الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٩

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل6%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 576

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 576 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 264415 / تحميل: 11789
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٩

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

«إمر» على وزن «شمر» وتطلق على العمل المهم العجيب أو القبيح للغاية.

وحقا ، لقد كان ظاهر عمل الرجل العالم عجيبا وسيئا للغاية ، فهل هناك عمل أخطر من أن يثقب شخص سفينة تحمل عددا من المسافرين!

وفي بعض الرّوايات نقرأ أنّ أهل السفينة انتبهوا إلى الخطر بسرعة وقاموا بإصلاح الثقب (الخرق) مؤقتا ، ولكن السفينة أصبحت بعد ذلك معيبة وغير سالمة.

وفي هذه الأثناء نظر الرجل العالم إلى موسىعليه‌السلام نظرة خاصّة وخاطبة :( قالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً ) .

أمّا موسى الذي ندم على استعجاله ، بسبب أهمية الحادثة ، فقد تذكّر عهده الذي قطعة لهذا العالم الأستاذ ، لذا فقد التفت إليه قائلا :( قالَ لا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً ) . يعني لقد أخطأت ونسيت الوعد فلا تؤاخذني بهذا الاشتباه.

«لا ترهقني» مشتقّة من «إرهاق» وتعني تغطية شيء ما بالقهر والغلبة ، وتأتي في بعض الأحيان بمعنى التكليف ، وفي الآية ـ أعلاه ـ يكون معناها : لا تصعّب الأمور عليّ، ولا تقطع فيضك عنّي بسبب هذا العمل.

لقد انتهت سفرتهم البحرية وترجلوا من السفينة :( فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا لَقِيا غُلاماً فَقَتَلَهُ ) ، وقد تمّ ذلك بدون أي مقدمات!

وهنا ثار موسىعليه‌السلام مرّة أخرى حيث لم يستطع السكوت على قتل طفل بريء بدون أي سبب ، وظهرت آثار الغضب على وجهه وملأ الحزن وعدم الرضا عينيه ونسي وعده مرّة أخرى ، فقام للاعتراض ، وكان اعتراضه هذه المرّة أشد من اعتراضه في المرّة الأولى، لأنّ الحادثة هذه المرّة كانت موحشة أكثر من الأولى ، فقالعليه‌السلام :( قالَ أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ ) . أي إنّك قتلت إنسانا بريئا من دون أن يرتكب جريمة قتل ،( لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً ) .

٣٢١

كلمة «غلام» تعني الفتى الحدث ، أي الصبي سواء كان بالغا أو غير بالغ. وبين المفسّرين ثمّة كلام كثير عن الغلام المقتول ، وفيما إذا كان بالغا أم لا ، فالبعض استدل بعبارة( نَفْساً زَكِيَّةً ) على أنّ الفتى لم يكن بالغا. والبعض الآخر اعتبر عبارة( بِغَيْرِ نَفْسٍ ) دليلا على أنّ الفتى كان بالغا ، ذلك لأنّ القصاص يجوز بحق البالغ فقط ، ولكن لا يمكن القطع في هذا المجال بالنسبة لنفس الآية.

«نكر» تعني القبيح والمنكر ، وأثرها أقوى من كلمة «إمر» التي وردت في حادثة ثقب السفينة ، والسبب في ذلك واضح ، فالأمر الأوّل قد أوجد الخطر لمجموعة من الناس ، إلّا أنّهم تداركوه بسرعة ، لكن ظاهر العمل الثّاني يدل على إرتكاب جريمة.

ومرّة أخرى كرّر العالم الكبير جملته السابقة التي اتسمت ببرود خاص ، حيث قال لموسىعليه‌السلام :( قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً ) .

والاختلاف الوحيد مع الجملة السابقة هو إضافة كلمة «لك» التي تفيد التأكيد الأكثر ؛ يعني : إنّني قلت هذا الكلام لشخصك!

تذكر موسى تعهده فانتبه إلى ذلك وهو خجل ، حيث أخلّ بالعهد مرّتين ـ ولو بسبب النسيان ـ وبدأ تدريجيا يشعر بصدق عبارة الأستاذ في أنّ موسى لا يستطيع تحمّل أعماله ، لذا فلا يطيق رفقته كما قال له عند ما عرض عليه موسى الرفقة ، لذا فقد بادر الى الاعتذار وقال : إذا اعترضت عليك مرّة أخرى فلا تصاحبني وأنت في حل منّي :( قالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها فَلا تُصاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً ) . صيغة العذر هنا تدل على انصاف موسىعليه‌السلام ورؤيته البعيدة للأمور ، وتبيّن أنّهعليه‌السلام كان يستسلم للحقائق ولو كانت مرّة ؛ بعبارة أخرى : إنّ الجملة توضح وبعد ثلاث مراحل للاختبار أنّ مهمّة هذين الرجلين كانت مختلفة.

بعد هذا الكلام والعهد الجديد :( فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَما

٣٢٢

أَهْلَها فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُما ) .

لا ريب ، إنّ موسى وصاحبه لم يكونا ممّن يلقي بكلّه على الناس ولكن يتّضح أنّ زادهم وأموالهم قد نفدت في تلك السفرة ، لذا فقد رغبا أن يضيفهما أهل تلك المدينة (ويحتمل أنّ الرجل العالم تعمد طرح هذا الاقتراح كي يعطي موسى درسا بليغا آخر).

ويجب أن نلتفت إلى أنّ (قرية) في لغة القرآن تنطوي على مفهوم عام ، وتشمل المناطق السكنية في الريف والمدينة ، أمّا المقصود منها في الآية فهو المدينة لا القرية ، كما تصرح بعد ذلك الآيات اللاحقة.

وذكر المفسّرون نقلا عن ابن عباس أنّ المقصود بهذه المدينة ، هو (أنطاكية)(١) .

وذكر آخرون : إنّ المقصود منها هو مدينة «أيلة» التي تسمى اليوم ميناء (أيلات) المعروف والذي يقع على البحر الأحمر قرب خليج العقبة. أمّا البعض الثّالث فيرى بأنّها مدينة (الناصرة) الواقعة شمال فلسطين ، وهي محل ولادة السيّد المسيحعليه‌السلام . وقد نقل العلّامة الطبرسي حديثا عن الإمام الصادقعليه‌السلام يدعم صحة هذا الاحتمال.

ورجوعا إلى ما قلناه في المقصود من (مجمع البحرين) إذ قلنا : إنّه كناية عن محل التقاء خليج العقبة وخليج السويس ، يتّضح أنّ مدينة (الناصرة) أو ميناء (أيلة) أقرب إلى هذا المكان من انطاكية.

المهم في الأمر ، أنّنا نستنتج من خلال ما جرى لموسىعليه‌السلام وصاحبه من أهل هذه المدينة أنّهم كانوا لئاما دنيئي الهمّة ، لذا نقرأ في رواية عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

__________________

(١) أنطاكية من المدن السورية القديمة التي تقع على بعد (٩٦) كم من حلب ، و (٥٩) كم عن الإسكندرونة ، تشتهر المدينة بالحبوب الغذائية ، والحبوب الدهنية ، فيها ميناء يسمى «سويدية» ويبعد عن مركزها (٢٧) كيلومتر. (يراجع في ذلك دائرة فريد وجدي ، ج ١ ، ص ٨٣٥).

٣٢٣

قوله في وصف أهل هذه المدينة : «كانوا أهل قرية لئام»(١) .

ثمّ يضيف القرآن :( فَوَجَدا فِيها جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقامَهُ ) (٢) وقد كان موسىعليه‌السلام يشعر بالتعب والجوع ، والأهم من ذلك أنّه كان يشعر بأنّ كرامته وكرامة أستاذه قد أهينت من أهل هذه القرية التي أبت أن نضيفهما ؛ ومن جانب آخر شاهد كيف أنّ الخضر قام بترميم الجدار بالرغم من سلوك أهل القرية القبيح إزاءهما ، وكأنّه بذلك أراد أن يجازي أهل القرية بفعالهم السيئة ، وكان موسى يعتقد بأنّ على صاحبه أن يطالب بالأجر على هذا العمل حتى يستطيعا أن يعدّا طعاما لهما.

لذا فقد نسي موسىعليه‌السلام عهده مرّة أخرى وبدأ بالاعتراض ، إلّا أنّ اعتراضه هذه المرّة بدا خفيفا فقال :( قالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً ) .

وفي الواقع فإنّ موسى يعتقد بأنّ قيام الإنسان بالتضحية في سبيل أناس سيئين عمل مجاف لروح العدالة ؛ بعبارة أخرى : إنّ الجميل جيّد وحسن ، بشرط أن يكون في محلّه.

صحيح أنّ الجزاء الجميل في مقابل العمل القبيح هو من صفات الناس الإلهيين ، إلّا أنّ ذلك ينبغي أن لا يكون سببا في دفع المسيئين للقيام بالمزيد من الأعمال السيئة.

وهنا قال الرجل العالم كلامه الأخير لموسى ، بأنّك ومن خلال حوادث مختلفة ، لا تستطيع معي صبرا ، لذلك قرّر العالم قراره الأخير :( قالَ هذا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ ما لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً ) .

موسىعليه‌السلام لم يعترض على القرار ـ طبعا ـ لأنّه هو الذي كان قد اقترحه عند

__________________

(١) مجمع البيان في تفسير الآية.

(٢) إنّ نسبة (الإرادة» إلى الجدار هو استخدام مجازي ، ومفهوم ذلك أنّ الجدار كان ضعيفا للغاية وهو على مشارف الانهيار.

٣٢٤

وقوع الحادثة السابقة ، وهكذا ثبت لموسى أنّه لا يستطيع الاستمرار مع هذا الرجل العالم. ولكن برغم كل ذلك ، فإنّ خبر الفراق قد نزل بوقع شديد على قلب موسىعليه‌السلام ، إذا يعني فراق أستاذ قلبه مملوء بالأسرار ، ومفارقة صحبة مليئة بالبركة ، إذ كان كلام الأستاذ درسا ، وتعامله يتسّم بالإلهام ؛ نور الله يشع من جبينه ، وقلبه مخزن للعلم الإلهي.

إنّ مفارقة رجل بهذه الخصائص أمر صعب للغاية ، لكن على موسىعليه‌السلام أن ينصاع لهذه الحقيقة المرّة.

المفسّر المعروف أبو الفتوح الرازي يقول : ورد في الخبر ، أنّ موسىعليه‌السلام عند ما سئل عن أصعب ما لاقى من مشكلات في طول حياته ، أجاب قائلا : لقد واجهت الكثير من المشاكل والصعوبات (إشارة إلى ما لاقاهعليه‌السلام من فرعون ، وما عاناه من بني إسرائيل) ولكن لم يكن أيّا منها أصعب وأكثر ألما على قلبي من قرار الخضر في فراقي إيّاه»(١) .

«تأويل» من «أول» على وزن «قول» وتعني الإرجاع ، لذا فإنّ أي عمل أو كلام يرجعنا إلى الهدف الأصلي يسمّى «تأويل» كما أنّ رفع الحجب عن أسرار شيء هو نوع من التأويل.

اطلاق كلمة (التأويل) على تفسير الأحلام يعود لهذا السبب بالذات ، كما ورد في سورة يوسف( هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ ) (٢) (٣) .

* * *

__________________

(١) أبو الفتوح الرازي في (روح الجنان) ، ج ٣ ، أثناء تفسير الآية.

(٢) للتوضيح أكثر يمكن مراجعة الآية (٧) من سورة آل عمران.

(٣) يوسف ، ١٠٠.

٣٢٥

الآيات

( أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً (٧٩) وَأَمَّا الْغُلامُ فَكانَ أَبَواهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينا أَنْ يُرْهِقَهُما طُغْياناً وَكُفْراً (٨٠) فَأَرَدْنا أَنْ يُبْدِلَهُما رَبُّهُما خَيْراً مِنْهُ زَكاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً (٨١) وَأَمَّا الْجِدارُ فَكانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما وَكانَ أَبُوهُما صالِحاً فَأَرادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما وَيَسْتَخْرِجا كَنزَهُما رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذلِكَ تَأْوِيلُ ما لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً (٨٢) )

التّفسير

الأسرار الداخلية لهذه الحوادث :

بعد أن أصبح الفراق بين موسى والخضرعليهما‌السلام أمرا حتميا ، كان من اللازم أن يقوم الأستاذ الإلهي بتوضيح أسرار أعماله التي لم يستطع موسى أن يصبر عليها ، وفي الواقع فإنّ استفادة موسى من صحبته تتمثل في معرفة أسرار هذه الحوادث

٣٢٦

الثلاثة العجيبة ، والتي يمكن أن تكون مفتاحا للعديد من المسائل ، وجوابا لكثير من الأسئلة.

ففي البداية ذكر قصّة السفينة وقال :( أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً ) .

وبهذا الترتيب كان ثمّة هدف خيّر وراء ثقب السفينة الذي بدأ في حينه عملا مشينا سيئا ، والهدف هو نجاتهم من قبضة ملك غاصب ، وكان هذا الملك يترك السفينة المعيبة ويصرف النظر عنها. إذا خلاصة المقصود في الحادثة الأولى هو حفظ مصالح مجموعة من المساكين.

كلمة «وراء» لا تعني هنا الجانب المكاني ، وإنّما هي كناية عن الخطر المحيط بهم (خطر الملك) بدون أن يعلموا به ، وبما أنّ الإنسان لا يحيط بالحوادث التي سوف تصيبه لاحقا ، لذا استخدمت الآية التعبير الآنف الذكر.

إضافة إلى ذلك فإنّ الإنسان عند ما يخضع لضغط فرد أو مجموعة فإنّه يستخدم تعبير (وراء) كقوله مثلا : الدّيانون ورائي ولا يتركوني ؛ وفي الآية (١٦) من سورة إبراهيم نقرأ قوله تعالى :( مِنْ وَرائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقى مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ ) وكأنّ جهنّم تلاحق وتتبع المذنبين ، لذا فقد استخدمت كلمة وراء(١) .

ويفيد استخدام كلمة (مسكين) أنّ «المسكين» ليس هو الشخص الذي لا يملك شيئا مطلقا ، بل هي وصف يطلق على الأشخاص الذين يملكون أموالا وثروة لكنّها لا تفي بحاجاتهم.

ويحتمل أيضا أن يكون السبب في إطلاق وصف (المساكين) عليهم ليس بسبب الفقر المالي ، بل بسبب افتقارهم للقوّة والقدرة ، وهذا التعبير يستخدم في لغة العرب ، كما وأنّه يتلاءم مع الجذور الأصلية لمعنى مسكين لغويا ، والذي يعني السكون والضعف.

__________________

(١) في معنى (وراء) يمكن مراجعة البحث الوارد في ذيل الآية (١٦) من سورة إبراهيم في تفسيرنا هذا.

٣٢٧

وفي نهج البلاغة نقرأ قول أمير المؤمنينعليه‌السلام : «مسكين ابن آدم تؤلمه البقة ، وتقتله الشرقة ، وتنتنه العرقة»(١) .

بعد ذلك ينتقل العالم إلى بيان سر الحادثة الثّانية التي قتل فيها الفتى فيقول :( وَأَمَّا الْغُلامُ فَكانَ أَبَواهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينا أَنْ يُرْهِقَهُما طُغْياناً وَكُفْراً ) .

تحتمل مجموعة من المفسّرين أنّ المقصود من الآية ليس ما يتبيّن من ظاهرها من أنّ الفتى الكافر والعاصي قد يكون سببا في انحراف أبويه ، وإنّما المقصود أنّه بسبب من طغيانه وكفره يؤذي أبويه كثيرا(٢) ؛ ولكن التّفسير الأوّل أقرب للصحة.

في كل الأحوال ، فإنّ الرجل العالم قام بقتل هذا الفتى ، واعتبر سبب ذلك ما سوف يقع للأب والأم المؤمنين في حال بقاء الابن على قيد الحياة.

وسوف نجيب في فقرة البحوث على شبهة (القصاص قبل الجناية) التي ترد على أعمال الخضر هذه.

كلمة (خشينا) تستبطن معنى كبيرا ، فهذا التعبير يوضح أنّ هذا الرجل العالم كان يعتبر نفسه مسئولا عن مستقبل الناس ، ولم يكن مستعدا لأن تصاب أم أو أب مؤمنان بسوء بسبب انحراف ابنهم.

كما إنّ تعبير (خشينا) جاء هنا بمعنى : لم نكن نرغب ، وإلّا لا معنى للخوف في هذه الموارد بالنسبة لشخص بهذا المستوى من العلم والوعي والقدرة.

وبعبارة أخرى ، فإنّ الهدف هو الاتقاء من حادث سيء نرغب أن نقي الأبوين منه على أساس المودّة لهما.

ويحتمل أن يكون التعبير بمعنى (علمنا) كما ينقل عن ابن عباس ، يعني أنّنا

__________________

(١) نهج البلاغة ، الكلمات القصار الجملة رقم ٤١٩.

(٢) وفق التّفسير الأوّل يكون الفعل «يرهق» متعديا إلى مفعولين : الأوّل (هما) ، والمفعول الثّاني (طغيانا) ، أمّا وفق التّفسير الثّاني فإن (طغيانا) و (كفرا) يكونان مفعولا لأجله.

٣٢٨

كنّا نعلم أنّ الفتى ـ في حال بقائه ـ سوف يكون سببا لأحداث أليمة تقع لأبيه وأمه في المستقبل.

أمّا لماذا استخدم ضمير المتكلّم في حالة الجمع ، بينما كان المتكلّم فردا واحدا ، فإنّ سبب ذلك واضح ، حيث أنّها ليست المرّة الأولى التي يستخدم القرآن هذه الصيغة ، ففي كلام العرب عند ما يتحدث الأشخاص الكبار عن أنفسهم فإنّهم يستخدمون ضمير الجمع. والسبب في ذلك أنّ هؤلاء الأشخاص يملكون أشخاصا تحت أيديهم ويعطونهم الأوامر لتنفيذ الأعمال ، فالله يعطي الأوامر للملائكة ، والإنسان يعطي الأوامر للذين هم تحت يديه.

ثمّ تحكي الآيات على لسان العالم قوله :( فَأَرَدْنا أَنْ يُبْدِلَهُما رَبُّهُما خَيْراً مِنْهُ زَكاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً ) .

إنّ تعبير (أردنا) و (ربّهما) يطوي معاني كبيرة سوف نقف عليها بعد قليل.

(زكاة) هنا بمعنى الطهارة والنظافة ، ولها مفهوم واسع حيث تشمل الإيمان والعمل الصالح ، وتتسع للأمور الدينية والمادية ، وقد يكون في هذا التعبير ما هو جواب على اعتراض موسىعليه‌السلام الذي قال :( أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً ) فقال له العالم في الجواب : إنّ هذه النفس ليست زكية ، وأردنا أن يبدلهما ربّهما ابنا طاهرا بدلا عن ذلك.

وفي روايات عديدة نقرأ «أبدلهما الله به جارية ولدت سبعين نبيّا»(١) .

في آخر آية من الآيات التي نبحثها ، كشف الرجل العالم عن السر الثّالث الذي دعاه إلى بناء الجدار فقال :( وَأَمَّا الْجِدارُ فَكانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما وَكانَ أَبُوهُما صالِحاً ) .

( فَأَرادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما وَيَسْتَخْرِجا كَنزَهُما ) .

( رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ ) .

__________________

(١) نور الثقلين ، ج ٣ ، ص ٢٨٦ و ٢٨٧.

٣٢٩

وأنا كنت مأمورا ببناء هذا الجدار بسبب جميل وإحسان أبوي هذين اليتيمين ، كي لا يسقط وينكشف الكنز ويكون معرّضا للخطر.

وفي خاتمة الحديث ، ولأجل أن تنتفي أي شبهة محتملة ، أو شك لدى موسىعليه‌السلام ، ولكي يكون على يقين بأنّ هذه الأعمال كانت طبقا لمخطط وتوجيه أعلى خاص ، قال العالم :( وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ) بل بأمر من الله.

وذلك سر ما لم يستطع موسىعليه‌السلام صبرا ، إذ قال :( ذلِكَ تَأْوِيلُ ما لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً ) .

* * *

بحوث

١ ـ هل كانت مهمّة الخضر في اطار النظام التشريعي أم التكويني!؟

إنّ هذه الحوادث الثّلاث شغلت عقول العلماء الكبار ، وأثارت بينهم الكثير من الكلام والاستفهامات.

والسؤال الأوّل هو : هل يمكن إتلاف جزء من أموال شخص بدون إجازته بذريعة أنّ هناك غاصبا يريد أن يصادرها؟

وهل يمكن معاقبة فتى بذريعة الأعمال التي سيقوم بها في المستقبل؟

ثمّ هل هناك ضرورة للعمل المجاني بهدف الحفاظ على أموال شخص معين؟

لقد رأينا من سياق القصّة القرآنية أنّ موسى اعتراض على الرجل العالم ، ولكنّه بعد أن استمع للتوضيحات وأحاط ببواطن الأمور عاد واقتنع.

أمّا نحن فأمامنا طريقان للإجابة على الأسئلة ، نعرضها بالتفصيل الآتي :

الطريق الأوّل : أن نطابق الحوادث وتصرفات الرجل العالم مع الموازين الفقهية ، وقوانين الشرع ، وقد قامت مجموعة من المفسّرين بسلوك هذا الطريق.

٣٣٠

فالحادثة الأولى اعتبروها منطبقة مع قانون الأهم والمهم ؛ وقالوا بأنّ حفظ مجموع السفينة عمل أهم حتما من الضرر الجزئي الذي لحقها بالخرق ؛ وبعبارة أخرى ، فإنّ الخضر قام هنا (بدفع الأفسد بالفاسد) خاصّة وأنّه كان يمكن تقدير الرضا الباطني لأهل السفينة فيما إذا علموا بهذه الحادثة. (أي أنّ الخضر قد حصل من وجهة الإحكام والقواعد الشرعية على إذن الفحوى).

وفيما يتعلق بالغلام فقد أصرّ المفسّرون ممن سلك هذا الطريق ، على أنّ الفتى كان بالغا وأنّه كان مرتدا أو مفسدا ، وبسبب أعماله الفعلية فإنّه من الجائز أن يقتل.

وأمّا حديث الخضر عن جرائم الغلام المستقبلية ، فإنّه بذلك أراد أن يقول بأن جرائم هذا الغلام لا تقتصر على إفساده الراهن وجرائمه الحالية ، بل سيقوم بالمستقبل بجرائم أكبر ، لذا فإنّ قتله طبقا للموازين الشرعية وبسبب ما اقترفه من جرائم فعلية يكون جائزا.

أمّا ما يخص الحادثة الثّالثة ، فلا أحد يستطيع أن يعترض على الآخرين فيما لو قاموا بالتضحية والإيثار من أجل الآخرين ، ومن أجل أن لا تضيع أموالهم دون أن يتقاضوا أجرا على أعمالهم ، وهو بالضبط ما قام به الخضر ، وقد لا تصل هذه الأفعال إلى حدّ الوجوب، إلّا أنّها تعتبر ـ حتما ـ من السلوك الحسن.

بل قد يقال من الوجهة الفقهية أنّ الإيثار والتضحية في بعض الموارد من الأمور الواجبة ، مثل أن تكون أموال كثيرة لطفل يتيم معرضة للتلف ، ويمكن المحافظة عليها بجهد قليل فلا يستبعد وجوب بذل الجهد.

الطريق الثّاني : تتمّ فيه مناقشة بعض عناصر الاستدلال الفقهية التي وردت في الطريق الأوّل ، فإذا كانت التوضيحات الآنفة مقنعة فيما يخص الكنز والحائط ، إلّا أنّها في قضية قتل الغلام لا تتلاءم مع ظاهر الآية ، الذي اعتبر علّة قتل الغلام هو ما سيقوم به من أعمال في المستقبل ، وليس أعماله الفعلية.

٣٣١

أمّا الدليل الوارد حول خرق السفينة ، فهو أيضا لا يخلو من تأمل فهل نستطيع مثلا ـ ومن الوجهة الفقهية ـ أن نتلف جزءا من أموال أو بيت شخص معين بدون علمه لانقاذها من خطر ما ، حتى لو علمنا وتيقنا بأنّه سيتمّ غصب تلك الأموال في المستقبل ترى هل يسمح الفقهاء بمثل هذا الحكم؟!

وعلى هذا الأساس يجب علينا أن نسلك طريقا آخر :

الطريق الثّالث : إنّ في هذا العالم ثمّة نظامان هما : «النظام التكويني ، والنظام التشريعي» ، وبالرغم من أنّ هذين النظامين متناسقين فيما بينهما في الأصول الكلية ، ولكنها قد ينفصلان ويفترقان في الجزئيات.

على سبيل المثال ، يقوم الله سبحانه وتعالى ومن أجل اختبار العباد ، بابتلائهم بالخوف ونقص في الأموال والثمرات وموت الأعزّة وفقدانهم حتى يتبيّن الصابر من غيره تجاه هذه الحوادث والبلاءات.

والسؤال هنا هو : هل يستطيع أي فقيه أو حتى نبي أن يقوم بهذا العمل ، أي ابتلاء العباد بنقص الأموال والثمرات وفقدان الأعزة ، وفقدان الأمن والاستقرار بهدف اختبار الناس وابتلائهم؟

ونرى أنّ الله سبحانه وتعالى يقوم بتحذير وتربية بعض أنبيائه وعباده الصالحين ، وذلك بابتلائهم بمصائب بسبب تركهم للأولى ، مثل ما ابتلى به يعقوبعليه‌السلام بسبب قلّة توجهه إلى المساكين ، أو ما ابتلى به يونسعليه‌السلام بسبب تركه الأولى من بعض الأمور ولو لفترة قصيرة فهل يا ترى يحق لأحد أن يقوم بهذه الأعمال بعنوان الجزاء والعقاب لهؤلاء الرسل الكرام والعباد الصالحين؟

ونرى أنّ الله سبحانه وتعالى يقوم في بعض الأحيان ، بسلب النعمة من الإنسان بسبب عدم شكره ، كأن تغرق أمواله في البحر ـ مثلا ـ يخسر هذه الأموال ، أو يصاب بالمرض بسبب عدم شكره لربّه على نعمة السلامة

والسؤال هنا : هل يستطيع أحد من الناحية الفقهية والتشريعية أن يسلب

٣٣٢

النعمة من الآخرين ، أو ينزل الضرر بسلامتهم وصحتهم بسبب عدم شكرهم وبدعوى ابتلائهم؟

إنّ أمثال هذه الأمور كثير للغاية ، وهي تظهر ـ بشكل عام ـ أنّ عالم الوجود ، وخصوصا خلق الإنسان ، قد قام على النظام الأحسن ، حيث وضع الله تعالى مجموعة من القوانين والمقررات التكوينية حتى يسلك الإنسان طريق التكامل ، وعند ما يتخلف عنها فسيصاب بردود فعل مختلفة.

ولكنّا من وجهة قوانين الشرع وضوابط الأحكام لا نستطيع أن نصنّف الأمور في إطار هذه القوانين التكوينية.

على سبيل المثال نرى أنّ الطبيب يستطيع أن يقطع إصبع شخص معين بحجّة عدم سراية السم إلى قلبه ، ولكن هل يستطيع أي شخص أن يقطع إصبع شخص آخر بحجّة تربيته على الصبر أو عقابا له على كفرانه للنعم؟ (بالطبع الخالق يستطيع القيام بذلك حتما لأنّه يلائم النظام الأحسن).

والآن بعد أن ثبت وتوضح أنّ في العالم نظامان (تكويني وتشريعي) ، وأنّ الله هو الحاكم والمسيطر على هذين النظامين ، لذا فلا مانع في أن يأمر تعالى مجموعة بأن تطبّق النظام التشريعي ، بينما يأمر مجموعة من الملائكة أو بعض البشر (كالخضر مثلا) بأن يطبقوا النظام التكويني.

ومن وجهة النظام التكويني لا يوجد أي مانع في أن يبتلي الله طفلا غير بالغ بحادثة معينة ، ثمّ يموت ذلك الطفل بسبب هذه الحادثة ، وذلك لعلم الله تعالى بأنّ أخطارا كبيرة كامنة لهذا الطفل في المستقبل كما أنّ وجود مثل هؤلاء الأشخاص وبقاءهم يتمّ لمصلحة معينة كالامتحان والابتلاء وغير ذلك.

وأيضا لا مانع في أن يبتليني الله اليوم بمرض صعب يقعدني الفراش لعلمه تعالى بأنّ خروجي من البيت لو تمّ فسأتعرض لحادثة خطيرة لا أستحقها ، لذا فهو تعالى يمنعني منها.

٣٣٣

بعبارة أخرى : إنّ مجموعة من أوليائه وعباده مكلّفون في هذا العالم بالبواطن ، بينما المجموعة الأخرى مكلّفون بالظواهر. والمكلّفون بالبواطن لهم ضوابط وأصول وبرامج خاصّة بهم ، مثلما للمكلّفين بالظواهر ضوابطهم وأصولهم الخاصّة بهم أيضا.

صحيح أنّ الخط العام لهذين البرنامجين يوصل الإنسان إلى الكمال ؛ وصحيح أنّ البرنامجين متناسقين من حيث القواعد الكلية ، إلّا أنّهما يفترقان في التفاصيل والجزئيات كما لاحظنا ذلك في الأمثلة.

بالطبع لا يستطيع أحد أن يعمل كما يحلو له ضمن هذين الخطين ، بل يجب أن يحصل على إجازة المالك القادر الحكيم الخالق جلّ وعلا ، لذا رأينا الخضر (العالم الكبير) يوضح هذه الحقيقة بصراحة قائلا ، (ما فعلته عن أمري) بل إنّي خطوت الخطوات وفقا للبرنامج الإلهي والضوابط التي كانت موضوعة لي.

وهكذا سيزول التعارض والتضاد وتنتفي الأسئلة والمشكلات المثارة حول مواقف الخضر في الحوادث الثلاث.

وسبب عدم تحمّل موسىعليه‌السلام لأعمال الخضر يعود إلى مهمّة موسى التي كانت تختلف عن مهمّة الخضر في العالم ، لذا فقد كان موسىعليه‌السلام يبادر إلى الاعتراض على مواقف الخضر المخالفة لضوابط الشريعة بينما كان الخضر مستمرا في طريق ببرود ، لأنّ وظيفة كل من هذين المبعوثين الإلهيين تختلف عن وظيفة الآخر ودوره المرسوم له إلهيا ، لذلك لم يستطيعا العيش سوية ، لذا قال الخضر لموسىعليه‌السلام :( هذا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ ) .

٢ ـ من هو الخضر؟

لقد رأينا القرآن الكريم يتحدّث عن العالم من دون أن يسميّه بالخضر وقد عبّر عن معلّم موسىعليه‌السلام بقوله :( عَبْداً مِنْ عِبادِنا آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَعَلَّمْناهُ

٣٣٤

مِنْ لَدُنَّا عِلْماً ) والآية توضح المقام الخاص للعبودية والعلم والمعرفة ، لذا فإنّنا غالبا ما نصفه بالرجل العالم.

أمّا الرّوايات الإسلامية وفي مختلف مصادرها عرّفت هذا الرجل باسم (الخضر) ومن بعض هذه الرّوايات نستفيد بأنّ اسمه الحقيقي كان (بليا بن ملكان) أمّا الخضر فهو لقب له ، حيث أنّه أينما كان يطأ الأرض فإنّ الأرض كانت تخضر تحت قدميه.

البعض احتمل أنّ اسم الرجل العالم هذا هو (إلياس) ومن هنا ظهرت فكرة أن الياس والخضر هما اسمان لشخص واحد.

ولكن المشهور المعروف بين المفسّرين والرواة هو الأوّل.

وطبيعي أن نقول : إنّ اسم الرجل العالم أيّا كان فهو غير مهم لا لمضمون القصّة ولا لقصدها ، إذ المهم أن نعرف أنّه كان عالما إلهيا ، شملته الرحمة الإلهية الخاصّة ، وكان مكلّفا بالباطن والنظام التكويني للعالم ، ويعرف بعض الأسرار ، وكان معلّم موسى بن عمران بالرغم من أنّ موسىعليه‌السلام كان أفضل منه من بعض الجوانب.

وهناك أيضا آراء وروايات مختلفة فيما إذا كان الخضر نبيّا أم لا.

ففي المجلد الأوّل من أصول الكافي وردت روايات عديدة تدل على أنّ هذا الرجل لم يكن نبيّا ، بل كان عالما مثل (ذو القرنين) و (آصف بن برخيا)(١) .

في حين نستفيد من روايات أخرى أنّه كان نبيّا ، وظاهر بعض الآيات أعلاه يدل على هذا المعنى ، لأنّها تقول على لسانه :( وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ) . وفي مكان آخر قوله :( فَأَرَدْنا أَنْ يُبْدِلَهُما رَبُّهُما خَيْراً مِنْهُ ) .

ونستفيد من روايات أخرى أنّ الخضر عمّر طويلا.

وهنا قد يطرح هذا السؤال : هل ذكرت قصّة موسى وهذا العالم الكبير في

__________________

(١) أصول الكافي ، المجلد الأوّل ، باب «إنّ الأئمّة بمن يشبهون فيمن مضى» ، ص ٢١٠.

٣٣٥

مصادر اليهود والمسيح؟

في الجواب نقول : إذا كان المقصود هو كتب العهدين (التوراة والإنجيل) فإنّ ذلك غير مذكور فيهما ، أمّا بعض كتب علماء اليهود التي تمّ تدوينها في القرن الحادي عشر الميلادي ، ففيها قصّة تشبه إلى حد كبير حادثة موسىعليه‌السلام وعالم زمانه ، بالرغم من أنّها تذكر أنّ أبطال تلك القصّة هما (إلياس) و (يوشع بن لاوي) وهما من مفسّري (التلمود) في القرن الثّالث الميلادي ، وتختلف من خلال عدّة أمور عن قصّة موسى والخضر ، والقصة هذه هي :

«وهو (اي يوشع) يطلب من الله أن يلقى الياس ، وبمجردّ أن يستجاب دعاؤه ويحظى بلقاء الياس فإنّه يرجوه أن يطلعه على بعض الأسرار. فيجيبه الياس : إنّك لا طاقة لك على تحمّل ذلك ، إلّا أن يوشع يصّر ويلحّ في طلبه فيستجيب له الياس مشترطا عليه أن لا يسأل عن أيّ شيء يراه ، وإذا تخلّف يوشع عن هذا الشرط فإنّ الياس حرّ في الانفصال عنه وتركه ، وعلى أساس هذا الاتّفاق يترافق يوشع والياس في السفر.

وأثناء سفرهما يدخلان إلى بيت فيستقبلهما صاحب البيت أحرّ استقبال ويكرم وفادهما. وكان لأهل ذلك البيت بقرة هي كلّ ما يملكون من حطام الدنيا حيث كانوا يوفّرون لأنفسهم لقمة العيش من بيع لبنها. فيأمر الياس صاحب البيت أن يذبح تلك البقرة ، ويستولي على يوشع العجب والاستغراب من هذا التصّرف ويدفعه ذلك لأن يسأله عن المبرّر لهذا الفعل. فيذكّره الياس بما اتّفقا عليه ويهددّه بمفارقته له فيصمت يوشع ولا ينبس بكلمة.

ومن هناك يواصلان سفرهما إلى قرية أخرى فيدخلان إلى بيت شخص ثريّ وينهض الياس إلى جدار في ذلك البيت يشرف على السقوط فيرمّمه ويقيمه. وفي قرية أخرى يواجهان عددا من سكان تلك القرية مجتمعين في مكان معيّن ولا يعيرون هذين الشخصين بالا ولا يواجهونهما باحترام. فيقوم

٣٣٦

الياس بالدعاء لهم أن يصلوا جميعا إلى الرئاسة. وفي قرية رابعة يواجههما سكّانها باحترام فائق فيدعو لهم الياس بأن يصل شخص واحد منهم فحسب إلى الرئاسة. وبالتالي فإنّ يوشع بن لاوى لا يطيق الصبر فيسأل عن الوقايع الأربع ، ويجيبه الياس : بأنّه في البيت الأوّل كانت زوجة ربّ الدار مريضة ولو أنّ تلك البقرة لم تذبح بعنوان الصدقة فإنّ تلك المرأة تموت ويصاب صاحب الدار بخسارة أفدح من الخسارة التي تلحقه نتيجة لذبح البقرة ، وفي البيت الثّاني كان هناك كنز ينبغي الاحتفاظ به لطفل يتيم ، وأمّا إنّه قد دعوت لأهل القرية الثّالثة بأن يصلوا إلى الرئاسة جميعا فذلك لكي تضطرب أمورهم ويختلّ النظام عندهم. على العكس من أهل القرية الرّابعة فإنّهم إذا أسندوا زمام أمورهم إلى شخص واحد فإنّ أمورهم سوف تنتظم وتسير على ما يرام»(١) .

ويجب عدم التوهّم أنّنا نرى بأنّ القصتين هما قصة واحدة ، بل إنّ غرضنا الإشارة إلى أنّ القصة التي يذكرها علماء اليهود يمكن أن تكون قصة مشابهة أو محرّفة لما حصل أصلا لموسىعليه‌السلام والخضر ، وقد تغيرت بسبب طول الزمان وأصبحت على هذا الشكل.

٣ ـ الأساطير الموضوعة

إنّ الأساس في قصّة موسى والخضرعليهما‌السلام هو ما ذكر في القرآن ، ولكن مع الأسف هناك أساطير كثيرة قيلت حول القصّة وحول رمزيها (موسى والخضر) حتى أنّ بعض الإضافات تعطي للقصّة طابعا خرافيا. وينبغي أن نعرف أنّ مصير كثير من القصص لم يختلف عن مصير هذه القصة ، إذ لم تنج قصة من الوضع والتحريف والتقوّل.

مقياسنا في واقعية القصّة هو أن نضع الآيات الثلاث والعشرون أعلاه كمعيار

__________________

(١) ما ورد أعلاه منقول عن كتاب (أعلام القرآن) ، ص ٢١٣.

٣٣٧

أمامنا ، وحتى بالنسبة للأحاديث والرّوايات فإنّنا نقبلها في حال كونها مطابقة للآيات ، فإذا كان هناك حديث لا يطابق الآيات فسنرفضه حتما ومن حسن الحظ لم يرد في هذه الأحاديث حديث معتبر.

٤ ـ هل يمكن أن يصاب الأنبياء بالنسيان؟

لقد واجهتنا ـ أعلاه ، ولعدّة مرّات ـ قضية نسيان موسىعليه‌السلام ، فمرّة في قضية تلك السمكّة المعدّة لطعامهم ؛ وثلاث مرّات أخرى خلال الحوادث الثلاث التي وقعت عند مرافقته للخضر ، حينما نسي تعهده!

إذن ، نحن أمام هذا السؤال : هل يقع النسيان بالنسبة للأنبياء؟

البعض يعتقد بصدور ووقوع مثل هذا النسيان بالنسبة للأنبياء ، لأنّه لا يرتبط بأساس دعوة النّبوة ولا بفروعها ولا بتبليغ الدعوة ، بل يقع في قضية عادية تخص الحياة اليومية ، فالمسلّم به أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يصاب بالنسيان في أصل دعوة النّبوة ، ولا يخطأ أو يشتبه في التبليغ ، حيث أن عناية الله تعصمه في مثل هذه الأمور.

ولكن ما المانع أن ينسى موسىعليه‌السلام طعامه ، خصوصا وأن هذا النسيان أمر طبيعي عند ما يكون موسى متوجها بحواسه في البحث عن الرجل العالم؟

ثمّ ما المانع من أن يصاب بالهيجان بحيث ينسى تعهد الذي قطعه مع صاحبه العالم ، وذلك عند ما شاهد هذه الحوادث العظيمة التي مرّت به كقتل الفتى وخرق السفينة وبناء الجدار في مدينة البخلاء؟

إنّ موارد النسيان هذه لا تتعارض مع مقام العصمة ، ولا هي مستبعدة عن أي نبي.

بعض المفسّرين احتملوا أن يكون النسيان هنا بمعنى مجازي ، ويعني الترك ، لأنّ الإنسان عند ما يترك شيئا فهو كمن قد نسيه ؛ أمّا لماذا ترك موسى طعامه ، فقد

٣٣٨

يعود ذلك إلى عدم اهتمامه بمثل هذا الأمر. وفيما يتعلق بتعهده اتجاه صاحبه العالم ، فذاك منه لأنّه كان ينظر إلى ظواهر الأمور ، إذ من غير المألوف أن يعرّض أحد أرواح وأموال الناس إلى الضرر ، فضلا عن أن يكون ذلك الشخص هو العالم الكبير ، لذا فإنّ موسىعليه‌السلام كان يعتبر نفسه مكلفا بالاعتراض ، وكان يعتقد بأنّ هذا الأمر لا يقيّد بالتعهد.

لكن من الواضح أنّ هذه التفاسير والآراء لا تتسق مع ظواهر الآيات.

٥ ـ لماذا ذهب موسى لرؤية الخضر؟

في حديث عن ابن عباس قال : أخبرني أبي بن كعب قال : خطبنا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : «إنّ موسىعليه‌السلام قام خطيبا في بني إسرائيل ، فسئل أي الناس أعلم؟

قال : أنا.

فعتب الله عليه إذ لم يرد العلم إليه. فأوحى إليه : إنّ لي عبدا بمجمع البحرين هو أعلم منك.

قال موسى : يا ربّ فكيف لي به؟

قال : تأخذ معك حوتا ...»(١) إلخ الرّواية حيث أرشد تعالى نبيّه موسى للوصول إلى الرجل العالم.

كما روي ما يشابه هذا الحديث عن الإمام الصادقعليه‌السلام (٢) .

إنّ مفاد هذه الواقعة هو تحذير لموسىعليه‌السلام حتى لا يعتبر نفسه ـ برغم علمه ومعرفته ـ أفضل الأشخاص.

ولكن هنا يثار هذا السؤال : ألا يجب أن يكون النّبي ـ وهو هنا من أولي العزم وصاحب رسالة ـ أعلم أهل زمانه؟

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ٣ ، ص ٤٨١.

(٢) نور الثقلين ، ج ٣ ، ص ٢٧٥.

٣٣٩

في معرض الجواب نقول : نعم ، ينبغي أن يكون أعلم فيما يتعلق بمهمّته ، يعني الأعلم بالنظام التشريعي ، وموسىعليه‌السلام كان كذلك. أمّا الرجل العالم (الخضر) فهو كما قلنا سابقا ، كانت له مهمّة تختلف عن مهمّة موسىعليه‌السلام ولا ترتبط بعالم التشريع. بعبارة أخرى : إنّ الرجل العالم كان يعرف من الأسرار ما لا تعتمد عليه دعوة النّبوة.

وفي حديث جاء عن الإمام الصادقعليه‌السلام قولهعليه‌السلام : «كان موسى أعلم من الخضر»(١) . أي أعلم منه في علم الشرع.

وهنا نلاحظ أنّ هذه الشبهة وقضية نسيان موسىعليه‌السلام هما اللتان دفعتا البعض إلى القول أنّ موسى المذكور في القصة ليس هو موسى بن عمران ، بل هو شخص آخر. لكن مع حل هاتين المشكلتين لا يبقى مجال لهذا الكلام.

وفي حديث عن الإمام علي بن موسى الرضاعليه‌السلام نرى إشارة صريحة إلى أن مهمّة ووظيفة كلّ من موسى والخضر كانت تختلف عن الآخر ، فقد كتب أحدهم إلى الإمام الرضاعليه‌السلام يسأله عن العالم الذي أتاه موسى ، أيّهما كان أعلم؟ فكان ممّا أجاب به الإمام قولهعليه‌السلام : «أتى موسى العالم فأصابه في جزيرة من جزائر البحر إمّا جالسا وإمّا متكئا فسلّم عليه موسى ، فأنكر السلام ، إذ كانت الأرض ليس بها سلام. قال : من أنت؟ قال: أنا موسى بن عمران. قال : أنت موسى بن عمران الذي كلمه الله تكليما؟ قال: نعم، قال : فما حاجتك؟ قال : جئت لتعلمني ممّا علمت رشدا. قال : إنّي وكلت بأمر لا تطيقه، ووكلت بأمر لا أطيقه»(٢) .

ومن المناسب هنا أن نختم هذه الفقرة بما رواه صاحب «الدر المنثور» عن «الحاكم» النيسابوري من أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «لما لقي موسى الخضر ، جاء طير فألقى منقاره في الماء ، فقال الخضر لموسى : تدري ما يقول هذا الطائر؟ قال : وما

__________________

(١) تفسير الميزان ، ج ١٣ ، ص ٣٥٦.

(٢) مجمع البيان ، ج ٦ ، ص ٤٨٠. والميزان ، ج ١٣ ، ص ٣٥٦.

٣٤٠

يقول؟ قال : يقول : ما علمك وعلم موسى في علم الله إلّا كما أخذ منقاري من الماء»(1) .

6 ـ ماذا كان الكنز؟

من الأسئلة التي تثار حول هذه القصّة ، هي عن ماهية الكنز الوارد في الآية ، ماذا كان؟ ولماذا كان صاحب موسى يصر على إخفائه؟ ولماذا قام الرجل المؤمن ، يعني أبالأيتام يتجمع هذا الكنز وإخفائه؟

يرى بعض المفسّرين أن الكنز يرمز إلى شيء معنوي ، قبل أن يكون له مفهوم مادي.

إذ أنّ هذا الكنز ـ طبقا لروايات عديدة تنقل من طرق السنة والشيعة ـ لم يكن سوى لوح منقوش عليه مجموعة من الحكم.

أمّا ما هي هذه الحكم؟ فثمة كلام كثير للمفسّرين في ذلك.

ففي كتاب الكافي نقلا عن الإمام حيث قال في جوابه على سؤال يتعلق بماهية الكنز: «أمّا إنّه ما كان ذهبا ولا فضة ، وإنّما كان أربع كلمات : لا إله إلّا الله ، من أيقن بالموت لم يضحك ، ومن أيقن بالحساب لم يفرح قلبه ، ومن أيقن بالقدر لم يخش إلّا الله»(2) .

وفي روايات أخرى ، ورد أنّ اللوح كان من ذهب. الظاهر أنّه ليس هناك تعارض بين الاثنين ، لأنّ هدف الرّواية الأولى أن تبيّن أنّ الكنز لم يكن دراهم ودنانير.

ولو فرضنا أنّنا التزمنا المعنى الظاهر لكلمة كنز ، وفسرناه على أنّه كمية من الذهب ، فإنّنا لا نواجه مشكلة أيضا ، لأنّ الكنز المحرم شرعا هو أن يقوم الإنسان

__________________

(1) الدر المنثور ومصادر أخرى طبقا لما نقله صاحب الميزان في ج 13 ، ص 356.

(2) نور الثقلين ، ج 3 ، ص 287.

٣٤١

بتجميع وادخار أموال وثروة كبيرة لمدّة طويلة في حين أن المجتمع بحاجة إليها ، ولكن لو قام أحد الأشخاص بدفن ماله ليوم أو عدّة أيّام (كما هو المتعارف في الازمنة السابقة بسبب عدم الأمن) ثمّ توفي هذا الشخص بسبب حادثة ، فلا يوجد أي إشكال في مثل هذا الكنز.

7 ـ دروس هذه القصّة

هناك جملة دروس يمكن أن نستفيدها من القصّة ، ويمكن لنا أن ندرجها كما يلي :

أ: أهمية العثور على قائد عالم والاستفادة من علمه ، بحيث رأينا أنّ نبيّا من أولي العزم مثل موسىعليه‌السلام يسلك هذا الطريق الطويل ، وقد بذل ما بذل لتحقيقه. وهذا درس لجميع الناس مهما كان علمهم وفي أي عمر كانوا.

ب : جوهرة العلم الإلهي تنبع من العبودية لله تعالى ، كما قرأنا في الآيات أعلاه في قوله تعالى :( عَبْداً مِنْ عِبادِنا عَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً ) .

ج : يجب تعلم العلم للعمل ، كما يقول موسىعليه‌السلام لصاحبه( مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً ) أي علمني عملا يقربني من هدفي ومقصدي ، فأنا لا أطلب العلم لنفسه ، بل للوصول إلى الهدف.

د : يجب عدم الاستعجال في الأعمال ، إذ العديد من الأمور تحتاج إلى الفرص المناسبة (الأمور مرهونة بأوقاتها) خاصّة في القضايا المهمّة ، ولهذا السبب ، فإنّ الرجل العالم قد ذكر سرّ أعماله لموسى في الفرصة المناسبة.

ه : الظاهر والباطن من المسائل المهمّة الأخرى التي نتعلمها من القصة ، إذ يجب علينا أن لا نصدر أحكاما سريعة تجاه الحوادث التي تقع في مجرى حياتنا مما قد لا يعجبنا. إذ ما أكثر الحوادث التي نكرهها ، ولكن يتّضح بعد مدّة أنّ هذه الحوادث لم تكن سوى نوع من الألطاف الخفية الإلهية. والقرآن يصرّح بمضمون

٣٤٢

هذه الحقيقة في قوله تعالى :( عَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ) (1) .

إنّ المستفاد من هذه القضية أن لا يصاب الإنسان باليأس عند ما تهجم عليه الحوادث ، وفي هذا الصدد نقرأ في حديث طريف ينقله عبد الله بن المحدّث والفقيه المعروف زرارة بن أعين ، ويقول فيه عبد الله : قال لي أبو عبد اللهعليه‌السلام : «اقرأ مني على والدك السلام ، وقل له : إنّي إنّما أعيبك دفاعا منّي عنك ، فإنّ الناس والعدوّ يسارعون إلى كلّ من قرّبناه وحمدنا مكانه لإدخال الأذى في من نحبه ونقرّبه ، ويرمونه لمحبتنا له وقربه ودنوه منّا ، ويرون إدخال الأذى عليه وقتله ويحمدون كل من عبناه نحن ، فإنّما أعيبك لأنّك رجل اشتهرت منّا ، وبميلك إلينا ، وأنت في ذلك مذموم عند الناس غير محمود الأثر بمودّتك لنا ولميلك إلينا ، فأحببت أن أعيبك ليحمدوا أمرك في الدين بعيبك ونقصك ، ويكون بذلك منّا دافع شرّهم عنك. يقول اللهعزوجل :( أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً ) هذا التنزيل من عند الله ، صالحة ، لا والله ما عابها إلا لكي تسلم من الملك ، ولا تعطب على يديه ، ولقد كانت صالحة ليس للعيب فيها مساغ والحمد لله ، فافهم المثل يرحمك الله ، فإنّك والله أحبّ الناس إليّ ، وأحبّ أصحاب أبي حيا وميتا. فإنّك أفضل سفن ذلك البحر القمقام الزاخر ، وإن من ورائك ملكا ظلوما غصوبا يرقب عبور كل سفينة صالحة ترد بحر الهدى ليأخذها غصبا ، ثمّ يغصبها وأهلها ورحمة الله عليك حيا ورحمته ورضوانه عليك ميتا»(2) .

و: من دروس القصة الاعتراف بالحقائق واتخاذ المواقف المطابقة لها ، فعند ما تخلف موسى ثلاث مرّات عن الوفاء بالتزامه لصاحبه العالم ، عرف أنّه

__________________

(1) البقرة ، 216.

(2) معجم رجال الحديث ، ج 7 ، ص 226.

٣٤٣

لا يستطيع الاستمرار معه في الصحبة ، وبالرغم من أنّ فراق هذا الأستاذ كان أمرا صعبا على موسىعليه‌السلام ، إلّا أنّهعليه‌السلام لم يكابر وأنصف العالم بإعطائه الحق ، وفارقة عن إخلاص بعد أن حصل على حقائق عظمية وكنوز معنوية كبيرة من هذه الصحبة القصيرة.

يجب على الإنسان أن لا يستمر إلى آخر عمره في اختبار نفسه ، بحيث تتحوّل حياته إلى مختبر للأمور المستقبلية التي قد لا تحصل أبدا ، إذ عليه عند ما يختبر موضوعا ما عدّة مرّات ، أن يلتزم العمل بنتائج الاختبار وأن يقتنع به.

ز : تأثير إيمان الآباء على الأبناء

لقد تحمّل الخضر مسئولية حماية الأبناء في المقدار الذي كان يستطيعه ، وذلك بسبب الأب الصالح الملتزم. بمعنى أنّ الابن يستطيع أن يسعد في ظل الإيمان وأمانة والتزام الأب ، وإنّ نتيجة العمل الصالح الذي يلتزمه الأب تعود على الابن أيضا.

وفي بعض الرّوايات نقرأ أنّ ذلك الرجل الصالح لم يكن الأب المباشر لليتامى ، بل هو من أجدادهم البعيدين جدا. (وهكذا يكون للعمل الصالح تأثيره)(1) . وإنّ من علائم صلاح هذا الأب هو ما تركه من الكنوز المعنوية ، ومن الحكم لأبنائه.

ح : قصر العمر بسبب إيذاء الوالدين

عند ما يطال الموت الابن بسبب ما يلحقه من أذى بوالديه في مستقبل حياته ، وبسبب ما يرهقهما به من أذى وطغيان وكفر ، قد يحرفهم به عن الطريق الإلهي ، كما رأينا ذلك في القصّة التي بين أيدينا ، فإنّ الرّوايات الإسلامية تربط

__________________

(1) نور الثقلين ، ج 3 ، ص 289.

٣٤٤

بين قصر العمر وترك صلة الرحم (وبالأخص أذية الوالدين وعقوقهما) وقد أشرنا إلى بعضها في نهاية الحديث عن الآية (23) من سورة الإسراء.

وينبغي هنا أن نستوعب الدرس على صعيد هذا الجانب من القصة ، إذا كان الولد يقتل لما يلحقه بأبويه من ضرر وأذى في مستقبل حياته ، ترى فما حال الذي يمارس الأذى فعلا بحق والديه ويرهقهما بالعقوق؟

ط : الناس أعداء ما جهلوا

قد يحدث أن يقوم شخص بالإحسان إلينا ، إلّا أنّنا نتصوره عدوّا لنا ، لأنّنا لا نعرف بواطن الأمور ، ونتسرع ونفقد الصبر ، خصوصا إزاء الأحداث والأمور التي نجهلها ولا نحيط بأسبابها علما. من الطبيعي أن يفقد الإنسان صبره إزاء ما لا يحيط به علما من الأحداث والقضايا ، إلّا أنّ الدرس المستفاد من القصّة هو أن لا نتسرع في إصدار الأحكام على مثل هذه القضايا حتى تكتمل لدينا الرؤية التي نحيط من خلالها بجوانب وزوايا الموضوع المختلفة.

ففي حديث عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ، نقرأ قولهعليه‌السلام : «الناس أعداء ما جهلوا»(1) ، لذا فإنّه كلّما يرتفع الوعي لدى الإنسان فإنّ تعامله يكون أكثر منطقية ، وبعبارة أخرى إنّ أساس الصبر هو الوعي.

وكان لانزعاج موسىعليه‌السلام ـ بالطبع ـ ما يبرره ، إذ كان يرى تجاوزا عن حدود الشرع في الأحداث التي وقعت على يد صاحبه بحيث تعرض القسم الأعظم للشريعة الى الخطر ، ففي الحادثة الأولى تعرضت مصونية أموال الناس إلى الخطر ؛ وفي الثّانية تعرضت أرواحهم إلى خطر ، أمّا في الثّالثة ، فكان اعتراضه ينصب على ضرورة التعامل المنطقي مع حقوق الناس ، لذلك فقد اعترض ونسي

__________________

(1) نهج البلاغة ـ الحكمة رقم 438.

٣٤٥

عهده الذي قطعه لصاحبه العالم ، ولكن ما إن اطلّع على بواطن الأمور هدأ وكفّ عن الاعتراض. وهذا الأمر يدل على أنّ عدم الاطلاع هو أمر مقلق بحدّ ذاته.

ى : أدب التلميذ والأستاذ ثمّة ملاحظات لطيفة حول أدب التلميذ والأستاذ ظهرت في مقاطع الحديث بين موسىعليه‌السلام والرجل الربّاني العالم ، فمن ذلك مثلا :

1 ـ اعتبار موسىعليه‌السلام لنفسه تابعا للخضر قوله :( أَتَّبِعُكَ ) .

2 ـ لقد أعلن موسىعليه‌السلام هذا الإتباع على شكل استئذان فقال :( هَلْ أَتَّبِعُكَ ) .

3 ـ إقرارهعليه‌السلام بعلم أستاذه وبحاجته للتعلّم فقال :( عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ ) .

4 ـ وللتواضع فقد اعتبر علم أستاذه كثيرا ، وهو يطلب جانبا من هذا العلم ، فقال:( مِمَّا ) .

5 ـ يصف علم أستاذه بأنّه علم إلهي فيقول :( عُلِّمْتَ ) .

6 ـ يطلب من أستاذه الهداية والرشاد فقالعليه‌السلام :( رُشْداً ) .

7 ـ يقول لأستاذه بشكل لطيف خفي ، بأنّ الله قد تلطّف عليك وعلّمك ، فتلطّف أنت عليّ ، وحيث قالعليه‌السلام : «تعلمن ممّا علمت».

8 ـ إنّ جملة( هَلْ أَتَّبِعُكَ ) تكشف حقيقة أن يكون التلميذ في طلب الأستاذ ، وفي أتباعه ، إذ ليس من وظيفة الأستاذ اتباع تلميذه إلّا في حالات وموارد خاصّة.

9 ـ برغم ما كان يتمتع موسىعليه‌السلام بمنصب كبير (حيث كان نبيّا من أولي العزم وصاحب رسالة وكتاب) إلّا أنّه تواضع ، وهذا يعني أنّك ومهما كنت وفي أي مقام أصبحت ، يجب عليك أن تتواضع في مقام طلب العلم والمعرفة.

10 ـ إنّ موسىعليه‌السلام لم يذكر عبارة جازمة في معرض تعهده لأستاذه ، بل قال:( سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ صابِراً ) وهذه الصيغة في التعبير مملوءة أدبا إزاء

٣٤٦

الخالق جلّ وعلا ، واتجاه الأستاذ أيضا ، حتى إذا تخلّف عنها لا يكون ثمّة نوع من هتك الحرمة إزاء الأستاذ.

وضروري أن نذكر في خاتمة هذا الحديث أنّ العالم الرباني قد استخدم إزاء موسىعليه‌السلام منتهى الحلم في مقام التعليم والتربية ، فعند ما كان موسىعليه‌السلام ينسى تعهده وتثور ثائرته ويعترض عليه ، يجيبه الأستاذ بهدوء وبرود ، ولكن على شكل استفهام :( أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً ) .

* * *

٣٤٧

الآيات

( وَيَسْئَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً (83) إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً (84) فَأَتْبَعَ سَبَباً (85) حَتَّى إِذا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَها تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَها قَوْماً قُلْنا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً (86) قالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذاباً نُكْراً (87) وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُ جَزاءً الْحُسْنى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنا يُسْراً (88) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً (89) حَتَّى إِذا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَها تَطْلُعُ عَلى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِها سِتْراً (90) كَذلِكَ وَقَدْ أَحَطْنا بِما لَدَيْهِ خُبْراً (91) )

التّفسير

قصّة «ذو القرنين» العجيبة :

قلنا في بداية حديثنا عن أصحاب الكهف : إنّ مجموعة من قريش قرّرت

٣٤٨

اختبار الرّسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقامت هذه المجموعة بالتنسيق مع اليهود واستشارتهم بطرح ثلاث قضايا هي : تأريخ الفتية من أصحاب الكهف.

السؤال عن ماهية الروح ، أمّا القضية الثّالثة فقد كانت حول «ذو القرنين».

وفي القرآن ، جاء الردّ على قضية الروح في سورة الإسراء ، أمّا الإجابة على السؤالين الآخرين فقد جاءت في سورة الكهف.

ونحن الآن بصدد قصّة «ذو القرنين» :

وأشرنا سابقا إلى أنّ سورة الكهف أشارت إلى ثلاث قصص تختلف في الظاهر عن بعضها ، ولكنّها تشترك في جوانب معينة ، والقصص الثلاث هي قصّة أصحاب الكهف ، وموسى والخضر ، وقصّة «ذو القرنين».

إنّ في القصص الثلاث هذه مضامين تنقلنا من حياتنا العادية إلى أفق آخر ، يكشف لنا أنّ العالم في حقائقه وأسراره لا يحدّ فيما ألفناه منه ، وفيما يحيطنا منه ، واعتدنا عليه.

إنّ قصة «ذو القرنين» تدور حول شخصية أثارت اهتمامات الفلاسفة والباحثين منذ القدم. وقد بذلت جهود ومساعي كثيرة للتعرّف على هذه الشخصية.

وسنقوم أوّلا بتفسير الآيات الست عشرة الخاصّة بذي القرنين حيث أن حياته مع قطع النظر عن جوانبها التاريخية بمثابة درس كبير ومليء بالعبر ، ثمّ ننتقل إلى بحوث لمعرفة شخصية ذي القرنين نفسه مستفيدين في ذلك من الرّوايات الإسلامية ، وممّا أشار إليه المؤرّخون في هذا الصدد.

بتعبير آخر : إنّ ما يهمنا أوّلا هو الحديث عن شخصية ذي القرنين ، وهو ما فعله القرآن ، حيث يقول تعالى :( وَيَسْئَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ ) .

فيكون الجواب على لسان الرّسول المصطفىصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( قُلْ سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً ) .

٣٤٩

ولأنّ «السين» في (سأتلوا) تستخدم عادة للمستقبل القريب ، والرّسول هنا يتحدّث مباشرة إليهم عن ذي القرنين ، فمن المحتمل أن يكون ذلك منهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم احتراما ومراعاة للأدب ؛ الأدب الممزوج بالهدوء والتروي ، الأدب الذي يعني استلهامه للعلم من الله تبارك وتعالى ، ونقله إلى الناس.

إنّ بداية الآية تبيّن لنا أنّ قصة «ذو القرنين» كانت متداولة ومعروفة بين الناس ، ولكنّها كانت محاطة بالغموض والإبهام ، لهذا السبب طالبوا الرّسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الإدلاء حولها بالتوضيحات اللازمة.

وفي استئناف الحديث عن ذي القرنين يقول تعالى :( إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ ) . أي منحناه سبل القوة والقدرة والحكم.

( وَآتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً ) .

بالرغم من أنّ مفهوم (السبب) يعني الحبل المستخدم في تسلّق النخيل ، الّا أن بعض المفسّرين يحصره في الوسائل المستخدمة في إنجاز الأعمال ، إلّا أنّ الواضح من مفهوم الآية أنّ الكلمة المذكورة يراد منها معناها ومفهومها الواسع ، حيث أنّ الله تبارك وتعالى منح «ذو القرنين» أسباب الوصول لكل الأشياء : العقل ، العلم الكافي ، الإدارة السليمة ، القوّة والقدرة ، الجيوش والقوى البشرية ، بالإضافة إلى الإمكانات المادية. أي إنّه منح كل الأسباب والسبل المادية والمعنوية الكفيلة بتحقيق الأهداف المنشودة.

ثمّ يشير القرآن بعد ذلك إلى استفادة ذي القرنين من هذه الأسباب والسبل فيقول:( فَأَتْبَعَ سَبَباً ) .

ثمّ( حَتَّى إِذا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ ) .

فرأي أنّها تغرب في بحر غامق أو عين ذات ماء آجن :( وَجَدَها تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ ) (1) .

__________________

(1) (حمئة) تعني في الأصل الطين الأسود ذا الرائحة الكريهة ؛ أو الماء الآسن الموجود في المستنقعات. وهذا

٣٥٠

( وَوَجَدَ عِنْدَها قَوْماً ) أي مجموعة من الناس فيهم الصالح والطالح ، هؤلاء القوم هم الذين خاطب الله ذا القرنين في شأنهم :( قُلْنا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً ) (1) .

ويرى بعض المفسّرين في كلمة (قلنا) دليلا على نبوة ذي القرنين. ولكن من المحتمل أن يكون المقصود بهذا التعبير هو الإلهام القلبي الذي يمنحه الخالق جلّ وعلا لغير الأنبياء أيضا ، هذا وليس بالإمكان انكار أنّ التعبير الآنف الذكر يشير بالفعل إلى معنى النّبوة.

بعد ذلك تحكي الآيات جواب «ذي القرنين» الذي قال :( قالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذاباً نُكْراً ) (2) . أي إنّ الظالمين سينالون العذاب الدنيوي والأخروي معا.

( وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُ جَزاءً الْحُسْنى ) .

( وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنا يُسْراً ) .

أي أنّنا سنتعامل معه بالقول الحسن ، فضلا عن أنّنا سنخفف عنه ولا نجعله يواجه المشاكل والصعاب ، بالإضافة إلى أنّنا سوف لن نجبي منه ضرائب كثيرة.

والظاهر أنّ ذا القرنين أراد من ذلك أن الناس سينقسمون مقابل دعوتي الى التوحيد والإيمان والنهي عن الظلم والفساد إلى مجموعتين ، الأولى : هي المجموعة التي سترحب ببرنامجه الإلهي ودعوته للتوحيد والإيمان وهذه

__________________

الوصف يبيّن لنا بأنّ الأرض التي بلغها «ذو القرنين» كانت مليئة بالمستنقعات ، بشكل كان ذو القرنين يشعر معه بأنّ الشمس كانت تغرب في هذه المستنقعات ، تماما كما يشعر بذلك مسافر البحر ، وسكّان السواحل الذين يشعرون بأنّ الشمس قد غابت في البحر أو خرجت منه!.

(1) ـ يظهر أن جملة( إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ ) استفهامية بالرغم من أنّ ظاهرها أنّها جملة خبرية.

(2) «نكر» مشتقة من «منكر» بمعنى الشيء المجهول ؛ أي العذاب المجهول الذي لم يمكن تصوره.

٣٥١

ستجزى بالحسنى وستعيش حياة آمنة ومطمئنة. أمّا الثّانية : فستتخذ موقفا عدائيا من دعوة ذي القرنين وتقف في الجبهة المناوئة ، وتستمر في شركها وظلمها ، وتواصل فسادها. وهي لذلك ستعاقب نتيجة موقفها هذا أشدّ العقاب.

وبمقارنة قوله :( مَنْ ظَلَمَ ) وقوله :( مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ) يتبيّن لنا أنّ الظلم يعني هنا الشرك والعمل غير الصالح الذي يعدّ من ثمار شجرة الشرك المشؤومة.

وعند ما انتهى «ذو القرنين» من سفره إلى الغرب توجه إلى الشرق حيث يقول القرآن في ذلك :( ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً ) أي استخدم الوسائل والإمكانات التي كانت بحوزته.

( حَتَّى إِذا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ ) . وهنا رأى أنّها :( وَجَدَها تَطْلُعُ عَلى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِها سِتْراً ) . وفي اللفظ كناية عن أنّ حياة هؤلاء الناس بدائية جدّا ، ولا يملكون سوى القليل من الملابس التي لا تكفي لتغطية أبدانهم من الشمس.

أمّا بعض المفسّرين فلم يستبعدوا افتقار هؤلاء الناس إلى المساكن التي تحميهم من الشمس(1) .

وهناك احتمال آخر يطرحه البعض ، ويرى أن يكون هؤلاء القوم في أرض صحراوية تفتقر للجبال والأشجار والملاجئ ، وأن ليس في تلك الصحراء ما يمكّن هؤلاء القوم من حماية أنفسهم من الشمس من غطاء أو غير ذلك(2) .

__________________

(1) أشارت بعض الرّوايات الواردة عن أهل البيتعليهم‌السلام إلى التّفسير الأوّل ، فيما أشارت روايات أخرى إلى التّفسير الثّاني. وليس ثمّة تناقض بين الإثنين (يراجع نور الثقلين ، ج 3 ، ص 306).

(2) تفسير في ظلال القرآن ، والفخر الرازي أثناء تفسير الآية.

٣٥٢

بالطبع ليس هناك تعارض بين التفاسير هذه ، قوله تعالى :( كَذلِكَ وَقَدْ أَحَطْنا بِما لَدَيْهِ خُبْراً ) . هكذا كانت أعمال «ذو القرنين» ونحن نعلم جيدا بإمكاناته.

بعض المفسّرين قال : إنّ هذه الآية تشير إلى الهداية الإلهية لذي القرنين في برامجه ومساعيه(1) .

* * *

__________________

(1) الميزان ، ج 13 ، ص 391.

٣٥٣

الآيات

( ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً (92) حَتَّى إِذا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِما قَوْماً لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً (93) قالُوا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا (94) قالَ ما مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً (95) آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذا ساوى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذا جَعَلَهُ ناراً قالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً (96) فَمَا اسْطاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطاعُوا لَهُ نَقْباً (97) قالَ هذا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا (98) )

التّفسير

كيف تمّ بناء سد ذي القرنين؟

الآيات أعلاه تشير إلى سفرة أخرى من أسفار ذي القرنين حيث تقول :( ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً ) .

٣٥٤

أي بعد هذه الحادثة استفاد من الوسائل المهمّة التي كانت تحت تصرفه ومضى في سفره حتى وصل إلى موضع بين جبلين :( حَتَّى إِذا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِما قَوْماً لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً ) .

والآية إشارة إلى أنّه وصل إلى منطقة جبلية ، وهناك وجد أناسا (غير المجموعتين اللتين عثر عليهما في الشرق والغرب) كانوا على مستوى دان من المدنية ، لأنّ الكلام أحد أوضح علائم التمدّن لدى البشر.

البعض احتمل أنّ جملة( لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً ) لا تعني أنّهم لم يكونوا يعرفون اللغات ، بل كانوا لا يفهمون محتوى الكلام ، أي كانوا متخلفين فكريا.

أمّا عن مكان الجبل والجوانب التأريخية والجغرافية لهذه الحادثة ، وسنذكر في نهاية البحث التّفسيري ، حديثا مفصلا عن ذلك.

في هذه الأثناء اغتنم هؤلاء القوم مجيء ذي القرنين ، لأنّهم كانوا في عذاب شديد من قبل أعدائهم يأجوج ومأجوج ، لذا فقد طلبوا العون منه قائلين :( قالُوا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا ) .

قد يكون كلامهم هذا تمّ عن طريق تبادل العلامات والإشارات ، لأنّهم لا يفهمون لغة ذي القرنين ، أو أنّهم تحدثوا معه بعبارات ناقصة لا يمكن الاعتداد بها.

ويحتمل أن يكون التفاهيم بينهم تمّ عن طريق المترجمين ، أو بأسلوب الإلهام الإلهي ، مثل تحدّث بعض الطيور مع سليمانعليه‌السلام .

في كل الأحوال ، يمكن أن نستفيد من الآية الشريفة أنّ تلك المجموعة من الناس كانت ذات وضع جيّد من حيث الإمكانات الاقتصادية ، إلّا أنّهم كانوا ضعفاء في المجال الصناعي والفكري والتخطيطي ، لذا فقد تقبلوا بتكاليف بناء هذا السد المهم ، بشرط أن يتكفل ذو القرنين ببنائه وهندسته.

٣٥٥

وفيما يخص يأجوج ومأجوج سنتحدث عنهم في نهاية هذا البحث إن شاء الله.

أمّا ذو القرنين فقد أجابهم :( قالَ ما مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ ) ، وأنّي لا أحتاج إلى مساعدتكم المالية وإنّما :( فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً ) .

كلمة «ردم» على وزن «طرد» وهي في الأصل تعني ملء الشق بالأحجار ، إلّا أنّها فيما بعد أخذت معنى واسعا بحيث شمل كل سد ، بل وشمل حتى ترقيع الملابس.

يعتقد بعض المفسّرين أنّ كلمة «ردم» تقال للسد القوي(1) ، ووفقا لهذا التّفسير فإنّ ذا القرنين قد وعدهم بأكثر ممّا كانوا ينتظرونه.

كما أنّه يجب الانتباه إلى أنّ «سد» على وزن «قد» ، و «سدّ» على وزن «قفل» هما بمعنى واحد ، وهو الحائل الذي يفصل بين شيئين ، إلّا أنّ البعض ـ كما يقول الراغب ـ وضع فرقا بين الإثنين ، فالأوّل هو من صناعة الإنسان ، والثّاني هو الحائل الطبيعي.

ثمّ أمر ذو القرنين فقال :( آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ ) .

«زبر» جمع «زبرة» على وزن (غرفة) ، وتعني القطع الكبيرة والضخيمة من الحديد.

وعند ما تهيأت قطع الحديد أعطى أمرا بوضع بعضها فوق البعض الآخر حتى غطّي بين الجبلين بشكل كامل :( حَتَّى إِذا ساوى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ ) .

«صدف» تعني هنا حافة الجبل ، ويتّضح من هذا التعبير أنّ هناك شقا بين حافتي الجبل حيث كان يأجوج ومأجوج يدخلان منه ، وقد صمم ذو القرنين ملأ هذا الشق.

الأمر الثّالث لذي القرنين هو طلبه منهم أن يجلبوا الحطب وما شابهه ،

__________________

(1) «الآلوسي» في «روح المعاني» ، والفيض الكاشاني في تفسير «الصافي» ، والفخر الرازي في «التّفسير الكبير».

٣٥٦

ووضعه على جانبي هذا السد ، وأشعل النار فيه ثمّ أمرهم بالنفخ فيه حتى احمرّ الحديد من شدة النّار :( قالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذا جَعَلَهُ ناراً ) .

لقد كان يهدف ذو القرنين من ذلك ربط قطع الحديد بعضها ببعض ليصنع منها سدا من قطعة واحدة ، وعن طريق ذلك ، قام ذو القرنين بنفس عمل «اللحام» الذي يقام به اليوم في ربط أجزاء الحديد بعضها ببعض.

أخيرا أصدر لهم الأمر الأخير فقال : اجلبوا لي النحاس المذاب حتى أضعه فوق هذا السد :( قالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً ) .

وبهذا الشكل قام بتغطية هذا السد الحديدي بطبقة النحاس حتى لا ينفذ فيه الهواء ويحفظ من التآكل.

بعض المفسّرين قالوا : إنّ علوم اليوم أثبتت أنّه عند إضافة مقدار من النحاس إلى الحديد فإنّ ذلك سيزيد من مقدار مقاومته ، ولأنّ «ذا القرنين» كان عالما بهذه الحقيقة فقد أقدم على تنفيذه.

إنّ المشهور في معنى «قطر» هو ما قلناه (أي النحاس المذاب) ، إلّا أنّ بعض المفسّرين فسّر ذلك بـ «الخارصين المذاب» وهو خلاف المتعارف عليه.

وأخيرا ، أصبح هذا السد بقدر من القوّة والإحكام بحيث :( فَمَا اسْطاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطاعُوا لَهُ نَقْباً ) .

لقد كان عمل ذي القرنين عظيما ومهما ، وكان له وفقا لمنطق المستكبرين ونهجهم أن يتباهى به أو يمنّ به ، إلّا أنّه قال بأدب كامل :( قالَ هذا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي ) لأنّ أخلاقه كانت أخلاقا إلهية.

إنّه أراد أن يقول : إذا كنت أملك العلم والمعرفة وأستطيع بواسطتهما أن أخطو خطوات مهمّة ، فإنّ كل ذلك إنما كان من قبل الخالق جلّ وعلا ، وإذا كنت أملك قابلية الكلام والحديث المؤثّر فذلك أيضا من الخالق جلّ وعلا.

وإذا كانت مثل هذه الوسائل والأفكار في اختياري فإنّ ذلك من بركة الله

٣٥٧

ورحمته الخالق الواسعة.

أراد ذو القرنين أن يقول : إنّني لا أملك شيئا من عندي كي أفتخر به ، ولم أعمل عملا مهما كي أمنّ على عباد الله.

ثمّ استطرد قائلا : لا تظنوا أنّ هذا السد سيكون أبديا وخالدا :( فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ ) .

( وَكانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا ) .

لقد أشار ذو القرنين في كلامه هذا إلى قضية فناء الدنيا وتحطّم هيكل نظام الوجود فيها عند البعث.

لكن بعض المفسّرين اعتبر الوعد الإلهي إشارة إلى التقدم العلمي للبشر والذي بواسطته لا يبقى معنى لسد غير قابل للاختراق والعبور ، فالطائرات وما شابهها تستطيع أن تعبر جميع هذه الموانع. ولكن هذا التّفسير بعيد حسب الظاهر.

* * *

بحوث

أولا ـ الملاحظات التربوية في هذه القصة التأريخية

سنبحث فيما بعد ـ إن شاء الله ـ ما يتعلق بذي القرنين ؛ من هو؟ وكيف تمّ سفره للشرق والغرب ؛ وأين كان السد الذي أنشأه؟ وغير ذلك ، ولكن بصرف النظر عن الجوانب التأريخية ، فإنّ القصّة بشكل عام تحوي على دروس تربوية كثيرة من الضروري الالتفات إليها والإفادة منها ، وفي الواقع أنّها هي الهدف القرآني من إيرادها. ويمكن تلخيص هذه الدروس بالشكل الآتي :

1 ـ إنّ أوّل درس تعلمنا إيّاه أنّ عمل هذه الدنيا لا يتمّ دون توفير أسبابه ، لذا فإنّ الله تبارك وتعالى وهب الوسائل والأسباب لتقدم وانتصار ذي القرنين في علمه :( وَآتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً ) . وفي نفس الوقت استفاد «ذو القرنين» من

٣٥٨

هذه الأسباب والوسائل بأفضل وجه ممكن :( فَأَتْبَعَ سَبَباً ) .

لذلك فإنّ من يظن أنّه سيحصل على النصر من دون تهيئة أسبابه ومقدماته ، فإنّه لا يصل إلى مرامه حتى لو كان ذا القرنين نفسه!

2 ـ بالرغم من أنّ غروب الشمس في عين من ماء آسن سببه خطأ في الباصرة واشتباه منها ، إلّا أنّ المعنى الذي نلمحه من هذا المثال هو إمكان تغطية الشمس مع عظمتها بالعين الآسنة ومثلها في ذلك مثل ذلك الإنسان العظيم الذي يسقط وينهار بسبب خطأ واحد فتغرب شخصيته من انظار الناس.

3 ـ لا تستطيع أي حكومة أن تنتصر بدون ترغيب الأنصار والأتباع ، ومعاقبة المذنبين والمخطئين ، وهذا هو نفس الأساس الذي اعتمد عليه ذو القرنين حيث قال:( قالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُ جَزاءً الْحُسْنى ) .

والإمام أمير المؤمنين عليعليه‌السلام بلور هذا المعنى في رسالته إلى مالك الأشتر والتي هي برنامج كامل لإدارة البلاد ، إذ يقولعليه‌السلام : «ولا يكونن المحسن والمسيء عندك بمنزلة سواء، فإنّ في ذلك تزهيدا لأهل الإحسان في الإحسان ، وتدريبا لأهل الإساءة على الإساءة»(1) .

4 ـ التكليف الشاق والتصعّب في الأمور وتحميل الناس ما لا يطيقون ، كل هذه الأمور لا تناسب الحكومة الإلهية العادلة أبدا ، ولهذا السبب فإنّ ذا القرنين بعد أن صرّح بمعاقبة الظالمين وتشويق الصالحين ، أضاف :( وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنا يُسْراً ) حتى يمكن إنجاز الأعمال عن شوق ورغبة.

5 ـ الحكومة الكبيرة ذات الإمكانات الواسعة لا تتغاضى عن التفاوت والاختلاف القائم في حياة الناس وتراعى شرائط حياتهم المختلفة ، ولهذا السبب فإنّ «ذو القرنين» صاحب الحكومة الإلهية والذي واجهته أقوام مختلفة ، كان

__________________

(1) نهج البلاغة ، الرسالة رقم 53.

٣٥٩

يتعامل مع كل مجموعة بما يناسب حياتها الخاصّة ، وبذلك كان الجميع منضوين تحت لوائه.

6 ـ إنّ «ذو القرنين» لم يستعبد حتى تلك المجموعة التي لم تكن تفهم الكلام ، أو كما وصفهم القرآن :( لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً ) بل إنّه استمع إلى مشاكلهم ، ودأب على رفع احتياجاتهم بأي أسلوب كان ، وبنى لهم سدا محكما بينهم وبين أعدائهم اللدودين (يأجوج ومأجوج) وقد قام بإنجاز أمورهم بدون أن يفرّق بينهم (رغم أنّه كان يظهر أنّ مثل هؤلاء الناس عديمي الفهم لا ينفعون الحكومة بأي شيء).

وفي حديث عن الإمام الصادقعليه‌السلام نقرأ قوله : إسماع الأصم من غير تصعرّ صدقة هنيئة»(1) .

7 ـ الأمن هو أوّل وأهم شرط من شروط الحياة الاجتماعية السالمة ، لهذا السبب تحمّل «ذو القرنين» أصعب الأعمال وأشقها لتأمين أمن القوم من أعدائهم ، وقد استفاد من أقوى السدود وأمنعها الذي أصبح مضرب الأمثال في التأريخ ورمزا للاستحكام والدوام والبقاء ، حيث يقال لبناء القوي «إنّه مثل سدّ الإسكندر» بالرغم من أن «ذو القرنين» غير الإسكندر.

وعادة لا يسعد المجتمع من دون قطع الطريق على المفسدين ، ولهذا فإنّ أوّل شيء طلبه إبراهيمعليه‌السلام عند بناء الكعبة هو الأمن :( رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً ) (2) .

ولهذا السبب أيضا فإنّ الفقه الإسلامي وضع أقسى العقوبات للذين يعرضون أمن المجتمع إلى الخطر (راجع في ذلك تفسير الآية (33) من سورة المائدة).

__________________

(1) سفينة البحار ، ج 2 ، مادة «صمم».

(2) سورة إبراهيم ، 35.

٣٦٠

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576