الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٩

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل13%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 576

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 576 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 264391 / تحميل: 11788
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٩

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

تخصيص الفعل بالإيجاد في وقت دون آخر أو بإيقاعه على وجه دونَ وجه.

ويدلّ على ثبوت الإرادة له - تعالى - بالمعنى المطلق أنّ العالم حادث، فتخصيصُ إيجاده بوقتٍ دونَ ما قبله وما بعده، مع جوازهما، يفتقرُ إلى المخصّص، وليس القدرة، لتساوي نسبتها، ولا العلم لتبعيته، فهو الإرادةُ، ولأنّ تخصيص ما وجد بالإيجاد دونَ غيره من المقدورات يستدعي مخصّصاً هو الإرادةُ.

ويدلّ على إثبات إرادة الفعل منّا أمرُه بالطّاعة، ونهيه عن المعصية، وهما يستلزمان الإرادة والكراهة، خلافاً للأشعريّة الّذين أثبتوا الطلبَ مغايراً للإرادة، لعدم تعقّله، وإلزامُهم بتمهيد عذر السيّد الضّارب عبده للمخالفة إذا أمره مشتركٌ.

المطلب السّادس: في أنّه - تعالى - مُدرِكٌ

اتّفق المسلمون على أنّه - تعالى - سميع بصيرٌ، واختلفوا، فقال أبو الحسين والكعبيّ والأوائل: إنّ معناه علمه بالمسموعات والمبصرات، لاستحالة أن يكونَ هو الإحساسَ بالحواس ولا ما عداه غير العلم، لأنّه غيرُ معقول، وسيأتي أنّه - تعالى - عالم بكلّ معلوم، وللسّمع.

وأثبت الجُبائيّان والأشعريّ والسّيّد المرتضى والخوارزميّ أمراً زائداً على العلم، لأنّ إدراكنا زائدٌ على علمنا؛ للفرق بينَ العلم عندَ المشاهدة وبينه

١٤١

عندَ عدمها. والمقتضي لذلك كونُ المدرك حيّاً، والله - تعالى - حيٌّ، فإدراكه زائد، والمقدّماتُ ضعيفةٌ.

ثمّ استدلّوا على ثبوته بأنّه - تعالى - حيّ، فيصحُّ أن يتّصف بالسّمع والبصر، وكلّ من صحّ اتّصافه بصفة وجب أن يتّصف بها أو بضدّها، وضدّها نقصٌ، وهو على الله - تعالى - مُحال.

والحقّ استنادُ ذلك إلى النّقل، ولا يجبُ صحّةُ اتّصاف الحيّ بالسّمع والبصر، فإنّ أكثرَ الهوامّ والسّمك لا سمعَ لها، والعقربُ والخُلَدُ (1) لا بصرَ لهما. والدّيدان (2) وكثيرٌ من الهوامّ لا سمَ لها ولا بصرَ. فلو لم يمتنع اتّصاف تلك الأنواع بالسّمع والبصر لما خلا جميعُ أشخاصها منهما. (3)

وإذا جاز أن يكونَ بعضُ فصول الأنواع مزيلاً لتلك الصّحة بطلت الكليّة. ولا يجبُ اتّصاف الشّيء بأحد الضّدّين كالشّفاف. نعم يجبُ أن يتصف القابل للصّفة بها أو بعدمها، ونمنع كونَ ضدّهما نقصاً في حقّه تعالى.

والقياسُ باطلٌ، على أنّ حياته - تعالى - مخالفةٌ لحياتنا. ولا يجبُ العموميّةُ، لانتفاء القابليّة، كما أنّ حياتنا مصحّحةٌ للشهوة والنّفرة دونَ حياته تعالى.

____________________

(1) ج: الجراد.

(2) ج: الدّيران.

(3) ج: منها.

١٤٢

المطلب السّابع: في أنّه - تعالى - متكلّمٌ

اتّفق المسلمون على ذلك، لقوله تعالى، ( وَكَلّمَ اللّهُ مُوسَى‏ تَكْلِيماً ) (1) ، ولا دورَ؛ لأنه إثباتٌ لكلامه - تعالى - بإخبار الرّسول المعلوم صدقه بالمعجزة، ولأنّه قادرٌ على كلّ مقدور.

واختلفوا، فعندَ المعتزلة، أنّه خلق في أجسام جماديّة أصواتاً دالّةً على معان مخصوصة، فهو متكلّمٌ بهذا المعنى.

والأشاعرة جوّزوا ذلك، لكن اثبتوا معنىً نفسانيّاً قائماً بذات المتكلّم مغايراً للعلم والإرادة. يدلُّ عليه هذه الحروف والأصواتُ وأنّه قديمٌ في حقّه - تعالى - واحدٌ ليس بأمر ولا نهي ولا خبر؛ لأنّه حيّ يصحّ اتّصافه بالكلام. فلو لم يكن موصوفاً به كان متّصفاً بضدّه، وهو نقصٌ.

ولأنّ أفعاله - تعالى - لمّا جاز عليها التّقدّم والتّأخّرُ أثبتنا الإرادةَ المخصّصةَ، (2) وأفعالُ العباد متردّدةٌ بينَ الحظر والإباحة وغيرهما من الأحكام فلابدّ من مخصّص غير الإرادة، لأنّه قد يأمر بما لا يريدُ وبالعكس، فهو الكلام الّذي هو الطلبُ النّفسانيّ، ولأنّه مَلِك مُطاعٌ، فله الأمرُ والنّهيُ.

اعترضت (3) المعتزلة: بأنّ الاستدلال على الإثبات (4) فرع تصوّر المستدل عليه. وما ذكرتموه غيرُ متصور ويمنع صحة اتّصافه تعالى به،

____________________

(1) النساء: 4/162.

(2) ج: اثبت إرادة مخصوصة.

(3) ألف: اعترض.

(4) ج: إتيان/ ب: إثبات ممنوع وما التزموه.

١٤٣

ويمنع وجوب الاتّصاف بأحدهما وكون الضّدّ نقصاً، بل ثبوته نقصٌ، إذ أمرُ المعدوم ونهيُه وإخباره سفهٌ. والأحكام عقليّةٌ لا سمعيّةٌ فالمُخصّص إمّا الصّفات أو الوجوه والاعتبارات الّتي تقع عليها الأفعال، ويقبح الأمر بما لا يريدُ.

وتمهيدُ العذر في قتل العبد بإيجاد صورةٍ، الأمر، وهو مشترك بين الطلب والإرادة. والمُطاعُ إن عنوا به نفوذَ قدرته في جميع الممكنات فهو حقٌّ، وإن عنوا ما طلبوه منعناه.

المطلب الثّامنُ: في أحكام هذه الصّفات وهي إحدى عشر بحثاً

ألف - ذهب جماعة من المعتزلة والأشاعرة إلى أنّ هذه الصّفات وجوديّةٌ وإلاّ لصحّ حملُها على المعدوم. والملازمةُ ممنوعةٌ، فإنّ كثيراً من العدميّات يمتنعُ حملهُ على المعدوم، وعندَ الأوائل وأبي الحسين أنّها ليست وجوديّةً. وإلاّ لزم تعدّدُ القدماء.

ب - هي نفسُ الذّات في الخارج وإن كانت زائدةً في التّعقّل، وهو اختيارُ الأوائل وأبي الحسين، لما تقدّم، ولأنّ الوجود لو كان زائداً كان ممكناً، لأنّه وصفٌ للماهيّة، فلا يكونُ واجباً، هذا خُلفٌ. ولأنّ مؤثّره إمّا الماهيّةُ لا بشرط الوجود، فالمعدومُ مؤثّر في الموجود أو بشرطه، (1) فيتسلسل (2) أو يدور أو غيرها، فيفتقر إلى الغير.

____________________

(1) ج: لشرطه.

(2) ألف: فتسلسل.

١٤٤

وعندَ جماعة من المعتزلة والأشاعرة أنّها زائدةٌ، للمغايرة بينَ قولنا: واجب الوجود موجودٌ، وبين قولنا: إنّه قادرٌ. وللاستفادة بكلّ منهما، بخلاف قولنا: واجبُ الوجود واجبُ الوجود؛ ولأنّا قد نعلمُ الذّات ونشكّ (1) في الصّفات، وكلّ ذلك يدلٌّ على المغايرة الذّهنيّة.

ج - هذه الصّفات أزليّةٌ وإلاّ لافتقرت إلى مؤثّر، فإن كان ذاته دار، وإن كان غيره افتقر إلى غيره، ولأنّ تأثيره في غيره يستلزم ثبوتها، فهي ثابتة قبل علّتها.

د - هذه الصّفات ذاتيّةٌ عندَ المعتزلة والأوائل، لامتناع استنادها إلى غير ذاته، لما تقدّم، وعندَ الأشعريّة أنّها معلّلةٌ بالمعاني، فهو قادرٌ بقدرة، عالمٌ بعلم، حيّ بحياة، إلى غير ذلك من الصّفات.

قال نفاةُ (الأحوال) منهم إنّ العلمَ نفس العالميّة، والقدرة نفس القادريّة، وهما صفتان زائدتان على الذات وقال مثبتوها: إنّ عالميّته - تعالى - صفةٌ معلّلةٌ بمعنى قائم به، وهو العلم.

هـ - إرادته إمّا نفسُ الدّاعي، كما تقدّم، أو أمرٌ زائدٌ عليه مستندٌ إلى ذاته، كاختيار النّجّار، (2) خلافاً للجمهور. وعند الجبّائيين أنّه مريدٌ بإرادةٍ حادثةٍ لا في محلّ؛ إذ لو كان مريداً لذاته لعمّت إرادته، كالعلم، فيريدُ الضّدّين، أو لإرادةٍ قديمةٍ لزم ثبوتُ القدماء، أو لإرادة حادثة في ذاته كان محلاًّ

____________________

(1) ألف: نشكّل.

(2) ب: كاختيار المختار.

١٤٥

للحوادث، أو في غيره. فإن كان حيّاً رجع حكمها إليه، وإلاّ استحال حلولها فيه، ووجودُ إرادة لا في محلّ غيرُ معقول.

و - خبره - تعالى - صدقٌ، لقبح الكذب عقلاً، فلا يصدر عنه، ولأنّ الكذبَ إن كان قديماً استحال منه الصّدق، والتّالي باطل، للعلم بإمكان صدور الصّدق من العالم بالشّيء. والأخيرُ دليل الأشاعرة ولا يتمّ، لبنائه على أنّ الكلامَ القديمَ هو عين الخبر، وأنّه خبرٌ واحدٌ، ولعدم دلالته على صدق الألفاظ.

ز - قدرته - تعالى - تتعلّقُ بكلّ مقدور، للتّساوي في العلّة الّتي هي الإمكانُ. ومنع الأوائل من صدور اثنين عنه، لأنّه بسيط، ولا يتأتّى في القادر لو صح. ومنع الثّنويّةُ والمجوس من صدور الشّرّ عنه، وإلاّ كان (1) شرّيراً. فعند المجوس فاعلُ الخير يزدانُ وفاعل الشّرّ أهرمن. وعنوا بهما ملكاً وشيطاناً، واللهُ - منزّهٌ عن فعل الخير والشرّ. والمانويّةُ تسند ذلك (2) إلى النّور والظّلمة وكذا الدّيصانيّة.

وعند جميعهم أنّ الخيّر هو الّذي يكون جميع أفعاله خيراً، والشّرّيرَ هو الّذي يكون جميع أفعاله شرّاً. والخيرُ والشّرّ لا يكونان لذاتهما خيراً وشرّاً، بل بالإضافة إلى غيرهما. وإذا أمكن أن يكون شيء واحد بالقياس إلى واحد خيراً وبالقياس إلى غيره شرّاً أمكن أن يكونَ فاعل ذلك الشّيء واحداً.

____________________

(1) ج: لكان.

(2) ج: يستندونهما/ ب: يستند وكذا.

١٤٦

ومنع النّظامُ من قدرته على القبيح، لأنّه محالٌ، لدلالته على الجهل أو الحاجة. والاستحالة من جهة الدّاعي، لا من حيث القدرة.

ومنع عَبّاد من قدرته على ما علم وقوعه أو عدمه لوجوبه أو امتناعه وهو ينفي القدرة، والعلمُ تابعٌ.

ومنع البلخيُّ من قدرته على مثل مقدور العبد؛ لأنه إمّا طاعةٌ أو سفهٌ، وهما وصفان لا يقتضيان المخالفة الذّاتيّة.

ومنع الجُبائيّان من قدرته على عين مقدور العبد، لامتناع اجتماع قدرتين على مقدور واحد؛ لأنّه إن وقع بهما استغنى بكلّ منهما عن الآخر، وإن لم يقع بهما كان المانعُ هو وقوعه بالآخر، فيقع بهما حال ما لا يقعُ بهما وإن وقع بأحدهما لم يكن الآخر قادراً، والأخيرة ممنوعةٌ.

ح - علمُه - تعالى - متعلّقٌ بكلّ معلوم، لأنّه حيّ، فيصحّ أن يعلم كلّ معلوم. فلو اختصّ تعلقه بالبعض افتقر إلى مخصّص، وهو محال ولأنّه يصحُّ أن يعلم كلّ معلوم، فيجب، لأنّها صفةٌ نفسيّةٌ متى صحّت وجبت.

وبيانُ المقدّم، أنّه حيٌّ، وهو يصحّ أن يعلم كلّ معلوم، لأنّ الحيّ هو الّذي لا يستحيل أن يعلم. ونسبةُ الصّحّة إلى الكلّ واحدةٌ.

وبعض الأوائل منع من علمه بذاته، لأنّه إضافةٌ فيستدعي المغايرة. وينتقضُ بعلمنا بأنفسنا.

ومنهم من منع علمه بغيره، لاستحالة حلول صور في ذاته. ويُنتقضُ

١٤٧

بعلم الواحد بنفسه، ولأنّه إضافةٌ، لا صورةٌ، ولأنّ الصّدور (1) عنه أبلغ في الحصول من الصّورة المنتزعة الصّادرة عن العاقل لمشاركة المعقول، ثم تلك الصّورة تعلمُ بذاتها، فهنا أولى.

ومنهم من منع من علمه بالجزئيّات من حيث هي متغيّرةٌ إلاّ على وجه كلّيّ، فلا يعلم أنّ المتغيّر وقع أو سيقع؛ لأنّه عند عدمه إن بقى العلمُ لزم الجهل، وإلاّ كان متغيّراً.

وأجاب بعضهم بأنّ العلم بأنّ الشّيء سيوجد هو غير العلم بالوجود حينَ الوجود.

وهو غلطٌ، لاستدعاء العلم المطابقةَ، بل الحقُّ أنّ التّغيّرَ في الإضافات كتغيّر المقدور المستلزم تغيّر إضافة القدرة، لا القدرة.

ط - وجوبُ وجوده لذاته يقتضي امتناعَ عدمه في وقتٍ مّا. فهو قديمٌ أزليّ باقٍ سرمديٌّ. وبقاؤه لذاته لا لبقاء يقوم به، خلافاً للأشعريّ، وإلاّ افتقر في وجوده إلى غيره، هذا خُلفٌ. ولأنّ بقاءه باق فيتسلسل أو يدور إن بقى بالغير أو بالذّات، وإن بقى لذاته كان أولى بالذّاتيّة.

والتّحقيق أنّ البقاء يراد به امتناع خروج الذّات الثّابتة عن ثبوتها (2) ومفارقة الوجود لأكثر من زمان واحد بعدَ الزّمان الأوّل، والأوّل ثابتٌ في حقّه تعالى، لا زائدَ عليها. والثّاني منتفٍ، (3) لأنّه لا يعقلُ فيما لا يكونُ فانياً. (4)

____________________

(1) ج: المصدور.

(2) ج: ثباتها.

(3) ب: مفتقرٌ.

(4) ب، ج: زمانياً.

١٤٨

كما أنّ الحكم بأنّ الكلّ أعظم من الجزء لا يمكن وقوعه في زمان أو في جميع الأزمنة، كما لا يقال إنّه واقعٌ في مكان أو في جميع الأمكنة. وهو بناءً على أنّ التّغيّر يستدعي الزّمان.

ي - قدرتُه، علمه؛ وإرادته كافيةٌ في الإيجاد، لوجوبه عند اجتماعهما، خلافاً لبعض الحنفيّة، حيث أثبتوا التّكوين صفة أزليّة لله تعالى. والمكوّن محدث، لقوله تعالى: ( إِنّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ ) (1) فـ (كن) متقدّمٌ على (الكون)، وهو المسمّى بالأمر، والكلمة والتّكوين والاختراع والإيجاد والخلق، ولأنّ القدرة مؤثّرةٌ في صحّة وجود المقدور، والتّكوين مؤثّر في نفس وجوده.

وهو غلطٌ، لأنّ التّكوين إن كان قديماً لزم قدم الأثر، لأنّه نسبةٌ، وإن كان محدثاً تسلسل. وقوله (كن) لا يدلّ على إثبات صفة زائدة على القدرة، والقدرةُ لا تأثيرَ لها في صحّة الوجود، لأنّها ذاتيّةٌ للممكن.

يا - أثبت الأشعري (اليد) صفةً وراء القدرة، و(الوجه) صفةً وراء الوجود، و(الاستواء) صفةً أُخرى. وأثبت القاضي (2) إدراكَ الشّمّ والذّوق واللّمس ثلاثَ صفاتٍ. وأثبت عبد الله بن سعيد (القدم) صفةً مغايرةً للبقاء، و

____________________

(1) يس: 36/82.

(2) هو أبو الحسن عبد الجبار بن أحمد المعروف بقاضي القضاة، من أئمة المعتزلة، له مصنّفات منها: شرح الأُصول الخمسة، تنزيه القرآن من المطاعن، المغني، مات سنة 415هـ. الأعلام: 3/273.

١٤٩

(الرّحمة) و(الكرم) و(الرّضا) صفاتٍ غيرَ الإرادة. ولا دليل على شيء من ذلك.

وجزم آخرون بنفي ما زاد على السّبعة، لأنّا كلّفنا بالمعرفة، وإنّما تحصل بمعرفة الصّفات، فلابُدّ من طريق، وليس إلاّ الاستدلال بالآثار والتّنزيه عن النّقصان، وإنّما يدلاّن على السّبعة، ونمنع من التّكليف بكمال المعرفة.

١٥٠

الفصل الثّاني

في الصّفات السّلبيّة

وفيه مطالبُ [اثنا عشر]:

[المطلب] الأوّل: في أنّه - تعالى - ليس بمتحيّز

اتّفق العقلاء عليه، خلافاً للمجسّمة، لأنّ كلّ متحيّز لا ينفكّ عن الحركة أو السّكون، فيكون مُحدَثاً، ولأنّه حينئذ إمّا جسمٌ فيكون مركّباً فيكون حادثاً أو جزءاً لا يتجزّأ، وهو غير معقول، لامتناع اتّصاف مثل ذلك بالقدرة والعلم غير المتناهيين، ولأنّه لو كان جسماً لكان مركّباً. فالعلمُ الحاصل لأحد الجزأين ليس هو الحاصل للآخر، فيتعدد الآلهةُ. والظواهر متأوّلةٌ، وعجزُ الوهم لا يعارضُ القطع العقليّ.

المطلب الثّاني: في أنّه - تعالى - لا يحلّ في غيره

المعقول من الحلول قيامُ موجود بموجود آخر على سبيل التّبعيّة بشرط امتناع قيامه بذاته. وهو محالٌ في حقّ واجب الوجود، ولقضاء العقل بأنّ الغنيّ عن المحلّ يستحيلُ حلوله فيه. فإن كان حالاًّ في الأزل لزم قدم المحلّ، وإن لم يكن تجدّدت الحاجة، ولأنّ حلول الشّيء في غيره إنّما

١٥١

يتصوّر لو كان الحالُّ إنّما يتعيّنُ بواسطة المحلّ، وواجب الوجود لا يتعيّنُ بغيره.

وعندَ بعض النّصارى، أنّه - تعالى - حالٌّ في المسيح. وعند الصّوفيّة أنّه - تعالى - حالٌّ في (1) العارفين. والكلّ محالٌّ، فهو إذن ليس بعرض ولا صورة، لافتقارهما إلى المحلّ.

المطلب الثّالث: في أنّه - تعالى - مخالفٌ لغيره لذاته

ذهب أبو هاشم إلى أنّ ذاته - تعالى - مساويةٌ لسائر الذّوات في الذّاتيّة، ويخالفها بحالة توجبُ الأحوال الأربعة، أعني الحييّة والعالميّة والقادريّة والموجوديّة. وهي الحالة الإلهيّة لأنّ مفهومَ الذّات هو ما يصحّ أن يعلم ويُخبر عنه. وهو غلطٌ؛ لأنّ هذا المفهوم (2) أمرٌ اعتباريٌّ ليس نفسَ الحقائق الثّابتة في الأعيان، بل من المعقولات الثّانية.

ولا يمكن تساوي كلّ الذّوات، لأنّ اختصاصَ بعضها بما يوجب المخالفة إن لم يكن لمرجّح كان ترجيحاً لأحد طرفي الممكن، لا لمرجّح، وإلاّ تسلسل.

____________________

(1) ج: حالٌّ في الأبدان العارفين.

(2) ج: هذا المفهوم ليس أمر اعتباري.

١٥٢

المطلب الرّابع: في أنّه - تعالى - غيرُ مركّب

كلُّ مركّب ممكنٌ، لأنّه يفتقرُ (1) إلى جزئه، وجزؤه غيره، وكلّ مفتقرٍ ممكنٌ، وواجبُ الوجود ليس بممكن، فليس له أجزاءُ ماهيّة، أعني المادّة والصّورة، ولا عقليّة، أعني الجنس والفصل، ولا مقداريّة؛ ولا يتركّب عنه غيره، فليس جنساً ولا فصلاً ولا نوعاً يندرج تحته أفرادٌ، ولا يتركّب عنه غيره، إذ يستحيل أن ينفعل عن غيره.

المطلب الخامس: في أنّه - تعالى - لا يتحدُ بغيره

اتفق العقلاء من المتكلّمين والحكماء إلى (2) امتناع الاتّحاد، إلاّ فرفوريوس والرّئيس في بعض كتبه، لأنّ الشّيئين بعدَ الاتّحاد إن بقيا موجودين فهما اثنان لا واحدٌ، وإن عُدما فلا اتّحادَ، بل حدث ثالثٌ، وإن عُدم أحدهما لم يتّحد المعدوم بالموجود. وهذا حكمٌ عامٌّ في كلّ الماهيّات. نعم قد يقال: الاتّحادُ بالمجاز على صيرورة شيء شيئاً آخر بأن يخلعُ صورته ويلبس الأخرى، كما يقال: صار الماء هواءً؛ أو بأن يحدث للأجزاء مزاج (3) وهيئة زائدة على الآخر كما يقال: صار العفصُ والزّاجُ حِبراً، وهو منفيٌّ (4) عن واجب الوجود - تعالى -؛ لاستحالة خروجه عن

____________________

(1) ج: مفتقر.

(2) ج: على.

(3) ب، ج: امتزاجاً.

(4) ج: منتفٍ.

١٥٣

حقيقته وعدم أمر زائد عليها وامتناع تركّبه من غيره أو معه.

وقالت النّصارى باتّحاد الأقانيم الثّلاثة: الأب والابن وروح القدس، واتّحد ناسوتُ المسيح باللاّهوت.

والصّوفيّةُ قالوا: أنّه - تعالى - يتّحدُ بالعارفين. والكلُّ غيرُ معقول.

المطلب السادس: في أنّه - تعالى - ليس في جهة

اتفق العقلاء عليه إلاّ المجسّمة والكرّاميّة، لأنّه ليس بمتحيّز ولا حالّ في المتحيّز، فلا يكون في جهة بالضّرورة، ولأنّ الكائن في الجهة لا ينفكّ عن الأكوان بالضّرورة، فيكون مُحدَثاً، وواجبُ الوجود ليس بمُحدَث؛ ولأنّ مكانه مساو لسائر الأمكنة، فاختصاصه به ترجيحٌ عن غير مرجّح، ويلزمُ قِدَم المكان أو حلول المجرّد في مكان بعدَ إن لم يكن. وهو غير معقول.

وأصحابُ أبي عبد الله ابن الكرّام ذهب بعضهم إلى أنّه في جهةٍ فوق العرش لا نهاية لها، والبُعد بينه وبينَ العرش غيرُ متناه أيضاً. وقال بعضهم متناهٍ. والكلّ خطأٌ، لما تقدّم، ولأنّ العالم كرةٌ.

المطلب السابع: في استحالة الألم واللذّة عليه تعالى

اتفق العقلاء على استحالة الألم عليه، لأنّه إدراك منافٍ، ولا منافي له تعالى. أمّا اللذّةُ فقد اتفق المسلمون على استحالتها عليه، لأنّ اللذة والألمَ

١٥٤

من توابع اعتدال المزاج وتنافره، ولا مزاجَ له - تعالى -، ولأنّ اللّذّة إن كانت قديمةً وهي داعيةٌ إلى فعل الملتذّ به وجب وجوده قبل وجوده لوجود الدّاعي وانتفاء المانع، وإن كانت حادثةً كان محلاًّ للحوادث. وفيه نظرٌ، لجواز اتّحاد داعي اللذّة والإيجاد.

والأوائل أثبتوا له لذّةً عقليّةً لا بفعله، بل باعتبار علمه بكماله، فإنّ كلّ من تصوّر في نفسه كمالاً ابتهج، كما أنّ من تصوّر نقصاناً في نفسه تألّمَ. ولمّا كان كماله - تعالى - أعظمَ الكمالات، وعلمه بكماله أتمّ العلوم استلزم ذلك أعظمَ اللّذات.

والصّغرى ممنوعةٌ والقياسُ على الشّاهد ضعيفٌ، والإجماع ينفيه.

تذنيبٌ

يستحيل اتّصافه بكلّ كيفيّة مشروطة بالوضع، كالألوان والطّعوم والرّوائح وغيرها في (1) الأعراض، لامتناع انفعاله تعالى.

المطلب الثّامن: في أنّه - تعالى - ليس محلاًّ للحوادث

اتّفق الأكثرُ عليه، خلافاً للكرّاميّة، لامتناع انفعاله في ذاته، فيمتنع التّغيّرُ عليه، ولأنّ الحادث إن كان صفةَ كمال استحال خلوّه عنها أزلاً، (2) وإلاّ

____________________

(1) ج، ب: من.

(2) ب: أوّلاً.

١٥٥

استحال اتّصافُه بها، ولأنّه لو صحّ اتّصافُه به كانت تلك الصّحّةُ لازمةً لذاته، لاستحالة عروضها، (1) وإلاّ تسلسل، فتكونُ أزليّةً. وصحّةُ الاتّصاف بالحادث تستدعي صحّة وجود الحادث أزلاً، (2) وهو محالٌ.

المطلب التاسع: في أنّه - تعالى - غنيُّ

هذا من أظهر المطالب، لأنّه واجب من جميع الجهات، وكلّ ما عداه ممكنٌ محتاجٌ إليه، فلا يُعقل احتياجُه - تعالى - إلى غيره، ولأنّ ذاتَه واجبةٌ، وصفاته نفسُ حقيقته، فيستغني في ذاته وصفاته، ولأنّه - تعالى - ليس محلاًّ للحوادث، وغيره حادثٌ، والإضافات ليست وجوديّةً.

المطلب العاشر: في أنّه غيرُ معلوم للبشر

هذا مذهبُ ضرار والغزاليّ (3) وجميع الأوائل، لأنّ المعلوم منه - تعالى - ليس إلاّ السّلوبَ، مثلُ أنّه ليس بجسم ولا عرض، أو الإضافات مثل أنّه قادرٌ عالمٌ خالقٌ رازقٌ. والحقيقةُ مغايرةٌ لذلك بالضّرورة. وعندَ جماهير المعتزلة والأشاعرة، أنّه - تعالى - معلومٌ، لأنّ وجوده معلوم، وهو نفس حقيقته، ونمنع الصّغرى.

____________________

(1) ج: عدمها.

(2) ب: أوّلاً.

(3) هو أبو حامد محمد بن محمد المعروف بالغزالي، المتوفّى 505هـ.

١٥٦

المطلب الحادي عشر: في استحالة الرّؤية عليه تعالى

الأشاعرة خالفوا جميعَ الفرق في ذلك.

أمّا المعتزلةُ والفلاسفة فظاهرٌ.

وأمّا المجسّمة، فلأنّه لو كان مجرّداً لاستحال رؤيته عندهم.

واتفق العقلاء إلاّ المجسّمة على انتفاء الرّؤية، بسبب الانطباع أو الشّعاع، عنه - تعالى -.

والأشاعرةُ قالوا، إنّا نفرقُ بينَ علمنا حالةَ فتح العين وتغميضها، وليس بالانطباع ولا الشّعاع، فهو راجعٌ إلى حالةٍ أُخرى ثابتةٍ في حقّه تعالى.

والضّرورةُ قاضيةٌ ببطلانه، لانتفاء الجهة، وكلّ مرئيّ (1) مقابلٌ أو في حكمه، ولأنّه لو كان مرئيّاً لرأيناه الآن، لانتفاء الموانع ووجود الشّرائط، إذ ليست هنا إلاّ صحّة كونه مرئيّاً وسلامة الحاسّة، ولقوله تعالى: ( لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ ) (2) تمدّح به، لتخلّله بين مدحين، فإثباته نقصٌ، وهو مُحالٌ عليه تعالى، ولقوله: ( لَنْ تَرَانِي ) (3) و(لن) لنفي الأبد، وإذا انتفت في حقّ موسى (عليه السلام) فكذا غيره.

____________________

(1) ألف: كل مراى.

(2) الأنعام: 6/103.

(3) الأعراف: 7/143.

١٥٧

احتجّوا بأنّ الجوهرَ والعرضَ مرئيّان، والحكمَ المشترك لابُدّ له من علّة مشتركة، وليس إلاّ الوجود والحدوث، والأخير لا يصلحُ للعلّيّة، لأنّ جزءه عدميّ، ولقوله تعالى: ( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نّاضِرَةٌ * إِلَى‏ رَبّهَا نَاظِرَةٌ ) (1) ولأنّه - تعالى - علّقها على استقرار الجبل الممكن، لأنّه جسمٌ ولأنّ موسى (عليه السلام) سألها.

والجوابُ: وجودُه - تعالى - حقيقته، وهو مخالفٌ لوجودنا، فلا يجب تساويهما في الأحكام. ونمنعُ احتياج صحّة الرّؤية إلى علّة، إذ لو وجب تعليل كلّ حكمٍ تسلسل، ولأنّها عدميّةٌ، ونمنعُ تساوي صحّة رؤية الجوهر وصحّة رؤية العرض، ويجوز تعليل المشترك بعلّتين مختلفتين، ونمنع الحصرَ بوجود الإمكان، فيجوزُ أن يكونَ علّةً لإمكان الرؤية وإن كان عدميّاً.

والحدوث هو الوجودُ المسبوق، ولا يلزمُ من وجود العلّة وجود المعلول، لجواز التّوقّف على شرط أو حصول مانع. و(إلى) واحدُ (الآلاء)، أو أنّ فيها إضماراً، تقديره: (إلى نِعَم ربّها) والتّعليق على الاستقرار حالةَ الحركة، وهو محال، والسّؤالُ وقع لقوم موسى، لقوله تعالى: ( فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى‏ أَكْبَرَ مِن ذلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللّهَ جَهْرَةً ) (2) .

____________________

(1) القيامة: 75/22 - 23.

(2) النساء: 4/53.

١٥٨

المطلب الثاني عشر: في أنّه - تعالى - واحدٌ

لو كان في الوجود واجبا الوجودِ لكانا مشتركين في هذا المعنى، فإمّا أن يكونَ ذاتياً لهما، أو لأحدهما، أو عارضاً لهما. والأوّلُ يستلزم تركّبَ كلّ منهما، فيكون ممكناً. والثّاني والثالث يستلزم كلّ منهما أن لا يكونَ معروضه في ذاته واجباً.

ولا يجوز أن يكونَ الواجبُ لذاته هو المعنى المشترك خاصّةً، إذ لا وجودَ له في الخارج إلاّ مخصّصاً.

ولا يجوز أن يكونَ المخصّص سلبيّاً، فإنّ سلبَ الغير لا يتحصّلُ إلاّ بعدَ حصول الغير؛ ولأنّ المخالفةَ ممكنةٌ، لأنّ كلّ واحد منهما قادرٌ على جميع المقدورات، فيصحّ أن يقصد أحدهما إلى ضدّ ما قصد (1) الآخرُ، فإن حصل المُرادان، اجتمع الضّدّان، وهو محال، وان عدما كان المانع من مُراد كلّ منهما وجودَ مراد الآخر، فيلزمُ وجودهما وإن وُجِدَ أحدهما فهو الإله؛ وللسّمع.

وقالت الثّنويّةُ بقدم النّور والظلمة وكلّ خير في العالم فمن النّور، وكلّ شر فمن الظلمة، وكلٌّ منهما لا نهايةَ له في الجهات الخمس. والنّورُ حيٌّ عالمٌ والظلمةُ حيّةٌ جاهلةٌ. وسببُ حدوث العالم اختلاط أجزاء من النّور

____________________

(1) ب، ج: قصده.

١٥٩

بأجزاء من الظلمة. وأراد النّورُ الأعظم استخلاصَ تلك الأجزاء من الظلمة. فلم يمكنه إلاّ بخلق هذا العالم وخلق الأجسام النّيّرة فيه، بحيث تستخلصُ بنورها تلك الأجزاء النّورانيّة من الظلمة. فإذا خلصت فنى (1) العالم.

وهذا الكلامُ كلّه خطأ، فإنّ النّورَ عرضٌ لا يقومُ بذاته، والظلمةَ عدميّةٌ، وعدمُ التّناهي مُحالٌ، لما تقدّم.

وقال المجوسُ: إنّ للعالم صانعاً قادراً عالماً حيّاً حكيماً، سمّوه يزدان، وكلّ خير في العالم منه، وأنّه أفكر (2) لو كان لي ضدٌّ في الملك كيف تكونُ حالي معه، فحدث الشّيطانُ من تلك الفكرة، وكلّ شرّ في العالم منه، واسمه اهرمن. وبعضهم قال بقدم الشّيطان وهو ظاهر الفساد أيضاً.

وقالت النّصارى: الباري - تعالى - جوهرٌ واحدٌ ثلاثة أقانيم، أقنوم الأب وهو وجوده، وأُقنومُ الابن وهو علمه، واقنومُ روح القدس، وهو حياته.

فإن أرادوا الصّفات فلا منازعةَ إلاّ في اللّفظ، وإلاّ فهو خطأ، لما تقدّم.

____________________

(1) ج: نفى.

(2) ج: فكر.

١٦٠

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

ففي رواية نقرأ أنّه جاء رجل إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وسأله قائلا : أحبّ أن يستجاب دعائي.

فقال له رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «طهّر مأكلك ولا تدخل بطنك الحرام»(١) .

ثانيا : التقية البنّاءة

نستفيد من تعبير الآيات أعلاه أنّ أصحاب الكهف كانوا يصرّون على أن لا يعرف أحد مكانهم حتى لا يجبرون على عبادة الأصنام ، أو يقتلون بأفجع طريقة من خلال رميهم بالحجارة. إنّهم كانوا يرغبون في أن يبقوا غير معروفين حتى يستطيعوا بهذا الأسلوب الاحتفاظ بقوّتهم للصراع المقبل ، أو على الأقل حتى يستطيعوا أن يحتفظوا بإيمانهم.

وهذا المعنى تعبير عن أحد أقسام «التقية البنّاءة» حيث أنّ حقيقة التقية هو أن يحفظ الإنسان طاقته من الهدر بإخفاء نفسه أو عقيدته. يحفظ نفسه ويصونها حتى يستطيع ـ في مواقع الضرورة ـ الاستمرار في جهاده المؤثّر. وطبيعي عند ما تكون التقية وإخفاء العقيدة سببا لتصدّع الأهداف والبرنامج الكبرى ، فإنّها تكون ممنوعة وينبغي الجهر بالحق والصدع به بالغا ما بلغ الضرر.

ثالثا : اللطف مركز القرآن

إنّ قوله تعالى :( لْيَتَلَطَّفْ ) ـ كما هو مشهور ـ هي نقطة الفصل بين نصفي القرآن من حيث عدد الكلمات. وهذا بنفسه يشير إلى معنى لطيف للغاية ، لأنّ الكلمة مشتقّة من اللطف ، واللطافة والتي تعني هنا الدقة. بمعنى أنّ المرسل لتهيئة الطعام عليه أن يذهب ويرجع بحيث لا يشعر أحد بقصتهم.

__________________

(١) وسائل الشيعة ، المجلد الرابع ، أبواب الدعاء ، باب (٦٧) الحديث الرابع. ولمزيد من التوضيح يمكن مراجعة تفسير الآية (١٨٦) من سورة البقرة.

٢٢١

بعض المفسّرين قالوا : إنّ الغرض من التلطّف في شراء الطعام هو أن لا يتصعّب في التعامل ، ويبتعد عن النزاع الضوضاء وينتخب أفضل البضاعة.

وهذا بذاته لطف أن تشكّل كلمة اللطف وسط القرآن ونقطة النصف بين كلماته الهادية.

* * *

٢٢٢

الآيات

( وَكَذلِكَ أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيها إِذْ يَتَنازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْياناً رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً (٢١) سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ ما يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ قَلِيلٌ فَلا تُمارِ فِيهِمْ إِلاَّ مِراءً ظاهِراً وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً (٢٢) وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً (٢٣) إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ وَقُلْ عَسى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هذا رَشَداً (٢٤) )

التّفسير

نهاية قصّة أصحاب الكهف :

لقد وصلت بسرعة أصداء هجرة هذه المجموعة من الرّجال المتشخّصين

٢٢٣

إلى كلّ مكان وأغاظت بشدّة الملك الظالم ، حيث قدّر أن تكون هذه الهجرة مقدّمة ليقظة ووعي الناس ، أو قد يذهب أصحاب الكهف إلى مناطق بعيدة أو قريبة ويقومون بتبليغ مذهب التوحيد والدعوة إليه ، ومحاربة الشرك وعبادة الأصنام.

لقد أصدر الحاكم تعليماته إلى جهاز شرطته للبحث عن أصحاب الكهف في كل مكان ، وعليهم أن يتبعوا آثارهم حتى إلقاء القبض عليهم ومعاقبتهم.

ولكن كلما بحثوا لم يعثروا على شيء ، وهذا الأمر أصبح بحدّ ذاته لغزا للناس ، ونقطة انعطاف في أفكارهم ، وقد يكون هذا الأمر ـ وهو قيام مجموعة من ذوي المناصب في الدولة بترك مواقعهم العالية في الدولة وتعريض أنفسهم للخطر ـ هو بحدّ ذاته سببا ليقظة الناس ومصدرا لوعيهم ، أو لوعي قسم منهم على الأقل.

ولكن في كل الأحوال ، فإنّ قصّة هؤلاء النفر قد استقرت في صفحات التأريخ وأخذت الأجيال والأقوام تتناقلها عبر مئات السنين.

والآن لنعد إلى الشخص المكلّف بشراء الطعام ولننظر ماذا جرى له.

لقد دخل المدينة ولكنّه فغرفاه من شدّة التعجّب ، فالشكل العام للبناء قد تغيّر ، هندام الجميع ولباسهم غريب عليه ، الملابس من طراز جديد ، خرائب الأمس تحولت إلى قصور ، وقصور الأمس تحوّلت إلى خرائب!

لقد ظنّ ـ للحظة واحدة ـ أنّه لا يزال نائما ، وأنّ ما يشاهده ليس سوى أحلام ، فرك عينيه ، إلّا أنّه التفت إلى ما يراه ، وهو عين الحقيقة ، وإن كانت عجيبة ولا يمكن تصديقها.

إنّه لا يزال يعتقد بأنّ نومهم في الغار كان ليوم أو بعض يوم ، فلما ذا هذا الاختلاف، وكيف تمّت كل هذه التغييرات الكبيرة والواسعة في ظرف يوم واحد؟!

٢٢٤

ومن جانب آخر كان منظره هو عجيبا للناس وغير مألوف. ملابسه ، كلامه ، شكله كل شيء فيه بدا غريبا للناس ، وقد يكون هذا الوضع قد لفت أنظارهم إليه ، لذا قام بعضهم بمتابعته.

لقد انتهى عجبه عند ما مدّ يده إلى جيبه ليسدّد مبلغ الطعام الذي اشتراه ، فالبائع وقع نظره على قطعة نقود ترجع في قدمها إلى (٣٠٠) سنة ، وقد يكون اسم (دقيانوس) الملك الجبار مكتوبا عليها ، وعند ما طلب منه توضيحا قال له بأنّه حصل عليها حديثا.

وقد عرف الناس تدريجيا من خلال سلسلة من القرائن أنّ هذا الشخص هو واحد من أفراد المجموعة الذين قرءوا عن قصّتهم العجيبة والتأريخية التي وقعت قبل (٣٠٠) سنة ، وأنّ قصّتهم كانت تدور على الألسن في اجتماعات الناس وندواتهم ، وهنا أحسّ الشخص بأنّه وأصحابه كانوا في نوم عميق وطويل.

هذه القضية كان لها صدى كالقنبلة في المدينة ، وقد انتقلت عبر الألسن إلى جميع الأماكن.

قال بعض المؤرّخين : إنّ حكومة المدينة كانت بيد حاكم صالح ومؤمن ، إلّا أنّ استيعاب وفهم قضية المعاد الجسماني وإحياء الموتى بعد الموت كان صعبا جدّا على أفراد ذلك المجتمع ، فقسم منهم لم يكن قادرا على التصديق بأنّ الإنسان يمكن أن يعود للحياة بعد الموت ، إلّا أنّ قصّة أصحاب الكهف أصبحت دليلا قاطعا لأولئك الذين يعتقدون بالمعاد الجسماني.

ولذا فإنّ القرآن يبيّن أنّنا كما قمنا بإنامتهم نقوم الآن بإيقاظهم حتى ينتبه الناس:( وَكَذلِكَ أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌ ) ثمّ أضاف تعالى :( وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيها ) .

حيث أنّ هذا النوم الطويل الذي استمرّ لمئات السنين كان يشبه الموت ، وأن إيقاظهم يشبه البعث. بل يمكن أن نقول : إنّ هذه الإنامة والإيقاظ هي أكثر إثارة

٢٢٥

للعجب من الموت والحياة في بعض جوانبها ، فمن جهة قد مرّت عليهم مئات السنين وهم نيام وأجسامهم لم تفن أو تتأثّر ، وقد بقوا طوال هذه المدّة بدون طعام أو شراب ، إذن كيف بقوا أحياء طيلة هذه المدّة؟

أليس هذا دليلا قاطعا على قدرة الله على كل شيء ، فالحياة بعد الموت ، بعد مشاهدة هذه القضية ممكنة حتما.

بعض المؤرّخين كتب يقول : إنّ الشخص الذي أرسل لتهيئة الطعام وشرائه ، عاد بسرعة إلى الكهف وأخبر رفقاءه بما جرى ، وقد تعجب كل منهم ، وبعد أن علموا بفقدان الأهل والأولاد والأصدقاء والإخوان ، ولم يبق من أصحابهم أحد ، أصبحت الحياة بالنسبة إليهم صعبة للغاية ، فطلبوا من الخالق جلّ وعلا أن يميتهم ، وينتقلون بذلك إلى جوار رحمته. وهذا ما حدث.

لقد ماتوا ومضوا إلى رحمة ربّهم ، وبقيت أجسادهم في الكهف عند ما وصله الناس.

وهنا حدث النزاع بين أنصار المعاد الجسماني وبين من لم يعتقد به ، فالمعارضون للمعاد كانوا يريدون أن تنسى قضية نوم ويقظة أصحاب الكهف بسرعة ، كي يسلبوا أنصار المعاد الجسماني هذا الدليل القاطع ، لذا فقد اقترح هؤلاء أن تغلق فتحة الغار ، حتى يكون الكهف خافيا إلى الأبد عن أنظار الناس.

قال تعالى :( إِذْ يَتَنازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْياناً ) .

ولأجل إسكات الناس عن قصّتهم كانوا يقولون : لا تتحدثوا عنهم كثيرا ، إنّ قضيتهم معقدة ومصيرهم محاط بالألغاز!! لذلك فإن :( رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ ) . أي اتركوهم وشأنهم واتركوا الحديث في قصّتهم.

أمّا المؤمنون الحقيقيون الذين عرفوا حقيقة الأمر واعتبروه دليلا حيّا لإثبات المعاد بعد الموت ، فقد جهدوا على أن لا تنسى القصة أبدا لذلك اقترحوا أن يتخذوا قرب مكانهم مسجدا ، وبقرينة وجود المسجد فإنّ الناس سوف لن

٢٢٦

ينسوهم أبدا ، بالإضافة إلى ما يتبرك به الناس من آثارهم :( قالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً ) .

وفي تفسير الآية ذكرت احتمالات أخرى سنقف على بعضها في البحوث.

الآية التي بعدها تشير إلى بعض الاختلافات الموجودة بين الناس حول أصحاب الكهف ، فمثلا تتحدث الآية عن اختلافهم في عددهم فتقول :( سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ ) . وبعضهم( وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ ) . وذلك منهم( رَجْماً بِالْغَيْبِ ) . وبعضهم( وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ ) . أمّا الحقيقة فهي:( قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ ) . ولذلك لأنّه( ما يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ ) .

وبالرغم من أنّ القرآن لم يشر إلى عددهم بصراحة ، لكن نفهم من العلامات الموجودة في الآية أنّ القول الثّالث هو الصحيح المطابق للواقع ، حيث أنّ كلمة( رَجْماً بِالْغَيْبِ ) وردت بعد القول الأوّل والثّاني ، وهي إشارة إلى بطلان هذين القولين ، إلّا أنّ القول الثّالث لم يتبع بمثل الاستنكار بل استتبع بقوله تعالى :( قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ ) وأيضا بقوله( ما يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ ) وهذا بحدّ ذاته دليل على صحة هذا القول (الثّالث).

وفي كل الأحوال فإنّ الآية تنتهي بنصيحة تحت على عدم الجدال حولهم إلّا الجدل القائم على أساس المنطق والدليل :( فَلا تُمارِ فِيهِمْ إِلَّا مِراءً ظاهِراً ) .

(مراء) كما يقول الراغب في مفرداته ، مأخوذة في الأصل من (مريت الناقة) بمعنى قبضت على (ضرع) الناقة لأحلبها ، ثمّ أطلق المعنى بعد ذلك ليشمل الأشياء الخاضعة للشك والترديد.

وقد تستخدم كثيرا في المجادلات والدفاع عن الباطل ، إلّا أنّ أصلها لا يختص بهذا المعنى ، بل تتسع لكل أنواع البحوث والمفاوضات حول أي موضوع كان موضعا للشك.

«ظاهر» تعني غالب ومسيطر ومنتصر. لذا فالآية تقول :( فَلا تُمارِ فِيهِمْ إِلَّا

٢٢٧

مِراءً ظاهِراً ) بمعنى قل لهم قولا منطقيا بحيث تتوضح رجحان منطقك.

وقد احتمل البعض أن تفسير هذه الآية هو : لا تتحدّث حديثا خاصّا مع المعارضين والمعاندين حيث أنّهم يحرّفون كلّ ما تقول ، بل تحدّث معهم علانية وأمام النّاس كي لا يستطيعوا أن يحرفوا حقيقة ما تقول ، ولا يستطيعوا إنكارها.

التّفسير الأوّل أكثر صحّة.

وعلى أي حال فإنّ مفهوم الكلام هو : عليك أن تتحدّث معهم بالاعتماد على الوحي الإلهي ، لأنّ أقوى الأدلة هو ما يصدر عن الوحي دون غيره :( وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً ) .

الآية التي بعدها تعطي توجيها عاما لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً ) .

( إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ ) يعني يجب أن تقول (إن شاء الله) لكل ما يخص أخبار المستقبل وأحداثه ولكل تصميم تتخذه ، لأنّك أوّلا غير مستقل في اتّخاذ القرارات ، وإذا لم يشأ الله فإنّ كائنا من كان لا يستطيع القيام بأيّ عمل ، لذا ولأجل أن تثبت أنّ قوّتك قبس من قوّة الله الأزلية ، وأنّها مرتبطة بقدرته ، أضف عبارة (إن شاء الله) إلى كلامك.

ثانيا : لا يصح للإنسان ـ من الوجهة المنطقية ـ أن يقطع في أخباره المستقبلية ومواقفه وتصميماته ، لأنّ قدرته محدودة مع احتمال ظهور الموانع المختلفة ، لذلك الأفضل له ذكر جملة (إن شاء الله) مع كل تصميم لفعل شيء.

بعض المفسّرين احتملوا أن يكون مراد الآية هو أن تنفي استقلال الإنسان في إنجاز الأعمال ، حيث يصبح مفهوم الآية : إنّك لا تستطيع أن تقول : إنّك ستقوم بالعمل الفلاني غدا إلّا أن يشاء الله ذلك.

بالطبع فإنّ لازم هذا القول أن الكلام سيكون تاما مع اضافة (ان شاء الله)

٢٢٨

ولكن هذا اللزوم سيكون للجملة لا للمتن كما هو الحال في التّفسير الأوّل(١) .

سبب النّزول الذي أوردناه في بداية الآيات يؤيد التّفسير الأوّل ، حيث أنّ الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد وعد بالإجابة على أسئلة قريش حول أصحاب الكهف وغيرها بدون ذكر جملة (إن شاء الله) لذلك تأخّر عنه الوحي فترة ، لكي يكون ذلك تحذيرا لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويكون عبرة لجميع الناس.

وبعد ذلك يقول القرآن :( وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ ) وهذه إشارة إلى أنّ الإنسان إذا نسي قول (إن شاء الله) وهو يتحدّث عن أمر مستقبلي ، فعليه أن يقولها فور تذكره ، حيث يعوّض بذلك عمّا مضى منه.

وبعد ذلك جاء قوله تعالى :( وَقُلْ عَسى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هذا رَشَداً ) .

* * *

بحوث

١ ـ قوله تعالى :( رَجْماً بِالْغَيْبِ )

كلمة (رجم) تعني في الأصل الحجارة أو رمي الحجارة ، ثمّ أطلقت بعد ذلك على أي نوع من أنواع الرمي. وتستخدم في بعض الأحيان كناية عن (الاتهام) أو (الحكم استنادا إلى الظن والحدس). وكلمة (بالغيب) تأكيدا لهذا المعنى ، يعني لا تحكم بدون الاستناد على مصدر أو علم.

٢ ـ الواو في قوله :( وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ )

في الآيات أعلاه وردت جملة( رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ ) و( سادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ ) بدون

__________________

(١) يجب الانتباه إلى أنّه طبقا للتفسير الأوّل فإنّ هناك جملة مقدّرة وهي (أن تقول) ويصبح المعنى بعد التقدير (إلّا أن تقول إن شاء الله) أمّا وفقا للتفسير الثّاني فليس ثمّة حاجة لهذا التقدير.

٢٢٩

(واو) في حين أنّ جملة( وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ ) بدأت بالواو. ولأنّ جميع تعابير القرآن تنطوي على ملاحظات ومغاز ، لذلك نرى أنّ المفسّرين بحثوا كثيرا في معنى هذه الواو.

ولعل أفضل تفسير لها هو ما قيل من أنّ هذه (الواو) تشير إلى آخر الكلام وآخر الحديث ، كما هو شائع استخدامه في أسلوب التعبير الحديث ، إذ توضع الواو لآخر شيء من مجموعة الأشياء التي تذكر مثلا نقول (جاء زيد ، عمر ، حسن ، ومحمّد) فهذه الواو إشارة إلى آخر الكلام وتبيّن الموضوع والمصداق الأخير.

هذا الكلام منقول عن المفسّر المعروف (ابن عباّس) ، وقد أيده بعض المفسّرين ، واستفادوا من هذه (الواو) لتأييد القول في أنّ عدد أصحاب الكهف الحقيقي هو سبعة ، حيث أنّ القرآن بعد ذكر الأقوال الباطلة ، أبان في الأخير العدد الحقيقي لهم.

البعض الآخر من المفسّرين كالقرطبي والفخر الرازي ذكروا رأيا آخر في تفسير هذه (الواو) وخلاصته : «إنّ العدد سبعة عند العرب عدد كامل ، ولذلك فإنّهم يعدّون حتى السبعة بدون واو. أمّا بمجرّد أن يتجاوزوا هذا العدد فإنّهم يأتون بالواو التي هي دليل على بداية الكلام والاستئناف. لذلك تعرف (الواو) هذه عند الأدباء العرب بأنّها (واو الثمانية)».

وفي الآيات القرآنية غالبا ما يواجهنا هذا الموضوع ، فمثلا الآية (١١٢) من سورة التوبة عند ما تعدّد صفات المجاهدين في سبيل الله تذكر سبع صفات بدون واو وعند ما تذكر الصفة الثامنة فإنّها تذكرها مع الواو فتقول :( وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللهِ ) .

وفي الآية (٥) من سورة التحريم ، تذكر الآية في وصف نساء النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سبع صفات ثمّ تذكر الثّامنة مع الواو حيث تقول :( ثَيِّباتٍ وَأَبْكاراً ) .

٢٣٠

وفي الآية (٧١) من سورة الزمر التي تتحدّث عن أبواب جهنّم تقول :( فُتِحَتْ أَبْوابُها ) إلّا أنّها وبعد آيتين وعند الحديث عن أبواب الجنة تقول الآية :( وَفُتِحَتْ أَبْوابُها ) . أليس ذلك بسبب أنّ أبواب النار سبعة ، وأبواب الجنّة ثمانية؟

طبعا قد لا يكون هذا تعبيرا عن قانون كلّي ، ولكنّه ـ في الأغلب ـ يعبّر عن ذلك. في كل الأحوال يظهر من ذلك أنّ حرف (الواو) وهو مجرّد حرف ، له حساب خاص في الاستعمال ويظهر حقيقة معينة.

٣ ـ المسجد إلى جوار المقبرة

ظاهر تعبير القرآن أنّ أصحاب الكهف ماتوا أخيرا ودفنوا ، وكلمة «عليهم» تؤيّد هذا القول. بعد ذلك قرّر محبّوهم بناء مسجد بجوار مقبرتهم ، وقد ذكر القرآن هذا الموضوع في الآيات أعلاه بلهجة تنم عن الموافقة ، وهذا الأمر يدل على أنّ بناء المساجد لاحترام قبور عظماء الدين ليس أمرا محرما ـ كما يظن ذلك الوهابيون ـ بل هو عمل حلال ومحبّذ ومطلوب.

وعادة فإنّ بناء الأضرحة التي تخلّد الأشخاص الكبار أمر شائع بين أمم العالم وشعوبه، ويبيّن جانب الاحترام لمثل هؤلاء الأشخاص ، وتشجيع لمن يأتي بعدهم ، والإسلام لم ينه عن هذا العمل ، بل أجازه وأقرّه.

إنّ وجود مثل هذه الأبنية سند تأريخي للتدليل على وجود هذه الشخصيات والرموز وعلى منهجها ومواقفها ، ولهذا السبب فإنّ الأنبياء والشخصيات الذين هجرت قبورهم فإنّ تأريخهم أمسى موضعا للشك والاستفهام.

ويتّضح من ذلك أيضا أن ليس هناك تضاد بين بناء المساجد والأصرخة وبين قضية التوحيد واختصاص العبادة بالله تعالى ، بل هما موضوعان مختلفان.

بالطبع هناك بحوث كثيرة حول هذا الموضوع فليراجع إلى مظانها.

٢٣١

٤ ـ كل شيء يعتمد على مشيئته تعالى

إنّ ذكر جملة (إن شاء الله) عند اتّخاذ القرارات المرتبطة بالمستقبل ليس نوعا من الأدب في محضر الخالق جلّ وعلا وحسب ، بل هو بيان لحقيقة أنّنا لا نملك شيئا من عندنا، بل هو من عنده تعالى ، وكلنا نعتمد ونستند إليه لأنّه هو المستقل بالذات فقط ، فلو تحركت كل السكاكين والشفرات في العالم لتقطع عرقا واحدا فإنّها لا تستطيع من دون إذنه تعالى.

إنّ هذه الحقيقة هي نفسها (توحيد الأفعال) ففي الوقت الذي يملك الإنسان حريته وإرادته ، فإنّ تحقق أي شيء وأي عمل إنّما يرتبط بمشيئة الخالق جلّ وعلا.

إنّ تعبير (إن شاء الله) يزيد من توجهنا نحو الله تبارك وتعالى ، ويمنحنا القوّة والقدرة على الإنجاز ، وهو مدعاة إلى تزكية وطهارة وصحة الأعمال أيضا.

ونستفيد من بعض الرّوايات أنّ الإنسان إذا ذكر كلاما عن المستقبل بدون ذكر (إن شاء الله) فإنّ الله سوف يكله إلى نفسه ويخرجه من مظلة حمايته(١) .

وفي حديث عن الإمام الصادقعليه‌السلام نقرأ أنّهعليه‌السلام أمر يوما بكتابة رسالة ، وعند ما جاؤوا بالرسالة إليه وجدها خالية من كلمة (إن شاء الله) فقالعليه‌السلام : «كيف رجوتم أن يتمّ هذا وليس فيه استثناء ، انظروا كل موضع لا يكون فيه استثناء فاستثنوا فيه».

٥ ـ الإجابة على سؤال

قرأنا في الآيات ـ محل البحث ـ أنّ الله يخاطب رسوله بقوله :( وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ ) (٢) وهي إشارة إلى أنك عند ما تنسى ذكر (إن شاء الله) وتتذكر بعد ذلك

__________________

(١) نور الثقلين ، ج ٣ ، ص ٢٥٣ و ٢٥٤.

(٢) المصدر السّابق.

٢٣٢

فعليك باستدراك الأمر بذكر (إن شاء الله).

وفي الأحاديث العديدة الواردة عن أهل البيتعليهم‌السلام ـ في تفسير الآية ـ هناك تأكيد على هذا الموضوع حتى بعد مرور سنة إذا تذكرت فعليك أن تقول (إن شاء الله) عوضا عمّا فاتك وعمّا نسيته(١) .

والآن قد يطرح هذا السؤال وهو : إذا جاز نسبة النسيان إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حين أنّ الناس يعتمدون على أقواله وأعماله ، فكيف يستقيم ذلك مع دليل عصمة الأنبياء والرسل والأئمّة من الخطأ والنسيان؟

ولكن ينبغي الالتفات الى أنّ الكثير من الآيات القرآنية يكون الحديث فيها موجها إلى الرسل في حين أنّ المعنيّ بها عامّة الناس ، وهي كما يقول المثل العربي ، «إياك أعني واسمعي يا جارة».

بعض المفكرين الكبار ذكروا جوابا على هذا السؤال أوردناه في نهاية الحديث عن الآية (٦٨) من سورة الأنعام.

* * *

__________________

(١) نور الثقلين ، ج ٣ ، ص ٢٥٤ فما بعد.

٢٣٣

الآيات

( وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً (٢٥) قُلِ اللهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ ما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً (٢٦) وَاتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتابِ رَبِّكَ لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً (٢٧) )

التّفسير

نوم أصحاب الكهف :

من القرائن الموجودة في الآيات السابقة نفهم إجمالا أنّ نوم أصحاب الكهف كان طويلا جدّا. هذا الموضوع يثير غريزة الاستطلاع عند كل مستمع ، إذ يريد أن يعرف كم سنة بالضبط استمرّ نومهم؟

في المقطع الأخير من مجموعة الآيات التي تتحدث عن أصحاب الكهف ، تبعد الآيات الشك عن المستمع وتقول له :( وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ

٢٣٤

وَازْدَادُوا تِسْعاً ) (١) .

ووفقا للآية فإنّ مجموع نومهم وبقائهم في الكهف هو (٣٠٩) سنة. والبعض يرى أن ذكر ثلاثمائة وتسعة مفصولة بدلا عن ذكرها في جملة واحدة ، يعود إلى الفرق بين السنين الشمسية والسنين القمرية حيث أنّهم ناموا (٣٠٠) سنة شمسية ، وبالقمري تعادل (٣٠٩). وهذا من لطائف التعبير حيث أوجز القرآن بعبارة واحدة صغيرة ، حقيقة كبيرة تحتاج إلى شرح واسع(٢) .

ومن أجل وضع حد لأقاويل الناس حول مكثهم في الكهف تؤكّد الآية :( قُلِ اللهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا ) لماذا؟ لأن :( لَهُ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ) .

والذي يعرف خفايا وظواهر عالم الوجود ويحيط بها جميعا ، كيف لا يعرف مدّة بقاء أصحاب الكهف :( أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ ) (٣) ولهذا السبب فإنّ سكان السماوات والأرض:( ما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍ ) .

أمّا من هو المقصود بالضمير (هم) في (مالهم) فقد ذكر المفسّرون أقوالا كثيرة ، إذا يعتقد البعض أنّها اشارة إلى سكان السماوات والأرض ، أمّا البعض الآخر فيعتقد أن الضمير إشارة إلى أصحاب الكهف ، بمعنى أنّ أصحاب الكهف لا يملكون وليا من دون الله، فهو الذي تولاهم في حادثة الكهف ، وقام بحمايتهم.

ولكن بالنظر إلى الجملة التي قبلها ، يكون التّفسير الأوّل أقرب.

وفي نهاية الآية يأتي قوله تعالى :( وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً ) . هذا الكلام هو في الحقيقة تأكيد على الولاية المطلقة للخالق جلّ وعلا ، إذ ليس هناك قدرة

__________________

(١) طبقا للقواعد النحوية يجب أن تأتي كلمة (سنة) والتي هي مفرد بدلا من (سنين) التي هي جمع ، ولكن بما أن النوم كان طويلا للغاية ، وعدد السنوات كثيرا ، لذا ذكرت الكلمة بصيغة الجمع حتى توضّح الموضوع وتبيّن كثرته.

(٢) الفرق بين السنة الشمسية والقمرية هو (١١) يوم تقريبا ، فإذا ضربنا ذلك (٣٠٠) وقسمنا الناتج على عدد أيّام السنة القمريّة أي على (٣٥٤) يكون العدد (٩) طبعا يبقى باق قليل ، أهمل لأنّه لا يصل إلى السنة الكاملة.

(٣) جملة( أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ ) هي صيغة تعجّب ، تبيّن لنا عظمة علم الخالق جلّ وعلا ، والمعنى أنّه بصير سميع بحيث أنّ الإنسان يعجب من ذلك.

٢٣٥

أخرى لها حق الولاية المطلقة على العالمين ، ولا يوجد شريك له تعالى في ولايته ، يعني ليس ثمّة قدرة أخرى غير الله لها حق الولاية في العالم ، لا بالاستقلال ولا بالاشتراك.

وفي آخر آية يتوجّه الخطاب إلى الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويقول الله له :( وَاتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتابِ رَبِّكَ ) . أي لا تعر أية أهمية إلى أقوال الآخرين المخلوطة بالكذب والخرافة والوضع ، يجب أن يكون اعتمادك في هذه الأمور على الوحي الإلهي فقط. لأنّه لا يوجد شيء يستطيع أن يغيّر كلامه تعالى :( لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ ) .

فكلام الله تعالى وعلمه ليس من سنخ علم الإنسان الذي يخضع يوميا للتغيّر والتبديل بسبب الاكتشافات الجديدة والمعرفة الحديثة. لذلك لا يمكن الاعتماد عليها والركون إليها مائة في المائة ، ولهذه الأسباب :( وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً ) .

«ملتحد» مشتقّة من «لحد» على وزن «مهد» وهي الحفرة التي يميل وسطها إلى أحد الأطراف (كاللحد الذي يحفر لقبر الإنسان).

ولهذا السبب يقال للمكان الذي يميل إليه الإنسان (ملتحد) ، ثمّ استخدمت بعد ذلك بمعنى «ملجأ».

ومن المهم أن نلاحظ أنّ الآيتين الأخيرتين بينتا إحاطة علم الخالق جلّ وعلا بجميع كائنات الوجود ، وذلك من خلال عدّة طرق.

* في البداية تبيّن الآيات : أنّ غيب السماوات والأرض من عنده ، ولهذا فهو تعالى محيط بها جميعا.

* ثمّ تضيف : إنّه سميع وبصير لأقصى حد ولأبلغ غاية.

* مرّة أخرى تقول : إنّه الولي المطلق ، وإنّه أعلم الجميع.

* ثمّ تضيف مرّة أخرى : لا يشاركه أحد في حكمه حتى يتحدّد علمه أو معرفته.

٢٣٦

* ثمّ تقول : لا يتغيّر ولا يتبدّل علمه وكلامه.

* وفي آخر جملة تقول الآية : أنّه تعالى هو الملجأ الوحيد في الوجود لا سواه نعلمه محيط بكلّ اللاجئين إليه سبحانه وتعالى.

* * *

بحوث

١ ـ قصّة أصحاب الكهف في الرّوايات الإسلامية

هناك روايات كثيرة في المصادر الإسلامية حول أهل الكهف ، ولكن بعضها لا يعتمد عليها لضعف في سندها ، والبعض الآخر تتضاد وتختلف فيما بينها.

ومن الرّوايات المختلفة اخترنا رواية علي بن إبراهيم القمي التي ينقلها في تفسيره ، وقد لاحظنا في هذه الرّواية أنّها الأفضل من حيث المتن والمضمون الذي يتناسق مع الآيات القرآنية.

في رواية علي بن إبراهيم عن الإمام الصادقعليه‌السلام قال : «إنّ أصحاب الكهف والرقيم كانوا في زمن ملك جبّار عات ، وكان يدعو أهل مملكته إلى عبادة الأصنام فمن لم يجبه قتله ، وكانوا هؤلاء قوما مؤمنين يعبدون اللهعزوجل ، ووكل الملك بباب المدينة وكلاء ولم يدع أحدا يخرج حتى يسجد للأصنام ، فخرج هؤلاء بعلة الصيد ، وذلك أنّهم مرّوا براع في طريقهم فدعوه إلى أمرهم فلم يجبهم وكان مع الراعي كلب ، فأجابهم الكلب وخرج معهم ، فقال الصادقعليه‌السلام : لا يدخل الجنة من البهائم إلا ثلاثة حمار بلعم بن باعور ، وذئب يوسفعليه‌السلام وكلب أصحاب الكهف.

فخرج أصحاب الكهف من المدينة بعلّة الصيد هربا من دين ذلك الملك ، فلمّا أمسوا دخلوا إلى ذلك الكهف ، والكلب معهم فألقى اللهعزوجل عليهم النعاس ، كما قال الله تبارك وتعالى :( فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً ) فناموا حتى أهلك اللهعزوجل الملك وأهل مملكته وذهب ذلك الزمان ، وجاء زمان آخر وقوم

٢٣٧

آخرون ثمّ انتبهوا ، فقال بعضهم لبعض : كما نمناها هنا فنظروا إلى الشمس قد ارتفعت فقالوا : نمنا يوما أو بعض يوم. ثمّ قالوا لواحد منهم : خذ هذه الورق وادخل في المدينة متنكرا لا يعرفوك فاشتر لنا ، فإنّهم إن علموا بنا وعرفونا قتلونا أو ردّونا في دينهم ، فجاء ذلك الرجل فرأى المدينة بخلاف الذي عهدها ، ورأى قوما بخلاف أولئك لم يعرفهم ولم يعرفوا لغتهم ، ولم يعرف لغتهم ، فقالوا له : من أنت ومن أين جئت ، فأخبرهم فخرج ملك تلك المدينة مع أصحابه ، والرجل معهم حتى وقفوا على باب الكهف ، فأقبلوا يتطلعون فيه فقال بعضهم : هؤلاء ثلاثة ورابعهم كلبهم ، وقال بعضهم : هم خمسة وسادسهم كلبهم ، وقال بعضهم : هم خمسة وسادسهم كلبهم ، وقال بعضهم : هم سبعة وثامنهم كلبهم ، وحجبهم اللهعزوجل بحجاب من الرعب فلم يكن أحد يقدم بالدخول عليهم غير صاحبهم فإنّه لمّا دخل عليهم وجدهم خائفين أن يكون صحاب [الملك] «دقيانوس» شعروا بهم ، فأخبرهم صاحبهم أنّهم كانوا نائمين هذا الزمن الطويل ، وأنّهم آية للناس ، فبكوا وسألوا الله تعالى أن يعيدهم إلى مضاجعهم نائمين كما كانوا ، ثمّ قال الملك : «ينبغي أن يبنى هنا مسجد ونزوره ، فإنّ هؤلاء قوم مؤمنون».

وهنا أضاف الإمامعليه‌السلام : فلهم في كل سنة نقلة ، نقلتان ، ينامون ستة أشهر على جنبهم الأيمن ، وستة أشهر على جنبهم الأيسر ، والكلب معهم قد بسط ذراعيه بفناء الكهف»(١) .

وفي رواية أخرى عن الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالبعليه‌السلام ورد حديث مفصّل عن قصّة أصحاب الكهف مفاده ما يلي :

لقد كان هؤلاء في الأصل ستة نفر اتّخذهم (ديقيانوس) وزراءه ، فأقام ثلاثة عن يمينه وثلاثة عن يساره ، واتّخذ لهم عيدا في كل سنة مرّة ، فبينا هم ذات يوم في عيد والبطارقة عن يمينه والهراقلة عن يساره ، إذ أتاه بطريق فأخبره أنّ

__________________

(١) نور الثقلين ، ج ٣ ، ص ٢٤٧ ـ ٢٤٨.

٢٣٨

عساكر الفرس قد غشيته ، فاغتمّ لذلك حتى سقط التاج عن رأسه ، فنظر إليه أحد الثلاثة الذين كانوا عن يمينه ويقال له (تلميخا) فقال في نفسه : لو كان (ديقيانوس) إلها كما يزعم إذا ما كان يغتم وما كان يبول ولا يتغوّط ، وما كان ينام ، وليس هذا من فعل الإله.

وقد كان هؤلاء الوزراء الستة يجتمعون كل يوم عند أحدهم ، وكانوا ذلك اليوم عند (تلميخا) فاتّخذ لهم من طيّب الطعام ثمّ قال لهم : يا إخوتاه ، قد وقع في قلبي شيء منعني الطعام والشراب والمنام. قالوا : وما ذاك يا تلميخا؟ قال : أطلت فكري في هذه السماء فقلت من رفع سقفها محفوظة بلا عمد ولا علاقة من فوقها ، ومن أجرى فيها شمسا وقمرا ، آيتين مبصرتين ، ومن زيّنها بالنجوم! ثمّ أطلت الفكر في الأرض فقلت : من سطحها على صميم الماء الزخّار ، ومن حبسها بالجبال أن تميد على كل شيء؟ وأطلت فكري في نفسي من أخرجني جنينا من بطن أمي ومن غذّاني ومن ربّاني؟ إنّ لها صانعا ومدبرا غير (ديقيانوس الملك) ، وما هو إلّا ملك الملوك وجبّار السماوات.

فانكب الفتية (الوزراء) على رجليه يقبلونها وقالوا : بك هدانا الله تعالى من الضلالة إلى الهدى فأشر علينا. وهنا وثب (تمليخا) فباع تمرا من حائط له بثلاثة آلاف درهم وصرّها في ردائه وركبوا خيولهم وخرجوا من المدينة ، فلما ساروا ثلاثة أميال قال لهم تمليخا: يا إخوتاه جاءت مسكنة الآخرة وذهب ملك الدنيا ، انزلوا عن خيولكم وامشوا على أرجلكم لعلّ الله أن يجعل لكم من أمركم فرجا ومخرجا ، فنزلوا عن خيولهم ومشوا على أرجلهم سبعة فراسخ في ذلك اليوم ، فجعلت أرجلهم تقطر دما.

وهنا استقبلهم راع ، فقالوا : يا أيّها الراعي هل من شربة لبن أو ماء؟ فقال الراعي:عندي ما تحبّون ، ولكن أرى وجوهكم وجوه الملوك ، وما أظنّكم إلّا هرّابا من «ديقيانوس» الملك.

٢٣٩

قالوا : يا أيّها الراعي لا يحلّ لنا الكذب أفينجينا منك الصدق؟ فأخبروه بقصّتهم ، فانكب الراعي على أرجلهم يقبلها ويقول : يا قوم لقد وقع في قلبي ما وقع في قلوبكم ، ولكن أمهلوني حتى أردّ الأغنام على أربابها وألحق بكم ، فتوقفوا له ، فردّ الأغنام ، وأقبل يسعى يتبعه الكلب فنظر الفتية (الوزراء) إلى الكب وقال بعضهم : إنّا نخاف أن يفضحنا بنباحه ، فألحّوا عليه بالحجارة ، فأنطق الله تعالى جلّ ذكره ، الكلب [قائلا]:ذروني حتى أحرسكم من عدوّكم.

فلم يزل الراعي يسير بهم حتى علا بهم جبلا ، فانحطّ بهم على كهف يقال له (الوصيد) فإذا بفناء الكهف عيون أشجار مثمرة فأكلوا من الثمر ، وشربوا من الماء ، وجنّهم الليل ، فآووا إلى الكهف وربض الكلب على باب الكهف ومدّ يديه عليه ، فأوحى الله تعالى إلى ملك الموت بقبض أرواحهم. (فأنامهم الله نوما طويلا وعميقا)(١) .

وفيما يخص ديقيانوس قال بعض المفسّرين : إنّه كان امبراطور الروم وحكم منذ عام ٢٤٩ ـ ٢٥١ ميلادي ، وقد كان عدوا شديدا للمسيحيين ، وكان يؤذيهم ويعذبهم ، وذلك قبل اعتناق ملك الروم لدين المسيحية.

٢ ـ أين كان الكهف؟

للمفسّرين والعلماء كلام كثير حول أصحاب الكهف ، أين كانت منطقتهم؟ وأين يقع الكهف الذي مكثوا فيه؟

وهنا ينبغي أن نلاحظ أنّه بالرغم من أنّ العثور على المكان الدقيق لهذه الحادثة لا يؤثّر كثيرا على أصل القصّة ودروسها التربوية وأهميتها التأريخية ، وبالرغم من أنّ هذه القصّة ليست الوحيدة التي نعرف أصلها ولا نعرف بعض جزئياتها وتفصيلاتها ، إلّا أنّ معرفة محل الحادث يساعدنا حتما في فهم أكثر

__________________

(١) سفينة البحار ، ج ٢ ، ص ٣٨٢ مادة فكر.

٢٤٠

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576