الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٩

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل10%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 576

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 576 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 264244 / تحميل: 11785
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٩

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

من بين المسلمين علماء في كافة التخصصات للرجوع إليهم.

وينبغي التنويه هنا إلى ضرورة الرجوع إلى المتخصص الثابت علمه وتمكنه في اختصاصه، بالإضافة إلى توفر عنصر الإخلاص في عمله فهل يصح أن نراجع طبيبا متخصصا ـ على سبيل المثال ـ غير مخلص في علمه؟!

ولهذا وضع شرط العدالة في مسائل التقليد إلى جانب الاجتهاد والأعلمية ، أي لا بدّ لمرجع التقليد من أن يكون تقيا ورعا بالإضافة إلى علميته في المسائل الإسلامية.

* * *

٢٠١

الآيات

( أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (45) أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ (46) أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (47) )

التّفسير

لكلّ ذنب عقابه :

ثمّة ربط في كثير من بحوث القرآن بين الوسائل الاستدلالية والمسائل الوجدانية بشكل مؤثر في نفوس السامعين ، والآيات أعلاه نموذج لهذا الأسلوب.

فالآيات السابقة عبارة عن بحث منطقي مع المشركين في شأن النّبوة والمعاد ، في حين جاءت هذه الآيات بالتهديد للجبابرة والطغاة والمذنبين.

فتبتدأ القول :( أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئاتِ ) من الذين حاكوا الدسائس المتعددة حسبا منهم لإطفاء نور الحق والإيمان( أَنْ يَخْسِفَ اللهُ بِهِمُ الْأَرْضَ ) .

فهل ببعيد (بعد فعلتهم النكراء) أن تتزلزل الأرض زلزلة شديدة فتنشق القشرة الأرضية لتبتلعهم وما يملكون ، كما حصل مرارا لأقوام سابقة؟!

٢٠٢

«مكروا السيئات» : بمعنى وضعوا الدسائس والخطط وصولا لأهدافهم المشؤمة السيئة ، كما فعل المشركون للنيل من نور القرآن ومحاولة قتل النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وما مارسوه من إيذاء وتعذيب للمؤمنين المخلصين.

«يخسف» : من مادة «خسف» ، بمعنى الاختفاء ، ولهذا يطلق على اختفاء نور القمر في ظل الأرض اسم (الخسوف) ، يقال (بئر مخسوف) للذي اختفى ماؤه ، وعلى هذا يسمّى اختفاء الناس والبيوت في شق الأرض الناتج من الزلزلة خسفا.

ثمّ يضيف :( أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ ) أي عند ذهابهم ومجيئهم وحركتهم في اكتساب الأموال وجمع الثروات.( فَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ ) .

وكما قلنا سابقا ، فإنّ «معجزين» من الإعجاز بمعنى ازالة قدرة الطرف الآخر ، وهي هنا بمعنى الفرار من العذاب ومقاومته.

أو أنّ العذاب الإلهي لا يأتيهم على حين غفلة منهم بل بشكل تدريجي ومقرونا بالأنذار المتكرر :( أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ ) .

فاليوم مثلا ، يصاب جارهم ببلاء ، وغدا يصاب أحد أقربائهم ، وفي يوم آخر تتلف بعض أموالهم والخلاصة ، تأتيهم تنبيهات وتذكيرات الواحدة تلو الأخرى ، فإن استيقظوا فما أحسن ذلك ، وإلّا فسيصيبهم العقاب الإلهي ويهلكهم.

إنّ العذاب التدريجي في هذه الحالات يكون لاحتمال أن تهتدي هذه المجموعة ، واللهعزوجل لا يريد أن يعامل هؤلاء كالباقين( فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ ) .

ومن الملفت للنظر في الآيات مورد البحث ، ذكرها لأربعة أنواع من العذاب الإلهي :

الأوّل : الخسف.

الثّاني : العقاب المفاجئ الذي يأتي الإنسان على حين غرة من أمره.

الثّالث : العذاب الذي يأتي الإنسان وهو غارق في جمع الأموال وتقلبه في

٢٠٣

ذلك.

الرّابع : العذاب والعقاب التدريجي.

والمسلم به أنّ نوع العذاب يتناسب ونوع الذنب المقترف ، وإن وردت جميعها بخصوص( الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئاتِ ) لعلمنا أنّ أفعال الله لا تكون إلّا بحكمة وعدل.

وهنا لم نجد رأيا للمفسّرين ـ في حدود بحثنا ـ حول هذا الموضوع ، ولكن يبدو أنّ النوع الأوّل من العقاب يختص بأولئك المتآمرين الذين هم في صف الجبارين والمستكبرين كقارون الذي خسف الله تعالى به الأرض وجعله عبرة للناس ، مع ما كان يتمتع به من قدرة وثروة.

أمّا النوع الثّاني فيخص المتآمرين الغارقين بملذات معاشهم وأهوائهم ، فيأتيهم العذاب الإلهي بغتة وهم لا يشعرون.

والنوع الثّالث يخص عبدة الدنيا المشغولين في دنياهم ليل نهار ليضيفوا ثروة إلى ثروتهم مهما كانت الوسيلة ، حتى وإن كانت بارتكاب الجرائم والجنايات وصولا لما يطمحون له! فيعذبهم الله تعالى وهم على تلك الحالة(1) .

وأمّا النوع الرّابع من العذاب فيخص الذين لم يصلوا في طغيانهم ومكرهم وذنوبهم إلى حيث اللارجعة ، فيعذبهم الله بالتخويف. أي يحذرهم بإنزال العذاب الأليم في أطرافهم فإن استيقظوا فهو المطلوب ، وإلّا فسينزل العذاب عليهم ويهلكهم.

وعلى هذا ، فإنّ ذكر الرأفة والرحمة الإلهية ترتبط بالنوع الرّابع من الذين مكروا السّيئات ، الذين لم يقطعوا كل علائقهم مع الله ولم يخربوا جميع جسور العودة.

* * *

__________________

(1) مع أنّ «التقلب» لغة ، بمعنى التردد والذهاب والمجيء ، مطلقا ولكن في هكذا موارد ـ كما قال أكثر المفسّرين وتأييد الرّوايات لذلك ـ بمعنى التردد في طريق التجارة وكسب المال ـ فتأمل.

٢٠٤

الآيات

( أَوَلَمْ يَرَوْا إِلى ما خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ سُجَّداً لِلَّهِ وَهُمْ داخِرُونَ (48) وَلِلَّهِ يَسْجُدُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مِنْ دابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (49) يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ (50) )

التّفسير

سجود الكائنات للهعزوجل :

تعود هذه الآيات مرّة أخرى إلى التوحيد بادئة ب :( أَوَلَمْ يَرَوْا إِلى ما خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ سُجَّداً لِلَّهِ وَهُمْ داخِرُونَ ) (1) .

أي : ألم يشاهد المشركون كيف تتحرك ظلال مخلوقات الله يمينا وشمالا لتعبر عن خضوعها وسجودها له سبحانه؟!

ويقول البعض : إنّ العرب تطلق على الظلال صباحا اسم (الظل) وعصرا

__________________

(1) داخر : في الأصل من مادة (دخور) أي : التواضع.

٢٠٥

(الفيء) ، وإذا ما نظرنا إلى تسمية (الفيء) لقسم من الأموال والغنائم لوجدنا إشارة لطيفة لحقيقة إنّ أفضل غنائم وأموال الدنيا لا تلبث أن تزول ولا يعدو كونها كالظل عند العصر.

ومع ملاحظة ما اقترن بذكر الظلال في هذه الآية من يمين وشمال ، وإنّ كلمة الفيء استعملت للجميع فيستفاد من ذلك : أن الفيء هنا ذو معنى واسع يشمل كل أنواع الظلال.

فعند ما يقف الإنسان وقت طلوع الشمس متجها نحو الجنوب فإنّه سيرى شروق قرص الشمس من الجهة اليسرى لأفق الشرق ، فتقع ظلال جميع الأشياء المجسمة على يمينه (جهة الغرب) ، ويستمر هذا الأمر حتى تقترب الظلال نحو الجهة اليمنى لحين وقت الظهر، وعندها ستتحول الظلال إلى الجهة المعاكسة (اليسرى) وتستمر في ذلك حتى وقت الغروب فتصبح طويلة وممتدة نحو الشرق ، ثمّ تغيب وتنعدم عند غروب الشمس.

وهنا يعرض الباري سبحانه حركة ظلال الأجسام يمينا وشمالا بعنوانها مظهرا لعظمته جل وعلا واصفا حركتها بالسجود والخضوع.

أثر الظلال في حياتنا :

ممّا لا شك فيه أنّ لظلال الأجسام دور مؤثر في حياتنا ، ولعل الكثير منّا غير ملتفت إلى هذه الحقيقة ، فوضع القرآن الكريم إصبعه على هذه المسألة ليسترعي الانتباه لها.

للظلال (التي هي ليست سوى عدم النّور) فوائد جمّة :

1 ـ كما أنّ لأشعة الشمس دور أساسي في حياتنا ، فكذلك الظلال ، لأنّها تقوم بعملية تعديل شدّة الحرارة لأشعة الشمس.

إنّ الحركة المتناوبة للظلال تحفظ حرارة الشمس لحد متعادل ومؤثر ، وبدون

٢٠٦

الظلال فسيحترق كل شيء أمام حرارة الشمس الثابتة وبدرجة واحدة ولمدّة طويلة.

2 ـ وثمّة موضوع مهم آخر وربّما على خلاف تصور معظم الناس ، ألا وهو :إنّ النّور ليس هو السبب الوحيد في رؤية الأشياء ، بل لا بدّ من اقتران الظل بالنّور لتحقيق الرؤية بشكل طبيعي.

وبعبارة أخرى : إنّ النّور لو كان يحيط بجسم ما ويشع عليه باستمرار بما لا يكون هناك مجالا للظل أو نصف الظل ، فإنّه والحال هذه لا يمكن رؤية ذلك الجسم وهو غارق بالنّور

أي : كما أنّه لا يمكن رؤية الأشياء في الظلمة القائمة ، فكذا الحال بالنسبة للنور التام ، ويمكن رؤية الأشياء بوجود النّور والظلمة (النّور والظلال).

وعلى هذا يكون للظلال دور مؤثر جدّا في مشاهدة وتشخيص ومعرفة الأشياء وتمييزها ـ فتأمل.

وثمّة ملاحظة أخرى في الآية : وهي : ورود «اليمين» بصيغة المفرد في حين جاءت الشمال بصيغة الجمع «شمائل».

فالاختلاف في التعبير يمكن أن يكون لوقوع الظل في الصباح على يمين الذي يقف مواجها للجنوب ثمّ يتحرك باستمرار نحو الشمال حتى وقت الغروب حين يختفي في أفق الشرق(1) .

واحتمل المفسّرون أيضا : مع أن كلمة (اليمين) مفردا إلّا أنّه يمكن أن يراد بها الجمع في بعض الحالات ، وهي في هذه الآية تدل على الجمع(2) .

وجاء في الآية أعلاه ذكر سجود الظلال بمفهومه الواسع ، أما في الآية التالية فقد جاء ذكر السجود بعنوانه برنامجا عاما شاملا لكل الموجودات المادية وغير

__________________

(1) تفسير القرطبي ، ضمن تفسير الآية.

(2) تفسير أبو الفتوح الرازي ، ج 7 ، ص 110.

٢٠٧

المادية ، وفي أي مكان ، فيقول :( وَلِلَّهِ يَسْجُدُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مِنْ دابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ ) ، مسلمين لله ولأوامره تسليما كاملا.

وحقيقة السجود نهاية الخضوع والتواضع والعبادة ، وما نؤديه من سجود على الأعضاء السبعة ما هو إلّا مصداق لهذا المفهوم العام ولا ينحصر به.

وبما أنّ جميع مخلوقات الله في عالم التكوين والخلق مسلمة للقوانين العامّة لعالم الوجود، التي أفاضتها الإرادة الإلهية فإنّ جميع المخلوقات في حالة سجود له جلّ وعلا ، ولا ينبغي لها أن تنحرف عن مسير هذه القوانين ، وكلها مظهرة لعظمة وعلم وقدرة الباريعزوجل ، ولتدلل على أنّها آية على غناه وجلاله والخلاصة : كلها دليل على ذاته المقدسة.

«الدابة» : بمعنى الموجودات الحية ، ويستفاد من ذكر الآية لسجود الكائنات الحية في السماوات والأرض على وجود كائنات حية في الأجرام السماوية المختلفة علاوة على ما موجود على الأرض.

وقد احتمل البعض : عبارة «من دابة» قيد لـ «ما في الأرض» فقط ، أي : إنّ الحديث يختص بالكائنات الحية الموجودة على الأرض.

ويبدو ذلك بعيدا بناء على ما جاء في الآية (29) من سورة الشورى( وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَثَّ فِيهِما مِنْ دابَّةٍ ) .

صحيح أنّ السجود والخضوع التكويني لا ينحصر بالكائنات الحية ، ولكنّ تخصيص الإشارة بها لما تحمله من أسرار وعظمة الخلق أكثر من غيرها.

وبما أنّ مفهوم الآية يشمل كلا من : الإنسان العاقل المؤمن ، والملائكة ، والحيوانات الأخرى ، فقد استعمل لفظ السجود بمعناه العام الذي يشمل السجود الاختياري والتشريعي وكذا التكويني الاضطراري.

أمّا الإشارة إلى الملائكة بشكل منفصل في الآية فلأنّ الدابة تطلق على الكائنات الحيّة ذات الجسم المادي فقط ، بينما للملائكة حركة وحضور وغياب ،

٢٠٨

ولكن ليس بالمعنى المادي الجسماني كي تدخل ضمن مفهوم «الدابة».

وروي في حديث النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «إنّ لله تعالى ملائكة في السماء السابعة سجودا منذ خلقهم إلى يوم القيامة ، ترعد فرائصهم من مخافة الله تعالى ، لا تقطر من دموعهم قطرة إلّا صارت ملكا ، فإذا كان يوم القيامة رفعوا رؤوسهم وقالوا : ما عبدناك حق عبادتك»(1) .

أمّا جملة( وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ ) فإشارة لحال وشأن الملائكة التي لا يداخلها أيّ استكبار عند سجودها وخضوعها للهعزوجل .

ولهذا ذكر صفتين للملائكة بعد تلك الآية مباشرة وتأكيدا لنفي حالة الاستكبار عنهم :( يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ ) .

كما جاء في الآية (6) من سورة التحريم في وصف جمع من الملائكة :( لا يَعْصُونَ اللهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ ) .

ويستفاد من هذه الآية بوضوح أنّ علامة نفي الاستكبار شيئان :

أ ـ الشعور بالمسؤولية وإطاعة الأوامر الإلهية من دون أي اعتراض ، وهو وصف للحالة النفسية لغير المستكبرين.

ب ـ ممارسة الأوامر الإلهية بما ينبغي والعمل وفق القوانين المعدة لذلك

وهذا انعكاس للأول ، وهو التحقيق العيني له.

وممّا لا ريب فيه أنّ عبارة( مِنْ فَوْقِهِمْ ) ليست إشارة إلى العلو الحسي والمكاني ، بل المراد منها العلو المقامي ، لأنّ اللهعزوجل فوق كل شي مقاما.

كما نقرأ في الآية (61) من سورة الأنعام :( وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ ) ، وكذلك في الآية (127) من سورة الأعراف :( وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قاهِرُونَ ) حينما أراد فرعون أن يظهر قدرته وقوته!

* * *

__________________

(1) مجمع ذيل البيان ، ذيل الآية المبحوثة.

٢٠٩

الآيات

( وَقالَ اللهُ لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (51) وَلَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ واصِباً أَفَغَيْرَ اللهِ تَتَّقُونَ (52) وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ (53) ثُمَّ إِذا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (54) لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (55) )

التّفسير

دين حق ومعبود واحد :

تتناول هذه الآيات موضوع نفي الشرك تعقيبا لبحث التوحيد ومعرفة الله عن طريق نظام الخلق الذي ورد في الآيات السابقة ، لتتّضح الحقيقة من خلال المقارنة بين الموضوع ، ويبتدأ ب :( وَقالَ اللهُ لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ ) .

وتقديم كلمة «إيّاي» يراد بها الحصر كما في «إيّاك نعبد» أي : يجب الخوف

٢١٠

من عقابي لا غير.

ومن الملفت للنظر أنّ الآية أشارت إلى نفي وجود معبودين في حين أن المشركين كانوا يعبدون أصناما متعددة.

ويمكن أن يكون ذلك إشارة إلى إحدى النقاط التالية أو إلى جميعها :

1 ـ إنّ الآية نفت عبادة اثنين ، فكيف بالأكثر؟!

وبعبارة أخرى : إنّها بيّنت الحد الأدنى للمسألة ليتأكّد نفي الأكثر ، وأيّ عدد ننتخبه (أكثر من واحد) لا بدّ له أن يمر بالإثنين.

2 ـ كل ما يعبد من دون الله جمع في واحد ، فتقول الآية : أن لا تعبدوها مع الله ، ولا تعبدوا إلهين (الحق والباطل).

3 ـ كان العرب في الجاهلية قد انتخبوا معبودين :

الأوّل : خالق العالم ، أي اللهعزوجل وكانوا يؤمنون به.

والثّاني : الأصنام ، واعتبروها واسطة بينهم وبين الله ، واعتبروها كذلك منبعا للخير والبركة والنعمة.

4 ـ يمكن أن تكون الآية ناظرة إلى نفي عقيدة (الثنويين) القائلين بوجود إله للخير وآخر للشر ، ومع انتخابهم لأنفسهم هذا المنطق الضعيف الخاطئ ، إلّا إنّ عبدة الأصنام قد غالوا حتى في هذا المنطق وتجاوزوه لمجموعة من الآلهة!

وينقل المفسّر الكبير العلّامة الطبرسي في تفسير هذه الآية عبارة لطيفة نقلها عن بعض الحكماء : (نهاك ربك أن تتخذ إلهين فاتخذت آلهة ، عبدت : نفسك وهواك ، وطبعك ومرادك ، وعبدت الخلق فأنّى تكون موحدا).

ثمّ يوضح القرآن أدلة توحيد العبادة بأربعة بيانات ضمن ثلاث آيات فيقول أوّلا( وَلَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ) فهل ينبغي السجود للأصنام التي لا تملك شيئا ، أم لمن له ما في السموات والأرض؟

ثمّ يضيف :( وَلَهُ الدِّينُ واصِباً ) .

٢١١

فعند ما يثبت أن عالم الوجود منه ، وهو الذي أوجد جميع قوانينه التكوينية فينبغي أن تكون القوانين التشريعية من وضعه أيضا ، ولا تكون طاعة إلّا له سبحانه.

«واصب» : من «الوصوب» ، بمعنى الدوام. وفسّرها البعض بمعنى (الخالص) (ومن الطبيعي أن ما لم يكن خالصا لم يكن له الدوام. أما الذين اعتبروا «الدين» هنا بمعنى الطّاعة ، فقد فسّروا «واصبا» بمعنى الواجب ، أي : يجب إطاعة الله فقط.

ونقرأ في رواية عن الإمام الصادقعليه‌السلام أنّ شخصا سأله عن قول الله( وَلَهُ الدِّينُ واصِباً ) قال : «واجبا»(1) .

والواضح أنّ هذه المعاني متلازمة جميعها.

ثمّ يقول في نهاية الآية :( أَفَغَيْرَ اللهِ تَتَّقُونَ ) .

فهل يمكن للأصنام أن تصدّ عنكم المكروه أو أن تفيض عليكم نعمة حتى تتقوها وتواظبوا على عبادتها؟!

هذا( وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ ) .

فهذه الآية تحمل لبيان الثّالث بخصوص لزوم عبادة الله الواحد جلّ وعلا ، وأنّ عبادة الأصنام إن كانت شكرا على نعمة فهي ليست بمنعمة ، بل الكل بلا استثناء منّعمون في نعم الله تعالى ، وهو الأحق بالعبادة لا غيره.

وعلاوة على ذلك( ... ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ ) .

فإن كانت عبادتكم للأصنام دفعا للضر وحلا للمعضلات ، فهذا من الله وليس من غيره ، وهو ما تظهره ممارستكم عمليا حين إصابتكم بالضر ، فلمن تلتجئون؟ إنّكم تتركون كل شيء وتتجهون إلى الله.

وهذا البيان الرّابع حول مسألة التوحيد بالعبادة.

__________________

(1) تفسير البرهان ، ج 2 ، ص 373.

٢١٢

«تجئرون» : من مادة (الجؤار) على وزن (غبار) ، بمعنى صوت الحيوانات والوحوش الحاصل بلا اختيار عند الألم ، ثمّ استعملت كناية في كل الآهات غير الاختيارية الناتجة عن ضيق أو ألم.

إنّ اختيار هذه العبارة هنا إشارة إلى أنّه عند ما تتراكم عليكم الويلات ويحل بكم البلاء الشديد تطلقون حينها صرخات الإستغاثة اللااختيارية وأنتم بهذه الحال ، أتوجهون النداء لغيره سبحانه وتعالى؟! فلما ذا إذن في حياتكم الاعتيادية وعند ما تواجهون المشاكل اليسيرة تلتجئون إلى الأصنام؟!

نعم. فالله سبحانه يسمع نداءكم في كل الحالات ويغيثكم ويرفع عنكم البلاء( ثُمَّ إِذا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ ) بالعود إلى الأصنام!

وفي الحقيقة فالقرآن في الآية يشير إلى فطرة التوحيد في جميع الناس ، إلّا أنّ حجب الغفلة والغرور والجهل والتعصب والخرافات تغطيها في الأحوال الاعتيادية.

ولكن ، عند ما تهب عواصف البلاء تنقلع تلك الحجب فيظهر نور الفطرة براقا من جديد ليرى الناس لمن يتوجهون ، فيدعون الله مخلصين بكامل وجودهم ، فيرفع عنهم أغطية البلاء المتأتية من تلك الحجب ، (لاحظوا أنّ الآية قالت :( كَشَفَ الضُّرَّ ) أي : رفع أغطية البلاء).

ولكن عند ما تهدأ العاصفة ويرتفع البلاء وتعودون إلى شاطئ الأمان ، تعاودون من جديد على الغفلة والغرور ، وتظهرون الشرك بعبادتكم للأصنام مجددا!

وفي آخر آية (من الآيات مورد البحث) يأتي التهديد بعد إيضاح الحقيقة بالأدلة المنطقية :( لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ ) .

ويشبّه ذلك بتوجيه النصائح والإرشادات لمنحرف متخلف لا يفيد معه هذا الأسلوب المنطقي فيقطع معه الحديث باللين ليواجه بالتهديد عسى أن يرعوي

٢١٣

فيقال له : مع كل ما قلنا لك افعل ما شئت ولكن سترى نتيجة عملك عاجلا أم آجلا.

وعلى هذا فتكون اللام في «ليكفروا» يراد به التهديد ، وكذا «تمتعوا» أمر يراد به التهديد أيضا ، أمّا مجيء الفعل الأوّل بصيغة الغائب «ليكفروا» والثّاني بصيغة المخاطب «تمتعوا» ، فكأنه افترض غيابهم أوّلا فقال : ليذهبوا ويكفروا بهذه النعم ، وعند تهديدهم يلتفت إليهم ويقول : تمتعوا بهذه النعم الدنيوية قليلا فسيأتي اليوم الذي تدركون فيه عظم خطئكم وسترون عاقبة أعمالكم.

والآية (30) من سورة إبراهيم تشابه الآية المذكورة من حيث الغرض :( قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ ) (1)

* * *

__________________

(1) احتمل جمع من المفسّرين : أنّ «ليكفروا» غاية ونتيجة للشرك والكفر الذي نسب إليهم في الآية التي قبلها ، فيكون المعنى أنّهم بعد إنجائهم من الضر تركوا طريق التوحيد وساروا في طريق الشرك ليكفروا بنعم الله وينكرونها.

٢١٤

الآيات

( وَيَجْعَلُونَ لِما لا يَعْلَمُونَ نَصِيباً مِمَّا رَزَقْناهُمْ تَاللهِ لَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ (56) وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ سُبْحانَهُ وَلَهُمْ ما يَشْتَهُونَ (57) وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (58) يَتَوارى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ ما بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ أَلا ساءَ ما يَحْكُمُونَ (59) لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (60) )

التّفسير

عند ما كانت ولادة البنت عارا!

بعد أن عرضت الآيات السابقة بحوثا استدلالية في نفي الشرك وعبادة الأصنام ، تأتي هذه الآيات لتتناول قسما من بدع المشركين وصورا من عاداتهم القبيحة ، لتضيف دليلا آخرا على بطلان الشرك وعبادة الأصنام ، فتشير الآيات إلى ثلاثة أنواع من بدع وعادات المشركين:

٢١٥

وتقول أوّلا :( وَيَجْعَلُونَ لِما لا يَعْلَمُونَ نَصِيباً مِمَّا رَزَقْناهُمْ ) (1) .

وكان النصيب عبارة عن قسم من الإبل بقية من المواشي بالإضافة إلى قسم من المحاصيل الزراعية ، وهو ما تشير إليه الآية (136) من سورة الأنعام :( وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً فَقالُوا هذا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهذا لِشُرَكائِنا فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللهِ وَما كانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلى شُرَكائِهِمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ ) .

ثمّ يضيف القرآن الكريم قائلا :( تَاللهِ لَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ ) .

وسيكون بعد السؤال اعتراف لا مفر منه ثمّ الجزاء والعقاب ، وعليه فما تقومون به له ضرر مادي من خلال ما تعملونه بلا فائدة ، وله عقاب أخروي لأنّكم أسأتم الظن بالله واتجهتم إلى غيره.

أمّا البدعة الثّانية فكانت :( وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ سُبْحانَهُ ) من التجسم ومن هذه النسبة.( وَلَهُمْ ما يَشْتَهُونَ ) أي : إنّهم لم يكونوا ليقبلوا لأنفسهم ما نسبوا إلى الله ، ويعتبرون البنات عارا وسببا للشقاء!

وإكمالا للموضوع تشير الآية التالية إلى العادة القبيحة الثّالثة :( وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ ) .(2)

ولا ينتهي الأمر إلى هذا الحد بل( يَتَوارى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ ما بُشِّرَ بِهِ ) .

ولم ينته المطاف بعد ، ويغوص في فكر عميق :( أَيُمْسِكُهُ عَلى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي

__________________

(1) ذكر المفسرون رأيين في تفسير «ما لا يعلمون» وضميرها :

الأول : أن ضمير «لا يعلمون» يعود إلى المشركين أي أن المشركين يجعلون للأصنام نصيبا وهم لا يعلمون لها خيرا وشرا (وهذا ما انتخبناه من تفسير).

والثاني : إن الضمير يعود إلى نفس الأصنام ، أي يجعلون للأصنام نصيبا في حين أنها لا تدرك ، لا تعقل ، لا تعلم! والتفسير الثاني يظهر نوعا من التضاد بين عبارات الآية ، لأن «ما» تستعمل عادة لغير العاقل و «يعلمون» تستعمل للعاقل عادة.

أما في التفسير الأول فـ «ما» تعود على الأصنام و «يعلمون» على عبدتها.

(2) الكظيم : تطلق على الإنسان الممتلئ غضبا.

٢١٦

التُّرابِ ) .

وفي ذيل الآية ، يستنكر الباري حكمهم الظالم الشقي بقوله :( أَلا ساءَ ما يَحْكُمُونَ ) .

وأخيرا يشير تعالى إلى السبب الحقيقي وراء تلك التلوثات ، ألا هو عدم الإيمان بالآخرة :( لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) .

فكلّما اقترب الإنسان من العزيز الحكيم انعكس في روحه نور صفاته العليا من العلم والقدرة والحكمة وابتعد عن الخرافات والبدع والأفعال القبيحة.

وكلما ابتعد عنه تعالى غرق بقدر ذلك البعد في ظلمات الجهل والضعف والذلة والقبائح.

فالسبب الرئيسي لكل انحراف وقبح وخرافة هو الغفلة عن ذكر الله وعن محكمته العادلة في الآخرة ، أمّا ذكر الله والآخرة فدافع أصيل للإحساس بالمسؤولية ومحاربة الجهل والخرافة ، وعامل قدرة وقوة وعلم للإنسان.

* * *

بحوث

1 ـ لماذا اعتبروا الملائكة بناتا لله؟

تطالعنا الكثير من آيات القرآن الكريم بأنّ المشركين كانوا يقولون بأنّ الملائكة بنات الله جلّ وعلا ، أو أنّهم كانوا يعتبرون الملائكة إناثا دون نسبتها إلى الله

كما في الآية (19) من سورة الزخرف :( وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً ) ، وفي الآية (40) من سورة الإسراء :( أَفَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِناثاً ) .

٢١٧

يمكن أن تكون هذه الإعتقادات بقايا خرافات الأقوام السابقة التي وصلت عرب الجاهلية ، أو ربما يحصل هذا الوهم بسبب ستر الملائكة عنهم وحال الاستتار أكثر ما يختص بحال النساء ، ولهذا تعتبر العرب الشمس مؤنثا مجازيا والقمر مذكرا مجازيا أيضا ، على اعتبار أنّ قرص الشمس لا يمكن للناظر إليه أن يديم النظر لأنه يستر نفسه بقوة نوره ، أمّا قرص القمر فظاهر للعين ويسمح للنظر إليه مهما طالت المدّة.

وثمّة احتمال آخر يذهب إلى الكناية عن لطافة الملائكة ، والإناث أكثر من الذكور لطافة.

وعلى أية حال فهذه إحدى ترسبات الخرافات القديمة التي تكلست في مخيلة البشرية حتى وصلت للبعض ممن يعيش في يومنا هذا ، ولا تختص هذه الخرافة بقوم دون آخر لأنّنا نلاحظ وجودها في أدبيات عدد من لغات العالم! فنرى الأديب مثلا حينما يريد وصف جمال امرأة ينعتها بالملائكة ، وذاك الفنان الذي يريد أن يعبر عن الملائكة فيجعلها بهيئة النساء ، في حين أن الملائكة لا تملك جسما ماديا حتى يمكننا أن نصفه بالمذكر أو المؤنث.

2 ـ لما ذا شاع وأد البنات في الجاهلية؟

الوأد في واقعة أمر رهيب ، لأنّ الفاعل يقوم بسحق كل ما بين جوانحه من عطف ورحمة ، ليتمكن من قتل إنسان بريء ربّما هو من أقرب الأشياء إليه من نفسه!

والأقبح من ذلك افتخاره بعمله الشنيع هذا!

فأين الفخر من قتل إنسان ضعيف لا يقوى حتى للدفاع عن نفسه؟ بل كيف يدفن الإنسان فلذة كبده وهي حية؟!

وهذا ليس بالأمر الهيّن ، فأيّ إنسان ومهما بلغت به الوحشية لا يقدم على

٢١٨

هكذا جريمة بشعة من غير أن تكون لها مقدمات اجتماعية ونفسية واقتصادية عميقة الأثر والتأثير تدعوه لذلك

يقول المؤرخون : إنّ بداية وقوع هذا العمل القبيح كانت على أثر حرب جرت بين فريقين منهم في ذلك الوقت ، فأسر الغالب منهم نساء وبنات المغلوب ، وبعد مضي فترة من الزمن تمّ الصلح بينهم فأراد المغلوبون استرجاع أسراهم إلّا أنّ بعضا من الأسيرات ممن تزوجن من رجال القبيلة الغالبة اخترن البقاء مع الأعداء ورفضن الرجوع إلى قبيلتهن ، فصعب الأمر على آبائهن بعد أن أصبحوا محلا للوم والشماتة ، حتى أقسم بعضهم أن يقتل كل بنت تولد له كي لا تقع مستقبلا أسيرة بيد الأعداء!

ويلاحظ بوضوح ارتكاب أفظع جناية ترتكب تحت ذريعة الدفاع عن الشرف والناموس وحيثية العائلة الكاذبة فكانت النتيجة : ظهور بدعة وأد البنات القبيحة وانتشارها بين جمع منهم حتى أصبحت سنّة جاهلية ، ولفظاعتها فقد أنكرها القرآن الكريم بشدّة بقوله :( وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ ) (1) .

وثمّة احتمال آخر يذهب إلى دور الطبيعة الإنتاجية للأولاد الذكور ، والنزوع إلى الطبيعة الاستهلاكية عند الإناث ، وما له من أثر على الحياة الاجتماعية والاقتصادية ، فالولد الذكر بالنسبة لهم ذخر مهم ينفعهم في القتال والغارات وفي حفظ الماشية وما شابه ذلك من الفوائد ، في حين أنّ البنات لسن كذلك.

ومن جانب آخر فقد سببت الحروب والنزاعات القبلية قتل الكثير من الرجال والأولاد ممّا أدى لاختلال التوازن في نسبة الإناث إلى الذكور ، حتى وصل وجود الولد الذكر عزيزا ودفع الرجل لأن يتباهى بين قومه حين يولد له مولود ذكرا ، وينزعج ويتألم عند ولادة البنت ووصل حالهم لحد (كما يقول عنه

__________________

(1) سورة التكوير ، 9.

٢١٩

بعض المفسّرون) أنّ الرجل في الجاهلية يغيّب نفسه عن داره عند قرب وضع زوجته لئلا تأتيه بنت وهو في الدار! وإذا ما أخبروه بأنّ المولود ذكر فيرجع إلى بيته وبشائر الفرح تتعالى وجنتيه ، ولكنّ الويل كل الويل والثبور فيما لو أخبروه بأنّ المولود بنتا ويمتلئ غيظا وغضبا(1) .

وقصّة «الوأد» ملأى بالحوادث المؤلمة

منها : ما روي أنّ رجلا جاء إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأعلن إسلامه ، وجاءه يوما فسأله : إنّي أذنبت ذنبا عظيما فهل لي من توبة؟ فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إنّ الله تواب رحيم». قال : يا رسول الله إنّ ذنبي عظيم قال : «ويلك مهما كان ذنبك عظيما فعفو الله أعظم منه» ، قال : لقد سافرت في الجاهلية سفرا بعيدا وكانت زوجتي حبلى وعند ما عدت بعد أربع سنوات استقبلتني زوجتي فرأيت بنتا في الدار ، فقلت لها : ابنة من هذه؟ قالت : ابنة جازنا. فظننت أنّها سترحل عن دارنا بعد ساعة ، فلم تفعل ، ثمّ قلت لزوجتي:أصدقيني من هذه البنت؟ قالت : ألا تذكر أنّي كنت حاملة عند ما سافرت ، إنّها ابنتك. فنمت تلك الليلة مغتما ، أنام واستيقظ ، حتى اقترب وقت الصباح نهضت من فراشي وذهبت إلى فراش ابنتي فأخرجتها وأيقظتها وطلبت منها أن تصحبني إلى حائط النخل ، فتبعتني حتى اقتربنا من الحائط فأخذت بحفر حفيرة وهي تعينني على ذلك ، وعند ما انتهيت من ذلك وضعتها في وسط الحفرة وهنا فاضت عينا رسول الله بالدمع ثمّ وضعت يدي اليسرى على كتفها وأخذت أهيل التراب عليها بيدي اليمنى ، فأخذت تصرخ وتدافع بيديها ورجليها وتقول : أبي ما تصنع بي!؟ ثمّ أصاب لحيتي بعض التراب فرفعت يدها تمسحه عنها ، وأدمت ذلك حتى دفنتها.

__________________

(1) تفسير الفخر الرازي ، ج 20 ، ص 55.

٢٢٠

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

لخصوصيات هذه القصّة.

على أية حال هناك قولان راجحان من بين الاحتمالات الكثيرة المطروحة عن مكان الكهف ، يمكن أن نجملهما بما يلي :

أوّلا : إنّ هذه الحادثة وقعت في مدينة (أفسوس) وهذا الكهف كان يقع بالقرب منها.

ويمكن في الوقت الحاضر مشاهدة خرائب هذه المدينة بالقرب من مدينة (أزمير) التركية ، وبالقرب من قرية (أياصولوك) في جبال (ينايرداغ) حيث يوجد كهف لا يبتعد كثيرا عن (أفسوس).

إنّ هذا الكهف هو غار وسيع ، ويقال بأنّه يمكن في داخله مشاهدة آثار مئات القبور ، ويعتقد الكثيرون بأنّ هذا الغار هو غار أصحاب الكهف.

وقد نقل من شاهد الكهف أنّ فتحة الغار باتجاه الشمال الشرقي ، وقد كان هذا الموقع سببا في ترجيح شك بعض المفسّرين الكبار بكون هذا المكان هو غير غار أصحاب الكهف ، في حين أنّ هذا الوضع يؤيد صحة الموضوع ويرجح كون الغار هو الكهف المقصود لأنّ دلالة أن تكون الشمس عند الشروق على يمين الغار ، وعند الغروب على يساره ، هو أن تكون فتحة الغار باتجاه الشمال أو تميل قليلا نحو الشمال الشرقي.

بالطبع لا يقلّل من صحة الموضوع عدم وجود مسجد أو معبد إلى جانبه ، حيث يمكن أن تكون آثاره قد اندثرت بعد مرور حوالي (١٧) قرن على الحادث.

ثانيا : يقع الغار بالقرب من (عمّان) عاصمة الأردن ، وبالقرب من قرية تسمّى «رجيب».

ويمكن مشاهدة آثار صومعة فوق الغار تعود ـ وفقا لبعض القرائن ـ إلى القرن الخامس الميلادي ، حيث تحوّلت إلى مسجد ذي محراب ومئذنة بعد

٢٤١

سيطرة المسلمين على ذلك المكان.

٣ ـ الجوانب التربوية لقصّة أهل الكهف

هذه القصّة التأريخية العجبية التي يذكرها القرآن خالية من أي خرافة أو وضع ، وفيها العديد من الدروس التربوية البنّاءة ، تماما كما في قصص القرآن الأخرى ، وإذا كنّا قد أشرنا إلى هذه الدروس ضمن تفسير الآيات ، فإنّنا نرى من الضروري الآن أن نشير إليها بشكل مجمل حتى نقترب أكثر من الهدف الأساس للقرآن ، وفيما يلي أبرز هذه الدروس :

أ: إنّ أول دروس هذه القصّة هو تحطيم حاجز التقليد ، والابتعاد عن التلوّن بلون المجتمع الفاسد. فهؤلاء الفتية حافظوا ـ كما لا حظنا ـ على استقلالهم الفكري في قبال الأكثرية المنحرفة المحيطة بهم ، وهذا الأمر أصبح سببا في نجاتهم وتحرّرهم.

وينبغي للإنسان أن يكون له تأثير بناء على مجتمعه لا أن يكون مسايرا له.

ب : الهجرة من الأوساط المنحرفة درس آخر في هذه القصّة ذات العبر ، فهم قد تركوا بيوتهم وحياتهم المرفّهة المليئة بألوان النعم المادية ، وتركوا مناصبهم ، ورضوا بأنواع الصعوبات وأشكال الحرمان ـ في الغار الذي كان يفتقد كل شيء ـ لكي يحفظوا إيمانهم ، ولا يكونوا من عوامل وأعوان جهاز الظلم والجور والكفر والشرك(١) .

ج : التقية بمعناها البنّاء درس آخر نستفيده من هذه القصّة ، لقد كانوا يصرون على عدم اطّلاع أهل المدينة على حالهم وخبرهم ، واحتاطوا ليبقى أمرهم وحالهم مخفيا ، حتى لا يخسروا أنفسهم بدون سبب ، وكي يتجنبوا أن يجبروا

__________________

(١) من أجل المزيد من التفاصيل حول مسألة الهجرة وفلسفتها في الإسلام يمكن مراجعة ما جاء في تفسير الآية (١٠٠) من سورة النساء من تفسيرنا هذا.

٢٤٢

على الرجوع إلى المحيط المنحرف الذي تخلّصوا منه.

ونحن نعرف أنّ التقية ليست سوى أن يتكتم الإنسان على حقيقة أمره في الأماكن والمواقف التي لا يرتجي منها فائدة في ذكر الحقيقة ، بل تكون سببا للضرر. والتقية وقاية للنفس واحتفاظ بقوّة الإنسان لوقت جهاد العدو حيث لا تقية(١) .

د : عدم وجود تفاوت بين الناس وهم في طريق الله ، فالوزير كان إلى جانب الراعي ، بل كان الاثنان إلى جانب الكلب كان يقوم بالحراسة. وهذا درس آخر يتّضح من خلاله أنّ امتيازات الدنيا المادية ، والمناصب المختلفة ليس لها أدنى نصيب أو تأثير على تصنيف الناس من أهل الحق وسالكية ، إذ الكل فيه سواء إنّ طريق الحق هو طريق التوحيد ، وطريق التوحيد هو طرق وحدة جميع الناس.

ه : الإمدادات الإلهية العجيبة عند ظهور المشاكل ، هي نتيجة أخرى يجب الاعتبار بها ، فقد رأينا كيف قام الخالق جلّ وعلا بإنامة أصحاب الكهف كل تلك المدّة الطويلة ، من أجل إنقاذهم من تلك الظروف الاجتماعية الصعبة التي كانت تحيط بهم.

وقد أيقظهم جلّ وعلا في الوقت المناسب ، أي في الوقت الذي أصبحوا رمزا من رموز التوحيد ، وقد رأينا ـ كشكل من أشكال العناية ـ كيف أنّ الله تعالى حفظ أجسادهم خلال هذه المدّة من تأثيرات الأحداث والعوامل المختلفة ، وجعل من الرعب والخوف أسلوبا للحفاظ عليهم في قبال أعدائهم.

و: لقد تعلّمنا من أصحاب الكهف قيمة (طهارة الطعام) حتى في أصعب الظروف وأدقّها ، لأنّ طعام الإنسان له آثار عميقة في روحه وفكره وقلبه ، وعند ما يختلط الطعام بالحرام والنجاسة ، يبتعد الإنسان عن طريق الله ؛ طريق

__________________

(١) حول كون التقية أسلوبا للدفاع والوقاية ، يمكن مراجعة ما ذكرناه لدى تفسير الآية (٦٢) من سورة يونس من تفسيرنا هذا ، وكذلك ملاحظة الملاكات الفقهية لهذه المسألة في كتابنا «القواعد الفقهية».

٢٤٣

التقوى.

ز : ضرورة الاعتماد على مشيئة الله وطلب العون من لطفه تعالى : وقول (إن شاء الله) في كل ما يتعلق بأمور المستقبل درس آخر نتعلمه من قصّة أصحاب الكهف.

ح : لقد رأينا أنّ القرآن سمّاهم : ب (الفتية) في حين أنّهم ـ طبقا للرّوايات ـ لم يكونوا شبابا من حيث العمر ، وإذا عرفنا أنّهم كانوا في البداية وزراء الملك الجبار ، يتأكد لنا أنّهم لم يكونوا صغارا من حيث العمر. ولكن تسمية القرآن لهم ب (الفتية) للدلالة على صفات الشهامة والرشد والطهر والفتوة العفو والتسامح.

ط : ضرورة النقاش المنطقي مع المعارضين درس آخر نستفيده من قصّة أصحاب الكهف ، حيث إنّهم عند ما أرادوا دحض الشرك الذي عليه مجتمعهم ، ذكروا أدلة منطقية قرأنا نماذج لها في الآيات (١٥ ـ ١٦) من هذه السورة.

إنّ أساس عمل جميع الأنبياء والقادة الإلهيين مع أعدائهم ومعارضين يستند ـ في العادة ـ إلى قاعدة الحوار المنطقي والنقاش الحر. أمّا استخدام القوة لأجل القضاء على الفتنة فهو أمر يلجأ إليه عند ما تفشل الحجة في أداء وظيفتها ، أو عند ما يقوم الخصم بعرقلة النقاش المنطقي.

ي : وأخيرا ، فإنّ إمكانية المعاد الجسماني وعودة الناس إلى الحياة مرّة أخرى عند البعث ، يعتبر عاشر وآخر درس نستفيده من هذه القصّة ، وسنقرأ عنه تفصيلا في بحوث قادمة إن شاء الله تعالى.

إنّنا لا نستطيع القول بأنّ الدروس التربوية في قصّة أصحاب الكهف تقتصر على ما ذكرناه ، ولكنّا نعتقد أنّه حتى لو كان هناك درس واحد نستفيده من هذه القصة لكفانا ذلك ، فكيف بنا وأمامنا هذه الدروس الكثيرة؟!

على أية حال ، إنّ هدف القرآن ليس قص القصص لغرض التسلية ، بل بناء الناس المقاومين المؤمنين الشجعان الواعين ، وأحد الطرق لذلك هو ذكر نماذج أصيلة مما حدث طوال التأريخ البشري المليء بالحوادث والمواقف.

٢٤٤

٤ ـ هل أنّ قصّة أصحاب الكهف علمية؟

من المسلّم به أنّ قصّة أصحاب الكهف لم تكن مذكورة في أي من الكتب السماوية السابقة (سواء الكتب الأصلية أو المحرّفة الموجودة الآن) ويجب أن لا تذكر ، لأنّ الحادثة ـ طبقا للتأريخ العام ـ كانت قد وقعت في القرون التي تلت ظهور المسيح عيسىعليه‌السلام .

إنّ حادثة أصحاب الكهف وقعت في زمان «دكيوس» (التي تعرّب بديقيانوس) حيث تعرّض المسيحيون في عصره إلى تعذيب شديد.

ويقول المؤرخون الأوربيون : إنّ هذه الحادثة وقعت في الفترة من ٤٩ ـ ٢٥١ ميلادي ، وبذلك يرى هؤلاء المؤرخون أنّ مدّة نوم أصحاب الكهف لم تستغرق سوى (١٥٧) سنة ، ويطلقون عليهم لقب (النائمون السبعة لأفسوس) في حين أنّهم يعرفون بيننا بأصحاب الكهف(١) .

والآن لنتعرف أين تقع (أفسوس) هذه؟ ومن أوّل عالم كتب كتابا عن قصّة هؤلاء السبعة النائمين؟ وفي أي قرن حصل ذلك؟

(أفسوس) أو (أفسس) بضم الألف والسين ، هي واحدة من مدن آسيا الصغرى (تركيا الحالية التي هي جزء من مملكة الروم الشرقية القديمة) وتقع بالقرب من نهر (كاستر) وعلى بعد (٤٠) ميلا تقريبا جنوب شرقي (أزمير) حيث كانت عاصمة الملك (الونى).

وقد اشتهرت (أفسوس) بسبب معبدها الوثني المعروف بـ «أرطاميس» الذي يعتبر أحد عجائب الدنيا السبع(٢) .

ويقولون : إنّ قصة أصحاب الكهف شرحت لأول مرّة في رسالة باللغة السريانية كتبها عالم مسيحي يسمى (جاك) الذي كان رئيسا للكنيسة السورية ،

__________________

(١) أعلام القرآن ، ص ١٥٣.

(٢) الكلام مقتبس من كتاب «قاموس الكتاب المقدّس» ، ص ٨٧.

٢٤٥

وذلك في القرن الخامس الميلادي ، ثمّ شخص آخر يسمّى «جوجويوس» بترجمة تلك الرسالة إلى اللاتينية وسمّها بـ «جلال الشهداء»(١) . وهذا الأمر يبيّن أنّ الحادثة كانت معروفة بين المسيحيين قبل قرن أو قرنين من ظهور الإسلام ، وكانت الكنائس تهتم بها.

بالطبع بعض أحداث هذه القصّة ـ مثل مدّة نوم أصحاب الكهف ـ تختلف عمّا ورد في المصادر الإسلامية ، فالقرآن يقول ـ وبصراحة ـ بأنّ نومهم كان (٣٠٩) سنة.

من جانب ثان وطبقا لما ينقله ياقوت الحموي في معجم البلدان (المجلد الثّاني ص ٨٠٦) وطبقا لما ينقله «ابن خردادبه» في كتاب «المسالك والممالك» (صفحة ١٠٦ ـ ١١٠) وطبقا ـ أيضا ـ لما يقوله ابو ريحان البيروني في الصفحة (٢٩٠) من كتاب «الآثار الباقية» : إنّ مجموعة من السوّاح القدماء قد وجدوا غارا في مدينة (آبس) فيه بعض الأجساد المتيبسة ، وقد احتملوا أن هذه الآثار تتعلق بقصّة أصحاب الكهف.

من سياق الآيات القرآنية في سورة الكهف ، وأسباب النّزول المذكورة في المصادر الإسلامية ، نستفيد أنّ الحادثة كانت أيضا معروفة بين علماء اليهود ، وأنّها كانت عندهم حادثة تأريخية مشهورة. وبذلك يتّضح ـ بدقة ـ أنّ قصّة النوم الطويل لأصحاب الكهف وردت في المصادر التأريخية للأقوام المختلفة(٢) .

وهنا قد يشك البعض في طول المدة التي قضاها أصحاب الكهف في نومهم ، ويعتبر أنّ ذلك لا ينطق مع المعايير العلمية ، لذلك يضعها في قسم الأساطير والقصص الخرافية (!!) والذرائع التي يستند إليها هؤلاء هي :

أوّلا : إنّ هذا العمر الطويل أمر غير مألوف في حياة الأشخاص العاديين

__________________

(١) أعلام القرآن ، ص ١٥٤.

(٢) المعاد والعالم بعد الموت ، ص ١٦٣ ـ ١٦٥.

٢٤٦

المستيقظين ، فكيف يصح تصوره لناس نيام؟!

ثانيا : إذا اقتنعنا بهذا العمر الطويل بالنسبة للأشخاص العاديين الذين يمارسون الحياة بشكل طبيعي ، فإنّ ذلك غير ممكن بالنسبة للنائمين ، لأنّ هناك مشكلة الطعام والشراب،إذ كيف يمكن للإنسان أن يبقى طيلة هذه المدّة بدون طعام أو شراب ، وإذا افترضنا مثلا أنّ الإنسان يحتاج يوميا إلى كيلو غرام واحد من الطعام أو لتر واحد من الماء ، فإنّ أصحاب الكهف كانوا بحاجة ، أثناء نومهم ، إلى (١٠٠) طن من الطعام و (١٠٠٠٠٠) لتر من الماء، ومن الطبيعي أنّ الجسم لا يستطيع خزن كل هذه الأحجام والكميات من الماء والطعام.

ثالثا : إذا تجاوزنا كل الأمور السابقة ، فسوف تكون أمامنا مشكلة جديدة ، وهي أن جسم الإنسان لا يستطيع أن يبقى كل هذه الفترة الطويلة من دون أن تتأثّر أجهزته وتتضرّر بأضرار فادحة.

إنّ هذه الأمور قد تبدو للوهلة الأولى مانعا من التصديق بقصّة أصحاب الكهف ، في حين أنّ الأمر ليس كذلك ، إذ يمكن مناقشة الأمور السابقة وفقا لما يلي :

أوّلا : لا تعتبر قضية العمر الطويل قضية غير علمية ، حيث أنّنا نعلم أنّ طول عمر أي كائن حي ليس لها من الوجهة العلمية ميزان ثابت من حيث المدّة والعمر ، بحيث يكون موت الكائن عند هذا الحد المفترض أمرا حتميا.

بعبارة أخرى : صحيح أنّ الطاقة الجسمية للإنسان مهمّا بلغت فهي محدودة ولا بدّ أن تنتهي ، إلّا أنّ هذا الكلام لا يعني أنّ جسم الإنسان ـ أو أي كائن حي آخر ـ ليست له قابلية البقاء أكثر من المقدار المألوف والمتعارف عليه.

أي إن المسألة ليست كالقوانين الطبيعية ، فمثلا الماء يغلي في درجة حرارة (١٠٠) مئوية ويتجمد في درجة الصفر المئوي ، فكذلك الإنسان إذا وصل إلى عمر المائة سنة أو المائة وخمسين سنة فإنّ قلبه سيتوقف عن العمل.

٢٤٧

إنّ المسألة ليست على هذه الشاكلة ، بل إنّ ميزان طول عمر الكائنات الحية يرتبط ارتباطا كبيرا بوضعهم المعيشي ، فعند ما تتغيّر الظروف بالكامل تكون الموازين قابلة للتغيير هي الأخرى.

والدليل على ما نقول ، هو أنّنا لم نر أحدا من علماء العالم قد حدّد ميزانا معينا لعمر الإنسان ، ومن جانب ثان استطاعوا من خلال تجارب مختبرية من زيادة عمر بعض الكائنات إلى الضعفين ، أو الثلاثة في بعض الأحيان ، واستطاعوا في أحيان أخرى أن يفعلوا ذلك بنسبة (١٢) مرّة أو أكثر قياسا للعمر المألوف.

واليوم فإنّ هؤلاء العلماء يأملون بأن الإنسان يمكنه ـ في المستقبل ومع ظهور أساليب علمية جديدة ـ أن يعيش عدّة أضعاف عمره الطبيعي.

هذا فيما يخص أصل قضية طول العمر.

ثانيا : أمّا فيما يخص الطعام والشراب أثناء فترة النوم الطويل ، فنقول : إنّ نوم أصحاب الكهف لو كان عاديا وطبيعيا فنستطيع عندها أن نقبل بالإشكالات والاعتراضات السابقة. أمّا من الوجهة العلمية فإنّ الأصول العلمية تقول : إنّ حاجة الجسم إلى الطاقة الغذائيه أثناء النوم أقل من حاجته إليها اليقظة ، إلّا أنّ الجسم مع ذلك لا يستطيع أن يدّخر ما يلزمه من طاقة غذائية لنوم طويل كنوم أصحاب الكهف.

وهنا ينبغي الالتفات إلى أنّ هناك أنواعا من النوم في عالم الطبيعة تكون فيها حاجة الجسم إلى الغذاء قليلة للغاية ، كما في حالة السبات مثلا.

حالة السبات :

هناك العديد من الأحياء تنام في فصل الشتاء ويسمّى نومها علميا بـ «السبات».

في هذا النوع من النوم تتوقف فعاليات الحياة تقريبا ، وتكون بأضعف حالة.

٢٤٨

فالقلب يتوقف عن العمل تقريبا ، وبعبارة أصح تكون ضرباته قليلة للغاية بحيث لا يمكن الإحساس بها أبدا.

في هذه الحالات يمكن تشبيه الجسم بالفرن العظيم الذي لا تبقى فيه بعد انطفائه سوى شعلة أو شمعة صغيرة دائبة الإشتغال. وواضح أنّ الطاقة التي تحتاجها هذه الأفران (من النفط أو غير) للاشتعال الطبيعي يعادل ما تحتاجه الشمعة الصغيرة من طاقة للاشتعال ، لعشرات أو مئات السنين. (يمكن أن نطبّق المثال على ما نحن فيه فتكون حالة اشتعال الفرن الطبيعي في شبيهة بحالة اليقظة ، أمّا حاله اشتعال الفرن على الشعلة الصغيرة فقط فهي شبيهة بحالة السبات والنوم الطويل).

من جهة أخرى يقول العلماء عن سبات بعض الأحياء : إنّنا إذا أخرجنا إحدى الزواحف وهي في حالة سبات ، فسوف نراها وكأنّها ميتة ، فلا هواء في رئتيها ، وضربات القلب ضعيفة بحيث لا يمكن الإحساس بها. ومن بين الحيوانات ذات الدم البارد نستطيع أن نعدّد الفراشات والحشرات والحلزون والزحافات وكلها تقوم بحاله السبات. كما أنّ بعض الحيوانات ذات الأثدية (ذات الدم الحار) تقوم بالسبات أيضا. وفي فترة السبات تكون الفعاليات الحياتية ضعيفة للغاية ، وتقوم الحيوانات السابتة باستهلاك المواد الدهنية المخزونة بالجسم بالتدريج»(١) .

المقصود من كل هذا العرض هو أن نقول : إنّ هناك نوعا من النوم تكون الحاجة فيه إلى الطعام قليلة جدّا ، وقد تصل النشاطات الحياتية في مثل هذه الحالة إلى درجة الصفر.

وبالمناسبة ، نذكر هنا أنّ هذا الأمر يساعد في منع تلاشي أعضاء الجسم أو تضرّر الأجهزة الجسمية ، ويعين ـ أيضا ـ على طول عمر الكائن الحي.

__________________

(١) اقتباس عن دائرة المعارف الفارسية الجديدة ، مادة (سبات).

٢٤٩

إنّ السبات بالنسبة للحيوانات التي لا تستطيع الحصول على غذائها فرصة ثمينة للغاية لكي تديم حياتها عن هذا الطريق.

نموذج آخر : دفن المرتاضين

فيما يخص المرتاضين يشاهد أنّ بعضهم يتمّ وضعه بالتابوت ويدفن أحيانا تحت التراب لمدّة أسبوع ، وذلك أمام عيون المشاهدين الحيارى التي لا تكاد تصدّق ما ترى ، وبعد أن تنتهي المدّة المقرّرة يتمّ إخراجه ويجري له التدليك والتنفس الاصطناعي حتى يعود إلى حالته الطبيعية.

وحتى لو افترضنا أن حاجة أجسادهم إلى الطعام غير ملحّة ، فإنّ الحاجة إلى الأوكسجين حاجة مهمّة للغاية ولا يمكن للجسم التخلّي عنها ، إذا نعرف هنا أنّ حساسية الخلايا المخية للاوكسجين وحاجتها إليه كبيرة للغاية ، بحيث إذا حرمت منها لبضعة دقائق فإنّها ستتلف.

والآن يتساءل : كيف يتحمّل الشخص المرتاض قلّة الأوكسجين مثلا لمدّة قد تصل إلى حدود الأسبوع؟

الجواب على هذا السؤال ـ ومع مراعاة ما ذكرناه قبل قليل ـ ليس بالأمر الصعب ، ففي هذه المدّة تتوقف (تقريبا) الفعاليات الحياتية لجسم المرتاض ، لذا فإنّ حاجة الخلايا للأوكسجين واستهلاكها لها ستقل بشدّة ، بحيث أنّ الهواء الموجود في فضاء التابوت يكفي في هذه المدّة لتغذية الخلايا.

تجميد جسم الإنسان وهو حي :

اليوم ثمّة نظريات كثيرة حول تجميد جسم الأحياء بما فيهم الإنسان (لزيادة العمر) وقد تمّ تنفيذ قسم من هذه النظريات في الوقت الحاضر.

طبقا لهذه النظريات ، فإنّه عند وضع جسم الإنسان أو أي حيوان في درجة

٢٥٠

حرارة تحت الصفر ـ بأسلوب خاص ـ فإنّ حياته ستتوقف بدون أن يموت. وبعد مدّة معينة يوضع الكائن في درجة حرارية معينة حيث يرجع إلى الحالة العادية.

وقد تمّ اقتراح مجموعة حالات من هذه الحالة للإفادة منها في الرحلات الفضائية إلى الكواكب البعيدة التي يستغرق الوصول إليها مئات أو آلاف السنين ، حيث يتمّ تجميد أجسام روّاد الفضاء في محفظة خاصّة ، وبعد سنين طويلة ، وعند الاقتراب من الكواكب المعنية ترجع الحرارة العادية إلى تلك المحفظة بشكل أوتوماتيكي ، وعندها سيعود هؤلاء الروّاد إلى حالتهم العادية دون أن يحدث أي ضرر لهم.

ذكرت إحدى المجلات العلمية أنّ كتابا صدر مؤخرا حول تجميد جسم الإنسان بهدف إطالة عمره بقلم «روبرت نيلسون» وكان لهذا الكتاب صدى واسعا في عالم المعرفة. ففي المقالة التي نشرتها تلك المجلة في هذا المجال ، ذكر الكاتب أنّه تمّ أخيرا إضافة فرع علمي جديد إلى الفروع العلمية الأخرى ، يتكفل التخصص في هذا المجال.

ونقرأ في تلك المقالة أيضا : «لقد كانت الحياة الأبدية ـ على طول التأريخ ـ حلما من الأحلام الذهبية والقديمة للإنسان ، وفي الوقت الحاضر فقد تحقق هذا الحلم ، والسبب يعود إلى التقدّم العجيب لعلم حديث يسمّى (كريونيك) وهو علم يرسل الإنسان إلى عوالم الانجماد ، ويحفظه على شكل جسد منجمد على أمل أن يستطيع العلماء إعادته يوما إلى الحياة مرّة أخرى.

هل يمكن تصديق هذا الكلام؟ هناك العديد من العلماء البارزين الذين يقومون بالتفكير في هذا الأمر من جوانبه المختلفة. وهناك نشريات كثيرة تقوم ببحث هذا الموضوع مثل (لايف) و (اسكواير) والصحف العالمية في مختلف أنحاء العالم. والأهم من ذلك أنّ هناك برنامج في هذا المجال هو قيد التنفيذ في

٢٥١

الوقت الحاضر(١) .

لقد أعلنت الصحف قبل مدّة عن اكتشاف سمكّة منجمدة بين ثلوج القطب الشمالي يعود عمرها إلى آلاف السنين ، كما تبيّن ذلك من طبقات الثلج القشرية ، وبعد أن وضعت السمكّة في ماء معتدل عادت إلى حياتها الطبيعية وبدأت بالحركة وسط دهشة الجميع.

ويتّضح من ذلك أنّ الأجهزة الحياتية لا تتوقف بالكامل في حالات الانجماد ، ولكن في هذه الظروف التي لا يمكن معها ممارسة الحياة الطبيعية يصبح عمل تلك الأجهزة بطيئا للغاية.

ومن مجموع هذه الأحاديث يتبيّن أنّه بالإمكان إيقاف الحياة أو تعويق حركتها بشدة والبحوث العلمية دعمت إمكانية ذلك من جوانب مختلفة. وفي مثل هذه الحالة يصل استهلاك البدن للطعام لدرجة الصفر تقريبا ، وبذا يكفيه المخزون القليل المدّخر في الجسم لإدامة الحياة البطيئة لسنوات طويلة.

ويجب أن لا يفسّر كلامنا هذا بأنّنا نستهدف انكار الجانب الإعجازي في نوم أصحاب الكهف ، بل نريد أن نقرّب الأمر للأذهان من وجهة نظر العلم. إذ من المحتم أنّ نوم أصحاب الكهف لم يكن نوما عاديا كمنامنا في الليل ، لقد كان نومهم ذا جنبة استثنائية، لذلك فلا عجب في نوم هؤلاء هذه المدّة الطويلة (بإرادة الله) من دون أن يكونوا بحاجة إلى الشراب والطعام ، ومن دون أن تتضرّر أجسامهم وأجهزتهم الحيويه.

والطريف في الأمر أنّنا نستفيد من آيات سورة الكهف أنّ طبيعة نومهم كانت تختلف عن النوم العادي :( وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقاظاً وَهُمْ رُقُودٌ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِراراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً ) (٢) . إنّ هذه الآية تدل على أن نومهم لم

__________________

(١) مجلة «دانشمند» ، عدد ٤٧ ، ص ٤.

(٢) الكهف ، ١٨.

٢٥٢

يكن نوما عاديا ، بل هو أشبه ما يكون بحالة الميت. (ذي العيون المفتوحة).

إضافة إلى ذلك تفيد آيات السورة أنّ نور الشمس لم يكن يشع داخل كهفهم ، ولأنّه من المحتمل أن يكون الكهف في جبال آسيا الصغرى ، وفي منطقة باردة ، فإنّ ذلك يعدّ مؤشرا على الحالة الاستثنائية لنومهم ، ومن جانب آخر فإنّ القرآن يقول :( وَنُقَلِّبُهُمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَذاتَ الشِّمالِ ) (١) .

ومن الآية يتبيّن أنّهم لم يكونوا على حالة واحدة ، وأنّ هناك عوامل وقوى غيبية خفية غير واضحة لنا كانت تقلبهم نحو اليمين واليسار (احتمالا في كل سنة مرّة واحدة) حتى لا تتضرّر أجسامهم.

والآن وبعد أن اتّضحت الجوانب العلمية في هذا البحث ، فإنّ المعاد لم يعد يحتاج إلى كلام كثير ، لأنّ اليقظة بعد ذلك النوم الطويل تشبه الحياة بعد الموت وتقرّب إلى الأذهان قضية المعاد(٢)

* * *

__________________

(١) الكهف ، ١٨.

(٢) لتفاصيل أكثر يراجع كتاب : المعاد والحياة بعد الموت.

٢٥٣

الآيات

( وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا وَاتَّبَعَ هَواهُ وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً (٢٨) وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ ناراً أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرابُ وَساءَتْ مُرْتَفَقاً (٢٩) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً (٣٠) أُولئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِياباً خُضْراً مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ نِعْمَ الثَّوابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً (٣١) )

٢٥٤

سبب النّزول

يروي المفسّرون في سبب نزول الآيات الأولى في هذا المقطع من سورة الكهف المباركة( وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ ) أنّ مجموعة من أشراف قريش ومن المؤلّفة قلوبهم جاؤوا إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقالوا له : يا رسول الله ، إن جلست في صدر المجلس ونحّيت عنّا هؤلاء وروائح صنانهم (كانت عليهم جباب الصوف)(١) جلسنا نحن إليك ، وأخذنا عنك ، لأنّه لا يمنعنا من الدخول عليك إلّا هؤلاء.

لقد كان هؤلاء الأشراف والمؤلفة قلوبهم يقصدون في كلامهم المستضعفين والفقراء من أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من أمثال سلمان الفارسي وأبي ذر الغفاري وصهيب وعمّار بن ياسر وخباب وغيرهم ممن كان على شاكلتهم ، إذ كان هؤلاء ممن التفّ حول رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ممن قربه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إليه.

لذلك اشترط الأشراف على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يطرد أمثال هؤلاء الفقراء عن مجلسه ونعتوهم بشتى النعوت.

وهنا نزلت الآية الكريمة على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ ) فلمّا نزلت الآية قام النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يلتمسهم فأصابهم في مؤخّر المسجد يذكرون اللهعزوجل ، فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «الحمد لله الذي لم يمتني حتى أمرني أن أصبر نفسي مع رجال من أمتي. معكم المحيا ومعكم الممات».

التّفسير

الحفاة الأطهار!

من الدروس التي نستفيدها من قصّة أصحاب الكهف أنّ مقياس قيمة البشر

__________________

(١) هذه الصفات أطلقها أشراف قريش والمؤلفة قلوبهم على المستضعفين من أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كأبي ذر وغيره.

٢٥٥

ليست بالمنصب الظاهري أو بالثروة ، بل عند ما يكون المسير في سبيل الله يتساوى الوزير والراعي ، والآيات التي نبحثها تؤكّد هذه الحقيقة المهمّة وتعطي للرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هذا الأمر:( وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ) إنّ استخدام تعبير( اصْبِرْ نَفْسَكَ ) هو إشارة إلى حقيقة أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان قد تعرّض إلى ضغط الأعداء المستكبرين والمشركين حتى يبعد عنه مجموع المؤمنين الفقراء ، لذلك جاءه الأمر الإلهي بالصبر والاستقامة أمام هذا الضغط المتزايد وأن لا يستسلم له. إنّ استخدام تعبير( بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِ ) إشارة إلى أنّهم كانوا دائما وأبدا يذكرون الله.

أمّا استخدام مصطلح( يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ) (١) فهو دليل على إخلاصهم وإشارة إلى أنّهم يعبدون الله لذاته لا طمعا بالجنة (بالرغم من نعمها الكبيرة والثمينة) ولا خوفا من الجحيم وعذابه (بالرغم من شدّة عذابها) بل يعبدون الله لأجل ذاته المنزّهة ، وهذه أعلى مرتبة في الطاعة والعبودية والحبّ والإيمان بالله تعالى.

ثمّ تستمر الآيات مؤكّدة خطابها للرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا ) (٢) فلا تنظر إلى هؤلاء المستكبرين بدل المستضعفين من أجل بهارج الدنيا وزخارفها.

ثمّ من أجل التأكيد مجددا يقول تعالى :( وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا ) .

( وَاتَّبَعَ هَواهُ ) والمطيع لاهوائه النّفسية ، والمفرط في أفعاله دائما( وَكانَ

__________________

(١) فيما يخص معنى (وجه) وأنها تأتي في بعض الأحيان بمعنى (الذات) وأحيانا بمعنى (وجه الإنسان) وفي سبب انتخاب ذلك في هذه الموارد فيما يخص كل ذلك يمكن مراجعة ما كتبناه مفصلا لدى تفسير الآية (٢٧٢) من سورة البقرة في تفسيرنا هذا.

(٢) (لا تعد) مأخوذة من كلمة «عدا يعدو و...» وهي بمعنى تجاوز الشيء وبذا يصبح مفهوم الجملة (لا تبعد عينيك عنهم كي تنظر إلى الآخرين).

٢٥٦

أَمْرُهُ فُرُطاً ) (١) .

الطريف هنا أنّ القرآن وضع هاتين المجموعتين في مقابل بعضهما من حيث الصفات، وكان الأمر كما يلي :

مؤمنون حقيقيون إلّا أنّهم فقراء ، ولهم قلوب مملوءة بحبّ الله ، يذكرونه باستمرار ويسعون إليه.

الأغنياء المستكبرون الغافلون عن ذكر الله ، والذين لا يتبعون سوى هواهم ، وخارجون عن حدّ الاعتدال في كل أمورهم ويفرطون ويسرفون.

إنّ الموضوع ـ أعلاه ـ من الأهمية بمكان ، بحيث أنّ القرآن يقول للرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ بصراحة ـ في الآية التي بعدها :( وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ ) .

ولكن اعلموا أنّ هؤلاء عباد الدنيا الذين يسخرون من الألبسة الخشنة التي يرتديها أمثال سلمان وأبي ذر خاصّة ، والذين يعيشون حياة مرفهة باذخة ومليئة بالزينة ، ستنتهي عاقبهم إلى سوء وظلام وعذاب :( إِنَّا أَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ ناراً أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها ) .

نعم ، إنّهم كانوا اعطشوا في هذه الدّنيا كان الخدم يجلبون لهم أنواع المشروبات ، ولكنّهم عند ما يطلبون الماء في جهنّم يؤتي إليهم بماء كالمهل :( وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ ) (٢) .

( بِئْسَ الشَّرابُ ) .

ثمّ( وَساءَتْ مُرْتَفَقاً ) (٣) .

__________________

(١) «فرط» تعني التجاوز عن الحد ، وكل شيء يخرج عن حدّه ويتحول إلى إسراف يقال له (فرط).

(٢) «مهل» على وزن «قفل» وهي تعني كما يقول الراغب في المفردات : هي المقدار المترسب من الدهن والذي يكون عادة ملوثا بأشياء وسخة ورديئة الطعم ، إلّا أنّ بعضا آخر من المفسّرين يقولون بأنّها تعني أي معدن مذاب.

والظاهر أنّ تعبير (يشوي الوجوه) يرجّح المعنى الثّاني.

(٣) «مرتفق» من كلمة «رفق ورفيق» بمعنى محل اجتماع الأصدقاء.

٢٥٧

تصوروا هل يمكن شرب الماء الذي إذا اقترب من الوجه فإنّ حرارته ستشوي الوجه؟إن ذلك بسبب أنّهم شربوا في الدنيا أنواع المشروبات المنعشة والباردة ، في حين أنّهم أجّجوا في قلوب المحرومين نيرانا ، إنّ هذه النار هي نفسها التي تجسدت في الآخرة بهذا الشكل.

والطريف في أمر هؤلاء أنّ القرآن ذكر لهم بعض «التشريفات» وهم في جهنّم. لقد كان لهؤلاء في حياتهم الدنيا (سرادق) عالية وباذخة ليس فيها نصيب للفقراء ، وهذه السرادق ستتحوّل إلى خيام عظيمة من لهيب نار جهنّم!

وفي هذه الدنيا تتوفر لديهم أنواع المشروبات التي تحضر بين أيديهم بمجرّد مناداة الساقي ، وفي جهنّم يوجد أيضا ساق وأشربة ، أمّا ما هو نوع الشراب؟ إنّه ماء كالمعدن المذاب! حرارته كحرارة دموع اليتامى وآهات المستضعفين والفقراء الذين ظلمهم هؤلاء الأغنياء! نعم ، إنّ كل ما هو موجود هناك (في الآخرة) هو تجسيد لما هو موجود هنا (في الدنيا).

وبما أنّ أسلوب القرآن أسلوب تربوي وتطبيقي ، فإنّه بعد ما بيّن أوصاف وجزاء عبيد الدنيا ، ذكر حال المؤمنين الحقيقيين وجوائزهم الثمينة الغالية التي تنتظرهم جزاء ما فعلوا. لقد أجملت الآية كل ذلك بشكل مختصر ، ثمّ بشكل تفصيلي نوعا ما.

ففي البدء قال تعالى :( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً ) أي إنّنا لا نضيع أعمال العاملين قليلة كانت أو كثيرة ، كلية أو جزئية ، ومن أي شخص وفي أي عمر كان :

( أُولئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ ) (الجنات الخالدة).

( تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ ) (من تحت الأشجار والقصور).

( يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ ) (١) .

__________________

(١) «أساور» جمع «أسورة» على وزن «مشورة» وهي بدورها جمع (سوار) على وزن (غبار) و (كتاب) وهي في

٢٥٨

( وَيَلْبَسُونَ ثِياباً خُضْراً مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ ) (من حرير ناعم وسميك).

( مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ ) (١) .

( نِعْمَ الثَّوابُ ) .

( وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً ) (وحسنت مجمعا للأحبّة).

* * *

بحوث

١ ـ الرّوح الطبقية مشكلة اجتماعية كبيرة

ليست الآيات الآنفة الذكر ـ وحدها ـ تحارب تقسيم المجتمع إلى مجموعتين من الأغنياء والفقراء ، بل إنّنا نجد الكثير من الآيات القرآنية الأخرى ، ممّا ذكرنا سابقا أو سنذكرها لاحقا ، تؤكّد جمعها على هذا الموضوع.

إنّ المجتمع الذي تكون فيه مجموعة (وهي أقلية في الغالب) مرفهة وغارقة في الإسراف والتبذير وملوّثة بأنواع المفاسد ، سيكون في مقابل هؤلاء مجموعة أخرى ، هم الأكثرية التي لا تملك أبسط وسائل الحياة الإنسانية. ومثل هذا المجتمع يرفضه الإسلام وليس مجتمعا إنسانيا.

مثل هذا المجتمع سوف لا يرى الاستقرار أبدا ، وسوف يلقي الاستعمار والاستكبار وأشكال الظلم والعبودية بضلال عليه. وغالبا ما تقوم الحروب الدامية في مثل هذه المجتمعات ولا تنتهي الاضطرابات فيها أبدا.

ومن الطبيعي أن يتساءل المرء عن أسباب تكدّس النعم الإلهية بيد حفنة معدودة من الناس وبدون سبب ، بينما الأكثرية تعيش الفقر والألم والعذاب

__________________

الأصل مأخوذة من كلمة فارسية عرّبت واشتقت منها الأفعال العربية.

(١) «أرائك» جمع «أريكة» وتطلق على السرير الذي تكون جوانبه جميعا مغطاة ، وهي في الأصل ـ كما يقول الراغب ـ مأخوذة من (أراك) وهي شجرة معروفة كان العرب يصنعون منها مظلّة ؛ أو من (أروك) بمعنى الإقامة والتوّقف.

٢٥٩

والمرض؟

إنّ مثل هذا المجتمع يكون مملوءا ـ حتما ـ بالكراهية والحسد والكبر والعداء والغرور والظلم والتكّبر ، وكل عوامل الفساد الأخرى.

ولو دققنا النظر في تأريخ النّبوات لرأينا أنّ الأنبياءعليهم‌السلام بأجمعهم ، وخصوصا رسول الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واجهوا هذا النظام المنحرف والظالم ورموزه من الأغنياء الظالمين من أجل تأمين عوامل الاستقرار داخل المجتمع.

في مثل هذه المجتمعات الطبقية تكون جلسات واجتماعات المترفين منفصلة عن مجالس الفقراء ، وأماكنهم ، وكذا الحال بالنسبة لمراكز الترفيه وما إلى ذلك. (هذا إذا كان الفقراء يملكون في الأصل مراكز للترفيه). ثمّ إنّ العادات والتقاليد تختلف بين المجموعتين تماما.

إنّ هذا الانفصال المجافي للروح الإنسانية ، وروح كل القوانين السماوية ، لن يتحملها أي رجل إلهي. وقد كان مثل هذا الوضع حاكما بشدّة في المجتمع العربي الجاهلي ، حتى كان هؤلاء يعتبرون التفاف الفقراء من أمثال سلمان وأبو ذر حول رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من أكبر العيوب (!!) ولكن لم يعلم هؤلاء الأغنياء أن قلوب الفقراء هؤلاء مملوءة بحب الله والإيمان وبصفات الشهامة والإيثار.

في المجتمع الجاهلي الذي عاصر النّبي المصلح نوحعليه‌السلام ، قال المترفون من الملأ عبيد الدنيا مخاطبين نوحاعليه‌السلام : لماذا اتبعك الذين هم أراذلنا (على حدّ قولهم) ولقد حكى القرآن اعتراضهم هذا في الآية (٢٧) من سورة هود في قوله تعالى :( فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ما نَراكَ إِلَّا بَشَراً مِثْلَنا وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا ) .

وهكذا نرى أنّ عبيد الدنيا وأتباع الهوى هؤلاء يرفضون الجلوس ـ حتى للحظات ـ قرب الفقراء المؤمنين!

ولاحظنا ـ أيضا ـ كيف أن رسول الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بطرده للمجموعة الأولى

٢٦٠

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576