الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٩

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل10%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 576

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 576 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 264165 / تحميل: 11780
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٩

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

الإسلام ، ودفاعهما عن شريعة جدّهماصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وما قاما به من إصلاح في الأمة الإسلامية ، ووقوفهما سداً منيعاً أمام كل المحاولات التي تستهدف النيل من الرسالة الإسلامية ؛ لما يحملانه من خصائص ، ومميّزات ، وقد تواترت الروايات في علو شأنهما وسمو مقامهما ، كل ذلك جعل لهما الدور الفاعل في التأثير البالغ في المسلمين ، سواء على الصعيد الفكري أم الاجتماعي أم غيرهما ، كل ذلك في زمن أصبحت الحياة الإسلامية فيه مسرحاً للخلافات ، والجرائم والآثام ، وأصبحت فيه الحكومة ملكاً عضوضاً يتوارثه بنو أمية فيما بينهم بالقهر والغلبة ، وقد انبرى الإمام الحسن والإمام الحسينعليهما‌السلام في ذلك الحين لمعالجة الواقع المرير ، وقد جاء في مجامع أحاديث السنّة أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال في حق ابنه الحسنعليه‌السلام : ( إنّ ابني هذا سيّد ولعلّ الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين )(١) ، وقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حق ابنه الحسينعليه‌السلام :( حسين منّي وأنا منه أحبّ الله مَن أحبّه ، الحسن والحسين سبطان من الأسباط ) (٢)

ولذا قام الإمام الحسينعليه‌السلام ثائراً على الظلم آمراً بالمعروف ، ناهياً عن المنكر ، مضحّياً بنفسه وأهل بيته في سبيل إعلاء كلمة الحق ، طالباً

ـــــــــــــ

(١) صحيح البخاري : ج ٢ ص ١٧٩ ح ٢٧٠٤ ؛ الصواعق المحرقة ، ابن حجر الهيتمي : ص ٢٩١ ، وغيرها من المصادر الكثيرة جداً من الفريقين .

(٢) التاريخ الكبير ، البخاري : ج ٨ ص ٤١٥ ح ٣٥٣٦ ؛ البداية والنهاية ، ابن كثير : ج ٨ ص ٢٢٤ ؛ المعجم الكبير ، الطبراني : ج ٣ ص ٣٢ ح ٢٥٨٦ ، ج ٢٢ ص ٢٧٤ ؛ الجامع الصغير ، السيوطي : ج ١ ص ٥٧٥ ح ٣٧٢٧ ؛ فيض القدير في شرح الجامع الصغير ، المناوي : ج ٣ ص ٥١٣ ؛ وفي صحيح الجامع الصغير ، الألباني : ج ١ ص ٦٠١ ـ ٦٠٢ ح ٣١٤٦ ، قال عن الحديث بأنّه ، (حسن) ، وغيرها من المصادر الكثيرة .

٢١

الإصلاح في أمة جدهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عندما لاحظ الممارسات البعيدة عن روح الدين والأخلاق من قِبَل الحكومة آنذاك ، حينما اتخذت الإسلام ستاراً لتغطية جرائمها وممارساتها المتهتّكة ؛ ولذا قالعليه‌السلام عندما خرج متوجّهاً إلى الكوفة :( إنّي لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا مفسداً ولا ظالماً وإنّما خرجت أطلب الإصلاح في أمة جدي محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر ) (١) .

وقد قال الذهبي في مدحهما وبيان موقعهما القيادي في الأمةعليهما‌السلام : ( فمولانا الإمام علي من الخلفاء الراشدين ، وابناه الحسن والحسين : فسبطا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وسيّدا شباب أهل الجنة ، لو استخلفا لكانا أهلاً لذلك )(٢)

ولا نطيل الحديث في ذلك بعد أن ثبت أنّهماعليهما‌السلام إمامان قاماً أو قعداً(٣) .

الإمام زين العابدينعليه‌السلام :

قال في حقّه محمد بن إدريس الشافعي : ( هو أفقه أهل المدينة )(٤) .

وقال محمد بن أحمد الذهبي ( ت ٧٤٨ ) : ( كان له جلالة عجيبة ، وحق له والله ذلك ، فقد كان أهلاً للإمامة العظمى لشرفه ، وسؤدده وعلمه وتألّهه وكمال عقله )(٥) . وقال أيضاً : ( وزين العابدين : كبير القدر ، من سادة

ـــــــــــــ

(١) مقتل الحسين : الخوارزمي : ص ٢٧٣ ؛ الفتوح ، ابن أعثم الكوفي : ج ٥ ص ٣٤.

(٢) سير أعلام النبلاء ، الذهبي : ج ١٣ ص ١٢٠ .

(٣) شرح إحقاق الحق ، السيد المرعشي : ج ١٩ ص ٢١٦ ؛ نقلاً عن أهل البيت ، الأستاذ توفيق أبو علم : ص ١٩٥ ، طبعة مطبعة السعادة ـ القاهرة .

(٤) نقله الجاحظ في رسائله : ص ١٠٦ .

(٥) سير أعلام النبلاء ، الذهبي : ج ٤ ص ٣٩٨ .

٢٢

العلماء العاملين يصلح للإمامة )(١) .

وقال ابن حجر العسقلاني : ( علي بن الحسين بن علي بن أبي طالبعليه‌السلام الهاشمي زين العابدين ، ثقة ، ثبت ، عابد ، فقيه ، فاضل ، مشهور ، قال ابن عيينة عن الزهري : ما رأيت قرشياً أفضل منه )(٢) .

وقال ابن حجر في الصواعق : ( وأخرج أبو نعيم والسلفي لمّا حجّ هشام بن عبد الملك في حياة أبيه أو الوليد لم يمكنه أن يصل للحجر من الزحام ، فنُصب له منبر إلى جانب زمزم ، وجلس ينظر إلى الناس ، وحوله جماعة من أعيان أهل الشام ، فبينا هو كذلك إذ أقبل زين العابدين ، فلمّا انتهى إلى الحجر تنحّى له الناس حتى استلم ، فقال أهل الشام لهشام ، مَن هذا ؟ قال : لا أعرفه ؛ مخافة أن يرغب أهل الشام في زين العابدين ، فقال الفرزدق : أنا أعرفه ، ثم أنشد :

هذا الذي تعرف البطحاء وطأته

والبيت يعرفه والحلّ والحرمُ

هذا ابن خير عباد الله كلّهمُ

هذا التقي النقي الطاهر العلمُ

إذا رأته قريشٌ قال قائلها

إلى مكارم هذا ينتهي الكرمُ

ينمي إلى ذروة العِزّ التي قصرت

عن نيلها عرب الإسلام والعجمُ

ـــــــــــــ

(١) سير أعلام النبلاء ، الذهبي : ج ١٣ ص ١٢٠ .

(٢) تقريب التهذيب ، ابن حجر : ج ١ ص ٦٩٢ .

٢٣

وكذا من أبيات تلك القصيدة :

هذا ابن فاطمةٍ إن كنت جاهله

بجدّه أنبياءُ الله قد خُتموا

فليس قولك من هذا بضائره

العرب تعرف مَن أنكرت والعجمُ

ثم قال :

من معشرٍ حبّهم دين وبغضهم

كفرٌ وقربهم منجى ومعتصمُ

لا يستطيع جواد بعد غايتهم

ولا يدانيهم قومٌ وإن كرموا

فلمّا سمع هشام غضب ، وحبس الفرزدق بعسفان )(١) .

الإمام الباقرعليه‌السلام :

قال في حقّه أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ : ( وهو سيّد فقهاء الحجاز ، ومنه ومن ابنه جعفر تعلّم الناس الفقه ، وهو الملقّب بالباقر ، باقر العلم ، لقبّه به رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولم يخلق بعد ، وبشّر به ووعد جابر بن عبد

ـــــــــــــ

(١) الصواعق المحرقة ، ابن حجر الهيتمي : ص ٣٠٣ ـ ٣٠٤ .

٢٤

الله برؤيته ، وقال : ستراه طفلاً ، فإذا رأيته فبلّغه عنّي السلام ، فعاش جابر حتى رآه ، وقال له ما وصّى )(١) .

وقال الحافظ أبو نعيم الأصفهاني في حلية الأولياء وطبقات الأصفياء : ( ومنهم الحاضر الذاكر الخاشع الصابر أبو جعفر محمد بن علي الباقر ، كان من سلالة النبوّة ، وممّن جمع حسب الدين والأبوّة ، تكلّم في العوارض والخطرات ، وسفح الدموع والعبرات ، ونهى عن المراء والخصومات )(٢) .

وقال سبط ابن الجوزي في تذكرة الخواص : ( قال عطاء : ما رأيت العلماء عند أحد أصغر علماً منهم عند أبي جعفر ، لقد رأيت الحكم عنده كأنّه مغلوب ، يعني بالحكم الحكم بن عيينة ، وكان عالماً نبيلاً جليلاً في زمانه )(٣) .

وقال النووي في تهذيب الأسماء واللغات : ( سمّي بذلك ؛ لأنّه بقر العلم أي شقّه وعرف أصله وعرف خفيّه وهو تابعي جليل ، إمام بارع ، مجمع على جلالته ، معدود في فقهاء المدينة وأئمّتهم )(٤) .

وقال ابن خلكان : ( كان الباقر علماً ، سيّداً ، كبيراً ، وإنّما قيل له الباقر

ـــــــــــــ

(١) رسائل الجاحظ : ص ١٠٨ ؛ جمعها ونشرها حسن السندوبي .

(٢) حلية الأولياء ، أبو فرج الأصفهاني : ج ٣ ص ١٨٠ ، وكذا بألفاظ مختلفة في البداية والنهاية ، ابن كثير : ج ٩ ص ٣٣٩ .

(٣) تذكرة الخواص ، الذهبي : ص ٣٠٢ .

(٤) تهذيب الأسماء واللغات : ج ١ ص ١٠٣ .

٢٥

لأنّه تبقر في العلم )(١) .

وقال الذهبي في سير أعلام النبلاء : ( أبو جعفر الباقر : سيّد ، إمام ، فقيه ، يصلح للخلافة )(٢) ، وفي هذا المضمون ما قاله صلاح الدين الصفدي(٣) .

وقال محمد بن المنكدر : ( ما رأيت أحداً يفضّل على علي بن الحسين ، حتى رأيت ابنه محمداً ، أردت يوماً أن أعظه فوعظني )(٤) .

وقال ابن كثير في البداية والنهاية : ( وهو تابعي جليل ، كبير القدر كثيراً ، أحد أعلام هذه الأُمّة ، علماً وعملاً ، وسيادة وشرفاً )(٥) .

وقال الهيتمي في صواعقه بعد أن ذكر علي بن الحسينعليهما‌السلام ما نصّه : ( وارثه منهم ، عبادة وعلماً وزهادة ، أبو جعفر محمد الباقر سمّي بذلك : من بقر الأرض ، أي شقّها فلذلك هو أظهر من مخبآت كنوز المعارف ، وحقائق الأحكام والحكم واللطائف ، ما لا يخفى إلاّ على منطمس البصيرة ، أو فاسد الطويّة والسريرة ، ومن ثَمّ قيل فيه : هو باقر العلم ، وجامعه ، وشاهر علمه ، ورافعه صفا قلبه وزكى علمه وعمله ، وطهرت نفسه ، وشرف خلقه وعمرت أوقاته بطاعة الله ، وله من الرسوم في مقامات العارفين ما تكل عنه ألسنة الواصفين ، وله كلمات كثيرة في السلوك والمعارف لا تحملها هذه العجالة ، وكفاه شرفاً أنّ ابن المديني روى عن جابر أنّه قال له وهو صغير : رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يسلّم عليك ، فقيل له وكيف

ـــــــــــــ

(١) وفيات الأعيان ، ابن خلكان : ج ٤ ص ٣٠ .

(٢) سير أعلام النبلاء ، الذهبي : ج ١٣ ص ١٢٠ .

(٣) الوافي بالوفيات ، صلاح الدين الصفدي : ج ٤ ص ١٠٤ .

(٤) نقلاً عن تهذيب التهذيب : ج ٩ ص ٣١٣ .

(٥) البداية والنهاية ، ابن كثير : ج ٩ ص ٣٣٨ .

٢٦

ذاك ؟ قال : كنت جالساً عنده والحسين في حجره وهو يداعبه ، فقال :يا جابر ، يولد له مولود اسمه علي ، إذا كان يوم القيامة نادى منادٍ ليقم سيّد العابدين فيقوم ولده ، ثم يولد له ولد اسمه محمد ، فإن أدركته يا جابر فأقرئه منّي السلام ) (١) .

وقال أبو الحنبلي : ( قال عبد الله بن عطاء : ما رأيت العلماء عند أحد أصغر منهم علماً عنده ، وله كلام نافع في الحكم والمواعظ )(٢) .

وقال محمد بن علي الصبان في إسعاف الراغبين : ( وأما محمد الباقررضي‌الله‌عنه فهو صاحب المعارف وأخو الدقائق واللطائف ، ظهرت كراماته وكثرت في السلوك إشاراته ، لقب بالباقر لأنّه بقر العلم ، أي شقّه وعرف أصله وخفيّه )(٣) .

الإمام الصادقعليه‌السلام :

نقل عن أبي حنيفة أنّه قال : ( ما رأيت أحداً أفقه من جعفر بن محمد لمّا أقدمه المنصور الحيرة بعث إليّ ، فقال : يا أبا حنيفة ، إنّ الناس قد فتنوا بجعفر بن محمد فهيّئ له من مسائلك الصعاب ، قال : فهيّأت له أربعين مسألة ، ثم بعث إليّ أبو جعفر فأتيته بالحيرة ، فدخلت عليه وجعفر جالس عن يمينه ، فلمّا بصرت بهما دخلني لجعفر من الهيبة ما لم يدخل لأبي جعفر ، فسلّمت وأذن لي ، فجلست ، ثم ألتفت إلى جعفر ، فقال : يا أبا عبد

ـــــــــــــ

(١) الصواعق المحرقة ، ابن حجر الهيتمي : ص ٣٠٤ ـ ٣٠٥ .

(٢) شذرات الذهب في أخبار مَن ذهب : ج ١ ص ٢٦٠ .

(٣) إسعاف الراغبين : ص ٢٥٠ .

٢٧

الله ، تعرف هذا ؟ قال : نعم ، هذا أبو حنيفة ، ثم أتبعها : قد أتانا ، ثم قال : يا أبا حنيفة ، هات من مسائلك نسأل أبا عبد الله ، وابتدأت أسأله ، وكان يقول في المسألة : أنتم تقولون فيها : كذا وكذا ، وأهل المدينة يقولون : كذا وكذا ، ونحن نقول : كذا وكذا ، فربّما تابعنا ، وربّما تابع أهل المدينة ، وربّما خالفنا جميعاً ، حتى أتيت على أربعين مسألة ثم قال أبو حنيفة : أليس قد روينا أنّ أعلم الناس أعلمهم باختلاف الناس )(١) .

وقال في مختصر التحفة الاثني عشرية : ( لو لا السنتان لهلك النعمان )(٢) ، يعني السنتين اللتين نهل فيهما أبو حنيفة من بحر علم الإمام الصادقعليه‌السلام .

وقال الحافظ شمس الدين الجزري : ( وثبت عندنا أنّ كلاً من الإمام مالك ، وأبي حنيفة (رحمهما الله تعالى) صحب الإمام أبا عبد الله جعفر بن محمد الصادقعليه‌السلام حتى قال أبو حنيفة : ما رأيت أفقه منه ، وقد دخلني منه من الهيبة ما لم يدخلني للمنصور )(٣) .

وقال الجاحظ بعد مدح عشرة من أهل البيتعليهم‌السلام ، ومن ضمنهم الإمام الصادقعليه‌السلام فقال : ( ومن الذي يُعد من قريش ، أو من غيرهم ما يعدّه الطالبيون عشرة في نسق ، كل واحد منهم عالم زاهد ناسك شجاع جواد طاهر زاك فمنهم خلفاء وهذا لم يتفق لبيت من بيوت العرب ولا بيوت العجم )(٤) .

ـــــــــــــ

(١) تهذيب الكمال ، المزي : ج ٥ ص ٧٩ ؛ نشر مؤسسة الرسالة .

(٢) نقلاً عن أسنى المطالب عمّا في مناقب سيّدنا علي بن أبي طالب : ص ٥٥ .

(٣) المصدر نفسه : ص ٥٥ .

(٤) رسائل الجاحظ : ص ١٠٦ .

٢٨

وقال الذهبي في ترجمة مطوّلة للإمام الصادقعليه‌السلام في كتابه تاريخ الإسلام ، قال في آخرها : ( مناقب جعفر كثيرة ، وكان يصلح للخلافة ، لسؤدده وفضله وعمله وشرفه (رضوان الله عليه) )(١) .

وقال أبو عبد الله سلمان اليافعي في كتابه مرآة الجنان ، في أحداث سنة (٤٨ هـ) : ( الإمام السيد الجليل سلالة النبوّة ومعدن الفتوّة أبو عبد الله جعفر الصادقعليه‌السلام ، ودُفن بالبقيع في قبر فيه أبوه محمد الباقر وجدّه زين العابدين وعمّ جده الحسن بن علي (رضوان الله عليهم أجمعين) ، وأكرم بذلك القبر وما جمع من الأشراف الكرام أُولي المناقب ، وإنّما لقّب بالصادق لصدقه في مقالته ، وله كلام نفيس في علوم التوحيد وغيرها ، وقد ألّف تلميذه جابر بن حيان الصوفي كتاباً يشتمل على ألف ورقة يتضمّن رسائله ، وهي خمس مائة رسالة )(٢) .

وقال ابن حجر العسقلاني : ( جعفر بن محمد المعروف بالصادق ، صدوق ، فقيه ، إمام )(٣) .

قال الملا أبو علي القاري في شرح الشفا : ( جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب الهاشمي المدني المعروف بالصادق متفق على إمامته وجلالته وسيادته )(٤) .

وقال محمد بن عبد الرؤوف المناوي القاهري في الكواكب الدريّة :

ـــــــــــــ

(١) تاريخ الإسلام (حوادث ووفيات سنة ١٤١ ـ ١٦٠) ، الذهبي : ص ٩٣ .

(٢) مرآة الجنان وعبرة اليقظان : ج ١ ص ٢٣٨ .

(٣) تقريب التهذيب ، ابن حجر : ج ١ ص ١٦٣ .

(٤) شرح الشفا ، أبو علي القاري : ج ١ ص ٤٣ ـ ٤٤ .

٢٩

 ( جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب إماماً وله كرامات كبيرة ومكاشفات شهيرة منها أنّه سُعي به عند المنصور ، فلمّا حجّ أحضر الساعي ، وقال للساعي أتحلف ؟ قال : نعم ، فحلف ، فقال : جعفر المنصور حلّفه بما رآه ، فقال : قل برئت من حول الله وقوّته ، والتجأ إلى حولي وقوّتي ، لقد فعل جعفر كذا وكذا ، فامتنع الرجل ، ثم حلف فمات مكانه ، ومنها أنّ بعض الطغاة قتل مولاه فلم يزل يصلّي ، ثم دعا عليه عند السحر فسمعت الضجّة بموته ، ومنها أنّه لمّا بلغه قول الحكم بن عباس الكلبي في عمّه زيد :

صَلَبْنا لكم زيْداً على جِذْعِ نَخْلَةٍ

ولم نرَ مَهْديّاً على الجذْعِ يُصْلَبُ

قال اللّهمّ سلّط عليه كلباً من كلابك ، فافترسه الأسد )(١) .

وقال ابن حجر الهيتمي في صواعقه : ( ونقل الناس عنه من العلوم ما سارت به الركبان وانتشر صيته في جميع البلدان )(٢) .

الإمام الكاظمعليه‌السلام :

قال في حقّه محمد بن إدريس المنذر ، أبو حاتم (ت ٢٧٧ هـ) : ( ثقة صدوق إمام من أئمة المسلمين )(٣) .

وقال الفخر الرازي في بيان معنى الكوثر : ( والقول الثالث : الكوثر

ـــــــــــــ

(١) الكواكب الدريّة : ص ٩٤ .

(٢) الصواعق ، ابن حجر الهيتمي : ص ٣٠٥ .

(٣) ذكره الذهبي في سير أعلام النبلاء : ج ٦ ص ٢٧٠ .

٣٠

أولاده الأكابر من العلماء كالباقر والصادق والكاظم والرضاعليهم‌السلام )(١) .

وقال ابن حجر الهيتمي قال : ( موسى الكاظم : وهو وارثه [ أي جعفر الصادق ] علماً ومعرفةً وكمالاً وفضلاً ، سُمّي الكاظم لكثرة تجاوزه وحلمه ، وكان معروفاً عند أهل العراق بباب قضاء الحوائج عند الله ، وكان أعبد أهل زمانه وأعلمهم وأسخاهم .

وسأله الرشيد كيف قلتم : إنّا ذرّية رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأنتم أبناء علي ؟ فتلى :( ومِن ذُرّيّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى‏ وَهَارُونَ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * وَزَكَرِيّا وَيَحْيَى‏ وَعِيسَى‏ وَإِلْيَاسَ كُلّ مِنَ الصّالِحِينَ ) (٢) ، [وعيسى] ليس له أب ، وأيضاً قال تعالى :( فَمَنْ حَاجّكَ فِيهِ مِن بَعْدِمَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمّ نَبْتَهِل فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ ) (٣) ، ولم يدعُ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عند مباهلته النصارى غير علي وفاطمة والحسن والحسين (رضي الله عنهم) ، فكان الحسن والحسين هما الأبناء )(٤) .

وقال خير الدين الزركلي (ت ١٣٩٦) : ( كان من سادات بني هاشم ، ومن أعبد أهل زمانه ، وأحد كبار العلماء الأجواد )(٥) .

ـــــــــــــ

(١) التفسير الكبير ، الفخر الرازي : ج ١٦ ص ١٢٥ .

(٢) الأنعام : ٨٤ ـ ٨٥ .

(٣) آل عمران : ٦١ .

(٤) الصواعق المحرقة ، ابن حجر الهيتمي : ص ٣٠٧ ـ ٣٠٨ .

(٥) الأعلام ، خير الدين الزركلي : ج ٧ ص ٣٢١ .

٣١

الإمام الرضاعليه‌السلام :

قال في حقّه ابن حبان (ت ٣٥٤ هـ) : ( وهو علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب أبو الحسن ، من سادات أهل البيت وعقلائهم وجلة الهاشميين ونبلائهم وقبره بسناباذ خارج النوقان مشهور يزار بجنب قبر الرشيد ، قد زرته مراراً كثيرة ، وما حلّت بي شدّة في وقت مقامي بطوس فزرت قبر علي بن موسى الرضا (صلوات الله على جدّه وعليه) ودعوت الله إزالتها عنّي إلا أستجيب لي وزالت عنّي تلك الشدّة ، وهذا شيء جرّبته (صلّى الله عليه وسلام الله عليه وعليهم أجمعين) )(١) .

وقال الذهبي (ت ٧٤٨ هـ) في سير أعلام النبلاء : (علي الرضا الإمام السيد ، أبو الحسن ، علي الرضا بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي بن الحسين ، الهاشمي العلوي المدني وكان من العلم والدين والسؤدد بمكان ، يقال : أفتى وهو شاب في أيام مالك وقد كان علي الرضا كبير الشأن أهلاً للخلافة )(٢) .

وقال أيضاً : ( علي بن موسى الرضا كبير الشأن ، له علم وبيان ، ووقع في النفوس ، صيّره المأمون ولي عهده لجلالته )(٣) .

وقال الحاكم النيسابوري في تاريخه : ( كان يفتي في مسجد رسول

ـــــــــــــ

(١) الثقات ، الألباني : ج ٨ ص ٤٥٦ ـ ٤٥٧ .

(٢) سير أعلام النبلاء ، الذهبي : ج ٩ ص ٣٨٧ ـ ٣٩٢ .

(٣) المصدر نفسه : ج ١٣ ص ١٢١ .

٣٢

اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهو ابن نيّف وعشرين سنة )(١) .

الإمام الجوادعليه‌السلام :

قال في حقّه محمد بن طلحة الشافعي : ( عُرف بأبي جعفر الثاني ، وهو وإن كان صغير السن ، فهو كبير القدر رفيع الذكر )(٢) .

وقال ابن الجوزي : ( كان على منهاج أبيه في العلم والتقى والزهد والجود )(٣) .

وقال ابن تيمية : ( كان من أعيان بني هاشم معروف بالسخاء والسؤدد ، ولهذا سُمّي الجواد)(٤) .

وقال الذهبي : ( كان من سروات آل بيت النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم )(٥) ، وقد أشار إلى فضله وشرفه صلاح الدين الصفدي في مرآة الجنان(٦) .

وقال الذهبي أيضاً : ( محمد الجواد من سادة قومه )(٧) .

وقال ابن الصباغ المالكي : ( وإن كان صغير السن ، فهو كبير القدر رفيع الذكر ، القائم بالإمامة بعد علي بن موسى الرضا )(٨) .

ـــــــــــــ

(١) نقل قوله ابن حجر في تهذيب التهذيب : ج ٧ ص ٣٣٩ .

(٢) مطالب السؤول في مناقب الرسول ، كمال الدين الشافعي : ج ٢ ص ١٤٠ .

(٣) تذكرة الخواص ، السبط ابن الجوزي : ص ٣٢١ .

(٤) منهاج السنّة ، ابن تيمية : ج ٤ ص ٦٨ .

(٥) تاريخ الإسلام: (حوادث ووفيات سنة ٢١١ ـ ٢٢٠) ، الذهبي : ص ٣٥٨ .

(٦) مرآة الجنان ، عبد الله بن أسعد المكي: ج ٢ ص ٦٠ ـ ٦١ .

(٧) سير أعلام النبلاء ، الذهبي : ج ١٣ ص ١٢١ .

(٨) الفصول المهمّة في معرفة أحوال الأئمّة ، ابن الصباغ المالكي : ص ٢٥٣ .

٣٣

وقال يوسف بن إسماعيل النبهاني (ت ١٣٥٠ هـ) : ( محمد الجواد بن علي الرضا أحد أكابر الأئمّة ومصابيح الأُمّة من سادات أهل البيت توفّى وله من العمر (٢٥) سنة وشهر رضي الله عليه وعن آبائه الطيبين الطاهرين وأعقابهم أجمعين ونفعنا ببركتهم آمين )(١) .

وقال محمود بن وهيب : ( وهو الوارث لأبيه علماً وفضلاً ، وأجلّ أخوته قدراً وكمالاً )(٢) .

وقال السيد محمد عبد الغفار الهاشمي الأفغاني : ( خاف الملك المعتصم على ذهاب ملكه إلى الإمام محمد الجوادعليه‌السلام إذ كان له قدر عظيم علماً وعملاً )(٣) .

الإمام الهاديعليه‌السلام :

قال في حقّه شمس الدين الذهبي في ( العبر ) : ( وفيها ـ أي سنة ٢٥٤ هجرية ـ توفّي أبو الحسن علي بن الجواد محمد ابن الرضا علي بن الكاظم موسى العلوي الحسيني المعروف بالهادي ، توفّي بسامراء وله أربعون سنة ، وكان فقيهاً إماماً متعبّداً )(٤) . وفي مجال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر نجدهعليه‌السلام يستثمر الفرص لإبداء النصح ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حيث قال

ـــــــــــــ

(١) جامع كرامات الأولياء : ج١ : ص ١٦٨ ـ ١٦٩ .

(٢) أئمّتنا : محمد علي دخيل : ج ٢ ص ٢٠٦ .

(٣) شرح إحقاق الحق ، السيد المرعشي النجفي : ج ١٢ ص ٤١٧ ، نقلاً عن كتاب أئمّة الهدى : ص ١٣٥ ـ ط ١ القاهرة .

(٤) العبر في أخبار مَن غبر : ج ١ ص ٢٢٨ ؛ وكذا مرآة الجنان وعبرة اليقظان : ج ٢ ص ١١٩ .

٣٤

ابن خلكان في وفيات الأعيان : ( وهو أحد الأئمّة الاثني عشر عند الإمامية ، كان قد سُعي به إلى المتوكل ، وقيل : إنّ في منزله سلاحاً وكتباً وغيرها من شيعته ، وأوهموه أنّه يطلب الأمر لنفسه ، فوجّه إليه بعدّة من الأتراك ليلاً ، فهجموا عليه في منزله على غفلة ، فوجدوه وحده في بيت مغلق ، وعليه مدرعة من شعر يترنّم بآيات من القرآن في الوعد والوعيد ، ليس بينه وبين الأرض بساط إلاّ الرمل والحصى ، فأخذ على الصورة التي وجد عليها ، وحُمل إلى المتوكل في جوف الليل ، فمثُل بين يديه ، والمتوكل يستعمل الشراب وفي يده كأس ، فلمّا رآه أعضمه وأجلسه إلى جنبه ، ولم يكن في منزله شيء ممّا قيل عنه فناوله المتوكل الكأس الذي كان بيده ، فقال : اعفني ، ما خامر لحمي ودمي قط ، فاعفني منه ، فأعفاه وقال : أنشدني شعراً استحسنه ، فقال : إنّي لقليل الرواية للشعر ، قال : لابد أن تنشدني ، فأنشده :

باتوا على قلل الأجبال تحرسهم

غلبُ الرجال فما أغنتهم القللُ

واستُنزلوا بعد عز من معاقلهم

فأودعوا حفراً يا بئس ما نزلوا

ناداهم صارخٌ من بعد ما قُبروا

أين الأسرة والتيجان والحللُ

أين الوجوه التي كانت منعمةً

من دونها تُضرب الأستار والكللُ

٣٥

فأفصح القبر عنهم حين ساءلهم

تلك الوجوه عليها الدود يقتتلُ

قد طالما أكلوا دهراً وما شربوا

فأصبحوا بعد طول الأكل قد أُكلوا(١)

وبنفس هذا المضمون قال ابن الوردي في كتابه أخبار مَن غبر(٢) ، وكذا أبو صلاح الصفدي(٣) .

وقال ابن الصباغ المالكي في الفصول المهمّة : ( قال بعض أهل العلم : فضل أبي الحسن علي بن محمد الهادي قد ضرب على الحرة بابه ، ومدّ على نجوم السماء أطنابه فما تعدّ منقبة إلاّ وإليه نحلتها ، ولا تذكر كريمة إلاّ وله فضيلتها ، ولا تورد محمدة إلاّ وله تفضلها وجملتها فكانت نفسه مهذّبة وأخلاقه مستعذبة وسيرته عادلة وخلاله فاضلة جرى على الوقار والسكون والطمأنينة والعفّة والنزاهة ، والخمول في النباهة على وتيرة نبوية وشنشنة علوية ونفس زكية وهمّة عليّة )(٤) .

وقال ابن حجر الهيتمي في الصواعق المحرقة : ( توفّى [ الجواد ] وعمره خمس وعشرون سنة عن ذكرين وبنتين أجلّهم علي العسكري وكان وارث أبيه علماً وسخاءً )(٥) .

ـــــــــــــ

(١) وفيات الأعيان ، ابن خلكان : ج ٣ ص ٢٣٨ ؛ دار الكتب العلمية .

(٢) العبر في أخبار من غبر: ج ١ ص ٣٦٤ .

(٣) الوافي بالوفيات ، الصفدي : ج ٢٢ ص ٧٢ ـ ٧٣ .

(٤) الفصول المهمّة : ص ٢٧٠ .

(٥) الصواعق المحرقة ، ابن حجر الهيتمي : ص ٣١٢ .

٣٦

وقال ابن العماد الحنبلي في شذرات الذهب : ( أبو الحسن المعروف بالهادي كان فقيهاً إماماً متعبّداً )(١) .

وقال الذهبي في سير أعلام النبلاء : ( وكذا ولده الملقّب بالهادي شريف جليل )(٢) .

الإمام العسكريعليه‌السلام :

قال في حقّه محمد بن طلحة الشافعي : ( اعلم أنّ المنقبة العليا والمزية الكبرى التي خصّه الله عزّ وجلّ بها ، وقلّده فريدها ، ومنحه تقليدها ، وجعلها صفة دائمة لا يبلي الدهر جديدها ، ولا تنسى الألسن تلاوتها وترديدها ، أنّ المهدي محمد من نسله المخلوق منه وولده المنتسب إليه ، وبضعته المنفصلة عنه )(٣) .

وقال ابن الجوزي : (... كان عالماً ثقة )(٤) وقال ابن الصباغ المالكي : ( مناقب سيّدنا أبي محمد العسكري دالة على أنّه السري ابن السري ، فلا يشك في إمامته أحد ولا يمتري واحد زمانه من غير مدافع ، ويسبح وحده من غير منازع ، وسيد أهل عصره ، وإمام أهل دهره ، أقواله سديدة وأفعاله حميدة كاشف الحقائق بنظره الصائب ، ومظهر الدقائق بفكره الثاقب ، المحدّث في سرّه بالأمور الخفيات ، الكريم

ـــــــــــــ

(١) شذرات الذهب ، عماد الحنبلي : ج ٢ ص ٢٧٢ .

(٢) سير أعلام النبلاء ، الذهبي : ج ١٣ ص ١٢١ .

(٣) مطالب السؤول في مناقب آل الرسول : ج ٢ ص ١٤٨ .

(٤) تذكرة الخواص : ص ٣٢٤ .

٣٧

الأصل والنفس والذات ، تغمّده الله برحمته وأسكنه فسيح جنانه بمحمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم آمين )(١) .

وقال العباس بن نور الدين المكي (ت ١١٨٠ هـ) : ( أبو محمد الإمام الحسن العسكري : نسبه أشهر من القمر ليلة أربعة عشر يعرف هو وأبوه بالعسكري ، وأمّا فضائله فلا يحصرها السن )(٢) .

وعن الشريف علي بن الدكتور محمد عبد الله فكري الحسيني القاهري : ( قال نسبه ولمّا ذاع خبر وفاته ارتجّت سُرّ مَن رأى وقامت صيحة واحدة ، وعطلت الأسواق ، وأغلقت الدكاكين ، وركب بنو هاشم والقوّاد والكتّاب والقضاة وسائر الناس إلى جنازته ، وكانت سرّ مَن رأى يومئذ شبيه بالقيامة )(٣) .

وقال الحضرمي الشافعي : ( أبو محمد الحسن الخالص بن علي العسكري ، كان عظيم الشأن جليل المقدار ووقع له مع المعتمد لما حبسه كرامة ظاهرة مشهورة )(٤)

وقد جمع مدحهمعليهم‌السلام الذهبي في عبارة جامعة حيث قال : ( إنّ بني هاشم أفضل القريش ، وقريشاً أفضل العرب ، والعرب أفضل بني آدم ، كما صحّ عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قوله في الحديث الصحيح :إنّ الله اصطفى بني

ـــــــــــــ

(١) الفصول المهمة : ص ٢٧٩ ؛ وقال بمضمونه نور الدين السمهودي في كتابه الإتحاف بحب الأشراف .

(٢) حياة الإمام العسكري ، القرشي : ص ٦٩ .

(٣) شرح إحقاق الحق : ج ٢٩ ص ٦٠ ـ ٦١ ، نقلاً عن أحسن القصص : ج ٤ ص ٣٠٤ .

(٤) قادتنا كيف نعرفهم ، السيد الميلاني : ج ٧ ص ١١٥ ، عن وسيلة المآل في عدّ مناقب الآل : ص ٤٢٦ .

٣٨

إسماعيل ، واصطفى كنانة من بني إسماعيل ، واصطفى قريشاً من كنانة ، واصطفى بني هاشم من قريش )(١) .

وقال الذهبي في ترجمته للإمام المهدي المنتظرعليه‌السلام : ( ومحمد هذا هو الذي يزعمون أنّه الخلف الحجّة ، وأنّه صاحب الزمان ، وأنّه حي لا يموت ، حتى يخرج ، فيملأ الأرض عدلاً وقسطاً كما مُلئت ظلماً وجوراً .

فوددنا ذلك ، والله .

فمولانا الإمام علي : من الخلفاء الراشدين ، وابناه الحسن والحسين : فسبطا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وسيّدا شباب أهل الجنة ، لو استخلفا لكانا أهلاً لذلك .

وزين العابدين : كبير القدر ، من سادة العلماء العاملين ، يصلح للإمامة .

وكذلك ابنه أبو جعفر الباقر : سيد ، إمام ، فقيه ، يصلح للخلافة .

وكذلك ولده جعفر الصادق : كبير الشأن ، من أئمّة العلم ، كان أولى بالأمر من أبي جعفر المنصور .

وكان ولده موسى : كبير القدر ، جيد العلم ، أولى بالخلافة من هارون .

وابنه علي بن موسى الرضا : كبير الشأن ، له علم وبيان ، ووقع في النفوس ، صيّره المأمون ولي عهده لجلالته .

وابنه محمد الجواد : من سادة قومه .

وكذا ولده الملقّب بالهادي : شريف جليل .

وكذلك ابنه الحسن بن علي العسكري رحمهم الله تعالى )(٢) .

ـــــــــــــ

(١) رأس الحسين ، ابن تيمية : ص ٢٠٠ ـ ٢٠١ .

(٢) سير أعلام النبلاء ، الذهبي : ج ١٣ ص ١٢٠ ـ ١٢١ .

٣٩

ومن جميع ما تقدّم يتضح ـ لمَن له أذن واعية ـ بطلان المقولة القائلة بأنّ الإمامة لا فائدة منها ، وأنّ الأئمّة الاثني عشر من آل محمد (صلوات الله عليهم أجمعين) لم يمارسوا دورهم القيادي في الحكومة وهداية الأمة ؛ وذلك لقيام الأئمّة بمسؤوليتهم وأداء دورهم في حياة الأمة في الحفاظ على الرسالة ، وتحصينها ضد التردّي والسقوط في الهاوية .

وإنّ إقصاءهم عن تسلّم الحكم لا يعني تخلّيهم عن مسؤوليتهم في تحمّل أعباء الإمامة بما لها من أبعاد أخرى .

تراث زاخر

وأمّا قول المستشكل : أين هي أقوال أئمّة الاثني عشرية ؟

فنقول : ما عليك إلاّ بمراجعة يسيرة للتراث الشيعي حتى تجده زاخراً بروايات وتوصيات وتوجيهات أهل البيتعليهم‌السلام في كل المجالات ، ولم تقتصر الاستفادة منها على شيعتهم وأتباعهم فقط ، وإنّما عمّت الفائدة لكل الطوائف الأخرى ، كما تقدّم .

٤٠

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

لخصوصيات هذه القصّة.

على أية حال هناك قولان راجحان من بين الاحتمالات الكثيرة المطروحة عن مكان الكهف ، يمكن أن نجملهما بما يلي :

أوّلا : إنّ هذه الحادثة وقعت في مدينة (أفسوس) وهذا الكهف كان يقع بالقرب منها.

ويمكن في الوقت الحاضر مشاهدة خرائب هذه المدينة بالقرب من مدينة (أزمير) التركية ، وبالقرب من قرية (أياصولوك) في جبال (ينايرداغ) حيث يوجد كهف لا يبتعد كثيرا عن (أفسوس).

إنّ هذا الكهف هو غار وسيع ، ويقال بأنّه يمكن في داخله مشاهدة آثار مئات القبور ، ويعتقد الكثيرون بأنّ هذا الغار هو غار أصحاب الكهف.

وقد نقل من شاهد الكهف أنّ فتحة الغار باتجاه الشمال الشرقي ، وقد كان هذا الموقع سببا في ترجيح شك بعض المفسّرين الكبار بكون هذا المكان هو غير غار أصحاب الكهف ، في حين أنّ هذا الوضع يؤيد صحة الموضوع ويرجح كون الغار هو الكهف المقصود لأنّ دلالة أن تكون الشمس عند الشروق على يمين الغار ، وعند الغروب على يساره ، هو أن تكون فتحة الغار باتجاه الشمال أو تميل قليلا نحو الشمال الشرقي.

بالطبع لا يقلّل من صحة الموضوع عدم وجود مسجد أو معبد إلى جانبه ، حيث يمكن أن تكون آثاره قد اندثرت بعد مرور حوالي (١٧) قرن على الحادث.

ثانيا : يقع الغار بالقرب من (عمّان) عاصمة الأردن ، وبالقرب من قرية تسمّى «رجيب».

ويمكن مشاهدة آثار صومعة فوق الغار تعود ـ وفقا لبعض القرائن ـ إلى القرن الخامس الميلادي ، حيث تحوّلت إلى مسجد ذي محراب ومئذنة بعد

٢٤١

سيطرة المسلمين على ذلك المكان.

٣ ـ الجوانب التربوية لقصّة أهل الكهف

هذه القصّة التأريخية العجبية التي يذكرها القرآن خالية من أي خرافة أو وضع ، وفيها العديد من الدروس التربوية البنّاءة ، تماما كما في قصص القرآن الأخرى ، وإذا كنّا قد أشرنا إلى هذه الدروس ضمن تفسير الآيات ، فإنّنا نرى من الضروري الآن أن نشير إليها بشكل مجمل حتى نقترب أكثر من الهدف الأساس للقرآن ، وفيما يلي أبرز هذه الدروس :

أ: إنّ أول دروس هذه القصّة هو تحطيم حاجز التقليد ، والابتعاد عن التلوّن بلون المجتمع الفاسد. فهؤلاء الفتية حافظوا ـ كما لا حظنا ـ على استقلالهم الفكري في قبال الأكثرية المنحرفة المحيطة بهم ، وهذا الأمر أصبح سببا في نجاتهم وتحرّرهم.

وينبغي للإنسان أن يكون له تأثير بناء على مجتمعه لا أن يكون مسايرا له.

ب : الهجرة من الأوساط المنحرفة درس آخر في هذه القصّة ذات العبر ، فهم قد تركوا بيوتهم وحياتهم المرفّهة المليئة بألوان النعم المادية ، وتركوا مناصبهم ، ورضوا بأنواع الصعوبات وأشكال الحرمان ـ في الغار الذي كان يفتقد كل شيء ـ لكي يحفظوا إيمانهم ، ولا يكونوا من عوامل وأعوان جهاز الظلم والجور والكفر والشرك(١) .

ج : التقية بمعناها البنّاء درس آخر نستفيده من هذه القصّة ، لقد كانوا يصرون على عدم اطّلاع أهل المدينة على حالهم وخبرهم ، واحتاطوا ليبقى أمرهم وحالهم مخفيا ، حتى لا يخسروا أنفسهم بدون سبب ، وكي يتجنبوا أن يجبروا

__________________

(١) من أجل المزيد من التفاصيل حول مسألة الهجرة وفلسفتها في الإسلام يمكن مراجعة ما جاء في تفسير الآية (١٠٠) من سورة النساء من تفسيرنا هذا.

٢٤٢

على الرجوع إلى المحيط المنحرف الذي تخلّصوا منه.

ونحن نعرف أنّ التقية ليست سوى أن يتكتم الإنسان على حقيقة أمره في الأماكن والمواقف التي لا يرتجي منها فائدة في ذكر الحقيقة ، بل تكون سببا للضرر. والتقية وقاية للنفس واحتفاظ بقوّة الإنسان لوقت جهاد العدو حيث لا تقية(١) .

د : عدم وجود تفاوت بين الناس وهم في طريق الله ، فالوزير كان إلى جانب الراعي ، بل كان الاثنان إلى جانب الكلب كان يقوم بالحراسة. وهذا درس آخر يتّضح من خلاله أنّ امتيازات الدنيا المادية ، والمناصب المختلفة ليس لها أدنى نصيب أو تأثير على تصنيف الناس من أهل الحق وسالكية ، إذ الكل فيه سواء إنّ طريق الحق هو طريق التوحيد ، وطريق التوحيد هو طرق وحدة جميع الناس.

ه : الإمدادات الإلهية العجيبة عند ظهور المشاكل ، هي نتيجة أخرى يجب الاعتبار بها ، فقد رأينا كيف قام الخالق جلّ وعلا بإنامة أصحاب الكهف كل تلك المدّة الطويلة ، من أجل إنقاذهم من تلك الظروف الاجتماعية الصعبة التي كانت تحيط بهم.

وقد أيقظهم جلّ وعلا في الوقت المناسب ، أي في الوقت الذي أصبحوا رمزا من رموز التوحيد ، وقد رأينا ـ كشكل من أشكال العناية ـ كيف أنّ الله تعالى حفظ أجسادهم خلال هذه المدّة من تأثيرات الأحداث والعوامل المختلفة ، وجعل من الرعب والخوف أسلوبا للحفاظ عليهم في قبال أعدائهم.

و: لقد تعلّمنا من أصحاب الكهف قيمة (طهارة الطعام) حتى في أصعب الظروف وأدقّها ، لأنّ طعام الإنسان له آثار عميقة في روحه وفكره وقلبه ، وعند ما يختلط الطعام بالحرام والنجاسة ، يبتعد الإنسان عن طريق الله ؛ طريق

__________________

(١) حول كون التقية أسلوبا للدفاع والوقاية ، يمكن مراجعة ما ذكرناه لدى تفسير الآية (٦٢) من سورة يونس من تفسيرنا هذا ، وكذلك ملاحظة الملاكات الفقهية لهذه المسألة في كتابنا «القواعد الفقهية».

٢٤٣

التقوى.

ز : ضرورة الاعتماد على مشيئة الله وطلب العون من لطفه تعالى : وقول (إن شاء الله) في كل ما يتعلق بأمور المستقبل درس آخر نتعلمه من قصّة أصحاب الكهف.

ح : لقد رأينا أنّ القرآن سمّاهم : ب (الفتية) في حين أنّهم ـ طبقا للرّوايات ـ لم يكونوا شبابا من حيث العمر ، وإذا عرفنا أنّهم كانوا في البداية وزراء الملك الجبار ، يتأكد لنا أنّهم لم يكونوا صغارا من حيث العمر. ولكن تسمية القرآن لهم ب (الفتية) للدلالة على صفات الشهامة والرشد والطهر والفتوة العفو والتسامح.

ط : ضرورة النقاش المنطقي مع المعارضين درس آخر نستفيده من قصّة أصحاب الكهف ، حيث إنّهم عند ما أرادوا دحض الشرك الذي عليه مجتمعهم ، ذكروا أدلة منطقية قرأنا نماذج لها في الآيات (١٥ ـ ١٦) من هذه السورة.

إنّ أساس عمل جميع الأنبياء والقادة الإلهيين مع أعدائهم ومعارضين يستند ـ في العادة ـ إلى قاعدة الحوار المنطقي والنقاش الحر. أمّا استخدام القوة لأجل القضاء على الفتنة فهو أمر يلجأ إليه عند ما تفشل الحجة في أداء وظيفتها ، أو عند ما يقوم الخصم بعرقلة النقاش المنطقي.

ي : وأخيرا ، فإنّ إمكانية المعاد الجسماني وعودة الناس إلى الحياة مرّة أخرى عند البعث ، يعتبر عاشر وآخر درس نستفيده من هذه القصّة ، وسنقرأ عنه تفصيلا في بحوث قادمة إن شاء الله تعالى.

إنّنا لا نستطيع القول بأنّ الدروس التربوية في قصّة أصحاب الكهف تقتصر على ما ذكرناه ، ولكنّا نعتقد أنّه حتى لو كان هناك درس واحد نستفيده من هذه القصة لكفانا ذلك ، فكيف بنا وأمامنا هذه الدروس الكثيرة؟!

على أية حال ، إنّ هدف القرآن ليس قص القصص لغرض التسلية ، بل بناء الناس المقاومين المؤمنين الشجعان الواعين ، وأحد الطرق لذلك هو ذكر نماذج أصيلة مما حدث طوال التأريخ البشري المليء بالحوادث والمواقف.

٢٤٤

٤ ـ هل أنّ قصّة أصحاب الكهف علمية؟

من المسلّم به أنّ قصّة أصحاب الكهف لم تكن مذكورة في أي من الكتب السماوية السابقة (سواء الكتب الأصلية أو المحرّفة الموجودة الآن) ويجب أن لا تذكر ، لأنّ الحادثة ـ طبقا للتأريخ العام ـ كانت قد وقعت في القرون التي تلت ظهور المسيح عيسىعليه‌السلام .

إنّ حادثة أصحاب الكهف وقعت في زمان «دكيوس» (التي تعرّب بديقيانوس) حيث تعرّض المسيحيون في عصره إلى تعذيب شديد.

ويقول المؤرخون الأوربيون : إنّ هذه الحادثة وقعت في الفترة من ٤٩ ـ ٢٥١ ميلادي ، وبذلك يرى هؤلاء المؤرخون أنّ مدّة نوم أصحاب الكهف لم تستغرق سوى (١٥٧) سنة ، ويطلقون عليهم لقب (النائمون السبعة لأفسوس) في حين أنّهم يعرفون بيننا بأصحاب الكهف(١) .

والآن لنتعرف أين تقع (أفسوس) هذه؟ ومن أوّل عالم كتب كتابا عن قصّة هؤلاء السبعة النائمين؟ وفي أي قرن حصل ذلك؟

(أفسوس) أو (أفسس) بضم الألف والسين ، هي واحدة من مدن آسيا الصغرى (تركيا الحالية التي هي جزء من مملكة الروم الشرقية القديمة) وتقع بالقرب من نهر (كاستر) وعلى بعد (٤٠) ميلا تقريبا جنوب شرقي (أزمير) حيث كانت عاصمة الملك (الونى).

وقد اشتهرت (أفسوس) بسبب معبدها الوثني المعروف بـ «أرطاميس» الذي يعتبر أحد عجائب الدنيا السبع(٢) .

ويقولون : إنّ قصة أصحاب الكهف شرحت لأول مرّة في رسالة باللغة السريانية كتبها عالم مسيحي يسمى (جاك) الذي كان رئيسا للكنيسة السورية ،

__________________

(١) أعلام القرآن ، ص ١٥٣.

(٢) الكلام مقتبس من كتاب «قاموس الكتاب المقدّس» ، ص ٨٧.

٢٤٥

وذلك في القرن الخامس الميلادي ، ثمّ شخص آخر يسمّى «جوجويوس» بترجمة تلك الرسالة إلى اللاتينية وسمّها بـ «جلال الشهداء»(١) . وهذا الأمر يبيّن أنّ الحادثة كانت معروفة بين المسيحيين قبل قرن أو قرنين من ظهور الإسلام ، وكانت الكنائس تهتم بها.

بالطبع بعض أحداث هذه القصّة ـ مثل مدّة نوم أصحاب الكهف ـ تختلف عمّا ورد في المصادر الإسلامية ، فالقرآن يقول ـ وبصراحة ـ بأنّ نومهم كان (٣٠٩) سنة.

من جانب ثان وطبقا لما ينقله ياقوت الحموي في معجم البلدان (المجلد الثّاني ص ٨٠٦) وطبقا لما ينقله «ابن خردادبه» في كتاب «المسالك والممالك» (صفحة ١٠٦ ـ ١١٠) وطبقا ـ أيضا ـ لما يقوله ابو ريحان البيروني في الصفحة (٢٩٠) من كتاب «الآثار الباقية» : إنّ مجموعة من السوّاح القدماء قد وجدوا غارا في مدينة (آبس) فيه بعض الأجساد المتيبسة ، وقد احتملوا أن هذه الآثار تتعلق بقصّة أصحاب الكهف.

من سياق الآيات القرآنية في سورة الكهف ، وأسباب النّزول المذكورة في المصادر الإسلامية ، نستفيد أنّ الحادثة كانت أيضا معروفة بين علماء اليهود ، وأنّها كانت عندهم حادثة تأريخية مشهورة. وبذلك يتّضح ـ بدقة ـ أنّ قصّة النوم الطويل لأصحاب الكهف وردت في المصادر التأريخية للأقوام المختلفة(٢) .

وهنا قد يشك البعض في طول المدة التي قضاها أصحاب الكهف في نومهم ، ويعتبر أنّ ذلك لا ينطق مع المعايير العلمية ، لذلك يضعها في قسم الأساطير والقصص الخرافية (!!) والذرائع التي يستند إليها هؤلاء هي :

أوّلا : إنّ هذا العمر الطويل أمر غير مألوف في حياة الأشخاص العاديين

__________________

(١) أعلام القرآن ، ص ١٥٤.

(٢) المعاد والعالم بعد الموت ، ص ١٦٣ ـ ١٦٥.

٢٤٦

المستيقظين ، فكيف يصح تصوره لناس نيام؟!

ثانيا : إذا اقتنعنا بهذا العمر الطويل بالنسبة للأشخاص العاديين الذين يمارسون الحياة بشكل طبيعي ، فإنّ ذلك غير ممكن بالنسبة للنائمين ، لأنّ هناك مشكلة الطعام والشراب،إذ كيف يمكن للإنسان أن يبقى طيلة هذه المدّة بدون طعام أو شراب ، وإذا افترضنا مثلا أنّ الإنسان يحتاج يوميا إلى كيلو غرام واحد من الطعام أو لتر واحد من الماء ، فإنّ أصحاب الكهف كانوا بحاجة ، أثناء نومهم ، إلى (١٠٠) طن من الطعام و (١٠٠٠٠٠) لتر من الماء، ومن الطبيعي أنّ الجسم لا يستطيع خزن كل هذه الأحجام والكميات من الماء والطعام.

ثالثا : إذا تجاوزنا كل الأمور السابقة ، فسوف تكون أمامنا مشكلة جديدة ، وهي أن جسم الإنسان لا يستطيع أن يبقى كل هذه الفترة الطويلة من دون أن تتأثّر أجهزته وتتضرّر بأضرار فادحة.

إنّ هذه الأمور قد تبدو للوهلة الأولى مانعا من التصديق بقصّة أصحاب الكهف ، في حين أنّ الأمر ليس كذلك ، إذ يمكن مناقشة الأمور السابقة وفقا لما يلي :

أوّلا : لا تعتبر قضية العمر الطويل قضية غير علمية ، حيث أنّنا نعلم أنّ طول عمر أي كائن حي ليس لها من الوجهة العلمية ميزان ثابت من حيث المدّة والعمر ، بحيث يكون موت الكائن عند هذا الحد المفترض أمرا حتميا.

بعبارة أخرى : صحيح أنّ الطاقة الجسمية للإنسان مهمّا بلغت فهي محدودة ولا بدّ أن تنتهي ، إلّا أنّ هذا الكلام لا يعني أنّ جسم الإنسان ـ أو أي كائن حي آخر ـ ليست له قابلية البقاء أكثر من المقدار المألوف والمتعارف عليه.

أي إن المسألة ليست كالقوانين الطبيعية ، فمثلا الماء يغلي في درجة حرارة (١٠٠) مئوية ويتجمد في درجة الصفر المئوي ، فكذلك الإنسان إذا وصل إلى عمر المائة سنة أو المائة وخمسين سنة فإنّ قلبه سيتوقف عن العمل.

٢٤٧

إنّ المسألة ليست على هذه الشاكلة ، بل إنّ ميزان طول عمر الكائنات الحية يرتبط ارتباطا كبيرا بوضعهم المعيشي ، فعند ما تتغيّر الظروف بالكامل تكون الموازين قابلة للتغيير هي الأخرى.

والدليل على ما نقول ، هو أنّنا لم نر أحدا من علماء العالم قد حدّد ميزانا معينا لعمر الإنسان ، ومن جانب ثان استطاعوا من خلال تجارب مختبرية من زيادة عمر بعض الكائنات إلى الضعفين ، أو الثلاثة في بعض الأحيان ، واستطاعوا في أحيان أخرى أن يفعلوا ذلك بنسبة (١٢) مرّة أو أكثر قياسا للعمر المألوف.

واليوم فإنّ هؤلاء العلماء يأملون بأن الإنسان يمكنه ـ في المستقبل ومع ظهور أساليب علمية جديدة ـ أن يعيش عدّة أضعاف عمره الطبيعي.

هذا فيما يخص أصل قضية طول العمر.

ثانيا : أمّا فيما يخص الطعام والشراب أثناء فترة النوم الطويل ، فنقول : إنّ نوم أصحاب الكهف لو كان عاديا وطبيعيا فنستطيع عندها أن نقبل بالإشكالات والاعتراضات السابقة. أمّا من الوجهة العلمية فإنّ الأصول العلمية تقول : إنّ حاجة الجسم إلى الطاقة الغذائيه أثناء النوم أقل من حاجته إليها اليقظة ، إلّا أنّ الجسم مع ذلك لا يستطيع أن يدّخر ما يلزمه من طاقة غذائية لنوم طويل كنوم أصحاب الكهف.

وهنا ينبغي الالتفات إلى أنّ هناك أنواعا من النوم في عالم الطبيعة تكون فيها حاجة الجسم إلى الغذاء قليلة للغاية ، كما في حالة السبات مثلا.

حالة السبات :

هناك العديد من الأحياء تنام في فصل الشتاء ويسمّى نومها علميا بـ «السبات».

في هذا النوع من النوم تتوقف فعاليات الحياة تقريبا ، وتكون بأضعف حالة.

٢٤٨

فالقلب يتوقف عن العمل تقريبا ، وبعبارة أصح تكون ضرباته قليلة للغاية بحيث لا يمكن الإحساس بها أبدا.

في هذه الحالات يمكن تشبيه الجسم بالفرن العظيم الذي لا تبقى فيه بعد انطفائه سوى شعلة أو شمعة صغيرة دائبة الإشتغال. وواضح أنّ الطاقة التي تحتاجها هذه الأفران (من النفط أو غير) للاشتعال الطبيعي يعادل ما تحتاجه الشمعة الصغيرة من طاقة للاشتعال ، لعشرات أو مئات السنين. (يمكن أن نطبّق المثال على ما نحن فيه فتكون حالة اشتعال الفرن الطبيعي في شبيهة بحالة اليقظة ، أمّا حاله اشتعال الفرن على الشعلة الصغيرة فقط فهي شبيهة بحالة السبات والنوم الطويل).

من جهة أخرى يقول العلماء عن سبات بعض الأحياء : إنّنا إذا أخرجنا إحدى الزواحف وهي في حالة سبات ، فسوف نراها وكأنّها ميتة ، فلا هواء في رئتيها ، وضربات القلب ضعيفة بحيث لا يمكن الإحساس بها. ومن بين الحيوانات ذات الدم البارد نستطيع أن نعدّد الفراشات والحشرات والحلزون والزحافات وكلها تقوم بحاله السبات. كما أنّ بعض الحيوانات ذات الأثدية (ذات الدم الحار) تقوم بالسبات أيضا. وفي فترة السبات تكون الفعاليات الحياتية ضعيفة للغاية ، وتقوم الحيوانات السابتة باستهلاك المواد الدهنية المخزونة بالجسم بالتدريج»(١) .

المقصود من كل هذا العرض هو أن نقول : إنّ هناك نوعا من النوم تكون الحاجة فيه إلى الطعام قليلة جدّا ، وقد تصل النشاطات الحياتية في مثل هذه الحالة إلى درجة الصفر.

وبالمناسبة ، نذكر هنا أنّ هذا الأمر يساعد في منع تلاشي أعضاء الجسم أو تضرّر الأجهزة الجسمية ، ويعين ـ أيضا ـ على طول عمر الكائن الحي.

__________________

(١) اقتباس عن دائرة المعارف الفارسية الجديدة ، مادة (سبات).

٢٤٩

إنّ السبات بالنسبة للحيوانات التي لا تستطيع الحصول على غذائها فرصة ثمينة للغاية لكي تديم حياتها عن هذا الطريق.

نموذج آخر : دفن المرتاضين

فيما يخص المرتاضين يشاهد أنّ بعضهم يتمّ وضعه بالتابوت ويدفن أحيانا تحت التراب لمدّة أسبوع ، وذلك أمام عيون المشاهدين الحيارى التي لا تكاد تصدّق ما ترى ، وبعد أن تنتهي المدّة المقرّرة يتمّ إخراجه ويجري له التدليك والتنفس الاصطناعي حتى يعود إلى حالته الطبيعية.

وحتى لو افترضنا أن حاجة أجسادهم إلى الطعام غير ملحّة ، فإنّ الحاجة إلى الأوكسجين حاجة مهمّة للغاية ولا يمكن للجسم التخلّي عنها ، إذا نعرف هنا أنّ حساسية الخلايا المخية للاوكسجين وحاجتها إليه كبيرة للغاية ، بحيث إذا حرمت منها لبضعة دقائق فإنّها ستتلف.

والآن يتساءل : كيف يتحمّل الشخص المرتاض قلّة الأوكسجين مثلا لمدّة قد تصل إلى حدود الأسبوع؟

الجواب على هذا السؤال ـ ومع مراعاة ما ذكرناه قبل قليل ـ ليس بالأمر الصعب ، ففي هذه المدّة تتوقف (تقريبا) الفعاليات الحياتية لجسم المرتاض ، لذا فإنّ حاجة الخلايا للأوكسجين واستهلاكها لها ستقل بشدّة ، بحيث أنّ الهواء الموجود في فضاء التابوت يكفي في هذه المدّة لتغذية الخلايا.

تجميد جسم الإنسان وهو حي :

اليوم ثمّة نظريات كثيرة حول تجميد جسم الأحياء بما فيهم الإنسان (لزيادة العمر) وقد تمّ تنفيذ قسم من هذه النظريات في الوقت الحاضر.

طبقا لهذه النظريات ، فإنّه عند وضع جسم الإنسان أو أي حيوان في درجة

٢٥٠

حرارة تحت الصفر ـ بأسلوب خاص ـ فإنّ حياته ستتوقف بدون أن يموت. وبعد مدّة معينة يوضع الكائن في درجة حرارية معينة حيث يرجع إلى الحالة العادية.

وقد تمّ اقتراح مجموعة حالات من هذه الحالة للإفادة منها في الرحلات الفضائية إلى الكواكب البعيدة التي يستغرق الوصول إليها مئات أو آلاف السنين ، حيث يتمّ تجميد أجسام روّاد الفضاء في محفظة خاصّة ، وبعد سنين طويلة ، وعند الاقتراب من الكواكب المعنية ترجع الحرارة العادية إلى تلك المحفظة بشكل أوتوماتيكي ، وعندها سيعود هؤلاء الروّاد إلى حالتهم العادية دون أن يحدث أي ضرر لهم.

ذكرت إحدى المجلات العلمية أنّ كتابا صدر مؤخرا حول تجميد جسم الإنسان بهدف إطالة عمره بقلم «روبرت نيلسون» وكان لهذا الكتاب صدى واسعا في عالم المعرفة. ففي المقالة التي نشرتها تلك المجلة في هذا المجال ، ذكر الكاتب أنّه تمّ أخيرا إضافة فرع علمي جديد إلى الفروع العلمية الأخرى ، يتكفل التخصص في هذا المجال.

ونقرأ في تلك المقالة أيضا : «لقد كانت الحياة الأبدية ـ على طول التأريخ ـ حلما من الأحلام الذهبية والقديمة للإنسان ، وفي الوقت الحاضر فقد تحقق هذا الحلم ، والسبب يعود إلى التقدّم العجيب لعلم حديث يسمّى (كريونيك) وهو علم يرسل الإنسان إلى عوالم الانجماد ، ويحفظه على شكل جسد منجمد على أمل أن يستطيع العلماء إعادته يوما إلى الحياة مرّة أخرى.

هل يمكن تصديق هذا الكلام؟ هناك العديد من العلماء البارزين الذين يقومون بالتفكير في هذا الأمر من جوانبه المختلفة. وهناك نشريات كثيرة تقوم ببحث هذا الموضوع مثل (لايف) و (اسكواير) والصحف العالمية في مختلف أنحاء العالم. والأهم من ذلك أنّ هناك برنامج في هذا المجال هو قيد التنفيذ في

٢٥١

الوقت الحاضر(١) .

لقد أعلنت الصحف قبل مدّة عن اكتشاف سمكّة منجمدة بين ثلوج القطب الشمالي يعود عمرها إلى آلاف السنين ، كما تبيّن ذلك من طبقات الثلج القشرية ، وبعد أن وضعت السمكّة في ماء معتدل عادت إلى حياتها الطبيعية وبدأت بالحركة وسط دهشة الجميع.

ويتّضح من ذلك أنّ الأجهزة الحياتية لا تتوقف بالكامل في حالات الانجماد ، ولكن في هذه الظروف التي لا يمكن معها ممارسة الحياة الطبيعية يصبح عمل تلك الأجهزة بطيئا للغاية.

ومن مجموع هذه الأحاديث يتبيّن أنّه بالإمكان إيقاف الحياة أو تعويق حركتها بشدة والبحوث العلمية دعمت إمكانية ذلك من جوانب مختلفة. وفي مثل هذه الحالة يصل استهلاك البدن للطعام لدرجة الصفر تقريبا ، وبذا يكفيه المخزون القليل المدّخر في الجسم لإدامة الحياة البطيئة لسنوات طويلة.

ويجب أن لا يفسّر كلامنا هذا بأنّنا نستهدف انكار الجانب الإعجازي في نوم أصحاب الكهف ، بل نريد أن نقرّب الأمر للأذهان من وجهة نظر العلم. إذ من المحتم أنّ نوم أصحاب الكهف لم يكن نوما عاديا كمنامنا في الليل ، لقد كان نومهم ذا جنبة استثنائية، لذلك فلا عجب في نوم هؤلاء هذه المدّة الطويلة (بإرادة الله) من دون أن يكونوا بحاجة إلى الشراب والطعام ، ومن دون أن تتضرّر أجسامهم وأجهزتهم الحيويه.

والطريف في الأمر أنّنا نستفيد من آيات سورة الكهف أنّ طبيعة نومهم كانت تختلف عن النوم العادي :( وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقاظاً وَهُمْ رُقُودٌ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِراراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً ) (٢) . إنّ هذه الآية تدل على أن نومهم لم

__________________

(١) مجلة «دانشمند» ، عدد ٤٧ ، ص ٤.

(٢) الكهف ، ١٨.

٢٥٢

يكن نوما عاديا ، بل هو أشبه ما يكون بحالة الميت. (ذي العيون المفتوحة).

إضافة إلى ذلك تفيد آيات السورة أنّ نور الشمس لم يكن يشع داخل كهفهم ، ولأنّه من المحتمل أن يكون الكهف في جبال آسيا الصغرى ، وفي منطقة باردة ، فإنّ ذلك يعدّ مؤشرا على الحالة الاستثنائية لنومهم ، ومن جانب آخر فإنّ القرآن يقول :( وَنُقَلِّبُهُمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَذاتَ الشِّمالِ ) (١) .

ومن الآية يتبيّن أنّهم لم يكونوا على حالة واحدة ، وأنّ هناك عوامل وقوى غيبية خفية غير واضحة لنا كانت تقلبهم نحو اليمين واليسار (احتمالا في كل سنة مرّة واحدة) حتى لا تتضرّر أجسامهم.

والآن وبعد أن اتّضحت الجوانب العلمية في هذا البحث ، فإنّ المعاد لم يعد يحتاج إلى كلام كثير ، لأنّ اليقظة بعد ذلك النوم الطويل تشبه الحياة بعد الموت وتقرّب إلى الأذهان قضية المعاد(٢)

* * *

__________________

(١) الكهف ، ١٨.

(٢) لتفاصيل أكثر يراجع كتاب : المعاد والحياة بعد الموت.

٢٥٣

الآيات

( وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا وَاتَّبَعَ هَواهُ وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً (٢٨) وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ ناراً أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرابُ وَساءَتْ مُرْتَفَقاً (٢٩) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً (٣٠) أُولئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِياباً خُضْراً مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ نِعْمَ الثَّوابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً (٣١) )

٢٥٤

سبب النّزول

يروي المفسّرون في سبب نزول الآيات الأولى في هذا المقطع من سورة الكهف المباركة( وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ ) أنّ مجموعة من أشراف قريش ومن المؤلّفة قلوبهم جاؤوا إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقالوا له : يا رسول الله ، إن جلست في صدر المجلس ونحّيت عنّا هؤلاء وروائح صنانهم (كانت عليهم جباب الصوف)(١) جلسنا نحن إليك ، وأخذنا عنك ، لأنّه لا يمنعنا من الدخول عليك إلّا هؤلاء.

لقد كان هؤلاء الأشراف والمؤلفة قلوبهم يقصدون في كلامهم المستضعفين والفقراء من أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من أمثال سلمان الفارسي وأبي ذر الغفاري وصهيب وعمّار بن ياسر وخباب وغيرهم ممن كان على شاكلتهم ، إذ كان هؤلاء ممن التفّ حول رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ممن قربه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إليه.

لذلك اشترط الأشراف على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يطرد أمثال هؤلاء الفقراء عن مجلسه ونعتوهم بشتى النعوت.

وهنا نزلت الآية الكريمة على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ ) فلمّا نزلت الآية قام النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يلتمسهم فأصابهم في مؤخّر المسجد يذكرون اللهعزوجل ، فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «الحمد لله الذي لم يمتني حتى أمرني أن أصبر نفسي مع رجال من أمتي. معكم المحيا ومعكم الممات».

التّفسير

الحفاة الأطهار!

من الدروس التي نستفيدها من قصّة أصحاب الكهف أنّ مقياس قيمة البشر

__________________

(١) هذه الصفات أطلقها أشراف قريش والمؤلفة قلوبهم على المستضعفين من أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كأبي ذر وغيره.

٢٥٥

ليست بالمنصب الظاهري أو بالثروة ، بل عند ما يكون المسير في سبيل الله يتساوى الوزير والراعي ، والآيات التي نبحثها تؤكّد هذه الحقيقة المهمّة وتعطي للرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هذا الأمر:( وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ) إنّ استخدام تعبير( اصْبِرْ نَفْسَكَ ) هو إشارة إلى حقيقة أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان قد تعرّض إلى ضغط الأعداء المستكبرين والمشركين حتى يبعد عنه مجموع المؤمنين الفقراء ، لذلك جاءه الأمر الإلهي بالصبر والاستقامة أمام هذا الضغط المتزايد وأن لا يستسلم له. إنّ استخدام تعبير( بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِ ) إشارة إلى أنّهم كانوا دائما وأبدا يذكرون الله.

أمّا استخدام مصطلح( يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ) (١) فهو دليل على إخلاصهم وإشارة إلى أنّهم يعبدون الله لذاته لا طمعا بالجنة (بالرغم من نعمها الكبيرة والثمينة) ولا خوفا من الجحيم وعذابه (بالرغم من شدّة عذابها) بل يعبدون الله لأجل ذاته المنزّهة ، وهذه أعلى مرتبة في الطاعة والعبودية والحبّ والإيمان بالله تعالى.

ثمّ تستمر الآيات مؤكّدة خطابها للرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا ) (٢) فلا تنظر إلى هؤلاء المستكبرين بدل المستضعفين من أجل بهارج الدنيا وزخارفها.

ثمّ من أجل التأكيد مجددا يقول تعالى :( وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا ) .

( وَاتَّبَعَ هَواهُ ) والمطيع لاهوائه النّفسية ، والمفرط في أفعاله دائما( وَكانَ

__________________

(١) فيما يخص معنى (وجه) وأنها تأتي في بعض الأحيان بمعنى (الذات) وأحيانا بمعنى (وجه الإنسان) وفي سبب انتخاب ذلك في هذه الموارد فيما يخص كل ذلك يمكن مراجعة ما كتبناه مفصلا لدى تفسير الآية (٢٧٢) من سورة البقرة في تفسيرنا هذا.

(٢) (لا تعد) مأخوذة من كلمة «عدا يعدو و...» وهي بمعنى تجاوز الشيء وبذا يصبح مفهوم الجملة (لا تبعد عينيك عنهم كي تنظر إلى الآخرين).

٢٥٦

أَمْرُهُ فُرُطاً ) (١) .

الطريف هنا أنّ القرآن وضع هاتين المجموعتين في مقابل بعضهما من حيث الصفات، وكان الأمر كما يلي :

مؤمنون حقيقيون إلّا أنّهم فقراء ، ولهم قلوب مملوءة بحبّ الله ، يذكرونه باستمرار ويسعون إليه.

الأغنياء المستكبرون الغافلون عن ذكر الله ، والذين لا يتبعون سوى هواهم ، وخارجون عن حدّ الاعتدال في كل أمورهم ويفرطون ويسرفون.

إنّ الموضوع ـ أعلاه ـ من الأهمية بمكان ، بحيث أنّ القرآن يقول للرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ بصراحة ـ في الآية التي بعدها :( وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ ) .

ولكن اعلموا أنّ هؤلاء عباد الدنيا الذين يسخرون من الألبسة الخشنة التي يرتديها أمثال سلمان وأبي ذر خاصّة ، والذين يعيشون حياة مرفهة باذخة ومليئة بالزينة ، ستنتهي عاقبهم إلى سوء وظلام وعذاب :( إِنَّا أَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ ناراً أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها ) .

نعم ، إنّهم كانوا اعطشوا في هذه الدّنيا كان الخدم يجلبون لهم أنواع المشروبات ، ولكنّهم عند ما يطلبون الماء في جهنّم يؤتي إليهم بماء كالمهل :( وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ ) (٢) .

( بِئْسَ الشَّرابُ ) .

ثمّ( وَساءَتْ مُرْتَفَقاً ) (٣) .

__________________

(١) «فرط» تعني التجاوز عن الحد ، وكل شيء يخرج عن حدّه ويتحول إلى إسراف يقال له (فرط).

(٢) «مهل» على وزن «قفل» وهي تعني كما يقول الراغب في المفردات : هي المقدار المترسب من الدهن والذي يكون عادة ملوثا بأشياء وسخة ورديئة الطعم ، إلّا أنّ بعضا آخر من المفسّرين يقولون بأنّها تعني أي معدن مذاب.

والظاهر أنّ تعبير (يشوي الوجوه) يرجّح المعنى الثّاني.

(٣) «مرتفق» من كلمة «رفق ورفيق» بمعنى محل اجتماع الأصدقاء.

٢٥٧

تصوروا هل يمكن شرب الماء الذي إذا اقترب من الوجه فإنّ حرارته ستشوي الوجه؟إن ذلك بسبب أنّهم شربوا في الدنيا أنواع المشروبات المنعشة والباردة ، في حين أنّهم أجّجوا في قلوب المحرومين نيرانا ، إنّ هذه النار هي نفسها التي تجسدت في الآخرة بهذا الشكل.

والطريف في أمر هؤلاء أنّ القرآن ذكر لهم بعض «التشريفات» وهم في جهنّم. لقد كان لهؤلاء في حياتهم الدنيا (سرادق) عالية وباذخة ليس فيها نصيب للفقراء ، وهذه السرادق ستتحوّل إلى خيام عظيمة من لهيب نار جهنّم!

وفي هذه الدنيا تتوفر لديهم أنواع المشروبات التي تحضر بين أيديهم بمجرّد مناداة الساقي ، وفي جهنّم يوجد أيضا ساق وأشربة ، أمّا ما هو نوع الشراب؟ إنّه ماء كالمعدن المذاب! حرارته كحرارة دموع اليتامى وآهات المستضعفين والفقراء الذين ظلمهم هؤلاء الأغنياء! نعم ، إنّ كل ما هو موجود هناك (في الآخرة) هو تجسيد لما هو موجود هنا (في الدنيا).

وبما أنّ أسلوب القرآن أسلوب تربوي وتطبيقي ، فإنّه بعد ما بيّن أوصاف وجزاء عبيد الدنيا ، ذكر حال المؤمنين الحقيقيين وجوائزهم الثمينة الغالية التي تنتظرهم جزاء ما فعلوا. لقد أجملت الآية كل ذلك بشكل مختصر ، ثمّ بشكل تفصيلي نوعا ما.

ففي البدء قال تعالى :( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً ) أي إنّنا لا نضيع أعمال العاملين قليلة كانت أو كثيرة ، كلية أو جزئية ، ومن أي شخص وفي أي عمر كان :

( أُولئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ ) (الجنات الخالدة).

( تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ ) (من تحت الأشجار والقصور).

( يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ ) (١) .

__________________

(١) «أساور» جمع «أسورة» على وزن «مشورة» وهي بدورها جمع (سوار) على وزن (غبار) و (كتاب) وهي في

٢٥٨

( وَيَلْبَسُونَ ثِياباً خُضْراً مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ ) (من حرير ناعم وسميك).

( مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ ) (١) .

( نِعْمَ الثَّوابُ ) .

( وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً ) (وحسنت مجمعا للأحبّة).

* * *

بحوث

١ ـ الرّوح الطبقية مشكلة اجتماعية كبيرة

ليست الآيات الآنفة الذكر ـ وحدها ـ تحارب تقسيم المجتمع إلى مجموعتين من الأغنياء والفقراء ، بل إنّنا نجد الكثير من الآيات القرآنية الأخرى ، ممّا ذكرنا سابقا أو سنذكرها لاحقا ، تؤكّد جمعها على هذا الموضوع.

إنّ المجتمع الذي تكون فيه مجموعة (وهي أقلية في الغالب) مرفهة وغارقة في الإسراف والتبذير وملوّثة بأنواع المفاسد ، سيكون في مقابل هؤلاء مجموعة أخرى ، هم الأكثرية التي لا تملك أبسط وسائل الحياة الإنسانية. ومثل هذا المجتمع يرفضه الإسلام وليس مجتمعا إنسانيا.

مثل هذا المجتمع سوف لا يرى الاستقرار أبدا ، وسوف يلقي الاستعمار والاستكبار وأشكال الظلم والعبودية بضلال عليه. وغالبا ما تقوم الحروب الدامية في مثل هذه المجتمعات ولا تنتهي الاضطرابات فيها أبدا.

ومن الطبيعي أن يتساءل المرء عن أسباب تكدّس النعم الإلهية بيد حفنة معدودة من الناس وبدون سبب ، بينما الأكثرية تعيش الفقر والألم والعذاب

__________________

الأصل مأخوذة من كلمة فارسية عرّبت واشتقت منها الأفعال العربية.

(١) «أرائك» جمع «أريكة» وتطلق على السرير الذي تكون جوانبه جميعا مغطاة ، وهي في الأصل ـ كما يقول الراغب ـ مأخوذة من (أراك) وهي شجرة معروفة كان العرب يصنعون منها مظلّة ؛ أو من (أروك) بمعنى الإقامة والتوّقف.

٢٥٩

والمرض؟

إنّ مثل هذا المجتمع يكون مملوءا ـ حتما ـ بالكراهية والحسد والكبر والعداء والغرور والظلم والتكّبر ، وكل عوامل الفساد الأخرى.

ولو دققنا النظر في تأريخ النّبوات لرأينا أنّ الأنبياءعليهم‌السلام بأجمعهم ، وخصوصا رسول الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واجهوا هذا النظام المنحرف والظالم ورموزه من الأغنياء الظالمين من أجل تأمين عوامل الاستقرار داخل المجتمع.

في مثل هذه المجتمعات الطبقية تكون جلسات واجتماعات المترفين منفصلة عن مجالس الفقراء ، وأماكنهم ، وكذا الحال بالنسبة لمراكز الترفيه وما إلى ذلك. (هذا إذا كان الفقراء يملكون في الأصل مراكز للترفيه). ثمّ إنّ العادات والتقاليد تختلف بين المجموعتين تماما.

إنّ هذا الانفصال المجافي للروح الإنسانية ، وروح كل القوانين السماوية ، لن يتحملها أي رجل إلهي. وقد كان مثل هذا الوضع حاكما بشدّة في المجتمع العربي الجاهلي ، حتى كان هؤلاء يعتبرون التفاف الفقراء من أمثال سلمان وأبو ذر حول رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من أكبر العيوب (!!) ولكن لم يعلم هؤلاء الأغنياء أن قلوب الفقراء هؤلاء مملوءة بحب الله والإيمان وبصفات الشهامة والإيثار.

في المجتمع الجاهلي الذي عاصر النّبي المصلح نوحعليه‌السلام ، قال المترفون من الملأ عبيد الدنيا مخاطبين نوحاعليه‌السلام : لماذا اتبعك الذين هم أراذلنا (على حدّ قولهم) ولقد حكى القرآن اعتراضهم هذا في الآية (٢٧) من سورة هود في قوله تعالى :( فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ما نَراكَ إِلَّا بَشَراً مِثْلَنا وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا ) .

وهكذا نرى أنّ عبيد الدنيا وأتباع الهوى هؤلاء يرفضون الجلوس ـ حتى للحظات ـ قرب الفقراء المؤمنين!

ولاحظنا ـ أيضا ـ كيف أن رسول الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بطرده للمجموعة الأولى

٢٦٠

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576