُمَّ حثونا عليه التراب، ثُمَّ أعاد علينا القول، فقال: «الميّت، المحنّط، المكفّن المدفون في هذا اللحد من هو؟» قلنا: إسماعيل، قال: «اللّهم اشهد». ثُمَّ أخذ بيد موسى (عليه السّلام) وقال: «هو حقّ، والحقّ منه، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها». (1)

هل كان عمل الإمام تغطية لستره؟

إنّ الإسماعيليّة تدّعي أنّ ما قام به الإمام الصادق (عليه السّلام) كان تغطية؛ لستره عن أعين العباسيّين، الّذين كانوا يطاردونه بسبب نشاطه المتزايد في نشر التعاليم الّتي اعتبرتها الدولة العباسيّة منافية لقوانينها. والمعروف أنّه توجّه إلى سلمية ومنها إلى دمشق فعلم به عامل الخليفة، وهذا ما جعله يغادرها إلى البصرة ليعيش فيها متستّراً بقيّة حياته.

مات في البصرة سنة 143هـ، وكان أخوه موسى بن جعفر الكاظم حجاباً عليه، أمّا وليّ عهده محمّد فكان له من العمر أربع عشرة سنة عند موته. (2)

ما ذكره أُسطورة حاكتها يدُ الخيال، ولم يكن الإمام الصادق (عليه السّلام) ولا أصحابه الأجلاّء، ممّن تتلمذوا في مدرسة الحركات السريّة، حتّى يفتعل موت ابنه بمرأى ومسمع من الناس وهو بعد حيّ يرزق، ولم يكن عامل الخليفة

____________________

(1) غيبة النعماني: 327، الحديث 8، ولاحظ؛ بحار الأنوار: 48/21.

(2) عارف تامر: الإمامة في الإسلام: 180.

٢٤٩

بالمدينة المنوّرة بليداً، يكتفي بالتمويه، حتّى يتسلّم المحضر ويبعث به إلى دار الخلافة العبّاسيّة.

والظاهر أنّ إصرارهم بعدم موت إسماعيل في حياة أبيه جعفر الصادق (عليه السّلام)، لأجل تصحيح إمامة ابنه عبد الله بن إسماعيل؛ حتّى يتسنّى له أخذ الإمامة من أبيه الحيّ بعد حياة الإمام الصادق (عليه السّلام).

لكن الحقّ أنّه توفّي أيّام حياة أبيه، بشهادة الأخبار المتضافرة الّتي تعرّفت عليها، وهل يمكن إغفال أُمّة كبيرة وفيهم جواسيس الخليفة وعمّالها؟!، وستْر رحيل إسماعيل إلى البصرة بتمثيل جنازة بطريقة مسرحيّة يُعلن بها موته، فإنّه منهج وأُسلوب السياسيّين المخادعين، المعروفين بالتخطيط والمؤامرة، ومن يريد تفسير فعل الإمام عن هذا الطريق فهو من هؤلاء الجماعة (وكلّ إناء بالّذي فيه ينضح). وأين هذا من وضع الجنازة مرّات وكشف وجهه والاستشهاد على موته وكتابة الشهادة على كفنه؟!

والتاريخ يشهد على أنّه لم يكن لإسماعيل ولا لولَده الإمام الثاني، أيّة دعوة في زمان أبي جعفر المنصور ولا ولَده المهدي العبّاسي، بشهادة أنّ ابن المفضّل كتب كتاباً ذكر فيه صنوف الفِرق، ثُمَّ قرأ الكتاب على الناس، فلم يذكر فيه شيئاً من تلك الفِرقة مع أنّه ذكر سائر الفِرق الشيعيّة البائدة.

والحق إنّ إسماعيل كان رجلاً ثقة، محبوباً للوالد، وتوفّي في حياة والده وهو عنه راض، ولم تكن له أي دعوة للإمامة، ولم تظهر أي دعوة باسمه أيّام خلافة المهدي العبّاسي الّذي توفّي عام 169هـ، وقد مضى على وفاة الإمام الصادق (عليه السّلام) إحدى وعشرون سنة.

٢٥٠

الخطوط العريضة للمذهب الإسماعيلي

إنّ للمذهب الإسماعيلي آراء وعقائداً:

الأُولى: انتماؤهم إلى بيت الوحي والرسالة:

كانت الدعوة الإسماعيليّة يوم نشوئها دعوة بسيطة لا تتبنّى سوى: إمامة المسلمين، وخلافة الرسول (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) واستلام الحكم من العباسيّين بحجة ظلمهم وتعسّفهم، غير أنّ دعوة بهذه السذاجة لا يُكتب لها البقاء إلاّ باستخدام عوامل تضمن لها البقاء، وتستقطب أهواء الناس وميولهم.

ومن تلك العوامل الّتي لها رصيد شعبي كبير هو ادّعاء انتماء أئمّتهم إلى بيت الوحي والرسالة وكونهم من ذريّة الرسول وأبناء بنته الطاهرة فاطمة الزهراء (عليها السّلام)، وكان المسلمون منذ عهد الرسول يتعاطفون مع أهل بيت النبيّ، وقد كانت محبّتهم وموالاتهم شعار كلّ مسلم واع.

وممّا يشير إلى ذلك أنّ الثورات الّتي نشبت ضد الأُمويّين كانت تحمل شعار حبّ أهل البيت (عليهم السّلام) والاقتداء بهم والتفاني دونهم، ومن هذا المنطلق صارت الإسماعيليّة تفتخر بانتماء أئمّتهم إلى النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، حتّى إذا تسلّموا مقاليد الحكم وقامت دولتهم اشتهروا بالفاطميّين، وكانت التسمية يومذاك تهزّ المشاعر وتجذب العواطف بحجّة أنّ الأبناء يرثون ما للآباء من الفضائل والمآثر، وأنّ

٢٥١

تكريم ذريّة الرسول (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) تكريم له (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، فشتّان ما بين بيت أُسّس بنيانه على تقوى من الله ورضوانه وبيت أُسّس بنيانه على شفا جرف هار فانهار به في نار جهنم.

الثانية: تأويل الظواهر:

إنّ تأويل الظواهر وإرجاعها إلى خلاف ما يتبادر منها في عرف المتشرّعة هي السمة البارزة الثانية للدعوة الإسماعيليّة، وهي إحدى الدعائم الأساسيّة؛ بحيث لو انسلخت الدعوة عن التأويل واكتفت بالظواهر لم تتميّز عن سائر الفِرق الشيعيّة إلاّ بصرف الإمامة عن الإمام الكاظم (عليه السّلام) إلى أخيه إسماعيل بن جعفر، وقد بنوا على هذه الدعامة مذهبهم في مجالي العقيدة والشريعة، وخصوصاً فيما يرجع إلى تفسير الإمامة وتصنيفها إلى أصناف.

إنّ تأويل الظواهر والتلاعب بآيات الذكر الحكيم وتفسيرها بالأهواء والميول جعل المذهب الإسماعيلي يتطوّر مع تطوّر الزمان، ويتكيّف بمكيّفاته، ولا ترى الدعوة أمامها أي مانع من مماشاة المستجدات وإن كانت على خلاف الشارع أو الضرورة الدينيّة.

الثالثة: تطعيم مذهبهم بالمسائل الفلسفيّة:

إنّ ظاهرة الجمود على النصوص والظواهر ورفض العقل في مجالات العقائد، كانت من أهم ميّزات العصر العبّاسي، هذه الظاهرة ولّدت رد فعل عند أئمّة الإسماعيليّة، فانجرفوا في تيّارات المسائل الفلسفيّة وجعلوها من صميم

٢٥٢

الدّين وجذوره، وانقلب المذهب إلى منهج فلسفي يتطوّر مع تطوّر الزمن، ويتبنّى أُصولاً لا تجد منها في الشريعة الإسلاميّة عيناً ولا أثراً.

يقول المؤرّخ الإسماعيلي المعاصر مصطفى غالب: إنّ كلمة (إسماعيليّة) كانت في بادئ الأمر تدلّ على أنّها من إحدى الفِرق الشيعيّة المعتدلة، لكنّها صارت مع تطوّر الزمن حركة عقليّة تدلّ على أصحاب مذاهب دينيّة مختلفة، وأحزاب سياسيّة واجتماعيّة متعدّدة، وآراء فلسفيّة وعلميّة متنوّعة. (1)

الرابعة: تنظيم الدعوة:

ظهرت الدعوة الإسماعيليّة في ظروف ساد فيها سلطان العبّاسيّين شرق الأرض وغربها، ونشروا في كلِّ بقعة جواسيس وعيوناً ينقلون الأخبار إلى مركز الخلافة الإسلاميّة، ففي مثل هذه الظروف العصيبة لا يُكتب النجاح لكلّ دعوة تقوم ضدّ السلطة إلاّ إذا امتلكت تنظيماً وتخطيطاً متقناً يضمن استمرارها، ويصون دعاتها وأتباعها من حبائل النظام الحاكم وكشف أسرارهم.

وقد وقف الدعاة على خطورة الموقف، وأحسّوا بلزوم إتقان التخطيط والتنظيم، وبلغوا فيه الذروة؛ بحيث لو قُورنت مع أحدث التنظيمات الحزبيّة العصريّة، لفاقتها وكانت لهم القدح المعلّى في هذا المضمار، وقد ابتكروا أساليب دقيقة يقف عليها من سبر تراجمهم وقرأ تاريخهم، ولم يكتفوا بذلك فحسب بل جعلوا تنظيمات الدعوة من صميم العقيدة وفلسفتها.

____________________

(1) تاريخ الدعوة الإسماعيليّة: 14.

٢٥٣

الخامسة: تربية الفدائيّين للدفاع عن المذهب:

إنّ الأقلّية المعارضة من أجل الحفاظ على كيانها لا مناص لها من تربية فدائيّين مضحّين بأنفسهم في سبيل الدعوة؛ لصيانة أئمتهم ودعاتهم من تعرّض الأعداء، فينتقون من العناصر المخلصة المعروفة بالتضحية والإقدام، والشجاعة النادرة، والجرأة الخارقة ويكلّفون بالتضحيات الجسديّة، وتنفيذ أوامر الإمام أو نائبه، وإليك هذا النموذج:

في سنة 500 هـ فكّر فخر الملك بن نظام وزير السلطان سنجر، أن يُهاجم قلاع الإسماعيليّة، فأوفد إليه الحسن بن الصباح أحد فدائيّيه فقتله بطعنة خنجر، ولقد كانت قلاعه في حصار مستمر من قبل السلجوقيّين.

السادسة: كتمان الوثائق:

إنّ استعراض تاريخ الدعوات الباطنيّة السرّيّة وتنظيماتها رهن الوقوف على وثائقها ومصادرها الّتي تنير الدرب لاستجلاء كنهها، وكشف حقيقتها وما غمض من رموزها ومصطلحاتها، ولكن للأسف الشديد أنّ الإسماعيليّة كتموا وثائقهم وكتاباتهم ومؤلّفاتهم وكلّ شيء يعود لهم، ولم يبذلوها لأحد سواهم، فصار البحث عن الإسماعيليّة بطوائفها أمراً مستعصياً، إلاّ أن يستند الباحث إلى كتب خصومهم وما قيل فيهم، ومن المعلوم أنّ القضاء في حقّ طائفة استناداً إلى كلمات مخالفيهم خارج عن أدب البحث النزيه.

٢٥٤

السابعة: الأئمّة المستورون والظاهرون:

إنّ الإسماعيليّة أعطت للإمامة مركزاً شامخاً، وصنّفوا الإمامة إلى رُتب ودرجات، وزوّدوها بصلاحيّات واختصاصات واسعة، غير أنّ المهمَّ هنا الإشارة إلى تصنيفهم الإمام إلى مستور دخل كهف الاستتار، وظاهر يملك جاهاً وسلطاناً في المجتمع، فالأئمّة المستورون هم الّذين نشروا الدعوة سرّاً وكتماناً، وهم:

1 - إسماعيل بن جعفر الصادق (عليه السّلام) (110 - 145هـ).

2 - محمّد بن إسماعيل الملقّب بـ (الحبيب) (132 - 193هـ)، ولد في المدينة المنوّرة وتسلّم شؤون الإمامة واستتر عن الأنظار خشية وقوعه بيد الأعداء. ولقّب بالإمام المكتوم لأنّه لم يعلن دعوته وأخذ في بسطها خفية.

3 - عبد الله بن محمّد بن إسماعيل الملقّب بـ (الوافي) (179 - 212هـ)، ولد في مدينة محمّد آباد، وتولّى الإمامة عام 193هـ بعد وفاة أبيه، وسكن السلمية عام 194هـ مصطَحباً بعدد من أتباعه؛ وهو الّذي نظّم الدعوة تنظيماً دقيقاً.

4 - أحمد بن عبد الله بن محمّد بن إسماعيل الملقّب بـ (التقي) (198 - 265هـ)، وتولّى الإمامة عام 212هـ، سكن السلمية سرّاً حيث أصبحت مركزاً لنشر الدعوة.

5 - الحسين بن أحمد بن عبد الله بن محمّد بن إسماعيل الملقّب بـ (الرضي) (212 - 289هـ) تولّى الإمامة عام 265هـ، ويقال أنّه اتّخذ عبد الله بن ميمون القدّاح حجّة له وحجاباً عليه.

٢٥٥

الأئمّة الظاهرون:

6 - عبيد الله المهدي (260 - 322هـ) والمعروف بين الإسماعيليّة أنّ عبيد الله المهدي الّذي هاجر إلى المغرب وأسّس هناك الدولة الفاطميّة كان ابتداءً لعهد الأئمّة الظاهرين الّذين جهروا بالدعوة وأخرجوها عن الاستتار.

7 - محمّد بن عبيد الله القائم بأمر الله (280 - 334هـ)، ولد بالسلمية، ارتحل مع أبيه عبيد الله المهدي إلى المغرب وعهد إليه بالإمامة من بعده.

8 - إسماعيل المنصور بالله (303 - 346هـ)، ولد بالقيروان، تسلّم شؤون الإمامة بعد وفاة أبيه سنة 334هـ.

9 - معد بن إسماعيل المعزّ لدين الله (319 - 365هـ)، مؤسس الدولة الفاطميّة في مصر.

10 - نزار بن معد العزيز بالله (344 - 386هـ)، ولي العهد بمصر سنة 365هـ، واستقلّ بالأمر بعد وفاة أبيه، وكانت خلافته إحدى وعشرين سنة وخمسة أشهر ونصفاً.

11 - منصور بن نزار الحاكم بأمر الله (375 - 411هـ)، بويع بالخلافة سنة 386هـ وكان عمره أحد عشر عاماً ونصف العام، وهو من الشخصيّات القليلة الّتي لم تتجلّ شخصيّته بوضوح، وقام بأعمال إصلاحيّة زعم مناوئوه أنّها من البدع.

وأمّا عن مصير الحاكم، فمجمل القول فيه أنّه فُقد في سنة 411هـ، ولم يُعلم مصيره، وحامت حول كيفيّة اغتياله أساطير لا تتلاءم مع الحاكم المقتدر.

٢٥٦

وبعد اختفائه انشقّت فِرقة من الإسماعيليّة ذهبت إلى إلوهيّة الحاكم وغيبته، وهم المعروفون اليوم بـ (الدروز) يقطنون لبنان.

12 - عليّ بن منصور الظاهر لإعزاز دين الله (395 - 427هـ)، بويع بالخلافة وعمره ستة عشر عاماً، وشنّ حرباً على الدروز محاولاً إرجاعهم إلى العقيدة الفاطميّة الأصيلة.

13 - معد بن عليّ المستنصر بالله (420 - 487هـ)، بويع بالخلافة عام 427هـ، وكان له من العمر سبعة أعوام، وقد ظلّ في الحكم ستّين عاماً، وهي أطول مدّة في تاريخ الخلافة الإسلاميّة.

إلى هنا تمّت ترجمة الأئمّة الثلاثة عشر الّذين اتّفقت كلمة الإسماعيليّة على إمامتهم وخلافتهم، ولم يشذّ منهم سوى الدروز الّذين انشقوا عن الإسماعيليّة في عهد خلافة الحاكم بأمر الله، وصار وفاة المستنصر بالله سبباً لانشقاق آخر وظهور طائفتين من الإسماعيليّة، بين مستعلية تقول بإمامة أحمد المستعلي بن المستنصر بالله، ونزاريّة تقول بإمامة نزار بن المستنصر.

وسنأتي بالحديث عن الإسماعيليّة المستعلية والنزاريّة فيما يلي.

٢٥٧

الإسماعيليّة المستعلية

صارت وفاة المستنصر بالله سبباً لانشقاق الإسماعيليّة مرّة ثانية - بعد انشقاق الدروز في المرّة الأُولى - فمنهم من ذهب إلى إمامة أحمد المستعلي بن المستنصر بالله، ومنهم من ذهب إلى إمامة نزار من المستنصر بالله، وإليك الكلام في أئمّة المستعلية في هذا الفصل مقتصرين على أسمائهم وتاريخ ولادتهم ووفاتهم:

1 - الإمام أحمد بن معد بن عليّ المستعلي بالله (467 - 495هـ).

2 - الإمام منصور بن أحمد الآمر بأحكام الله (490 - 524هـ).

قال ابن خلّكان: مات الآمر بأحكام الله ولم يعقب، وربّما يقال: أنّ الآمر مات وامرأته حامل بالطيّب. فلأجل ذلك عهد الآمر بأحكام الله الخلافة إلى الحافظ، الظافر، الفائز، ثُمَّ إلى العاضد، وبما أنّ هؤلاء لم يكونوا من صلب الإمام السابق، بل كانوا من أبناء عمّه صاروا دعاة؛ حيث لم يكن في الساحة إمام، ودخلت الدعوة المستعلية بعد اختفاء الطيّب بالستر، وما تزال تنتظر عودته، وتوقّفت عن السير وراء الركب الإمامي واتّبعت نظام الدعاة المطلقين.

3 - الداعي عبد المجيد بن أبي القاسم محمّد بن المستنصر الحافظ لدين الله (467 - 544هـ).

4 - الداعي إسماعيل بن عبد المجيد الظافر بأمر الله (527 - 549 هـ).

٢٥٨

5 - الداعي عيسى بن إسماعيل الفائز بنصر الله (544 - 555هـ).

6 - عبد الله بن يوسف العاضد لدين الله (546 - 567هـ).

ثُمَّ إنّ العاضد فوّض الوزارة إلى صلاح الدين الأيّوبي الّذي بذل الأموال على أصحابه وأضعف العاضد باستنفاد ما عنده من المال، فلم يزل أمره في ازدياد وأمر العاضد في نقصان، حتّى تلاشى العاضد وانحلّ أمره، ولم يبق له سوى إقامة ذكره في الخطبة، وتتبّع صلاح الدين جُند العاضد، وأخذ دور الأمراء وإقطاعاتهم فوهبها لأصحابه، وبعث إلى أبيه وإخوته وأهله، فقدموا من الشام عليه، وعزل قُضاة مصر الشيعة، واختفى مذهب الشيعة إلى أنّ نُسي من مصر، وقد زادت المضايقات على العاضد وأهل بيته، حتّى مرض ومات وعمره إحدى وعشرون سنة إلاّ عشرة أيام، وهو آخر الخلفاء الفاطميّين بمصر، وكانت مدّتهم بالمغرب ومصر منذ قام عبيد الله المهدي إلى أن مات العاضد 272 سنة، منها بالقاهرة 208 سنين.(1)

تتابع الدعاة عند المستعلية:

قد عرفت أنّ ركب الإمامة قد توقّف عند المستعلية وانتهى الأمر إلى الدعاة الّذين تتابعوا إلى زمان 999هـ، وعند ذلك افترقت المستعلية إلى فِرقتين: داوديّة، وسليمانيّة، وذلك بعد وفاة الداعي المطلق داود بن عجب شاه، انتخبت مستعلية كجرات داود بن قطب شاه خلفاً له، ولكن اليمانيّين عارضوا ذلك وانتخبوا داعياً آخر، يُدعى سليمان بن

____________________

(1) انظر الخطط المقريزيّة: 1/358 - 359.

٢٥٩

الحسن، ويقولون: إنّ داود قد أوصى له بموجب وثيقة ما تزال محفوظة.

إنّ الداعي المطلق للفِرقة الإسماعيليّة المستعلية الداوديّة اليوم هو طاهر سيف الدّين، ويُقيم في بومباي الهند، أمّا الداعي المطلق للفِرقة المستعلية السليمانيّة فهو عليّ بن الحسين، ويقيم في مقاطعة نجران بالحجاز. (1)

جناية التاريخ على الفاطميّين:

لاشكّ أنّ كلّ دولة يرأسها غير معصوم لا تخلو من أخطاء وهفوات، وربّما تنتابها بين آونة وأُخرى حوادث وفتن تضعضع كيانها وتشرفها على الانهيار.

والدولة الفاطميّة غير مستثناة عن هذا الخط السائد؛ فقد كانت لديها زلاّت وعثرات، إلاّ أنّها قامت بأعمال ومشاريع كبيرة لا تقوم بها إلاّ الدولة المؤمنة بالله سبحانه وشريعته، كالجامع الأزهر الّذي ظلّ عبر الدهور يُنير الدرب لأكثر من ألف سنة، كما أنّهم أنشأوا جوامع كبيرة ومدارس عظيمة مذكورة في تاريخهم، وبذلك رفعوا الثقافة الإسلاميّة إلى مرتبة عالية، وتلك الأعمال جعلت لهم في قلوب الناس مكانة عالية.

غير أنّا نرى أنّ أكثر المؤرّخين يصوّرها بأنّها من أكثر العصور ظلاماً في التاريخ؛ شأنها في ذلك شأن سائر الفراعنة، وليس هذا إلاّ حدسيّات وتخمينات أخذها أصحاب أقلام السِّير والتاريخ من رُماة القول على عواهنه دون أن يُمعنوا فيه.

____________________

(1) عارف تامر: الإمامة في الإسلام: 162.

٢٦٠

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576