الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٩

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل10%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 576

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 576 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 264362 / تحميل: 11788
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٩

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

المستعدة الكامنة في الأرض المستعدّة بدورها ، لتبدأ حركتها التكاملية.

إنّ الطبقة الخارجية السميكة للبذور تلين قبال المطر ، وتسمح للبراعم في الخروج منها، وأخيرا تشق هذه البراعم التراب وتخترقه ، الشمس تشع ، النسيم يهب ، المواد الغذائية في الأرض تقدّم ما تستطيع ، تتقوى البراعم بسبب عوامل الحياة هذه ثمّ تواصل نموها ، بحيث ـ بعد فترة ـ نرى أن نباتات الأرض تتشابك فيما بينها :( فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ ) .

الجبل والصحراء يتحولان إلى قوّة حياتية دافعة ، أمّا البراعم والفواكه والأوراد فإنّها تزيّن الأغصان ، وكأنّ الجميع يضحك ، يصرخون صراخ الفرح ، يرقصون فرحا!

لكن هذا الواقع الجذّاب لا يدوم طويلا ، حيث تهب رياح الخريف وتلقي بغبار الموت على النباتات ، يبرد الهواء ، وتشح المياه ، ولا تمضي مدّة حتى يمسى ذلك الزرع الجميل الأخضر ذو الأغصان المورقة ، ميتا ويابسا :( فَأَصْبَحَ هَشِيماً ) (١) .

تلك الأوراق التي لم تتمكن العواصف الهوجاء من فصلها عن الأغصان في فصل الربيع ، قد أصبحت ضعيفة بدون روح بحيث أنّ أي نسيم يهب عليها يستطيع فصلها عن الأغصان ويرسلها إلى أي مكان شاء :( تَذْرُوهُ الرِّياحُ ) (٢) .

نعم :( وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً ) .

الآية التي بعدها تذكر وضع المال والثروة والقوة الإنسانية اللذين يعتبران ركنين أساسيين في الحياة الدنيا ، حيث تقول :( الْمالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا ) .

إنّ هذه الآية ـ في الحقيقة ـ تشير إلى أهم قسمين في رأسمال الحياة حيث ترتبط الأشياء الأخرى بهما ، إنّها تشير إلى (القوّة الاقتصادية) و (القوّة الإنسانية)

__________________

(١) «هشيم» من «هشم» بمعنى محطّم ، وهي هنا تطلق على النباتات المتيبسة والمتحطّمة.

(٢) «تذروه» من «ذرو» وتعني التشتيت.

٢٨١

لأنّ وجودهما ضروري لتحقيق أي هدف مادي ، خاصّة في الأزمنة السابقة إذ كان من يملك أبناء أكثر يعتبر نفسه أكثر قوة ، لأنّ الأبناء هم ركن القوّة ، وقد وجدنا في الآيات السابقة أنّ صاحب البستان الغني كان يتباهى بأمواله وأعوانه على الآخرين ويقول :( أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مالاً وَأَعَزُّ نَفَراً ) .

لذا فإنّهم كانوا يعتمدون على «البنين» جمع (ابن) والمقصود به الولد الذكر ، حيث كانوا يعتبرون الولد رأسمال القوّة الفعّالة للإنسان ، وبالطبع ليس للبنات نفس المركز أو المقام.

المهم أنّ( الْمالُ وَالْبَنُونَ ) بمثابة الورد والبراعم الموجودة على أغصان الشجر ، إنّها تزول بسرعة ولا تستمر طويلا ، وإذا لم تستثمر في طريق المسير إلى (الله) فلا يكتب لها الخلود ، ولا يكون لها أدنى اعتبار.

ورأينا أنّ أكثر الأموال ثباتا ودواما والمتمثلة في البستان والأرض الزراعية وعين الماء قد أبيدت خلال لحظات.

وفيما يخص الأبناء ، فبالإضافة إلى أنّ حياتهم وسلامتهم معرّضة للخطر دائما ، فهم يكونون في بعض الأحيان أعداء بدلا من أن يكونوا عونا في اجتياز المشاكل والصعوبات.

ثمّ يضيف القرآن :( وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ أَمَلاً ) .

بالرغم من أنّ بعض المفسّرين أرادوا حصر مفهوم (الباقيات الصالحات) في دائرة خاصّة مثل الصلوات الخمس أو ذكر : سبحان الله والحمد لله ولا إله إلّا الله والله أكبر ، وأمثال هذه الأمور ، إلّا أنّ الواضح أنّ هذا التغيير هو من السعة بحيث يشمل كل فكره وقول وعمل صالح تدوم وتبقى آثاره وبركاته بين الأفراد والمجتمعات.

فإذا رأينا في بعض الرّوايات أنّ الباقيات الصالحات تفسّر بصلاة الليل ، أو مودة أهل البيتعليهم‌السلام ، فإن الغرض من ذلك هو بيان المصداق البارز ، وليس تحديد

٢٨٢

المفهوم ، خاصّة وإن بعض هذه الرّوايات استخدمت فيها كلمة (من) التي تدل على التبعيض.

فمثلا في رواية عن الإمام الصادقعليه‌السلام أنّه قال : «لا تستصغر مودّتنا فإنّها من الباقيات الصالحات».

وفي حديث آخر عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نقرأ قوله : «لا تتركوا التسبيحات الأربع فإنّها من الباقيات الصالحات».

وحتى الأموال المتزلزلة أو الأبناء الذين يكونون أحيانا فتنة واختبارا ، إذ استخدمت في مسير الله تبارك وتعالى فإنّها ستكون من الباقيات الصالحات ، لأنّ الذات المقدسة الإلهية ذات أبدية ، فكل ما يرتبط بها ويسير نحوها سيكتب له البقاء والابدية.

* * *

بحوث

١ ـ المغريات

مرّة أخرى توظّف الآيات أعلاه دور المثال في تجسيد المعاني واستيعابها. إنّ القرآن ـ من خلال مثل واحد ـ يعكس مجموعة من الحقائق العقلية التي قد يكون من الصعب دركها من قبل الكثير من الناس.

يقول للناس : إنّ دورة حياة النبات وموته تتكرّر أمّا أعينكم في كل سنة مرّة ، فإذا كان عمر الإنسان (٦٠) سنة فإنّ هذا المشهد يتكرر أمامكم (٦٠) مرّة.

إذا ذهبتم في الربيع إلى الصحراء فستشاهدون تلك المناظر الجميلة والتي يدل كل ما فيها على الحياة ، ولكن لو ذهبتم في الخريف إلى نفس تلك الأماكن فسوف ترون الموت ينشر أجنحته في كل مكان.

إنّ مثل الإنسان في حياته كمثل النبتة ، فهو في يوم كان طفلا كالبرعم ، ثمّ

٢٨٣

أصبح شابا كالوردة المملوءة طراوة ، ثمّ يصبح كهلا ضعيفا كالنبتة الذابلة اليابسة ذات الأوراق الصفراء ، ثمّ إنّ عاصفة الموت تحصد هذا الإنسان لينتشر بعد فترة تراب جسده المتهرئ ـ بواسطة العواصف ـ إلى مختلف الاتجاهات والأماكن.

ولكن قد تنتهي دورة الحياة بصورة غير طبيعية ، بمعنى أنّها لا ترتقي إلى نهاية شوطها ، إذ من الممكن أن تنتهي في منتصف الشوط بواسطة صاعقة أو عاصفة كما في قوله تعالى في الآية (٢٤) من سورة يونس :( إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعامُ حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها أَتاها أَمْرُنا لَيْلاً أَوْ نَهاراً فَجَعَلْناها حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ ) .

وفي بعض الأحيان لا تكون الحوادث سببا لفناء الحياة في منتصف دورة الحياة ، بل يستمر السير الطبيعي حتى النهاية ، أي وصولا إلى مرحلة الذبول والتشتت والفناء كما أشارت إلى ذلك الآية التي نبحثها.

في كل الأحوال تنتهي الحياة الدنيا ـ سواء في الطريق الطبيعي أو غير الطبيعي ـ إلى الفناء الذي يحل بساحة الإنسان عاجلا أم آجلا.

٢ ـ عوامل تحطيم الغرور

قلنا : إنّ الكثير من الناس عند ما يحصلون على الإمكانات المادية والمناصب يصابون بالغرور ، وهذا الغرور هو العدو اللدود لسعادة الإنسان ، وفي الآيات السابقة رأينا كيف أنّ الغرور يؤدي إلى الشرك والكفر.

ولأنّ القرآن كتاب تربوي عظيم ، فهو يستفيد من عدة طرق لتحطيم الغرور.

ففي بعض الأحيان يجسّد لنا أنّ الفناء هو نهاية الثروات المادية كما في الآيات أعلاه.

وفي أحيان أخرى يحذّر من إمكانية تحوّل الثروات والأولاد إلى عدو

٢٨٤

للإنسان (كما في الآية ٥٥ من سورة التوبة).

وفي مرّات يحذّر الناس ويوقظ فيهم حسهم الوجداني ، عند ما يستعرض أمامهم عاقبة المغرورين في التأريخ من أمثال فرعون وقارون.

وقد رأينا القرآن يعالج إحساس الإنسان بالغرور من خلال تذكيره بماضيه ، عند ما كان نطفة عديمة الأهمية أو ترابا لا يذكر ، ثمّ يجسّد له مستقبله وما هو صائر إليه كي يعرف أنّ الغرور بين حدّي الضعف هذين يعتبر عملا جنونيا (كما في الآية ٦ من سورة الطارق ، والآية ٨ من سورة السجدة ، والآية ٣٨ من سورة القيامة).

وبهذه الصورة حاول القرآن توظيف أي أسلوب ووسيلة لمعالجة عوامل الغرور في شخصية الإنسان ، هذه الصفة الشيطانية التي هي مصدر الكثير من الجرائم في طول التأريخ.

ولكن من المسلّم به أنّ المؤمنين الحقيقيين لا يصابون بهذه الخصلة القبيحة عند الوصول إلى منصب أو ثروة ، ليس هذا وحسب ، بل ترى أنّه لا يحدث أدنى تغيير في برنامج حياتهم ، إذ يعتبرون كل هذه الأمور عبارة عن زينة عابرة ، وبضاعة زائلة ، ومصيرها إلى فناء عند ما تهب أدنى عاصفة.

* * *

٢٨٥

الآيات

( وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً وَحَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً (٤٧) وَعُرِضُوا عَلى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونا كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِداً (٤٨) وَوُضِعَ الْكِتابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يا وَيْلَتَنا ما لِهذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصاها وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً (٤٩) )

التّفسير

يا ويلتاه من هذا الكتاب!

تعقيبا لما كانت تتحدث به الآيات السابقة عن غرور الإنسان وإعجابه بنفسه ، وما تؤدي إليه هذه الصفات من إنكار للبعث والمعاد ، ينصب المقطع الراهن من الآيات التي بين أيدينا على تبيان المراحل الممهدة للقيامة وفق الترتيب الآتي :

١ ـ مرحلة ما قبل بعث الإنسان.

٢ ـ مرحلة البعث.

٢٨٦

٣ ـ قسم من مرحلة ما بعد البعث.

الآية الأولى تذكّر الإنسان بمقدمات البعث والقيامة فتقول : إنّ انهيار معالم الشكل الراهن للعالم هي أوّل مقدمات البعث ، وسيتمّ هذا التغيير لشكل العالم من خلال مجموعة مظاهر ، في الطليعة منها تسيير الجبال الرواسي وكل ما يمسك الأرض ويبرز عليها ، حتى تبدو الأرض خالية من أيّ من المظاهر السابقة :( وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً ) .

هذه الآية تشير إلى حوادث قبيل البعث ، وهي حوادث كثيرة جدّا.

والملاحظ أنّ السور القصار تتحدث عنها بشكل بارز في إطار حديثها عمّا بات يعرف اصطلاحا بـ «أشراط الساعة».

إنّ المستفاد من مجموعة تلك السور أنّ وجه العالم الراهن يتغيّر بشكل كليّ حيث تتلاشي الجبال ، وتنهار الأبنية والأشجار ، ثمّ تضرب الأرض سلسلة من الزلازل ، وتنطفئ الشمس ، ويخمد نور القمر ، وتظلم النجوم. وعلى حطام كل ذلك تظهر إلى الوجود سماء جديدة ، وأرض جديدة ، ليبدأ الإنسان حينئذ حياته الأخرى في مرحلة البعث والحساب.

بعد ذلك تضيف الآية قوله تعالى :( وَحَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً ) .

«نغادر» من «غدر» بمعنى الترك. ولذلك يقال للذي يخلف الوعد والميثاق ويتركه بأنّه «غدر» ويقال لمياه الأمطار المتجمعة في مكان واحد بـ «الغدير» لأنّها قد تركت هناك.

في كل الأحوال ، تؤكّد الآية الآنفة الذكر على أنّ المعاد هو حالة عامّة لا يستثنى منها أحد.

الآية التي بعدها تتحدّث عن كيفية بعث الناس فتقول :( وَعُرِضُوا عَلى رَبِّكَ صَفًّا ) . إنّ استخدام هذا التعبير قد يكون إشارة إلى حشر كل مجموعة من الناس تتشابه في أعمالها في صف واحد ؛ أو أنّ الجميع سيكونون في صف واحد دون

٢٨٧

أية امتيازات أو تفاوت ، وسوف يقال لهم :( لَقَدْ جِئْتُمُونا كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ ) .

فليس ثمّة كلام عن الأموال والثروات ، ولا الذهب والزينة ، ولا الامتيازات والمناصب المادية ، ولا الملابس المختلفة ، وليس هناك ناصر أو معين ، ستعودون كمثل الحالة التي خلقناكم فيها أوّل مرّة ، بالرغم من أنّكم كنتم تتوهمون عدم إمكان ذلك :( بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِداً ) .

وذلك في وقت سيطرت فيه حالة الغرور عليكم بما أوتيتم من إمكانات مادية غفلتم معها عن الآخرة ، وأصبحتم تفكرون في حياتكم الدنيا وخلودها ، وغفلتم عن نداء الفطرة فيكم.

ثمّ تشير الآيات إلى مراحل أخرى من يوم البعث والمعاد فتقول :( وَوُضِعَ الْكِتابُ ) . هذا الكتاب الذي يحتوي على أحوال الناس بكل تفصيلاتها :( فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ ) . وذلك عند ما يطّلعون على محتواه فتتجلى آثار الخوف والوحشة على وجوههم.

في هذه الأثناء يصرخون ويقولون :( وَيَقُولُونَ يا وَيْلَتَنا ما لِهذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها ) .

الجميع مدعوون للحساب عن كل شيء مهما دنا وصغر ، إنّه موقف موحش لقد نسينا بعض أعمالنا وكأن لم نفعلها ، حتى كنّا نظن بأنّنا لم نقم بعمل مخالف ، لكن نرى اليوم أنّ مسئوليتنا أصبحت ثقيلة جدّا ومصيرنا مظلم.

بالإضافة إلى الكتاب المكتوب ثمة دليل آخر :( وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً ) . وجدوا الحسنات والسيئات ؛ الظلم والعدل ، السلبيات والخيانات ، كل هذه وغيرها وجدوها متجسّدة أمامهم.

في الواقع إنّهم يلاقون مصير أعمالهم :( وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً ) . الذي سيشملهم هناك ، هو ـ لا محالة ـ ما قاموا به في هذه الحياة الدنيا ، لذلك فلا يلومون أحدا سوى أنفسهم.

* * *

٢٨٨

بحوث

١ ـ سر انهدام الجبال

قلنا : إنّه في يوم الحشر والنشور سيتغير نظام العالم المادي ، وقد وردت صياغات مختلفة حول انهدام الجبال في القرآن الكريم ، يمكن أن تقف عليها من خلال ما يلي :

في الآيات التي نبحثها قرأنا تعبير( نُسَيِّرُ الْجِبالَ ) وإنّ نفس هذه الصيغة التعبيرية يمكن ملاحظتها في الآية (٢٠) من سورة النبأ. والآية (٣) من سورة التكوير.

ولكنّنا نقرأ في الآية (١٠) من سورة المرسلات قوله تعالى :( وَإِذَا الْجِبالُ نُسِفَتْ ) .

في حين أنّنا نقرأ في الآية (١٤) من سورة الحاقة قوله تعالى :( وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً ) .

وفي الآية (١٤) من سورة المزمّل قوله تعالى :( يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ وَكانَتِ الْجِبالُ كَثِيباً مَهِيلاً ) .

وفي الآية (٥) من سورة الواقعة قوله تعالى :( وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا ) .

أخيرا نقرأ قوله تعالى في الآية (٥) من سورة القارعة :( وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ ) .

ومن الواضح أن ليس هناك تناف أو تضاد بين مجموع الآيات أعلاه ، بل هي صيغ لمراحل مختلفة لزوال جبال العالم ودمارها ، هذه الجبال التي تعتبر أكثر أجزاء الأرض ثباتا واستقرارا ، حيث تبدأ العملية من نقطة حركة الجبال حتى نقطة تحوّلها إلى غبار وتراب بحيث لا يرى في الفضاء سوى لونها!

ترى ما هي أسباب هذه الحركة العظيمة المخفية؟

٢٨٩

إنّها غير معلومة لدينا ، إذ قد يكون السبب في ذلك هو الزوال المؤقت لظاهرة الجاذبية حيث تكون الحركة الدورانية للأرض سببا في أن تتصادم الجبال فيما بينها ثمّ حركتها باتجاه الفضاء. وقد يكون السبب هو الإنفجارات الذرية العظيمة في النّواة المركزية للأرض ، وبسببها تحدث هذه الحركة العظيمة والموحشة.

وعلى كل حال ، فهذه الأمور تدلّ على أنّ حالة البعث والنشور هي ثورة عظيمة في عالم المادة الميت ، أيضا في تجديد حياة الناس ، حيث تكون كل هذه المظاهر هي بداية لعالم جديد يكون في مستوى أعلى وأفضل ، إذ بالرغم من أنّ الروح والجسم هما اللذان يحكمان طبيعة ذلك العالم ، إلّا أنّ جميع الأمور ستكون أكمل وأوسع وأفضل.

إنّ التعبير القرآني يتضمّن هذه الحقيقة أيضا ، وهي أنّ عملية فناء عيون الماء ودمار البساتين هي أمور سهلة في مقابل الحدث الأعظم الذي ستتلاشى عنده الجبال الراسيات ، ويشمل الفناء كل الموجودات بما في ذلك أعظمها وأشدّها.

٢ ـ صحيفة الأعمال

يرى العلّامة الطباطبائي في تفسير (الميزان) أنّ في يوم القيامة ثلاثة كتب ، أو ثلاثة أنواع من صحف الأعمال :

أوّلا : كتاب واحد يوضع لحساب أعمال جميع البشر ، ويشير لذلك قوله تعالى في الآية التي نحن بصددها( وَوُضِعَ الْكِتابُ ) .

الثّاني : كتاب يختص بكل أمّة ، إذ لكل أمة كتاب قد كتب فيه أعمالها كما يصرّح بذلك قول الحق سبحانه وتعالى في الآيتين ٢٨ ، ٢٩ من سورة الجاثية في قوله تعالى:( كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا ) .

الثّالث : كتاب لكل انسان بصورة مستقلة كما ورد في سورة الأسراء : الآية (١٣)( وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً ) .

٢٩٠

وطبيعي أنّه لا يوجد أي تعارض بين هذه الآيات ، لأنّه ليس ثمّة مانع من أن تدوّن أعمال الإنسان في عدّة كتب ، كما نشاهد نظير ذلك في برامج دنيا اليوم ، إذ من أجل التنظيم الدقيق لتشكيلات دولة ما ، هناك نظام وحساب لكل قسم ، ثمّ إنّ هذه الأقسام وفي ظل أقسام أكبر لها حساب جديد.

ولكن يجب الانتباه إلى أنّ صحيفة أعمال الناس في يوم القيامة لا تشبه الدفتر والكتاب العادي في هذا العالم ، فهي مجموعة ناطقة غير قابلة للنكران ، وقد تكون الناتج الطبيعي لأعمال الإنسان نفسه.

في كل الأحوال ، نرى أنّ الآيات التي نبحثها تظهر أنّه علاوة على تدوين أعمال الناس في الكتب الخاصّة ، فإنّ نفس الأعمال ستتجسّد هناك وستحضر :( وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً ) .

فالأعمال التي تكون شكل طاقات متناثرة في هذا العالم وتكون محجوبة عن الأنظار وتبدو وكأنّها قد تلاشت وانتهت ، هي في الحقيقة لم تنته (وقد أثبت العلم اليوم أنّ أي مادي أو طاقة لا يمكن أن تفنى ، بل يتغير شكلها دائما).

ففي ذلك اليوم تتحوّل هذه الطاقة الضائعة بإذن الله إلى مادة ، وتتجسّد على شكل صور مناسبة ، فالأعمال الحسنة على شكل صور لطيفة وجميلة ، والأعمال السيئة على شكل صور قبيحة ، وهذه الأعمال ستكون معنا ، ولهذا السبب نرى أنّ آخر جملة في الآيات أعلاه تقول :( وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً ) لأنّ الثواب والعقاب يترتبان على نفس أعمال الإنسان.

بعض المفسّرين اعتبر جملة( وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً ) تأكيدا على قضية صحيفة الأعمال ، وقالوا : إنّ معنى الجملة هو أنّنا سنجد جميع أعمالنا مدوّنة في ذلك الكتاب(١) .

البعض الآخر اعتبر كلمة (جزاء) في هذه الآية مقدّرة وقالوا : إنّ المعنى هو

__________________

(١) الفخر الرازي في التّفسير الكبير ، والقرطبي في التّفسير الجامع.

٢٩١

أنّهم في ذلك اليوم «سيشاهدون جزاء أعمالهم جاهزا»(١) .

إلّا أنّ التّفسير الأوّل أكثر ملاءمة مع ظاهر الآيات.

أمّا فيما يخص تجسّد الأعمال فقد ذكرنا شرحا مفصلا لذلك في نهاية الآية (٣٠) من سورة آل عمران ، وسنبحثه أكثر مرّة أخرى أثناء الحديث عن الآيات التي تناسب الموضوع.

٣ ـ الإيمان بالمعاد ودوره في تربية الناس

حقّا إنّ القرآن كتاب تربوي عجيب ، فعند ما يذكر للناس جانبا من مشاهد القيامة يقول : إنّ الجميع سيعرضون على محكمة الخالق العادلة على شكل صفوف منظمة ، في حين أن تشابه عقائدهم وأعمالهم هو المعيار في الفرز بين صفوفهم! إنّ أيديهم هناك فارغة من كل شيء ، فقد تركوا كل متعلقات الدنيا ، فهم في جمعهم فرادى ، وفي فرديتهم مجموعين، تعرض صحائف أعمالهم.

هناك يذكر كل شيء ، صغائر وكبائر الناس ، والأكثر من ذلك أنّ الأعمال والأفكار نفسها تحيا تتجسّد تحيط الأعمال المتجسّدة بأطراف كل شيء ، فالناس مشغولون بأنفسهم بحيث أنّ الأم تنسى ولدها ، والابن ينسى الأب والأم بشكل كامل.

هذه المحكمة الإلهية ـ والجزاء العظيم ـ التي تنتظر المسيئين ، ستلقي بظلها الثقيل والموحش على جميع الناس ، حيث تحبس الأنفاس في الصدور ، وتتوقف العيون عن الحركة! ترى ما مقدار ما يعكسه الإيمان بهذا اليوم ـ بهذه المحكمة بكل ما تتخلله من مشاهد ومواقف ـ على قضية تربية الإنسان ودفعه لمسك زمام شهواته!؟

في حديث عن الإمام الصادق نقرأ وصفهعليه‌السلام لهذا اليوم : «إذا كان يوم القيامة

__________________

(١) المصدر السّابق.

٢٩٢

دفع للإنسان كتاب ، ثمّ قيل له : اقرأ» قلت : فيعرف ما فيه؟ فقال : «إنّه يذكره ، فما من لحظة ولا كلمة ولا نقل قدم ولا شيء فعله إلّا ذكره ، كأنّه فعله تلك الساعة ، ولذلك قالوا : يا ويلتنا ما لهذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلّا أحصاها»(١) .

من هنا يتّضح الدور المؤثر للإيمان بالقيامة في تربية الإنسان ، وإلّا فهل يمكن أن يجمع الإنسان بين الذنب ، وبين إيمانه ويقينه بهذا اليوم!؟

* * *

__________________

(١) نور الثقلين ، ج ٣ ، ص ٢٦٧.

٢٩٣

الآيات

( وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً (٥٠) ما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً (٥١) وَيَوْمَ يَقُولُ نادُوا شُرَكائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ مَوْبِقاً (٥٢) وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُواقِعُوها وَلَمْ يَجِدُوا عَنْها مَصْرِفاً (٥٣) )

التّفسير

لا تتخذوا الشياطين أولياء :

لقد تحدثت الآيات مرّات عدّة عن خلق آدم وسجود الملائكة له ، وعدم انصياع إبليس. وقد قلنا : إنّ هذا التكرار يطوي دروس متعدّدة ، وفي كل مقطع مكرّر هناك دروس وعبر جديدة.

٢٩٤

بعبارة أخرى نقول : إنّ للحادثة المهمّة عدّة أبعاد ، وفي كل مرّة تذكر فيها يتجلى واحد من أبعادها.

ولأنّ الآيات السابقة ذكرت مثالا واقعيا عن كيفية وقوف الأثرياء المستكبرين والمغرورين في مقابل الفقراء المستضعفين وتجسّد عاقبة عملهم ، ولأنّ الغرور كان هو السبب الأصلي لانحراف هؤلاء وانجرارهم إلى الكفر والطغيان ، لذا فإنّ الآيات تعطف الكلام على قصة إبليس وكيف أبى السجود لآدم غرورا منه وعلوا ، وكيف قاده هذا الغرور والعلو إلى الكفر والطغيان.

إضافة إلى ذلك ، فإنّ هذه القصّة توضّح أنّ الانحرافات تنبع من وساوس الشيطان ، كم تكشف أنّ الاستسلام إلى وساوس الشيطان الذي أصرّ على عناده وعداوته للحق تعالى يعدّ غاية الجنون والحمق.

في البداية تقول الآيات : تذكروا ذلك اليوم الذي فيه :( وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ ) . هذا الاستثناء يمكن أن يوهمنا بأنّ إبليس كان من جنس الملائكة ، في حين أنّ الملائكة معصومون ، فكيف سلك إبليس ـ إذا ـ طريق الطغيان والكفر إذا كان من جملتهم؟

لذلك فإنّ الآيات ـ منعا لهذا الوهم ـ تقول مباشرة إنّه :( كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ ) .

إنّه إذا لم يكن من الملائكة ، لكنّه ـ بسبب عبوديته وطاعته للخالق جلّ وعلا ـ قرّب وكان في صف الملائكة ، بل وكان معلما لهم ، إلّا أنّه ـ بسبب لحظة من الغرور والكبر ـ سقط سقوطا بحيث أنّه فقد معه كل ملاكاته المعنوية ، وأصبح أكثر الموجودات نفرة وابتعادا عن الله تبارك وتعالى.

ثمّ تقول الآية :( أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي ) .

والعجب أنّهم :( وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ ) .

وهذا العدو ، هو عدوّ صعب مصمّم على ضلالكم وأن يوردكم سوء العاقبة ،

٢٩٥

وقد أظهر عدوانه منذ اليوم الأوّل لأبيكم آدمعليه‌السلام .

فاتّخاذ الشيطان وأولاده. بدلا من الخالق المتعال أمر قبيح :( بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً ) (١) .

حقّا إنّه لأمر قبيح أن يترك الإنسان الإله العالم الرحيم العطوف ذا الفيوضات والرحمات والألطاف ، ويتمسك بالشيطان وأصحابه ، إنّه أقبح إختيار ، فأي عاقل يقبل أن يتخذ من عدوّه الذي ناصبه العداء ـ منذ اليوم الأوّل وليا وقائدا ودليلا ومعتمدا؟!

الآية التي بعدها هي دليل آخر على إبطال هذا التصوّر الخاطئ ، إذ تقول : عن إبليس وابنائه أنّهم لم يكن لهم وجود حين خلق السماوات والأرض ، بل لم يشهدوا حتى خلق أنفسهم :( ما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ ) . حتى نطلب العون منهم في خلق العالم ، أو نطلعهم على أسرار الخلق.

لذا فإنّ الشخص الذي ليس له أي دور في خلق العالم ، وحتى في خلق من يقع على شاكلته ومن هو من نوعه ، ولا يعرف شيئا من أسرار الخلق ، كيف يكون مستحقا للولاية ، أو العبادة ، وأي قدرة أو دور يملك؟

إنّه كائن ضعيف وجاهل حتى بقضاياه الذاتية ، فكيف يستطيع أن يقود الآخرين ، أو أن ينقذهم من المشاكل والصعوبات؟

ثمّ تقول :( وَما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً ) .

يعني أنّ الخلق قائم على أساس الصدق والصحة والهداية ، أمّا الكائن الذي يقوم منهج حياته على الإضلال والإفساد ، فليس له مكان في إدارة هذا النظام ، لأنّه يسير في اتجاه معاكس لنظام الخلق والوجود ؛ إنّه مخرّب ومدمّر وليس مصلحا متكاملا.

آخر آية من الآيات التي نبحثها ، تحذّر مرّة أخرى ، وتقول : تذكروا يوما يأتي

__________________

(١) «بدلا» من حيث التركيب اللغوي ، تمييز. وفاعل «بئس» هو الشيطان وعصابته ، أو عباد الشيطان وعصابته.

٢٩٦

فيه النداء الإلهي :( وَيَوْمَ يَقُولُ نادُوا شُرَكائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ ) .

لقد كنتم تنادونهم عمرا كاملا ، وكنتم تسجدون لهم ، واليوم وبعد أن أحاطت بكم أمواج العذاب في ساحة الجزاء ، نادوهم ليأتوا لمساعدتكم ولو لساعة واحدة فقط.

هناك ينادي الأشخاص الذين لا تزال ترسبات أفكار الدنيا في عقولهم :( فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ ) . فلم يجيبوا على ندائهم ، فكيف بمساعدتهم وانقاذهم!!

( وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ مَوْبِقاً ) (١) .

ثمّ تقول الآية التي بعدها موضحة عاقبة الذين اتبعوا الشيطان والمشركين :( وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ ) .

لقد انكشفت لهم النّار التي لم يكونوا يصدّقون بها أبدا ، وظهرت أمام أعينهم ، وحينئذ يشعرون بأخطائهم ، ويتيقنون بأنّهم سيدخلون النّار وستدخلهم :( فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُواقِعُوها ) .

ثمّ يتيقنون أيضا أنّ لا منقذ لهم منها :( وَلَمْ يَجِدُوا عَنْها مَصْرِفاً ) .

فلا تنقذهم اليوم منها لا معبوداتهم ولا شفاعة الشفعاء ، ولا الكذب أو التوسّل بالذهب والقوّة ، إنّها النّار التي يزداد سعيرها بسبب أعمالهم.

ينبغي الالتفات هنا إلى أنّ جملة «ظنّوا» بالرغم من أنّها مشتقّة من «الظن» إلّا أنّها في هذا المورد ، وفي موارد أخرى تأتي بمعنى اليقين ، لذا فإنّ الآية (٢٤٩) من سورة البقرة تستخدم نفس التعبير بالرغم من أنّها تتحدث عن المؤمنين الحقيقيين والمجاهدين المرابطين الذين كانوا مع طالوت لقتال جالوت الجبّار الظالم ، إذ تقول :( قالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ ) .

__________________

(١) «موبق» من «وبوق» على وزن «نبوغ» وهي تعني الهلاك ، و (موبق) تقال للمهلكة.

٢٩٧

فإنّ كلمة «موقعوها» مشتقّة من «مواقعة» بمعنى الوقوع على الآخرين ، وهي إشارة إلى أنّهم يقعون على النّار ، وأنّ النّار تقع عليهم ؛ فالنّار تنفذ فيهم وهم ينفذون في النّار ، وقد قرأنا في الآية (٢٤) من سورة البقرة قوله تعالى :( فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ ) .

* * *

بحثان

١ ـ هل كان الشيطان ملكا؟

كما نعلم أنّ الملائكة أطهار ومعصومون كما صرّح بذلك القرآن الكريم :( بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ ) (١) .

ويعود سبب عدم وجود التكبر والغرور ودوافع ارتكاب الذنوب لدى الملائكة ، إلى أن العقل لا الشهوة يتحكم في أعماقهم.

من ناحية ثانية ، يتداعى إلى الذهن من خلال استثناء إبليس في الآيات المذكورة أعلاه (وآيات أخرى في القرآن الكريم) أنّه من صنف الملائكة ، بأنّه كان منهم. وهنا يرد على عصيانه وتمرده والإشكال التالي : كيف تصدر ذنوب كبيرة عن ملك من الملائكة؟ و

قد جاء في نهج البلاغة «ما كان الله سبحانه ليدخل الجنة بشرا بأمر أخراج به منها ملكا»(٢) .

الآيات المذكورة تحل لنا رموز هذه المشكلة حينما تقول :( كانَ مِنَ الْجِنِ ) ، والجن كائنات خفية عن أنظارنا لها عقل وإحساس وغضب وشهوة ، ومتى ما وردت في القرآن كلمة «الجن» فإنّها تعني هذه الكائنات لكن من يعتقد من المفسّرين بأن إبليس كان من الملائكة ، فإنّما يفسر الآية المذكورة آنفا

__________________

(١) الأنبياء ، ٢٦ ـ ٢٧.

(٢) نهج البلاغة الخطبة (١٩٢) «الخطبة القاصعة».

٢٩٨

بمفهومها اللغوي ، ويقول : إنّه يفهم من عبارة( كانَ مِنَ الْجِنِ ) أنّه كان خفيا عن الأنظار كسائر الملائكة ، وهذا المعنى خلاف الظاهر تماما.

ومن الدلائل الواضحة التي تؤكّد ما ذهبنا إليه من المعنى ، أنّ القرآن الكريم يقول في الآية (١٥) من سورة الرحمن :( وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ ) أي من نيران مختلطة ومن جانب آخر كان منطق إبليس عند ما امتنع عن السجود لآدم :( خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ ) (١) .

هذا بالإضافة إلى أن الآيات الشريفة أعلاه أشارت إلى أن لإبليس (ذرية) في حين أن الملائكة لا ذرية لهم.

إن ما ذكرناه آنفا ، مضافا إليه التركيبة الجوهرية للملائكة تثبت أن إبليس لم يكن ملكا ، لكن آية السجود لآدم شملته ـ أيضا ـ لانضمامه إلى صفوف الملائكة ، وكثرة عبادته لله وطموحه للوصول إلى منزلة الملائكة المقربين.

وإنّما بيّن القرآن امتناع إبليس عن السجود بشكل استثنائي ، وأطلق عليه الأمام عليّعليه‌السلام في الخطبة القاصعة في نهج البلاغة كلمة (الملك) كتعبير مجازي.

وجاء في كتاب (عيون الأخبار) عن الإمام علي بن موسى الرضاعليه‌السلام : «إنّ الملائكة معصومون ومحفوظون من الكفر بلطف الله تعالى» قالا : قلنا له : فعلى هذا لم يكن إبليس أيضا ملكا؟ ، فقال : «لا ، بل كان من الجن ، أما تسمعان الله تعالى يقول :( وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِ ) فأخبرعزوجل أنّه من الجن ، ...»(٢)

وفي حديث آخر نقل عن الإمام الصادقعليه‌السلام ، بأن أحد أصحابه المخلصين وهو جميل بن دراج قال : سألته عن إبليس كان من الملائكة وهل كان يلي من أمر السماء شيئا؟قال : «لم يكن من الملائكة ولم يكن يلي من السماء شيئا ، أنّه

__________________

(١) الأعراف ، ١٢.

(٢) نور الثقلين ، ج ٣ ، ص ٢٦٧.

٢٩٩

كان من الجن وكان مع الملائكة ، وكانت الملائكة تراه أنّه منها ، وكان الله يعلم أنّه ليس منها ، فلمّا أمر بالسجود كان منه الذي كان»(١) .

وعند ما صدر أمر السجود تحقق الشيء الذي نعرفه (كشفت الأستار واتضحت ماهية إبليس).

وهناك بحوث تفصيلية ذكرناها حول إبليس والشيطان بشكل عام في ذيل الآيات (١١ ـ ١٨) من سورة الأعراف ، وفي ذيل الآية (١١٢) من سورة الأنعام ، وفي ذيل الآية (٣٤) من سورة البقرة.

٢ ـ لا تستعينوا بالضالّين

مع أن هذه الآيات ، صادرة عنه تعالى وتنفي وجود عضد له من الضالين ، ونعلم أنّه تعالى ليس بحاجة إلى من يعينه سواء كان المعين ضالا أم لم يكن ، لكنها تقدم لنا درسا كبيرا للعمل الجماعي ، حيث يجب أن يكون الشخص المنتخب للنصرة والعون سائرا على منهج الحق والعدالة ويدعو إليها ، وما أكثر ما رأينا أشخاصا طاهرين قد ابتلوا بمختلف أنواع الانحرافات والمشاكل وأصيبوا بالخيبة وسوء الحظ جراء عدم الدقّة في انتخاب الأعوان ، حيث التفّ حولهم عدد من الضالّين والمضلّين حتى تلفت أعمالهم ، وكانت خاتمة أمرهم أن فقدوا كل ملكاتهم الإنسانية والاجتماعية.

إنّنا نقرأ في تاريخ كربلاء أن سيد الشهداء الإمام الحسينعليه‌السلام قام يتمشى إلى (عبيد الله بن الحر الجعفي) وهو في فسطاطه حتى دخل عليه وسلم عليه ، فقام ابن الحر وأخلى له المجلس ، فجلس ودعاه إلى نصرته ، فقال عبيد الله بن الحر : والله ما خرجت من الكوفة إلّا مخافة أن تدخلها ، ولا أقاتل معك ، ولو قاتلت لكنت أوّل مقتول ، ولكن هذا سيفي وفرسي فخذهما

__________________

(١) المصدر السّابق.

٣٠٠

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

للآية ، بأن أحد المشركين ـ واسمه العاص بن وائل ـ قد منع أجيره أجره ـ والظاهر أنّه كان مسلما ـ وقال متهكما : إن كان ما يقوله محمّد حقا فنحن أولى من غيرنا بنعم الجنّة ، وسندفع أجر هذا العامل بالكامل هناك! فنزلت هذه الآية وقالت : إنّ الجنّة مختصة بمن كان تقيا.

* * *

٤٨١

الآيتان

( وَما نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا وَما خَلْفَنا وَما بَيْنَ ذلِكَ وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا (64) رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا (65) )

سبب النّزول

ذكر جماعة من المفسّرين في سبب نزول هاتين الآيتين ، أنّ الوحي انقطع أيّاما ، ولم يأت جبرئيل رسول الوحي الإلهي إلى النّبي ، فلمّا انقضت هذه المدّة قال له : قال عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ما منعك أن تزورنا أكثر ممّا تزورنا» ، فنزلت الآية :( وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ ) (1) .

التّفسير

الطاعة التّامة :

بالرّغم من أن لهذه الآية سبب نزول ذكر أعلاه ، إلّا أنّ هذا لا يكون مانعا من

__________________

(1) تفسير نور الثقلين ، ج 3 ، ص 352 ، عن مجمع البيان ، وتفسير القرطبي ، الجزء 11 ، ص 416 ، وذيل الآية مورد البحث باختلاف يسير.

٤٨٢

أن يكون لها ارتباطا منطقيا بالآيات السابقة ، لأنّها تأكيد على أنّ كل ما أتى به جبرئيل من الآيات السابقة قد بلغه عن الله بدون زيادة أو نقصان ، ولا شيء من عنده ، فتتحدث الآية الأولى على لسان رسول الوحي فتقول :( وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ ) فكل شيء منه، ونحن عباد وضعنا أرواحنا وقلوبنا على الأكف( لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا وَما خَلْفَنا وَما بَيْنَ ذلِكَ ) والخلاصة : فإنّ الماضي والحاضر والمستقبل ، وهنا وهناك وكل مكان ، والدنيا والآخرة والبرزخ ، كل ذلك متعلق بذات الله المقدسة.

وقد ذكر بعض المفسّرين لجملة( لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا وَما خَلْفَنا وَما بَيْنَ ذلِكَ ) آراء عديدة بلغت أحيانا أحد عشر قولا ما ذكرنا أعلاه هو أنسبها جميعا كما يبدو

ثمّ تضيف الآية : إن كل ذلك بأمر ربّك( رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما ) فإذا كان الأمر كذلك ، وكل الخطوط تنتهي إليه( فَاعْبُدْهُ ) عبادة مقترنة بالتوحيد والإخلاص. ولما كان هذا الطريق ـ طريق العبودية والطاعة وعبادة الله الخالصة ـ مليء بالمشاكل والمصاعب ، فقد أضافت( وَاصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ ) ، وتقول في آخر جملة :( هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا ) .

وهذه الجملة في الواقع ، دليل على ما جاء في الجملة السابقة ، يعني : هل لذاته المقدسة شريك ومثيل حتى تمد يدك اليه وتعبده؟

إنّ كلمة (سمي) وإن كانت تعني «المشترك في الاسم» ، إلّا أن من الواضح أنّ المراد هنا ليس الاسم فقط ، بل محتوى الاسم ، أي : هل تعلم أحدا غير الله خالقا رازقا ، محييا مميتا ، قادرا على كل شيء ، وظاهرا على كل شيء؟

* * *

٤٨٣

الآيات

( وَيَقُولُ الْإِنْسانُ أَإِذا ما مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا (66) أَوَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً (67) فَوَ رَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّياطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا (68) ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا (69) ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلى بِها صِلِيًّا (70) )

سبب النّزول

الآيات الأولى ـ على رأي جماعة من المفسّرين ـ نزلت في شأن «أبي بن خلف» ، أو «الوليد بن المغيرة» ، حيث أخذوا قطعة من عظم منخور ، ففتوه بأيديهم ونثروه في الهواء حتى تطايرت كل ذرة منه إلى جهة ، وقالوا انظروا إلى محمّد الذي يظن أن الله يحيينا بعد موتنا وتلاشي عظامنا مثل هذا العظم! إن هذا شيء غير ممكن أبدا. فنزلت هذه الآيات وأجابتهم ، جوابا قاطعا ، جوابا مفيدا ومعلما لكل البشر ، وفي جميع القرون والأعصار.

٤٨٤

التّفسير

حال أهل النّار :

مرّت في الآيات السابقة بحوث عديدة حول القيامة والجنّة والجحيم ، وتتحدث هذه الآيات التي نبحثها حول نفس الموضوع ، فتعيد الآية الأولى أقوال منكري المعاد ، فتقول:( وَيَقُولُ الْإِنْسانُ أَإِذا ما مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا ) .

هذا الاستفهام استفهام إنكاري طبعا ، أي إنّ هذا الشيء غير ممكن. أمّا التعبير بالإنسان (وخاصّة مع ألف ولام الجنس) ، مع أنّه كان من المناسب أن يذكر الكافر محله ـ فربّما كان من جهة أن هذا السؤال مخفي في طبع كل إنسان في البداية بزيادة ونقيصة ، وبسماع مسألة الحياة بعد الموت سترتسم في ذهنه علامة الاستفهام فورا.

ثمّ يجيبهم مباشرة بنفس التعبير( أَوَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً ) . ويمكن أن يكون التعبير بـ «الإنسان» هنا أيضا إشارة إلى أن الإنسان مع ذلك الاستعداد والذكاء الذي منحه الله إيّاه ، يجب أن لا يجلس ساكتا أمام هذا السؤال ، بل يجب أن يجيب عليه بتذكر الخلق الأوّل ، وإلّا فإنّه لم يستعمل حقيقة إنسانيته.

إنّ هذه الآيات ـ ككثير من الآيات المرتبطة بالمعاد ـ تؤكّد على المعنى الجسماني ، وإلّا فإذا كان القرار أن تبقى الروح فقط ، ولا وجود لرجوع الجسم إلى الحياة ، فلا مكان ولا معنى لذلك السؤال ، ولا لهذا الجواب.

على كل حال ، فقد استعمل القرآن هذا المنطق لإثبات المعاد هنا ، وقد جاء في مواضع أخرى من القرآن أيضا ، ومن جملتها في أواخر سورة يس ، حيث طرح الأمر بنفس تعبير الإنسان :( أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ. وَضَرَبَ لَنا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ. قُلْ

٤٨٥

يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ ) (1) (2) .

بعض المفسّرين طرح هنا سؤالا ، وهو أن هذا الدليل إذا كان صحيحا ، بأنّ كل شخص إذا ما عمل عملا فإنّه قادر على إعادته ، فلما ذا نقوم بأعمال ثمّ نعجز عن تكرارها أحيانا؟ فمثلا قد ننشد قطعة شعرية رائعة جدّا ، أو نكتب بخط جميل جدّا ، غير أنّنا بعد ذلك نجتهد في الإتيان بمثله ولكن دون جدوى.

الجواب هو : صحيح أنّنا نقوم بأعمالنا بإرادة واختيار ، إلّا أن هناك سلسلة من الأمور غير الإرادية تؤثر في أفعالنا الخاصّة أحيانا ، فإنّ حركة واهتزاز يدنا غير المحسوس يؤثر أحيانا في دقة شكل الحروف. إضافة إلى أن قدرتنا واستعدادنا ليسا متساويين دائما ، فقد تعرض أحيانا عوامل تعبئ كل قوانا الداخلية ، ونستطيع أن نبدع في الأعمال ونأتي بأعلاها، إلّا أنّ هذه الدوافع تكون ضعيفة أحيانا ، فلا تستجمع كل الطاقات ، ولذلك فإن العمل الثّاني لا ينفذ بدقة وجودة العمل الأوّل.

إلّا أنّ الله الذي لا تنتهي قدرته ، لا تثار حوله هذه المسائل ، ولا تقاس قدرته على أعمالنا وقدراتنا ، فإنّه إذا عمل عملا فإنّه يستطيع إعادته بعينه بدون زيادة أو نقصان.

ثمّ تهدد الآية التالية منكري المعاد ، والمجرمين الكافرين :( فَوَ رَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّياطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا ) .

إنّ هذه الآية توحي بأنّ محكمة الأفراد الكافرين والمجرمين قريبة من جهنم! والتعبير بـ «جثيا» ـ مع العلم أن جثي جمع جاثي ، وهو الذي يجثو على ركبتيه ـ ربّما كان إشارة إلى ضعف وعجز وذلة هؤلاء ، حتى أنّهم لا قدرة لهم على الوقوف أحيانا.

__________________

(1) يس ، 77 ـ 79.

(2) لقد بحثنا حول هذا الدليل في ذيل الآية (29) من الأعراف تحت عنوان (أقصر دليل لإثبات المعاد).

٤٨٦

ولهذه الكلمة معاني أخرى أيضا ، فمن جملتها أنّهم فسروا «جثيا» بمعنى جماعة جماعة ، وبعضهم فسّرها بمعنى الكثرة وازدحام بعضهم على بعض كتراكم التراب والحجارة ، إلّا أنّ التّفسير الأوّل هو الأنسب والأشهر.

ولما كانت الأولويات تلاحظ في تلك المحكمة العادلة ، فإنّ الآية التالية تقول :( ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا ) (1) ونبدأ بحسابهم أوّلا ، فإنّهم عتوا عتوا نسوا معه كل مواهب الله الرحمان ، وجنحوا إلى التمرد والعصيان وإظهار الوقاحة أمام ولي نعمتهم! أجل ، إن هؤلاء أحق من الجميع بالجحيم.

ثمّ تؤكّد على هذا المعنى مرّة أخرى فتقول :( ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلى بِها صِلِيًّا ) فسنختار هؤلاء بدقة ، وسوف لا يقع أي اشتباه في هذا الإختيار.

(صلي) مصدر يعطي معنى إشعال النار وإيقادها ، كما يعني حرق الشيء بالنّار.

* * *

__________________

(1) «الشيعة» في الأصل بمعنى الجماعة التي يتعاون أفرادها للقيام بعمل ما ، وانتخاب هذا التعبير في الآية يمكن أن يكون إشارة إلى أن العتاة المردة والضالين الكافرين كانوا يتعاونون في طريق الطغيان ، ونحن سنحاسب هؤلاء أوّلا ، لأنّهم أكثر تمردا وعصيانا من الجميع.

٤٨٧

الآيتان

( وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وارِدُها كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا (71) ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا (72) )

التّفسير

الجميع يردون جهنم!

تستمر الآيات في بحث خصائص القيامة والثواب والعقاب ، وأشارت في البداية إلى مسألة يثير سماعها الحيرة والعجب لدى أغلب الناس ، فتقول :( وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا ) فجميع الناس سيدخلون جهنم بدون استثناء لأنّه أمر حتمي.

( ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا ) فنتركهم فيها جالسين على الركب من الضعف والذّل.

وهناك بحث مفصل بين المفسّرين في تفسير هاتين الآيتين حول المراد من «الورود» في جملة( وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها ) .

فيرى بعض المفسّرين أنّ «الورود» هنا بمعنى الاقتراب والإشراف ، أي إن جميع الناس بدون استثناء ـ المحسن منهم والمسيء ـ يأتون إلى جانب جهنم للحساب ، أو لمشاهدة مصير المسيئين النهائي ، ثمّ ينجي الله المتقين ، ويدع

٤٨٨

الظالمين فيها. وقد استدل هؤلاء لدعم هذا التّفسير بالآية (23) من سورة القصص :( وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ ) حيث أن للورود هنا نفس المعنى.

والتّفسير الثّاني الذي اختاره أكثر المفسّرين ، هو أن الورود هنا بمعنى الدخول ، وعلى هذا الأساس فإنّ كل الناس بدون استثناء ـ محسنهم ومسيئهم ـ يدخلون جهنم ، إلّا أنّها ستكون بردا وسلاما على المحسنين ، كحال نار نمرود على إبراهيم( يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ ) ، لأنّ النّار ليست من سنخ هؤلاء الصالحين ، فقد تفر منهم وتبتعد عنهم ، إلّا أنّها تناسب الجهنميين فهم بالنسبة للجحيم كالمادة القابلة للاشتعال ، فما أن تمسهم النار حتى يشتعلوا.

وبغض النظر عن فلسفة هذا العمل ، والتي سنشرحها فيما بعد ـ إن شاء الله تعالى ـ فإنّ ممّا لا شك في أنّ ظاهر الآية يلائم وينسجم مع التّفسير الثاني ، لأنّ المعنى الأصلي للورود هو الدخول ، وغيره يحتاج إلى قرينة. إضافة إلى أن جملة( ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا ) وكذلك جملة( وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها ) كلتاهما شاهدتان على هذا المعنى. علاوة على الرّوايات المتعددة الواصلة إلينا في تفسير الآية التي تؤيد هذا المعنى ، ومن جملتها :

روي عن جابر بن عبد الله الأنصاري أنّ رجلا سأله عن هذه الآية ، فأشار جابر بإصبعيه إلى أذنيه وقال : صمتا إن لم أكن سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : «الورود الدّخول ، لا يبقى بر ولا فاجر إلّا يدخلها ، فتكون على المؤمنين بردا وسلاما كما كانت على إبراهيم ، حتى أن للنّار ـ أو قال لجهنم ـ ضجيجا من بردها ، ثمّ ينجي الله الذين اتقوا ويذر الظالمين فيها جثيا»(1) .

وفي حديث آخر عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «تقول النّار للمؤمن يوم القيامة : جز يا مؤمن ، فقد أطفأ نورك لهبي»(2) !

__________________

(1) نور الثقلين ، الجزء 3 ، ص 353.

(2) المصدر السّابق.

٤٨٩

ويستفاد هذا المعنى أيضا من بعض الرّوايات الأخرى. وكذلك التعبير العميق المعنى للصراط ، والذي ورد في روايات متعددة بأنّه جسر على جهنم ، وأنّه أدق من الشعرة وأحد من السيف ، هذا التعبير شاهد آخر على هذا التّفسير(1) .

أمّا ما يقوله البعض من أن الآية (101) من سورة الأنبياء :( أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ ) دليل على التّفسير الأوّل ، فلا يبدو صحيحا ، لأن هذه الآية مرتبطة بمحل إقامة ومقر المؤمنين الدائمي ، حتى أنّنا نقرأ في الآية التالية لهذه الآية :( لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها ) فإذا كان الورود في آية البحث بمعنى الاقتراب ، فهي غير مناسبة لكلمة( مُبْعَدُونَ ) ولا لجملة( لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها ) .

جواب عن سؤال :

السؤال الوحيد الذي يبقى هنا ، هو : ما هي الحكمة هذا العمل؟ وهل أن المؤمنين لا يرون أذى ولا عذابا من هذا العمل؟

إنّ الإجابة على هذا السؤال ـ التي وردت في الرّوايات حول كلا الشقين ـ ستتضح بقليل من الدقة.

إنّ مشاهدة جهنم وعذابها في الحقيقة ، ستكون مقدمة لكي يلتذ المؤمنون بنعم الجنة بأعلى مراتب اللذة ، لأن أحدا لا يعرف قدر العافية حتى يبتلى بمصيبة (وبضدها تتمايز الأشياء) فهناك لا يبتلى المؤمنون بمصيبة ، بل يشاهدون المصيبة على المسرح فقط ، وكما قرأنا في الرّوايات السابقة ، فإنّ النّار تصبح بردا وسلاما على هؤلاء ، ويطغى نورهم على نورها ويخمده.

إضافة إلى أنّ هؤلاء يمرون على النار بكل سرعة بحيث لا يرى عليهم أدنى أثر ، كما

روي النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال في حديث : «يرد الناس ثمّ يصدون بأعمالهم ،

__________________

(1) تفسير نور الثقلين ، ج 5 ، ص 572 ذيل آية( إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ ) الفجر ، 14.

٤٩٠

فأوّلهم كلمع البرق ، ثمّ كمر الريح ، ثمّ كحضر الفرس ، ثمّ كالراكب ، ثمّ كشد الرجل ، ثمّ كمشيه»(1) .

وإذا تجاوزنا ذلك ، فإنّ أهل النّار أيضا سيلقون عذابا أشد من رؤية هذا المشهد ، وأن أهل الجنّة يمرون بتلك السرعة وهم يبقون في النّار ، وبهذا سيتّضح جواب كلا السؤالين.

* * *

__________________

(1) نور الثقلين ، ج 3 ، ص 353.

٤٩١

الآيات

( وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقاماً وَأَحْسَنُ نَدِيًّا (73) وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثاثاً وَرِءْياً (74) قُلْ مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضْعَفُ جُنْداً (75) وَيَزِيدُ اللهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ مَرَدًّا (76) )

التّفسير

هذه الآيات تتابع ما مر في الآيات السابقة في الحديث عن الظالمين الذين لا إيمان لهم ، وتتعرض لجانب آخر من منطق هؤلاء الظالمين ومصيرهم.

ومن المعلوم أنّ أوّل جماعة آمنت بالرّسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كانوا من المستضعفين الطاهري القلوب ، والذين خلت أيديهم من مال الدنيا ومغرياتها هؤلاء المحرومون هم الذين جاءت الأديان الإلهية من أجل إنقاذهم من قبضة

٤٩٢

الظالمين الجائرين بلال وسلمان ، وعمار ، وخباب ، وسمية ، وأمثالهم مصاديق بارزة لهؤلاء المؤمنين المظلومين.

ولما كان المعيار في المجتمع الجاهلي في ذلك الزمان ـ وكذا في كل مجتمع جاهلي آخر ـ هو الذهب والزينة والمال والمقام والمنصب والهيئة الظاهرية ، فكان الأثرياء الظالمون ، كالنضر بن الحارث وأمثاله يفتخرون على المؤمنين الفقراء بذلك ويقولون : إنّ علامة شخصيتنا معنا ، وعلامة عدم شخصيتكم فقركم ومحروميتكم ، وهذا بنفسه دليل على أحقيتنا وباطلكم! كما يقول القرآن الكريم في أول آيه من الآيات مورد البحث :( وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقاماً وَأَحْسَنُ نَدِيًّا ) .

خاصّة وأنّنا نقرأ في الرّوايات الإسلامية أن هؤلاء الأشراف المترفين كانوا يلبسون أجمل ملابسهم ، ويتزينون بأبهى زينة ، ويتبخترون أمام أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وكانوا ينظرون إليهم نظرة تحقير واستهزاء نعم ، هذه طريقة هذه الطبقة في كل عصر وزمان.

«النديّ» أخذت في الأصل من (الندى) أي الرطوبة ، ثمّ جاءت بمعنى الأفراد الفصحاء والخطباء ، لأن أحد شروط القدرة على التكلم امتلاك القدر الكافي من اللعاب ، ولذلك فإن (نديّ) تعني المجالسة والتحدث ، بل يقال للمجلس الذي يجتمعون فيه للأنس والسمر ، أو يجلسون فيه للتشاور : نادي ، ومن هذا أخذت (دار الندوة) وهي المحل الذي كان في مكّة ، وكان يجتمع فيه زعماؤها للتشاور.

وقد يعبر عن السخاء والبذل والعطاء ب (الندى)(1) وهذه الآية يمكن أن تكون إشارة إلى كل هذه المعاني ، أي : إنّ مجلس أنسنا أجمل من مجلسكم ، وإن مالنا وثروتنا وزينتنا ولباسنا أبهى وأروع ، وإن كلامنا وأشعارنا الفصيحة والبليغة

__________________

(1) مفردات الراغب ، مادة (ندى).

٤٩٣

أبلغ وأحسن!

إلّا أنّ القرآن الكريم يجيب هؤلاء بجواب منطقي ومستدل تماما ، وفي الوقت نفسه قاطع ومفحم ، فيقول : كأن هؤلاء قد نسوا تاريخ البشر ، ولم ينظروا كم دمرنا من الأقوام السابقين عند تمردهم وعصيانهم :( وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثاثاً وَرِءْياً ) (1) فهل استطاعت أموالهم وثروتهم ، ومجالسهم الفاسقة ، وملابسهم الفاخرة ، وصورهم الجميلة أن تمنع العذاب الإلهي وتقف أمامه؟ وإذا كانت هذه الأمور دليلا على شخصيتهم ومنزلتهم عند الله ، فلما ذا ابتلوا بهذا المصير المشؤوم؟

إنّ زخارف الدنيا وبهارجها متزلزلة إلى حدّ أنّها تتلاشى وتزول بمجرّد أن يهب عليها أدنى نسيم هادئ.

«القرن» ـ كما قلنا سابقا في ما مرّ في ذيل الآية (6) من سورة الأنعام ـ تعني عادة الزمان الطويل ، لكن لما كانت قد أخذت من مادة الاقتران ، أي الاقتراب ، فإنّها تقال أيضا للقوم والأناس المجتمعين في زمان واحد.

ثمّ تحذرهم تحذيرا آخر ، بأن لا تظنوا أيّها الظالمون الكافرون أنّ مالكم وثروتكم هذه رحمة ، بل كثيرا ما تكون دليلا على العذاب الإلهي :( قُلْ مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا. حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ ) إي إمّا العذاب في هذه الدنيا ، وإمّا عذاب الآخرة( فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضْعَفُ جُنْداً ) .

في الحقيقة ، إنّ مثل هؤلاء الأفراد الذين لا يمكن هدايتهم (والملاحظ أن القرآن يقول :( مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ ) وهو إشارة إلى الاستمرار في الضلال) من

__________________

(1) (الأثاث) بمعنى المتاع وزينة الدنيا ، و (رئي) بمعنى الهيئة والمنظر.

٤٩٤

أجل أن يروا العقاب الإلهي الشديد ، فإنّ الله سبحانه يجعلهم أحيانا يغوصون ويغرقون في النعم لتصبح سببا لغرورهم ، كما تكون سببا لنزول العذاب عليهم ، فإنّ سلب النعم عنهم حينئذ سيجعل لوعة العذاب أشد. وهذا هو ما ذكر في بعض آيات القرآن بعنوان عقاب «الاستدراج»(1) .

جملة( فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا ) وإن كانت بصيغة الأمر ، إلّا أنّها بمعنى الخبر ، فمعناها : إنّ الله يمهل هؤلاء ويديهم عليهم النعم.

وقد فسرها بعض المفسّرين بنفس معنى الأمر أيضا ، وأنّه يعني هنا اللعنة ، أو وجوب مثل هذا العمل والمعاملة على الله. إلّا أنّ التّفسير الأوّل يبدو هو الأقرب.

وكلمة (العذاب) بقرينة وقوعها في مقابل (الساعة) فإنّها إشارة إلى العقوبات الإلهية في عالم الدنيا ، عقوبات كطوفان نوح ، والزلزلة ، والحجارة السماوية التي نزلت على قوم لوط. أو العقوبات التي أصيبوا بها على يد المؤمنين والمقاتلين في جبهات الحق ، كما نقرأ في الآية (14) من سورة التوبة :( قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ ) .

«الساعة» هنا إمّا بمعنى نهاية الدنيا ، أو العذاب الإلهي في القيامة. ويبدو لنا أن المعنى الثّاني هو الأنسب.

هذه عاقبة ومصير الظالمين المخدوعين بزخرف الدنيا وزبرجها ، أمّا أولئك الذين آمنوا واهتدوا ، فإنّ الله يزيدهم هدى وإيمانا( وَيَزِيدُ اللهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً ) .

من البديهي أن للهداية درجات ، فإذا طوى الإنسان درجاتها الأولى فإنّ الله يأخذه بيده ويرفعه إلى درجات أعلى ، وكما أنّ الشجرة المثمرة تقطع كل يوم

__________________

(1) راجع ذيل الآيات 182 ، 183 من سورة الأعراف.

٤٩٥

مرحلة جديدة إلى التكامل والإيناع ، فكذلك المهتدون يرتقون كل يوم مراق أعلى في ظل الإيمان والأعمال الصالحة التي يعملونها.

وفي النهاية تجيب الآية هؤلاء الذين اعتمدوا على زينة الدنيا السريعة الزوال ، وجعلوها وسيلة للتفاخر على الآخرين ، فتقول :( وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ مَرَدًّا ) (1) .

* * *

__________________

(1) «مردّ» ـ على وزن نمدّ بتشديد الدال ـ إمّا مصدر بمعنى الرّد والإرجاع ، أو اسم مكان بمعنى محل الرجوع، والمراد منه هنا الجنّة ، إلّا أنّ الاحتمال الأوّل أوفق لمعنى الآية.

٤٩٦

الآيات

( أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا وَقالَ لَأُوتَيَنَّ مالاً وَوَلَداً (77) أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً (78) كَلاَّ سَنَكْتُبُ ما يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذابِ مَدًّا (79) وَنَرِثُهُ ما يَقُولُ وَيَأْتِينا فَرْداً (80) وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا (81) كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا (82) )

التّفسير

تفكير خرافي ومنحرف :

يعتقد بعض الناس أنّ الإيمان والطهارة والتقوى لا تناسبهم ، وأنّها السبب في أن تدبر الدنيا عنهم ، أمّا إذا خرجوا من دائرة الإيمان والتقوى فإنّ الدنيا ستقبل عليهم ، وتزيد ثروتهم وأموالهم!

إنّ هذا النوع من التفكير ، سواء كان نابعا من البساطة واتباع الخرافات ، أو أنّه غطاء وتستّر للفرار من تحمل المسؤوليات والتعهدات الإلهية ، فهو تفكير خاطئ وخطير.

لقد رأينا عبدة الأوهام هؤلاء يجعلون أحيانا من كثرة أموال وثروات

٤٩٧

الأفراد غير المؤمنين ، وفقر وحرمان جماعة من المؤمنين ، دليلا لإثبات هذه الخرفة ، في حين أنّه لا الأموال التي تصل إلى الإنسان عن طريق الظلم والكفر وترك أسس التقوى تبعث على الفخر ، ولا الإيمان والتقوى يكونان سدا ومانعا في طريق النشاطات المشروعة والمباحة مطلقا.

على كل حال ، فقد كان في عصر النّبي ـ وكذلك في عصرنا ـ أفراد جاهلون يظنون هذه الظنون والأوهام ، أو كانوا يتظاهرون بها على الأقل ، فيتحدث القرآن ـ كمواصلة للبحث الذي بيّنه سابقا حول مصير الكفار والظالمين ـ في الآيات مورد البحث عن طريقة التفكير هذه وعاقبتها ، فيقول في أوّل آية من هذه الآيات :( أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا وَقالَ لَأُوتَيَنَّ مالاً وَوَلَداً ) (1) .

ثمّ يجيبهم القرآن الكريم :( أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً ) فإنّ الذي يستطيع أن يتكهن بمثل هذا التكهن ، ويقول بوجود علاقة بين الكفر والغنى وامتلاك الأموال والأولاد ، مطلّع على الغيب ، لأنا لا نرى أيّ علاقة بين هاتين المسألتين ، أو يكون قد أخذ عهدا من الله سبحانه ، وهذا الكلام أيضا لا معنى له.

ثمّ يضيف بلهجة حادة : إنّ الأمر ليس كذلك ، ولا يمكن أن يكون الكفر أساسا لزيادة مال وولد أحد مطلقا :( كَلَّا سَنَكْتُبُ ما يَقُولُ ) .

أجل ، فإنّ هذا الكلام الذي لا أساس له قد يكون سببا في انحراف بعض البسطاء ، وسيثبت كل ذلك في صحيفة أعمال هؤلاء( وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذابِ مَدًّا ) .

هذه الجملة قد تكون إشارة إلى العذاب المستمر الخالد ، كما يحتمل أيضا أن

__________________

(1) نقل بعض المفسّرين سببا لنزول الآية وهو : إنّ أحد المؤمنين ـ واسمه خباب ـ كان يطلب أحد المشركين ـ واسمه العاص بن وائل ، فقال المدين مستهزئا : إذا وجدت مالا وولدا في عالم الآخرة فسأؤدي دينك.

إلّا أنّ سبب النّزول هذا لا يناسب الآية التي نبحثها ظاهرا ، خاصّة وأنّ الكلام عن الولد هنا ، ونحن نعلم أنّ الولد في عالم الآخرة غير مطروح للبحث. إضافة إلى أن الآيات التالية تقول بصراحة :( نَرِثُهُ ما يَقُولُ ) ويتّضح من هذا التعبير أنّ المقصود أموال الدنيا لا الأموال في الآخرة.

وعلى كل حال ، فإنّ جماعة من المفسّرين اعتبروا هذه الآية ـ بناء على سبب النّزول هذا ـ إشارة إلى الآخرة ، إلّا أنّ الحق ما قيل.

٤٩٨

تكون إشارة إلى العقوبات التي تحيط بهم في هذه الدنيا نتيجة للكفر وعدم الإيمان. ويحتمل أيضا أنّ هذه الأموال والأولاد التي هي أساس الغرور والضلال هي بنفسها عذاب مستمر لهؤلاء!

( وَنَرِثُهُ ما يَقُولُ ) من الأموال والأولاد( وَيَأْتِينا فَرْداً ) .

نعم ، إنّه سيترك في النهاية كل هذه الإمكانيات والأملاك المادية ويرحل ، ويحضر في محكمة العدل الإلهية بأيد خالية ، وفي الوقت الذي اسودت فيه صحيفة أعماله من الذنوب والمعاصي ، وخلت من الحسنات هناك ، حيث يرى نتيجة أقواله الجوفاء في دار الدنيا.

وتشير الآية التالية إلى علّة أخرى في عبادة هؤلاء الأفراد للأصنام ، فتقول :( وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا ) وليشفعوا لهم عند الله ، ويعينوهم في حل مشاكلهم ، لكن ، أي ظن خاطئ وخيال ساذج هذا؟!

ليس الأمر كما يظن هؤلاء أبدا ، فليست الأصنام سوف لا تكون لهم عزّا وحسب، بل ستكون منبعا لذلتهم وعذابهم ، ولهذا فإنّهم سوف ينكرون عبادتهم لها في يوم القيامة:( كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا ) .

إن هذه الجملة إشارة إلى نفس ذلك المطلب الذي نقرؤه في الآية (14) من سورة فاطر :( وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ ما يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ ) . وكذلك ما نلاحظه في الآية (6) من سورة الأحقاف :( وَإِذا حُشِرَ النَّاسُ كانُوا لَهُمْ أَعْداءً ) .

وقد احتمل بعض كبار المفسّرين أن المراد من الآية : إنّ عبدة الأصنام عند ما ترفع الحجب في القيامة ، وتتضح كل الحقائق ، ويرون أنفسهم قد فضحوا وخزوا ، فإنّهم ينكرون عبادة الأصنام ، وسيقفون ضدها ، كما نقرأ ذلك في الآية (23) من سورة الأنعام :( وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ ) .

إلّا أنّ التّفسير الأوّل أنسب مع ظاهر الآية ، لأن عبّاد الأصنام كانوا يريدون

٤٩٩

أن تكون آلهتهم ومعبوداتهم عزّا لهم ، إلّا أنّهم يصبحون ضدها في النهاية.

ومن الطبيعي أن تكلم المعبودات التي لها عقل وإدراك كالملائكة والشياطين والجن واضح ومعلوم ، إلّا أنّ الآلهة الميتة التي لا روح لها ، من الممكن أن تتكلم بإذن الله وتعلن تنفرها واشمئزازها من عبدتها ومن الممكن أن يستفاد هذا التّفسير من حديث مروي عن الإمام الصادقعليه‌السلام حيث قال في تفسير هذه الآية : يكون هؤلاء الذين اتخذوهم آلهة من دون الله ضدا يوم القيامة ويتبرءون منهم ومن عبادتهم إلى يوم القيامة.

والجميل في الأمر أننا نقرأ في ذيل الحديث جملة قصيرة عميقة المحتوى حول العبادة:ليس العبادة هي السجود ولا الركوع ، وإنّما هي طاعة الرجال ، من أطاع مخلوقا في معصية الخالق فقد عبده»(1) .

__________________

(1) نور الثقلين ، ج 3 ، ص 357.

٥٠٠

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576