الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٩

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل10%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 576

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 576 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 264361 / تحميل: 11788
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٩

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

«إمر» على وزن «شمر» وتطلق على العمل المهم العجيب أو القبيح للغاية.

وحقا ، لقد كان ظاهر عمل الرجل العالم عجيبا وسيئا للغاية ، فهل هناك عمل أخطر من أن يثقب شخص سفينة تحمل عددا من المسافرين!

وفي بعض الرّوايات نقرأ أنّ أهل السفينة انتبهوا إلى الخطر بسرعة وقاموا بإصلاح الثقب (الخرق) مؤقتا ، ولكن السفينة أصبحت بعد ذلك معيبة وغير سالمة.

وفي هذه الأثناء نظر الرجل العالم إلى موسىعليه‌السلام نظرة خاصّة وخاطبة :( قالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً ) .

أمّا موسى الذي ندم على استعجاله ، بسبب أهمية الحادثة ، فقد تذكّر عهده الذي قطعة لهذا العالم الأستاذ ، لذا فقد التفت إليه قائلا :( قالَ لا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً ) . يعني لقد أخطأت ونسيت الوعد فلا تؤاخذني بهذا الاشتباه.

«لا ترهقني» مشتقّة من «إرهاق» وتعني تغطية شيء ما بالقهر والغلبة ، وتأتي في بعض الأحيان بمعنى التكليف ، وفي الآية ـ أعلاه ـ يكون معناها : لا تصعّب الأمور عليّ، ولا تقطع فيضك عنّي بسبب هذا العمل.

لقد انتهت سفرتهم البحرية وترجلوا من السفينة :( فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا لَقِيا غُلاماً فَقَتَلَهُ ) ، وقد تمّ ذلك بدون أي مقدمات!

وهنا ثار موسىعليه‌السلام مرّة أخرى حيث لم يستطع السكوت على قتل طفل بريء بدون أي سبب ، وظهرت آثار الغضب على وجهه وملأ الحزن وعدم الرضا عينيه ونسي وعده مرّة أخرى ، فقام للاعتراض ، وكان اعتراضه هذه المرّة أشد من اعتراضه في المرّة الأولى، لأنّ الحادثة هذه المرّة كانت موحشة أكثر من الأولى ، فقالعليه‌السلام :( قالَ أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ ) . أي إنّك قتلت إنسانا بريئا من دون أن يرتكب جريمة قتل ،( لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً ) .

٣٢١

كلمة «غلام» تعني الفتى الحدث ، أي الصبي سواء كان بالغا أو غير بالغ. وبين المفسّرين ثمّة كلام كثير عن الغلام المقتول ، وفيما إذا كان بالغا أم لا ، فالبعض استدل بعبارة( نَفْساً زَكِيَّةً ) على أنّ الفتى لم يكن بالغا. والبعض الآخر اعتبر عبارة( بِغَيْرِ نَفْسٍ ) دليلا على أنّ الفتى كان بالغا ، ذلك لأنّ القصاص يجوز بحق البالغ فقط ، ولكن لا يمكن القطع في هذا المجال بالنسبة لنفس الآية.

«نكر» تعني القبيح والمنكر ، وأثرها أقوى من كلمة «إمر» التي وردت في حادثة ثقب السفينة ، والسبب في ذلك واضح ، فالأمر الأوّل قد أوجد الخطر لمجموعة من الناس ، إلّا أنّهم تداركوه بسرعة ، لكن ظاهر العمل الثّاني يدل على إرتكاب جريمة.

ومرّة أخرى كرّر العالم الكبير جملته السابقة التي اتسمت ببرود خاص ، حيث قال لموسىعليه‌السلام :( قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً ) .

والاختلاف الوحيد مع الجملة السابقة هو إضافة كلمة «لك» التي تفيد التأكيد الأكثر ؛ يعني : إنّني قلت هذا الكلام لشخصك!

تذكر موسى تعهده فانتبه إلى ذلك وهو خجل ، حيث أخلّ بالعهد مرّتين ـ ولو بسبب النسيان ـ وبدأ تدريجيا يشعر بصدق عبارة الأستاذ في أنّ موسى لا يستطيع تحمّل أعماله ، لذا فلا يطيق رفقته كما قال له عند ما عرض عليه موسى الرفقة ، لذا فقد بادر الى الاعتذار وقال : إذا اعترضت عليك مرّة أخرى فلا تصاحبني وأنت في حل منّي :( قالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها فَلا تُصاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً ) . صيغة العذر هنا تدل على انصاف موسىعليه‌السلام ورؤيته البعيدة للأمور ، وتبيّن أنّهعليه‌السلام كان يستسلم للحقائق ولو كانت مرّة ؛ بعبارة أخرى : إنّ الجملة توضح وبعد ثلاث مراحل للاختبار أنّ مهمّة هذين الرجلين كانت مختلفة.

بعد هذا الكلام والعهد الجديد :( فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَما

٣٢٢

أَهْلَها فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُما ) .

لا ريب ، إنّ موسى وصاحبه لم يكونا ممّن يلقي بكلّه على الناس ولكن يتّضح أنّ زادهم وأموالهم قد نفدت في تلك السفرة ، لذا فقد رغبا أن يضيفهما أهل تلك المدينة (ويحتمل أنّ الرجل العالم تعمد طرح هذا الاقتراح كي يعطي موسى درسا بليغا آخر).

ويجب أن نلتفت إلى أنّ (قرية) في لغة القرآن تنطوي على مفهوم عام ، وتشمل المناطق السكنية في الريف والمدينة ، أمّا المقصود منها في الآية فهو المدينة لا القرية ، كما تصرح بعد ذلك الآيات اللاحقة.

وذكر المفسّرون نقلا عن ابن عباس أنّ المقصود بهذه المدينة ، هو (أنطاكية)(١) .

وذكر آخرون : إنّ المقصود منها هو مدينة «أيلة» التي تسمى اليوم ميناء (أيلات) المعروف والذي يقع على البحر الأحمر قرب خليج العقبة. أمّا البعض الثّالث فيرى بأنّها مدينة (الناصرة) الواقعة شمال فلسطين ، وهي محل ولادة السيّد المسيحعليه‌السلام . وقد نقل العلّامة الطبرسي حديثا عن الإمام الصادقعليه‌السلام يدعم صحة هذا الاحتمال.

ورجوعا إلى ما قلناه في المقصود من (مجمع البحرين) إذ قلنا : إنّه كناية عن محل التقاء خليج العقبة وخليج السويس ، يتّضح أنّ مدينة (الناصرة) أو ميناء (أيلة) أقرب إلى هذا المكان من انطاكية.

المهم في الأمر ، أنّنا نستنتج من خلال ما جرى لموسىعليه‌السلام وصاحبه من أهل هذه المدينة أنّهم كانوا لئاما دنيئي الهمّة ، لذا نقرأ في رواية عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

__________________

(١) أنطاكية من المدن السورية القديمة التي تقع على بعد (٩٦) كم من حلب ، و (٥٩) كم عن الإسكندرونة ، تشتهر المدينة بالحبوب الغذائية ، والحبوب الدهنية ، فيها ميناء يسمى «سويدية» ويبعد عن مركزها (٢٧) كيلومتر. (يراجع في ذلك دائرة فريد وجدي ، ج ١ ، ص ٨٣٥).

٣٢٣

قوله في وصف أهل هذه المدينة : «كانوا أهل قرية لئام»(١) .

ثمّ يضيف القرآن :( فَوَجَدا فِيها جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقامَهُ ) (٢) وقد كان موسىعليه‌السلام يشعر بالتعب والجوع ، والأهم من ذلك أنّه كان يشعر بأنّ كرامته وكرامة أستاذه قد أهينت من أهل هذه القرية التي أبت أن نضيفهما ؛ ومن جانب آخر شاهد كيف أنّ الخضر قام بترميم الجدار بالرغم من سلوك أهل القرية القبيح إزاءهما ، وكأنّه بذلك أراد أن يجازي أهل القرية بفعالهم السيئة ، وكان موسى يعتقد بأنّ على صاحبه أن يطالب بالأجر على هذا العمل حتى يستطيعا أن يعدّا طعاما لهما.

لذا فقد نسي موسىعليه‌السلام عهده مرّة أخرى وبدأ بالاعتراض ، إلّا أنّ اعتراضه هذه المرّة بدا خفيفا فقال :( قالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً ) .

وفي الواقع فإنّ موسى يعتقد بأنّ قيام الإنسان بالتضحية في سبيل أناس سيئين عمل مجاف لروح العدالة ؛ بعبارة أخرى : إنّ الجميل جيّد وحسن ، بشرط أن يكون في محلّه.

صحيح أنّ الجزاء الجميل في مقابل العمل القبيح هو من صفات الناس الإلهيين ، إلّا أنّ ذلك ينبغي أن لا يكون سببا في دفع المسيئين للقيام بالمزيد من الأعمال السيئة.

وهنا قال الرجل العالم كلامه الأخير لموسى ، بأنّك ومن خلال حوادث مختلفة ، لا تستطيع معي صبرا ، لذلك قرّر العالم قراره الأخير :( قالَ هذا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ ما لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً ) .

موسىعليه‌السلام لم يعترض على القرار ـ طبعا ـ لأنّه هو الذي كان قد اقترحه عند

__________________

(١) مجمع البيان في تفسير الآية.

(٢) إنّ نسبة (الإرادة» إلى الجدار هو استخدام مجازي ، ومفهوم ذلك أنّ الجدار كان ضعيفا للغاية وهو على مشارف الانهيار.

٣٢٤

وقوع الحادثة السابقة ، وهكذا ثبت لموسى أنّه لا يستطيع الاستمرار مع هذا الرجل العالم. ولكن برغم كل ذلك ، فإنّ خبر الفراق قد نزل بوقع شديد على قلب موسىعليه‌السلام ، إذا يعني فراق أستاذ قلبه مملوء بالأسرار ، ومفارقة صحبة مليئة بالبركة ، إذ كان كلام الأستاذ درسا ، وتعامله يتسّم بالإلهام ؛ نور الله يشع من جبينه ، وقلبه مخزن للعلم الإلهي.

إنّ مفارقة رجل بهذه الخصائص أمر صعب للغاية ، لكن على موسىعليه‌السلام أن ينصاع لهذه الحقيقة المرّة.

المفسّر المعروف أبو الفتوح الرازي يقول : ورد في الخبر ، أنّ موسىعليه‌السلام عند ما سئل عن أصعب ما لاقى من مشكلات في طول حياته ، أجاب قائلا : لقد واجهت الكثير من المشاكل والصعوبات (إشارة إلى ما لاقاهعليه‌السلام من فرعون ، وما عاناه من بني إسرائيل) ولكن لم يكن أيّا منها أصعب وأكثر ألما على قلبي من قرار الخضر في فراقي إيّاه»(١) .

«تأويل» من «أول» على وزن «قول» وتعني الإرجاع ، لذا فإنّ أي عمل أو كلام يرجعنا إلى الهدف الأصلي يسمّى «تأويل» كما أنّ رفع الحجب عن أسرار شيء هو نوع من التأويل.

اطلاق كلمة (التأويل) على تفسير الأحلام يعود لهذا السبب بالذات ، كما ورد في سورة يوسف( هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ ) (٢) (٣) .

* * *

__________________

(١) أبو الفتوح الرازي في (روح الجنان) ، ج ٣ ، أثناء تفسير الآية.

(٢) للتوضيح أكثر يمكن مراجعة الآية (٧) من سورة آل عمران.

(٣) يوسف ، ١٠٠.

٣٢٥

الآيات

( أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً (٧٩) وَأَمَّا الْغُلامُ فَكانَ أَبَواهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينا أَنْ يُرْهِقَهُما طُغْياناً وَكُفْراً (٨٠) فَأَرَدْنا أَنْ يُبْدِلَهُما رَبُّهُما خَيْراً مِنْهُ زَكاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً (٨١) وَأَمَّا الْجِدارُ فَكانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما وَكانَ أَبُوهُما صالِحاً فَأَرادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما وَيَسْتَخْرِجا كَنزَهُما رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذلِكَ تَأْوِيلُ ما لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً (٨٢) )

التّفسير

الأسرار الداخلية لهذه الحوادث :

بعد أن أصبح الفراق بين موسى والخضرعليهما‌السلام أمرا حتميا ، كان من اللازم أن يقوم الأستاذ الإلهي بتوضيح أسرار أعماله التي لم يستطع موسى أن يصبر عليها ، وفي الواقع فإنّ استفادة موسى من صحبته تتمثل في معرفة أسرار هذه الحوادث

٣٢٦

الثلاثة العجيبة ، والتي يمكن أن تكون مفتاحا للعديد من المسائل ، وجوابا لكثير من الأسئلة.

ففي البداية ذكر قصّة السفينة وقال :( أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً ) .

وبهذا الترتيب كان ثمّة هدف خيّر وراء ثقب السفينة الذي بدأ في حينه عملا مشينا سيئا ، والهدف هو نجاتهم من قبضة ملك غاصب ، وكان هذا الملك يترك السفينة المعيبة ويصرف النظر عنها. إذا خلاصة المقصود في الحادثة الأولى هو حفظ مصالح مجموعة من المساكين.

كلمة «وراء» لا تعني هنا الجانب المكاني ، وإنّما هي كناية عن الخطر المحيط بهم (خطر الملك) بدون أن يعلموا به ، وبما أنّ الإنسان لا يحيط بالحوادث التي سوف تصيبه لاحقا ، لذا استخدمت الآية التعبير الآنف الذكر.

إضافة إلى ذلك فإنّ الإنسان عند ما يخضع لضغط فرد أو مجموعة فإنّه يستخدم تعبير (وراء) كقوله مثلا : الدّيانون ورائي ولا يتركوني ؛ وفي الآية (١٦) من سورة إبراهيم نقرأ قوله تعالى :( مِنْ وَرائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقى مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ ) وكأنّ جهنّم تلاحق وتتبع المذنبين ، لذا فقد استخدمت كلمة وراء(١) .

ويفيد استخدام كلمة (مسكين) أنّ «المسكين» ليس هو الشخص الذي لا يملك شيئا مطلقا ، بل هي وصف يطلق على الأشخاص الذين يملكون أموالا وثروة لكنّها لا تفي بحاجاتهم.

ويحتمل أيضا أن يكون السبب في إطلاق وصف (المساكين) عليهم ليس بسبب الفقر المالي ، بل بسبب افتقارهم للقوّة والقدرة ، وهذا التعبير يستخدم في لغة العرب ، كما وأنّه يتلاءم مع الجذور الأصلية لمعنى مسكين لغويا ، والذي يعني السكون والضعف.

__________________

(١) في معنى (وراء) يمكن مراجعة البحث الوارد في ذيل الآية (١٦) من سورة إبراهيم في تفسيرنا هذا.

٣٢٧

وفي نهج البلاغة نقرأ قول أمير المؤمنينعليه‌السلام : «مسكين ابن آدم تؤلمه البقة ، وتقتله الشرقة ، وتنتنه العرقة»(١) .

بعد ذلك ينتقل العالم إلى بيان سر الحادثة الثّانية التي قتل فيها الفتى فيقول :( وَأَمَّا الْغُلامُ فَكانَ أَبَواهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينا أَنْ يُرْهِقَهُما طُغْياناً وَكُفْراً ) .

تحتمل مجموعة من المفسّرين أنّ المقصود من الآية ليس ما يتبيّن من ظاهرها من أنّ الفتى الكافر والعاصي قد يكون سببا في انحراف أبويه ، وإنّما المقصود أنّه بسبب من طغيانه وكفره يؤذي أبويه كثيرا(٢) ؛ ولكن التّفسير الأوّل أقرب للصحة.

في كل الأحوال ، فإنّ الرجل العالم قام بقتل هذا الفتى ، واعتبر سبب ذلك ما سوف يقع للأب والأم المؤمنين في حال بقاء الابن على قيد الحياة.

وسوف نجيب في فقرة البحوث على شبهة (القصاص قبل الجناية) التي ترد على أعمال الخضر هذه.

كلمة (خشينا) تستبطن معنى كبيرا ، فهذا التعبير يوضح أنّ هذا الرجل العالم كان يعتبر نفسه مسئولا عن مستقبل الناس ، ولم يكن مستعدا لأن تصاب أم أو أب مؤمنان بسوء بسبب انحراف ابنهم.

كما إنّ تعبير (خشينا) جاء هنا بمعنى : لم نكن نرغب ، وإلّا لا معنى للخوف في هذه الموارد بالنسبة لشخص بهذا المستوى من العلم والوعي والقدرة.

وبعبارة أخرى ، فإنّ الهدف هو الاتقاء من حادث سيء نرغب أن نقي الأبوين منه على أساس المودّة لهما.

ويحتمل أن يكون التعبير بمعنى (علمنا) كما ينقل عن ابن عباس ، يعني أنّنا

__________________

(١) نهج البلاغة ، الكلمات القصار الجملة رقم ٤١٩.

(٢) وفق التّفسير الأوّل يكون الفعل «يرهق» متعديا إلى مفعولين : الأوّل (هما) ، والمفعول الثّاني (طغيانا) ، أمّا وفق التّفسير الثّاني فإن (طغيانا) و (كفرا) يكونان مفعولا لأجله.

٣٢٨

كنّا نعلم أنّ الفتى ـ في حال بقائه ـ سوف يكون سببا لأحداث أليمة تقع لأبيه وأمه في المستقبل.

أمّا لماذا استخدم ضمير المتكلّم في حالة الجمع ، بينما كان المتكلّم فردا واحدا ، فإنّ سبب ذلك واضح ، حيث أنّها ليست المرّة الأولى التي يستخدم القرآن هذه الصيغة ، ففي كلام العرب عند ما يتحدث الأشخاص الكبار عن أنفسهم فإنّهم يستخدمون ضمير الجمع. والسبب في ذلك أنّ هؤلاء الأشخاص يملكون أشخاصا تحت أيديهم ويعطونهم الأوامر لتنفيذ الأعمال ، فالله يعطي الأوامر للملائكة ، والإنسان يعطي الأوامر للذين هم تحت يديه.

ثمّ تحكي الآيات على لسان العالم قوله :( فَأَرَدْنا أَنْ يُبْدِلَهُما رَبُّهُما خَيْراً مِنْهُ زَكاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً ) .

إنّ تعبير (أردنا) و (ربّهما) يطوي معاني كبيرة سوف نقف عليها بعد قليل.

(زكاة) هنا بمعنى الطهارة والنظافة ، ولها مفهوم واسع حيث تشمل الإيمان والعمل الصالح ، وتتسع للأمور الدينية والمادية ، وقد يكون في هذا التعبير ما هو جواب على اعتراض موسىعليه‌السلام الذي قال :( أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً ) فقال له العالم في الجواب : إنّ هذه النفس ليست زكية ، وأردنا أن يبدلهما ربّهما ابنا طاهرا بدلا عن ذلك.

وفي روايات عديدة نقرأ «أبدلهما الله به جارية ولدت سبعين نبيّا»(١) .

في آخر آية من الآيات التي نبحثها ، كشف الرجل العالم عن السر الثّالث الذي دعاه إلى بناء الجدار فقال :( وَأَمَّا الْجِدارُ فَكانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما وَكانَ أَبُوهُما صالِحاً ) .

( فَأَرادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما وَيَسْتَخْرِجا كَنزَهُما ) .

( رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ ) .

__________________

(١) نور الثقلين ، ج ٣ ، ص ٢٨٦ و ٢٨٧.

٣٢٩

وأنا كنت مأمورا ببناء هذا الجدار بسبب جميل وإحسان أبوي هذين اليتيمين ، كي لا يسقط وينكشف الكنز ويكون معرّضا للخطر.

وفي خاتمة الحديث ، ولأجل أن تنتفي أي شبهة محتملة ، أو شك لدى موسىعليه‌السلام ، ولكي يكون على يقين بأنّ هذه الأعمال كانت طبقا لمخطط وتوجيه أعلى خاص ، قال العالم :( وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ) بل بأمر من الله.

وذلك سر ما لم يستطع موسىعليه‌السلام صبرا ، إذ قال :( ذلِكَ تَأْوِيلُ ما لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً ) .

* * *

بحوث

١ ـ هل كانت مهمّة الخضر في اطار النظام التشريعي أم التكويني!؟

إنّ هذه الحوادث الثّلاث شغلت عقول العلماء الكبار ، وأثارت بينهم الكثير من الكلام والاستفهامات.

والسؤال الأوّل هو : هل يمكن إتلاف جزء من أموال شخص بدون إجازته بذريعة أنّ هناك غاصبا يريد أن يصادرها؟

وهل يمكن معاقبة فتى بذريعة الأعمال التي سيقوم بها في المستقبل؟

ثمّ هل هناك ضرورة للعمل المجاني بهدف الحفاظ على أموال شخص معين؟

لقد رأينا من سياق القصّة القرآنية أنّ موسى اعتراض على الرجل العالم ، ولكنّه بعد أن استمع للتوضيحات وأحاط ببواطن الأمور عاد واقتنع.

أمّا نحن فأمامنا طريقان للإجابة على الأسئلة ، نعرضها بالتفصيل الآتي :

الطريق الأوّل : أن نطابق الحوادث وتصرفات الرجل العالم مع الموازين الفقهية ، وقوانين الشرع ، وقد قامت مجموعة من المفسّرين بسلوك هذا الطريق.

٣٣٠

فالحادثة الأولى اعتبروها منطبقة مع قانون الأهم والمهم ؛ وقالوا بأنّ حفظ مجموع السفينة عمل أهم حتما من الضرر الجزئي الذي لحقها بالخرق ؛ وبعبارة أخرى ، فإنّ الخضر قام هنا (بدفع الأفسد بالفاسد) خاصّة وأنّه كان يمكن تقدير الرضا الباطني لأهل السفينة فيما إذا علموا بهذه الحادثة. (أي أنّ الخضر قد حصل من وجهة الإحكام والقواعد الشرعية على إذن الفحوى).

وفيما يتعلق بالغلام فقد أصرّ المفسّرون ممن سلك هذا الطريق ، على أنّ الفتى كان بالغا وأنّه كان مرتدا أو مفسدا ، وبسبب أعماله الفعلية فإنّه من الجائز أن يقتل.

وأمّا حديث الخضر عن جرائم الغلام المستقبلية ، فإنّه بذلك أراد أن يقول بأن جرائم هذا الغلام لا تقتصر على إفساده الراهن وجرائمه الحالية ، بل سيقوم بالمستقبل بجرائم أكبر ، لذا فإنّ قتله طبقا للموازين الشرعية وبسبب ما اقترفه من جرائم فعلية يكون جائزا.

أمّا ما يخص الحادثة الثّالثة ، فلا أحد يستطيع أن يعترض على الآخرين فيما لو قاموا بالتضحية والإيثار من أجل الآخرين ، ومن أجل أن لا تضيع أموالهم دون أن يتقاضوا أجرا على أعمالهم ، وهو بالضبط ما قام به الخضر ، وقد لا تصل هذه الأفعال إلى حدّ الوجوب، إلّا أنّها تعتبر ـ حتما ـ من السلوك الحسن.

بل قد يقال من الوجهة الفقهية أنّ الإيثار والتضحية في بعض الموارد من الأمور الواجبة ، مثل أن تكون أموال كثيرة لطفل يتيم معرضة للتلف ، ويمكن المحافظة عليها بجهد قليل فلا يستبعد وجوب بذل الجهد.

الطريق الثّاني : تتمّ فيه مناقشة بعض عناصر الاستدلال الفقهية التي وردت في الطريق الأوّل ، فإذا كانت التوضيحات الآنفة مقنعة فيما يخص الكنز والحائط ، إلّا أنّها في قضية قتل الغلام لا تتلاءم مع ظاهر الآية ، الذي اعتبر علّة قتل الغلام هو ما سيقوم به من أعمال في المستقبل ، وليس أعماله الفعلية.

٣٣١

أمّا الدليل الوارد حول خرق السفينة ، فهو أيضا لا يخلو من تأمل فهل نستطيع مثلا ـ ومن الوجهة الفقهية ـ أن نتلف جزءا من أموال أو بيت شخص معين بدون علمه لانقاذها من خطر ما ، حتى لو علمنا وتيقنا بأنّه سيتمّ غصب تلك الأموال في المستقبل ترى هل يسمح الفقهاء بمثل هذا الحكم؟!

وعلى هذا الأساس يجب علينا أن نسلك طريقا آخر :

الطريق الثّالث : إنّ في هذا العالم ثمّة نظامان هما : «النظام التكويني ، والنظام التشريعي» ، وبالرغم من أنّ هذين النظامين متناسقين فيما بينهما في الأصول الكلية ، ولكنها قد ينفصلان ويفترقان في الجزئيات.

على سبيل المثال ، يقوم الله سبحانه وتعالى ومن أجل اختبار العباد ، بابتلائهم بالخوف ونقص في الأموال والثمرات وموت الأعزّة وفقدانهم حتى يتبيّن الصابر من غيره تجاه هذه الحوادث والبلاءات.

والسؤال هنا هو : هل يستطيع أي فقيه أو حتى نبي أن يقوم بهذا العمل ، أي ابتلاء العباد بنقص الأموال والثمرات وفقدان الأعزة ، وفقدان الأمن والاستقرار بهدف اختبار الناس وابتلائهم؟

ونرى أنّ الله سبحانه وتعالى يقوم بتحذير وتربية بعض أنبيائه وعباده الصالحين ، وذلك بابتلائهم بمصائب بسبب تركهم للأولى ، مثل ما ابتلى به يعقوبعليه‌السلام بسبب قلّة توجهه إلى المساكين ، أو ما ابتلى به يونسعليه‌السلام بسبب تركه الأولى من بعض الأمور ولو لفترة قصيرة فهل يا ترى يحق لأحد أن يقوم بهذه الأعمال بعنوان الجزاء والعقاب لهؤلاء الرسل الكرام والعباد الصالحين؟

ونرى أنّ الله سبحانه وتعالى يقوم في بعض الأحيان ، بسلب النعمة من الإنسان بسبب عدم شكره ، كأن تغرق أمواله في البحر ـ مثلا ـ يخسر هذه الأموال ، أو يصاب بالمرض بسبب عدم شكره لربّه على نعمة السلامة

والسؤال هنا : هل يستطيع أحد من الناحية الفقهية والتشريعية أن يسلب

٣٣٢

النعمة من الآخرين ، أو ينزل الضرر بسلامتهم وصحتهم بسبب عدم شكرهم وبدعوى ابتلائهم؟

إنّ أمثال هذه الأمور كثير للغاية ، وهي تظهر ـ بشكل عام ـ أنّ عالم الوجود ، وخصوصا خلق الإنسان ، قد قام على النظام الأحسن ، حيث وضع الله تعالى مجموعة من القوانين والمقررات التكوينية حتى يسلك الإنسان طريق التكامل ، وعند ما يتخلف عنها فسيصاب بردود فعل مختلفة.

ولكنّا من وجهة قوانين الشرع وضوابط الأحكام لا نستطيع أن نصنّف الأمور في إطار هذه القوانين التكوينية.

على سبيل المثال نرى أنّ الطبيب يستطيع أن يقطع إصبع شخص معين بحجّة عدم سراية السم إلى قلبه ، ولكن هل يستطيع أي شخص أن يقطع إصبع شخص آخر بحجّة تربيته على الصبر أو عقابا له على كفرانه للنعم؟ (بالطبع الخالق يستطيع القيام بذلك حتما لأنّه يلائم النظام الأحسن).

والآن بعد أن ثبت وتوضح أنّ في العالم نظامان (تكويني وتشريعي) ، وأنّ الله هو الحاكم والمسيطر على هذين النظامين ، لذا فلا مانع في أن يأمر تعالى مجموعة بأن تطبّق النظام التشريعي ، بينما يأمر مجموعة من الملائكة أو بعض البشر (كالخضر مثلا) بأن يطبقوا النظام التكويني.

ومن وجهة النظام التكويني لا يوجد أي مانع في أن يبتلي الله طفلا غير بالغ بحادثة معينة ، ثمّ يموت ذلك الطفل بسبب هذه الحادثة ، وذلك لعلم الله تعالى بأنّ أخطارا كبيرة كامنة لهذا الطفل في المستقبل كما أنّ وجود مثل هؤلاء الأشخاص وبقاءهم يتمّ لمصلحة معينة كالامتحان والابتلاء وغير ذلك.

وأيضا لا مانع في أن يبتليني الله اليوم بمرض صعب يقعدني الفراش لعلمه تعالى بأنّ خروجي من البيت لو تمّ فسأتعرض لحادثة خطيرة لا أستحقها ، لذا فهو تعالى يمنعني منها.

٣٣٣

بعبارة أخرى : إنّ مجموعة من أوليائه وعباده مكلّفون في هذا العالم بالبواطن ، بينما المجموعة الأخرى مكلّفون بالظواهر. والمكلّفون بالبواطن لهم ضوابط وأصول وبرامج خاصّة بهم ، مثلما للمكلّفين بالظواهر ضوابطهم وأصولهم الخاصّة بهم أيضا.

صحيح أنّ الخط العام لهذين البرنامجين يوصل الإنسان إلى الكمال ؛ وصحيح أنّ البرنامجين متناسقين من حيث القواعد الكلية ، إلّا أنّهما يفترقان في التفاصيل والجزئيات كما لاحظنا ذلك في الأمثلة.

بالطبع لا يستطيع أحد أن يعمل كما يحلو له ضمن هذين الخطين ، بل يجب أن يحصل على إجازة المالك القادر الحكيم الخالق جلّ وعلا ، لذا رأينا الخضر (العالم الكبير) يوضح هذه الحقيقة بصراحة قائلا ، (ما فعلته عن أمري) بل إنّي خطوت الخطوات وفقا للبرنامج الإلهي والضوابط التي كانت موضوعة لي.

وهكذا سيزول التعارض والتضاد وتنتفي الأسئلة والمشكلات المثارة حول مواقف الخضر في الحوادث الثلاث.

وسبب عدم تحمّل موسىعليه‌السلام لأعمال الخضر يعود إلى مهمّة موسى التي كانت تختلف عن مهمّة الخضر في العالم ، لذا فقد كان موسىعليه‌السلام يبادر إلى الاعتراض على مواقف الخضر المخالفة لضوابط الشريعة بينما كان الخضر مستمرا في طريق ببرود ، لأنّ وظيفة كل من هذين المبعوثين الإلهيين تختلف عن وظيفة الآخر ودوره المرسوم له إلهيا ، لذلك لم يستطيعا العيش سوية ، لذا قال الخضر لموسىعليه‌السلام :( هذا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ ) .

٢ ـ من هو الخضر؟

لقد رأينا القرآن الكريم يتحدّث عن العالم من دون أن يسميّه بالخضر وقد عبّر عن معلّم موسىعليه‌السلام بقوله :( عَبْداً مِنْ عِبادِنا آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَعَلَّمْناهُ

٣٣٤

مِنْ لَدُنَّا عِلْماً ) والآية توضح المقام الخاص للعبودية والعلم والمعرفة ، لذا فإنّنا غالبا ما نصفه بالرجل العالم.

أمّا الرّوايات الإسلامية وفي مختلف مصادرها عرّفت هذا الرجل باسم (الخضر) ومن بعض هذه الرّوايات نستفيد بأنّ اسمه الحقيقي كان (بليا بن ملكان) أمّا الخضر فهو لقب له ، حيث أنّه أينما كان يطأ الأرض فإنّ الأرض كانت تخضر تحت قدميه.

البعض احتمل أنّ اسم الرجل العالم هذا هو (إلياس) ومن هنا ظهرت فكرة أن الياس والخضر هما اسمان لشخص واحد.

ولكن المشهور المعروف بين المفسّرين والرواة هو الأوّل.

وطبيعي أن نقول : إنّ اسم الرجل العالم أيّا كان فهو غير مهم لا لمضمون القصّة ولا لقصدها ، إذ المهم أن نعرف أنّه كان عالما إلهيا ، شملته الرحمة الإلهية الخاصّة ، وكان مكلّفا بالباطن والنظام التكويني للعالم ، ويعرف بعض الأسرار ، وكان معلّم موسى بن عمران بالرغم من أنّ موسىعليه‌السلام كان أفضل منه من بعض الجوانب.

وهناك أيضا آراء وروايات مختلفة فيما إذا كان الخضر نبيّا أم لا.

ففي المجلد الأوّل من أصول الكافي وردت روايات عديدة تدل على أنّ هذا الرجل لم يكن نبيّا ، بل كان عالما مثل (ذو القرنين) و (آصف بن برخيا)(١) .

في حين نستفيد من روايات أخرى أنّه كان نبيّا ، وظاهر بعض الآيات أعلاه يدل على هذا المعنى ، لأنّها تقول على لسانه :( وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ) . وفي مكان آخر قوله :( فَأَرَدْنا أَنْ يُبْدِلَهُما رَبُّهُما خَيْراً مِنْهُ ) .

ونستفيد من روايات أخرى أنّ الخضر عمّر طويلا.

وهنا قد يطرح هذا السؤال : هل ذكرت قصّة موسى وهذا العالم الكبير في

__________________

(١) أصول الكافي ، المجلد الأوّل ، باب «إنّ الأئمّة بمن يشبهون فيمن مضى» ، ص ٢١٠.

٣٣٥

مصادر اليهود والمسيح؟

في الجواب نقول : إذا كان المقصود هو كتب العهدين (التوراة والإنجيل) فإنّ ذلك غير مذكور فيهما ، أمّا بعض كتب علماء اليهود التي تمّ تدوينها في القرن الحادي عشر الميلادي ، ففيها قصّة تشبه إلى حد كبير حادثة موسىعليه‌السلام وعالم زمانه ، بالرغم من أنّها تذكر أنّ أبطال تلك القصّة هما (إلياس) و (يوشع بن لاوي) وهما من مفسّري (التلمود) في القرن الثّالث الميلادي ، وتختلف من خلال عدّة أمور عن قصّة موسى والخضر ، والقصة هذه هي :

«وهو (اي يوشع) يطلب من الله أن يلقى الياس ، وبمجردّ أن يستجاب دعاؤه ويحظى بلقاء الياس فإنّه يرجوه أن يطلعه على بعض الأسرار. فيجيبه الياس : إنّك لا طاقة لك على تحمّل ذلك ، إلّا أن يوشع يصّر ويلحّ في طلبه فيستجيب له الياس مشترطا عليه أن لا يسأل عن أيّ شيء يراه ، وإذا تخلّف يوشع عن هذا الشرط فإنّ الياس حرّ في الانفصال عنه وتركه ، وعلى أساس هذا الاتّفاق يترافق يوشع والياس في السفر.

وأثناء سفرهما يدخلان إلى بيت فيستقبلهما صاحب البيت أحرّ استقبال ويكرم وفادهما. وكان لأهل ذلك البيت بقرة هي كلّ ما يملكون من حطام الدنيا حيث كانوا يوفّرون لأنفسهم لقمة العيش من بيع لبنها. فيأمر الياس صاحب البيت أن يذبح تلك البقرة ، ويستولي على يوشع العجب والاستغراب من هذا التصّرف ويدفعه ذلك لأن يسأله عن المبرّر لهذا الفعل. فيذكّره الياس بما اتّفقا عليه ويهددّه بمفارقته له فيصمت يوشع ولا ينبس بكلمة.

ومن هناك يواصلان سفرهما إلى قرية أخرى فيدخلان إلى بيت شخص ثريّ وينهض الياس إلى جدار في ذلك البيت يشرف على السقوط فيرمّمه ويقيمه. وفي قرية أخرى يواجهان عددا من سكان تلك القرية مجتمعين في مكان معيّن ولا يعيرون هذين الشخصين بالا ولا يواجهونهما باحترام. فيقوم

٣٣٦

الياس بالدعاء لهم أن يصلوا جميعا إلى الرئاسة. وفي قرية رابعة يواجههما سكّانها باحترام فائق فيدعو لهم الياس بأن يصل شخص واحد منهم فحسب إلى الرئاسة. وبالتالي فإنّ يوشع بن لاوى لا يطيق الصبر فيسأل عن الوقايع الأربع ، ويجيبه الياس : بأنّه في البيت الأوّل كانت زوجة ربّ الدار مريضة ولو أنّ تلك البقرة لم تذبح بعنوان الصدقة فإنّ تلك المرأة تموت ويصاب صاحب الدار بخسارة أفدح من الخسارة التي تلحقه نتيجة لذبح البقرة ، وفي البيت الثّاني كان هناك كنز ينبغي الاحتفاظ به لطفل يتيم ، وأمّا إنّه قد دعوت لأهل القرية الثّالثة بأن يصلوا إلى الرئاسة جميعا فذلك لكي تضطرب أمورهم ويختلّ النظام عندهم. على العكس من أهل القرية الرّابعة فإنّهم إذا أسندوا زمام أمورهم إلى شخص واحد فإنّ أمورهم سوف تنتظم وتسير على ما يرام»(١) .

ويجب عدم التوهّم أنّنا نرى بأنّ القصتين هما قصة واحدة ، بل إنّ غرضنا الإشارة إلى أنّ القصة التي يذكرها علماء اليهود يمكن أن تكون قصة مشابهة أو محرّفة لما حصل أصلا لموسىعليه‌السلام والخضر ، وقد تغيرت بسبب طول الزمان وأصبحت على هذا الشكل.

٣ ـ الأساطير الموضوعة

إنّ الأساس في قصّة موسى والخضرعليهما‌السلام هو ما ذكر في القرآن ، ولكن مع الأسف هناك أساطير كثيرة قيلت حول القصّة وحول رمزيها (موسى والخضر) حتى أنّ بعض الإضافات تعطي للقصّة طابعا خرافيا. وينبغي أن نعرف أنّ مصير كثير من القصص لم يختلف عن مصير هذه القصة ، إذ لم تنج قصة من الوضع والتحريف والتقوّل.

مقياسنا في واقعية القصّة هو أن نضع الآيات الثلاث والعشرون أعلاه كمعيار

__________________

(١) ما ورد أعلاه منقول عن كتاب (أعلام القرآن) ، ص ٢١٣.

٣٣٧

أمامنا ، وحتى بالنسبة للأحاديث والرّوايات فإنّنا نقبلها في حال كونها مطابقة للآيات ، فإذا كان هناك حديث لا يطابق الآيات فسنرفضه حتما ومن حسن الحظ لم يرد في هذه الأحاديث حديث معتبر.

٤ ـ هل يمكن أن يصاب الأنبياء بالنسيان؟

لقد واجهتنا ـ أعلاه ، ولعدّة مرّات ـ قضية نسيان موسىعليه‌السلام ، فمرّة في قضية تلك السمكّة المعدّة لطعامهم ؛ وثلاث مرّات أخرى خلال الحوادث الثلاث التي وقعت عند مرافقته للخضر ، حينما نسي تعهده!

إذن ، نحن أمام هذا السؤال : هل يقع النسيان بالنسبة للأنبياء؟

البعض يعتقد بصدور ووقوع مثل هذا النسيان بالنسبة للأنبياء ، لأنّه لا يرتبط بأساس دعوة النّبوة ولا بفروعها ولا بتبليغ الدعوة ، بل يقع في قضية عادية تخص الحياة اليومية ، فالمسلّم به أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يصاب بالنسيان في أصل دعوة النّبوة ، ولا يخطأ أو يشتبه في التبليغ ، حيث أن عناية الله تعصمه في مثل هذه الأمور.

ولكن ما المانع أن ينسى موسىعليه‌السلام طعامه ، خصوصا وأن هذا النسيان أمر طبيعي عند ما يكون موسى متوجها بحواسه في البحث عن الرجل العالم؟

ثمّ ما المانع من أن يصاب بالهيجان بحيث ينسى تعهد الذي قطعه مع صاحبه العالم ، وذلك عند ما شاهد هذه الحوادث العظيمة التي مرّت به كقتل الفتى وخرق السفينة وبناء الجدار في مدينة البخلاء؟

إنّ موارد النسيان هذه لا تتعارض مع مقام العصمة ، ولا هي مستبعدة عن أي نبي.

بعض المفسّرين احتملوا أن يكون النسيان هنا بمعنى مجازي ، ويعني الترك ، لأنّ الإنسان عند ما يترك شيئا فهو كمن قد نسيه ؛ أمّا لماذا ترك موسى طعامه ، فقد

٣٣٨

يعود ذلك إلى عدم اهتمامه بمثل هذا الأمر. وفيما يتعلق بتعهده اتجاه صاحبه العالم ، فذاك منه لأنّه كان ينظر إلى ظواهر الأمور ، إذ من غير المألوف أن يعرّض أحد أرواح وأموال الناس إلى الضرر ، فضلا عن أن يكون ذلك الشخص هو العالم الكبير ، لذا فإنّ موسىعليه‌السلام كان يعتبر نفسه مكلفا بالاعتراض ، وكان يعتقد بأنّ هذا الأمر لا يقيّد بالتعهد.

لكن من الواضح أنّ هذه التفاسير والآراء لا تتسق مع ظواهر الآيات.

٥ ـ لماذا ذهب موسى لرؤية الخضر؟

في حديث عن ابن عباس قال : أخبرني أبي بن كعب قال : خطبنا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : «إنّ موسىعليه‌السلام قام خطيبا في بني إسرائيل ، فسئل أي الناس أعلم؟

قال : أنا.

فعتب الله عليه إذ لم يرد العلم إليه. فأوحى إليه : إنّ لي عبدا بمجمع البحرين هو أعلم منك.

قال موسى : يا ربّ فكيف لي به؟

قال : تأخذ معك حوتا ...»(١) إلخ الرّواية حيث أرشد تعالى نبيّه موسى للوصول إلى الرجل العالم.

كما روي ما يشابه هذا الحديث عن الإمام الصادقعليه‌السلام (٢) .

إنّ مفاد هذه الواقعة هو تحذير لموسىعليه‌السلام حتى لا يعتبر نفسه ـ برغم علمه ومعرفته ـ أفضل الأشخاص.

ولكن هنا يثار هذا السؤال : ألا يجب أن يكون النّبي ـ وهو هنا من أولي العزم وصاحب رسالة ـ أعلم أهل زمانه؟

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ٣ ، ص ٤٨١.

(٢) نور الثقلين ، ج ٣ ، ص ٢٧٥.

٣٣٩

في معرض الجواب نقول : نعم ، ينبغي أن يكون أعلم فيما يتعلق بمهمّته ، يعني الأعلم بالنظام التشريعي ، وموسىعليه‌السلام كان كذلك. أمّا الرجل العالم (الخضر) فهو كما قلنا سابقا ، كانت له مهمّة تختلف عن مهمّة موسىعليه‌السلام ولا ترتبط بعالم التشريع. بعبارة أخرى : إنّ الرجل العالم كان يعرف من الأسرار ما لا تعتمد عليه دعوة النّبوة.

وفي حديث جاء عن الإمام الصادقعليه‌السلام قولهعليه‌السلام : «كان موسى أعلم من الخضر»(١) . أي أعلم منه في علم الشرع.

وهنا نلاحظ أنّ هذه الشبهة وقضية نسيان موسىعليه‌السلام هما اللتان دفعتا البعض إلى القول أنّ موسى المذكور في القصة ليس هو موسى بن عمران ، بل هو شخص آخر. لكن مع حل هاتين المشكلتين لا يبقى مجال لهذا الكلام.

وفي حديث عن الإمام علي بن موسى الرضاعليه‌السلام نرى إشارة صريحة إلى أن مهمّة ووظيفة كلّ من موسى والخضر كانت تختلف عن الآخر ، فقد كتب أحدهم إلى الإمام الرضاعليه‌السلام يسأله عن العالم الذي أتاه موسى ، أيّهما كان أعلم؟ فكان ممّا أجاب به الإمام قولهعليه‌السلام : «أتى موسى العالم فأصابه في جزيرة من جزائر البحر إمّا جالسا وإمّا متكئا فسلّم عليه موسى ، فأنكر السلام ، إذ كانت الأرض ليس بها سلام. قال : من أنت؟ قال: أنا موسى بن عمران. قال : أنت موسى بن عمران الذي كلمه الله تكليما؟ قال: نعم، قال : فما حاجتك؟ قال : جئت لتعلمني ممّا علمت رشدا. قال : إنّي وكلت بأمر لا تطيقه، ووكلت بأمر لا أطيقه»(٢) .

ومن المناسب هنا أن نختم هذه الفقرة بما رواه صاحب «الدر المنثور» عن «الحاكم» النيسابوري من أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «لما لقي موسى الخضر ، جاء طير فألقى منقاره في الماء ، فقال الخضر لموسى : تدري ما يقول هذا الطائر؟ قال : وما

__________________

(١) تفسير الميزان ، ج ١٣ ، ص ٣٥٦.

(٢) مجمع البيان ، ج ٦ ، ص ٤٨٠. والميزان ، ج ١٣ ، ص ٣٥٦.

٣٤٠

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

للآية ، بأن أحد المشركين ـ واسمه العاص بن وائل ـ قد منع أجيره أجره ـ والظاهر أنّه كان مسلما ـ وقال متهكما : إن كان ما يقوله محمّد حقا فنحن أولى من غيرنا بنعم الجنّة ، وسندفع أجر هذا العامل بالكامل هناك! فنزلت هذه الآية وقالت : إنّ الجنّة مختصة بمن كان تقيا.

* * *

٤٨١

الآيتان

( وَما نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا وَما خَلْفَنا وَما بَيْنَ ذلِكَ وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا (64) رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا (65) )

سبب النّزول

ذكر جماعة من المفسّرين في سبب نزول هاتين الآيتين ، أنّ الوحي انقطع أيّاما ، ولم يأت جبرئيل رسول الوحي الإلهي إلى النّبي ، فلمّا انقضت هذه المدّة قال له : قال عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ما منعك أن تزورنا أكثر ممّا تزورنا» ، فنزلت الآية :( وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ ) (1) .

التّفسير

الطاعة التّامة :

بالرّغم من أن لهذه الآية سبب نزول ذكر أعلاه ، إلّا أنّ هذا لا يكون مانعا من

__________________

(1) تفسير نور الثقلين ، ج 3 ، ص 352 ، عن مجمع البيان ، وتفسير القرطبي ، الجزء 11 ، ص 416 ، وذيل الآية مورد البحث باختلاف يسير.

٤٨٢

أن يكون لها ارتباطا منطقيا بالآيات السابقة ، لأنّها تأكيد على أنّ كل ما أتى به جبرئيل من الآيات السابقة قد بلغه عن الله بدون زيادة أو نقصان ، ولا شيء من عنده ، فتتحدث الآية الأولى على لسان رسول الوحي فتقول :( وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ ) فكل شيء منه، ونحن عباد وضعنا أرواحنا وقلوبنا على الأكف( لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا وَما خَلْفَنا وَما بَيْنَ ذلِكَ ) والخلاصة : فإنّ الماضي والحاضر والمستقبل ، وهنا وهناك وكل مكان ، والدنيا والآخرة والبرزخ ، كل ذلك متعلق بذات الله المقدسة.

وقد ذكر بعض المفسّرين لجملة( لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا وَما خَلْفَنا وَما بَيْنَ ذلِكَ ) آراء عديدة بلغت أحيانا أحد عشر قولا ما ذكرنا أعلاه هو أنسبها جميعا كما يبدو

ثمّ تضيف الآية : إن كل ذلك بأمر ربّك( رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما ) فإذا كان الأمر كذلك ، وكل الخطوط تنتهي إليه( فَاعْبُدْهُ ) عبادة مقترنة بالتوحيد والإخلاص. ولما كان هذا الطريق ـ طريق العبودية والطاعة وعبادة الله الخالصة ـ مليء بالمشاكل والمصاعب ، فقد أضافت( وَاصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ ) ، وتقول في آخر جملة :( هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا ) .

وهذه الجملة في الواقع ، دليل على ما جاء في الجملة السابقة ، يعني : هل لذاته المقدسة شريك ومثيل حتى تمد يدك اليه وتعبده؟

إنّ كلمة (سمي) وإن كانت تعني «المشترك في الاسم» ، إلّا أن من الواضح أنّ المراد هنا ليس الاسم فقط ، بل محتوى الاسم ، أي : هل تعلم أحدا غير الله خالقا رازقا ، محييا مميتا ، قادرا على كل شيء ، وظاهرا على كل شيء؟

* * *

٤٨٣

الآيات

( وَيَقُولُ الْإِنْسانُ أَإِذا ما مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا (66) أَوَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً (67) فَوَ رَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّياطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا (68) ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا (69) ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلى بِها صِلِيًّا (70) )

سبب النّزول

الآيات الأولى ـ على رأي جماعة من المفسّرين ـ نزلت في شأن «أبي بن خلف» ، أو «الوليد بن المغيرة» ، حيث أخذوا قطعة من عظم منخور ، ففتوه بأيديهم ونثروه في الهواء حتى تطايرت كل ذرة منه إلى جهة ، وقالوا انظروا إلى محمّد الذي يظن أن الله يحيينا بعد موتنا وتلاشي عظامنا مثل هذا العظم! إن هذا شيء غير ممكن أبدا. فنزلت هذه الآيات وأجابتهم ، جوابا قاطعا ، جوابا مفيدا ومعلما لكل البشر ، وفي جميع القرون والأعصار.

٤٨٤

التّفسير

حال أهل النّار :

مرّت في الآيات السابقة بحوث عديدة حول القيامة والجنّة والجحيم ، وتتحدث هذه الآيات التي نبحثها حول نفس الموضوع ، فتعيد الآية الأولى أقوال منكري المعاد ، فتقول:( وَيَقُولُ الْإِنْسانُ أَإِذا ما مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا ) .

هذا الاستفهام استفهام إنكاري طبعا ، أي إنّ هذا الشيء غير ممكن. أمّا التعبير بالإنسان (وخاصّة مع ألف ولام الجنس) ، مع أنّه كان من المناسب أن يذكر الكافر محله ـ فربّما كان من جهة أن هذا السؤال مخفي في طبع كل إنسان في البداية بزيادة ونقيصة ، وبسماع مسألة الحياة بعد الموت سترتسم في ذهنه علامة الاستفهام فورا.

ثمّ يجيبهم مباشرة بنفس التعبير( أَوَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً ) . ويمكن أن يكون التعبير بـ «الإنسان» هنا أيضا إشارة إلى أن الإنسان مع ذلك الاستعداد والذكاء الذي منحه الله إيّاه ، يجب أن لا يجلس ساكتا أمام هذا السؤال ، بل يجب أن يجيب عليه بتذكر الخلق الأوّل ، وإلّا فإنّه لم يستعمل حقيقة إنسانيته.

إنّ هذه الآيات ـ ككثير من الآيات المرتبطة بالمعاد ـ تؤكّد على المعنى الجسماني ، وإلّا فإذا كان القرار أن تبقى الروح فقط ، ولا وجود لرجوع الجسم إلى الحياة ، فلا مكان ولا معنى لذلك السؤال ، ولا لهذا الجواب.

على كل حال ، فقد استعمل القرآن هذا المنطق لإثبات المعاد هنا ، وقد جاء في مواضع أخرى من القرآن أيضا ، ومن جملتها في أواخر سورة يس ، حيث طرح الأمر بنفس تعبير الإنسان :( أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ. وَضَرَبَ لَنا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ. قُلْ

٤٨٥

يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ ) (1) (2) .

بعض المفسّرين طرح هنا سؤالا ، وهو أن هذا الدليل إذا كان صحيحا ، بأنّ كل شخص إذا ما عمل عملا فإنّه قادر على إعادته ، فلما ذا نقوم بأعمال ثمّ نعجز عن تكرارها أحيانا؟ فمثلا قد ننشد قطعة شعرية رائعة جدّا ، أو نكتب بخط جميل جدّا ، غير أنّنا بعد ذلك نجتهد في الإتيان بمثله ولكن دون جدوى.

الجواب هو : صحيح أنّنا نقوم بأعمالنا بإرادة واختيار ، إلّا أن هناك سلسلة من الأمور غير الإرادية تؤثر في أفعالنا الخاصّة أحيانا ، فإنّ حركة واهتزاز يدنا غير المحسوس يؤثر أحيانا في دقة شكل الحروف. إضافة إلى أن قدرتنا واستعدادنا ليسا متساويين دائما ، فقد تعرض أحيانا عوامل تعبئ كل قوانا الداخلية ، ونستطيع أن نبدع في الأعمال ونأتي بأعلاها، إلّا أنّ هذه الدوافع تكون ضعيفة أحيانا ، فلا تستجمع كل الطاقات ، ولذلك فإن العمل الثّاني لا ينفذ بدقة وجودة العمل الأوّل.

إلّا أنّ الله الذي لا تنتهي قدرته ، لا تثار حوله هذه المسائل ، ولا تقاس قدرته على أعمالنا وقدراتنا ، فإنّه إذا عمل عملا فإنّه يستطيع إعادته بعينه بدون زيادة أو نقصان.

ثمّ تهدد الآية التالية منكري المعاد ، والمجرمين الكافرين :( فَوَ رَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّياطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا ) .

إنّ هذه الآية توحي بأنّ محكمة الأفراد الكافرين والمجرمين قريبة من جهنم! والتعبير بـ «جثيا» ـ مع العلم أن جثي جمع جاثي ، وهو الذي يجثو على ركبتيه ـ ربّما كان إشارة إلى ضعف وعجز وذلة هؤلاء ، حتى أنّهم لا قدرة لهم على الوقوف أحيانا.

__________________

(1) يس ، 77 ـ 79.

(2) لقد بحثنا حول هذا الدليل في ذيل الآية (29) من الأعراف تحت عنوان (أقصر دليل لإثبات المعاد).

٤٨٦

ولهذه الكلمة معاني أخرى أيضا ، فمن جملتها أنّهم فسروا «جثيا» بمعنى جماعة جماعة ، وبعضهم فسّرها بمعنى الكثرة وازدحام بعضهم على بعض كتراكم التراب والحجارة ، إلّا أنّ التّفسير الأوّل هو الأنسب والأشهر.

ولما كانت الأولويات تلاحظ في تلك المحكمة العادلة ، فإنّ الآية التالية تقول :( ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا ) (1) ونبدأ بحسابهم أوّلا ، فإنّهم عتوا عتوا نسوا معه كل مواهب الله الرحمان ، وجنحوا إلى التمرد والعصيان وإظهار الوقاحة أمام ولي نعمتهم! أجل ، إن هؤلاء أحق من الجميع بالجحيم.

ثمّ تؤكّد على هذا المعنى مرّة أخرى فتقول :( ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلى بِها صِلِيًّا ) فسنختار هؤلاء بدقة ، وسوف لا يقع أي اشتباه في هذا الإختيار.

(صلي) مصدر يعطي معنى إشعال النار وإيقادها ، كما يعني حرق الشيء بالنّار.

* * *

__________________

(1) «الشيعة» في الأصل بمعنى الجماعة التي يتعاون أفرادها للقيام بعمل ما ، وانتخاب هذا التعبير في الآية يمكن أن يكون إشارة إلى أن العتاة المردة والضالين الكافرين كانوا يتعاونون في طريق الطغيان ، ونحن سنحاسب هؤلاء أوّلا ، لأنّهم أكثر تمردا وعصيانا من الجميع.

٤٨٧

الآيتان

( وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وارِدُها كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا (71) ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا (72) )

التّفسير

الجميع يردون جهنم!

تستمر الآيات في بحث خصائص القيامة والثواب والعقاب ، وأشارت في البداية إلى مسألة يثير سماعها الحيرة والعجب لدى أغلب الناس ، فتقول :( وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا ) فجميع الناس سيدخلون جهنم بدون استثناء لأنّه أمر حتمي.

( ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا ) فنتركهم فيها جالسين على الركب من الضعف والذّل.

وهناك بحث مفصل بين المفسّرين في تفسير هاتين الآيتين حول المراد من «الورود» في جملة( وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها ) .

فيرى بعض المفسّرين أنّ «الورود» هنا بمعنى الاقتراب والإشراف ، أي إن جميع الناس بدون استثناء ـ المحسن منهم والمسيء ـ يأتون إلى جانب جهنم للحساب ، أو لمشاهدة مصير المسيئين النهائي ، ثمّ ينجي الله المتقين ، ويدع

٤٨٨

الظالمين فيها. وقد استدل هؤلاء لدعم هذا التّفسير بالآية (23) من سورة القصص :( وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ ) حيث أن للورود هنا نفس المعنى.

والتّفسير الثّاني الذي اختاره أكثر المفسّرين ، هو أن الورود هنا بمعنى الدخول ، وعلى هذا الأساس فإنّ كل الناس بدون استثناء ـ محسنهم ومسيئهم ـ يدخلون جهنم ، إلّا أنّها ستكون بردا وسلاما على المحسنين ، كحال نار نمرود على إبراهيم( يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ ) ، لأنّ النّار ليست من سنخ هؤلاء الصالحين ، فقد تفر منهم وتبتعد عنهم ، إلّا أنّها تناسب الجهنميين فهم بالنسبة للجحيم كالمادة القابلة للاشتعال ، فما أن تمسهم النار حتى يشتعلوا.

وبغض النظر عن فلسفة هذا العمل ، والتي سنشرحها فيما بعد ـ إن شاء الله تعالى ـ فإنّ ممّا لا شك في أنّ ظاهر الآية يلائم وينسجم مع التّفسير الثاني ، لأنّ المعنى الأصلي للورود هو الدخول ، وغيره يحتاج إلى قرينة. إضافة إلى أن جملة( ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا ) وكذلك جملة( وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها ) كلتاهما شاهدتان على هذا المعنى. علاوة على الرّوايات المتعددة الواصلة إلينا في تفسير الآية التي تؤيد هذا المعنى ، ومن جملتها :

روي عن جابر بن عبد الله الأنصاري أنّ رجلا سأله عن هذه الآية ، فأشار جابر بإصبعيه إلى أذنيه وقال : صمتا إن لم أكن سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : «الورود الدّخول ، لا يبقى بر ولا فاجر إلّا يدخلها ، فتكون على المؤمنين بردا وسلاما كما كانت على إبراهيم ، حتى أن للنّار ـ أو قال لجهنم ـ ضجيجا من بردها ، ثمّ ينجي الله الذين اتقوا ويذر الظالمين فيها جثيا»(1) .

وفي حديث آخر عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «تقول النّار للمؤمن يوم القيامة : جز يا مؤمن ، فقد أطفأ نورك لهبي»(2) !

__________________

(1) نور الثقلين ، الجزء 3 ، ص 353.

(2) المصدر السّابق.

٤٨٩

ويستفاد هذا المعنى أيضا من بعض الرّوايات الأخرى. وكذلك التعبير العميق المعنى للصراط ، والذي ورد في روايات متعددة بأنّه جسر على جهنم ، وأنّه أدق من الشعرة وأحد من السيف ، هذا التعبير شاهد آخر على هذا التّفسير(1) .

أمّا ما يقوله البعض من أن الآية (101) من سورة الأنبياء :( أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ ) دليل على التّفسير الأوّل ، فلا يبدو صحيحا ، لأن هذه الآية مرتبطة بمحل إقامة ومقر المؤمنين الدائمي ، حتى أنّنا نقرأ في الآية التالية لهذه الآية :( لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها ) فإذا كان الورود في آية البحث بمعنى الاقتراب ، فهي غير مناسبة لكلمة( مُبْعَدُونَ ) ولا لجملة( لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها ) .

جواب عن سؤال :

السؤال الوحيد الذي يبقى هنا ، هو : ما هي الحكمة هذا العمل؟ وهل أن المؤمنين لا يرون أذى ولا عذابا من هذا العمل؟

إنّ الإجابة على هذا السؤال ـ التي وردت في الرّوايات حول كلا الشقين ـ ستتضح بقليل من الدقة.

إنّ مشاهدة جهنم وعذابها في الحقيقة ، ستكون مقدمة لكي يلتذ المؤمنون بنعم الجنة بأعلى مراتب اللذة ، لأن أحدا لا يعرف قدر العافية حتى يبتلى بمصيبة (وبضدها تتمايز الأشياء) فهناك لا يبتلى المؤمنون بمصيبة ، بل يشاهدون المصيبة على المسرح فقط ، وكما قرأنا في الرّوايات السابقة ، فإنّ النّار تصبح بردا وسلاما على هؤلاء ، ويطغى نورهم على نورها ويخمده.

إضافة إلى أنّ هؤلاء يمرون على النار بكل سرعة بحيث لا يرى عليهم أدنى أثر ، كما

روي النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال في حديث : «يرد الناس ثمّ يصدون بأعمالهم ،

__________________

(1) تفسير نور الثقلين ، ج 5 ، ص 572 ذيل آية( إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ ) الفجر ، 14.

٤٩٠

فأوّلهم كلمع البرق ، ثمّ كمر الريح ، ثمّ كحضر الفرس ، ثمّ كالراكب ، ثمّ كشد الرجل ، ثمّ كمشيه»(1) .

وإذا تجاوزنا ذلك ، فإنّ أهل النّار أيضا سيلقون عذابا أشد من رؤية هذا المشهد ، وأن أهل الجنّة يمرون بتلك السرعة وهم يبقون في النّار ، وبهذا سيتّضح جواب كلا السؤالين.

* * *

__________________

(1) نور الثقلين ، ج 3 ، ص 353.

٤٩١

الآيات

( وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقاماً وَأَحْسَنُ نَدِيًّا (73) وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثاثاً وَرِءْياً (74) قُلْ مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضْعَفُ جُنْداً (75) وَيَزِيدُ اللهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ مَرَدًّا (76) )

التّفسير

هذه الآيات تتابع ما مر في الآيات السابقة في الحديث عن الظالمين الذين لا إيمان لهم ، وتتعرض لجانب آخر من منطق هؤلاء الظالمين ومصيرهم.

ومن المعلوم أنّ أوّل جماعة آمنت بالرّسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كانوا من المستضعفين الطاهري القلوب ، والذين خلت أيديهم من مال الدنيا ومغرياتها هؤلاء المحرومون هم الذين جاءت الأديان الإلهية من أجل إنقاذهم من قبضة

٤٩٢

الظالمين الجائرين بلال وسلمان ، وعمار ، وخباب ، وسمية ، وأمثالهم مصاديق بارزة لهؤلاء المؤمنين المظلومين.

ولما كان المعيار في المجتمع الجاهلي في ذلك الزمان ـ وكذا في كل مجتمع جاهلي آخر ـ هو الذهب والزينة والمال والمقام والمنصب والهيئة الظاهرية ، فكان الأثرياء الظالمون ، كالنضر بن الحارث وأمثاله يفتخرون على المؤمنين الفقراء بذلك ويقولون : إنّ علامة شخصيتنا معنا ، وعلامة عدم شخصيتكم فقركم ومحروميتكم ، وهذا بنفسه دليل على أحقيتنا وباطلكم! كما يقول القرآن الكريم في أول آيه من الآيات مورد البحث :( وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقاماً وَأَحْسَنُ نَدِيًّا ) .

خاصّة وأنّنا نقرأ في الرّوايات الإسلامية أن هؤلاء الأشراف المترفين كانوا يلبسون أجمل ملابسهم ، ويتزينون بأبهى زينة ، ويتبخترون أمام أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وكانوا ينظرون إليهم نظرة تحقير واستهزاء نعم ، هذه طريقة هذه الطبقة في كل عصر وزمان.

«النديّ» أخذت في الأصل من (الندى) أي الرطوبة ، ثمّ جاءت بمعنى الأفراد الفصحاء والخطباء ، لأن أحد شروط القدرة على التكلم امتلاك القدر الكافي من اللعاب ، ولذلك فإن (نديّ) تعني المجالسة والتحدث ، بل يقال للمجلس الذي يجتمعون فيه للأنس والسمر ، أو يجلسون فيه للتشاور : نادي ، ومن هذا أخذت (دار الندوة) وهي المحل الذي كان في مكّة ، وكان يجتمع فيه زعماؤها للتشاور.

وقد يعبر عن السخاء والبذل والعطاء ب (الندى)(1) وهذه الآية يمكن أن تكون إشارة إلى كل هذه المعاني ، أي : إنّ مجلس أنسنا أجمل من مجلسكم ، وإن مالنا وثروتنا وزينتنا ولباسنا أبهى وأروع ، وإن كلامنا وأشعارنا الفصيحة والبليغة

__________________

(1) مفردات الراغب ، مادة (ندى).

٤٩٣

أبلغ وأحسن!

إلّا أنّ القرآن الكريم يجيب هؤلاء بجواب منطقي ومستدل تماما ، وفي الوقت نفسه قاطع ومفحم ، فيقول : كأن هؤلاء قد نسوا تاريخ البشر ، ولم ينظروا كم دمرنا من الأقوام السابقين عند تمردهم وعصيانهم :( وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثاثاً وَرِءْياً ) (1) فهل استطاعت أموالهم وثروتهم ، ومجالسهم الفاسقة ، وملابسهم الفاخرة ، وصورهم الجميلة أن تمنع العذاب الإلهي وتقف أمامه؟ وإذا كانت هذه الأمور دليلا على شخصيتهم ومنزلتهم عند الله ، فلما ذا ابتلوا بهذا المصير المشؤوم؟

إنّ زخارف الدنيا وبهارجها متزلزلة إلى حدّ أنّها تتلاشى وتزول بمجرّد أن يهب عليها أدنى نسيم هادئ.

«القرن» ـ كما قلنا سابقا في ما مرّ في ذيل الآية (6) من سورة الأنعام ـ تعني عادة الزمان الطويل ، لكن لما كانت قد أخذت من مادة الاقتران ، أي الاقتراب ، فإنّها تقال أيضا للقوم والأناس المجتمعين في زمان واحد.

ثمّ تحذرهم تحذيرا آخر ، بأن لا تظنوا أيّها الظالمون الكافرون أنّ مالكم وثروتكم هذه رحمة ، بل كثيرا ما تكون دليلا على العذاب الإلهي :( قُلْ مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا. حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ ) إي إمّا العذاب في هذه الدنيا ، وإمّا عذاب الآخرة( فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضْعَفُ جُنْداً ) .

في الحقيقة ، إنّ مثل هؤلاء الأفراد الذين لا يمكن هدايتهم (والملاحظ أن القرآن يقول :( مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ ) وهو إشارة إلى الاستمرار في الضلال) من

__________________

(1) (الأثاث) بمعنى المتاع وزينة الدنيا ، و (رئي) بمعنى الهيئة والمنظر.

٤٩٤

أجل أن يروا العقاب الإلهي الشديد ، فإنّ الله سبحانه يجعلهم أحيانا يغوصون ويغرقون في النعم لتصبح سببا لغرورهم ، كما تكون سببا لنزول العذاب عليهم ، فإنّ سلب النعم عنهم حينئذ سيجعل لوعة العذاب أشد. وهذا هو ما ذكر في بعض آيات القرآن بعنوان عقاب «الاستدراج»(1) .

جملة( فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا ) وإن كانت بصيغة الأمر ، إلّا أنّها بمعنى الخبر ، فمعناها : إنّ الله يمهل هؤلاء ويديهم عليهم النعم.

وقد فسرها بعض المفسّرين بنفس معنى الأمر أيضا ، وأنّه يعني هنا اللعنة ، أو وجوب مثل هذا العمل والمعاملة على الله. إلّا أنّ التّفسير الأوّل يبدو هو الأقرب.

وكلمة (العذاب) بقرينة وقوعها في مقابل (الساعة) فإنّها إشارة إلى العقوبات الإلهية في عالم الدنيا ، عقوبات كطوفان نوح ، والزلزلة ، والحجارة السماوية التي نزلت على قوم لوط. أو العقوبات التي أصيبوا بها على يد المؤمنين والمقاتلين في جبهات الحق ، كما نقرأ في الآية (14) من سورة التوبة :( قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ ) .

«الساعة» هنا إمّا بمعنى نهاية الدنيا ، أو العذاب الإلهي في القيامة. ويبدو لنا أن المعنى الثّاني هو الأنسب.

هذه عاقبة ومصير الظالمين المخدوعين بزخرف الدنيا وزبرجها ، أمّا أولئك الذين آمنوا واهتدوا ، فإنّ الله يزيدهم هدى وإيمانا( وَيَزِيدُ اللهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً ) .

من البديهي أن للهداية درجات ، فإذا طوى الإنسان درجاتها الأولى فإنّ الله يأخذه بيده ويرفعه إلى درجات أعلى ، وكما أنّ الشجرة المثمرة تقطع كل يوم

__________________

(1) راجع ذيل الآيات 182 ، 183 من سورة الأعراف.

٤٩٥

مرحلة جديدة إلى التكامل والإيناع ، فكذلك المهتدون يرتقون كل يوم مراق أعلى في ظل الإيمان والأعمال الصالحة التي يعملونها.

وفي النهاية تجيب الآية هؤلاء الذين اعتمدوا على زينة الدنيا السريعة الزوال ، وجعلوها وسيلة للتفاخر على الآخرين ، فتقول :( وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ مَرَدًّا ) (1) .

* * *

__________________

(1) «مردّ» ـ على وزن نمدّ بتشديد الدال ـ إمّا مصدر بمعنى الرّد والإرجاع ، أو اسم مكان بمعنى محل الرجوع، والمراد منه هنا الجنّة ، إلّا أنّ الاحتمال الأوّل أوفق لمعنى الآية.

٤٩٦

الآيات

( أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا وَقالَ لَأُوتَيَنَّ مالاً وَوَلَداً (77) أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً (78) كَلاَّ سَنَكْتُبُ ما يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذابِ مَدًّا (79) وَنَرِثُهُ ما يَقُولُ وَيَأْتِينا فَرْداً (80) وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا (81) كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا (82) )

التّفسير

تفكير خرافي ومنحرف :

يعتقد بعض الناس أنّ الإيمان والطهارة والتقوى لا تناسبهم ، وأنّها السبب في أن تدبر الدنيا عنهم ، أمّا إذا خرجوا من دائرة الإيمان والتقوى فإنّ الدنيا ستقبل عليهم ، وتزيد ثروتهم وأموالهم!

إنّ هذا النوع من التفكير ، سواء كان نابعا من البساطة واتباع الخرافات ، أو أنّه غطاء وتستّر للفرار من تحمل المسؤوليات والتعهدات الإلهية ، فهو تفكير خاطئ وخطير.

لقد رأينا عبدة الأوهام هؤلاء يجعلون أحيانا من كثرة أموال وثروات

٤٩٧

الأفراد غير المؤمنين ، وفقر وحرمان جماعة من المؤمنين ، دليلا لإثبات هذه الخرفة ، في حين أنّه لا الأموال التي تصل إلى الإنسان عن طريق الظلم والكفر وترك أسس التقوى تبعث على الفخر ، ولا الإيمان والتقوى يكونان سدا ومانعا في طريق النشاطات المشروعة والمباحة مطلقا.

على كل حال ، فقد كان في عصر النّبي ـ وكذلك في عصرنا ـ أفراد جاهلون يظنون هذه الظنون والأوهام ، أو كانوا يتظاهرون بها على الأقل ، فيتحدث القرآن ـ كمواصلة للبحث الذي بيّنه سابقا حول مصير الكفار والظالمين ـ في الآيات مورد البحث عن طريقة التفكير هذه وعاقبتها ، فيقول في أوّل آية من هذه الآيات :( أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا وَقالَ لَأُوتَيَنَّ مالاً وَوَلَداً ) (1) .

ثمّ يجيبهم القرآن الكريم :( أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً ) فإنّ الذي يستطيع أن يتكهن بمثل هذا التكهن ، ويقول بوجود علاقة بين الكفر والغنى وامتلاك الأموال والأولاد ، مطلّع على الغيب ، لأنا لا نرى أيّ علاقة بين هاتين المسألتين ، أو يكون قد أخذ عهدا من الله سبحانه ، وهذا الكلام أيضا لا معنى له.

ثمّ يضيف بلهجة حادة : إنّ الأمر ليس كذلك ، ولا يمكن أن يكون الكفر أساسا لزيادة مال وولد أحد مطلقا :( كَلَّا سَنَكْتُبُ ما يَقُولُ ) .

أجل ، فإنّ هذا الكلام الذي لا أساس له قد يكون سببا في انحراف بعض البسطاء ، وسيثبت كل ذلك في صحيفة أعمال هؤلاء( وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذابِ مَدًّا ) .

هذه الجملة قد تكون إشارة إلى العذاب المستمر الخالد ، كما يحتمل أيضا أن

__________________

(1) نقل بعض المفسّرين سببا لنزول الآية وهو : إنّ أحد المؤمنين ـ واسمه خباب ـ كان يطلب أحد المشركين ـ واسمه العاص بن وائل ، فقال المدين مستهزئا : إذا وجدت مالا وولدا في عالم الآخرة فسأؤدي دينك.

إلّا أنّ سبب النّزول هذا لا يناسب الآية التي نبحثها ظاهرا ، خاصّة وأنّ الكلام عن الولد هنا ، ونحن نعلم أنّ الولد في عالم الآخرة غير مطروح للبحث. إضافة إلى أن الآيات التالية تقول بصراحة :( نَرِثُهُ ما يَقُولُ ) ويتّضح من هذا التعبير أنّ المقصود أموال الدنيا لا الأموال في الآخرة.

وعلى كل حال ، فإنّ جماعة من المفسّرين اعتبروا هذه الآية ـ بناء على سبب النّزول هذا ـ إشارة إلى الآخرة ، إلّا أنّ الحق ما قيل.

٤٩٨

تكون إشارة إلى العقوبات التي تحيط بهم في هذه الدنيا نتيجة للكفر وعدم الإيمان. ويحتمل أيضا أنّ هذه الأموال والأولاد التي هي أساس الغرور والضلال هي بنفسها عذاب مستمر لهؤلاء!

( وَنَرِثُهُ ما يَقُولُ ) من الأموال والأولاد( وَيَأْتِينا فَرْداً ) .

نعم ، إنّه سيترك في النهاية كل هذه الإمكانيات والأملاك المادية ويرحل ، ويحضر في محكمة العدل الإلهية بأيد خالية ، وفي الوقت الذي اسودت فيه صحيفة أعماله من الذنوب والمعاصي ، وخلت من الحسنات هناك ، حيث يرى نتيجة أقواله الجوفاء في دار الدنيا.

وتشير الآية التالية إلى علّة أخرى في عبادة هؤلاء الأفراد للأصنام ، فتقول :( وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا ) وليشفعوا لهم عند الله ، ويعينوهم في حل مشاكلهم ، لكن ، أي ظن خاطئ وخيال ساذج هذا؟!

ليس الأمر كما يظن هؤلاء أبدا ، فليست الأصنام سوف لا تكون لهم عزّا وحسب، بل ستكون منبعا لذلتهم وعذابهم ، ولهذا فإنّهم سوف ينكرون عبادتهم لها في يوم القيامة:( كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا ) .

إن هذه الجملة إشارة إلى نفس ذلك المطلب الذي نقرؤه في الآية (14) من سورة فاطر :( وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ ما يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ ) . وكذلك ما نلاحظه في الآية (6) من سورة الأحقاف :( وَإِذا حُشِرَ النَّاسُ كانُوا لَهُمْ أَعْداءً ) .

وقد احتمل بعض كبار المفسّرين أن المراد من الآية : إنّ عبدة الأصنام عند ما ترفع الحجب في القيامة ، وتتضح كل الحقائق ، ويرون أنفسهم قد فضحوا وخزوا ، فإنّهم ينكرون عبادة الأصنام ، وسيقفون ضدها ، كما نقرأ ذلك في الآية (23) من سورة الأنعام :( وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ ) .

إلّا أنّ التّفسير الأوّل أنسب مع ظاهر الآية ، لأن عبّاد الأصنام كانوا يريدون

٤٩٩

أن تكون آلهتهم ومعبوداتهم عزّا لهم ، إلّا أنّهم يصبحون ضدها في النهاية.

ومن الطبيعي أن تكلم المعبودات التي لها عقل وإدراك كالملائكة والشياطين والجن واضح ومعلوم ، إلّا أنّ الآلهة الميتة التي لا روح لها ، من الممكن أن تتكلم بإذن الله وتعلن تنفرها واشمئزازها من عبدتها ومن الممكن أن يستفاد هذا التّفسير من حديث مروي عن الإمام الصادقعليه‌السلام حيث قال في تفسير هذه الآية : يكون هؤلاء الذين اتخذوهم آلهة من دون الله ضدا يوم القيامة ويتبرءون منهم ومن عبادتهم إلى يوم القيامة.

والجميل في الأمر أننا نقرأ في ذيل الحديث جملة قصيرة عميقة المحتوى حول العبادة:ليس العبادة هي السجود ولا الركوع ، وإنّما هي طاعة الرجال ، من أطاع مخلوقا في معصية الخالق فقد عبده»(1) .

__________________

(1) نور الثقلين ، ج 3 ، ص 357.

٥٠٠

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576