الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٩

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل0%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 576

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

مؤلف: آية الله الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
تصنيف:

الصفحات: 576
المشاهدات: 251424
تحميل: 10856


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 576 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 251424 / تحميل: 10856
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء 9

مؤلف:
العربية

يقول؟ قال : يقول : ما علمك وعلم موسى في علم الله إلّا كما أخذ منقاري من الماء»(1) .

6 ـ ماذا كان الكنز؟

من الأسئلة التي تثار حول هذه القصّة ، هي عن ماهية الكنز الوارد في الآية ، ماذا كان؟ ولماذا كان صاحب موسى يصر على إخفائه؟ ولماذا قام الرجل المؤمن ، يعني أبالأيتام يتجمع هذا الكنز وإخفائه؟

يرى بعض المفسّرين أن الكنز يرمز إلى شيء معنوي ، قبل أن يكون له مفهوم مادي.

إذ أنّ هذا الكنز ـ طبقا لروايات عديدة تنقل من طرق السنة والشيعة ـ لم يكن سوى لوح منقوش عليه مجموعة من الحكم.

أمّا ما هي هذه الحكم؟ فثمة كلام كثير للمفسّرين في ذلك.

ففي كتاب الكافي نقلا عن الإمام حيث قال في جوابه على سؤال يتعلق بماهية الكنز: «أمّا إنّه ما كان ذهبا ولا فضة ، وإنّما كان أربع كلمات : لا إله إلّا الله ، من أيقن بالموت لم يضحك ، ومن أيقن بالحساب لم يفرح قلبه ، ومن أيقن بالقدر لم يخش إلّا الله»(2) .

وفي روايات أخرى ، ورد أنّ اللوح كان من ذهب. الظاهر أنّه ليس هناك تعارض بين الاثنين ، لأنّ هدف الرّواية الأولى أن تبيّن أنّ الكنز لم يكن دراهم ودنانير.

ولو فرضنا أنّنا التزمنا المعنى الظاهر لكلمة كنز ، وفسرناه على أنّه كمية من الذهب ، فإنّنا لا نواجه مشكلة أيضا ، لأنّ الكنز المحرم شرعا هو أن يقوم الإنسان

__________________

(1) الدر المنثور ومصادر أخرى طبقا لما نقله صاحب الميزان في ج 13 ، ص 356.

(2) نور الثقلين ، ج 3 ، ص 287.

٣٤١

بتجميع وادخار أموال وثروة كبيرة لمدّة طويلة في حين أن المجتمع بحاجة إليها ، ولكن لو قام أحد الأشخاص بدفن ماله ليوم أو عدّة أيّام (كما هو المتعارف في الازمنة السابقة بسبب عدم الأمن) ثمّ توفي هذا الشخص بسبب حادثة ، فلا يوجد أي إشكال في مثل هذا الكنز.

7 ـ دروس هذه القصّة

هناك جملة دروس يمكن أن نستفيدها من القصّة ، ويمكن لنا أن ندرجها كما يلي :

أ: أهمية العثور على قائد عالم والاستفادة من علمه ، بحيث رأينا أنّ نبيّا من أولي العزم مثل موسىعليه‌السلام يسلك هذا الطريق الطويل ، وقد بذل ما بذل لتحقيقه. وهذا درس لجميع الناس مهما كان علمهم وفي أي عمر كانوا.

ب : جوهرة العلم الإلهي تنبع من العبودية لله تعالى ، كما قرأنا في الآيات أعلاه في قوله تعالى :( عَبْداً مِنْ عِبادِنا عَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً ) .

ج : يجب تعلم العلم للعمل ، كما يقول موسىعليه‌السلام لصاحبه( مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً ) أي علمني عملا يقربني من هدفي ومقصدي ، فأنا لا أطلب العلم لنفسه ، بل للوصول إلى الهدف.

د : يجب عدم الاستعجال في الأعمال ، إذ العديد من الأمور تحتاج إلى الفرص المناسبة (الأمور مرهونة بأوقاتها) خاصّة في القضايا المهمّة ، ولهذا السبب ، فإنّ الرجل العالم قد ذكر سرّ أعماله لموسى في الفرصة المناسبة.

ه : الظاهر والباطن من المسائل المهمّة الأخرى التي نتعلمها من القصة ، إذ يجب علينا أن لا نصدر أحكاما سريعة تجاه الحوادث التي تقع في مجرى حياتنا مما قد لا يعجبنا. إذ ما أكثر الحوادث التي نكرهها ، ولكن يتّضح بعد مدّة أنّ هذه الحوادث لم تكن سوى نوع من الألطاف الخفية الإلهية. والقرآن يصرّح بمضمون

٣٤٢

هذه الحقيقة في قوله تعالى :( عَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ) (1) .

إنّ المستفاد من هذه القضية أن لا يصاب الإنسان باليأس عند ما تهجم عليه الحوادث ، وفي هذا الصدد نقرأ في حديث طريف ينقله عبد الله بن المحدّث والفقيه المعروف زرارة بن أعين ، ويقول فيه عبد الله : قال لي أبو عبد اللهعليه‌السلام : «اقرأ مني على والدك السلام ، وقل له : إنّي إنّما أعيبك دفاعا منّي عنك ، فإنّ الناس والعدوّ يسارعون إلى كلّ من قرّبناه وحمدنا مكانه لإدخال الأذى في من نحبه ونقرّبه ، ويرمونه لمحبتنا له وقربه ودنوه منّا ، ويرون إدخال الأذى عليه وقتله ويحمدون كل من عبناه نحن ، فإنّما أعيبك لأنّك رجل اشتهرت منّا ، وبميلك إلينا ، وأنت في ذلك مذموم عند الناس غير محمود الأثر بمودّتك لنا ولميلك إلينا ، فأحببت أن أعيبك ليحمدوا أمرك في الدين بعيبك ونقصك ، ويكون بذلك منّا دافع شرّهم عنك. يقول اللهعزوجل :( أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً ) هذا التنزيل من عند الله ، صالحة ، لا والله ما عابها إلا لكي تسلم من الملك ، ولا تعطب على يديه ، ولقد كانت صالحة ليس للعيب فيها مساغ والحمد لله ، فافهم المثل يرحمك الله ، فإنّك والله أحبّ الناس إليّ ، وأحبّ أصحاب أبي حيا وميتا. فإنّك أفضل سفن ذلك البحر القمقام الزاخر ، وإن من ورائك ملكا ظلوما غصوبا يرقب عبور كل سفينة صالحة ترد بحر الهدى ليأخذها غصبا ، ثمّ يغصبها وأهلها ورحمة الله عليك حيا ورحمته ورضوانه عليك ميتا»(2) .

و: من دروس القصة الاعتراف بالحقائق واتخاذ المواقف المطابقة لها ، فعند ما تخلف موسى ثلاث مرّات عن الوفاء بالتزامه لصاحبه العالم ، عرف أنّه

__________________

(1) البقرة ، 216.

(2) معجم رجال الحديث ، ج 7 ، ص 226.

٣٤٣

لا يستطيع الاستمرار معه في الصحبة ، وبالرغم من أنّ فراق هذا الأستاذ كان أمرا صعبا على موسىعليه‌السلام ، إلّا أنّهعليه‌السلام لم يكابر وأنصف العالم بإعطائه الحق ، وفارقة عن إخلاص بعد أن حصل على حقائق عظمية وكنوز معنوية كبيرة من هذه الصحبة القصيرة.

يجب على الإنسان أن لا يستمر إلى آخر عمره في اختبار نفسه ، بحيث تتحوّل حياته إلى مختبر للأمور المستقبلية التي قد لا تحصل أبدا ، إذ عليه عند ما يختبر موضوعا ما عدّة مرّات ، أن يلتزم العمل بنتائج الاختبار وأن يقتنع به.

ز : تأثير إيمان الآباء على الأبناء

لقد تحمّل الخضر مسئولية حماية الأبناء في المقدار الذي كان يستطيعه ، وذلك بسبب الأب الصالح الملتزم. بمعنى أنّ الابن يستطيع أن يسعد في ظل الإيمان وأمانة والتزام الأب ، وإنّ نتيجة العمل الصالح الذي يلتزمه الأب تعود على الابن أيضا.

وفي بعض الرّوايات نقرأ أنّ ذلك الرجل الصالح لم يكن الأب المباشر لليتامى ، بل هو من أجدادهم البعيدين جدا. (وهكذا يكون للعمل الصالح تأثيره)(1) . وإنّ من علائم صلاح هذا الأب هو ما تركه من الكنوز المعنوية ، ومن الحكم لأبنائه.

ح : قصر العمر بسبب إيذاء الوالدين

عند ما يطال الموت الابن بسبب ما يلحقه من أذى بوالديه في مستقبل حياته ، وبسبب ما يرهقهما به من أذى وطغيان وكفر ، قد يحرفهم به عن الطريق الإلهي ، كما رأينا ذلك في القصّة التي بين أيدينا ، فإنّ الرّوايات الإسلامية تربط

__________________

(1) نور الثقلين ، ج 3 ، ص 289.

٣٤٤

بين قصر العمر وترك صلة الرحم (وبالأخص أذية الوالدين وعقوقهما) وقد أشرنا إلى بعضها في نهاية الحديث عن الآية (23) من سورة الإسراء.

وينبغي هنا أن نستوعب الدرس على صعيد هذا الجانب من القصة ، إذا كان الولد يقتل لما يلحقه بأبويه من ضرر وأذى في مستقبل حياته ، ترى فما حال الذي يمارس الأذى فعلا بحق والديه ويرهقهما بالعقوق؟

ط : الناس أعداء ما جهلوا

قد يحدث أن يقوم شخص بالإحسان إلينا ، إلّا أنّنا نتصوره عدوّا لنا ، لأنّنا لا نعرف بواطن الأمور ، ونتسرع ونفقد الصبر ، خصوصا إزاء الأحداث والأمور التي نجهلها ولا نحيط بأسبابها علما. من الطبيعي أن يفقد الإنسان صبره إزاء ما لا يحيط به علما من الأحداث والقضايا ، إلّا أنّ الدرس المستفاد من القصّة هو أن لا نتسرع في إصدار الأحكام على مثل هذه القضايا حتى تكتمل لدينا الرؤية التي نحيط من خلالها بجوانب وزوايا الموضوع المختلفة.

ففي حديث عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ، نقرأ قولهعليه‌السلام : «الناس أعداء ما جهلوا»(1) ، لذا فإنّه كلّما يرتفع الوعي لدى الإنسان فإنّ تعامله يكون أكثر منطقية ، وبعبارة أخرى إنّ أساس الصبر هو الوعي.

وكان لانزعاج موسىعليه‌السلام ـ بالطبع ـ ما يبرره ، إذ كان يرى تجاوزا عن حدود الشرع في الأحداث التي وقعت على يد صاحبه بحيث تعرض القسم الأعظم للشريعة الى الخطر ، ففي الحادثة الأولى تعرضت مصونية أموال الناس إلى الخطر ؛ وفي الثّانية تعرضت أرواحهم إلى خطر ، أمّا في الثّالثة ، فكان اعتراضه ينصب على ضرورة التعامل المنطقي مع حقوق الناس ، لذلك فقد اعترض ونسي

__________________

(1) نهج البلاغة ـ الحكمة رقم 438.

٣٤٥

عهده الذي قطعه لصاحبه العالم ، ولكن ما إن اطلّع على بواطن الأمور هدأ وكفّ عن الاعتراض. وهذا الأمر يدل على أنّ عدم الاطلاع هو أمر مقلق بحدّ ذاته.

ى : أدب التلميذ والأستاذ ثمّة ملاحظات لطيفة حول أدب التلميذ والأستاذ ظهرت في مقاطع الحديث بين موسىعليه‌السلام والرجل الربّاني العالم ، فمن ذلك مثلا :

1 ـ اعتبار موسىعليه‌السلام لنفسه تابعا للخضر قوله :( أَتَّبِعُكَ ) .

2 ـ لقد أعلن موسىعليه‌السلام هذا الإتباع على شكل استئذان فقال :( هَلْ أَتَّبِعُكَ ) .

3 ـ إقرارهعليه‌السلام بعلم أستاذه وبحاجته للتعلّم فقال :( عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ ) .

4 ـ وللتواضع فقد اعتبر علم أستاذه كثيرا ، وهو يطلب جانبا من هذا العلم ، فقال:( مِمَّا ) .

5 ـ يصف علم أستاذه بأنّه علم إلهي فيقول :( عُلِّمْتَ ) .

6 ـ يطلب من أستاذه الهداية والرشاد فقالعليه‌السلام :( رُشْداً ) .

7 ـ يقول لأستاذه بشكل لطيف خفي ، بأنّ الله قد تلطّف عليك وعلّمك ، فتلطّف أنت عليّ ، وحيث قالعليه‌السلام : «تعلمن ممّا علمت».

8 ـ إنّ جملة( هَلْ أَتَّبِعُكَ ) تكشف حقيقة أن يكون التلميذ في طلب الأستاذ ، وفي أتباعه ، إذ ليس من وظيفة الأستاذ اتباع تلميذه إلّا في حالات وموارد خاصّة.

9 ـ برغم ما كان يتمتع موسىعليه‌السلام بمنصب كبير (حيث كان نبيّا من أولي العزم وصاحب رسالة وكتاب) إلّا أنّه تواضع ، وهذا يعني أنّك ومهما كنت وفي أي مقام أصبحت ، يجب عليك أن تتواضع في مقام طلب العلم والمعرفة.

10 ـ إنّ موسىعليه‌السلام لم يذكر عبارة جازمة في معرض تعهده لأستاذه ، بل قال:( سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ صابِراً ) وهذه الصيغة في التعبير مملوءة أدبا إزاء

٣٤٦

الخالق جلّ وعلا ، واتجاه الأستاذ أيضا ، حتى إذا تخلّف عنها لا يكون ثمّة نوع من هتك الحرمة إزاء الأستاذ.

وضروري أن نذكر في خاتمة هذا الحديث أنّ العالم الرباني قد استخدم إزاء موسىعليه‌السلام منتهى الحلم في مقام التعليم والتربية ، فعند ما كان موسىعليه‌السلام ينسى تعهده وتثور ثائرته ويعترض عليه ، يجيبه الأستاذ بهدوء وبرود ، ولكن على شكل استفهام :( أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً ) .

* * *

٣٤٧

الآيات

( وَيَسْئَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً (83) إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً (84) فَأَتْبَعَ سَبَباً (85) حَتَّى إِذا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَها تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَها قَوْماً قُلْنا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً (86) قالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذاباً نُكْراً (87) وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُ جَزاءً الْحُسْنى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنا يُسْراً (88) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً (89) حَتَّى إِذا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَها تَطْلُعُ عَلى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِها سِتْراً (90) كَذلِكَ وَقَدْ أَحَطْنا بِما لَدَيْهِ خُبْراً (91) )

التّفسير

قصّة «ذو القرنين» العجيبة :

قلنا في بداية حديثنا عن أصحاب الكهف : إنّ مجموعة من قريش قرّرت

٣٤٨

اختبار الرّسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقامت هذه المجموعة بالتنسيق مع اليهود واستشارتهم بطرح ثلاث قضايا هي : تأريخ الفتية من أصحاب الكهف.

السؤال عن ماهية الروح ، أمّا القضية الثّالثة فقد كانت حول «ذو القرنين».

وفي القرآن ، جاء الردّ على قضية الروح في سورة الإسراء ، أمّا الإجابة على السؤالين الآخرين فقد جاءت في سورة الكهف.

ونحن الآن بصدد قصّة «ذو القرنين» :

وأشرنا سابقا إلى أنّ سورة الكهف أشارت إلى ثلاث قصص تختلف في الظاهر عن بعضها ، ولكنّها تشترك في جوانب معينة ، والقصص الثلاث هي قصّة أصحاب الكهف ، وموسى والخضر ، وقصّة «ذو القرنين».

إنّ في القصص الثلاث هذه مضامين تنقلنا من حياتنا العادية إلى أفق آخر ، يكشف لنا أنّ العالم في حقائقه وأسراره لا يحدّ فيما ألفناه منه ، وفيما يحيطنا منه ، واعتدنا عليه.

إنّ قصة «ذو القرنين» تدور حول شخصية أثارت اهتمامات الفلاسفة والباحثين منذ القدم. وقد بذلت جهود ومساعي كثيرة للتعرّف على هذه الشخصية.

وسنقوم أوّلا بتفسير الآيات الست عشرة الخاصّة بذي القرنين حيث أن حياته مع قطع النظر عن جوانبها التاريخية بمثابة درس كبير ومليء بالعبر ، ثمّ ننتقل إلى بحوث لمعرفة شخصية ذي القرنين نفسه مستفيدين في ذلك من الرّوايات الإسلامية ، وممّا أشار إليه المؤرّخون في هذا الصدد.

بتعبير آخر : إنّ ما يهمنا أوّلا هو الحديث عن شخصية ذي القرنين ، وهو ما فعله القرآن ، حيث يقول تعالى :( وَيَسْئَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ ) .

فيكون الجواب على لسان الرّسول المصطفىصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( قُلْ سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً ) .

٣٤٩

ولأنّ «السين» في (سأتلوا) تستخدم عادة للمستقبل القريب ، والرّسول هنا يتحدّث مباشرة إليهم عن ذي القرنين ، فمن المحتمل أن يكون ذلك منهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم احتراما ومراعاة للأدب ؛ الأدب الممزوج بالهدوء والتروي ، الأدب الذي يعني استلهامه للعلم من الله تبارك وتعالى ، ونقله إلى الناس.

إنّ بداية الآية تبيّن لنا أنّ قصة «ذو القرنين» كانت متداولة ومعروفة بين الناس ، ولكنّها كانت محاطة بالغموض والإبهام ، لهذا السبب طالبوا الرّسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الإدلاء حولها بالتوضيحات اللازمة.

وفي استئناف الحديث عن ذي القرنين يقول تعالى :( إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ ) . أي منحناه سبل القوة والقدرة والحكم.

( وَآتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً ) .

بالرغم من أنّ مفهوم (السبب) يعني الحبل المستخدم في تسلّق النخيل ، الّا أن بعض المفسّرين يحصره في الوسائل المستخدمة في إنجاز الأعمال ، إلّا أنّ الواضح من مفهوم الآية أنّ الكلمة المذكورة يراد منها معناها ومفهومها الواسع ، حيث أنّ الله تبارك وتعالى منح «ذو القرنين» أسباب الوصول لكل الأشياء : العقل ، العلم الكافي ، الإدارة السليمة ، القوّة والقدرة ، الجيوش والقوى البشرية ، بالإضافة إلى الإمكانات المادية. أي إنّه منح كل الأسباب والسبل المادية والمعنوية الكفيلة بتحقيق الأهداف المنشودة.

ثمّ يشير القرآن بعد ذلك إلى استفادة ذي القرنين من هذه الأسباب والسبل فيقول:( فَأَتْبَعَ سَبَباً ) .

ثمّ( حَتَّى إِذا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ ) .

فرأي أنّها تغرب في بحر غامق أو عين ذات ماء آجن :( وَجَدَها تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ ) (1) .

__________________

(1) (حمئة) تعني في الأصل الطين الأسود ذا الرائحة الكريهة ؛ أو الماء الآسن الموجود في المستنقعات. وهذا

٣٥٠

( وَوَجَدَ عِنْدَها قَوْماً ) أي مجموعة من الناس فيهم الصالح والطالح ، هؤلاء القوم هم الذين خاطب الله ذا القرنين في شأنهم :( قُلْنا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً ) (1) .

ويرى بعض المفسّرين في كلمة (قلنا) دليلا على نبوة ذي القرنين. ولكن من المحتمل أن يكون المقصود بهذا التعبير هو الإلهام القلبي الذي يمنحه الخالق جلّ وعلا لغير الأنبياء أيضا ، هذا وليس بالإمكان انكار أنّ التعبير الآنف الذكر يشير بالفعل إلى معنى النّبوة.

بعد ذلك تحكي الآيات جواب «ذي القرنين» الذي قال :( قالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذاباً نُكْراً ) (2) . أي إنّ الظالمين سينالون العذاب الدنيوي والأخروي معا.

( وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُ جَزاءً الْحُسْنى ) .

( وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنا يُسْراً ) .

أي أنّنا سنتعامل معه بالقول الحسن ، فضلا عن أنّنا سنخفف عنه ولا نجعله يواجه المشاكل والصعاب ، بالإضافة إلى أنّنا سوف لن نجبي منه ضرائب كثيرة.

والظاهر أنّ ذا القرنين أراد من ذلك أن الناس سينقسمون مقابل دعوتي الى التوحيد والإيمان والنهي عن الظلم والفساد إلى مجموعتين ، الأولى : هي المجموعة التي سترحب ببرنامجه الإلهي ودعوته للتوحيد والإيمان وهذه

__________________

الوصف يبيّن لنا بأنّ الأرض التي بلغها «ذو القرنين» كانت مليئة بالمستنقعات ، بشكل كان ذو القرنين يشعر معه بأنّ الشمس كانت تغرب في هذه المستنقعات ، تماما كما يشعر بذلك مسافر البحر ، وسكّان السواحل الذين يشعرون بأنّ الشمس قد غابت في البحر أو خرجت منه!.

(1) ـ يظهر أن جملة( إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ ) استفهامية بالرغم من أنّ ظاهرها أنّها جملة خبرية.

(2) «نكر» مشتقة من «منكر» بمعنى الشيء المجهول ؛ أي العذاب المجهول الذي لم يمكن تصوره.

٣٥١

ستجزى بالحسنى وستعيش حياة آمنة ومطمئنة. أمّا الثّانية : فستتخذ موقفا عدائيا من دعوة ذي القرنين وتقف في الجبهة المناوئة ، وتستمر في شركها وظلمها ، وتواصل فسادها. وهي لذلك ستعاقب نتيجة موقفها هذا أشدّ العقاب.

وبمقارنة قوله :( مَنْ ظَلَمَ ) وقوله :( مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ) يتبيّن لنا أنّ الظلم يعني هنا الشرك والعمل غير الصالح الذي يعدّ من ثمار شجرة الشرك المشؤومة.

وعند ما انتهى «ذو القرنين» من سفره إلى الغرب توجه إلى الشرق حيث يقول القرآن في ذلك :( ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً ) أي استخدم الوسائل والإمكانات التي كانت بحوزته.

( حَتَّى إِذا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ ) . وهنا رأى أنّها :( وَجَدَها تَطْلُعُ عَلى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِها سِتْراً ) . وفي اللفظ كناية عن أنّ حياة هؤلاء الناس بدائية جدّا ، ولا يملكون سوى القليل من الملابس التي لا تكفي لتغطية أبدانهم من الشمس.

أمّا بعض المفسّرين فلم يستبعدوا افتقار هؤلاء الناس إلى المساكن التي تحميهم من الشمس(1) .

وهناك احتمال آخر يطرحه البعض ، ويرى أن يكون هؤلاء القوم في أرض صحراوية تفتقر للجبال والأشجار والملاجئ ، وأن ليس في تلك الصحراء ما يمكّن هؤلاء القوم من حماية أنفسهم من الشمس من غطاء أو غير ذلك(2) .

__________________

(1) أشارت بعض الرّوايات الواردة عن أهل البيتعليهم‌السلام إلى التّفسير الأوّل ، فيما أشارت روايات أخرى إلى التّفسير الثّاني. وليس ثمّة تناقض بين الإثنين (يراجع نور الثقلين ، ج 3 ، ص 306).

(2) تفسير في ظلال القرآن ، والفخر الرازي أثناء تفسير الآية.

٣٥٢

بالطبع ليس هناك تعارض بين التفاسير هذه ، قوله تعالى :( كَذلِكَ وَقَدْ أَحَطْنا بِما لَدَيْهِ خُبْراً ) . هكذا كانت أعمال «ذو القرنين» ونحن نعلم جيدا بإمكاناته.

بعض المفسّرين قال : إنّ هذه الآية تشير إلى الهداية الإلهية لذي القرنين في برامجه ومساعيه(1) .

* * *

__________________

(1) الميزان ، ج 13 ، ص 391.

٣٥٣

الآيات

( ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً (92) حَتَّى إِذا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِما قَوْماً لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً (93) قالُوا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا (94) قالَ ما مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً (95) آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذا ساوى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذا جَعَلَهُ ناراً قالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً (96) فَمَا اسْطاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطاعُوا لَهُ نَقْباً (97) قالَ هذا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا (98) )

التّفسير

كيف تمّ بناء سد ذي القرنين؟

الآيات أعلاه تشير إلى سفرة أخرى من أسفار ذي القرنين حيث تقول :( ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً ) .

٣٥٤

أي بعد هذه الحادثة استفاد من الوسائل المهمّة التي كانت تحت تصرفه ومضى في سفره حتى وصل إلى موضع بين جبلين :( حَتَّى إِذا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِما قَوْماً لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً ) .

والآية إشارة إلى أنّه وصل إلى منطقة جبلية ، وهناك وجد أناسا (غير المجموعتين اللتين عثر عليهما في الشرق والغرب) كانوا على مستوى دان من المدنية ، لأنّ الكلام أحد أوضح علائم التمدّن لدى البشر.

البعض احتمل أنّ جملة( لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً ) لا تعني أنّهم لم يكونوا يعرفون اللغات ، بل كانوا لا يفهمون محتوى الكلام ، أي كانوا متخلفين فكريا.

أمّا عن مكان الجبل والجوانب التأريخية والجغرافية لهذه الحادثة ، وسنذكر في نهاية البحث التّفسيري ، حديثا مفصلا عن ذلك.

في هذه الأثناء اغتنم هؤلاء القوم مجيء ذي القرنين ، لأنّهم كانوا في عذاب شديد من قبل أعدائهم يأجوج ومأجوج ، لذا فقد طلبوا العون منه قائلين :( قالُوا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا ) .

قد يكون كلامهم هذا تمّ عن طريق تبادل العلامات والإشارات ، لأنّهم لا يفهمون لغة ذي القرنين ، أو أنّهم تحدثوا معه بعبارات ناقصة لا يمكن الاعتداد بها.

ويحتمل أن يكون التفاهيم بينهم تمّ عن طريق المترجمين ، أو بأسلوب الإلهام الإلهي ، مثل تحدّث بعض الطيور مع سليمانعليه‌السلام .

في كل الأحوال ، يمكن أن نستفيد من الآية الشريفة أنّ تلك المجموعة من الناس كانت ذات وضع جيّد من حيث الإمكانات الاقتصادية ، إلّا أنّهم كانوا ضعفاء في المجال الصناعي والفكري والتخطيطي ، لذا فقد تقبلوا بتكاليف بناء هذا السد المهم ، بشرط أن يتكفل ذو القرنين ببنائه وهندسته.

٣٥٥

وفيما يخص يأجوج ومأجوج سنتحدث عنهم في نهاية هذا البحث إن شاء الله.

أمّا ذو القرنين فقد أجابهم :( قالَ ما مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ ) ، وأنّي لا أحتاج إلى مساعدتكم المالية وإنّما :( فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً ) .

كلمة «ردم» على وزن «طرد» وهي في الأصل تعني ملء الشق بالأحجار ، إلّا أنّها فيما بعد أخذت معنى واسعا بحيث شمل كل سد ، بل وشمل حتى ترقيع الملابس.

يعتقد بعض المفسّرين أنّ كلمة «ردم» تقال للسد القوي(1) ، ووفقا لهذا التّفسير فإنّ ذا القرنين قد وعدهم بأكثر ممّا كانوا ينتظرونه.

كما أنّه يجب الانتباه إلى أنّ «سد» على وزن «قد» ، و «سدّ» على وزن «قفل» هما بمعنى واحد ، وهو الحائل الذي يفصل بين شيئين ، إلّا أنّ البعض ـ كما يقول الراغب ـ وضع فرقا بين الإثنين ، فالأوّل هو من صناعة الإنسان ، والثّاني هو الحائل الطبيعي.

ثمّ أمر ذو القرنين فقال :( آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ ) .

«زبر» جمع «زبرة» على وزن (غرفة) ، وتعني القطع الكبيرة والضخيمة من الحديد.

وعند ما تهيأت قطع الحديد أعطى أمرا بوضع بعضها فوق البعض الآخر حتى غطّي بين الجبلين بشكل كامل :( حَتَّى إِذا ساوى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ ) .

«صدف» تعني هنا حافة الجبل ، ويتّضح من هذا التعبير أنّ هناك شقا بين حافتي الجبل حيث كان يأجوج ومأجوج يدخلان منه ، وقد صمم ذو القرنين ملأ هذا الشق.

الأمر الثّالث لذي القرنين هو طلبه منهم أن يجلبوا الحطب وما شابهه ،

__________________

(1) «الآلوسي» في «روح المعاني» ، والفيض الكاشاني في تفسير «الصافي» ، والفخر الرازي في «التّفسير الكبير».

٣٥٦

ووضعه على جانبي هذا السد ، وأشعل النار فيه ثمّ أمرهم بالنفخ فيه حتى احمرّ الحديد من شدة النّار :( قالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذا جَعَلَهُ ناراً ) .

لقد كان يهدف ذو القرنين من ذلك ربط قطع الحديد بعضها ببعض ليصنع منها سدا من قطعة واحدة ، وعن طريق ذلك ، قام ذو القرنين بنفس عمل «اللحام» الذي يقام به اليوم في ربط أجزاء الحديد بعضها ببعض.

أخيرا أصدر لهم الأمر الأخير فقال : اجلبوا لي النحاس المذاب حتى أضعه فوق هذا السد :( قالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً ) .

وبهذا الشكل قام بتغطية هذا السد الحديدي بطبقة النحاس حتى لا ينفذ فيه الهواء ويحفظ من التآكل.

بعض المفسّرين قالوا : إنّ علوم اليوم أثبتت أنّه عند إضافة مقدار من النحاس إلى الحديد فإنّ ذلك سيزيد من مقدار مقاومته ، ولأنّ «ذا القرنين» كان عالما بهذه الحقيقة فقد أقدم على تنفيذه.

إنّ المشهور في معنى «قطر» هو ما قلناه (أي النحاس المذاب) ، إلّا أنّ بعض المفسّرين فسّر ذلك بـ «الخارصين المذاب» وهو خلاف المتعارف عليه.

وأخيرا ، أصبح هذا السد بقدر من القوّة والإحكام بحيث :( فَمَا اسْطاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطاعُوا لَهُ نَقْباً ) .

لقد كان عمل ذي القرنين عظيما ومهما ، وكان له وفقا لمنطق المستكبرين ونهجهم أن يتباهى به أو يمنّ به ، إلّا أنّه قال بأدب كامل :( قالَ هذا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي ) لأنّ أخلاقه كانت أخلاقا إلهية.

إنّه أراد أن يقول : إذا كنت أملك العلم والمعرفة وأستطيع بواسطتهما أن أخطو خطوات مهمّة ، فإنّ كل ذلك إنما كان من قبل الخالق جلّ وعلا ، وإذا كنت أملك قابلية الكلام والحديث المؤثّر فذلك أيضا من الخالق جلّ وعلا.

وإذا كانت مثل هذه الوسائل والأفكار في اختياري فإنّ ذلك من بركة الله

٣٥٧

ورحمته الخالق الواسعة.

أراد ذو القرنين أن يقول : إنّني لا أملك شيئا من عندي كي أفتخر به ، ولم أعمل عملا مهما كي أمنّ على عباد الله.

ثمّ استطرد قائلا : لا تظنوا أنّ هذا السد سيكون أبديا وخالدا :( فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ ) .

( وَكانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا ) .

لقد أشار ذو القرنين في كلامه هذا إلى قضية فناء الدنيا وتحطّم هيكل نظام الوجود فيها عند البعث.

لكن بعض المفسّرين اعتبر الوعد الإلهي إشارة إلى التقدم العلمي للبشر والذي بواسطته لا يبقى معنى لسد غير قابل للاختراق والعبور ، فالطائرات وما شابهها تستطيع أن تعبر جميع هذه الموانع. ولكن هذا التّفسير بعيد حسب الظاهر.

* * *

بحوث

أولا ـ الملاحظات التربوية في هذه القصة التأريخية

سنبحث فيما بعد ـ إن شاء الله ـ ما يتعلق بذي القرنين ؛ من هو؟ وكيف تمّ سفره للشرق والغرب ؛ وأين كان السد الذي أنشأه؟ وغير ذلك ، ولكن بصرف النظر عن الجوانب التأريخية ، فإنّ القصّة بشكل عام تحوي على دروس تربوية كثيرة من الضروري الالتفات إليها والإفادة منها ، وفي الواقع أنّها هي الهدف القرآني من إيرادها. ويمكن تلخيص هذه الدروس بالشكل الآتي :

1 ـ إنّ أوّل درس تعلمنا إيّاه أنّ عمل هذه الدنيا لا يتمّ دون توفير أسبابه ، لذا فإنّ الله تبارك وتعالى وهب الوسائل والأسباب لتقدم وانتصار ذي القرنين في علمه :( وَآتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً ) . وفي نفس الوقت استفاد «ذو القرنين» من

٣٥٨

هذه الأسباب والوسائل بأفضل وجه ممكن :( فَأَتْبَعَ سَبَباً ) .

لذلك فإنّ من يظن أنّه سيحصل على النصر من دون تهيئة أسبابه ومقدماته ، فإنّه لا يصل إلى مرامه حتى لو كان ذا القرنين نفسه!

2 ـ بالرغم من أنّ غروب الشمس في عين من ماء آسن سببه خطأ في الباصرة واشتباه منها ، إلّا أنّ المعنى الذي نلمحه من هذا المثال هو إمكان تغطية الشمس مع عظمتها بالعين الآسنة ومثلها في ذلك مثل ذلك الإنسان العظيم الذي يسقط وينهار بسبب خطأ واحد فتغرب شخصيته من انظار الناس.

3 ـ لا تستطيع أي حكومة أن تنتصر بدون ترغيب الأنصار والأتباع ، ومعاقبة المذنبين والمخطئين ، وهذا هو نفس الأساس الذي اعتمد عليه ذو القرنين حيث قال:( قالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُ جَزاءً الْحُسْنى ) .

والإمام أمير المؤمنين عليعليه‌السلام بلور هذا المعنى في رسالته إلى مالك الأشتر والتي هي برنامج كامل لإدارة البلاد ، إذ يقولعليه‌السلام : «ولا يكونن المحسن والمسيء عندك بمنزلة سواء، فإنّ في ذلك تزهيدا لأهل الإحسان في الإحسان ، وتدريبا لأهل الإساءة على الإساءة»(1) .

4 ـ التكليف الشاق والتصعّب في الأمور وتحميل الناس ما لا يطيقون ، كل هذه الأمور لا تناسب الحكومة الإلهية العادلة أبدا ، ولهذا السبب فإنّ ذا القرنين بعد أن صرّح بمعاقبة الظالمين وتشويق الصالحين ، أضاف :( وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنا يُسْراً ) حتى يمكن إنجاز الأعمال عن شوق ورغبة.

5 ـ الحكومة الكبيرة ذات الإمكانات الواسعة لا تتغاضى عن التفاوت والاختلاف القائم في حياة الناس وتراعى شرائط حياتهم المختلفة ، ولهذا السبب فإنّ «ذو القرنين» صاحب الحكومة الإلهية والذي واجهته أقوام مختلفة ، كان

__________________

(1) نهج البلاغة ، الرسالة رقم 53.

٣٥٩

يتعامل مع كل مجموعة بما يناسب حياتها الخاصّة ، وبذلك كان الجميع منضوين تحت لوائه.

6 ـ إنّ «ذو القرنين» لم يستعبد حتى تلك المجموعة التي لم تكن تفهم الكلام ، أو كما وصفهم القرآن :( لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً ) بل إنّه استمع إلى مشاكلهم ، ودأب على رفع احتياجاتهم بأي أسلوب كان ، وبنى لهم سدا محكما بينهم وبين أعدائهم اللدودين (يأجوج ومأجوج) وقد قام بإنجاز أمورهم بدون أن يفرّق بينهم (رغم أنّه كان يظهر أنّ مثل هؤلاء الناس عديمي الفهم لا ينفعون الحكومة بأي شيء).

وفي حديث عن الإمام الصادقعليه‌السلام نقرأ قوله : إسماع الأصم من غير تصعرّ صدقة هنيئة»(1) .

7 ـ الأمن هو أوّل وأهم شرط من شروط الحياة الاجتماعية السالمة ، لهذا السبب تحمّل «ذو القرنين» أصعب الأعمال وأشقها لتأمين أمن القوم من أعدائهم ، وقد استفاد من أقوى السدود وأمنعها الذي أصبح مضرب الأمثال في التأريخ ورمزا للاستحكام والدوام والبقاء ، حيث يقال لبناء القوي «إنّه مثل سدّ الإسكندر» بالرغم من أن «ذو القرنين» غير الإسكندر.

وعادة لا يسعد المجتمع من دون قطع الطريق على المفسدين ، ولهذا فإنّ أوّل شيء طلبه إبراهيمعليه‌السلام عند بناء الكعبة هو الأمن :( رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً ) (2) .

ولهذا السبب أيضا فإنّ الفقه الإسلامي وضع أقسى العقوبات للذين يعرضون أمن المجتمع إلى الخطر (راجع في ذلك تفسير الآية (33) من سورة المائدة).

__________________

(1) سفينة البحار ، ج 2 ، مادة «صمم».

(2) سورة إبراهيم ، 35.

٣٦٠