الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٩

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل10%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 576

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 576 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 264394 / تحميل: 11789
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٩

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

يؤكّد كون الرواية لم تنقل كاملة ـ بل سقطت منها الكلمة التي هي على خلاف أهداف وأهواء القوم ـ ما أخرجه القندوزي الحنفي عن جابر بن سمرة قال : ( كنت مع أبي عند النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فسمعته يقول: ( بعدي أثنا عشر خليفة ) ثم أخفى صوته ، فقلت لأبي ما الذي أخفى صوته ؟ قال : قال : ( كلهم من بني هاشم ) ، وعن سماك بن حرب مثله )(١) ، ومن ذلك يتضح أنّ كلمة ( كلّهم من بني هاشم ) كانت موجودة في الحديث ، ولعلّ الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : ( كلّهم من قريش من بني هاشم ) ، وهذا ما استشعره بعض علماء السنّة كابن الجوزي ، حيث قال في ( كشف المشكل ) : ( قد أطلت البحث عن معني هذا الحديث ، وتطلّبت مظانه ، سألت عنه ، فلم أقع على المقصود به ؛ لأنّ ألفاظه مختلفه ، ولا أشك أنّ التخليط فيها من الرواة )(٢) ، ويدعم هذا القول ما ذهب إليه ابن العربي ، بعد عجزه عن تفسير حديث الاثني عشر ، تفسيراً واقعياً ، قال : ( ولعلّه بعض حديث )(٣) ، ممّا يؤكّد سقوط كلمة ( كلّهم من بني هاشم ) من الحديث .

٧ – الاثنا عشر خليفة أمان لأهل الأرض ، إذا ذهبوا ماجت الأرض بأهلها ، وإذا مضوا لا يبقى الدين قائماً ، ويفقد المسلمون منعتهم وصلاحهم ، وهذه المعاني التي جاءت في حديث الاثني عشر تلتقي وتلائم تمام الملائمة مع الروايات التي نقلها الفريقان بحق أهل البيت عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كقوله :( أهل بيتي أمان لأهل الأرض فإذا ذهب أهل بيتي ذهب

ـــــــــــــ

(١) ينابيع المودّة ، القندوزي : ج ٢ ص ٣١٥ ح ٩٠٨ .

(٢) نقلاً عن فتح الباري : ج ١٣ ص ١٨٣ .

(٣) شرح صحيح الترمذي : ج ٩ ص ٦٨ .

١٢١

أهل الأرض ) (١) .

٨ ـ قد افترضت نصوص الاثني عشر أنّ أولئك الخلفاء ( كلّهم يعمل بالهدى ودين الحق ) ، كما فهم هذا المعنى أيضاً ابن كثير في تفسيره عندما قال : ( ومعنى هذا الحديث البشارة بوجود اثني عشر خليفة صالحاً يقيم الحق ، ويعدل فيهم )(٢) ، ولا يجد المتتبّع تفسيراً واحداً من التفاسير لهذا الحديث ، يجمع فيه اثني عشر خليفة كلّهم يعمل بالهدى ودين الحق ، خصوصاً مع ما ذكرناه من وجوب كون أولئك الخلفاء سلسلة متكاملة ، ومتناسقة ومتوالية زماناً ، وهذا ما يثبت لنا عدم مصداقية أي تطبيق واقعي للحديث ، سوى أهل البيتعليهم‌السلام ، الذين جعلهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هداة مهديين من بعده ، وأمر بالتمسّك بهديهم ، وجعلهم عِدلاً للقرآن الكريم لا يفترقان حتى يردا عليه الحوض .

٩ ـ من الخصائص المهمّة التي تضمّنتها أحاديث الاثني عشر قيموميّة أولئك الخلفاء على الدين والأمة ( اثنا عشر قيماً ) ، ولا شك أنّ القيموميّة تستدعي الرقابة والوصاية على الدين ، وعلى الأمّة الإسلامية ، وهذا المعنى لم يُدّع لأحد ، ولا ادّعاه غير أهل البيتعليهم‌السلام ، وهذا هو مقتضى كونهم عِدلاً للقرآن الكريم ، وأيضاً مقتضى قول رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( في كل خلوف من أُمّتي عدول من أهل بيتي ينفون عن هذا الدين تحريف الضالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين ، ألا وإنّ أئمّتكم وفدكم إلى الله عزّ وجلّ ، فانظروا مَن

ـــــــــــــ

(١) شواهد التنزيل ، الحاكم الحسكاني : ج ١ ص ٤٢٦ ؛ ذخائر العقبى ، الطبري : ص ١٧ ؛ انظر : المستدرك : الحاكم : ج ٢ ص ٤٤٨ ؛ قال فيه : صحيح الإسناد ولم يخرجاه ؛ تاريخ مدينة دمشق : ج ٤٠ ص ٢٠ ؛ النزاع والتخاصم : المقريزي : ص ١٣٢ ؛ وغيرها .

(٢) تفسير ابن كثير : ج ٢ ص ٣٤ .

١٢٢

توفدون ) (١) .

١٠ ـ إنّ الصخب ، واللغط ، والضجّة المفتعلة ، وقيام القوم وقعودهم ، وتصميتهم لجابر والحاضرين يثير الانتباه ، ويستدعي الريب ، ويكشف أنّ في الأمر شيئاً ، لا يريد القوم وصوله إلى مسامع الحاضرين ، ولم تكن هذه الحادثة فريدة نوعها ، بل فعل ذلك القوم أيضاً عندما ضجّوا ، وتنازعوا عند رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حينما قال :( ائتوني بدواة وكتف أكتب لكم كتاباً لن تضلّوا بعدي أبداً ) ، فوقعت حينها الضجّة المفتعلة ، حتى قال بعضهم : إنّ النبي ليهجر ، وليس ذلك إلاّ للحرص على الخلافة ، وطمعاً بالملك والسلطان والإمارة وهو الذي قد أخبر عنه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عند مخاطبته لأصحابه بقوله :( إنّكم ستحرصون على الإمارة ، وستكون ندامة يوم القيامة فنعم المرضعة وبئست الفاطمة ) (٢) .

١١ ـ حديث ابن مسعود المتقدّم ، يكشف عن أنّ الصحابة هم الذين سألوا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن الخلفاء من بعده ، وهذا يلفت النظر إلى نقطتين :

الأُولى : أنّه ليس من المنطقي أن يسأل الصحابة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن الأُمراء الذين يتسلّطون على رقاب الناس بالقهر والغلبة ، وهو ذلك الرسول العظيم الذي ختم الرسالات فلا نبي بعده .

إذن لابد أن يكون السؤال عن الخلفاء الذين نصّبهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من بعده ، وهم أهل بيتهعليهم‌السلام بنص حديث الغدير وحديث الثقلين وغيرهما ، وهذا ديدن وطريقة اعتادها الصحابة آنذلك ، فقد سألوا أبا بكر وعمر عن الذي يلي الأمر من بعدهما .

ـــــــــــــ

(١) الصواعق المحرقة : ٢٣١ .

(٢) صحيح البخاري : ج ٤ ص ٣٥٥ ح ٧١٤٨ ؛ صحيح ابن حبان : ج ١٠ ص ٣٣٤ ؛ وغيرهما من المصادر الكثيرة .

١٢٣

الثانية : أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أراد من الإمرة والخلافة من يكون مؤهّلاً ومستحقّاً لها ، فلا معنى لحمل الحديث على أمثال معاوية ويزيد ومروان والوليد وأمثالهم ، الذين عاثوا في الأرض فساداً ، ولعبوا بمقدّرات الأمة الإسلامية بما شاءوا ورغبوا ، فالمراد من الخليفة هو مَن يستمد سلطته من الشارع الأقدس ، ومن أجل ذلك ذكر شارح سنن أبي داود في شرحه ( عون المعبود ) أنّ : ( السبيل في هذا الحديث ، وما يتعقّبه في هذا المعنى أن يحمل على المقسطين منهم ، فإنّهم هم المستحقون لاسم الخليفة على الحقيقة )(١) .

١٢ ـ بعد أن صدع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حجة الوداع بذكر الخلفاء من بعده ، وأنّهم اثنا عشر خليفة ، كلّهم من قريش ومن بني هاشم ، وكلّهم يعمل بالهدى ودين الحق ، لم يكتف بذلك ـ ولعلّه لما حصل من الضجّة واللغط المفتعل ـ بل قام خطيباً ، بعد رجوعه من حجّة الوداع في طريقه إلى المدينة في غدير خم ، ونصّب عليّاً خليفة من بعده ، فعيّن أوّل خليفة من الخلفاء الاثني عشر ، وبادر بعد ذلك قائلاً : ( إنّي تارك فيكم الخليفتين من بعدي ، كتاب الله وعترتي أهل بيتي ، وإنّهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض ) (٢) ، حينها عرف الناس مَن هم الخلفاء بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأتمّ بذلك الحجّة على الخلق ، لكي يسدّ بذلك منافذ الريب والتشكيك ، ولئلاّ يقول أحد : إنّي لم أسمع ، أو خفي علي ، أو صمّنيها ، أو صمّتنيها الناس !! .

ـــــــــــــ

(١) عون المعبود : ج ١١ ص ٢٤٥ .

(٢) المصنف ، أبي شيبة الكوفي : ج ٦ ص ٣٠٩ ، كتاب السنّة ، عمرو بن أبي عاصم: ص ٣٣٧ ح ٧٥٤ ص ٦٢٩ ح ١٥٤٩ ؛ مسند أحمد : ج ٥ ص ١٨٢ ؛ المعجم الكبير: ج ٥ ص ١٥٣ ح ٤٩٢١ ص ١٥٤ ح ٤٩٢٢ ؛ مجمع الزوائد : ج ١ ص ١٧٠ قال الهيثمي : ( رواه الطبراني ورجاله ثقات ) ، وكذا في ج ٩ ص ١٦٢ ، وقال في ص ١٦٣ : ( رواه أحمد وإسناده جيّد ) ؛ الجامع الصغير ، السيوطي : ج ١ ص ٤٠٢ ح ٢٦٣١ ؛ الدر المنثور : ج ٢ ص ٢٨٥ .

١٢٤

١٣ ـ ما ورد من الأحاديث المتضافرة التي نصّت على إمامة أهل البيتعليهم‌السلام ، والتي تناولت الأئمّة الاثني عشر بذكر أسمائهم على نحو التفصيل ، وهي كثيرة جدّاً نكتفي بذكر بعضها :

١ ـ ما جاء في فرائد السمطين للحمويني المصري(١) : ( عن مجاهد عن ابن عباس قال : قدم يهودي على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقال له : نعثل ، فقال : يا محمد إنّي أسألك عن أشياء ـ إلى أن قال ـ : فأخبرني عن وصيّك مَن هو ؟ ، فما من نبي إلاّ وله وصي ، وإنّ نبيّنا موسى بن عمران أوصى إلى يوشع بن نون ، فقال :نعم ، إنّ وصيي والخليفة من بعدي علي بن أبي طالب عليه‌السلام ، وبعده سبطاي : الحسن ثم الحسين ، يتلوه تسعة من صلب الحسين أئمّة أبرار ، قال : يا محمد فسمّهم لي ؟

قال :نعم ، إذا مضى الحسين فابنه علي ، فإذا مضى علي فابنه محمد ، فإذا مضى محمد فابنه جعفر ، فإذا مضى جعفر فابنه موسى ، فإذا مضى موسى فابنه علي ، فإذا مضى علي فابنه محمد ، ثم ابنه علي ، ثم ابنه الحسن ، ثم الحجّة ابن الحسن ، أئمّة عدد نقباء بني اسرائيل ، فهذه اثنا عشر )(٢) .

٢ ـ ونقل الحمويني أيضاً في فرائده : عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال :( أيّها الناس

ـــــــــــــ

(١) أطرى عليه الذهبي ت / ٧٤٨ هـ في تذكرة الحفاظ قال : الإمام المحدث الأوحد الأكمل فخر الإسلام صدر الدين ، إبراهيم بن محمد بن المؤيد بن حمويه الخراساني الجويني شيخ الصوفية كان شديد الاعتناء بالرواية وتحصيل الاجزاء ، حسن القراءة مليح الشكل مهيباً ديّناً صالحاً مات سنة اثنتين وعشرين وسبع مائة تذكرة الحفّاظ ، الذهبي : ج ٤ ص ١٥٠٦ .

(٢) فرائد السمطين ، الحمويني : ج ٢ ص ١٣٣ ص ١٣٤ ح ٤٣١ ، وبنفس الألفاظ ما جاء في ينابيع المودة للقندوزي ، ج ٣ ص ٢٨٢.

١٢٥

إنّ الله عزّ وجلّ أمرني أن أنصب لكم إمامكم والقائم فيكم بعدي ووصيي وخليفتي ولكن أوصيائي منهم : أوّلهم أخي ، ووزيري ، ووارثي ، وخليفتي في أُمّتي ، وولي كل مؤمن بعدي ، هو أوّلهم ثم ابني الحسن ، ثم ابني الحسين ، ثم التسعة من ولد الحسين واحداً بعد واحد حتى يردوا عليّ الحوض ) (١) ـ وهكذا ينقل الحمويني ذلك في مواطن عديدة ، وروايات عديدة وبطرق مختلفة ؛ فراجع .

٣ ـ الحافظ أبو محمد بن أبي الفوارس في كتابه ( الأربعين )(٢) .

كذلك أخرج ذكر الخلفاء من أهل بيت النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأسمائهم .

٤ ـ العلاّمة أبو مؤيد موفق بن أحمد المتوفّى (سنة ٥٦٨) في كتابه ( مقتل الحسين ) : ذكر الخلفاء أيضاً بأسمائهم المتقدّمة(٣) .

٥ ـ العلاّمة فاضل الدين محمد بن محمد بن إسحاق الحمويني الخراساني في ( منهاج الفاضلين )(٤) .

٦ ـ كذلك الحمويني في ( درر السمطين )(٥) .

٧ ـ العلاّمة الشيخ إبراهيم بن سليمان في كتاب ( المحجّة على ما في

ـــــــــــــ

(١) فرائد السمطين ، الحمويني ، السمط الأول : ج ١ ص ٣١٥ ـ ٣١٨ ح ٢٥٠ .

(٢) شرح إحقاق الحق للسيد المرعشي : ج ١٣ ص ٥٩ ؛ نقلاً عن كتاب الأربعين ، ابن أبي الفوارس : ص ٣٨ .

(٣) مقتل الحسين ، الخوارزمي : ص ١٤٦ ـ ١٤٧ .

(٤) شرح إحقاق الحق للسيد المرعشي : ج ١٣ ص ٦٨ ؛ نقلاً عن كتاب منهاج الفاضلين ، الحمويني : ص ٢٣٩ .

(٥) شرح إحقاق الحق ، السيد المرعشي النجفي : ج ٤ ص ٩٣ ـ ٩٤ ؛ نقلاً عن كتاب درر السمطين ، الحمويني : ص ٧٢٢ .

١٢٦

ينابيع المودّة )(١) ، أيضاً ذكرهم بأسمائهم عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

٨ ـ العلاّمة المولى محمد صالح الكشفي الحنفي الترمذي ، في كتابه ( المناقب الرضوية )(٢) .

إلى غير ذلك من الروايات المتضافرة التي تؤكّد هذا المعنى .

وعلى ضوء ما سلف ، يتحصّل أنّ العترة الطاهرة يمثّلون امتداداً طبيعياً لحركة الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في جميع أبعاد الحياة ، وقد فرضوا شخصيّتهم رغم أنف الأعداء ، وقد أجمعت الأمة على أعلميّتهم وأهليّتهم للخلافة ، وأنّهم الأسوة الحسنة ، ويعد ذلك من أفضل الأدلة لإثبات أحقيّتهم ، وأهليّتهم للإمامة والقيادة ، وعصمتهم ؛ لأنّهمعليهم‌السلام جسّدوا النظرية الإسلامية على الواقع العملي ، فعندما نرصد حياة الأئمّةعليهم‌السلام ، وكيف كانوا إسلاماً متحركاً على الأرض ، وقرآناً ناطقاً يعيش بين الناس ؛ نستنتج مباشرة أن هذا المستوى الرفيع من الأسوة والقدوة لا يمكن أن تعكسه إلاّ شخصيات معصومة ، استجمعت فيها الصفات التي تؤهّلها لأن تكون منبع الهداية للبشرية ؛ لذا أجمعت الأمة على أنّ هؤلاء العترة لهم من الخصائص والمميزات ما لم تكن لغيرهم ، رغم ما عانوه من ظلم واضطهاد ، فهم الذين تنطبق عليهم خصوصيات الاثني عشر ، التي بيّنها النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في أحاديث الأثني عشر المتقدمة ، ولكن أصحاب المطامع آلوا على أنفسهم إلاّ أن يُقصوا وينحّوا أهل البيتعليهم‌السلام عن مناصبهم ومراتبهم التي رتّبهم الله فيها ، ولم يكتفوا بذلك بل تمادوا في تعريض أهل البيتعليهم‌السلام لألوان الظلم والاضطهاد ، والمعاملة السيّئة الفظّة الغليظة ، التي يندى لها الجبين ، وتعتصر منها القلوب ألماً ومرارة ، ولم يكن لهم ذنب سوى أنّهم كانوا الامتداد الإلهي لخط الرسالة ، وكانوا أمناءها ، والرقباء عليها ، فهم الثقل الموازي للقرآن الكريم .

ـــــــــــــ

(١) المحجّة على ما في ينابيع المودّة ، الشيخ هاشم بن سليمان : ص ٤٢٧ .

(٢) المناقب المرتضوية ، محمد صالح الترمذي : ص ١٢٧ .

١٢٧

إذن ، ينبغي علينا كمسلمين أن نستنير بنور هؤلاء الهداة الميامين ، ونكون بذلك ممتثلين لأوامر الله تعالى ورسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

وممّا تقدّم اتضحت الإجابة بخصوص ما قد يقال : من أنّ وصف عزّة الإسلام بأولئك الخلفاء الاثني عشر لا ينطبق على أئمّة الشيعة ، حيث الموقع السامي والريادي والمكانة العظيمة التي يمتلكها أهل البيتعليهم‌السلام في نفوس الأمة الإسلامية ، وهو ما أكّده علماء السنّة في أغلب كتبهم ، وبالإضافة إلى ذلك نقول :

إنّ عزة الإسلام وصلاحه وبقائه إلى قيام الساعة ، من المهام ، والوظائف الأساسية ، التي أناط رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مسؤوليتها ، وتحقيقها بأهل البيتعليهم‌السلام ، كما يكشف عن ذلك حديث الثقلين وحديث الغدير ، وأنّهم عِدل القرآن ، وأنّ النجاة والأمان والعزّة عند الله لا تنال إلاّ بالاعتصام والتمسّك بهم ، ومَن يتبعهم يكون عزيزاً بعزّة الله ، مرضيّاً عنده تعالى .

كما أخرج ذلك الحاكم في مستدركه ، عن ابن عباس قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( النجوم أمان لأهل الأرض من الغرق وأهل بيتي أمان لأُمّتي من الاختلاف ، فإذا خالفتها قبيلة من العرب اختلفوا فصاروا حزب إبليس ) (١) ، ثم علّق عليه قائلاً : هذا الحديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه .

ـــــــــــــ

(١) المستدرك ، الحاكم : ج ٣ ص ١٤٩ .

١٢٨

وبنفس المضمون ما ورد في عدّة كثيرة من المصادر عن عمر : أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال :( في كل خلوف من أُمّتي عدول أهل بيتي ينفون عن هذا الدين تحريف الضالين ، وانتحال المبطلين ، وتأويل الجاهلين ، ألا وإنّ أئمّتكم وفدكم إلى الله عزّ وجلّ ، فانظروا مَن توفدون ) (١) .

وعن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( مَن سرّه أن يحيا حياتي ويموت مماتي ويسكن جنّة عدن ، غرسها ربّي ، فليوال عليّاً ، وليوال وليّه ، وليقتد بالأئمّة من بعدي ، فإنّهم عترتي ، خُلقوا من طينتي ، رزقوا فهماً وعلماً ، ويل للمكذبين بفضلهم من أُمّتي ، القاطعين فيهم صلتي ، لا أنالهم الله شفاعتي ) (٢) .

وعن عمار بن ياسر ، قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( أوصي مَن آمن بي وصدّقني بولاية علي بن أبي طالب ، مَن تولاّه فقد تولاّني ، ومَن تولاّني فقد تولّى الله عزّ وجلّ ، ومَن أحبّه فقد أحبّني ، ومَن أحبّني فقد أحبّ الله تعالى ، ومَن أبغضه فقد أبغضني ، ومَن أبغضني فقد أبغض الله عزّ وجلّ ) قال الهيثمي في مجمع الزوائد : ( رواه الطبراني بإسنادين أحسب فيهما جماعة ضعفاء ، وقد وثقوا )(٣) .

وقد أخرجها ابن عساكر في تاريخ مدينة دمشق بطرق كثيرة(٤) .

وعن وهب بن حمزة قال : ( صحبت عليّاً إلى مكة فرأيت منه بعض ما أكره ، فقلت لأن رجعت لأشكونّك إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فلمّا قدمت لقيت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

ـــــــــــــ

(١) ذخائر العقبى ، محي الدين الطبري : ص ١٧ ؛ الصواعق المحرقة ، ابن حجر الهيتمي : ص ٣٥٢ ؛ رشفة الصادي ، أبو بكر الحضرمي : ص ١٧ ؛ ينابيع المودّة ، القندوزي : ج ٢ ص ١١٤ .

(٢) تاريخ مدينة دمشق ، ابن عساكر : ج ٤٢ ص ٢٤٠ ؛ حلية الأولياء ، الحافظ أبي نعيم الأصفهاني : ج ١ ص ٨٦ .

(٣) مجمع الزوائد ، الهيثمي : ج ٩ ص ١٠٨ ، ١٠٩ .

(٤) تاريخ مدينة دمشق : ج ٤٢ ص ٢٣٩ وما بعدها .

١٢٩

فقلت : رأيت من علي كذا وكذا ، فقال :لا تقل هذا فهو أولى الناس بكم بعدي )(١) .

وعن زيد بن أرقم قال : قال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( مَن أحبّ أن يحيا حياتي ويموت موتتي ويسكن جنّة الخلد التي وعدني ربّي ، فإنّ ربّي عزّ وجلّ غرس قصباتها بيده ، فليتولّ علي بن أبي طالب ، فإنّه لن يخرجكم من هديي ولن يدخلكم في ضلالة ) (٢) ، قد أخرجه الحاكم في المستدرك وقال عنه : هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه(٣) .

إلى غير ذلك من المصادر الكثيرة ، والروايات المتواترة معنىً ومضموناً ، مع صحّتها وصراحتها ، وأدنى ما نجيب عمّن أراد التشكيك بها : أنّها تفيد القطع واليقين ؛ لتعدّد ألفاظها ، وكثرة طرقها ، والمصادر التي نقلتها ، فهي أحاديث نبويّة يقوّي بعضها بعضاً لإثبات مضمونها بالقطع واليقين ، وهو وجوب التمسّك بولاية أهل البيتعليهم‌السلام واتّباع هديهم .

إذن بأهل البيتعليهم‌السلام وباتباعهم تتحقق عزّة الإسلام ، والحفاظ على وجوده الحقيقي وقيمه ومبادئه الأصيلة ، من التقوى والإخلاص والاستقامة والصلاح وغيرها من المعارف الروحية والقيم الأخلاقية ، وليست عزّة الإسلام بالتظاهر بالإسلام ، واتخاذه شعاراً للتسلّط على رقاب الناس بالقهر والغلبة ، ومن هنا نجد أنّ الحكم الإسلامي على يد الظلمة تحوّل إلى ما كان عليه قبل الإسلام من كونه ملكاً عضوضاً لا يحمل من قيم الإسلام شيئاً .

إذن عزّة الإسلام لا تتحقق إلاّ في حفظ الإسلام الحقيقي ، الذي لا يتحقق إلاّ باتباع أهل البيتعليهم‌السلام .

ـــــــــــــ

(١) المعجم الكبير ، الطبراني : ج ٢٢ ص ١٣٥ ؛ مجمع الزوائد : ج ٩ ص ١٠٩ ؛ فيض القدير شرح الجامع الصغير : ج ٤ ص ٤٧٠ ـ ٤٧١ .

(٢) المعجم الكبير ، الطبراني : ج ٥ ص ١٩٤ .

(٣) المستدرك ، الحاكم : ج ٣ ص ١٣٠ .

١٣٠

الأُمّة لم تجتمع على أهل البيتعليهم‌السلام

وأمّا عبارة ( كلّهم تجتمع عليه الأمة ) ، وأنّ أهل البيتعليهم‌السلام ما أجتمعت عليهم الأُمّة فجوابها :

١ ـ إنّ رواية الاثني عشر خليفة المتضمّنة لعبارة ( كلّهم تجتمع عليه الأمة ) لم ترد في الكتب الحديثية ، والمصادر السنّية ، إلاّ في سنن أبي داود ومسند البزار ، ولم يخرجاها إلاّ بسند واحد ضعيف ، كما ذكر ذلك الألباني ، في سلسلة الأحاديث الصحيحة ، حيث قال : ( وأخرجه أبو داود ( ٢ / ٢٠٧) من طريق إسماعيل بن أبي خالد ، عن أبيه ، عن جابر بلفظ : لا يزال هذا الدين قائماً ، حتى يكون عليكم اثنا عشر خليفة ، كلهم تجتمع عليه الأمة ، كلّهم من قريش ، وأخرجه البزار (١٥٨٤ ـ كشف) عن أبي جحيفة نحوه ، وهذا سند ضعيف ، رجاله كلهم ثقات ، غير أبي خالد هذا ، وهو الأحمسي ، وقد تفرّد بهذه الجملة ( كلهم تجتمع عليه الأمة ) ، فهي منكرة )(١) ، والتضعيف ذاته ذكره أيضاً في تعليقته على سنن أبي داود ، حيث قال بعد أن أورد الحديث : ( صحيح : دون قوله ( تجتمع عليه الأمة ) )(٢) .

٢ ـ من الشواهد التي تؤكّد عدم صحّة صدور هذه العبارة من النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو عدم انطباقها على الواقع أصلاً ، حيث لم نجد شخصاً اجتمعت عليه الأمة بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، بل البعض ممّن ادعي كونه من الخلفاء الاثني عشر ، لم يجتمع عليه أغلب الأمة ، فضلاً عن جميعها .

ـــــــــــــ

(١) سلسلة الأحاديث الصحيحة ، الألباني : مج ١ ، ق ٢ ، ص ٧٢٠ ح ٣٧٦ .

(٢) صحيح سنن أبي داود الألباني : ج ٣ ص ١٩ ح ٤٢٧٩ .

١٣١

ولذا قال ابن كثير في البداية والنهاية ( فإن قال : أنا لا اعتبر إلاّ مَن اجتمعت الأمة عليه ، لزمه على هذا القول أن لا يعد علي بن أبي طالبعليه‌السلام ولا ابنه ؛ لأنّ الناس لم يجتمعوا عليهما ؛ وذلك أنّ أهل الشام بكمالهم لم يبايعوهما ، ولم يقيّد بأيام مروان ، ولا ابن الزبير كأنّ الأمّة لم تجتمع على واحد منهما )(١) .

وهذا ما اعترف به ابن حجر العسقلاني أيضاً في فتح الباري(٢) .

٣ ـ إن أكثر مَن أدعي اجتماع الأمة عليه ، كيزيد بن معاوية ، ومروان بن الحكم ، والوليد ، و مروان الحمار ، وغيرهم لم يكن متوفّراً على خصائص الخلفاء الاثني عشر ، من كونهم يعملون بالهدى ودين الحق ، وأنّهم قيّمون على الدين ، والدين قائم بهم ، وغير ذلك من الصفات السامية ، التي تقدّم ذكر بعضها .

الخلاصة

١ ـ إنّ حديث الاثني عشر ، حقيقة صادرة عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقد تواترت الروايات من الفريقين بنقلها بألسن مختلفة ، كلّها تشير إلى مضمون واحد ، ومن هذه الروايات قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( لا يزال هذا الأمر صالحاً حتى يكون اثنا عشر أميراً ) (٣) .

ـــــــــــــ

(١) البداية والنهاية ، ابن كثير : ج ٦ ص ٢٨٠ .

(٢) فتح الباري : ج ١٣ ص ١٨٢ .

(٣) مسند أحمد : ج ٥ ص ٩٧ ص ١٠٧ ؛ المستدرك ، الحاكم النيسابوري : ج ٣ ص ٦١٨ ؛ انظر : مجمع الزوائد ، الهيثمي : ج ٥ ص ١٩٠ وقد صحّحه .

١٣٢

٢ ـ إنّ أهل السنّة لم يتمكّنوا أن يقدّموا تفسيراً واقعيّاً لحقيقة الاثني عشر خليفة ، وإنّ تفسيراتهم المضطربة والمتناقضة فيما بينها خير شاهد على عجزهم عن فهمها وتفسيرها ، على الرغم ممّا ارتكبوه من تكلّف ظاهر على حدّ تعبير بعضهم ، لا سيّما وأنّ البعض(١) قد أوكل تفسير حديث الاثني عشر إلى الله تعالى بعد أن عجز عن تفسيره تفسيراً صحيحاً .

٣ ـ إنّ الخصائص والمميزات التي تحملها أحاديث الاثني عشر ، لا تنطبق في الواقع الخارجي إلاّ على أهل البيتعليهم‌السلام ، فمثل صفة ( صلاح أمر الأُمّة والناس بهم ) و( كلّهم يعمل بالهدى ودين الحق ) و( إذا هلكوا ماجت الأرض بأهلها ) ، ونحوها ، لا تنسجم ولا تنطبق إلاّ على عترة أهل البيتعليهم‌السلام ، فضلاً عمّا يحمله أهل البيتعليهم‌السلام من خصائص ومميّزات استثنائية ، وما يحملونه من مؤهّلات علمية وعملية بإجماع أهل العلم ، وعلى جميع المستويات الفكرية والروحية ونحوها ، كل هذا يؤكّد ويدعم كون حديث الاثني عشر لا يمكن انطباقه إلاّ على أهل البيتعليهم‌السلام .

ـــــــــــــ

(١) شرح صحيح مسلم ، النووي : ج ١٢ ص ٢٠٣ .

١٣٣

الفصل الثالث: غيبة الإمام المهدي (عجّل الله تعالى فرجه الشّريف)

الشبهة :

١ ـ ما الفائدة من وجود إمام غائب ؟

٢ ـ إنّ الحجّة عند الشيعة لا تقوم إلاّ بإمام ، فكيف يترك الإمامة ويغيب ؟

الجواب :

قبل البدء ينبغي ذكر تمهيد مختصر له مدخليّة في الإجابة .

تمهيد :

إنّ الشريعة التي جاء بها الدين الإسلامي ما هي ـ في مجملها ، وحقيقتها ، وبكل جوانبها ـ إلاّ خطّة إلهيّة أُعدّت بإحكام ، ووُضعت من أجل ترشيد المجتمع البشري نحو الأصلح والأقوم ، وبلوغ السعادة في الدارين .

وقد وعد الله تعالى البشرية ـ التي عانت طوال حياتها من الظلم ، والجور ـ أن يسودها العدل والأمان في الأرض .

قال تعالى :( لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدّينِ كُلّهِ ) (١) .

وقال تعالى أيضاً :( وَنُرِيدُ أَن نمُنّ عَلَى الّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ ) (٢) .

إلاّ أنّ تحقق هذا الهدف على أرض الواقع يتوقّف على توفّر شرائطه ، التي شاء الله عزّ وجلّ بحكمته أن تكون من طرقها الطبيعية ، وضمن ما هو المألوف ، لا بشكل إعجازي وخارق لما هو المعتاد .

ـــــــــــــ

(١) التوبة : ٣٣ .

(٢) القصص : ٥ .

١٣٤

وحيث إنّ الله تعالى ـ لحكمته ولطفه بعباده ـ قد نصّب أولياء هداة معصومين ، يمثّلون امتداداً طبيعياً للرسالة المحمّديّة ، فهم أُمناء الوحي والرسالة ، وحجّة الله على العباد ، وهم الأئمّة الاثنا عشرعليهم‌السلام بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أوّلهم الإمام عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام ، وآخرهم الإمام المهديعليه‌السلام ، وقد ثبت ذلك مسبقاً ، بمقتضى عدد وافر من الآيات القرآنية ، كآية الولاية ، وآية أُولي الأمر ، وآية التطهير ، وآيات البلاغ في الغدير ، وآية المودّة في القربى(١) وغيرها ، مضافاً إلى عدد كبير جداً من الأحاديث النبويّة التي رواها أصحاب الصحاح من أهل السنّة ، كحديث الثقلين المتواتر الذي مفاده أنّ أهل البيتعليهم‌السلام لن يفترقوا عن القرآن حتى يردوا على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الحوض(٢) ، فكما أنّ القرآن باقٍ إلى يوم القيامة كذلك أهل البيتعليهم‌السلام ، وكحديث الخلفاء الاثني عشر (كلّهم من قريش)(٣) ، وحديث السفينة(٤) ، وأهل بيتيعليهم‌السلام أمان لأهل الأرض ، فإذا ذهب أهل بيتي ذهب أهل الأرض(٥) وأتاهم ما يوعدون ، وغير ذلك من الأحاديث الدالّة على بقاء الإمامة الإلهية ، واستمرارها في الأرض .

ـــــــــــــ

(١) الآيات : المائدة : ٥٥ ، النساء : ٥٩ ، الأحزاب : ٣٣ ، المائدة : ٦٧ .

(٢) السنن الكبرى ، النسائي : ج ٥ ص ٤٥ ص ١٣٠ ؛ خصائص أمير المؤمنين : النسائي : ص ٩٣ ؛ المعجم الصغير ، الطبراني : ج ١ ص ١٣١ ص ١٣٥ .

(٣) مسند أحمد ، أحمد بن حنبل : ج ٥ ص ٨٧ ـ ٨٨ .

(٤) مجمع الزوائد : الهيثمي ، ج ٩ ص ١٦٨ ، المعجم الأوسط ، الطبراني : ج ٦ ص ٨٥ .

(٥) شواهد التنزيل ، الحسكاني : ج ١ ص ٤٢٦ ، ذخائر العقبى ، الطبري : ص ١٧ .

١٣٥

وقد قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( إنّ خلفائي ، وأوصيائي وحجج الله على الخلق بعدي ، الاثنا عشر ، أوّلهم عليّ ، وآخرهم ولدي المهدي ) (١) .

وشاءت الإرادة الإلهية أن يكون الإمام الثاني عشر من أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام ـ الذي يمثّل الحلقة الأخيرة من سلسلة الأئمّة الهداة ـ مصلحاً للبشرية ، ومحققاً للهدف النهائي ، والثمرة الكبيرة والمرجوّة من رسالات السماء وبعث الأنبياء ، قال تعالى :( لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنّ اللهَ قَوِيّ عَزِيزٌ ) (٢) .

إذن فلابدّ ـ بحسب التخطيط الإلهي ـ من إقامة العدل ، والسلام في العالم ، بعد انتشار الظلم والجور والفساد في ربوع الأرض وأرجائها ، وهو ما نشاهده ونراه بالحس والعيان في كل حدب وصوب ، وهذا ما يتطابق مع ما تنبّأ به رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقوله :( تملأ الأرض ظلماً وجوراً ، ثم يخرج رجل من عترتي ، يملك سبعاً أو تسعاً ، فيملأ الأرض قسطاً وعدلاً ) (٣) ، فكما أنّ الأرض مُلئت وستُملأ بالجور والفساد والظلم ، لابدّ لها من يوم تُملأ فيه عدلاً وقسطاً ، على يد الإمام المهديّ المنتظر (عجّل الله تعالى فرجه الشريف) .

ـــــــــــــ

(١) ينابيع المودّة ، القندوزي الحنفي : ج ٣ ص ٢٩٥ .

(٢) الحديد : ٢٥ .

(٣) سنن أبي داود ، السجستاني : ج ٤ ص ٧١٢ ح ٤٢٧٦ ؛ مسند أحمد ، أحمد بن حنبل : ج ٣ ص ٢٨ ص ٣٦ ص ٧٠ ؛ المستدرك الحاكم : ج ٤ ص ٥٥٧ ؛ وانظر مجمع الزوائد : الهيثمي : ج ٧ ص ٣١٤ ، وقال فيه : ( رواه الترمذي وغيره باختصار ، رواه أحمد بأسانيد ، وأبو يعلى باختصار ، ورجالهما ثقات ) ؛ وانظر : المصنف : الصنعاني : ج ١١ ص ٣٧٢ ـ ٣٧٣ .

١٣٦

إلاّ أنّ النقطة الجديرة بالذكر هي أنّ تحقق هذا الهدف ، وهو إقامة العدل والقسط في الأرض ، يتوقّف على توفّر شرائطه التي أراد الله تعالى بحكمته أن تكون من الطريق الطبيعي لا الإعجازي ، وهذا ما جرت عليه السنن الإلهية في هذا العالم ، فقد قال تبارك وتعالى :( لِيَمِيزَ اللهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطّيّبِ ) (١) ، وقال تعالى أيضاً :( لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيّنَةٍ وَيَحْيَى‏ مَنْ حَيّ عَنْ بَيّنَةٍ وَإِنّ اللهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ ) (٢) ، وقال تعالى :( وَلِيَبْتَلِيَ اللهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلُِيمَحّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصّدُورِ ) (٣) ، وقال :( وَتِلْكَ الأَيّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ الّذِينَ آمَنُوا وَيَتّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللهُ لاَ يُحِبّ الظّالِمِينَ * وَلِيُمَحّصَ اللهُ الّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ * أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنّةَ وَلَمّا يَعْلَمِ اللهُ الّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصّابِرِينَ ) (٤) ، وغير ذلك من الآيات المباركة ، التي تكشف عن أنّ التخطيط الإلهي لجريان السنن في هذا العالم مبنيّ على السير الطبيعي للبشرية ، إلاّ في الظروف الخاصّة والاستثنائية ، التي تقتضي فيها الحكمة الإلهية إنجاز الهدف والوصول إليه عن طريق الإعجاز وخرق المعتاد ، وذلك كإثبات أصل نبوّة الأنبياء مثلاً .

وإقامة العدل على هذه الأرض جاء ضمن ذلك الإطار ، فلكي يتحقق على أرض الواقع ويحين أجله ، لابد من اكتمال جميع شرائطه ، وعلى ضوء ذلك كانت غيبة إمامنا المهدي (عجّل الله تعالى فرجه الشريف) جزءاً من هذا التخطيط والحكمة الإلهية ، من أجل أن تكتمل باقي الشرائط لظهور الحق وإقامة العدل ، تلك الشرائط التي يتحقق معظمها في أحضان الغيبة ، وهذا ما أخبر به رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في روايات عديدة من كتب الفريقين :

ـــــــــــــ

(١) الأنفال : ٣٧ .

(٢) الأنفال : ٤٢ .

(٣) آل عمران : ١٥٤ .

(٤) آل عمران : ١٤٠ ـ ١٤٢ .

١٣٧

منها : ما أخرجه الإربلي ، عن جابر بن عبد الله الأنصاري قال : لمّا أنزل الله على نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ ) (١) ، قلت : يا رسول الله عرفنا الله ورسوله ، فمَن أولي الأمر الذين قرن الله طاعتهم بطاعتك ، فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( هم خلفائي من بعدي يا جابر ، وأئمة الهدى بعدي أولهم علي بن أبي طالب ثم الحسن ثم الحسين ثم علي بن الحسين ثم محمد بن علي المعروف في التوراة بالباقر وستدركه يا جابر فإذا لقيته فاقرأه عنّي السلام ، ثم الصادق جعفر بن محمد ، ثم موسى بن جعفر ، ثم علي بن موسى ، ثم محمد بن علي ، ثم علي بن محمد ، ثم الحسن بن علي ، ثم سميّي وكنيّي ، وحجّة الله في أرضه ، وبقيّته في عباده محمد بن الحسن بن عليّ ، ذلك الذي يفتح الله عزّ وجلّ على يده مشارق الأرض ومغاربها ، وذلك الذي يغيب عن شيعته ، وأوليائه ، غيبة لا يثبت فيها على القول بإمامته إلاّ من امتحن الله قلبه للإيمان ) ، فقال جابر : فقلت : يا رسول الله فهل يقع لشيعته الانتفاع به في غيبته ؟ فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( أي والذي بعثني بالحق ، إنّهم ليستضيئون بنوره ، وينتفعون بولايته في غيبته ، كانتفاع الناس بالشمس وإن علاها سحاب ، يا جابر هذا من مكنون سر الله ، ومخزون علم الله ، فاكتمه إلاّ عن أهله ) (٢) .

وعن علي بن علي الهلالي ، عن أبيه قال : دخلت على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في شكاته التي قبض فيها فإذا فاطمة رضي الله عنها عند رأسه قال : فبكت حتى ارتفع صوتها ، فرفع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم طرفه إليها فقال :حبيبتي فاطمة ،

ـــــــــــــ

(١) النساء : ٥٩ .

(٢) ينابيع المودّة ، القندوزي : ج ٣ ص ٣٩٩ .

١٣٨

ما الذي يبكيك ، فقالت :أخشى الضيعة بعدك ، فقال :يا حبيبتي ، أما علمت أن الله ـ عزّ وجلّ ـ اطلع إلى الأرض اطلاعة فاختار منها أباك فبعثه برسالته ، ثم أطلع إلى الأرض اطلاعه فاختار منها بعلك ، وأوحى إليّ أن أنكحك إيّاه ، يا فاطمة ، ونحن أهل بيت قد أعطانا الله سبع خصال لم تُعط لأحد قبلنا ولا تُعطى أحداً بعدنا : أنا خاتم النبيّين ، وأكرم النبيّين على الله ، وأحب المخلوقين إلى الله عزّ وجلّ وأنا أبوك ، ووصيي خير الأوصياء ، وأحبّهم إلى الله ، وهو بعلك ، وشهيدنا خير الشهداء ، وأحبّهم إلى الله ، وهو عمّك حمزة بن عبد المطلب ، وعمّ بعلك ، ومنّا مَن له جناحان أخضران يطير مع الملائكة في الجنّة حيث شاء ، وهو ابن عم أبيك ، وأخو بعلك ، ومنّا سبطا هذه الأُمّة ، وهما ابناك الحسن والحسين ، وهما سيّدا شباب أهل الجنّة ، وأبوهما ـ والذي بعثني بالحق ـ خير منهما يا فاطمة ـ والذي بعثني بالحق ـ إنّ منهما مهدي هذه الأُمّة إذا صارت الدنيا هرجاً ومرجاً وتظاهرت الفتن ، وتقطّعت السبل ، وأغار بعضهم على بعض ، فلا كبير يرحم صغيراً ولا صغير يوقّر كبيراً ، فيبعث الله عزّ وجلّ عند ذلك منهما مَن يفتح حصون الضلالة ، وقلوباً غلفاً يقوم بالدين آخر الزمان كما قمت به في أول الزمان ، ويملأ الدنيا عدلاً كما مُلئت جوراً ، يا فاطمة لا تحزني ولا تبكي ، فإنّ الله عزّ وجلّ أرحم بك وأرأف عليك منّي ؛ وذلك لمكانك من قلبي ، وزوّجك الله زوجاً ، وهو أشرف أهل بيتك حسباً وأكرمهم منصباً ، وأرحمهم بالرعيّة ، وأعدلهم بالسوية ، وأبصرهم بالقضية ، وقد سألت ربّي عزّ وجلّ أن تكوني أوّل مَن يلحقني من أهل بيتي ، قال علي رضي الله عنه :فلمّا قُبض النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم تبق فاطمة رضي الله عنهابعده إلاّ خمسة

١٣٩

وسبعين يوماً حتى ألحقها الله عزّوجلّ به صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رواه الطبراني في الكبير والأوسط وفيه : الهيثم بن حبيب ، قال أبو حاتم : منكر الحديث وهو متهم بهذا الحديث(١) .

أقول : ولم يجدوا في الهيثم بن حبيب مطعناً سوى روايته لهذا الحديث في فضائل أهل البيتعليهم‌السلام ، وله نظائر كثيرة !!

وعن أبي أيوب الأنصاري قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لفاطمة :نبيّنا خير الأنبياء وهو أبوك ، وشهيدنا خير الشهداء وهو عمّ أبيك حمزة ، ومنّا مَن له جناحان يطير بهما في الجنّة حيث شاء وهو ابن عمّ أبيك جعفر ، ومنّا سبطا هذه الأُمّة الحسن والحسين وهما ابناك ومنّا المهدي .

رواه الطبراني في الصغير وفيه قيس بن الربيع وهو ضعيف وقد وثق ، وبقيّة رجاله ثقات(٢) .

ومنها : ما جاء عن جابر بن عبد الله الأنصاري أيضاً : قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( المهدي من ولدي ، اسمه اسمي ، وكنيته كنيتي ، أشبه الناس بي خلقاً وخُلقاً ، تكون له غيبة وحيرة ، تضل فيها الأُمم ، ثم يقبل كالشهاب الثاقب ، فيملأها عدلاً كما مُلئت جوراً ) (٣)

وغير ذلك من الروايات ، الدالة على ضرورة الغيبة ، من أجل اكتمال شرائط الظهور ، وإقامة العدل والقسط ؛ وذلك من خلال تخطّي البشرية لمراحل عديدة من التمحيص والفتن والحيرة ، والابتلاء .

ـــــــــــــ

(١) مجمع الزوائد ، الهيثمي : ج ٩ ص ١٦٥ ـ ١٦٦ .

(٢) المصدر نفسه : ج ٩ ص ١٦٦ .

(٣) ينابيع المودّة ، القندوزي الحنفي : ج ٣ ص ٣٨٦ .

١٤٠

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

ففي رواية نقرأ أنّه جاء رجل إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وسأله قائلا : أحبّ أن يستجاب دعائي.

فقال له رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «طهّر مأكلك ولا تدخل بطنك الحرام»(١) .

ثانيا : التقية البنّاءة

نستفيد من تعبير الآيات أعلاه أنّ أصحاب الكهف كانوا يصرّون على أن لا يعرف أحد مكانهم حتى لا يجبرون على عبادة الأصنام ، أو يقتلون بأفجع طريقة من خلال رميهم بالحجارة. إنّهم كانوا يرغبون في أن يبقوا غير معروفين حتى يستطيعوا بهذا الأسلوب الاحتفاظ بقوّتهم للصراع المقبل ، أو على الأقل حتى يستطيعوا أن يحتفظوا بإيمانهم.

وهذا المعنى تعبير عن أحد أقسام «التقية البنّاءة» حيث أنّ حقيقة التقية هو أن يحفظ الإنسان طاقته من الهدر بإخفاء نفسه أو عقيدته. يحفظ نفسه ويصونها حتى يستطيع ـ في مواقع الضرورة ـ الاستمرار في جهاده المؤثّر. وطبيعي عند ما تكون التقية وإخفاء العقيدة سببا لتصدّع الأهداف والبرنامج الكبرى ، فإنّها تكون ممنوعة وينبغي الجهر بالحق والصدع به بالغا ما بلغ الضرر.

ثالثا : اللطف مركز القرآن

إنّ قوله تعالى :( لْيَتَلَطَّفْ ) ـ كما هو مشهور ـ هي نقطة الفصل بين نصفي القرآن من حيث عدد الكلمات. وهذا بنفسه يشير إلى معنى لطيف للغاية ، لأنّ الكلمة مشتقّة من اللطف ، واللطافة والتي تعني هنا الدقة. بمعنى أنّ المرسل لتهيئة الطعام عليه أن يذهب ويرجع بحيث لا يشعر أحد بقصتهم.

__________________

(١) وسائل الشيعة ، المجلد الرابع ، أبواب الدعاء ، باب (٦٧) الحديث الرابع. ولمزيد من التوضيح يمكن مراجعة تفسير الآية (١٨٦) من سورة البقرة.

٢٢١

بعض المفسّرين قالوا : إنّ الغرض من التلطّف في شراء الطعام هو أن لا يتصعّب في التعامل ، ويبتعد عن النزاع الضوضاء وينتخب أفضل البضاعة.

وهذا بذاته لطف أن تشكّل كلمة اللطف وسط القرآن ونقطة النصف بين كلماته الهادية.

* * *

٢٢٢

الآيات

( وَكَذلِكَ أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيها إِذْ يَتَنازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْياناً رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً (٢١) سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ ما يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ قَلِيلٌ فَلا تُمارِ فِيهِمْ إِلاَّ مِراءً ظاهِراً وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً (٢٢) وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً (٢٣) إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ وَقُلْ عَسى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هذا رَشَداً (٢٤) )

التّفسير

نهاية قصّة أصحاب الكهف :

لقد وصلت بسرعة أصداء هجرة هذه المجموعة من الرّجال المتشخّصين

٢٢٣

إلى كلّ مكان وأغاظت بشدّة الملك الظالم ، حيث قدّر أن تكون هذه الهجرة مقدّمة ليقظة ووعي الناس ، أو قد يذهب أصحاب الكهف إلى مناطق بعيدة أو قريبة ويقومون بتبليغ مذهب التوحيد والدعوة إليه ، ومحاربة الشرك وعبادة الأصنام.

لقد أصدر الحاكم تعليماته إلى جهاز شرطته للبحث عن أصحاب الكهف في كل مكان ، وعليهم أن يتبعوا آثارهم حتى إلقاء القبض عليهم ومعاقبتهم.

ولكن كلما بحثوا لم يعثروا على شيء ، وهذا الأمر أصبح بحدّ ذاته لغزا للناس ، ونقطة انعطاف في أفكارهم ، وقد يكون هذا الأمر ـ وهو قيام مجموعة من ذوي المناصب في الدولة بترك مواقعهم العالية في الدولة وتعريض أنفسهم للخطر ـ هو بحدّ ذاته سببا ليقظة الناس ومصدرا لوعيهم ، أو لوعي قسم منهم على الأقل.

ولكن في كل الأحوال ، فإنّ قصّة هؤلاء النفر قد استقرت في صفحات التأريخ وأخذت الأجيال والأقوام تتناقلها عبر مئات السنين.

والآن لنعد إلى الشخص المكلّف بشراء الطعام ولننظر ماذا جرى له.

لقد دخل المدينة ولكنّه فغرفاه من شدّة التعجّب ، فالشكل العام للبناء قد تغيّر ، هندام الجميع ولباسهم غريب عليه ، الملابس من طراز جديد ، خرائب الأمس تحولت إلى قصور ، وقصور الأمس تحوّلت إلى خرائب!

لقد ظنّ ـ للحظة واحدة ـ أنّه لا يزال نائما ، وأنّ ما يشاهده ليس سوى أحلام ، فرك عينيه ، إلّا أنّه التفت إلى ما يراه ، وهو عين الحقيقة ، وإن كانت عجيبة ولا يمكن تصديقها.

إنّه لا يزال يعتقد بأنّ نومهم في الغار كان ليوم أو بعض يوم ، فلما ذا هذا الاختلاف، وكيف تمّت كل هذه التغييرات الكبيرة والواسعة في ظرف يوم واحد؟!

٢٢٤

ومن جانب آخر كان منظره هو عجيبا للناس وغير مألوف. ملابسه ، كلامه ، شكله كل شيء فيه بدا غريبا للناس ، وقد يكون هذا الوضع قد لفت أنظارهم إليه ، لذا قام بعضهم بمتابعته.

لقد انتهى عجبه عند ما مدّ يده إلى جيبه ليسدّد مبلغ الطعام الذي اشتراه ، فالبائع وقع نظره على قطعة نقود ترجع في قدمها إلى (٣٠٠) سنة ، وقد يكون اسم (دقيانوس) الملك الجبار مكتوبا عليها ، وعند ما طلب منه توضيحا قال له بأنّه حصل عليها حديثا.

وقد عرف الناس تدريجيا من خلال سلسلة من القرائن أنّ هذا الشخص هو واحد من أفراد المجموعة الذين قرءوا عن قصّتهم العجيبة والتأريخية التي وقعت قبل (٣٠٠) سنة ، وأنّ قصّتهم كانت تدور على الألسن في اجتماعات الناس وندواتهم ، وهنا أحسّ الشخص بأنّه وأصحابه كانوا في نوم عميق وطويل.

هذه القضية كان لها صدى كالقنبلة في المدينة ، وقد انتقلت عبر الألسن إلى جميع الأماكن.

قال بعض المؤرّخين : إنّ حكومة المدينة كانت بيد حاكم صالح ومؤمن ، إلّا أنّ استيعاب وفهم قضية المعاد الجسماني وإحياء الموتى بعد الموت كان صعبا جدّا على أفراد ذلك المجتمع ، فقسم منهم لم يكن قادرا على التصديق بأنّ الإنسان يمكن أن يعود للحياة بعد الموت ، إلّا أنّ قصّة أصحاب الكهف أصبحت دليلا قاطعا لأولئك الذين يعتقدون بالمعاد الجسماني.

ولذا فإنّ القرآن يبيّن أنّنا كما قمنا بإنامتهم نقوم الآن بإيقاظهم حتى ينتبه الناس:( وَكَذلِكَ أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌ ) ثمّ أضاف تعالى :( وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيها ) .

حيث أنّ هذا النوم الطويل الذي استمرّ لمئات السنين كان يشبه الموت ، وأن إيقاظهم يشبه البعث. بل يمكن أن نقول : إنّ هذه الإنامة والإيقاظ هي أكثر إثارة

٢٢٥

للعجب من الموت والحياة في بعض جوانبها ، فمن جهة قد مرّت عليهم مئات السنين وهم نيام وأجسامهم لم تفن أو تتأثّر ، وقد بقوا طوال هذه المدّة بدون طعام أو شراب ، إذن كيف بقوا أحياء طيلة هذه المدّة؟

أليس هذا دليلا قاطعا على قدرة الله على كل شيء ، فالحياة بعد الموت ، بعد مشاهدة هذه القضية ممكنة حتما.

بعض المؤرّخين كتب يقول : إنّ الشخص الذي أرسل لتهيئة الطعام وشرائه ، عاد بسرعة إلى الكهف وأخبر رفقاءه بما جرى ، وقد تعجب كل منهم ، وبعد أن علموا بفقدان الأهل والأولاد والأصدقاء والإخوان ، ولم يبق من أصحابهم أحد ، أصبحت الحياة بالنسبة إليهم صعبة للغاية ، فطلبوا من الخالق جلّ وعلا أن يميتهم ، وينتقلون بذلك إلى جوار رحمته. وهذا ما حدث.

لقد ماتوا ومضوا إلى رحمة ربّهم ، وبقيت أجسادهم في الكهف عند ما وصله الناس.

وهنا حدث النزاع بين أنصار المعاد الجسماني وبين من لم يعتقد به ، فالمعارضون للمعاد كانوا يريدون أن تنسى قضية نوم ويقظة أصحاب الكهف بسرعة ، كي يسلبوا أنصار المعاد الجسماني هذا الدليل القاطع ، لذا فقد اقترح هؤلاء أن تغلق فتحة الغار ، حتى يكون الكهف خافيا إلى الأبد عن أنظار الناس.

قال تعالى :( إِذْ يَتَنازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْياناً ) .

ولأجل إسكات الناس عن قصّتهم كانوا يقولون : لا تتحدثوا عنهم كثيرا ، إنّ قضيتهم معقدة ومصيرهم محاط بالألغاز!! لذلك فإن :( رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ ) . أي اتركوهم وشأنهم واتركوا الحديث في قصّتهم.

أمّا المؤمنون الحقيقيون الذين عرفوا حقيقة الأمر واعتبروه دليلا حيّا لإثبات المعاد بعد الموت ، فقد جهدوا على أن لا تنسى القصة أبدا لذلك اقترحوا أن يتخذوا قرب مكانهم مسجدا ، وبقرينة وجود المسجد فإنّ الناس سوف لن

٢٢٦

ينسوهم أبدا ، بالإضافة إلى ما يتبرك به الناس من آثارهم :( قالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً ) .

وفي تفسير الآية ذكرت احتمالات أخرى سنقف على بعضها في البحوث.

الآية التي بعدها تشير إلى بعض الاختلافات الموجودة بين الناس حول أصحاب الكهف ، فمثلا تتحدث الآية عن اختلافهم في عددهم فتقول :( سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ ) . وبعضهم( وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ ) . وذلك منهم( رَجْماً بِالْغَيْبِ ) . وبعضهم( وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ ) . أمّا الحقيقة فهي:( قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ ) . ولذلك لأنّه( ما يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ ) .

وبالرغم من أنّ القرآن لم يشر إلى عددهم بصراحة ، لكن نفهم من العلامات الموجودة في الآية أنّ القول الثّالث هو الصحيح المطابق للواقع ، حيث أنّ كلمة( رَجْماً بِالْغَيْبِ ) وردت بعد القول الأوّل والثّاني ، وهي إشارة إلى بطلان هذين القولين ، إلّا أنّ القول الثّالث لم يتبع بمثل الاستنكار بل استتبع بقوله تعالى :( قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ ) وأيضا بقوله( ما يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ ) وهذا بحدّ ذاته دليل على صحة هذا القول (الثّالث).

وفي كل الأحوال فإنّ الآية تنتهي بنصيحة تحت على عدم الجدال حولهم إلّا الجدل القائم على أساس المنطق والدليل :( فَلا تُمارِ فِيهِمْ إِلَّا مِراءً ظاهِراً ) .

(مراء) كما يقول الراغب في مفرداته ، مأخوذة في الأصل من (مريت الناقة) بمعنى قبضت على (ضرع) الناقة لأحلبها ، ثمّ أطلق المعنى بعد ذلك ليشمل الأشياء الخاضعة للشك والترديد.

وقد تستخدم كثيرا في المجادلات والدفاع عن الباطل ، إلّا أنّ أصلها لا يختص بهذا المعنى ، بل تتسع لكل أنواع البحوث والمفاوضات حول أي موضوع كان موضعا للشك.

«ظاهر» تعني غالب ومسيطر ومنتصر. لذا فالآية تقول :( فَلا تُمارِ فِيهِمْ إِلَّا

٢٢٧

مِراءً ظاهِراً ) بمعنى قل لهم قولا منطقيا بحيث تتوضح رجحان منطقك.

وقد احتمل البعض أن تفسير هذه الآية هو : لا تتحدّث حديثا خاصّا مع المعارضين والمعاندين حيث أنّهم يحرّفون كلّ ما تقول ، بل تحدّث معهم علانية وأمام النّاس كي لا يستطيعوا أن يحرفوا حقيقة ما تقول ، ولا يستطيعوا إنكارها.

التّفسير الأوّل أكثر صحّة.

وعلى أي حال فإنّ مفهوم الكلام هو : عليك أن تتحدّث معهم بالاعتماد على الوحي الإلهي ، لأنّ أقوى الأدلة هو ما يصدر عن الوحي دون غيره :( وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً ) .

الآية التي بعدها تعطي توجيها عاما لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً ) .

( إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ ) يعني يجب أن تقول (إن شاء الله) لكل ما يخص أخبار المستقبل وأحداثه ولكل تصميم تتخذه ، لأنّك أوّلا غير مستقل في اتّخاذ القرارات ، وإذا لم يشأ الله فإنّ كائنا من كان لا يستطيع القيام بأيّ عمل ، لذا ولأجل أن تثبت أنّ قوّتك قبس من قوّة الله الأزلية ، وأنّها مرتبطة بقدرته ، أضف عبارة (إن شاء الله) إلى كلامك.

ثانيا : لا يصح للإنسان ـ من الوجهة المنطقية ـ أن يقطع في أخباره المستقبلية ومواقفه وتصميماته ، لأنّ قدرته محدودة مع احتمال ظهور الموانع المختلفة ، لذلك الأفضل له ذكر جملة (إن شاء الله) مع كل تصميم لفعل شيء.

بعض المفسّرين احتملوا أن يكون مراد الآية هو أن تنفي استقلال الإنسان في إنجاز الأعمال ، حيث يصبح مفهوم الآية : إنّك لا تستطيع أن تقول : إنّك ستقوم بالعمل الفلاني غدا إلّا أن يشاء الله ذلك.

بالطبع فإنّ لازم هذا القول أن الكلام سيكون تاما مع اضافة (ان شاء الله)

٢٢٨

ولكن هذا اللزوم سيكون للجملة لا للمتن كما هو الحال في التّفسير الأوّل(١) .

سبب النّزول الذي أوردناه في بداية الآيات يؤيد التّفسير الأوّل ، حيث أنّ الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد وعد بالإجابة على أسئلة قريش حول أصحاب الكهف وغيرها بدون ذكر جملة (إن شاء الله) لذلك تأخّر عنه الوحي فترة ، لكي يكون ذلك تحذيرا لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويكون عبرة لجميع الناس.

وبعد ذلك يقول القرآن :( وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ ) وهذه إشارة إلى أنّ الإنسان إذا نسي قول (إن شاء الله) وهو يتحدّث عن أمر مستقبلي ، فعليه أن يقولها فور تذكره ، حيث يعوّض بذلك عمّا مضى منه.

وبعد ذلك جاء قوله تعالى :( وَقُلْ عَسى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هذا رَشَداً ) .

* * *

بحوث

١ ـ قوله تعالى :( رَجْماً بِالْغَيْبِ )

كلمة (رجم) تعني في الأصل الحجارة أو رمي الحجارة ، ثمّ أطلقت بعد ذلك على أي نوع من أنواع الرمي. وتستخدم في بعض الأحيان كناية عن (الاتهام) أو (الحكم استنادا إلى الظن والحدس). وكلمة (بالغيب) تأكيدا لهذا المعنى ، يعني لا تحكم بدون الاستناد على مصدر أو علم.

٢ ـ الواو في قوله :( وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ )

في الآيات أعلاه وردت جملة( رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ ) و( سادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ ) بدون

__________________

(١) يجب الانتباه إلى أنّه طبقا للتفسير الأوّل فإنّ هناك جملة مقدّرة وهي (أن تقول) ويصبح المعنى بعد التقدير (إلّا أن تقول إن شاء الله) أمّا وفقا للتفسير الثّاني فليس ثمّة حاجة لهذا التقدير.

٢٢٩

(واو) في حين أنّ جملة( وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ ) بدأت بالواو. ولأنّ جميع تعابير القرآن تنطوي على ملاحظات ومغاز ، لذلك نرى أنّ المفسّرين بحثوا كثيرا في معنى هذه الواو.

ولعل أفضل تفسير لها هو ما قيل من أنّ هذه (الواو) تشير إلى آخر الكلام وآخر الحديث ، كما هو شائع استخدامه في أسلوب التعبير الحديث ، إذ توضع الواو لآخر شيء من مجموعة الأشياء التي تذكر مثلا نقول (جاء زيد ، عمر ، حسن ، ومحمّد) فهذه الواو إشارة إلى آخر الكلام وتبيّن الموضوع والمصداق الأخير.

هذا الكلام منقول عن المفسّر المعروف (ابن عباّس) ، وقد أيده بعض المفسّرين ، واستفادوا من هذه (الواو) لتأييد القول في أنّ عدد أصحاب الكهف الحقيقي هو سبعة ، حيث أنّ القرآن بعد ذكر الأقوال الباطلة ، أبان في الأخير العدد الحقيقي لهم.

البعض الآخر من المفسّرين كالقرطبي والفخر الرازي ذكروا رأيا آخر في تفسير هذه (الواو) وخلاصته : «إنّ العدد سبعة عند العرب عدد كامل ، ولذلك فإنّهم يعدّون حتى السبعة بدون واو. أمّا بمجرّد أن يتجاوزوا هذا العدد فإنّهم يأتون بالواو التي هي دليل على بداية الكلام والاستئناف. لذلك تعرف (الواو) هذه عند الأدباء العرب بأنّها (واو الثمانية)».

وفي الآيات القرآنية غالبا ما يواجهنا هذا الموضوع ، فمثلا الآية (١١٢) من سورة التوبة عند ما تعدّد صفات المجاهدين في سبيل الله تذكر سبع صفات بدون واو وعند ما تذكر الصفة الثامنة فإنّها تذكرها مع الواو فتقول :( وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللهِ ) .

وفي الآية (٥) من سورة التحريم ، تذكر الآية في وصف نساء النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سبع صفات ثمّ تذكر الثّامنة مع الواو حيث تقول :( ثَيِّباتٍ وَأَبْكاراً ) .

٢٣٠

وفي الآية (٧١) من سورة الزمر التي تتحدّث عن أبواب جهنّم تقول :( فُتِحَتْ أَبْوابُها ) إلّا أنّها وبعد آيتين وعند الحديث عن أبواب الجنة تقول الآية :( وَفُتِحَتْ أَبْوابُها ) . أليس ذلك بسبب أنّ أبواب النار سبعة ، وأبواب الجنّة ثمانية؟

طبعا قد لا يكون هذا تعبيرا عن قانون كلّي ، ولكنّه ـ في الأغلب ـ يعبّر عن ذلك. في كل الأحوال يظهر من ذلك أنّ حرف (الواو) وهو مجرّد حرف ، له حساب خاص في الاستعمال ويظهر حقيقة معينة.

٣ ـ المسجد إلى جوار المقبرة

ظاهر تعبير القرآن أنّ أصحاب الكهف ماتوا أخيرا ودفنوا ، وكلمة «عليهم» تؤيّد هذا القول. بعد ذلك قرّر محبّوهم بناء مسجد بجوار مقبرتهم ، وقد ذكر القرآن هذا الموضوع في الآيات أعلاه بلهجة تنم عن الموافقة ، وهذا الأمر يدل على أنّ بناء المساجد لاحترام قبور عظماء الدين ليس أمرا محرما ـ كما يظن ذلك الوهابيون ـ بل هو عمل حلال ومحبّذ ومطلوب.

وعادة فإنّ بناء الأضرحة التي تخلّد الأشخاص الكبار أمر شائع بين أمم العالم وشعوبه، ويبيّن جانب الاحترام لمثل هؤلاء الأشخاص ، وتشجيع لمن يأتي بعدهم ، والإسلام لم ينه عن هذا العمل ، بل أجازه وأقرّه.

إنّ وجود مثل هذه الأبنية سند تأريخي للتدليل على وجود هذه الشخصيات والرموز وعلى منهجها ومواقفها ، ولهذا السبب فإنّ الأنبياء والشخصيات الذين هجرت قبورهم فإنّ تأريخهم أمسى موضعا للشك والاستفهام.

ويتّضح من ذلك أيضا أن ليس هناك تضاد بين بناء المساجد والأصرخة وبين قضية التوحيد واختصاص العبادة بالله تعالى ، بل هما موضوعان مختلفان.

بالطبع هناك بحوث كثيرة حول هذا الموضوع فليراجع إلى مظانها.

٢٣١

٤ ـ كل شيء يعتمد على مشيئته تعالى

إنّ ذكر جملة (إن شاء الله) عند اتّخاذ القرارات المرتبطة بالمستقبل ليس نوعا من الأدب في محضر الخالق جلّ وعلا وحسب ، بل هو بيان لحقيقة أنّنا لا نملك شيئا من عندنا، بل هو من عنده تعالى ، وكلنا نعتمد ونستند إليه لأنّه هو المستقل بالذات فقط ، فلو تحركت كل السكاكين والشفرات في العالم لتقطع عرقا واحدا فإنّها لا تستطيع من دون إذنه تعالى.

إنّ هذه الحقيقة هي نفسها (توحيد الأفعال) ففي الوقت الذي يملك الإنسان حريته وإرادته ، فإنّ تحقق أي شيء وأي عمل إنّما يرتبط بمشيئة الخالق جلّ وعلا.

إنّ تعبير (إن شاء الله) يزيد من توجهنا نحو الله تبارك وتعالى ، ويمنحنا القوّة والقدرة على الإنجاز ، وهو مدعاة إلى تزكية وطهارة وصحة الأعمال أيضا.

ونستفيد من بعض الرّوايات أنّ الإنسان إذا ذكر كلاما عن المستقبل بدون ذكر (إن شاء الله) فإنّ الله سوف يكله إلى نفسه ويخرجه من مظلة حمايته(١) .

وفي حديث عن الإمام الصادقعليه‌السلام نقرأ أنّهعليه‌السلام أمر يوما بكتابة رسالة ، وعند ما جاؤوا بالرسالة إليه وجدها خالية من كلمة (إن شاء الله) فقالعليه‌السلام : «كيف رجوتم أن يتمّ هذا وليس فيه استثناء ، انظروا كل موضع لا يكون فيه استثناء فاستثنوا فيه».

٥ ـ الإجابة على سؤال

قرأنا في الآيات ـ محل البحث ـ أنّ الله يخاطب رسوله بقوله :( وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ ) (٢) وهي إشارة إلى أنك عند ما تنسى ذكر (إن شاء الله) وتتذكر بعد ذلك

__________________

(١) نور الثقلين ، ج ٣ ، ص ٢٥٣ و ٢٥٤.

(٢) المصدر السّابق.

٢٣٢

فعليك باستدراك الأمر بذكر (إن شاء الله).

وفي الأحاديث العديدة الواردة عن أهل البيتعليهم‌السلام ـ في تفسير الآية ـ هناك تأكيد على هذا الموضوع حتى بعد مرور سنة إذا تذكرت فعليك أن تقول (إن شاء الله) عوضا عمّا فاتك وعمّا نسيته(١) .

والآن قد يطرح هذا السؤال وهو : إذا جاز نسبة النسيان إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حين أنّ الناس يعتمدون على أقواله وأعماله ، فكيف يستقيم ذلك مع دليل عصمة الأنبياء والرسل والأئمّة من الخطأ والنسيان؟

ولكن ينبغي الالتفات الى أنّ الكثير من الآيات القرآنية يكون الحديث فيها موجها إلى الرسل في حين أنّ المعنيّ بها عامّة الناس ، وهي كما يقول المثل العربي ، «إياك أعني واسمعي يا جارة».

بعض المفكرين الكبار ذكروا جوابا على هذا السؤال أوردناه في نهاية الحديث عن الآية (٦٨) من سورة الأنعام.

* * *

__________________

(١) نور الثقلين ، ج ٣ ، ص ٢٥٤ فما بعد.

٢٣٣

الآيات

( وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً (٢٥) قُلِ اللهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ ما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً (٢٦) وَاتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتابِ رَبِّكَ لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً (٢٧) )

التّفسير

نوم أصحاب الكهف :

من القرائن الموجودة في الآيات السابقة نفهم إجمالا أنّ نوم أصحاب الكهف كان طويلا جدّا. هذا الموضوع يثير غريزة الاستطلاع عند كل مستمع ، إذ يريد أن يعرف كم سنة بالضبط استمرّ نومهم؟

في المقطع الأخير من مجموعة الآيات التي تتحدث عن أصحاب الكهف ، تبعد الآيات الشك عن المستمع وتقول له :( وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ

٢٣٤

وَازْدَادُوا تِسْعاً ) (١) .

ووفقا للآية فإنّ مجموع نومهم وبقائهم في الكهف هو (٣٠٩) سنة. والبعض يرى أن ذكر ثلاثمائة وتسعة مفصولة بدلا عن ذكرها في جملة واحدة ، يعود إلى الفرق بين السنين الشمسية والسنين القمرية حيث أنّهم ناموا (٣٠٠) سنة شمسية ، وبالقمري تعادل (٣٠٩). وهذا من لطائف التعبير حيث أوجز القرآن بعبارة واحدة صغيرة ، حقيقة كبيرة تحتاج إلى شرح واسع(٢) .

ومن أجل وضع حد لأقاويل الناس حول مكثهم في الكهف تؤكّد الآية :( قُلِ اللهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا ) لماذا؟ لأن :( لَهُ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ) .

والذي يعرف خفايا وظواهر عالم الوجود ويحيط بها جميعا ، كيف لا يعرف مدّة بقاء أصحاب الكهف :( أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ ) (٣) ولهذا السبب فإنّ سكان السماوات والأرض:( ما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍ ) .

أمّا من هو المقصود بالضمير (هم) في (مالهم) فقد ذكر المفسّرون أقوالا كثيرة ، إذا يعتقد البعض أنّها اشارة إلى سكان السماوات والأرض ، أمّا البعض الآخر فيعتقد أن الضمير إشارة إلى أصحاب الكهف ، بمعنى أنّ أصحاب الكهف لا يملكون وليا من دون الله، فهو الذي تولاهم في حادثة الكهف ، وقام بحمايتهم.

ولكن بالنظر إلى الجملة التي قبلها ، يكون التّفسير الأوّل أقرب.

وفي نهاية الآية يأتي قوله تعالى :( وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً ) . هذا الكلام هو في الحقيقة تأكيد على الولاية المطلقة للخالق جلّ وعلا ، إذ ليس هناك قدرة

__________________

(١) طبقا للقواعد النحوية يجب أن تأتي كلمة (سنة) والتي هي مفرد بدلا من (سنين) التي هي جمع ، ولكن بما أن النوم كان طويلا للغاية ، وعدد السنوات كثيرا ، لذا ذكرت الكلمة بصيغة الجمع حتى توضّح الموضوع وتبيّن كثرته.

(٢) الفرق بين السنة الشمسية والقمرية هو (١١) يوم تقريبا ، فإذا ضربنا ذلك (٣٠٠) وقسمنا الناتج على عدد أيّام السنة القمريّة أي على (٣٥٤) يكون العدد (٩) طبعا يبقى باق قليل ، أهمل لأنّه لا يصل إلى السنة الكاملة.

(٣) جملة( أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ ) هي صيغة تعجّب ، تبيّن لنا عظمة علم الخالق جلّ وعلا ، والمعنى أنّه بصير سميع بحيث أنّ الإنسان يعجب من ذلك.

٢٣٥

أخرى لها حق الولاية المطلقة على العالمين ، ولا يوجد شريك له تعالى في ولايته ، يعني ليس ثمّة قدرة أخرى غير الله لها حق الولاية في العالم ، لا بالاستقلال ولا بالاشتراك.

وفي آخر آية يتوجّه الخطاب إلى الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويقول الله له :( وَاتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتابِ رَبِّكَ ) . أي لا تعر أية أهمية إلى أقوال الآخرين المخلوطة بالكذب والخرافة والوضع ، يجب أن يكون اعتمادك في هذه الأمور على الوحي الإلهي فقط. لأنّه لا يوجد شيء يستطيع أن يغيّر كلامه تعالى :( لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ ) .

فكلام الله تعالى وعلمه ليس من سنخ علم الإنسان الذي يخضع يوميا للتغيّر والتبديل بسبب الاكتشافات الجديدة والمعرفة الحديثة. لذلك لا يمكن الاعتماد عليها والركون إليها مائة في المائة ، ولهذه الأسباب :( وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً ) .

«ملتحد» مشتقّة من «لحد» على وزن «مهد» وهي الحفرة التي يميل وسطها إلى أحد الأطراف (كاللحد الذي يحفر لقبر الإنسان).

ولهذا السبب يقال للمكان الذي يميل إليه الإنسان (ملتحد) ، ثمّ استخدمت بعد ذلك بمعنى «ملجأ».

ومن المهم أن نلاحظ أنّ الآيتين الأخيرتين بينتا إحاطة علم الخالق جلّ وعلا بجميع كائنات الوجود ، وذلك من خلال عدّة طرق.

* في البداية تبيّن الآيات : أنّ غيب السماوات والأرض من عنده ، ولهذا فهو تعالى محيط بها جميعا.

* ثمّ تضيف : إنّه سميع وبصير لأقصى حد ولأبلغ غاية.

* مرّة أخرى تقول : إنّه الولي المطلق ، وإنّه أعلم الجميع.

* ثمّ تضيف مرّة أخرى : لا يشاركه أحد في حكمه حتى يتحدّد علمه أو معرفته.

٢٣٦

* ثمّ تقول : لا يتغيّر ولا يتبدّل علمه وكلامه.

* وفي آخر جملة تقول الآية : أنّه تعالى هو الملجأ الوحيد في الوجود لا سواه نعلمه محيط بكلّ اللاجئين إليه سبحانه وتعالى.

* * *

بحوث

١ ـ قصّة أصحاب الكهف في الرّوايات الإسلامية

هناك روايات كثيرة في المصادر الإسلامية حول أهل الكهف ، ولكن بعضها لا يعتمد عليها لضعف في سندها ، والبعض الآخر تتضاد وتختلف فيما بينها.

ومن الرّوايات المختلفة اخترنا رواية علي بن إبراهيم القمي التي ينقلها في تفسيره ، وقد لاحظنا في هذه الرّواية أنّها الأفضل من حيث المتن والمضمون الذي يتناسق مع الآيات القرآنية.

في رواية علي بن إبراهيم عن الإمام الصادقعليه‌السلام قال : «إنّ أصحاب الكهف والرقيم كانوا في زمن ملك جبّار عات ، وكان يدعو أهل مملكته إلى عبادة الأصنام فمن لم يجبه قتله ، وكانوا هؤلاء قوما مؤمنين يعبدون اللهعزوجل ، ووكل الملك بباب المدينة وكلاء ولم يدع أحدا يخرج حتى يسجد للأصنام ، فخرج هؤلاء بعلة الصيد ، وذلك أنّهم مرّوا براع في طريقهم فدعوه إلى أمرهم فلم يجبهم وكان مع الراعي كلب ، فأجابهم الكلب وخرج معهم ، فقال الصادقعليه‌السلام : لا يدخل الجنة من البهائم إلا ثلاثة حمار بلعم بن باعور ، وذئب يوسفعليه‌السلام وكلب أصحاب الكهف.

فخرج أصحاب الكهف من المدينة بعلّة الصيد هربا من دين ذلك الملك ، فلمّا أمسوا دخلوا إلى ذلك الكهف ، والكلب معهم فألقى اللهعزوجل عليهم النعاس ، كما قال الله تبارك وتعالى :( فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً ) فناموا حتى أهلك اللهعزوجل الملك وأهل مملكته وذهب ذلك الزمان ، وجاء زمان آخر وقوم

٢٣٧

آخرون ثمّ انتبهوا ، فقال بعضهم لبعض : كما نمناها هنا فنظروا إلى الشمس قد ارتفعت فقالوا : نمنا يوما أو بعض يوم. ثمّ قالوا لواحد منهم : خذ هذه الورق وادخل في المدينة متنكرا لا يعرفوك فاشتر لنا ، فإنّهم إن علموا بنا وعرفونا قتلونا أو ردّونا في دينهم ، فجاء ذلك الرجل فرأى المدينة بخلاف الذي عهدها ، ورأى قوما بخلاف أولئك لم يعرفهم ولم يعرفوا لغتهم ، ولم يعرف لغتهم ، فقالوا له : من أنت ومن أين جئت ، فأخبرهم فخرج ملك تلك المدينة مع أصحابه ، والرجل معهم حتى وقفوا على باب الكهف ، فأقبلوا يتطلعون فيه فقال بعضهم : هؤلاء ثلاثة ورابعهم كلبهم ، وقال بعضهم : هم خمسة وسادسهم كلبهم ، وقال بعضهم : هم خمسة وسادسهم كلبهم ، وقال بعضهم : هم سبعة وثامنهم كلبهم ، وحجبهم اللهعزوجل بحجاب من الرعب فلم يكن أحد يقدم بالدخول عليهم غير صاحبهم فإنّه لمّا دخل عليهم وجدهم خائفين أن يكون صحاب [الملك] «دقيانوس» شعروا بهم ، فأخبرهم صاحبهم أنّهم كانوا نائمين هذا الزمن الطويل ، وأنّهم آية للناس ، فبكوا وسألوا الله تعالى أن يعيدهم إلى مضاجعهم نائمين كما كانوا ، ثمّ قال الملك : «ينبغي أن يبنى هنا مسجد ونزوره ، فإنّ هؤلاء قوم مؤمنون».

وهنا أضاف الإمامعليه‌السلام : فلهم في كل سنة نقلة ، نقلتان ، ينامون ستة أشهر على جنبهم الأيمن ، وستة أشهر على جنبهم الأيسر ، والكلب معهم قد بسط ذراعيه بفناء الكهف»(١) .

وفي رواية أخرى عن الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالبعليه‌السلام ورد حديث مفصّل عن قصّة أصحاب الكهف مفاده ما يلي :

لقد كان هؤلاء في الأصل ستة نفر اتّخذهم (ديقيانوس) وزراءه ، فأقام ثلاثة عن يمينه وثلاثة عن يساره ، واتّخذ لهم عيدا في كل سنة مرّة ، فبينا هم ذات يوم في عيد والبطارقة عن يمينه والهراقلة عن يساره ، إذ أتاه بطريق فأخبره أنّ

__________________

(١) نور الثقلين ، ج ٣ ، ص ٢٤٧ ـ ٢٤٨.

٢٣٨

عساكر الفرس قد غشيته ، فاغتمّ لذلك حتى سقط التاج عن رأسه ، فنظر إليه أحد الثلاثة الذين كانوا عن يمينه ويقال له (تلميخا) فقال في نفسه : لو كان (ديقيانوس) إلها كما يزعم إذا ما كان يغتم وما كان يبول ولا يتغوّط ، وما كان ينام ، وليس هذا من فعل الإله.

وقد كان هؤلاء الوزراء الستة يجتمعون كل يوم عند أحدهم ، وكانوا ذلك اليوم عند (تلميخا) فاتّخذ لهم من طيّب الطعام ثمّ قال لهم : يا إخوتاه ، قد وقع في قلبي شيء منعني الطعام والشراب والمنام. قالوا : وما ذاك يا تلميخا؟ قال : أطلت فكري في هذه السماء فقلت من رفع سقفها محفوظة بلا عمد ولا علاقة من فوقها ، ومن أجرى فيها شمسا وقمرا ، آيتين مبصرتين ، ومن زيّنها بالنجوم! ثمّ أطلت الفكر في الأرض فقلت : من سطحها على صميم الماء الزخّار ، ومن حبسها بالجبال أن تميد على كل شيء؟ وأطلت فكري في نفسي من أخرجني جنينا من بطن أمي ومن غذّاني ومن ربّاني؟ إنّ لها صانعا ومدبرا غير (ديقيانوس الملك) ، وما هو إلّا ملك الملوك وجبّار السماوات.

فانكب الفتية (الوزراء) على رجليه يقبلونها وقالوا : بك هدانا الله تعالى من الضلالة إلى الهدى فأشر علينا. وهنا وثب (تمليخا) فباع تمرا من حائط له بثلاثة آلاف درهم وصرّها في ردائه وركبوا خيولهم وخرجوا من المدينة ، فلما ساروا ثلاثة أميال قال لهم تمليخا: يا إخوتاه جاءت مسكنة الآخرة وذهب ملك الدنيا ، انزلوا عن خيولكم وامشوا على أرجلكم لعلّ الله أن يجعل لكم من أمركم فرجا ومخرجا ، فنزلوا عن خيولهم ومشوا على أرجلهم سبعة فراسخ في ذلك اليوم ، فجعلت أرجلهم تقطر دما.

وهنا استقبلهم راع ، فقالوا : يا أيّها الراعي هل من شربة لبن أو ماء؟ فقال الراعي:عندي ما تحبّون ، ولكن أرى وجوهكم وجوه الملوك ، وما أظنّكم إلّا هرّابا من «ديقيانوس» الملك.

٢٣٩

قالوا : يا أيّها الراعي لا يحلّ لنا الكذب أفينجينا منك الصدق؟ فأخبروه بقصّتهم ، فانكب الراعي على أرجلهم يقبلها ويقول : يا قوم لقد وقع في قلبي ما وقع في قلوبكم ، ولكن أمهلوني حتى أردّ الأغنام على أربابها وألحق بكم ، فتوقفوا له ، فردّ الأغنام ، وأقبل يسعى يتبعه الكلب فنظر الفتية (الوزراء) إلى الكب وقال بعضهم : إنّا نخاف أن يفضحنا بنباحه ، فألحّوا عليه بالحجارة ، فأنطق الله تعالى جلّ ذكره ، الكلب [قائلا]:ذروني حتى أحرسكم من عدوّكم.

فلم يزل الراعي يسير بهم حتى علا بهم جبلا ، فانحطّ بهم على كهف يقال له (الوصيد) فإذا بفناء الكهف عيون أشجار مثمرة فأكلوا من الثمر ، وشربوا من الماء ، وجنّهم الليل ، فآووا إلى الكهف وربض الكلب على باب الكهف ومدّ يديه عليه ، فأوحى الله تعالى إلى ملك الموت بقبض أرواحهم. (فأنامهم الله نوما طويلا وعميقا)(١) .

وفيما يخص ديقيانوس قال بعض المفسّرين : إنّه كان امبراطور الروم وحكم منذ عام ٢٤٩ ـ ٢٥١ ميلادي ، وقد كان عدوا شديدا للمسيحيين ، وكان يؤذيهم ويعذبهم ، وذلك قبل اعتناق ملك الروم لدين المسيحية.

٢ ـ أين كان الكهف؟

للمفسّرين والعلماء كلام كثير حول أصحاب الكهف ، أين كانت منطقتهم؟ وأين يقع الكهف الذي مكثوا فيه؟

وهنا ينبغي أن نلاحظ أنّه بالرغم من أنّ العثور على المكان الدقيق لهذه الحادثة لا يؤثّر كثيرا على أصل القصّة ودروسها التربوية وأهميتها التأريخية ، وبالرغم من أنّ هذه القصّة ليست الوحيدة التي نعرف أصلها ولا نعرف بعض جزئياتها وتفصيلاتها ، إلّا أنّ معرفة محل الحادث يساعدنا حتما في فهم أكثر

__________________

(١) سفينة البحار ، ج ٢ ، ص ٣٨٢ مادة فكر.

٢٤٠

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576