الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٩

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل10%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 576

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 576 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 264405 / تحميل: 11789
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٩

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

فترْك الواجبات: كترْك الصلاة والصيام والحجّ والزكاة ونحوها مِن الواجبات. وطريق التوبة منها بالاجتهاد في قضائها وتلافيها جُهدَ المستطاع.

وأمّا فعل المحرّمات: كالزنا وشرب الخمر والقمار وأمثالها مِن المحرّمات، وسبيل التوبة منها بالندم على اقترافها، والعزم الصادق على تركها.

ومِن الذنوب: ما تكون جرائرها بين المرء والناس، وهي أشدّها تبعةً ومسؤوليّة، وأعسرها تلافياً، كغصبِ الأموال، وقتل النفوس البريئة المحرّمة، وهتك المؤمنين بالسبِّ والضرب والنمّ والاغتياب.

والتوبة منها بإرضاء الخصوم، وأداء الظُّلامات إلى أهلها، ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، فإنْ عجَز عن ذلك فعليه بالاستغفار، وتوفير رصيد حسَنَاته، والتضرّع إلى الله عزَّ وجل أنْ يرضيهم عنه يوم الحساب.

قبول التوبة:

لا ريب أنّ التوبة الصادقة الجامعة الشرائط مقبولة بالإجماع، لدلالة القرآن والسنّة عليها:

قال تعالى:( وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ ) ( الشورى: ٢٥ ).

وقال تعالى:( غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ ) ( غافر: ٣ ).

وقد عرضنا في فضائل التوبة طرفاً مِن الآيات والأخبار الناطقة بقبول التوبة، وفوز التائبين بشرف رضوان اللّه تعالى، وكريم عفوه، وجزيل آلائه.

٢٦١

وأصدَقُ شاهدٍ على ذلك ما جاء في معرض حديث للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله حيث قال: ( لولا أنّكم تذنبون فتستغفرون اللّه، لخلق اللّه خلقاً، حتّى يذنبوا ثمّ يستغفروا اللّه فيغفر لهم، إنّ المؤمن مفتنٌ توّاب، أما سمِعت قول اللّه:( إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ ) )( البقرة: ٢٢٢ )(١) .

أشواق التوبة:

تََتلخّص النصائح الباعثة على التوبة والمشوّقة إليها فيما يلي:

١ - أنْ يتذكّر المُذنب ما صوَّرته الآيات الكريمة، والأحاديث الشريفة، مِن غوائل الذنوب، ومآسيها الماديّة والروحيّة، في عاجل الحياة وآجلها، وما توعّد اللّه عليها مِن صنوف التأديب وألوان العِقاب.

٢ - أن يستعرض فضائل التوبة ومآثر التائبين، وما حباهم اللّه به من كريم العفو، وجزيل الأجر، وسمو العناية واللطف، وقد مرّ ذلك في بداية هذا البحث.

وكفى بهاتين النصيحتين تشويقاً إلى التوبة، وتحريضاً عليها، ولا يرغب عنها إلا أحمق بليد، أو ضعيف الايمان والبصيرة.

_____________________

(١) البحار م ٣ ص ١٠٣ عن الكافي.

٢٦٢

محاسبة النفس ومراقبتها

المحاسبة هي: محاسبة النفس كلّ يوم عمّا عمِلته مِن الطاعات والمبرّات، أو اقترفته من المعاصي والآثام، فإنْ رجُحت كفّة الطاعات على المعاصي، والحسَنات على السيّئات، فعلى المحاسِب أنْ يشكُر اللّه تعالى على ما وفّقه إليه وشرّفه به مِن جميل طاعته وشرف رضاه.

وإنْ رجُحت المعاصي، فعليه أنْ يؤدّب نفسه بالتأنيب والتقريع على شذوذها وانحرافها عن طاعة اللّه تعالى.

وأمّا المراقبة: فهي ضبطُ النفس وصيانتها عن الإخلال بالواجبات ومقارفة المحرّمات.

وجديرٌ بالعاقل المُستنير بالإيمان واليقين، أنْ يروّض نفسه على المحاسبة والمراقبة فإنّها ( أمّارة بالسوء ): متى أُهمِلَت زاغت عن الحقّ، وانجرفت في الآثام والشهَوات، وأودَت بصاحبها في مهاوي الشقاء والهلاك، ومتى أُخِذَت بالتوجيه والتهذيب، أشرقت بالفضائل، وازدهرت بالمكارم، وسمت بصاحبها نحو السعادة والهناء:( وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا ) ( الشمس: ٧ - ١٠ ).

٢٦٣

هذا إلى أنّ للمحاسبة، والمراقبة أهميّة كُبرى في تأهّب المؤمن، واستعداده لمواجهة حساب الآخرة، وأهواله الرهيبة، ومِن ثمّ اهتمامه بالتزوّد مِن أعمال البِر والخير الباعثة على نجاته وسعادة مآبه.

لذلك طفِقَت النصوص تُشوّق، وتحرّض على المحاسبة والمراقبة بأساليبها الحكيمة البليغة:

قال الإمام الصادقعليه‌السلام : ( إذا أراد أحدكم أنْ لا يسأل ربَّه شيئاً إلاّ أعطاه، فلِيَيأس مِن الناس كلّهم، ولا يكون له رجاء إلاّ مِن عند اللّه تعالى، فإذا علِم اللّه تعالى ذلك مِن قلبهِ لم يسأل شيئاً إلاّ أعطاه، فحاسبوا أنفسكم قبل أنْ تُحاسَبوا عليها، فإنّ للقيامة خمسين موقفاً، كلّ موقفٍ مقام ألف سنة، ثمّ تلا:( فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ ) ( المعارج: ٤ )(١) .

وقال الإمام موسى بن جعفرعليه‌السلام : ( ليس منّا مَن لم يُحاسِب نفسه في كل ّيوم، فإنْ عمِل حسنةً استزاد اللّه تعالى، وإنْ عمِل سيّئةً استغفر اللّه تعالى منها وتاب إليه )(٢).

وعن أبي عبد اللّهعليه‌السلام قال: ( إنّ رجُلاً أتى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله فقال له: يا رسول اللّه، أوصني.

فقال له رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله : فهل أنت مستوصٍ إنْ أنا أوصيتك ؟ حتّى قال له ذلك ثلاثاً، وفي كلّها يقول له الرجل: نعم

_____________________

(١) الوافي الجزء الثالث ص ٦٢ عن الكافي.

(٢) الوافي ج ٣ ص ٦٢ عن الكافي.

٢٦٤

يا رسول اللّه.

فقال له رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله : فإنّي أوصيك، إذا أنت همَمْتَ بأمرٍ فتدبّر عاقبته، فإنْ يكُ رُشداً فأمضِه، وإنْ يكُ غيّاً فانته عنه )(١) .

وقال الصادقعليه‌السلام لرجلٍ: ( إنّك قد جُعلتَ طبيب نفسك، وبُيّن لك الدَّاء، وعُرّفت آية الصحّة، ودُلِلْتَ على الدواء، فانظر كيف قياسك على نفسك )(٢) .

وعن موسى بن جعفرعليه‌السلام عن آبائهعليهم‌السلام قال:

( قال أمير المؤمنينعليه‌السلام : إنّ رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله بعث سريّة، فلمّا رجعوا قال: مرحباً بقومٍ قضوا الجهاد الأصغر، وبقيَ عليهم الجهاد الأكبر.

قيل: يا رسول اللّه، وما الجهاد الأكبر ؟ قال: جهاد النفس. ثمّ قال: أفضل الجهاد مَن جاهد نفسه التي بين جنبيه )(٣).

دستور المحاسبة:

لقد ذكر المعنيّون بدراسة الأخلاق دستور المحاسبة والمراقبة بأُسلوب مفصّل، ربّما يشقّ على البعض تنفيذه، بيد أنّي أعرضه مُجملاً ومُيسّراً في

_____________________

(١)، (٢) الوافي ج ٣ ص ٦٢ عن الكافي.

(٣) البحار م ١٥ ج ٢ ص ٤٠ عن معاني الأخبار وأمالي الصدوق.

٢٦٥

أمرين هامّين:

١ - أوّل ما يجدر محاسبةُ النفس عليه، أداء الفرائض التي أوجَبها اللّه تعالى على الناس، كالصلاة والصيام والحجِّ والزكاة ونحوها من الفرائض، فإنْ أدّاها المرء على الوجه المطلوب، شكَر اللّه تعالى على ذلك ورجّى نفسه فيما أعدَّ اللّه للمطيعين مِن كرَم الثواب وجزيل الأجر.

وإنْ أغفلها وفرّط في أدائها خوّف نفسه بما توعّد اللّه العُصاة والمتمرّدين عن عباده بالعقاب الأليم، وجدّ في قضائها وتلافيها.

٢ - محاسبة النفس على اقتراف الآثام واجتراح المنكرات، وذلك: بزجرها زجراً قاسياً، وتأنيبها على ما فرّط مِن سيّئاتها، ثمّ الاجتهاد بملافاة ذلك بالندم عليه، والتوبة الصادقة منه.

ولقد ضرب النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله أرفع مثَل لمحاسبة النفس، والتحذير مِن صغائر الذنوب ومحُقَّراتها:

قال الصادقعليه‌السلام : ( إنّ رسول اللّه نزَل بأرضٍ قَرعاء، فقال لأصحابه: ائتونا بحطب. فقالوا: يا رسول اللّه، نحن بأرضٍ قَرعاء ما بها من حطب. قال: فليأت كلّ إنسانٍ بما قدَر عليه، فجاءوا به حتّى رموا بين يدَيه بعضه على بعض، فقال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله : هكذا تجتمع الذنوب.

ثمّ قال: إيّاكم والمحقّرات مِن الذنوب، فإنّ لكلّ شيء طالباً، ألا وأنّ طالبها يكتب:

٢٦٦

(... مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ ) )( يس: ١٢ )(١) .

وكان بعض الأولياء يُحاسب نفسه بأُسلوبٍ يستثير الدهشة والإكبار:

من ذلك ما نُقِل عن توبة بن الصمّة، وكان مُحاسباً لنفسه في أكثر أوقات ليله ونهاره، فحسب يوماً ما مضى مِن عمره، فإذا هو ستّون سنة، فحسِب أيّامها فكانت إحدى وعشرين ألف يوم وخمسمِئة يوم، فقال: يا ويلتاه !!، ألقى مالكاً بإحدى وعشرين ألف ذنب، ثمّ صُعِق صَعقةً كانت فيها نفسه(٢).

وما أحلى هذا البيت:

إذا المرء أعطى نفسه كلَّ شهوةٍ

ولم ينهها تاقت إلى كلِّ باطلٍ

اغتنام فرصة العمر:

لو وازن الإنسان بين جميع مُتَع الحياة ومباهجها، وبين عمره وحياته لوَجد أنّ العمر أغلى وأنفس منها جميعاً، وأنّه لا يعدله شيء مِن نفائس الحياة وأشواقها الكُثر، إذ من المُمكن اكتسابها أو استرجاع ما نفَر منها.

أمّا العمر فإنّه الوقت المُحدّد الذي لا يستطيع الإنسان إطالة أمده، وتمديد أجلِه المقدّر المحتوم:( وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ ) ( الأعراف: ٣٤ ).

_____________________

(١) الوافي ج ٣ ص ١٦٨ عن الكافي.

(٢) سفينة البحار ج ١ ص ٤٨٨.

٢٦٧

كما يستحيل استرداد ما تصرّم مِن العمر، ولو بذَل المرء في سبيل ذلك جميع مقتنيات الحياة.

وحيث كان الإنسان غفولاً عن قِيَم العمر وجلالة قدره، فهو يُسرِف عابثاً في تَضييعه وإبادته، غير آبهٍ لما تصرّم منه، ولا مُغتنِم فرصته السانحة.

مِن أجل ذلك جاءت توجيهات آل البيتعليهم‌السلام موضّحة نفاسة العمر، وضرورة استغلاله وصرفه فيما يوجِب سعادة الإنسان ورخائه في حياته العاجلة والآجلة.

قال سيّد المرسلينصلى‌الله‌عليه‌وآله في وصيّته لأبي ذر: ( يا أبا ذر، كُن على عمرك أشحّ منك على درهمك ودينارك )(١) .

وقال أمير المؤمنينعليه‌السلام : ( إنّما الدنيا ثلاثة أيّام: يومٌ مضى بما فيه فليس بعائد، ويومٌ أنت فيه فحقّ عليك اغتنامه، ويومٌ لا تدري أنت مِن أهله، ولعلك راحل فيه.

أمّا اليوم الماضي فحكيم مُؤدّب، وأمّا اليوم الذي أنت فيه فصديقٌ مودّع، وأمّا غد فإنّما في يديك منه الأمل ).

وقالعليه‌السلام : ( ما مِن يومٍ يمرُّ على ابن آدم، إلاّ قال له ذلك اليوم: أنا يومٌ جديد، وأنا عليك شهيد، فقل فيّ خيراً، واعمل

_____________________

(١) الوافي قسم المواعظ في وصيّة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله لأبي ذر.

٢٦٨

فيّ خيراً، أشهد لك به يوم القيامة، فإنّك لنْ تراني بعد هذا أبداً )(١).

وروي أنّه جاء رجلٌ إلى عليّ بن الحسينعليهما‌السلام يشكو إليه حاله، فقال: ( مسكينٌ ابن آدم، له في كلّ يومٍ ثلاث مصائب لا يعتبر بواحدةٍ منهنّ، ولو اعتبَر لهانت عليه المصائب وأمر الدنيا:

فأمّا المصيبة الأُولى: فاليوم الذي ينقص من عمره. قال: وإنْ ناله نُقصان في ماله اغتمّ به، والدهر يخلف عنه والعمر لا يردّه شيء.

والثانية: أنّه يستوفي رزقه، فإنْ كان حلالاً حُوسِبَ عليه، وإنْ كان حراماً عوقِب.

قال: والثالثة أعظم من ذلك.

قيل: وما هي ؟ قال: ما مِن يومٍ يمسي إلاّ وقد دنا مِن الآخرة مرحلة، لا يدري على جنّةٍ أم على نار ).

وقال: ( أكبر ما يكون ابن آدم اليوم الذي يولد مِن أمّه ).

( قالت الحُكَماء ما سبَقه إلى هذا أحد )(٢) .

وقال الصادقعليه‌السلام : ( اصبروا على طاعة اللّه، وتصبّروا عن معصية اللّه، فإنّما الدنيا ساعة، فما مضى فلستَ تجِد له سروراً ولا حزناً، وما لم يأتِ فلستَ تعرفه، فاصبر على تلك الساعة التي أنت فيها فكأنّك قد اغتبطت )(٣).

وقال الباقرعليه‌السلام : ( لا يغرّنك الناس من نفسك،

_____________________

(١) الوافي ج ٣ ص ٦٣ عن الفقيه.

(٢) عن كتاب الاختصاص المنسوب للشيخ المفيد.

(٣) الوافي ج ٣ ص ٦٣ عن الكافي.

٢٦٩

فإنّ الأمر يصل إليك دونهم، ولا تقطع نهارك بكذا وكذا، فإنّ معك مَن يحفِظ عليك عملك، فأحسن فإنّي لم أرَ شيئاً أحسن درَكاً، ولا أسرَع طلَباً، مِن حسنةٍ محدّثة لذنب قديم )(١) .

وعن جعفر بن محمّد، عن آبائهعليهم‌السلام قال: قال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله : ( بادر بأربَع قبل أربَع، بشبابك قبل هرَمك، وصحّتك قبل سقمك، وغِناك قَبل فقرك، وحياتك قَبل موتك )(٢).

وعن الباقرعليه‌السلام عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله قال: ( لا يزولُ قدمَ ( قدما ) عبدٍ يوم القيامة مِن بين يدَي اللّه، حتّى يسأله عن أربَع خِصال: عمرك فيما أفنيته، وجسدك فيما أبليته، ومالك مِن أين اكتسبته وأين وضَعته، وعن حبّنا أهل البيت ؟)(٣).

وقال بعض الحكماء: إنّ الإنسان مسافر، ومنازله ستّة، وقد قطع منها ثلاثة وبقي ثلاثة:

فالتي قطعها: -

١ - مِن كتم العدَم إلى صُلب الأب وترائب الأُم.

٢ - رحِم الأُم.

٣ - مِن الرحم إلى فضاء الدنيا.

وأمّا التي لم يقطعها: -

_____________________

(١) الوافي ج ٣ ص ٦٢ عن الكافي.

(٢) البحار م ١٥ ص ١٦٥ عن كتاب كمال الدين للصدوق.

(٣) البحار م ٧ ص ٣٨٩ عن مجالس الشيخ المفيد.

٢٧٠

فأوّلها القبر. وثانيها فضاء المحشَر. وثالثها الجنّة أو النار.

ونحن الآن في قطع مرحلة المنزل الثالث، ومدّة قطعها مدّة عمرنا، فأيّامنا فراسخ، وساعاتنا أميال، وأنفاسنا خُطوات.

فكم مِن شخصٍ بقي له فراسخ، وآخر بقيَ له أميال، وآخر بقيَ له خُطوات.

وما أروع قول الشاعر:

دقّات قلبِ المرء قائلةٌ له

إنّ الحياةَ دقائقٌ وثَواني

٢٧١

العمل الصالح

لقد عرَفت في البحث السالِف نَفاسَة الوقت، وجلالة العُمر، وأنّه أعزَّ ذخائر الحياة وأنفسها.

وحيثُ كان الوقت كذلك، وجَب على العاقل أنْ يستغلّه فيما يليق به، ويكافئه عزةً ونفاسة مِن الأعمال الصالحة، والغايات السامية، الموجِبة لسعادته ورخائه المادّي والروحي، الدنيوي والأُخروي، كما قال سيّد المرسلينصلى‌الله‌عليه‌وآله : ( ليس ينبغي للعاقل أن يكون شاخصاً إلا في ثلاث: مرمّة لمعاش، أو تزوّد لمعاد، أو لذّة في غير محرم )(١) .

فهذه هي الأهداف السامية، والغايات الكريمة التي يجدر صَرْف العمر النفيس في طلبها وتحقيقها.

_____________________

(١) الوافي قسم المواعظ في وصيّة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله لعليّعليه‌السلام .

٢٧٢

وحيث كان الإنسان مدفوعاً بغرائزه وأهدافه وأهوائه إلى كسب المعاش، ونيل المُتَع واللذائذ الماديّة، والتهالك عليها، ممّا يصرفه ويُلهيه عن الأعمال الصالحة، والتأهّب للحياة الآخرة، وتوفير موجبات السعادة والهناء فيها. لذلك جاءت الآيات والأخبار مشوّقة إلى الاهتمام بالآخرة، والتزوّد لها مِن العمل الصالح.

قال تعالى:( فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ ) ( الزلزلة: ٧ - ٨ ).

وقال تعالى:( مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) ( النحل: ٩٧ ).

وقال تعالي:( وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ ) ( غافر: ٤٠ ).

وقال تعالى: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ ) ( الجاثية: ١٥ ).

وقال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله : ( يا أبا ذر، إنّك في ممرِّ الليل والنهار، في آجالٍ منقوصة، وأعمالٍ محفوظة، والموت يأتي بغتة، ومَن يزرع خيراً يوشَك أنْ يحصِد خيراً، ومَن يزرع شرَّاً يوشِك أنْ يحصدَ ندامة، ولكلّ زارعٍ مثل ما زرَع )(١).

وقال قيس بن عاصم: وفدت مع جماعة مِن بني تميم إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقلت: يا نبيّ اللّه، عِظنا موعظةً ننتفع بها، فإنّا قومٌ

_____________________

(١) الوافي في موعظة رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله لأبي ذر.

٢٧٣

نعمّر في البرّية.

فقال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله : ( يا قيس، إنّ مع العزِّ ذُلاًّ، وإنّ مع الحياة موتاً، وإنّ مع الدنيا آخرة، وإنّ لكلّ شيء حسيباً، وعلى كلِّ شيءٍ رقيباً، وإنّ لكلّ حسنة ثواباً، ولكلّ سيّئة عقاباً، ولكلِّ أجلٍ كتاباً. وإنّه لا بدَّ لك يا قيس من قرينٍ يُدفَن معك وهو حيّ، وتدفَنُ معه وأنت ميّت، فإنّ كان كريماً أكرمك، وإنْ كان لئيماً أسلمك، ثمّ لا يحشر إلاّ معك، ولا تُبعث إلاّ معه، ولا تُسأل إلاّ عنه، فلا تجعله إلاّ صالحاً، فإنّه إنْ صلُح أُنست به، وإنْ فسُد لم تستوحش إلاّ منه، وهو فعلك )(١).

وقال أمير المؤمنينعليه‌السلام : ( إنّ العبد إذا كان في آخر يوم مِن أيّام الدنيا، وأوّل يوم مِن أيّام الآخرة، مُثّل له، ماله، وولده، وعمله، فيلتفت إلى ماله، فيقول: واللّه إنّي كنت عليك حريصاً شحيحاً فمالي عندك ؟ فيقول: خذ منّي كفنك.

قال: فيلتفت إلى ولده فيقول: واللّه إنّي كنت لكم محبّاً، وإنّي كنت عليكم محامياً، فمالي عندكم ؟ فيقولون: نؤدّيك إلى حفرتك فنواريك فيها

قال: فيلتفت إلى عمله فيقول: واللّه إنّي كنت فيك لزاهداً، وإنّك كنت عليّ لثقيلاً، فمالي عندك ؟ فيقول: أنا قرينك في قبرك، ويوم

_____________________

(١) البحار م ١٥ ج ٢ ص ١٦٣ عن معاني الأخبار والخِصال وأمالي الصدوق.

٢٧٤

نشرك، حتّى أُعرض أنا وأنت على ربّك )(١).

قال: ( فإنْ كان للّه وليّاً، أتاه أطيب الناس ريحاً، وأحسنهم منظراً وأحسنهم رياشاً، فقال: أبشر بروح وريحان، وجنّة نعيم، ومقدمك خير مقدم، فيقول له: مَن أنت ؟ فيقول: أنا عملُك الصالح، ارتحل مِن الدنيا إلى الجنّة...)(٢) .

وقال الصادقعليه‌السلام : ( إذا وضع الميت في قبره، مُثّل له شخص، فقال له: يا هذا، كنّا ثلاثة: كان رزقك فانقطع بانقطاع أجلك، وكان أهلك فخلّوك وانصرفوا عنك، وكنت عملك فبقيت معك أما إني كنت أهون الثلاثة عليك )(٣).

وعن الصادق عن آبائهعليهم‌السلام قال: ( قال رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله : مَن أحسَن فيما بقي من عمره، لم يُؤخَذ بما مضى من ذنبه، ومن أساء فيما بقي من عمره أخذ بالأول والآخر ).

وقد أحسن الشاعر بقوله:

والناس همهم الحياة ولا أرى

طول الحياة يزيد غير خيال

وإذا افتقرت إلى الذخائر لم تجد

ذخراً يدوم كصالح الأعمال

_____________________

(١) الوافي ج ١٣ ص ٩٢ عن الفقيه.

(٢) الوافي ج ١٣ ص ٩٢ عن الكافي.

(٣) الوافي ج ١٣ ص ٩٤ عن الكافي.

٢٧٥

طاعة اللّه وتقواه:

الإنسان عنصر أصيل مِن عناصر هذا الكون، ونمط مثالي رفيع بين أنماطه الكثُر، بل هو أجلّها قدراً، وأرفعها شأناً، وذلك بما حباه اللّه عزّ وجل، وشرّفه بصنوف الخصائص والهِبات التي ميّزته على سائر الخلق:( وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً ) (الإسراء: ٧٠ ).

وكان مِن أبرز مظاهر العناية الإلهيّة بالإنسان، ودلائل تكريمه له: أنْ استخلفه في الأرض، واصطفى مِن عيون نوعه وخاصّتهم رُسُلاً وأنبياءً، بعثهم إلى العباد بالشرائع والمبادئ الموجِبة لتنظيم حياتهم، وإسعادهم في عاجل الدنيا وآجل الآخرة.

ولكنّ أغلب البشر، وا أسفاه ! تستعبدهم الأهواء والشهَوات، وتطفي عليهم نوازع التنكّر والتمرّد على النُظُم الإلهيّة، وتشريعها الهادف البنّاء، فيتيهون في مجاهل العصيان، ويتعسّفون طُرُق الغواية والضلال، ومِن ثمّ يعانون ضروب الحيرة والقلق والشقاء، ولو أنّهم استجابوا لطاعة اللّه تعالى، وساروا على هدي نظمه ودساتيره، لسعدوا وفازوا فوزاً عظيماً:( وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ

٢٧٦

السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَـكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ ).

أرأيت كيف انتظم الكون، واتّسقت عناصره، واستتبّ نظامه ملايين الأجيال والأحقاب ؟! بخضوعه للّه عزَّ وجل، وسيره على مقتضيات دساتيره وقوانينه ؟!

أرأيت كيف ازدهرت حياة الأحياء، واستقامت بجريها على وفق مشيئة اللّه تعالى، وحكمة نظامه وتدبيره ؟!!.

أرأيت كيف يُطبِّق الناس وصايا وتعاليم مخترعي الأجهزة الميكانيكيّة ليضمنوا صيانتها واستغلالها على أفضل وجه ؟!

أرأيت كيف يخضع الناس لنصائح الأطباء، ويعانون مشقّة العلاج ومرارة الحمية، توخّياً للبرء والشفاء ؟!.

فلِمَ لا يطيع الإنسان خالقه العظيم، ومدبّره الحكيم، الخبير بدخائله وأسراره، ومنافعه ومضارّه ؟!.

إنّه يستحيل على الإنسان أنْ ينال ما يَصبو إليه مِن سعادة وسلام، وطمأنينة ورخاء، إلاّ بطاعة اللّه تعالى، وانتهاج شريعته وقوانينه.

أنظر كيف يشوّق اللّه عزّ وجل، عباده إلى طاعته وتقواه، ويحذّرهم مغبّة التمرّد والعصيان، وهو الغنيّ المُطلق عنهم.

قال تعالى:( وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً ) ( الأحزاب: ٦١ ).

وقال سُبحانه:( وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَمَن يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَاباً أَلِيماً ) ( الفتح: ١٧ ).

٢٧٧

وأمّا التقوى، فقد علّق اللّه خير الدنيا والآخرة، وأناط بها أعزَّ الأماني والآمال، وإليك بعضها:

١ - المحبّة مِن اللّه تعالى، فقال سُبحانه:( إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ ) ( التوبة: ٤ ).

٢ - النجاة مِن الشدائد وتهيئة أسباب الارتزاق، فقال:( وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً *وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ ) ( الطلاق: ٢ - ٣ ).

٣ - النصر والتأييد، قال تعالى:( إِنَّ اللّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ ) ( النحل: ١٢٨ ).

٤ - صلاح الأعمال وقبولها، فقال تعالى:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ ) ( الأحزاب: ٧٠ - ٧١ )

وقال:( إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ ).

٥ - البشارة عند الموت، قال تعالى:( الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ *، لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ ) ( يونس:٦٣ - ٦٤ ).

٦ - النجاة من النار، قال تعالى:( ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوا ) ( مريم: ٧٢ ).

٧ - الخلود في الجنّة، قال تعالى:( أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ ) ( آل عمران: ١٣٣).

فتجلّى مِن هذا العرض، أنّ التقوى هي الكنز العظيم، الحاوي لصنوف الأماني والآمال الماديّة والروحيّة، الدينيّة والدنيويّة.

٢٧٨

حقيقة الطاعة والتقوى:

والطاعة: هي الخضوع للّه عزّ وجل، وامتثال أوامره ونواهيه.

والتقوى: مِن الوقاية، وهي صيانة النفس عمّا يضرّها في الآخرة، وقصرها على ما ينفعها فيها.

وهكذا تواترت أحاديث أهل البيتعليهم‌السلام حاثّة ومرغّبةً على طاعة اللّه تعالى وتقواه، ومحذّرة مِن عِصيانه ومخالفته.

قال الإمام الحسن الزكيعليه‌السلام في موعظته الشهيرة لجُنادة: ( اعمل لدنياك كأنّك تعيش أبداً، واعمل لآخرتك كأنّك تموت غداً، وإذا أردت عزّاً بلا عشيرة، وهيبةً بلا سلطان، فاخرج مِن ذُلّ معصية اللّه إلى عزِّ طاعة اللّه عزَّ وجل ).

وقال الصادقعليه‌السلام : ( اصبروا على طاعة اللّه، وتصبّروا عن معصية اللّه، فإنّما الدنيا ساعة، فما مضى فلستَ تجد له سروراً ولا حزناً، وما لم يأتِ فلستَ تعرفه، فاصبر على تلك الساعة التي أنت فيها، فكأنّك قد اغتبطت )(١).

وقالعليه‌السلام : ( إذا كان يوم القيامة يقوم عنُقٌ مِن الناس، فيأتون باب الجنّة فيضربونه، فيُقال لهم: مَن أنتم ؟ فيقولون: نحن أهل الصبر، فيُقال لهم: على ما صبرتم ؟ فيقولون: كنّا نصبر على طاعة اللّه

_____________________

(١) الوافي ج ٣ ص ٦٣ عن الكافي.

٢٧٩

ونصبر عن معاصي اللّه. فيقول اللّه عزَّ وجل: صدقوا، أدخلوهم الجنّة، وهو قول اللّه عزّ وجل:( إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ ) )( الزمر: ١٠)(١).

وقال الباقرعليه‌السلام : ( إذا أردت أنْ تعلم أنّ فيك خيراً، فانظر إلى قلبِك، فإنْ كان يُحبُّ أهل طاعة اللّه عزّ وجل، ويَبغض أهل معصيته ففيك خير، واللّه يُحبُّك.

وإنْ كان يَبغض أهل طاعة اللّه، ويُحِبّ أهل معصيته فليس فيك خير، واللّه يبغضك، والمرء مع مَن أحب )(٢).

وقالعليه‌السلام : ما عرَف اللّه مَن عصاه، وأنشد:

تَعصي الإله وأنتَ تُظهر حُبّه

هذا لعمرك في الفِعال بديعُ

لو كان حُبّك صادقاً لأطَعته

إنّ المحبّ لِمن أحبّ مطيع

وعن الحسن بن موسى الوّشا البغدادي قال: كنت بخُراسان مع عليّ بن موسى الرضاعليه‌السلام في مجلسه، وزيد بن موسى حاضر، وقد أقبل على جماعة في المجلس يفتخر عليهم ويقول: نحن ونحن، وأبو الحسن مُقبلٌ على قومٍ يحدّثهم، فسمِع مقالة زيد، فالتفت إليه.

فقال: ( يا زيد، أغرّك قولُ بقّاليّ الكوفة، إنّ فاطمة أحصنت فرجها، فحرّم اللّه ذرّيتها على النار، واللّه ما ذلك إلاّ للحسن والحسين، وولد بطنها خاصّة، فأمّا أنْ يكون موسى بن جعفر يطيع اللّه، ويصوم نهاره، ويقوم ليله،

_____________________

(١) البحار م ٥ ص ٢ ص ٤٩ عن الكافي.

(٢) البحار م ١٥ ج ١ ص ٢٨٣ عن علل الشرائع والمحاسن للبرقي والكافي.

٢٨٠

المستعدة الكامنة في الأرض المستعدّة بدورها ، لتبدأ حركتها التكاملية.

إنّ الطبقة الخارجية السميكة للبذور تلين قبال المطر ، وتسمح للبراعم في الخروج منها، وأخيرا تشق هذه البراعم التراب وتخترقه ، الشمس تشع ، النسيم يهب ، المواد الغذائية في الأرض تقدّم ما تستطيع ، تتقوى البراعم بسبب عوامل الحياة هذه ثمّ تواصل نموها ، بحيث ـ بعد فترة ـ نرى أن نباتات الأرض تتشابك فيما بينها :( فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ ) .

الجبل والصحراء يتحولان إلى قوّة حياتية دافعة ، أمّا البراعم والفواكه والأوراد فإنّها تزيّن الأغصان ، وكأنّ الجميع يضحك ، يصرخون صراخ الفرح ، يرقصون فرحا!

لكن هذا الواقع الجذّاب لا يدوم طويلا ، حيث تهب رياح الخريف وتلقي بغبار الموت على النباتات ، يبرد الهواء ، وتشح المياه ، ولا تمضي مدّة حتى يمسى ذلك الزرع الجميل الأخضر ذو الأغصان المورقة ، ميتا ويابسا :( فَأَصْبَحَ هَشِيماً ) (١) .

تلك الأوراق التي لم تتمكن العواصف الهوجاء من فصلها عن الأغصان في فصل الربيع ، قد أصبحت ضعيفة بدون روح بحيث أنّ أي نسيم يهب عليها يستطيع فصلها عن الأغصان ويرسلها إلى أي مكان شاء :( تَذْرُوهُ الرِّياحُ ) (٢) .

نعم :( وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً ) .

الآية التي بعدها تذكر وضع المال والثروة والقوة الإنسانية اللذين يعتبران ركنين أساسيين في الحياة الدنيا ، حيث تقول :( الْمالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا ) .

إنّ هذه الآية ـ في الحقيقة ـ تشير إلى أهم قسمين في رأسمال الحياة حيث ترتبط الأشياء الأخرى بهما ، إنّها تشير إلى (القوّة الاقتصادية) و (القوّة الإنسانية)

__________________

(١) «هشيم» من «هشم» بمعنى محطّم ، وهي هنا تطلق على النباتات المتيبسة والمتحطّمة.

(٢) «تذروه» من «ذرو» وتعني التشتيت.

٢٨١

لأنّ وجودهما ضروري لتحقيق أي هدف مادي ، خاصّة في الأزمنة السابقة إذ كان من يملك أبناء أكثر يعتبر نفسه أكثر قوة ، لأنّ الأبناء هم ركن القوّة ، وقد وجدنا في الآيات السابقة أنّ صاحب البستان الغني كان يتباهى بأمواله وأعوانه على الآخرين ويقول :( أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مالاً وَأَعَزُّ نَفَراً ) .

لذا فإنّهم كانوا يعتمدون على «البنين» جمع (ابن) والمقصود به الولد الذكر ، حيث كانوا يعتبرون الولد رأسمال القوّة الفعّالة للإنسان ، وبالطبع ليس للبنات نفس المركز أو المقام.

المهم أنّ( الْمالُ وَالْبَنُونَ ) بمثابة الورد والبراعم الموجودة على أغصان الشجر ، إنّها تزول بسرعة ولا تستمر طويلا ، وإذا لم تستثمر في طريق المسير إلى (الله) فلا يكتب لها الخلود ، ولا يكون لها أدنى اعتبار.

ورأينا أنّ أكثر الأموال ثباتا ودواما والمتمثلة في البستان والأرض الزراعية وعين الماء قد أبيدت خلال لحظات.

وفيما يخص الأبناء ، فبالإضافة إلى أنّ حياتهم وسلامتهم معرّضة للخطر دائما ، فهم يكونون في بعض الأحيان أعداء بدلا من أن يكونوا عونا في اجتياز المشاكل والصعوبات.

ثمّ يضيف القرآن :( وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ أَمَلاً ) .

بالرغم من أنّ بعض المفسّرين أرادوا حصر مفهوم (الباقيات الصالحات) في دائرة خاصّة مثل الصلوات الخمس أو ذكر : سبحان الله والحمد لله ولا إله إلّا الله والله أكبر ، وأمثال هذه الأمور ، إلّا أنّ الواضح أنّ هذا التغيير هو من السعة بحيث يشمل كل فكره وقول وعمل صالح تدوم وتبقى آثاره وبركاته بين الأفراد والمجتمعات.

فإذا رأينا في بعض الرّوايات أنّ الباقيات الصالحات تفسّر بصلاة الليل ، أو مودة أهل البيتعليهم‌السلام ، فإن الغرض من ذلك هو بيان المصداق البارز ، وليس تحديد

٢٨٢

المفهوم ، خاصّة وإن بعض هذه الرّوايات استخدمت فيها كلمة (من) التي تدل على التبعيض.

فمثلا في رواية عن الإمام الصادقعليه‌السلام أنّه قال : «لا تستصغر مودّتنا فإنّها من الباقيات الصالحات».

وفي حديث آخر عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نقرأ قوله : «لا تتركوا التسبيحات الأربع فإنّها من الباقيات الصالحات».

وحتى الأموال المتزلزلة أو الأبناء الذين يكونون أحيانا فتنة واختبارا ، إذ استخدمت في مسير الله تبارك وتعالى فإنّها ستكون من الباقيات الصالحات ، لأنّ الذات المقدسة الإلهية ذات أبدية ، فكل ما يرتبط بها ويسير نحوها سيكتب له البقاء والابدية.

* * *

بحوث

١ ـ المغريات

مرّة أخرى توظّف الآيات أعلاه دور المثال في تجسيد المعاني واستيعابها. إنّ القرآن ـ من خلال مثل واحد ـ يعكس مجموعة من الحقائق العقلية التي قد يكون من الصعب دركها من قبل الكثير من الناس.

يقول للناس : إنّ دورة حياة النبات وموته تتكرّر أمّا أعينكم في كل سنة مرّة ، فإذا كان عمر الإنسان (٦٠) سنة فإنّ هذا المشهد يتكرر أمامكم (٦٠) مرّة.

إذا ذهبتم في الربيع إلى الصحراء فستشاهدون تلك المناظر الجميلة والتي يدل كل ما فيها على الحياة ، ولكن لو ذهبتم في الخريف إلى نفس تلك الأماكن فسوف ترون الموت ينشر أجنحته في كل مكان.

إنّ مثل الإنسان في حياته كمثل النبتة ، فهو في يوم كان طفلا كالبرعم ، ثمّ

٢٨٣

أصبح شابا كالوردة المملوءة طراوة ، ثمّ يصبح كهلا ضعيفا كالنبتة الذابلة اليابسة ذات الأوراق الصفراء ، ثمّ إنّ عاصفة الموت تحصد هذا الإنسان لينتشر بعد فترة تراب جسده المتهرئ ـ بواسطة العواصف ـ إلى مختلف الاتجاهات والأماكن.

ولكن قد تنتهي دورة الحياة بصورة غير طبيعية ، بمعنى أنّها لا ترتقي إلى نهاية شوطها ، إذ من الممكن أن تنتهي في منتصف الشوط بواسطة صاعقة أو عاصفة كما في قوله تعالى في الآية (٢٤) من سورة يونس :( إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعامُ حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها أَتاها أَمْرُنا لَيْلاً أَوْ نَهاراً فَجَعَلْناها حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ ) .

وفي بعض الأحيان لا تكون الحوادث سببا لفناء الحياة في منتصف دورة الحياة ، بل يستمر السير الطبيعي حتى النهاية ، أي وصولا إلى مرحلة الذبول والتشتت والفناء كما أشارت إلى ذلك الآية التي نبحثها.

في كل الأحوال تنتهي الحياة الدنيا ـ سواء في الطريق الطبيعي أو غير الطبيعي ـ إلى الفناء الذي يحل بساحة الإنسان عاجلا أم آجلا.

٢ ـ عوامل تحطيم الغرور

قلنا : إنّ الكثير من الناس عند ما يحصلون على الإمكانات المادية والمناصب يصابون بالغرور ، وهذا الغرور هو العدو اللدود لسعادة الإنسان ، وفي الآيات السابقة رأينا كيف أنّ الغرور يؤدي إلى الشرك والكفر.

ولأنّ القرآن كتاب تربوي عظيم ، فهو يستفيد من عدة طرق لتحطيم الغرور.

ففي بعض الأحيان يجسّد لنا أنّ الفناء هو نهاية الثروات المادية كما في الآيات أعلاه.

وفي أحيان أخرى يحذّر من إمكانية تحوّل الثروات والأولاد إلى عدو

٢٨٤

للإنسان (كما في الآية ٥٥ من سورة التوبة).

وفي مرّات يحذّر الناس ويوقظ فيهم حسهم الوجداني ، عند ما يستعرض أمامهم عاقبة المغرورين في التأريخ من أمثال فرعون وقارون.

وقد رأينا القرآن يعالج إحساس الإنسان بالغرور من خلال تذكيره بماضيه ، عند ما كان نطفة عديمة الأهمية أو ترابا لا يذكر ، ثمّ يجسّد له مستقبله وما هو صائر إليه كي يعرف أنّ الغرور بين حدّي الضعف هذين يعتبر عملا جنونيا (كما في الآية ٦ من سورة الطارق ، والآية ٨ من سورة السجدة ، والآية ٣٨ من سورة القيامة).

وبهذه الصورة حاول القرآن توظيف أي أسلوب ووسيلة لمعالجة عوامل الغرور في شخصية الإنسان ، هذه الصفة الشيطانية التي هي مصدر الكثير من الجرائم في طول التأريخ.

ولكن من المسلّم به أنّ المؤمنين الحقيقيين لا يصابون بهذه الخصلة القبيحة عند الوصول إلى منصب أو ثروة ، ليس هذا وحسب ، بل ترى أنّه لا يحدث أدنى تغيير في برنامج حياتهم ، إذ يعتبرون كل هذه الأمور عبارة عن زينة عابرة ، وبضاعة زائلة ، ومصيرها إلى فناء عند ما تهب أدنى عاصفة.

* * *

٢٨٥

الآيات

( وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً وَحَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً (٤٧) وَعُرِضُوا عَلى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونا كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِداً (٤٨) وَوُضِعَ الْكِتابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يا وَيْلَتَنا ما لِهذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصاها وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً (٤٩) )

التّفسير

يا ويلتاه من هذا الكتاب!

تعقيبا لما كانت تتحدث به الآيات السابقة عن غرور الإنسان وإعجابه بنفسه ، وما تؤدي إليه هذه الصفات من إنكار للبعث والمعاد ، ينصب المقطع الراهن من الآيات التي بين أيدينا على تبيان المراحل الممهدة للقيامة وفق الترتيب الآتي :

١ ـ مرحلة ما قبل بعث الإنسان.

٢ ـ مرحلة البعث.

٢٨٦

٣ ـ قسم من مرحلة ما بعد البعث.

الآية الأولى تذكّر الإنسان بمقدمات البعث والقيامة فتقول : إنّ انهيار معالم الشكل الراهن للعالم هي أوّل مقدمات البعث ، وسيتمّ هذا التغيير لشكل العالم من خلال مجموعة مظاهر ، في الطليعة منها تسيير الجبال الرواسي وكل ما يمسك الأرض ويبرز عليها ، حتى تبدو الأرض خالية من أيّ من المظاهر السابقة :( وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً ) .

هذه الآية تشير إلى حوادث قبيل البعث ، وهي حوادث كثيرة جدّا.

والملاحظ أنّ السور القصار تتحدث عنها بشكل بارز في إطار حديثها عمّا بات يعرف اصطلاحا بـ «أشراط الساعة».

إنّ المستفاد من مجموعة تلك السور أنّ وجه العالم الراهن يتغيّر بشكل كليّ حيث تتلاشي الجبال ، وتنهار الأبنية والأشجار ، ثمّ تضرب الأرض سلسلة من الزلازل ، وتنطفئ الشمس ، ويخمد نور القمر ، وتظلم النجوم. وعلى حطام كل ذلك تظهر إلى الوجود سماء جديدة ، وأرض جديدة ، ليبدأ الإنسان حينئذ حياته الأخرى في مرحلة البعث والحساب.

بعد ذلك تضيف الآية قوله تعالى :( وَحَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً ) .

«نغادر» من «غدر» بمعنى الترك. ولذلك يقال للذي يخلف الوعد والميثاق ويتركه بأنّه «غدر» ويقال لمياه الأمطار المتجمعة في مكان واحد بـ «الغدير» لأنّها قد تركت هناك.

في كل الأحوال ، تؤكّد الآية الآنفة الذكر على أنّ المعاد هو حالة عامّة لا يستثنى منها أحد.

الآية التي بعدها تتحدّث عن كيفية بعث الناس فتقول :( وَعُرِضُوا عَلى رَبِّكَ صَفًّا ) . إنّ استخدام هذا التعبير قد يكون إشارة إلى حشر كل مجموعة من الناس تتشابه في أعمالها في صف واحد ؛ أو أنّ الجميع سيكونون في صف واحد دون

٢٨٧

أية امتيازات أو تفاوت ، وسوف يقال لهم :( لَقَدْ جِئْتُمُونا كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ ) .

فليس ثمّة كلام عن الأموال والثروات ، ولا الذهب والزينة ، ولا الامتيازات والمناصب المادية ، ولا الملابس المختلفة ، وليس هناك ناصر أو معين ، ستعودون كمثل الحالة التي خلقناكم فيها أوّل مرّة ، بالرغم من أنّكم كنتم تتوهمون عدم إمكان ذلك :( بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِداً ) .

وذلك في وقت سيطرت فيه حالة الغرور عليكم بما أوتيتم من إمكانات مادية غفلتم معها عن الآخرة ، وأصبحتم تفكرون في حياتكم الدنيا وخلودها ، وغفلتم عن نداء الفطرة فيكم.

ثمّ تشير الآيات إلى مراحل أخرى من يوم البعث والمعاد فتقول :( وَوُضِعَ الْكِتابُ ) . هذا الكتاب الذي يحتوي على أحوال الناس بكل تفصيلاتها :( فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ ) . وذلك عند ما يطّلعون على محتواه فتتجلى آثار الخوف والوحشة على وجوههم.

في هذه الأثناء يصرخون ويقولون :( وَيَقُولُونَ يا وَيْلَتَنا ما لِهذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها ) .

الجميع مدعوون للحساب عن كل شيء مهما دنا وصغر ، إنّه موقف موحش لقد نسينا بعض أعمالنا وكأن لم نفعلها ، حتى كنّا نظن بأنّنا لم نقم بعمل مخالف ، لكن نرى اليوم أنّ مسئوليتنا أصبحت ثقيلة جدّا ومصيرنا مظلم.

بالإضافة إلى الكتاب المكتوب ثمة دليل آخر :( وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً ) . وجدوا الحسنات والسيئات ؛ الظلم والعدل ، السلبيات والخيانات ، كل هذه وغيرها وجدوها متجسّدة أمامهم.

في الواقع إنّهم يلاقون مصير أعمالهم :( وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً ) . الذي سيشملهم هناك ، هو ـ لا محالة ـ ما قاموا به في هذه الحياة الدنيا ، لذلك فلا يلومون أحدا سوى أنفسهم.

* * *

٢٨٨

بحوث

١ ـ سر انهدام الجبال

قلنا : إنّه في يوم الحشر والنشور سيتغير نظام العالم المادي ، وقد وردت صياغات مختلفة حول انهدام الجبال في القرآن الكريم ، يمكن أن تقف عليها من خلال ما يلي :

في الآيات التي نبحثها قرأنا تعبير( نُسَيِّرُ الْجِبالَ ) وإنّ نفس هذه الصيغة التعبيرية يمكن ملاحظتها في الآية (٢٠) من سورة النبأ. والآية (٣) من سورة التكوير.

ولكنّنا نقرأ في الآية (١٠) من سورة المرسلات قوله تعالى :( وَإِذَا الْجِبالُ نُسِفَتْ ) .

في حين أنّنا نقرأ في الآية (١٤) من سورة الحاقة قوله تعالى :( وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً ) .

وفي الآية (١٤) من سورة المزمّل قوله تعالى :( يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ وَكانَتِ الْجِبالُ كَثِيباً مَهِيلاً ) .

وفي الآية (٥) من سورة الواقعة قوله تعالى :( وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا ) .

أخيرا نقرأ قوله تعالى في الآية (٥) من سورة القارعة :( وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ ) .

ومن الواضح أن ليس هناك تناف أو تضاد بين مجموع الآيات أعلاه ، بل هي صيغ لمراحل مختلفة لزوال جبال العالم ودمارها ، هذه الجبال التي تعتبر أكثر أجزاء الأرض ثباتا واستقرارا ، حيث تبدأ العملية من نقطة حركة الجبال حتى نقطة تحوّلها إلى غبار وتراب بحيث لا يرى في الفضاء سوى لونها!

ترى ما هي أسباب هذه الحركة العظيمة المخفية؟

٢٨٩

إنّها غير معلومة لدينا ، إذ قد يكون السبب في ذلك هو الزوال المؤقت لظاهرة الجاذبية حيث تكون الحركة الدورانية للأرض سببا في أن تتصادم الجبال فيما بينها ثمّ حركتها باتجاه الفضاء. وقد يكون السبب هو الإنفجارات الذرية العظيمة في النّواة المركزية للأرض ، وبسببها تحدث هذه الحركة العظيمة والموحشة.

وعلى كل حال ، فهذه الأمور تدلّ على أنّ حالة البعث والنشور هي ثورة عظيمة في عالم المادة الميت ، أيضا في تجديد حياة الناس ، حيث تكون كل هذه المظاهر هي بداية لعالم جديد يكون في مستوى أعلى وأفضل ، إذ بالرغم من أنّ الروح والجسم هما اللذان يحكمان طبيعة ذلك العالم ، إلّا أنّ جميع الأمور ستكون أكمل وأوسع وأفضل.

إنّ التعبير القرآني يتضمّن هذه الحقيقة أيضا ، وهي أنّ عملية فناء عيون الماء ودمار البساتين هي أمور سهلة في مقابل الحدث الأعظم الذي ستتلاشى عنده الجبال الراسيات ، ويشمل الفناء كل الموجودات بما في ذلك أعظمها وأشدّها.

٢ ـ صحيفة الأعمال

يرى العلّامة الطباطبائي في تفسير (الميزان) أنّ في يوم القيامة ثلاثة كتب ، أو ثلاثة أنواع من صحف الأعمال :

أوّلا : كتاب واحد يوضع لحساب أعمال جميع البشر ، ويشير لذلك قوله تعالى في الآية التي نحن بصددها( وَوُضِعَ الْكِتابُ ) .

الثّاني : كتاب يختص بكل أمّة ، إذ لكل أمة كتاب قد كتب فيه أعمالها كما يصرّح بذلك قول الحق سبحانه وتعالى في الآيتين ٢٨ ، ٢٩ من سورة الجاثية في قوله تعالى:( كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا ) .

الثّالث : كتاب لكل انسان بصورة مستقلة كما ورد في سورة الأسراء : الآية (١٣)( وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً ) .

٢٩٠

وطبيعي أنّه لا يوجد أي تعارض بين هذه الآيات ، لأنّه ليس ثمّة مانع من أن تدوّن أعمال الإنسان في عدّة كتب ، كما نشاهد نظير ذلك في برامج دنيا اليوم ، إذ من أجل التنظيم الدقيق لتشكيلات دولة ما ، هناك نظام وحساب لكل قسم ، ثمّ إنّ هذه الأقسام وفي ظل أقسام أكبر لها حساب جديد.

ولكن يجب الانتباه إلى أنّ صحيفة أعمال الناس في يوم القيامة لا تشبه الدفتر والكتاب العادي في هذا العالم ، فهي مجموعة ناطقة غير قابلة للنكران ، وقد تكون الناتج الطبيعي لأعمال الإنسان نفسه.

في كل الأحوال ، نرى أنّ الآيات التي نبحثها تظهر أنّه علاوة على تدوين أعمال الناس في الكتب الخاصّة ، فإنّ نفس الأعمال ستتجسّد هناك وستحضر :( وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً ) .

فالأعمال التي تكون شكل طاقات متناثرة في هذا العالم وتكون محجوبة عن الأنظار وتبدو وكأنّها قد تلاشت وانتهت ، هي في الحقيقة لم تنته (وقد أثبت العلم اليوم أنّ أي مادي أو طاقة لا يمكن أن تفنى ، بل يتغير شكلها دائما).

ففي ذلك اليوم تتحوّل هذه الطاقة الضائعة بإذن الله إلى مادة ، وتتجسّد على شكل صور مناسبة ، فالأعمال الحسنة على شكل صور لطيفة وجميلة ، والأعمال السيئة على شكل صور قبيحة ، وهذه الأعمال ستكون معنا ، ولهذا السبب نرى أنّ آخر جملة في الآيات أعلاه تقول :( وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً ) لأنّ الثواب والعقاب يترتبان على نفس أعمال الإنسان.

بعض المفسّرين اعتبر جملة( وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً ) تأكيدا على قضية صحيفة الأعمال ، وقالوا : إنّ معنى الجملة هو أنّنا سنجد جميع أعمالنا مدوّنة في ذلك الكتاب(١) .

البعض الآخر اعتبر كلمة (جزاء) في هذه الآية مقدّرة وقالوا : إنّ المعنى هو

__________________

(١) الفخر الرازي في التّفسير الكبير ، والقرطبي في التّفسير الجامع.

٢٩١

أنّهم في ذلك اليوم «سيشاهدون جزاء أعمالهم جاهزا»(١) .

إلّا أنّ التّفسير الأوّل أكثر ملاءمة مع ظاهر الآيات.

أمّا فيما يخص تجسّد الأعمال فقد ذكرنا شرحا مفصلا لذلك في نهاية الآية (٣٠) من سورة آل عمران ، وسنبحثه أكثر مرّة أخرى أثناء الحديث عن الآيات التي تناسب الموضوع.

٣ ـ الإيمان بالمعاد ودوره في تربية الناس

حقّا إنّ القرآن كتاب تربوي عجيب ، فعند ما يذكر للناس جانبا من مشاهد القيامة يقول : إنّ الجميع سيعرضون على محكمة الخالق العادلة على شكل صفوف منظمة ، في حين أن تشابه عقائدهم وأعمالهم هو المعيار في الفرز بين صفوفهم! إنّ أيديهم هناك فارغة من كل شيء ، فقد تركوا كل متعلقات الدنيا ، فهم في جمعهم فرادى ، وفي فرديتهم مجموعين، تعرض صحائف أعمالهم.

هناك يذكر كل شيء ، صغائر وكبائر الناس ، والأكثر من ذلك أنّ الأعمال والأفكار نفسها تحيا تتجسّد تحيط الأعمال المتجسّدة بأطراف كل شيء ، فالناس مشغولون بأنفسهم بحيث أنّ الأم تنسى ولدها ، والابن ينسى الأب والأم بشكل كامل.

هذه المحكمة الإلهية ـ والجزاء العظيم ـ التي تنتظر المسيئين ، ستلقي بظلها الثقيل والموحش على جميع الناس ، حيث تحبس الأنفاس في الصدور ، وتتوقف العيون عن الحركة! ترى ما مقدار ما يعكسه الإيمان بهذا اليوم ـ بهذه المحكمة بكل ما تتخلله من مشاهد ومواقف ـ على قضية تربية الإنسان ودفعه لمسك زمام شهواته!؟

في حديث عن الإمام الصادق نقرأ وصفهعليه‌السلام لهذا اليوم : «إذا كان يوم القيامة

__________________

(١) المصدر السّابق.

٢٩٢

دفع للإنسان كتاب ، ثمّ قيل له : اقرأ» قلت : فيعرف ما فيه؟ فقال : «إنّه يذكره ، فما من لحظة ولا كلمة ولا نقل قدم ولا شيء فعله إلّا ذكره ، كأنّه فعله تلك الساعة ، ولذلك قالوا : يا ويلتنا ما لهذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلّا أحصاها»(١) .

من هنا يتّضح الدور المؤثر للإيمان بالقيامة في تربية الإنسان ، وإلّا فهل يمكن أن يجمع الإنسان بين الذنب ، وبين إيمانه ويقينه بهذا اليوم!؟

* * *

__________________

(١) نور الثقلين ، ج ٣ ، ص ٢٦٧.

٢٩٣

الآيات

( وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً (٥٠) ما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً (٥١) وَيَوْمَ يَقُولُ نادُوا شُرَكائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ مَوْبِقاً (٥٢) وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُواقِعُوها وَلَمْ يَجِدُوا عَنْها مَصْرِفاً (٥٣) )

التّفسير

لا تتخذوا الشياطين أولياء :

لقد تحدثت الآيات مرّات عدّة عن خلق آدم وسجود الملائكة له ، وعدم انصياع إبليس. وقد قلنا : إنّ هذا التكرار يطوي دروس متعدّدة ، وفي كل مقطع مكرّر هناك دروس وعبر جديدة.

٢٩٤

بعبارة أخرى نقول : إنّ للحادثة المهمّة عدّة أبعاد ، وفي كل مرّة تذكر فيها يتجلى واحد من أبعادها.

ولأنّ الآيات السابقة ذكرت مثالا واقعيا عن كيفية وقوف الأثرياء المستكبرين والمغرورين في مقابل الفقراء المستضعفين وتجسّد عاقبة عملهم ، ولأنّ الغرور كان هو السبب الأصلي لانحراف هؤلاء وانجرارهم إلى الكفر والطغيان ، لذا فإنّ الآيات تعطف الكلام على قصة إبليس وكيف أبى السجود لآدم غرورا منه وعلوا ، وكيف قاده هذا الغرور والعلو إلى الكفر والطغيان.

إضافة إلى ذلك ، فإنّ هذه القصّة توضّح أنّ الانحرافات تنبع من وساوس الشيطان ، كم تكشف أنّ الاستسلام إلى وساوس الشيطان الذي أصرّ على عناده وعداوته للحق تعالى يعدّ غاية الجنون والحمق.

في البداية تقول الآيات : تذكروا ذلك اليوم الذي فيه :( وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ ) . هذا الاستثناء يمكن أن يوهمنا بأنّ إبليس كان من جنس الملائكة ، في حين أنّ الملائكة معصومون ، فكيف سلك إبليس ـ إذا ـ طريق الطغيان والكفر إذا كان من جملتهم؟

لذلك فإنّ الآيات ـ منعا لهذا الوهم ـ تقول مباشرة إنّه :( كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ ) .

إنّه إذا لم يكن من الملائكة ، لكنّه ـ بسبب عبوديته وطاعته للخالق جلّ وعلا ـ قرّب وكان في صف الملائكة ، بل وكان معلما لهم ، إلّا أنّه ـ بسبب لحظة من الغرور والكبر ـ سقط سقوطا بحيث أنّه فقد معه كل ملاكاته المعنوية ، وأصبح أكثر الموجودات نفرة وابتعادا عن الله تبارك وتعالى.

ثمّ تقول الآية :( أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي ) .

والعجب أنّهم :( وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ ) .

وهذا العدو ، هو عدوّ صعب مصمّم على ضلالكم وأن يوردكم سوء العاقبة ،

٢٩٥

وقد أظهر عدوانه منذ اليوم الأوّل لأبيكم آدمعليه‌السلام .

فاتّخاذ الشيطان وأولاده. بدلا من الخالق المتعال أمر قبيح :( بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً ) (١) .

حقّا إنّه لأمر قبيح أن يترك الإنسان الإله العالم الرحيم العطوف ذا الفيوضات والرحمات والألطاف ، ويتمسك بالشيطان وأصحابه ، إنّه أقبح إختيار ، فأي عاقل يقبل أن يتخذ من عدوّه الذي ناصبه العداء ـ منذ اليوم الأوّل وليا وقائدا ودليلا ومعتمدا؟!

الآية التي بعدها هي دليل آخر على إبطال هذا التصوّر الخاطئ ، إذ تقول : عن إبليس وابنائه أنّهم لم يكن لهم وجود حين خلق السماوات والأرض ، بل لم يشهدوا حتى خلق أنفسهم :( ما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ ) . حتى نطلب العون منهم في خلق العالم ، أو نطلعهم على أسرار الخلق.

لذا فإنّ الشخص الذي ليس له أي دور في خلق العالم ، وحتى في خلق من يقع على شاكلته ومن هو من نوعه ، ولا يعرف شيئا من أسرار الخلق ، كيف يكون مستحقا للولاية ، أو العبادة ، وأي قدرة أو دور يملك؟

إنّه كائن ضعيف وجاهل حتى بقضاياه الذاتية ، فكيف يستطيع أن يقود الآخرين ، أو أن ينقذهم من المشاكل والصعوبات؟

ثمّ تقول :( وَما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً ) .

يعني أنّ الخلق قائم على أساس الصدق والصحة والهداية ، أمّا الكائن الذي يقوم منهج حياته على الإضلال والإفساد ، فليس له مكان في إدارة هذا النظام ، لأنّه يسير في اتجاه معاكس لنظام الخلق والوجود ؛ إنّه مخرّب ومدمّر وليس مصلحا متكاملا.

آخر آية من الآيات التي نبحثها ، تحذّر مرّة أخرى ، وتقول : تذكروا يوما يأتي

__________________

(١) «بدلا» من حيث التركيب اللغوي ، تمييز. وفاعل «بئس» هو الشيطان وعصابته ، أو عباد الشيطان وعصابته.

٢٩٦

فيه النداء الإلهي :( وَيَوْمَ يَقُولُ نادُوا شُرَكائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ ) .

لقد كنتم تنادونهم عمرا كاملا ، وكنتم تسجدون لهم ، واليوم وبعد أن أحاطت بكم أمواج العذاب في ساحة الجزاء ، نادوهم ليأتوا لمساعدتكم ولو لساعة واحدة فقط.

هناك ينادي الأشخاص الذين لا تزال ترسبات أفكار الدنيا في عقولهم :( فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ ) . فلم يجيبوا على ندائهم ، فكيف بمساعدتهم وانقاذهم!!

( وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ مَوْبِقاً ) (١) .

ثمّ تقول الآية التي بعدها موضحة عاقبة الذين اتبعوا الشيطان والمشركين :( وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ ) .

لقد انكشفت لهم النّار التي لم يكونوا يصدّقون بها أبدا ، وظهرت أمام أعينهم ، وحينئذ يشعرون بأخطائهم ، ويتيقنون بأنّهم سيدخلون النّار وستدخلهم :( فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُواقِعُوها ) .

ثمّ يتيقنون أيضا أنّ لا منقذ لهم منها :( وَلَمْ يَجِدُوا عَنْها مَصْرِفاً ) .

فلا تنقذهم اليوم منها لا معبوداتهم ولا شفاعة الشفعاء ، ولا الكذب أو التوسّل بالذهب والقوّة ، إنّها النّار التي يزداد سعيرها بسبب أعمالهم.

ينبغي الالتفات هنا إلى أنّ جملة «ظنّوا» بالرغم من أنّها مشتقّة من «الظن» إلّا أنّها في هذا المورد ، وفي موارد أخرى تأتي بمعنى اليقين ، لذا فإنّ الآية (٢٤٩) من سورة البقرة تستخدم نفس التعبير بالرغم من أنّها تتحدث عن المؤمنين الحقيقيين والمجاهدين المرابطين الذين كانوا مع طالوت لقتال جالوت الجبّار الظالم ، إذ تقول :( قالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ ) .

__________________

(١) «موبق» من «وبوق» على وزن «نبوغ» وهي تعني الهلاك ، و (موبق) تقال للمهلكة.

٢٩٧

فإنّ كلمة «موقعوها» مشتقّة من «مواقعة» بمعنى الوقوع على الآخرين ، وهي إشارة إلى أنّهم يقعون على النّار ، وأنّ النّار تقع عليهم ؛ فالنّار تنفذ فيهم وهم ينفذون في النّار ، وقد قرأنا في الآية (٢٤) من سورة البقرة قوله تعالى :( فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ ) .

* * *

بحثان

١ ـ هل كان الشيطان ملكا؟

كما نعلم أنّ الملائكة أطهار ومعصومون كما صرّح بذلك القرآن الكريم :( بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ ) (١) .

ويعود سبب عدم وجود التكبر والغرور ودوافع ارتكاب الذنوب لدى الملائكة ، إلى أن العقل لا الشهوة يتحكم في أعماقهم.

من ناحية ثانية ، يتداعى إلى الذهن من خلال استثناء إبليس في الآيات المذكورة أعلاه (وآيات أخرى في القرآن الكريم) أنّه من صنف الملائكة ، بأنّه كان منهم. وهنا يرد على عصيانه وتمرده والإشكال التالي : كيف تصدر ذنوب كبيرة عن ملك من الملائكة؟ و

قد جاء في نهج البلاغة «ما كان الله سبحانه ليدخل الجنة بشرا بأمر أخراج به منها ملكا»(٢) .

الآيات المذكورة تحل لنا رموز هذه المشكلة حينما تقول :( كانَ مِنَ الْجِنِ ) ، والجن كائنات خفية عن أنظارنا لها عقل وإحساس وغضب وشهوة ، ومتى ما وردت في القرآن كلمة «الجن» فإنّها تعني هذه الكائنات لكن من يعتقد من المفسّرين بأن إبليس كان من الملائكة ، فإنّما يفسر الآية المذكورة آنفا

__________________

(١) الأنبياء ، ٢٦ ـ ٢٧.

(٢) نهج البلاغة الخطبة (١٩٢) «الخطبة القاصعة».

٢٩٨

بمفهومها اللغوي ، ويقول : إنّه يفهم من عبارة( كانَ مِنَ الْجِنِ ) أنّه كان خفيا عن الأنظار كسائر الملائكة ، وهذا المعنى خلاف الظاهر تماما.

ومن الدلائل الواضحة التي تؤكّد ما ذهبنا إليه من المعنى ، أنّ القرآن الكريم يقول في الآية (١٥) من سورة الرحمن :( وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ ) أي من نيران مختلطة ومن جانب آخر كان منطق إبليس عند ما امتنع عن السجود لآدم :( خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ ) (١) .

هذا بالإضافة إلى أن الآيات الشريفة أعلاه أشارت إلى أن لإبليس (ذرية) في حين أن الملائكة لا ذرية لهم.

إن ما ذكرناه آنفا ، مضافا إليه التركيبة الجوهرية للملائكة تثبت أن إبليس لم يكن ملكا ، لكن آية السجود لآدم شملته ـ أيضا ـ لانضمامه إلى صفوف الملائكة ، وكثرة عبادته لله وطموحه للوصول إلى منزلة الملائكة المقربين.

وإنّما بيّن القرآن امتناع إبليس عن السجود بشكل استثنائي ، وأطلق عليه الأمام عليّعليه‌السلام في الخطبة القاصعة في نهج البلاغة كلمة (الملك) كتعبير مجازي.

وجاء في كتاب (عيون الأخبار) عن الإمام علي بن موسى الرضاعليه‌السلام : «إنّ الملائكة معصومون ومحفوظون من الكفر بلطف الله تعالى» قالا : قلنا له : فعلى هذا لم يكن إبليس أيضا ملكا؟ ، فقال : «لا ، بل كان من الجن ، أما تسمعان الله تعالى يقول :( وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِ ) فأخبرعزوجل أنّه من الجن ، ...»(٢)

وفي حديث آخر نقل عن الإمام الصادقعليه‌السلام ، بأن أحد أصحابه المخلصين وهو جميل بن دراج قال : سألته عن إبليس كان من الملائكة وهل كان يلي من أمر السماء شيئا؟قال : «لم يكن من الملائكة ولم يكن يلي من السماء شيئا ، أنّه

__________________

(١) الأعراف ، ١٢.

(٢) نور الثقلين ، ج ٣ ، ص ٢٦٧.

٢٩٩

كان من الجن وكان مع الملائكة ، وكانت الملائكة تراه أنّه منها ، وكان الله يعلم أنّه ليس منها ، فلمّا أمر بالسجود كان منه الذي كان»(١) .

وعند ما صدر أمر السجود تحقق الشيء الذي نعرفه (كشفت الأستار واتضحت ماهية إبليس).

وهناك بحوث تفصيلية ذكرناها حول إبليس والشيطان بشكل عام في ذيل الآيات (١١ ـ ١٨) من سورة الأعراف ، وفي ذيل الآية (١١٢) من سورة الأنعام ، وفي ذيل الآية (٣٤) من سورة البقرة.

٢ ـ لا تستعينوا بالضالّين

مع أن هذه الآيات ، صادرة عنه تعالى وتنفي وجود عضد له من الضالين ، ونعلم أنّه تعالى ليس بحاجة إلى من يعينه سواء كان المعين ضالا أم لم يكن ، لكنها تقدم لنا درسا كبيرا للعمل الجماعي ، حيث يجب أن يكون الشخص المنتخب للنصرة والعون سائرا على منهج الحق والعدالة ويدعو إليها ، وما أكثر ما رأينا أشخاصا طاهرين قد ابتلوا بمختلف أنواع الانحرافات والمشاكل وأصيبوا بالخيبة وسوء الحظ جراء عدم الدقّة في انتخاب الأعوان ، حيث التفّ حولهم عدد من الضالّين والمضلّين حتى تلفت أعمالهم ، وكانت خاتمة أمرهم أن فقدوا كل ملكاتهم الإنسانية والاجتماعية.

إنّنا نقرأ في تاريخ كربلاء أن سيد الشهداء الإمام الحسينعليه‌السلام قام يتمشى إلى (عبيد الله بن الحر الجعفي) وهو في فسطاطه حتى دخل عليه وسلم عليه ، فقام ابن الحر وأخلى له المجلس ، فجلس ودعاه إلى نصرته ، فقال عبيد الله بن الحر : والله ما خرجت من الكوفة إلّا مخافة أن تدخلها ، ولا أقاتل معك ، ولو قاتلت لكنت أوّل مقتول ، ولكن هذا سيفي وفرسي فخذهما

__________________

(١) المصدر السّابق.

٣٠٠

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576