الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٩

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل10%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 576

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 576 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 264204 / تحميل: 11783
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٩

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

يقول؟ قال : يقول : ما علمك وعلم موسى في علم الله إلّا كما أخذ منقاري من الماء»(١) .

٦ ـ ماذا كان الكنز؟

من الأسئلة التي تثار حول هذه القصّة ، هي عن ماهية الكنز الوارد في الآية ، ماذا كان؟ ولماذا كان صاحب موسى يصر على إخفائه؟ ولماذا قام الرجل المؤمن ، يعني أبالأيتام يتجمع هذا الكنز وإخفائه؟

يرى بعض المفسّرين أن الكنز يرمز إلى شيء معنوي ، قبل أن يكون له مفهوم مادي.

إذ أنّ هذا الكنز ـ طبقا لروايات عديدة تنقل من طرق السنة والشيعة ـ لم يكن سوى لوح منقوش عليه مجموعة من الحكم.

أمّا ما هي هذه الحكم؟ فثمة كلام كثير للمفسّرين في ذلك.

ففي كتاب الكافي نقلا عن الإمام حيث قال في جوابه على سؤال يتعلق بماهية الكنز: «أمّا إنّه ما كان ذهبا ولا فضة ، وإنّما كان أربع كلمات : لا إله إلّا الله ، من أيقن بالموت لم يضحك ، ومن أيقن بالحساب لم يفرح قلبه ، ومن أيقن بالقدر لم يخش إلّا الله»(٢) .

وفي روايات أخرى ، ورد أنّ اللوح كان من ذهب. الظاهر أنّه ليس هناك تعارض بين الاثنين ، لأنّ هدف الرّواية الأولى أن تبيّن أنّ الكنز لم يكن دراهم ودنانير.

ولو فرضنا أنّنا التزمنا المعنى الظاهر لكلمة كنز ، وفسرناه على أنّه كمية من الذهب ، فإنّنا لا نواجه مشكلة أيضا ، لأنّ الكنز المحرم شرعا هو أن يقوم الإنسان

__________________

(١) الدر المنثور ومصادر أخرى طبقا لما نقله صاحب الميزان في ج ١٣ ، ص ٣٥٦.

(٢) نور الثقلين ، ج ٣ ، ص ٢٨٧.

٣٤١

بتجميع وادخار أموال وثروة كبيرة لمدّة طويلة في حين أن المجتمع بحاجة إليها ، ولكن لو قام أحد الأشخاص بدفن ماله ليوم أو عدّة أيّام (كما هو المتعارف في الازمنة السابقة بسبب عدم الأمن) ثمّ توفي هذا الشخص بسبب حادثة ، فلا يوجد أي إشكال في مثل هذا الكنز.

٧ ـ دروس هذه القصّة

هناك جملة دروس يمكن أن نستفيدها من القصّة ، ويمكن لنا أن ندرجها كما يلي :

أ: أهمية العثور على قائد عالم والاستفادة من علمه ، بحيث رأينا أنّ نبيّا من أولي العزم مثل موسىعليه‌السلام يسلك هذا الطريق الطويل ، وقد بذل ما بذل لتحقيقه. وهذا درس لجميع الناس مهما كان علمهم وفي أي عمر كانوا.

ب : جوهرة العلم الإلهي تنبع من العبودية لله تعالى ، كما قرأنا في الآيات أعلاه في قوله تعالى :( عَبْداً مِنْ عِبادِنا عَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً ) .

ج : يجب تعلم العلم للعمل ، كما يقول موسىعليه‌السلام لصاحبه( مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً ) أي علمني عملا يقربني من هدفي ومقصدي ، فأنا لا أطلب العلم لنفسه ، بل للوصول إلى الهدف.

د : يجب عدم الاستعجال في الأعمال ، إذ العديد من الأمور تحتاج إلى الفرص المناسبة (الأمور مرهونة بأوقاتها) خاصّة في القضايا المهمّة ، ولهذا السبب ، فإنّ الرجل العالم قد ذكر سرّ أعماله لموسى في الفرصة المناسبة.

ه : الظاهر والباطن من المسائل المهمّة الأخرى التي نتعلمها من القصة ، إذ يجب علينا أن لا نصدر أحكاما سريعة تجاه الحوادث التي تقع في مجرى حياتنا مما قد لا يعجبنا. إذ ما أكثر الحوادث التي نكرهها ، ولكن يتّضح بعد مدّة أنّ هذه الحوادث لم تكن سوى نوع من الألطاف الخفية الإلهية. والقرآن يصرّح بمضمون

٣٤٢

هذه الحقيقة في قوله تعالى :( عَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ) (١) .

إنّ المستفاد من هذه القضية أن لا يصاب الإنسان باليأس عند ما تهجم عليه الحوادث ، وفي هذا الصدد نقرأ في حديث طريف ينقله عبد الله بن المحدّث والفقيه المعروف زرارة بن أعين ، ويقول فيه عبد الله : قال لي أبو عبد اللهعليه‌السلام : «اقرأ مني على والدك السلام ، وقل له : إنّي إنّما أعيبك دفاعا منّي عنك ، فإنّ الناس والعدوّ يسارعون إلى كلّ من قرّبناه وحمدنا مكانه لإدخال الأذى في من نحبه ونقرّبه ، ويرمونه لمحبتنا له وقربه ودنوه منّا ، ويرون إدخال الأذى عليه وقتله ويحمدون كل من عبناه نحن ، فإنّما أعيبك لأنّك رجل اشتهرت منّا ، وبميلك إلينا ، وأنت في ذلك مذموم عند الناس غير محمود الأثر بمودّتك لنا ولميلك إلينا ، فأحببت أن أعيبك ليحمدوا أمرك في الدين بعيبك ونقصك ، ويكون بذلك منّا دافع شرّهم عنك. يقول اللهعزوجل :( أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً ) هذا التنزيل من عند الله ، صالحة ، لا والله ما عابها إلا لكي تسلم من الملك ، ولا تعطب على يديه ، ولقد كانت صالحة ليس للعيب فيها مساغ والحمد لله ، فافهم المثل يرحمك الله ، فإنّك والله أحبّ الناس إليّ ، وأحبّ أصحاب أبي حيا وميتا. فإنّك أفضل سفن ذلك البحر القمقام الزاخر ، وإن من ورائك ملكا ظلوما غصوبا يرقب عبور كل سفينة صالحة ترد بحر الهدى ليأخذها غصبا ، ثمّ يغصبها وأهلها ورحمة الله عليك حيا ورحمته ورضوانه عليك ميتا»(٢) .

و: من دروس القصة الاعتراف بالحقائق واتخاذ المواقف المطابقة لها ، فعند ما تخلف موسى ثلاث مرّات عن الوفاء بالتزامه لصاحبه العالم ، عرف أنّه

__________________

(١) البقرة ، ٢١٦.

(٢) معجم رجال الحديث ، ج ٧ ، ص ٢٢٦.

٣٤٣

لا يستطيع الاستمرار معه في الصحبة ، وبالرغم من أنّ فراق هذا الأستاذ كان أمرا صعبا على موسىعليه‌السلام ، إلّا أنّهعليه‌السلام لم يكابر وأنصف العالم بإعطائه الحق ، وفارقة عن إخلاص بعد أن حصل على حقائق عظمية وكنوز معنوية كبيرة من هذه الصحبة القصيرة.

يجب على الإنسان أن لا يستمر إلى آخر عمره في اختبار نفسه ، بحيث تتحوّل حياته إلى مختبر للأمور المستقبلية التي قد لا تحصل أبدا ، إذ عليه عند ما يختبر موضوعا ما عدّة مرّات ، أن يلتزم العمل بنتائج الاختبار وأن يقتنع به.

ز : تأثير إيمان الآباء على الأبناء

لقد تحمّل الخضر مسئولية حماية الأبناء في المقدار الذي كان يستطيعه ، وذلك بسبب الأب الصالح الملتزم. بمعنى أنّ الابن يستطيع أن يسعد في ظل الإيمان وأمانة والتزام الأب ، وإنّ نتيجة العمل الصالح الذي يلتزمه الأب تعود على الابن أيضا.

وفي بعض الرّوايات نقرأ أنّ ذلك الرجل الصالح لم يكن الأب المباشر لليتامى ، بل هو من أجدادهم البعيدين جدا. (وهكذا يكون للعمل الصالح تأثيره)(١) . وإنّ من علائم صلاح هذا الأب هو ما تركه من الكنوز المعنوية ، ومن الحكم لأبنائه.

ح : قصر العمر بسبب إيذاء الوالدين

عند ما يطال الموت الابن بسبب ما يلحقه من أذى بوالديه في مستقبل حياته ، وبسبب ما يرهقهما به من أذى وطغيان وكفر ، قد يحرفهم به عن الطريق الإلهي ، كما رأينا ذلك في القصّة التي بين أيدينا ، فإنّ الرّوايات الإسلامية تربط

__________________

(١) نور الثقلين ، ج ٣ ، ص ٢٨٩.

٣٤٤

بين قصر العمر وترك صلة الرحم (وبالأخص أذية الوالدين وعقوقهما) وقد أشرنا إلى بعضها في نهاية الحديث عن الآية (٢٣) من سورة الإسراء.

وينبغي هنا أن نستوعب الدرس على صعيد هذا الجانب من القصة ، إذا كان الولد يقتل لما يلحقه بأبويه من ضرر وأذى في مستقبل حياته ، ترى فما حال الذي يمارس الأذى فعلا بحق والديه ويرهقهما بالعقوق؟

ط : الناس أعداء ما جهلوا

قد يحدث أن يقوم شخص بالإحسان إلينا ، إلّا أنّنا نتصوره عدوّا لنا ، لأنّنا لا نعرف بواطن الأمور ، ونتسرع ونفقد الصبر ، خصوصا إزاء الأحداث والأمور التي نجهلها ولا نحيط بأسبابها علما. من الطبيعي أن يفقد الإنسان صبره إزاء ما لا يحيط به علما من الأحداث والقضايا ، إلّا أنّ الدرس المستفاد من القصّة هو أن لا نتسرع في إصدار الأحكام على مثل هذه القضايا حتى تكتمل لدينا الرؤية التي نحيط من خلالها بجوانب وزوايا الموضوع المختلفة.

ففي حديث عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ، نقرأ قولهعليه‌السلام : «الناس أعداء ما جهلوا»(١) ، لذا فإنّه كلّما يرتفع الوعي لدى الإنسان فإنّ تعامله يكون أكثر منطقية ، وبعبارة أخرى إنّ أساس الصبر هو الوعي.

وكان لانزعاج موسىعليه‌السلام ـ بالطبع ـ ما يبرره ، إذ كان يرى تجاوزا عن حدود الشرع في الأحداث التي وقعت على يد صاحبه بحيث تعرض القسم الأعظم للشريعة الى الخطر ، ففي الحادثة الأولى تعرضت مصونية أموال الناس إلى الخطر ؛ وفي الثّانية تعرضت أرواحهم إلى خطر ، أمّا في الثّالثة ، فكان اعتراضه ينصب على ضرورة التعامل المنطقي مع حقوق الناس ، لذلك فقد اعترض ونسي

__________________

(١) نهج البلاغة ـ الحكمة رقم ٤٣٨.

٣٤٥

عهده الذي قطعه لصاحبه العالم ، ولكن ما إن اطلّع على بواطن الأمور هدأ وكفّ عن الاعتراض. وهذا الأمر يدل على أنّ عدم الاطلاع هو أمر مقلق بحدّ ذاته.

ى : أدب التلميذ والأستاذ ثمّة ملاحظات لطيفة حول أدب التلميذ والأستاذ ظهرت في مقاطع الحديث بين موسىعليه‌السلام والرجل الربّاني العالم ، فمن ذلك مثلا :

١ ـ اعتبار موسىعليه‌السلام لنفسه تابعا للخضر قوله :( أَتَّبِعُكَ ) .

٢ ـ لقد أعلن موسىعليه‌السلام هذا الإتباع على شكل استئذان فقال :( هَلْ أَتَّبِعُكَ ) .

٣ ـ إقرارهعليه‌السلام بعلم أستاذه وبحاجته للتعلّم فقال :( عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ ) .

٤ ـ وللتواضع فقد اعتبر علم أستاذه كثيرا ، وهو يطلب جانبا من هذا العلم ، فقال:( مِمَّا ) .

٥ ـ يصف علم أستاذه بأنّه علم إلهي فيقول :( عُلِّمْتَ ) .

٦ ـ يطلب من أستاذه الهداية والرشاد فقالعليه‌السلام :( رُشْداً ) .

٧ ـ يقول لأستاذه بشكل لطيف خفي ، بأنّ الله قد تلطّف عليك وعلّمك ، فتلطّف أنت عليّ ، وحيث قالعليه‌السلام : «تعلمن ممّا علمت».

٨ ـ إنّ جملة( هَلْ أَتَّبِعُكَ ) تكشف حقيقة أن يكون التلميذ في طلب الأستاذ ، وفي أتباعه ، إذ ليس من وظيفة الأستاذ اتباع تلميذه إلّا في حالات وموارد خاصّة.

٩ ـ برغم ما كان يتمتع موسىعليه‌السلام بمنصب كبير (حيث كان نبيّا من أولي العزم وصاحب رسالة وكتاب) إلّا أنّه تواضع ، وهذا يعني أنّك ومهما كنت وفي أي مقام أصبحت ، يجب عليك أن تتواضع في مقام طلب العلم والمعرفة.

١٠ ـ إنّ موسىعليه‌السلام لم يذكر عبارة جازمة في معرض تعهده لأستاذه ، بل قال:( سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ صابِراً ) وهذه الصيغة في التعبير مملوءة أدبا إزاء

٣٤٦

الخالق جلّ وعلا ، واتجاه الأستاذ أيضا ، حتى إذا تخلّف عنها لا يكون ثمّة نوع من هتك الحرمة إزاء الأستاذ.

وضروري أن نذكر في خاتمة هذا الحديث أنّ العالم الرباني قد استخدم إزاء موسىعليه‌السلام منتهى الحلم في مقام التعليم والتربية ، فعند ما كان موسىعليه‌السلام ينسى تعهده وتثور ثائرته ويعترض عليه ، يجيبه الأستاذ بهدوء وبرود ، ولكن على شكل استفهام :( أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً ) .

* * *

٣٤٧

الآيات

( وَيَسْئَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً (٨٣) إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً (٨٤) فَأَتْبَعَ سَبَباً (٨٥) حَتَّى إِذا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَها تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَها قَوْماً قُلْنا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً (٨٦) قالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذاباً نُكْراً (٨٧) وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُ جَزاءً الْحُسْنى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنا يُسْراً (٨٨) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً (٨٩) حَتَّى إِذا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَها تَطْلُعُ عَلى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِها سِتْراً (٩٠) كَذلِكَ وَقَدْ أَحَطْنا بِما لَدَيْهِ خُبْراً (٩١) )

التّفسير

قصّة «ذو القرنين» العجيبة :

قلنا في بداية حديثنا عن أصحاب الكهف : إنّ مجموعة من قريش قرّرت

٣٤٨

اختبار الرّسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقامت هذه المجموعة بالتنسيق مع اليهود واستشارتهم بطرح ثلاث قضايا هي : تأريخ الفتية من أصحاب الكهف.

السؤال عن ماهية الروح ، أمّا القضية الثّالثة فقد كانت حول «ذو القرنين».

وفي القرآن ، جاء الردّ على قضية الروح في سورة الإسراء ، أمّا الإجابة على السؤالين الآخرين فقد جاءت في سورة الكهف.

ونحن الآن بصدد قصّة «ذو القرنين» :

وأشرنا سابقا إلى أنّ سورة الكهف أشارت إلى ثلاث قصص تختلف في الظاهر عن بعضها ، ولكنّها تشترك في جوانب معينة ، والقصص الثلاث هي قصّة أصحاب الكهف ، وموسى والخضر ، وقصّة «ذو القرنين».

إنّ في القصص الثلاث هذه مضامين تنقلنا من حياتنا العادية إلى أفق آخر ، يكشف لنا أنّ العالم في حقائقه وأسراره لا يحدّ فيما ألفناه منه ، وفيما يحيطنا منه ، واعتدنا عليه.

إنّ قصة «ذو القرنين» تدور حول شخصية أثارت اهتمامات الفلاسفة والباحثين منذ القدم. وقد بذلت جهود ومساعي كثيرة للتعرّف على هذه الشخصية.

وسنقوم أوّلا بتفسير الآيات الست عشرة الخاصّة بذي القرنين حيث أن حياته مع قطع النظر عن جوانبها التاريخية بمثابة درس كبير ومليء بالعبر ، ثمّ ننتقل إلى بحوث لمعرفة شخصية ذي القرنين نفسه مستفيدين في ذلك من الرّوايات الإسلامية ، وممّا أشار إليه المؤرّخون في هذا الصدد.

بتعبير آخر : إنّ ما يهمنا أوّلا هو الحديث عن شخصية ذي القرنين ، وهو ما فعله القرآن ، حيث يقول تعالى :( وَيَسْئَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ ) .

فيكون الجواب على لسان الرّسول المصطفىصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( قُلْ سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً ) .

٣٤٩

ولأنّ «السين» في (سأتلوا) تستخدم عادة للمستقبل القريب ، والرّسول هنا يتحدّث مباشرة إليهم عن ذي القرنين ، فمن المحتمل أن يكون ذلك منهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم احتراما ومراعاة للأدب ؛ الأدب الممزوج بالهدوء والتروي ، الأدب الذي يعني استلهامه للعلم من الله تبارك وتعالى ، ونقله إلى الناس.

إنّ بداية الآية تبيّن لنا أنّ قصة «ذو القرنين» كانت متداولة ومعروفة بين الناس ، ولكنّها كانت محاطة بالغموض والإبهام ، لهذا السبب طالبوا الرّسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الإدلاء حولها بالتوضيحات اللازمة.

وفي استئناف الحديث عن ذي القرنين يقول تعالى :( إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ ) . أي منحناه سبل القوة والقدرة والحكم.

( وَآتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً ) .

بالرغم من أنّ مفهوم (السبب) يعني الحبل المستخدم في تسلّق النخيل ، الّا أن بعض المفسّرين يحصره في الوسائل المستخدمة في إنجاز الأعمال ، إلّا أنّ الواضح من مفهوم الآية أنّ الكلمة المذكورة يراد منها معناها ومفهومها الواسع ، حيث أنّ الله تبارك وتعالى منح «ذو القرنين» أسباب الوصول لكل الأشياء : العقل ، العلم الكافي ، الإدارة السليمة ، القوّة والقدرة ، الجيوش والقوى البشرية ، بالإضافة إلى الإمكانات المادية. أي إنّه منح كل الأسباب والسبل المادية والمعنوية الكفيلة بتحقيق الأهداف المنشودة.

ثمّ يشير القرآن بعد ذلك إلى استفادة ذي القرنين من هذه الأسباب والسبل فيقول:( فَأَتْبَعَ سَبَباً ) .

ثمّ( حَتَّى إِذا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ ) .

فرأي أنّها تغرب في بحر غامق أو عين ذات ماء آجن :( وَجَدَها تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ ) (١) .

__________________

(١) (حمئة) تعني في الأصل الطين الأسود ذا الرائحة الكريهة ؛ أو الماء الآسن الموجود في المستنقعات. وهذا

٣٥٠

( وَوَجَدَ عِنْدَها قَوْماً ) أي مجموعة من الناس فيهم الصالح والطالح ، هؤلاء القوم هم الذين خاطب الله ذا القرنين في شأنهم :( قُلْنا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً ) (١) .

ويرى بعض المفسّرين في كلمة (قلنا) دليلا على نبوة ذي القرنين. ولكن من المحتمل أن يكون المقصود بهذا التعبير هو الإلهام القلبي الذي يمنحه الخالق جلّ وعلا لغير الأنبياء أيضا ، هذا وليس بالإمكان انكار أنّ التعبير الآنف الذكر يشير بالفعل إلى معنى النّبوة.

بعد ذلك تحكي الآيات جواب «ذي القرنين» الذي قال :( قالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذاباً نُكْراً ) (٢) . أي إنّ الظالمين سينالون العذاب الدنيوي والأخروي معا.

( وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُ جَزاءً الْحُسْنى ) .

( وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنا يُسْراً ) .

أي أنّنا سنتعامل معه بالقول الحسن ، فضلا عن أنّنا سنخفف عنه ولا نجعله يواجه المشاكل والصعاب ، بالإضافة إلى أنّنا سوف لن نجبي منه ضرائب كثيرة.

والظاهر أنّ ذا القرنين أراد من ذلك أن الناس سينقسمون مقابل دعوتي الى التوحيد والإيمان والنهي عن الظلم والفساد إلى مجموعتين ، الأولى : هي المجموعة التي سترحب ببرنامجه الإلهي ودعوته للتوحيد والإيمان وهذه

__________________

الوصف يبيّن لنا بأنّ الأرض التي بلغها «ذو القرنين» كانت مليئة بالمستنقعات ، بشكل كان ذو القرنين يشعر معه بأنّ الشمس كانت تغرب في هذه المستنقعات ، تماما كما يشعر بذلك مسافر البحر ، وسكّان السواحل الذين يشعرون بأنّ الشمس قد غابت في البحر أو خرجت منه!.

(١) ـ يظهر أن جملة( إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ ) استفهامية بالرغم من أنّ ظاهرها أنّها جملة خبرية.

(٢) «نكر» مشتقة من «منكر» بمعنى الشيء المجهول ؛ أي العذاب المجهول الذي لم يمكن تصوره.

٣٥١

ستجزى بالحسنى وستعيش حياة آمنة ومطمئنة. أمّا الثّانية : فستتخذ موقفا عدائيا من دعوة ذي القرنين وتقف في الجبهة المناوئة ، وتستمر في شركها وظلمها ، وتواصل فسادها. وهي لذلك ستعاقب نتيجة موقفها هذا أشدّ العقاب.

وبمقارنة قوله :( مَنْ ظَلَمَ ) وقوله :( مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ) يتبيّن لنا أنّ الظلم يعني هنا الشرك والعمل غير الصالح الذي يعدّ من ثمار شجرة الشرك المشؤومة.

وعند ما انتهى «ذو القرنين» من سفره إلى الغرب توجه إلى الشرق حيث يقول القرآن في ذلك :( ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً ) أي استخدم الوسائل والإمكانات التي كانت بحوزته.

( حَتَّى إِذا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ ) . وهنا رأى أنّها :( وَجَدَها تَطْلُعُ عَلى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِها سِتْراً ) . وفي اللفظ كناية عن أنّ حياة هؤلاء الناس بدائية جدّا ، ولا يملكون سوى القليل من الملابس التي لا تكفي لتغطية أبدانهم من الشمس.

أمّا بعض المفسّرين فلم يستبعدوا افتقار هؤلاء الناس إلى المساكن التي تحميهم من الشمس(١) .

وهناك احتمال آخر يطرحه البعض ، ويرى أن يكون هؤلاء القوم في أرض صحراوية تفتقر للجبال والأشجار والملاجئ ، وأن ليس في تلك الصحراء ما يمكّن هؤلاء القوم من حماية أنفسهم من الشمس من غطاء أو غير ذلك(٢) .

__________________

(١) أشارت بعض الرّوايات الواردة عن أهل البيتعليهم‌السلام إلى التّفسير الأوّل ، فيما أشارت روايات أخرى إلى التّفسير الثّاني. وليس ثمّة تناقض بين الإثنين (يراجع نور الثقلين ، ج ٣ ، ص ٣٠٦).

(٢) تفسير في ظلال القرآن ، والفخر الرازي أثناء تفسير الآية.

٣٥٢

بالطبع ليس هناك تعارض بين التفاسير هذه ، قوله تعالى :( كَذلِكَ وَقَدْ أَحَطْنا بِما لَدَيْهِ خُبْراً ) . هكذا كانت أعمال «ذو القرنين» ونحن نعلم جيدا بإمكاناته.

بعض المفسّرين قال : إنّ هذه الآية تشير إلى الهداية الإلهية لذي القرنين في برامجه ومساعيه(١) .

* * *

__________________

(١) الميزان ، ج ١٣ ، ص ٣٩١.

٣٥٣

الآيات

( ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً (٩٢) حَتَّى إِذا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِما قَوْماً لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً (٩٣) قالُوا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا (٩٤) قالَ ما مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً (٩٥) آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذا ساوى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذا جَعَلَهُ ناراً قالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً (٩٦) فَمَا اسْطاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطاعُوا لَهُ نَقْباً (٩٧) قالَ هذا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا (٩٨) )

التّفسير

كيف تمّ بناء سد ذي القرنين؟

الآيات أعلاه تشير إلى سفرة أخرى من أسفار ذي القرنين حيث تقول :( ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً ) .

٣٥٤

أي بعد هذه الحادثة استفاد من الوسائل المهمّة التي كانت تحت تصرفه ومضى في سفره حتى وصل إلى موضع بين جبلين :( حَتَّى إِذا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِما قَوْماً لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً ) .

والآية إشارة إلى أنّه وصل إلى منطقة جبلية ، وهناك وجد أناسا (غير المجموعتين اللتين عثر عليهما في الشرق والغرب) كانوا على مستوى دان من المدنية ، لأنّ الكلام أحد أوضح علائم التمدّن لدى البشر.

البعض احتمل أنّ جملة( لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً ) لا تعني أنّهم لم يكونوا يعرفون اللغات ، بل كانوا لا يفهمون محتوى الكلام ، أي كانوا متخلفين فكريا.

أمّا عن مكان الجبل والجوانب التأريخية والجغرافية لهذه الحادثة ، وسنذكر في نهاية البحث التّفسيري ، حديثا مفصلا عن ذلك.

في هذه الأثناء اغتنم هؤلاء القوم مجيء ذي القرنين ، لأنّهم كانوا في عذاب شديد من قبل أعدائهم يأجوج ومأجوج ، لذا فقد طلبوا العون منه قائلين :( قالُوا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا ) .

قد يكون كلامهم هذا تمّ عن طريق تبادل العلامات والإشارات ، لأنّهم لا يفهمون لغة ذي القرنين ، أو أنّهم تحدثوا معه بعبارات ناقصة لا يمكن الاعتداد بها.

ويحتمل أن يكون التفاهيم بينهم تمّ عن طريق المترجمين ، أو بأسلوب الإلهام الإلهي ، مثل تحدّث بعض الطيور مع سليمانعليه‌السلام .

في كل الأحوال ، يمكن أن نستفيد من الآية الشريفة أنّ تلك المجموعة من الناس كانت ذات وضع جيّد من حيث الإمكانات الاقتصادية ، إلّا أنّهم كانوا ضعفاء في المجال الصناعي والفكري والتخطيطي ، لذا فقد تقبلوا بتكاليف بناء هذا السد المهم ، بشرط أن يتكفل ذو القرنين ببنائه وهندسته.

٣٥٥

وفيما يخص يأجوج ومأجوج سنتحدث عنهم في نهاية هذا البحث إن شاء الله.

أمّا ذو القرنين فقد أجابهم :( قالَ ما مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ ) ، وأنّي لا أحتاج إلى مساعدتكم المالية وإنّما :( فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً ) .

كلمة «ردم» على وزن «طرد» وهي في الأصل تعني ملء الشق بالأحجار ، إلّا أنّها فيما بعد أخذت معنى واسعا بحيث شمل كل سد ، بل وشمل حتى ترقيع الملابس.

يعتقد بعض المفسّرين أنّ كلمة «ردم» تقال للسد القوي(١) ، ووفقا لهذا التّفسير فإنّ ذا القرنين قد وعدهم بأكثر ممّا كانوا ينتظرونه.

كما أنّه يجب الانتباه إلى أنّ «سد» على وزن «قد» ، و «سدّ» على وزن «قفل» هما بمعنى واحد ، وهو الحائل الذي يفصل بين شيئين ، إلّا أنّ البعض ـ كما يقول الراغب ـ وضع فرقا بين الإثنين ، فالأوّل هو من صناعة الإنسان ، والثّاني هو الحائل الطبيعي.

ثمّ أمر ذو القرنين فقال :( آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ ) .

«زبر» جمع «زبرة» على وزن (غرفة) ، وتعني القطع الكبيرة والضخيمة من الحديد.

وعند ما تهيأت قطع الحديد أعطى أمرا بوضع بعضها فوق البعض الآخر حتى غطّي بين الجبلين بشكل كامل :( حَتَّى إِذا ساوى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ ) .

«صدف» تعني هنا حافة الجبل ، ويتّضح من هذا التعبير أنّ هناك شقا بين حافتي الجبل حيث كان يأجوج ومأجوج يدخلان منه ، وقد صمم ذو القرنين ملأ هذا الشق.

الأمر الثّالث لذي القرنين هو طلبه منهم أن يجلبوا الحطب وما شابهه ،

__________________

(١) «الآلوسي» في «روح المعاني» ، والفيض الكاشاني في تفسير «الصافي» ، والفخر الرازي في «التّفسير الكبير».

٣٥٦

ووضعه على جانبي هذا السد ، وأشعل النار فيه ثمّ أمرهم بالنفخ فيه حتى احمرّ الحديد من شدة النّار :( قالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذا جَعَلَهُ ناراً ) .

لقد كان يهدف ذو القرنين من ذلك ربط قطع الحديد بعضها ببعض ليصنع منها سدا من قطعة واحدة ، وعن طريق ذلك ، قام ذو القرنين بنفس عمل «اللحام» الذي يقام به اليوم في ربط أجزاء الحديد بعضها ببعض.

أخيرا أصدر لهم الأمر الأخير فقال : اجلبوا لي النحاس المذاب حتى أضعه فوق هذا السد :( قالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً ) .

وبهذا الشكل قام بتغطية هذا السد الحديدي بطبقة النحاس حتى لا ينفذ فيه الهواء ويحفظ من التآكل.

بعض المفسّرين قالوا : إنّ علوم اليوم أثبتت أنّه عند إضافة مقدار من النحاس إلى الحديد فإنّ ذلك سيزيد من مقدار مقاومته ، ولأنّ «ذا القرنين» كان عالما بهذه الحقيقة فقد أقدم على تنفيذه.

إنّ المشهور في معنى «قطر» هو ما قلناه (أي النحاس المذاب) ، إلّا أنّ بعض المفسّرين فسّر ذلك بـ «الخارصين المذاب» وهو خلاف المتعارف عليه.

وأخيرا ، أصبح هذا السد بقدر من القوّة والإحكام بحيث :( فَمَا اسْطاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطاعُوا لَهُ نَقْباً ) .

لقد كان عمل ذي القرنين عظيما ومهما ، وكان له وفقا لمنطق المستكبرين ونهجهم أن يتباهى به أو يمنّ به ، إلّا أنّه قال بأدب كامل :( قالَ هذا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي ) لأنّ أخلاقه كانت أخلاقا إلهية.

إنّه أراد أن يقول : إذا كنت أملك العلم والمعرفة وأستطيع بواسطتهما أن أخطو خطوات مهمّة ، فإنّ كل ذلك إنما كان من قبل الخالق جلّ وعلا ، وإذا كنت أملك قابلية الكلام والحديث المؤثّر فذلك أيضا من الخالق جلّ وعلا.

وإذا كانت مثل هذه الوسائل والأفكار في اختياري فإنّ ذلك من بركة الله

٣٥٧

ورحمته الخالق الواسعة.

أراد ذو القرنين أن يقول : إنّني لا أملك شيئا من عندي كي أفتخر به ، ولم أعمل عملا مهما كي أمنّ على عباد الله.

ثمّ استطرد قائلا : لا تظنوا أنّ هذا السد سيكون أبديا وخالدا :( فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ ) .

( وَكانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا ) .

لقد أشار ذو القرنين في كلامه هذا إلى قضية فناء الدنيا وتحطّم هيكل نظام الوجود فيها عند البعث.

لكن بعض المفسّرين اعتبر الوعد الإلهي إشارة إلى التقدم العلمي للبشر والذي بواسطته لا يبقى معنى لسد غير قابل للاختراق والعبور ، فالطائرات وما شابهها تستطيع أن تعبر جميع هذه الموانع. ولكن هذا التّفسير بعيد حسب الظاهر.

* * *

بحوث

أولا ـ الملاحظات التربوية في هذه القصة التأريخية

سنبحث فيما بعد ـ إن شاء الله ـ ما يتعلق بذي القرنين ؛ من هو؟ وكيف تمّ سفره للشرق والغرب ؛ وأين كان السد الذي أنشأه؟ وغير ذلك ، ولكن بصرف النظر عن الجوانب التأريخية ، فإنّ القصّة بشكل عام تحوي على دروس تربوية كثيرة من الضروري الالتفات إليها والإفادة منها ، وفي الواقع أنّها هي الهدف القرآني من إيرادها. ويمكن تلخيص هذه الدروس بالشكل الآتي :

١ ـ إنّ أوّل درس تعلمنا إيّاه أنّ عمل هذه الدنيا لا يتمّ دون توفير أسبابه ، لذا فإنّ الله تبارك وتعالى وهب الوسائل والأسباب لتقدم وانتصار ذي القرنين في علمه :( وَآتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً ) . وفي نفس الوقت استفاد «ذو القرنين» من

٣٥٨

هذه الأسباب والوسائل بأفضل وجه ممكن :( فَأَتْبَعَ سَبَباً ) .

لذلك فإنّ من يظن أنّه سيحصل على النصر من دون تهيئة أسبابه ومقدماته ، فإنّه لا يصل إلى مرامه حتى لو كان ذا القرنين نفسه!

٢ ـ بالرغم من أنّ غروب الشمس في عين من ماء آسن سببه خطأ في الباصرة واشتباه منها ، إلّا أنّ المعنى الذي نلمحه من هذا المثال هو إمكان تغطية الشمس مع عظمتها بالعين الآسنة ومثلها في ذلك مثل ذلك الإنسان العظيم الذي يسقط وينهار بسبب خطأ واحد فتغرب شخصيته من انظار الناس.

٣ ـ لا تستطيع أي حكومة أن تنتصر بدون ترغيب الأنصار والأتباع ، ومعاقبة المذنبين والمخطئين ، وهذا هو نفس الأساس الذي اعتمد عليه ذو القرنين حيث قال:( قالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُ جَزاءً الْحُسْنى ) .

والإمام أمير المؤمنين عليعليه‌السلام بلور هذا المعنى في رسالته إلى مالك الأشتر والتي هي برنامج كامل لإدارة البلاد ، إذ يقولعليه‌السلام : «ولا يكونن المحسن والمسيء عندك بمنزلة سواء، فإنّ في ذلك تزهيدا لأهل الإحسان في الإحسان ، وتدريبا لأهل الإساءة على الإساءة»(١) .

٤ ـ التكليف الشاق والتصعّب في الأمور وتحميل الناس ما لا يطيقون ، كل هذه الأمور لا تناسب الحكومة الإلهية العادلة أبدا ، ولهذا السبب فإنّ ذا القرنين بعد أن صرّح بمعاقبة الظالمين وتشويق الصالحين ، أضاف :( وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنا يُسْراً ) حتى يمكن إنجاز الأعمال عن شوق ورغبة.

٥ ـ الحكومة الكبيرة ذات الإمكانات الواسعة لا تتغاضى عن التفاوت والاختلاف القائم في حياة الناس وتراعى شرائط حياتهم المختلفة ، ولهذا السبب فإنّ «ذو القرنين» صاحب الحكومة الإلهية والذي واجهته أقوام مختلفة ، كان

__________________

(١) نهج البلاغة ، الرسالة رقم ٥٣.

٣٥٩

يتعامل مع كل مجموعة بما يناسب حياتها الخاصّة ، وبذلك كان الجميع منضوين تحت لوائه.

٦ ـ إنّ «ذو القرنين» لم يستعبد حتى تلك المجموعة التي لم تكن تفهم الكلام ، أو كما وصفهم القرآن :( لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً ) بل إنّه استمع إلى مشاكلهم ، ودأب على رفع احتياجاتهم بأي أسلوب كان ، وبنى لهم سدا محكما بينهم وبين أعدائهم اللدودين (يأجوج ومأجوج) وقد قام بإنجاز أمورهم بدون أن يفرّق بينهم (رغم أنّه كان يظهر أنّ مثل هؤلاء الناس عديمي الفهم لا ينفعون الحكومة بأي شيء).

وفي حديث عن الإمام الصادقعليه‌السلام نقرأ قوله : إسماع الأصم من غير تصعرّ صدقة هنيئة»(١) .

٧ ـ الأمن هو أوّل وأهم شرط من شروط الحياة الاجتماعية السالمة ، لهذا السبب تحمّل «ذو القرنين» أصعب الأعمال وأشقها لتأمين أمن القوم من أعدائهم ، وقد استفاد من أقوى السدود وأمنعها الذي أصبح مضرب الأمثال في التأريخ ورمزا للاستحكام والدوام والبقاء ، حيث يقال لبناء القوي «إنّه مثل سدّ الإسكندر» بالرغم من أن «ذو القرنين» غير الإسكندر.

وعادة لا يسعد المجتمع من دون قطع الطريق على المفسدين ، ولهذا فإنّ أوّل شيء طلبه إبراهيمعليه‌السلام عند بناء الكعبة هو الأمن :( رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً ) (٢) .

ولهذا السبب أيضا فإنّ الفقه الإسلامي وضع أقسى العقوبات للذين يعرضون أمن المجتمع إلى الخطر (راجع في ذلك تفسير الآية (٣٣) من سورة المائدة).

__________________

(١) سفينة البحار ، ج ٢ ، مادة «صمم».

(٢) سورة إبراهيم ، ٣٥.

٣٦٠

ويمكن ان تكون الجملة( وَيُنْشِئُ السَّحابَ الثِّقالَ ) لها علاقة بالبرق الذي يصنع هذه الغيوم المليئة بالمياه.

الآية الاخرى تشير الى صوت الرعد الذي يتزامن مع البرق( وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ ) (1) .

نعم ، فهذا الصوت المدوّي في عالم الطبيعة يضرب به المثل ، فهو مع البرق في خدمة هدف واحد ولهما منافع متعدّدة كما أشرنا إليها ، ويقومان بعملية التسبيح ، وبعبارة اخرى فالرعد لسان حال البرق يحكي عن عظمة الخالق وعن نظام التكوين. فهو كتاب معنوي ، وقصيدة غرّاء ، ولوحة جميلة وجذّابة ، نظام محكم ومنظّم ومحسوب بدقّة ، وبلسان حاله يتحدّث عن علم ومهارة وذوق الكاتب والرسام والمعمار ويحمده ويثني عليه ، كلّ ذرّات هذا العالم لها اسرار ونظام دقيق. وتحكي عن تنزيه الله وخلوّه من النقص والعيوب (وهل التسبيح غير ذلك؟!).

وتتحدّث عن قدرته وحكمته (وهل الحمد غير بيان صفات الكمال؟!).

وقد احتمل بعض الفلاسفة انّ لكلّ ذرّات هذا العالم نوعا من العقل والشعور ، فهي من خلال هذا العقل تسبّح الله وتقدّسه ، ليس بلسان الحال فقط ، بل بلسان المقال ايضا.

وليس الرعد وسائر اجزاء العالم تسبّح بحمده تعالى ، بل حتّى الملائكة( وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ ) (2) فهم يخافون من تقصيرهم في تنفيذ الأوامر الملقاة على عاتقهم ، وبالتالي فهم يخشون العقاب الالهي ، ونحن نعلم انّ الخوف يصيب أولئك الذين يحسّون بمسؤولياتهم ووظائفهم خوف بنّاء يحثّ الشخص على

__________________

(1) للتوضيح اكثر في معنيي التسبيح والتقديس للكائنات سيأتي في ذيل الآية( وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ ) الاسراء ، 44.

(2) يقول الشيخ الطوسيرحمه‌الله في تفسيره التبيان : الخيفة بيان لحالة الشخص امّا الخوف فمصدر.

٣٦١

السعي والحركة.

وللتوضيح اكثر في مجال البرق والرعد تشير الآية الى الصاعقة( وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ ) ومع كلّ ذلك ـ وبمشاهدة آيات العظمة الالهية في عالم التكوين من السّماء والأرض والنباتات والأشجار والبرق والرعد وأمثالها ، وفي قدرة الإنسان الحقيرة تجاه هذه الحوادث ، حتّى في مقابل واحدة منها مثل شرارة البرق ـ نرى انّ هناك جماعة جاهلة تجادل في الله( وَهُمْ يُجادِلُونَ فِي اللهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحالِ ) .

«المحال» في الأصل «الحيلة» بمعنى التدبير السرّي وغير الظاهر ، فالذي له القدرة على هذا التدبير يمتلك العلم والحكمة العالية ، ولهذا السبب يستطيع ان ينتصر على أعدائه ولا يمكن الفرار من حكومته.

وذكر المفسّرون وجوها عديدة في تفسير( شَدِيدُ الْمِحالِ ) فتارة بمعنى «شديد القوّة» ، او «شديد العذاب» ، او «شديد القدرة» او «شديد الأخذ»(1) .

الآية الاخيرة تشير الى مطلبين :

الاوّل : قوله تعالى :( لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِ ) فهو يستجيب لدعواتنا ، وهو عالم بدعاء العباد وقادر على قضاء حوائجهم ، ولهذا السبب يكون دعاؤنا ايّاه وطلبنا منه حقّا ، وليس باطلا.

ولكن دعاء الأصنام باطل( وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ ) نعم هكذا في دعوة الباطل ليست اكثر من وهم ، لانّ ما يقولونه من علم وقدرة الأصنام ما هو الّا أوهام وخيال ، او ليس الحقّ هو عين الواقع واصل الخير والبركة؟ والباطل هو الوهم واصل الشرّ والفساد؟ ولتصوير هذا الموضوع يضرب لنا القرآن الكريم مثالا حيّا ورائعا يقول :( إِلَّا كَباسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْماءِ لِيَبْلُغَ

__________________

(1) فسر البعض «المحال» من «المحل ، الماحل» بمعنى المكر والجدال والتصميم على العقوبة ، ولكن ما أشرنا اليه أعلاه هو الصحيح ، والتفسيران قريبا المعنى.

٣٦٢

فاهُ وَما هُوَ بِبالِغِهِ ) . فهل يستطيع احد ان يجلس على بئر ويطلب الماء بإشارة يد ليبلغ الماء فاه؟ هذا العمل لا يصدر الّا من انسان مجنون!

وتحتمل الآية تفسيرا آخر ، فهي تشبّه المشركين كمن بسط كفّه في الماء ليتجمع فوقها الماء ، وعند خروجها من الماء لم يجد فيها شيئا منه لانّ الماء يتسرّب من بين أصابع الكفّ المفتوحة.

وهناك تفسير ثالث وهو انّ المشركين ـ لحلّ مشاكلهم ـ كانوا يلجأون الى الأصنام ، فمثلهم مثل الذي يحتفظ بالماء في يده ، هل يحفظ الماء في يد؟! وهناك مثل معروف بين العرب لمن يسعى بدون فائدة يقال له : هو كقابض الماء باليد ، ويقول الشاعر :

فأصبحت فيما كان بيني وبينها

من الودّ مثل القابض الماء باليد

ولكنّنا نعتقد انّ التّفسير الاوّل أوضح!

وللتأكيد على هذا الحديث يأتي في نهاية الآية قوله تعالى :( وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ ) وايّ ضلال اكبر من ان يسعى الإنسان ويجتهد في السبيل الضالّ ولكنّه لا يصل الى مقاصده. ولا يحصل على شيء نتيجة تعبه وجهده.

الآية الأخيرة من هذه المجموعة ، ولكي تبرهن كيف انّ المشركين ضلّوا الطريق تقول :( وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ ) .

* * *

بحوث

1 ـ ما هو المقصود من سجود الكائنات؟

السجدة في هذه الموارد تعني الخضوع والتسليم ، فإنّ جميع الملائكة

٣٦٣

والناس ذوي العقول والأفكار متواضعين لله وخاضعين لأوامره ، وهناك نوعان من السجود ، سجود تكويني وهو انّ الكلّ خاضعون ومسلّمون للقوانين الطبيعيّة مثل الحياة والممات والمرض و و ، والبعض منهم له سجود تشريعي بالاضافة الى السجود التكويني ، فهم بميلهم وإرادتهم يسجدون لله.

2 ـ ما هو معنى( طَوْعاً وَكَرْهاً ) ؟

عبارة( طَوْعاً وَكَرْهاً ) يمكن ان تكون اشارة الى انّ المؤمنين خاضعون لله بميلهم وإرادتهم ، وامّا غير المؤمنين فهم خاضعون كذلك للقوانين الطبيعيّة التي تسير بأمر الله ان شاؤوا وان أبوا.

و (الكره) بضمّ الكاف تعني الكراهية في داخل الإنسان ، و (كره) بفتح الكاف ما حمل عليه الإنسان من خارج نفسه ، وبما انّ الأشخاص غير المؤمنين مقهورون للعوامل الخارجية وللقوانين الطبيعيّة ، استعمل القرآن (كره) بفتح الكاف.

ويحتمل في تفسير( طَوْعاً وَكَرْهاً ) انّ المقصود من «طوعا» هو التوافق والميل الفطري والطبيعي بين الإنسان والأسباب الطبيعيّة (مثل حبّ اي انسان للحياة) والمقصود من «كرها» هو ما فرض على الإنسان من الخارج مثل موت أحد الأشخاص بسبب المرض او اي عامل طبيعي آخر.

3 ـ ما هو معنى كلمة الظلال؟

«الظّلال» جمع «ظل» واستعمال هذه الكلمة في الآية يشير الى انّ المقصود في السجود ليس فقط السجود التشريعي ، فظلال الكائنات ليست خاضعة لارادتهم واختيارهم ، بل هو تسليم لقانون الضوء ، وعلى هذا يكون سجودهم تكويني ، يعني التسليم لقوانين الطبيعيّة.

٣٦٤

وطبيعي ليس المقصود من «الظلال» انّ جميع ما في السّماوات والأرض لها وجود مادّي كي يكون لها ظلال ، ولكن الآية تشير الى تلك الأشياء التي لها ظلال ، فمثلا يقال : انّ جمعا من العلماء وأبنائهم شاركوا في المجلس الكذائي ، وليس المقصود هنا انّ لكلّ العلماء أبناء «فتدبّر».

وعلى ايّة حال فإنّ الظلّ امر عدمي ، وهو ليس اكثر من فقدان النّور ، ولكن له آثارا ووجودا بسبب النّور المحيط به ، ولعلّ الآية تشير الى هذه النقطة ، وهي انّه حتّى الظلال خاضعة لله.

4 ـ ما هو معنى كلوة( الْآصالِ ) ؟

«الآصال» جمع «اصل» وهي جمع «اصيل» ومعناه آخر وقت من النهار ، ولذلك يعتبر اوّل الليل ، والغدو جمع غداة بمعنى اوّل النهار.

ورغم انّ السجود والخضوع للأشياء الكونية في مقابل الأوامر الالهيّة دائمة ومستمرّة في كلّ وقت ، ولكن ذكرها هنا في موقعين (الصبح والعشاء) امّا انّه كناية عن دوام الوقت ، فمثلا تقول : انّ فلانا يطلب العلم صباحا ومساء ، فالمقصود وهو انّه في كلّ وقت يطلب العلم ، وامّا ان يكون المقصود من الآية ما جاء في الكلام عن الظلال والتي تكون واضحة اكثر في اوّل النهار وآخره.

* * *

٣٦٥

الآية

( قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ لا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَلا ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُماتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (16) )

التّفسير

لماذا عبادة الأصنام؟

كان البيان في الآيات السابقة عن معرفة الله واثبات وجوده ، وهذه الآية تبحث عن ضلال المشركين والوثنيين وتتناوله من عدّة جهات ، حيث تخاطب ـ اوّلا ـ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حيث تقول :( قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ) ثمّ تأمر النّبي ان يجيب على السؤال قبل ان ينتظر جوابهم( قُلِ اللهُ ) ثمّ انّه يلومهم ويوبّخهم بهذه الجملة( قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ لا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَلا ضَرًّا ) .

لقد بيّن ـ اوّلا ـ عن طريق ربوبيته انّه المدبّر والمالك لهذا العالم ، ولكلّ خير

٣٦٦

ونفع من جانبه ، وقادر على دفع اي شرّ وضرّ ، وهذا يعني انّكم بقبولكم لربوبيته يجب ان تطلبوا كلّ شيء من عنده لا من الأصنام العاجزة عن حلّ ايّة مشكلة لكم. ثمّ يذهب الى ابعد من ذلك حيث يقول : انّ هذه الأصنام لا تملك لنفسها نفعا ولا ضرّا فكيف يمكنها ان تنفعكم او تضرّكم؟ وهم والحال هذه لا يحلّون اي عقدة لكم حتّى لو قمتم بعبادتهم ، فهؤلاء لا يستطيعون تدبير أنفسهم فما ذا ينتظر منهم؟

ثمّ يذكر مثالين واضحين وصريحين يحدّد فيها وضع الافراد الموحّدين والمشركين ، فيقول اوّلا :( قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ ) فكما لا يستوي الأعمى والبصير لا يستوي المؤمن والكافر ، ولا يصحّ قياس الأصنام على الخالق جلّ وعلا.

ويقول ثانيا :( أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُماتُ وَالنُّورُ ) كيف يمكن ان نساوي بين الظلام الذي يعتبر قاعدة الانحراف والضلال ، وبين النّور المرشد والباعث للحياة ، وكيف يمكن ان نجعل الأصنام التي هي الظّلمات المحضة الى جنب الله الذي هو النّور المطلق ، وما المناسبة بين الايمان والتوحيد اللذان هما نور القلب والروح ، وبين الشرك اصل الظلام؟!

ثمّ يدلل على بطلان عقيدة المشركين عن طريق آخر فيقول :( أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ ) والحال ليس كذلك ، فإنّ المشركين أنفسهم لا يعتقدون بها ، فهم يعلمون انّ الله خالق كلّ شيء ، وعالم الوجود مرتبط به ، ولذلك تقول الآية :( قُلِ اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْواحِدُ الْقَهَّارُ ) .

* * *

٣٦٧

بحوث

1 ـ الخالقية والرّبوبية يتطلّبان العبادة

يمكن ان يستفاد من الآية أعلاه انّ الخالق هو الربّ المدبّر ، لانّ الخلقة امر مستمر ودائمي ، وليس من خلق الكائنات يتركهم وشأنهم ، بل انّه تعالى يفيض بالوجود عليهم باستمرار وكلّ شيء يأخذ وجوده من ذاته المقدّسة ، وعلى هذا فنظام الخلقة وتدبير العالم كلّها بيد الله ، ولهذا السبب يكون هو النافع والضارّ. وغيره لا يملك شيء الّا منه ، فهل يوجد احد غير الله احقّ بالعبادة؟

2 ـ كيف يسأل ويجيب بنفسه؟

بالنظر الى الآية أعلاه يطرح هذا السؤال : كيف امر الله نبيّه ان يسأل المشركين : من خلق السماوات والأرض؟ وبعدها بدون ان ينتظر منهم الجواب يأمر النّبي ان يجيب هو على السؤال وبدون فاصلة يوبّخ المشركين على عبادتهم الأصنام ، اي طراز هذا في السؤال والجواب؟

ولكن مع الالتفات الى هذه النقطة يتّضح لنا الجواب وهو انّه في بعض الأحيان يكون الجواب للسؤال واضح جدّا ولا يحتاج الى الانتظار. فمثلا نسأل أحدا : هل الوقت الآن ليل ام نهار؟ وبلا فاصلة نجيب نحن على السؤال فنقول : الوقت بالتأكيد ليل. وهذه كناية لطيفة ، حيث انّ الموضوع واضح جدّا ولا يحتاج الى الانتظار للجواب ، بالاضافة الى انّ المشركين يعتقدون بخلق الله للعالم ولم يقولوا ابدا انّ الأصنام خالقة السّماء والأرض ، بل كانوا يعتقدون بشفاعتهم وقدرتهم على نفع الإنسان ودفع الضرر عنه ، ولهذا السبب كانوا يعبدوهم. وبما انّ الخالقية غير منفصلة عن الرّبوبية يمكن ان نخاطب المشركين بهذا الحديث ونقول : أنتم الذين تقولون بأنّ الله خالق ، يجب ان تعرفوا انّ الربوبية لله كذلك ،

٣٦٨

ويختصّ بالعبادة ايضا لذلك.

3 ـ العين المبصرة ونور الشمس شرطان ضروريان

يشير ظاهر المثالين (الأعمى والبصير) و (الظّلمات والنّور) الى هذه الحقيقة ، وهي انّ النظر يحتاج الى شيئين : العين المبصرة ، وشعاع الشمس ، بحيث لو انتفى واحد منهما فإنّ الرؤية لا تتحقّق ، والآن يجب ان نفكّر : كيف حال الافراد المحرومين من البصر والنّور؟ المشركون المصداق الواقعي لهذا ، فقلوبهم عمي ومحيطهم مليء بالكفر وعبادة الأصنام ، ولهذا السبب فهم في تيه وضياع. وعلى العكس فالمؤمنون بنظرهم الى الحقّ ، واستلهامهم من نور الوحي وارشادات الأنبياء عرفوا مسيرة حياتهم بوضوح.

4 ـ هل انّ خلق الله لكلّ شيء دليل على الجبر؟

استدلّ جمع من اتباع مدرسة الجبر انّ جملة( اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ ) في الآية أعلاه لها من السعة بحيث تشمل حتّى عمل الافراد ، فالله خالق اعمالنا ونحن غير مختارين.

يمكن ان نجيب على هذا القول بطريقين :

اوّلا : الجمل الاخرى للآية تنفي هذا الكلام ، لانّها تلوم المشركين بشكل اكيد فإذا كانت اعمالنا غير اختيارية ، فلما ذا هذا التوبيخ؟! وإذا كانت ارادة الله ان نكون مشركين فلما ذا يلومنا؟! ولماذا يسعى بالأدلّة العقليّة لتغيير مسيرتهم من الضلالة الى الهداية؟ كلّ هذا دليل على أنّ الناس أحرار في انتخاب طريقهم.

ثانيا : انّ الخالقية بالذات من مختصّات الله تعالى. ولا يتنافى مع اختيارنا في الأفعال ، لانّ ما نمتلكه من القدرة والعقل والشعور ، وحتّى الاختيار والحرية ، كلّها

٣٦٩

من عند الله ، وعلى هذا فمن جهة هو الخالق (بالنسبة لكلّ شيء وحتّى أفعالنا) ومن جهة اخرى نحن نفعل باختيارنا ، فهما في طول واحد وليس في عرض وأفق واحد ، فهو الخالق لكلّ وسائل الأفعال ، ونحن نستفيد منها في طريق الخير او الشرّ.

فمثلا الذي يؤسّس معملا لتوليد الكهرباء او لإنتاج أنابيب المياه ، يصنعها ويضعها تحت تصرّفنا ، فلا يمكن ان نستفيد من هذه الأشياء الّا بمساعدته ، ولكن بالنتيجة يكون التصميم النهائي لنا ، فيمكن ان نستفيد من الكهرباء لامداد غرفة عمليات جراحية وانقاذ مريض مشرف على الموت ، او نستخدمها في مجالس اللهو والفساد ، ويمكن ان نروي بالماء عطش انسان ونسقي وردا جميلا ، او نستخدم الماء في إغراق دور الناس وتخريبها.

* * *

٣٧٠

الآية

( أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رابِياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْحَقَّ وَالْباطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ (17) )

التّفسير

وصف دقيق لمنظر الحقّ والباطل :

يستند القرآن الكريم ـ الذي يعتبر كتاب هداية وتربية ـ في طريقته الى الوقائع العينيّة لتقريب المفاهيم الصعبة الى أذهان الناس من خلال ضرب الأمثال الحسّية الرائعة من حياة الناس ، وهنا ـ ايضا ـ لأجل ان يجسّم حقائق الآيات السابقة التي كانت تدور حول التوحيد والشرك ، الايمان والكفر ، الحقّ والباطل ، يضرب مثلا واضحا جدّا لذلك

يقول اوّلا :( أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً ) الماء عماد الحياة واصل النمو والحركة ،

٣٧١

( فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها ) تتقارب السواقي الصغيرة فيما بينها ، وتتكوّن الأنهار وتتّصل مع بعضها البعض ، فتسيل المياه من سفوح الجبال العظيمة والوديان وتجرف كلّ ما يقف امامها ، وفي هذه الأثناء يظهر الزّبد وهو ما يرى على وجه الماء كرغوة الصابون من بين أمواج الماء حيث يقول القرآن الكريم :( فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رابِياً ) .

«الرابي» من «الربو» بمعنى العالي او الطافي ، والربا بمعنى الفائدة مأخوذ من نفس هذا الأصل.

وليس ظهور الزبد منحصرا بهطول الأمطار ، بل( وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ ) (1) اي الفلزات المذابة بالنّار لصناعة أدوات الزينة منها او صناعة الوسائل اللازمة في الحياة.

بعد بيان هذا المثال بشكله الواسع لظهور الزبد ليس فقط في الماء بل حتّى للفلزات وللمتاع ، يستنتج القرآن الكريم( كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْحَقَّ وَالْباطِلَ ) ثمّ يتطرّق الى شرحه فيقول :( فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ ) .

فأمّا الزبد الذي لا فائدة فيه فيذهب جفاء ويصير باطلا متلاشيا ، وامّا الماء الصافي النقي المفيد فيمكث في الأرض او ينفذ الى الاعماق وتتكوّن منه العيون والآبار تروي العطاش ، وتروي الأشجار لتثمر ، والازهار لتتفتّح ، وتمنح لكلّ شيء الحياة.

وفي آخر الآية ـ للمزيد من التأكيد في مطالعة هذه الأمثال ـ يقول تعالى :( كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ ) .

* * *

__________________

(1) تشير هذه الآية الى الافران التي تستعمل لصهر الفلزان ، فهذه الافران تتميّز بوجود النّار من تحتها ومن فوقها يعني نار تحت الفلز ونار فوقه ، وهذه من أفضل انواع الافران حيث تحيط بها النّار من كلّ جانب.

٣٧٢

بحوث

هذا المثال البليغ الذي عبّر عنه القرآن الكريم بألفاظ موزونة وعبارات منظّمة. وصوّر فيها الحقّ والباطل بأروع صورة ، فيه حقائق مخفيّة كثيرة ونشير هنا الى قسم منها :

1 ـ ما هي علائم معرفة الحقّ والباطل؟

يحتاج الإنسان في بعض الأحيان لمعرفة الحقّ والباطل ـ إذا أشكل عليه الأمر ـ الى علائم وأمثال حتّى يتعرّف من خلالها على الحقائق والأوهام. وقد بيّن القرآن الكريم هذه العلامات من خلال المثال أعلاه :

الف : ـ الحقّ مفيد ونافع دائما ، كالماء الصافي الذي هو اصل الحياة. امّا الباطل فلا فائدة فيه ولا نفع ، فلا الزبد الطافي على الماء يروي ظمآنا أو يسقي أشجارا ، ولا الزبد الظاهر من صهر الفلزات يمكن ان يستفاد منه للزينة او للاستعمالات الحياتية الاخرى ، وإذا استخدمت لغرض فيكون استخدامها رديئا ولا يؤخذ بنظر الاعتبار كما نستخدم نشارة الخشب للإحراق.

باء : ـ الباطل هو المستكبر والمرفّه كثير الصوت ، كثير الأقوال لكنّه فارغ من المحتوى ، امّا الحقّ فمتواضع قليل الصوت ، وكبير المعنى ، وثقيل الوزن(1) .

جيم ـ الحقّ يعتمد على ذاته دائما ، امّا الباطل فيستمدّ اعتباره من الحقّ ويسعى للتلبّس به ، كما انّ (الكذب يتلبّس بضياء الصدق) ولو فقد الكلام الصادق من العالم لما كان هناك من يصدق الكذب. ولو فقدت البضاعة السليمة من العالم لما وجد من يخدع ببضاعة مغشوشة. وعلى هذا فوجود الباطل راجع الى شعاعه الخاطف واعتباره المؤقّت الذي سرقه من الحقّ ، امّا الحقّ فهو مستند الى نفسه واعتباره منه.

__________________

(1) يقول الامام عليعليه‌السلام في وصفه أصحابه يوم الجمل «وقد ارعدوا وابرقوا ومع هذين الأمرين الفشل ، ولسنا نرعد حتّى نوقع ولا نسيل حتّى نمطر».

٣٧٣

2 ـ ما هو الزّبد؟

«الزبد» بمعنى الرغوة التي تطفوا على السائل ، والماء الصافي اقلّ رغوة ، لانّ الزبد يتكوّن بسبب اختلاط الأجسام الخارجية مع الماء ، ومن هنا يتّضح انّ الحقّ لو بقي على صفائه ونقائه لم يظهر فيه الخبث ابدا ، ولكن لامتزاجه بالمحيط الخارجي الملوّث فإنّه يكتسب منه شيئا ، فتختلط الحقيقة مع الخرافة ، والحقّ بالباطل ، والصافي بالخابط. فيظهر الزبد الباطل الى جانب الحقّ.

وهذا هو الذي يؤكّده الامام عليعليه‌السلام حيث يقول : لو انّ الباطل خلص من مزاج الحقّ لم يخف على المرتادين ، ولو انّ الحقّ خلص من لبس الباطل انقطعت عنه السن المعاندين».(1) .

يقول بعض المفسّرين انّ للآية أعلاه ثلاث امثلة : «نزول آيات القرآن» تشبيه بنزول قطرات المطر للخير ، «قلوب الناس» شبيهة بالأرض والوديان وبقدر وسعها يستفاد منها ، «وساوس الشيطان» شبيهة بالزبد الطافي على الماء ، فهذا الزبد ليس من الماء ، بل نشأ من اختلاط الماء بمواد الأرض الاخرى ، ولهذا السبب فوساوس النفس والشيطان ليست من التعاليم الالهية ، بل من تلوّث قلب الإنسان ، وعلى ايّة حال فهذه الوساوس تزول عن قلوب المؤمنين ويبقى صفاء الوحي الموجب للهداية والإرشاد.

3 ـ الاستفادة تكون بقدر الاستعداد واللياقة!

يستفاد من هذه الآية ـ ايضا ـ انّ مبدا الفيض الالهي لا يقوم على البخل والحدود الممنوعة ، كما انّ السحاب يسقط امطاره في كلّ مكان بدون قيد او

__________________

(1) نهج البلاغة ، الخطبة 50.

٣٧٤

شرط ، وتستفيد الأرض والوديان منها على قدر وسعها ، فالأرض الصغيرة تستفيد اقلّ والأرض الواسعة تستفيد اكثر ، وهكذا قلوب الناس في مقابل الفيض الالهي.

4 ـ الباطل والأوضاع المضطربة

عند ما يصل الماء الى السهل او الصحراء ويستقرّ فيها ، تبدا المواد المختلطة مع الماء بالترشّح ويذهب الزبد فيظهر الماء النقي مرّة ثانية ، وعلى هذا النحو فالباطل يبحث عن سوق مضطربة حتّى يستفيد منها ، ولكن بعد استقرار السوق وجلوس كلّ تاجر في مكانه المناسب وتحقق الالتزامات والضوابط في المجتمع ، لا يجد الباطل له مكانا فينسحب بسرعة!

5 ـ الباطل يتشكّل بأشكال مختلفة

انّ واحدة من خصائص الباطل هي انّه يغيّر لباسه من حين لآخر ، حتّى إذا عرفوه بلباسه يستطيع ان يخفي وجهه بلباس آخر ، وفي الآية أعلاه اشارة لطيفة لهذه المسألة ، حيث تقول : لا يظهر الزبد في الماء فقط ، بل يظهر حتّى في الافران المخصوصة لصهر الفلزات بشكل ولباس آخر ، وبعبارة اخرى فإنّ الحقّ والباطل موجودان في كلّ مكان كما يظهر الزبد في السوائل بالشكل المناسب لها. وعلى هذا يجب ان لا نخدع بتنوّع الوجوه وان نعرف أوجه الباطل ونطرحه جانبا.

6 ـ ارتباط البقاء بالنفع

تقول الآية :( وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ ) ليس الماء فقط يبقى ويذهب الزبد الطافي عليه ، بل حتّى الفلزات تلك التي تستعمل للزينة او للمتاع

٣٧٥

يبقى الخالص منها ويذهب خبثه. وعلى هذا النحو فالناس والمدارس والمبادئ لهم حقّ الحياة على قدر منفعتهم ، وإذا ما رأينا بقاء اصحاب المبادئ الباطلة لفترة فإنّ ذلك بسبب وجود ذلك المقدار من الحقّ الذي اختلط فيه ، وبهذا المقدار له حقّ الحياة.

7 ـ كيف يطرد الحقّ الباطل؟

«الجفاء» بمعنى الإلقاء والإخراج ، ولهذا نكتة لطيفة وهي انّ الباطل يصل الى درجة لا يمكن فيها ان يحفظ نفسه ، وفي هذه اللحظة يلقى خارج المجتمع ، وهذه العملية تتمّ في حالة هيجان الحقّ ، فعند غليان الحقّ يظهر الزبد ويطفو على سطح ماء القدر ويقذف الى الخارج ، وهذا دليل على انّ الحقّ يجب ان يكون في حالة هيجان وغليان دائما حتّى يبعد الباطل عنه.

8 ـ الباطل مدين للحقّ ببقائه

كما قلنا في تفسير الآية ، فلو لم يكن الماء لما وجد الزبد ، ولا يمكن له ان يستمر ، كما انّه لولا وجود الحقّ فإنّ الباطل لا معنى له ولو لم يكن هناك اشخاص صادقون لما وقع احد تحت تأثير الافراد الخونة ولما صدّق بمكرهم ، فالشعاع الكاذب للباطل مدين في بقائه لنور الحقّ.

9 ـ صراع الحقّ والباطل مستمر

المثال الذي ضربه لنا القرآن الكريم في تجسيم الحقّ والباطل ليس مثالا محدودا في زمان ومكان معينين ، فهذا المنظر يراه الناس في جميع مناطق العالم المختلفة ، وهذا يبيّن انّ عمل الحقّ والباطل ليس مؤقتا وآنيا. وجريان الماء

٣٧٦

العذب والمالح مستمر الى نفخ الصور ، الّا إذا تحوّل المجتمع الى مجتمع مثالي (كمجتمع عصر الظهور وقيام الامام المهديعليه‌السلام ) فعنده ينتهي هذا الصراع ، وينتصر الحقّ ويطوي بساط الباطل ، وتدخل البشرية مرحلة جديدة من تاريخها ، والى ان نصل الى هذه المرحلة فالصراع مستمر بين الحقّ والباطل ، ويجب ان نحدّد موقفنا في هذا الصراع.

10 ـ تزامن الحياة مع السعي والجهاد

المثال الرائع أعلاه يوضّح هذا الأساس لحياة الناس ، وهو انّ الحياة بدون جهاد غير ممكنة ، والعزّة بدون سعي غير ممكنة ايضا ، لانّه يقول : يجب ان يذهب الناس الى المناجم لتهيئة مستلزمات حياتهم في المتاع والزينة( ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتاعٍ ) . وللحصول على هذين الشيئين يجب تنقية المواد الخام من الشوائب بواسطة نيران الافران للحصول على الفلز الخالص الصالح للاستعمال ، وهذا لا يتمّ الّا من خلال السعي والمجاهدة والعناء.

وهذه هي طبيعة الحياة حيث يوجد الى جانب الورد الشوك ، والى جانب النصر توجد المصاعب والمشكلات ، وقالوا في القديم : (الكنوز في الخرائب وفوق كلّ كنز يوجد ثعبان نائم) ، فإنّ هذه الخربة والثعبان تمثّلان المشاكل والصعوبات للحصول على الموفّقية في الحياة.

ويؤكّد القرآن الكريم هذه الحقيقة وهي انّ التوفيق لا يحصل الّا بتحمّل المصاعب والمحن ، يقول جلّ وعلا في الآية (214) من سورة البقرة :( أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ ) .

٣٧٧

الأمثال في القرآن :

انّ دور المثال في توضيح وتفسير الغايات له اهميّة كبيرة غير قابلة للإنكار ، ولهذا السبب لا يوجد اي علم يستغني عن ذكر المثال لاثبات وتوضيح الحقائق وتقريب معناها الى الأذهان ، وتارة ينطبق المثال مع المقصود بشكل يجعل المعاني الصعبة تنزل من السّماء الى الأرض وتكون مفهومة للجميع ، فيمكن ان يقال : انّ المثال له دور مؤثّر في مختلف الأبحاث العلمية والتربوية والاجتماعية والاخلاقية وغيرها ، ومن جملة تأثيراته :

1 ـ المثال يجعل المسائل محسوسة :

من المعلوم أنّ الإنسان يأنس بالمحسوسات أكثر ، أمّا الحقائق العلمية المعقّدة فهي بعيدة المنال. والأمثال تقرّب هذه الفواصل وتجعل الحقائق المعنوية محسوسة ، وإدراكها يسير ولذيذ.

2 ـ المثال يقرّب المعنى :

تارة يحتاج الإنسان لاثبات مسألة منطقية او عقلية الى ادلّة مختلفة ، ومع كلّ هذه الادلّة تبقى هناك نقاط مبهمة محيطة بها ، ولكن عند ذكر مثال واضح منسّق مع الغاية يقرّب المعنى ويعزّز الادلّة ويقلّل من كثرتها.

3 ـ المثال يعمّم المفاهيم

كثير من البحوث العلمية بشكلها الاصلي يفهمها الخواص فقط ، ولا يستفيد منها عامّة الناس ، ولكن عند ما يصحبها المثال تكون قابلة للفهم ، ويستفيد منها الناس على اختلاف مستوياتهم العلمية ، ولهذا فالمثال وسيلة لتعميم الفكر

٣٧٨

والثقافة.

4 ـ المثال ، يزيد في درجة التصديق :

مهما تكن الكليّات العقلية منطقية ، فإنّها لا تخلق حالة اليقين الكافية في ذهن الإنسان ، لانّ الإنسان يبحث عن اليقين في المحسوسات ، فالمثال يجعل من المسألة الذهنيّة واقعا عينيّا ، ويوضّحها في العالم الخارجي ، ولهذا السبب فإنّ له اثره في زيادة درجة تصديق المسائل وقبولها.

5 ـ المثال يخرس المعاندين :

كثيرا ما لا تنفع الادلّة العقليّة والمنطقيّة لاسكات الشخص المعاند حيث يبقى مصرّا على عناده ولكن عند ما نصب الحديث في قالب المثال نوصد الطريق عليه بحيث لا يبقى له مجال للتبرير ولا لاختلاق الاعذار. ولا بأس ان نطرح هنا بعض الامثلة حتّى نعرف مدى تأثيرها : نقرا في القرآن الكريم انّ الله سبحانه وتعالى يرد على الذين اشكلوا على ولادة السّيد المسيحعليه‌السلام كيف انّه ولد من امّ بغير أب( إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ) .(1)

لاحظوا جيدا ، فنحن مهما حاولنا ان نقول للمعاندين : انّ هذا العمل بالنسبة الى قدرة الله المطلقة لا شيء ، فمن الممكن ان يحتجّوا ايضا ، ولكن عند ما نقول لهم هل تعتقدون انّ آدم خلقه الله من تراب؟ فإنّ الله الذي له هذه القدرة كيف لا يستطيع إيجاد شخص بدون أب؟!

__________________

(1) آل عمران ، 59.

٣٧٩

وبالنسبة الى المنافقين الذين يقضون في ظلّ نفاقهم ايّاما مريحة ظاهرا ، فإنّ القرآن الكريم يضرب مثالا رائعا عن حالهم ، فيشبهّهم بالمسافرين في الصحراء فيقول( يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا وَلَوْ شاءَ اللهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) .(1) .

فهل يوجد أوضح من هذا الوصف للمنافق التائه في الطريق ، ليستفيد من نفاقه وعمله كي يستمرّ في حياته؟

وعند ما تقول للافراد : انّ الإنفاق يضاعفه لكم الله عدّة مرّات قد لا يستطيعون ان يفهموا هذا الحديث ، ولكن يقول القرآن الكريم :( مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ ) (2) ، وهذا المثال الواضح اقرب للإدراك.

وغالبا ما نقول : انّ الرياء لا ينفع الإنسان ، فقد يكون هذا الحديث ثقيلا على البعض ، كيف يمكن لهذا العمل ان يكون غير مفيد ، فبناء مستشفى او مدرسة حتّى لو كان بقصد الرياء لماذا ليست له قيمة عند الله؟!

ولكن يضرب الله مثالا رائعا حيث يقول :( فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوانٍ عَلَيْهِ تُرابٌ فَأَصابَهُ وابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً ) .(3) ولكي لا نبتعد كثيرا فالآية التي نحن بصدد تفسيرها تبحث في مجال الحقّ والباطل وتجسّم هذه المسألة بشكل دقيق ، المقدّمات والنتائج ، والصفات والخصوصيات والآثار ، وتجعلها قابلة الفهم للجميع وتسكت المعاندين ، واكثر

__________________

(1) البقرة ، 20.

(2) البقرة ، 261.

(3) البقرة ، 264.

٣٨٠

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576