الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٩

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل10%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 576

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 576 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 264291 / تحميل: 11787
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٩

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

٨ ـ الدرس الآخر الذي يمكن أن نتعلمه من هذه القصّة ، هو أنّ أصحاب المشكلة الأصليين معنيين بالدرجة الأولى في الاشتراك في الجهد المبذول لحل مشكلتهم ، لذا فإنّ «ذو القرنين» أعطى أمرا إلى الفئة التي اشتكت إليه أمر يأجوج ومأجوج بأن يجلبوا قطع الحديد ، ثمّ أعطاهم الأمر بإشعال النار في أطراف السد لدمج القطع فيما بينها ، ثمّ أمرهم بتهيئة النحاس المذاب. وعادة فإن العمل الذي يتمّ بمساهمة وحضور الأطراف الأصليين في المشكلة يؤدي إلى إظهار استعداداتهم ويعطي قيمة خاصّة للنتائج الحاصلة منه ، وللجهود المبذولة فيه، ومن ثمّ يحرص الجميع للحفاظ عليه وإدامته بحكم تحملهم لمجهودات إنشائه.

كما يتّضح من هذه النقطة أن ، المجتمع المتخلف والمتأخّر يستطيع أن ينجز أعمالا مهمّة وعظيمة إذا تمتع ببرنامج صحيح وإدارة مخلصة.

٩ ـ الزعيم الإلهي والقائد الرّباني لا يلتفت إلى الجزاء المادي والنفع المالي وإنّما يقتنع بما حباه الله ، لذا رأينا «ذو القرنين» عند ما اقترحوا عليه الأموال قال :( ما مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ ) وهذا النمط من السلوك يخالف أساليب السلاطين وولعهم العجيب بجمع الثروة والأموال.

وفي القرآن الكريم نقرأ مرارا في قصص الأنبياء أنّهم لم يكونوا يطلبون المال جزاء لأعمالهم ودعواتهم.

ويمكن مشاهدة هذا الموضوع في (١١) موردا من القرآن الكريم ، سواء ما يخص نبي الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو الأنبياء السابقين ، ففي بعض الأحيان يذكر القرآن تعبير :( إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللهِ ) . وفي أحيان أخرى يضع القرآن محبّة أهل البيتعليهم‌السلام والذين هم ركن القيادة المستقبلية أساسا للجزاء فيقول :( قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى ) .

١٠ ـ إحكام الأمور هو درس آخر نستفيده من هذه القصّة ، فذو القرنين استفاد من القطع الحديدية الكبرى في بناء السد ، وقد وصلها بالنّار ، ثمّ غطّاها

٣٦١

بالنحاس المذاب كي تمتنع عن التلف والصدأ إذا تعرضت للهواء والرطوبة.

١١ ـ مهما كان الإنسان قويا ومتمكنا وصاحب قدرة واستطاعة في إنجاز الأعمال،فعلية ، أن لا يغتر بنفسه ، وهذا هو درس آخر نتعلمه من قصة «ذو القرنين». فقد اعتمد في جميع شؤونه على قدرة الخالق جلّ وعلا ، وقال بعد إتمام السد :( هذا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي ) . وعند ما اقترحوا عليه المساعدة المالية قال :( ما مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ ) . وأخيرا عند ما يتحدث عن فناء هذا السد المحكم ، فإنّه لا ينسى أن ينسب موعد ذلك إلى الله تعالى.

١٢ ـ كل شي إلى زوال مهما كان محكما وصلدا. هذا هو الدرس الأخير في هذه القصة ، وهو درس للذين يتمنون أو يظنون خلود المال أو المنصب والجاه.

إنّ سد ذي القرنين أمر هيّن قياسا إلى انطفاء الشمس وفناء الجبال الراسيات ، إذا فكيف بالإنسان المعرّض للأضرار أكثر من غيره!؟

ألا يكفي التفكير بهذه الحقائق حافزا على الوقوف بوجه الاستبداد؟

ثانيا : من هو ذو القرنين؟

ذكر المفسّرون كلاما كثيرا عن شخصية ذي القرنين الوارد في القرآن الكريم ، فمن هو؟ وعلى أي واحد من الشخصيات التأريخية المعروفة تنطبق أوصافه ويمكن أن نرجع الآراء إلى ثلاث نظريات أساسية هي :

النظرية الأولى : يرى البعض أنّ «ذو القرنين» ليس سوى «الإسكندر المقدوني»،لذا فإنّهم يسمونه «الإسكندر ذو القرنين» ويعتقد هؤلاء بأنّه سيطر بعد وفاة أبيه على دول الروم والمغرب والمصر ، وبنى مدينة الإسكندرية ، ثمّ سيطر بعد ذلك على الشام وبيت المقدس ، ثمّ ذهب من هناك إلى «أرمينيا» ، وفتح العراق وبلاد فارس ، ثمّ قصد الهند والصين ، ومن هناك رجع إلى خراسان ، وقد بنى مدنا كثيرة ، ثمّ جاء إلى العراق ومرض في مدينة «زور» وتوفي فيها.

٣٦٢

ويقول البعض : إنّه لم يعمّر أكثر من (٣٦) سنة ، أمّا جسده فقد ذهبوا به إلى الإسكندرية ودفنوه هناك(١) .

النظرية الثّانية : ويرى جمع من المؤرخين أنّ «ذو القرنين» كان أحد ملوك اليمن (كان ملوك اليمن يسمّون بـ «تبّع» وجمع ذلك «تبايعه») وقد دافع عن هذه النظرية «الأصمعي» في تأريخ العرب قبل الإسلام ، و «ابن هشام» في تأريخه المعروف بسيرة ابن هشام ، و «أبو ريحان البيروني» في كتاب «الآثار الباقية».

ويمكن لنا أن نلمح في شعر شعراء (الحميرية) وهم من أقوام اليمن ، وبعضا من شعراء الجاهلية تفاخرا بكون «ذو القرنين» من قومهم(٢) .

وفقا لهذه النظرية يكون سد ذو القرنين هو سد «مأرب» المعروف.

النظرية الثّالثة : وهي أحدث النظريات في هذا المجال وردت عن المفكر الإسلامي المعروف (أبو الكلام آزاد) الذي شغل يوما منصب وزير الثقافة في الهند. وقد أورد رأيه في كتاب حققه في هذا المجال.

وطبقا لهذه النظرية فإنّ ذا القرنين هو نفسه (كورش الكبير) الملك الأخميني.

أمّا النظريتان الأولى والثّانية فإنّها لا تدعمها أدلة قوية ، ومضافا إلى ذلك فإنّ صفات الإسكندر المقدوني أو ملوك اليمن لا تنطبق مع الصفات الذي ذكرها القرآن لذي القرنين.

من ناحية ثالثة فإنّ الإسكندر لم يبن سدا معروفا. أمّا سد مأرب في اليمن فإنّه لا يتطابق مع الصفات الواردة في سدّ «ذو القرنين». الذي بني من الحديد والنحاس ، وقد أنشئ لصد هجوم الأقوام الهمجية ، في حين أنّ سد مأرب مكوّن

__________________

(١) يمكن ملاحظة ذلك في تفسير الفخر الرازي ، والكامل لابن الأثير (المجلد الأوّل صفحة ٢٨٧). ويعتقد البعض أن أوّل من قال بهذه النظرية هو الشيخ ابن سينا في كتابه الشفاء.

(٢) الميزان ، ج ١٣ ، ص ٤١٤.

٣٦٣

من المواد العادية ، ووظيفته خزن المياه ومنعها من الطغيان والفيضان ، وقد ذكر القرآن شرحا لذلك في سورة «سبأ».

لكل هذه الأسباب سنركز البحث على النظرية الثّالثة ، ونرى من الضروري ـ هنا ـ الانتباه بدقة إلى الأمور التالية :

أ: لماذا سمي ذو القرنين بهذا الاسم؟

البعض يعتقد أن سبب التسمية تعود إلى وصوله للشرق والغرب ، حيث يعبّر العرب عن ذلك بقرني الشمس.

البعض الآخر يرى بأنّه عاش قرنين أو أنّه حكم قرنين ، وأمّا ما مقدار القرن فهناك آراء مختلفة في ذلك.

البعض الثّالث يقول : كان يوجد على طرفي رأسه بروز (قرن) ، ولهذا السبب سمّي بذي القرنين.

وأخيرا فإنّ البعض يعتقد بأنّ تاجه الخاص كان يحتوي على قرنين.

بالطبع هناك آراء أخرى في ذلك ، إلّا أنّ ذكرها جميعا يطيل بنا المقام ؛ وسوف نرى أنّ مبتكر النظرية الثّالثة (أبو الكلام آزاد) استفاد كثيرا من هذا اللقب لإثبات نظريته.

ب : لو لاحظنا بدقة من آيات القرآن الكريم لاستفدنا أنّ ذا القرنين كانت له صفات ممتازة هي :

* هيّأ له الله جلّ وعلا أسباب القوّة ومقدمات الإنتصار ، وجعلها تحت تصرفه وفي متناول يده.

* لقد جهز ثلاثة جيوش مهمّة : الأوّل إلى الغرب ، والثّاني إلى الشرق ؛ والثّالث إلى المنطقة التي تضم المضيق الجبلي ، وفي كل هذه الأسفار كان له تعامل خاص مع الأقوام المختلفة حيث ورد تفصيل ذلك في الآيات السابقة.

* كان رجلا مؤمنا تتجلى فيه صفات التوحيد والعطف ، ولم ينحرف عن

٣٦٤

طريق العدل ، ولهذا السبب فقد شمله اللطف الإلهي الخاص ، إذ كان ناصرا للمحسنين وعدوّا للظالمين ، ولم يكن يرغب أو يطمع بمال الدنيا كثيرا.

* كان مؤمنا بالله وباليوم الآخر.

* لقد صنع واحدا من أهم وأقوى السدود ، السد الذي استفاد لصنعه من الحديد والنحاس بدلا من الطابوق والحجارة. (وإذا كانت هناك مواد أخرى مستخدمة فيه ، فهي لا يعتبر شيئا بالقياس الى الحديد والنحاس) أمّا هدفه من بنائه فقد في مساعدة المستضعفين في قبال ظلم يأجوج ومأجوج.

* كان شخصا مشهورا بين مجموعة من الناس ، وذلك قبل نزول القرآن ، لذا فإنّ قريش أو اليهود سألوا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عنه ، كما يصرح بذلك الكتاب العزيز في قوله تعالى:( يَسْئَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ ) .

ولا يمكن الاستفادة بشيء من صريح القرآن للدلالة على أنّه كان نبيّا ، بالرغم من وجود تعابير تشعر بهذا المعنى ، كما مرّ ذلك في تفسير الآيات السابقة.

ونقرأ في العديد من الرّوايات الإسلامية الواردة عن الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأئمّة أهل البيتعليهم‌السلام أنّه : لم يكن نبيّا بل عبدا صالحا»(١) .

ج : أساس القول في النظرية الثّالثة (في أنّ ذا القرنين هو كورش الكبير) قائم على أصلين وهما :

الأصل الأوّل : وفق العديد من الرّوايات الواردة في سبب نزول هذه الآيات فإنّ الذي سأل عن «ذو القرنين» هم قوم من اليهود ، أو أنّ قريشا قامت بالأمر بتحريض من اليهود ، لذا يجب العثور على أصل هذا الموضوع في كتاب اليهود.

ومن الكتب المعروفة عند اليهود ، هو كتاب «دانيال» حيث نقرأ في الفصل الثامن منه ، ما يلي : «حينما ملك (بل شصّر) عرضت لي وأنا دانيال رؤيا بعد الرؤيا الأولى التي شاهدتها ، وذلك حينما كنت أسكن قصر (شوشان) في بلاد (عيلام)

__________________

(١) يراجع تفسير نور الثقلين ، ج ٣ ، ص ٢٩٤ و ٢٩٥.

٣٦٥

فقد رأيت وأنا في المنام بأنّي على مقربة من نهر (أولاي) وأن كبشا يقف قرب النهر وكان له قرنان طويلان ، ووجدته يضرب بقرنيه غربا وشمالا وجنوبا ، ولم يتقدم أحد أمامه ، ولأنّه لم يكن يوجد أحد أمامه ، لذا فإنّه كان يتصرف وفقا لما يريد ، وكان يكبر»(١) .

وبعد ذلك نقل عن دانيال في هذا الكتاب قوله : «وقد تجلّى له جبرائيل (أي لدانيال) وفسّر منامه هكذا : إنّ الكبش ذا القرنين الذي رأيته فإنّه من ملوك المدائن وفارس (أو ملوك ماد وفارس).

لقد استبشر اليهود من رؤيا دانيال وعلموا بأنّ فترة عبوديتهم ستنتهي من قبضة البابليين.

ولم تمض مدّة طويلة حتى ظهر (كورش) على مسرح الحكم في إيران ووحّد بلاد (ماد وفارس) وشكّل منهما مملكة كبيرة ؛ وكما قال دانيال ، فإنّ الكبش كان يضرب بقرنه الغرب والشرق ، فإنّ كورش قام بالفتوحات الكبيرة في الجهات الثلاث ، وحرّر اليهود وسمح لهم بالعودة إلى فلسطين.

والطريف ما نقرؤه في التوراة في كتاب «أشعيا» فصل (٤٤) رقم (٢٨) : «ثمّ يقول بخصوص كورش : إنّه كان راعيا عندي (أي عند الرب) وسيقوم بتنفيذ مشيئتي».

يجب الانتباه إلى أنّ وصف كورش ورد في بعض تعبيرات التوراة على أنّه «عقاب المشرق» والرجل المدبّر الذي يأتي من مكان بعيد. (كتاب أشعيا فصل ٤٦ رقم ١١).

الأصل الثّاني : لقد تمّ العثور في القرن التاسع عشر الميلادي على تمثال لكورش في طول إنسان تقريبا ، وذلك بالقرب من مدينة «إصطخر» بجوار نهر «المرغاب» ويظهر من هذا التمثال أنّ لكورش جناحين من الجانبين يشبهان

__________________

(١) كتاب دانيال ، الفصل الثامن ، الجمل ١ ـ ٤.

٣٦٦

جناح العقاب ، وعلى رأسه تاج يشاهد فيه قرنان يشبهان قرنا الكبش.

فضلا عمّا يطويه هذا التمثال من نموذج قيّم لفن النحت القديم ، فقد جلب انتباه العلماء ، حتى أنّ مجموعة من العلماء الألمان سافروا إلى إيران لأجل رؤيته فقط.

عند تطبيق ما ورد في التوراة على مواصفات التمثال تبلور في ذهن العلّامة (أبو الكلام آزاد) احتمال في وجود اشتراك بين «ذو القرنين» وكورش ، وأنّ الأخير لم يكن سوى «ذو القرنين» نفسه. فتمثال كورش له جناحان كجناحى العقاب ، وهكذا توضحت شخصية «ذو القرنين» التأريخية لمجموعة من العلماء.

وممّا يؤيّر هذه النظرية الأوصاف الأخلاقية المذكورة لكورش في التأريخ.

يقول «هرودوت» ، المؤرخ اليوناني : لقد أعطى كورش أمرا إلى قواته بألّا يضربوا بسيوفهم سوى المحاربين ، وأن لا يقتلوا أي جندي للعدوّ إذا انحنى. وقد أطاع جيشه أوامره ، بحيث أنّ عامّة الناس لم تشعر بمصائب الحرب ومآسيها.

ويكتب عنه «هرودوت» أيضا : لقد كان كورش ملكا كريما ، وسخيا عطوفا ، ولم يكن مثل بقية الملوك في حرصهم على المال ، بل كان حريصا على إفشاء العدل ، وكان يتسم بالعطاء والكرم ، وكان ينصف المظلومين ويحب الخير.

ويقول مؤرّخ آخر هو (ذينوفن) : لقد كان كورش ملكا عادلا وعطوفا ، وقد اجتمعت فيه فضائل الحكماء ، وشرف الملوك ؛ فالهمة الفائقة كانت تغلب على وجوده ، وكان شعاره خدمة الإنسانية ، وأخلاقه إفشاء العدل ، كما أنّ التواضع والسماحة كانا يغلبان الكبر والعجب في وجوده.

الطريف في الأمر أنّ هؤلاء المؤرّخين الذين ذكروا كورش في الأوصاف الآنفة الذكر،كانوا من كتاب التأريخ الغرباء عن قوم كورش ، ومن غير أبناء وطنه ، حيث كانوا من (اليونان) ، والمعروف أنّ أهل اليونان تعرضوا لهزيمة منكرة على يد كورش عند ما فتح «ليديا»!

٣٦٧

ثمّ إنّ أنصار هذا الرأي يقولون : إنّ الأوصاف المذكورة في القرآن الكريم حول «ذو القرنين» تتطابق مع الأوصاف التأريخية لكورش.

والأهم من ذلك أنّ كورش قد سافر أسفارا نحو الشمال والشرق والغرب ، وقد وردت قصة هذه الأسفار مفصّلة في حياته ، وهي تتطابق مع الأسفار الثلاثة لذي القرنين الوارد ذكرها في القرآن الكريم.

فأوّل جيش له كان قد أرسله إلى بلاد «ليديا» الواقعة في شمال آسيا الصغرى ، وهذه البلاد كانت تقع غرب مركز حكومة كورش.

وعند ما نضع خارطة الساحل الغربي لآسيا الصغرى أمامنا ، فسوف نرى أنّ القسم الأعظم من الساحل يغرق في الخلجان الصغيرة وخاصة قرب «أزمير» حيث يكون الخليج بشكل يشبه شكل العين. والقرآن يبيّن أن «ذو القرنين» في سفره نحو الغرب أحسّ بأنّ الشمس غرقت في عين من اللجن.

هذا المشهد ، هو نفس المنظر الذي شاهده «كورش» حينما تطمس الشمس في الخلجان الساحلية لتبدو لعين الناظر وكأنّها غارقة في تلك الخلجان الساحلية.

أمّا الجيش الثّاني فقد كان باتجاه الشرق ، وفي وصفه يقول المؤرخ «هرودوت» : إنّ هذا الهجوم الكورشي في الشرق كان بعد فتح «ليديا» وخاصّة بعد عصيان بعض القبائل الهمجية التي أجبرت بعصيانها كورش على هذا الهجوم.

وتعبير القرآن الذي يقول :( حَتَّى إِذا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَها تَطْلُعُ عَلى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِها سِتْراً ) هو إشارة إلى سفر «كورش» إلى أقصى الشرق حيث شاهد أنّ الشمس تشرق على أناس لم يجعلوا لهم ما يظلّهم من حرّ الشمس ، وهذه إشارة إلى أنّ القوم كانوا من سكنة الصحارى الرحّل.

أمّا الجيش الثّالث فقد أرسله نحو الشمال باتجاه جبال القوقاز حيث وصل إلى المضيق المحصور بين الجبلين ، وبنى هناك سدّا محكما بطلب من أهل

٣٦٨

المنطقة ، لكي يتحصنوا به عن هجمات القبائل الهمجية من قوم يأجوج ومأجوج.

المضيق يسمى في الوقت الحاضر مضيق «داريال» حيث يمكن مشاهدته في الخرائط المنتشرة في الوقت الحاضر ، ويقع بين «والادي كيوكز» و «تفليس» في نفس المكان الذي ما زال يظهر فيه حتى الآن الجدار الحديدي الأثري ، والذي هو نفس السد الذي بناه «كورش» ، إذ ثمّة تطابق واضح بينه وبين ما ذكر القرآن من صفات وخصائص لسدّ ذي القرنين.

هذه هي خلاصة الأدلة التي تدعم صحة النظرية الثّالثة حول شخصية «ذو القرنين»(١) .

صحيح أنّ ثمّة نقاطا مبهمة في هذه النظرية ، إلّا أنّها في الوقت الحاضر تعتبر أفضل النظريات في تشخيص شخصية «ذو القرنين» وتطبيق مواصفاتها القرآنية على الشخصيات التأريخية.

ثالثا : أين يقع سد ذي القرنين؟

بالرغم من محاولة البعض المطابقة بين سد ذي القرنين وبين جدار الصين الذي لا يزال موجودا ويبلغ طوله مئات الكيلو مترات ، إلّا أنّ الواضح أنّ جدار الصين لا يدخل في بنائه الحديد ولا النحاس ، ومضافا إلى ذلك لا يقع في مضيق جبلي ضيق ، بل هو جدار مبني من مواد البناء العادية ويبلغ طول مئات الكيلو مترات ، وما زال موجودا حتى الآن.

البعض يرى في سد ذي القرنين أنّه سد مأرب في اليمن ، ولكن هذا السد برغم وقوعه في مضيق جبلي ، إلّا أنّه أنشئ لمنع السيل ولخزن المياه ، ولم يدخل النحاس والحديد في بنائه.

__________________

(١) لمزيد من التفاصيل يمكن مراجعة كتاب «ذو القرنين أو كورش الكبير».

٣٦٩

ولكن بالاستناد إلى شهادة العلماء وأهل الخبرة فإنّ السد ـ كما أشرنا لذلك قبل قليل ـ يقع في أرض القوقاز بين بحر الخزر والبحر الأسود ، حيث توجد سلسلة جبلية كالجدار تفصل الشمال عن الجنوب ، والمضيق الوحيد الذي يقع بين هذه الجبال الصخرية هو مضيق «داريال» المعروف ، ويشاهد فيه جدار حديدي أثري حتى الآن ، ولهذه المرجحات يعتقد الكثيرون أنّ سد «ذو القرنين» يقع في هذا المضيق ، وأنّ المتبقي من مواصفات آثاره دليل مؤيّد لذلك.

الطريف في الأمر أنّه يوجد نهر على مقربة من ذلك المكان يسمى «سائرس» أي كورش» إذ كان اليونان يسمون كورش ب (سائرس).

الآثار الأرمنية القديمة كانت تطلق على هذا الجدار اسم «بهاك كورائي» والتي تعني «مضيق كورش» أو «معبر كورش» وهذا دليل آخر على أنّ كورش هو الذي بنى السد(١) .

رابعا : من هم يأجوج ومأجوج؟

ذكر القرآن الكريم يأجوج ومأجوج في سورتين ، إذ وردت المرّة الأولى في الآيات التي نبحثها ، والثّانية في سورة الأنبياء ، آية (٩٦).

الآيات القرآنية تؤيّد بوضوح أنّ هذين الاسمين هما لقبيلتين همجيتين كانتا تؤذيان سكان المناطق المحيطة بهم.

وفي كتاب «حزقيل» من التوراة ، الفصل الثامن والثلاثين والتاسع والثلاثين ، وفي كتاب رؤيا «يوحنا» الفصل العشرين ، ذكرا بعنوان «كودك» و «ماكوك» التي تعني بعد التعريب يأجوج ومأجوج.

ويقول العلّامة الطباطبائي ، في تفسير الميزان : إنّه يستفاد من مجموع ما ذكر في التوراة أن مأجوج أو يأجوج ومأجوج هم مجموعة أو مجاميع كبيرة كانت

__________________

(١) للمزيد من التفاصيل يراجع المصدرين السابقين.

٣٧٠

تقطن أقصى نقطة في شمال آسيا ، وهم أناس محاربون يغيرون على الأماكن القربية منهم(١) .

البعض يعتقد أنّ هاتين الكلمتين عبريتين ، ولكنهما في الأصل انتقلتا من اليونانية إلى العبرية ، إذ كانتا تلفظان في اليونانية بـ «كاك» و «ماكاك» ثمّ انتقلتا على هذا الشكل إلى كافة اللغات الأوروبية.

ثمّة أدلة تأريخية على أنّ منطقة شمال شرقي الأرض في نواحي «مغولستان» كانت في الأزمنة السابقة كثيفة السكان ، إذ كانت الناس تتكاثر بسرعة ، وبعد أن ازداد عددهم اتجهوا نحو الشرق أو الجنوب ، وسيطروا على هذه الأراضي وسكنوا فيها تدريجيا.

وقد وردت مقاطع تأريخية مختلفة لحركة هؤلاء الأقوام وهجراتهم ، وقد تمّت واحدة من هذه الهجمات في القرن الرابع الميلادي ، بقيادة «آتيلا» وقد قضت هذه الهجمة على حضارة الإمبراطورية الرومانية.

وكان آخر مقطع تأريخي لهجومهم في القرن الثّاني عشر الميلادي بقيادة جنگيزخان ، حيث هاجم شرق البلاد الإسلامية ودمّر العديد من المدن ، وفي طليعتها مدينة بغداد حاضرة الخلافة العباسية ، وفي عصر كورش في حوالي عام (٥٠٠) قبل الميلاد قامت هذه الأقوام بعدة هجمات ، لكن موقف حكومة «ماد وفارس» إزاءهم أدّى إلى تعتبر الأوضاع واستتباب الهدوء في آسيا الغربية التي نجت من حملات هذه القبائل.

وبهذا يظهر أنّ يأجوج ومأجوج هم من هذه القبائل الوحشية ، حيث طلب أهل القفقاز من «كورش» عند سفره إليهم أن ينقذهم من هجمات هذه القبائل ، لذلك أقدم على تأسيس السد المعروف بسدّ ذي القرنين(٢) .

* * *

__________________

(١) يلاحظ المجلد ١٣ ، من تفسير الميزان ، ص ٤١١.

(٢) لمزيد من التفاصيل يراجع كتاب (ذو القرنين أو كورش الكبير).

٣٧١

الآيات

( وَتَرَكْنا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْناهُمْ جَمْعاً (٩٩) وَعَرَضْنا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكافِرِينَ عَرْضاً (١٠٠) الَّذِينَ كانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً (١٠١) أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبادِي مِنْ دُونِي أَوْلِياءَ إِنَّا أَعْتَدْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ نُزُلاً (١٠٢) )

التّفسير

عاقبة الكافرين :

لقد تناولت الآية السابقة سد يأجوج ومأجوج وانهدامه عند البعث ، وهذه الآيات تستمر في قضايا القيامة ، فتقول أوّلا : إنّنا سنترك في ذلك اليوم ـ الذي ينتهي فيه العالم ـ بعضهم يموج ببعض :( وَتَرَكْنا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ ) .

إنّ استخدام كلمة «يموج» إمّا بسبب الكثرة الكاثرة للناس في تلك الواقعة ، وشبيه له ما نقوله من أنّ الناس في القضية الفلانية يموجون ، كناية عن كثرتهم ، أو بسبب الاضطراب الخوف الذي يصيب الناس في ذلك اليوم ، وكأنّما أجسادهم تهتز كأمواج الماء.

٣٧٢

طبعا لا يوجد تناقض بين المعنيين ، ويمكن أن يشمل تعبير الآية كلا الحالتين.

بعد ذلك تضيف الآيات :( وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْناهُمْ جَمْعاً ) وبلا شك فإنّ كافة الناس سيجمعون في تلك الساحة ولن يستثنى منهم أحد ، وتعبير( فَجَمَعْناهُمْ جَمْعاً ) إشارة إلى هذه الحقيقة.

من مجموع الآيات نستفيد أنّ ثمّة تحولان عظيمان سيحصلان عند نهاية هذا العالم وبداية العالم الجديد :

الأوّل : فناء الموجودات والناس بشكل آني.

والثّاني : إحياء الموتى بشكل آني أيضا.

ولا نعلم مقدار الفاصل بين الحدثين ، ولكنّ القرآن يعبّر عن هذين التحوّلين بعنوان (نفخ الصور) ، وسنشرح ما يعينه ذلك في نهاية الآية (٦٨) من سورة الزمر إن شاء الله.

وهناك رواية ينقلها «أصبغ بن نباتة» عن الإمام الصادقعليه‌السلام ، يبيّن فيهاعليه‌السلام أنّ المقصود من قوله تعالى :( وَتَرَكْنا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ ) هو يوم القيامة(١) .

وقد يتصّور البعض أنّ هناك تعارضا بين الرّواية وبين ما ذكرناه أعلاه في تفسير الآية ، حيث قلنا : إنّها تعني مرحلة فناء الدنيا ، كما يظهر من الآيات التي تسبقها والتي تليها. لكن هذا التعارض سيزول إذا التفتنا إلى ملاحظة وهي أنّه يتمّ استخدام يوم القيامة ـ في بعض الأحيان ـ بمعناه الواسع الذي يشتمل على المقدمات) أي مقدمات القيامة) ونحن نعرف : أنّ الفناء السريع للدنيا هو أحد المقدمات.

ثمّ تتناول الآيات تفصيل حال الكافرين ، حيث توضح عاقبة أعمالهم ،

__________________

(١) تفسير العياشي ، نقلا عن الميزان في تفسير الآية.

٣٧٣

والصفات التي تقود إلى هذه العاقبة ، فتقول :( وَعَرَضْنا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكافِرِينَ عَرْضاً ) .

إنّ جهنّم ستظهر لهم ، وتتضح لهم الأنواع المختلفة من عذابها ، وهذا هو بحدّ ذاته عذاب أليم موجع ، فكيف إذا ولجوها!؟ من هم الكافرون؟ ولماذا يصابون بمثل هذه العاقبة؟

الآية تعرّف هؤلاء بجملة قصيرة واحدة بقولها :( الَّذِينَ كانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطاءٍ عَنْ ذِكْرِي ) وبالرغم من أنّهم يمتكون آذانا ، إلّا أنّهم يفقدون القدرة على السماع :( وَكانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً ) .

فهؤلاء أسقطوا في الواقع أهم وسيلة لمعرفة الحق وإدراكه ، وأهملوا والوسيلة الهامة في شقاء أو سعادة الإنسان ، يعني أنّهم غطّوا أعينهم وأسماعهم بحجاب وستار بسبب أفكارهم الخاطئة وتعصبهم وحقدهم وصفاتهم القبيحة الأخرى.

الطريف في الأمر أنّ الآية تقول فيما يخص العين : إنّها كانت مغطاة وبعيدة عن ذكري ، وهذه إشارة إلى أنّهم لم يستطيعوا أن يشاهدوا آثار الخالق جلّ وعلا ، لأنّهم كانوا في ستار وحجاب من الغفلة ، ولأنّهم لم يشاهدوا الحقائق فقد اختلفوا الأساطير ونسوا الله.

نعم ، إنّ الحق الواضح ، وكل شيء في هذا الوجود يتحدث مع الإنسان ، والمطلوب أن تكون للإنسان عين تنظر وأذن تسمع!

بعبارة أخرى : إنّ ذكر الله ليس شيئا يمكن رؤيته بالعين ، فما يشاهد هو آثاره ، إلّا أنّ آثاره هي التي تذكّر الإنسان بخالقه.

الآية التي بعدها تشير إلى نقطة انحراف فكرية لدى هؤلاء هي أصل انحرافاتهم الأخرى، فتقول :( أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبادِي مِنْ دُونِي أَوْلِياءَ ) .

٣٧٤

هل يملك هؤلاء المعبودون ـ كالمسيح والملائكة ـ شيئا للدفاع عن الآخرين بالرغم من مكانتهم العالية ، أو أنّ الأمر بالعكس إذ كل ما عند هؤلاء هو من الله ، وأنّهم أنفسهم يحتاجون إلى هدايته؟

إنّ هذه حقيقة واضحة ، ولكنّ هؤلاء تناسوها وتورطوا في شراك الشرك.

في ختام الآية وللمزيد من التأكيد ، تقول الآية :( إِنَّا أَعْتَدْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ نُزُلاً ) .

«نزل» على وزن «رسل» بمعنى الإقامة ، وتعني أيضا الشيء الذي يهيّأ لتقديمه للضيوف ، وذهب البعض إلى أن هذه الكلمة تطلق على أوّل شيء يقدم للضيف عند وروده كالفواكه والشراب.

* * *

٣٧٥

الآيات

( قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالاً (١٠٣) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً (١٠٤) أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً (١٠٥) ذلِكَ جَزاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِما كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آياتِي وَرُسُلِي هُزُواً (١٠٦) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً (١٠٧) خالِدِينَ فِيها لا يَبْغُونَ عَنْها حِوَلاً (١٠٨) )

التّفسير

أخسر الناس :

هذه الآيات والآيات اللاحقة ـ إلى نهاية السورة المباركة ـ في الوقت الذي تتحدّث فيه عن صفات غير المؤمنين ، فإنّها تعتبر نوعا من التلخيص لكافة البحوث التي وردت في هذه السورة ، خاصة البحوث المتعلقة بقصة أصحاب الكهف وموسى والخضر وذي القرنين، وما بذلوه من جهود إزاء معارضيهم.

٣٧٦

فالآيات تكشف أوّلا عن أخسر الناس ، ولكنّها ـ بهدف إثارة حب الاستطلاع لدى المستمع إزاء هذه القضية ـ تعمد إلى إثارتها على شكل سؤال موّجه إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فتقول :( قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالاً ) .

ثمّ يأتي الجواب بدون أي توقف حتى لا يبقى المستمع في حيرة ، فتقول :( الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً ) .

مفهوم الخسران لا ينطبق على خسران الأرباح وحسب ، بل إنّ الخسران الواقعي هو خسران أصل رأس المال ، وهل هناك رأس مال أربح وأفضل وأحسن من العقل والذكاء والطاقات الإلهية الموهوبة للإنسان من عمر وشباب وصحة؟

إنّ نتاج كل هذه المواهب هي أعمال الإنسان ، وأعمال الإنسان هي في الواقع انعكاس وتجسيد لطاقاتنا وقدراتنا.

عند ما تتحوّل هذه الطاقات إلى أعمال مخرّبة أو غير هادفة ، فكأنّها قد فنيت أو ضاعت ، فهي كمثل الإنسان الذي يحمل ثروة عظيمة معه ، ولكنّه أثناء ذهابه إلى السوق يفقد هذه الثروة ويعود بيد خالية.

وقد لا يكون الخسران خسرانا خطيرا عند ما يتعلّم الإنسان من فقدان الثروة دروسا كبيرة قد تكون في قيمتها مساويه للثروة التي فقدها ، أو أكثر قيمة منها في بعض الأحيان ، فكأنّه لم يخسر شيئا.

إلّا أنّ الخسران الحقيقي والمضاعف هو أن يفقد الإنسان رأسماله المادي والمعنوي في مسالك خاطئة ومجالات منحرفة ويظن أنّه أحسن العمل ، فهو في هذه الحالة لم يحصل على ثمرة لعمله ، وفي نفس الوقت لم يلتفت إلى ما هو فيه ، فيكرّر العمل.

الجميل هنا ، إنّ القرآن الكريم استخدم تعبير( بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالاً ) في حين أنّ المفروض هو القول : «الأخسرين عملا» (لأنّ التمييز مفرد عادة) ولكن لعل

٣٧٧

هذه الصياغة القرآنية بسبب أنّهم لم يخسروا في عمل معين ، بل إنّ جهلهم المركب كان سببا للخسران في جميع البرامج الحياتية وفي جميع أعمالهم.

بعبارة أخرى : إنّ الإنسان قد يربح في تجارة معينة ويخسر في أخرى ، إلّا أنّ المحصلة في نهاية السنة هي أنّه لا توجد خسارة كبيرة ، ولكن من سوء حظ الإنسان أن يخسر في جميع الأعمال التي اشترك فيها.

استخدم كلمة «ضلّ» لعله إشارة إلى هذه الحقيقة ؛ وهي أنّ أعمال الإنسان لا تفني في هذا العالم بأى صورة من الصور ، كما أنّ المادة والطاقة تتبدّل وتتغيّر ولكنّها لا تفنى، ولكن قد تختفي أحيانا ، لأنّه لا يمكن مشاهدة آثارها بالعين ، ولا يمكن الاستفادة منها بأي شكل من الاشكال ومثلها في ذلك مثل رأس المال الضائع والذي لا هو في حوزتنا فنستفيد منه ، ولا هو فان.

أمّا لماذا يصاب الإنسان نفسيا بمثل هذه الحالات؟ فهو أمر سنبحث فيه مفصلا في فقرة البحوث.

الآيات الأخرى تذكر صفات ومعتقدات هذه المجموعة من الخاسرين ، حيث تبدأ بتلك الصفات التي تكون أساسا في مصائبهم فتقول :( أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ ) .إنّهم كفروا بالآيات التي تفتح الأبصار والمسامع ؛ الآيات التي ترفع حجب الغرور وتجسّد الحقائق أمام الإنسان ، وأخيرا فإنّها آيات النور والضياء التي تخرج الإنسان من ظلمات الأوهام والتصورات الخاطئة وترشده إلى عالم الحقائق.

ثمّ إنّهم بعد ذلك نسوا الله وكفروا بالمعاد وبلقاء الله( وَلِقائِهِ ) .

نعم ، فما لم يكن الإيمان بالمعاد إلى جانب الإيمان بالمبدأ ، وما لم يحس الإنسان بأنّ هناك قوّة تراقب أعماله وتحتفظ بكل شيء إلى لحظة انعقاد المحكمة الكبيرة الدقيقة والقاسية ، فإنّ الإنسان سوف لا يعير أهمية إلى أعماله وسوف لا يصلح نفسه.

٣٧٨

ثمّ تضيف الآية أنّهم بسبب من كفرهم بالمبدأ والمعاد فإنّ أعمالهم قد حبطت وضاعت:( فَحَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ ) . وغدت تماما كالرماد في مقابل العاصفة الهوجاء.

ولأنّهم لا يملكون عملا قيما ثمينا لذا :( فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً ) .

لأنّ الوزن يخص الأمور الموجودة ، أمّا هؤلاء فلا يملكون شيئا من الأعمال ، ولذلك ليس لهم وزن ولا قيمة؟ وفي إطار بيان جزاء هؤلاء ، تكشف الآية عن ثالث سبب في انحراف وخسران هؤلاء ، وهو الاستهزاء بما انزل الله فتقول :( ذلِكَ جَزاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِما كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آياتِي وَرُسُلِي هُزُواً ) (١) .

وبذلك فإنّ هؤلاء انتهوا إلى إنكار الأصول الأساسية الثلاثة في الإعتقاد الديني (المبدأ، والمعاد ، ورسالة الأنبياء) والأكثر من الإنكار أنّهم استهزءوا بهذه الأمور!

والآن بعد أن عرفنا علامات الكفار والأخسرين أعمالا ، وبعد أن انكشفت عاقبة أعمالهم ، تتوجه الآيات إلى المؤمنين فتبيّن عاقبتهم ، وبمقايسة بين الاثنين نستطيع تشخيص كل طرف بشكل كامل. تقول الآية :( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً ) .

«الفردوس» بقول كبار المفسّرين (البستان) الذي يشتمل على كل النعم والمواهب اللازمة ، وبذلك فالفردوس هو أفضل وأكمل البساتين في الجنّة.

وبما أنّ كمال النعم بدوامها وأن لا تطالها يد الزوال ، لذا فإنّ الآية تقول بلا فصل:( خالِدِينَ فِيها ) .

وبالرغم من أنّ طبع الإنسان قائم على التغيّر والتنوّع ، إلّا أنّ سكان الجنّة

__________________

(١) هناك كلام بين المفسّرين حول تركيب جملة( ذلِكَ جَزاؤُهُمْ ) فالبعض اعتبر «ذلك» مبتدأ و «جزاؤهم» خبرا و «جهنم» بدلا ، في حين أنّ البعض الآخر اعتبر أنّ المبتدأ محذوف و «ذلك» خبرا له ، و «جزاؤهم جهنم» مبتدأ لخبر آخر تقديره : الأمر ذلك جزاؤهم جهنم. إلّا أنّهم يظهر أنّ الرأي الأوّل أكثر تناسبا من غيره.

٣٧٩

لا يطلبون تغيير مكانهم أو حالهم أبدا :( لا يَبْغُونَ عَنْها حِوَلاً ) . ذلك لأنّهم يجدون كل ما يطلبون حتى التنوع والتكامل كما سيأتي شرح ذلك.

* * *

بحوث

١ ـ من هم الأخسرون أعمالا؟

نلاحظ في حياتنا وحياة الآخرين ، أنّ الإنسان عند ما يقوم بعمل خاطئ ويعتقد أنّه صحيح ، فإنّ جهله المركب هذا لا يدوم أكثر من لحظة أو موقف أو حتى سنة ، أمّا أن يدوم على امتداد عمره فذلك هو سوء الحظ وهو الخسران المبين.

لهذا وجدنا القرآن الكريم يسمي مثل هؤلاء الأشخاص بالأخسرين ، لأنّ الذي يرتكب الذنب وهو يعلم بذلك ، فإنّه سيضع حدا لما هو فيه ويعوّض عن الذنب بالتوبة والعمل الصالح ، أمّا أولئك الذين يظنون أن ذنوبهم عبادة وأعمالهم السيئة أعمالا صالحة ، وانحرافهم استقامة ، فإنّ مثل هؤلاء لا يستطيعون التعويض عن ذنوبهم ، بل يستمرون فيما هم فيه إلى نقطة النهاية ، فيكونون كما عبّر عنهم القرآن :( بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالاً ) .

وفي الرّوايات والأحاديث الإسلامية تفاسير متعدّدة للأخسرين أعمالا ، وإنّ كل واحد منها إشارة إلى أحد المصاديق الواضحة لهذا المفهوم الواسع من دون أن تحدّده ، ففي حديث «أصبغ بن نباتة» أنّه سأل الإمام عليعليه‌السلام عن تفسير الآية ، فقال الإمام : «كفرة أهل الكتاب ، اليهود والنصارى ، وقد كانوا على الحق فابتدعوا في أديانهم وهم يحسبون أنّهم يحسبون صنعا»(١) .

وفي حديث آخر عن الإمام عليعليه‌السلام أيضا ، قوله بعد ذكر الجواب الآنف :

__________________

(١) يراجع نور الثقلين ، ج ٣ ، ص ٣١١ ـ ٣١٢.

٣٨٠

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

يَمْشِي سَوِيًّا عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ ) .

فهنا شبه المعاندين والمغرورين كمن يسير في جادّة متعرّجة غير مستوية كثيرة المنعطفات وقد وقع على وجهه ، يحرّك يديه ورجليه للاهتداء إلى سبيله ، لأنّه لا يبصر طريقه جيّدا ، وليس بقادر على السيطرة على نفسه ، ولا بمطّلع على العقبات والموانع ، وليست لديه القوّة للسير سريعا ، وبذلك يتعثّر في سيره يمشي قليلا ثمّ يتوقّف حائرا.

كما شبّه المؤمنين برجال منتصبي القامات ، يسيرون في جادّة مستوية ومستقيمة ليس فيها تعرّجات واعوجاج ، ويمشون فيها بسرعة ووضوح وقدرة ووعي وعلم وراحة تامّة.

إنّه ـ حقّا ـ لتشبيه لطيف فذّ ، حيث إنّ آثار هذين السبيلين واضحة تماما ، وانعكاساتها جليّة في حياة هذين الفريقين ، وذلك ما نلاحظه بأمّ أعيننا.

ويرى البعض أنّ مصداق هاتين المجموعتين هما : (الرّسول الأكرم) و (أبو جهل) فهما مصاديق واضحة للآية الكريمة ، إلّا أنّ ذلك لا يحدّد عمومية الآية.

وذكرت احتمالات متعدّدة في تفسير (مكبّا على وجهه). إلّا أنّ أكثر الاحتمالات المنسجمة مع المفهوم اللغوي للآية هو ما ذكرناه أعلاه ، وهو أنّ الإنسان غير المؤمن يكون مكبّا على وجهه ويمشي زاحفا بيده ورجليه وصدره.

وقيل أنّ المقصود من (مكبّا) هو المشي الاعتيادي ولكنّه مطأطئ الرأس لا يشخّص مسيره بوضوح أبدا.

كما يرى آخرون أنّ المقصود بـ (مكبّا) هو الشخص الذي لا يستطيع أن يحفظ توازنه في السير ، فهو يخطو خطوات معدودة ثمّ ما يلبث أن يسقط على الأرض وينهض ليمشي ، ثمّ تتكرّر هذه الحالة.

ويستفاد ممّا ذكره الراغب في مفرداته أنّ المقصود بـ (مكبّا) هو الشخص الذي يدور حول محور الذات والأنانية ، معرضا عن الاهتمام بغيره.

٥٠١

إلّا أنّ المعنى الأوّل أنسب حسب الظاهر ، وذلك بقرينة المقابلة مع وضع المؤمنين والذين عبّرت عنهم الآية بـ (سويّا).

وعلى كلّ حال ، فهل أنّ هذه الحالة (مكبّا) و (سويّا) تمثّل وضع الكفّار والمؤمنين في الآخرة فقط؟ أم في العالمين (الدنيا والآخرة)؟ لا دليل على محدودية مفهوم الآية وانحصارها في الآخرة ، فهما في الدنيا كما هما في الآخرة.

إنّ هؤلاء الأنانيين المنشدّين إلى مصالحهم الماديّة والمنغمسين في شهواتهم ، السائرين في درب الضلال والهوى ، كمن يروم العبور من مكان مليء بالأحجار زاحفا على صدره ، بخلاف من تحرّر من قيد الهوى في ظلّ الإيمان حيث يكون مسيره واضحا ومستقيما ونظراته عميقة وثاقبة.

ثمّ يوجّه الله تعالى الخطاب إلى الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الآية اللاحقة فيقول :( قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ ) .

إنّ الله تعالى جعل لكم وسيلة للمشاهدة والإبصار (العين) وكذلك وسيلة وقناة للاطّلاع على أفكار الآخرين ومعرفة وجهات نظرهم من خلال الاستماع (الإذن) ثمّ وسيلة اخرى للتفكّر والتدبّر في العلوم والمحسوسات واللامحسوسات (القلب).

وخلاصة الأمر إنّ الله تعالى قد وضع جميع الوسائل اللازمة لكم لتتعرّفوا على العلوم العقلية والنقلية ، إلّا أنّ القليل من الأشخاص من يدرك هذه النعم العظيمة ويشكر الله المنعم ، حيث أنّ شكر النعمة الحقيقي يتجسّد بتوجيه النعمة نحو الهدف الذي خلقت من أجله ، ترى من هو المستفيد من هذه الحواس (العين والاذن والعقل) بصورة صحيحة في هذا الطريق؟

ثمّ يخاطب الرّسول مرّة اخرى حيث يقول تعالى :( قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ) .

وفي الحقيقة فإنّ الآية الاولى تعيّن (المسير) ، والثانية تتحدّث عن (وسائل

٥٠٢

العمل) أمّا الآية ـ مورد البحث ـ فإنّها تشخّص (الهدف والغاية) وذلك بالتأكيد على أنّ السير يجب أن يكون في الطريق المستقيم ، والصراط الواضح المتمثّل بالإسلام والإيمان ، وبذل الجهد للاستفادة من جميع وسائل المعرفة بهذا الاتّجاه ، والتحرّك نحو الحياة الخالدة.

والجدير بالملاحظة هنا أنّ التعبير في الآية السابقة ورد بـ (أنشأكم) وفي الآية مورد البحث بـ (ذرأكم) ، ولعلّ تفاوت هذين التعبيرين هو أنّه في الأولى إشارة إلى الإنشاء والإيجاد من العدم (أي إنّكم لم تكونوا شيئا وقد خلقكم الله تعالى) وفي الثانية إشارة إلى خلق الإنسان من مادّة التراب ، وذلك يعني أنّ الله خلق الإنسان من التراب.

ثمّ يستعرض سبحانه قول المشركين في هذا المجال والردّ عليهم ، فيقول تعالى :( وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ) .

إنّ المشركين يطالبون بتعيين التاريخ بصورة دقيقة ليوم القيامة ، كما أنّهم يطالبون بحسم هذا الأمر الذي يتعلّق بمصير الجميع( مَتى هذَا الْوَعْدُ؟ ) .

وذكروا احتمالين في المقصود من (هذا الوعد) : الأوّل : هو وعد يوم القيامة ، والآخر : هو تنفيذ الوعد بالنسبة للعقوبات الدنيوية المختلفة ، كوقوع الزلازل والصواعق والطوفانات. إلّا أنّ المعنى الأوّل أكثر تناسبا حسب الظاهر ، وذلك بلحاظ ما ورد في الآية السابقة. كما أنّ بالإمكان الجمع بين المعنيين.

ويجيبهم الله سبحانه على تساؤلهم هذا بقوله تعالى :( قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللهِ وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ ) .

إنّ هذا التعبير يشبه تماما ما ورد في الآيات القرآنية العديدة التي من جملتها

٥٠٣

قوله تعالى :( قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي ) (١) .

ولا بدّ أن يكون الجواب بهذه الصورة ، حيث أنّ تحديد تأريخ يوم القيامة إن كان بعيدا فإنّ الناس سيغرقون بالغفلة ، وإن كان قريبا فإنّهم سيعيشون حالة الهلع والاضطراب. وعلى كلّ حال فإنّ الأهداف التربوية تتعطّل في الحالتين.

ويضيف في آخر آية من هذه الآيات بأنّ الكافرين حينما يرون العذاب والوعد الإلهي من قريب تسودّ وجوههم :( فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ) فسيماهم طافحة بآثار الحزن والندم( وَقِيلَ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ ) .

«تدعون» من مادّة (دعاء) يعني أنّكم كنتم تدعون وتطلبون دائما أن يجيء يوم القيامة ، وها هو قد حان موعده ، ولا سبيل للفرار منه(٢) .

وهذا المضمون يشبه ما جاء في قوله تعالى مخاطبا الكفّار في يوم القيامة :( هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ ) (٣) .

وعلى كلّ حال ، فإنّ الآية الشريفة ناظرة إلى عذاب يوم القيامة كما ذهب إليه أغلب المفسّرين ، وهذا دليل على أنّ جملة( مَتى هذَا الْوَعْدُ ) إشارة إلى موعد يوم القيامة.

يقول الحاكم أبو القاسم الحسكاني : عند ما شاهد الكفّار شأن ومقام الإمام عليعليه‌السلام عند الله تعالى. اسودّت وجوههم (من شدّة الغضب)(٤) .

ونقل هذا المعنى أيضا في حديث عن الإمام الباقرعليه‌السلام أنّ هذه الآية نزلت

__________________

(١) الأعراف ، الآية ١٨٧.

(٢) «تدعون» من باب (افتعال) ، ومن مادّة دعاء ، بمعنى الطلب والرجاء ، أو من مادّة (دعوا) بمعنى الطلب أو إنكار شيء معيّن.

(٣) الذاريات ، الآية ١٤.

(٤) مجمع البيان ، ج ١٠ ، ص ٣٣٠.

٥٠٤

بحقّ أمير المؤمنين عليعليه‌السلام وأصحابه(١) .

وهذا التّفسير نقل عن طرق الشيعة وأهل السنّة ، وهو نوع من التطبيق المصداقي ، وإلّا فإنّ هذه الآية تناولت موضوع (القيامة) ومثل هذه التطبيقات ليست قليلة في عالم الروايات.

* * *

__________________

(١) نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ٣٨٥.

٥٠٥

الآيات

( قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنا فَمَنْ يُجِيرُ الْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (٢٨) قُلْ هُوَ الرَّحْمنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٢٩) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ (٣٠) )

التّفسير

من الذي يأتيكم بالمياه الجارية؟

إنّ الآيات أعلاه ، التي هي آخر آيات سورة الملك ، تبدأ جميعها بكلمة (قل) مخاطبة الرّسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، حيث أنّها تمثّل استمرارا للأبحاث التي مرّت في الآيات السابقة حول الكفّار ، وتعكس هذه الآيات الكريمة جوانب اخرى من البحث.

يخاطب البارئعزوجل ـ في البداية ـ الأشخاص الذين يرتقبون وفاة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأصحابه ، ويتصوّرون أنّ بوفاته سوف يمحى دين الإسلام وينتهي كلّ شيء. وهذا الشعور كثيرا ما ينتاب الأعداء المخذولين إزاء القيادات

٥٠٦

القويّة والمؤثّرة ، يقول تعالى مخاطبا إيّاهم :( قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنا فَمَنْ يُجِيرُ الْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ ) .

ورد في بعض الروايات أنّ كفّار مكّة ، كانوا دائما يسبّون الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمسلمين ، وكانوا يتمنّون موته ظنّا منهم أنّ رحيله سينهي دعوته كذلك ، لذا جاءت الآية أعلاه ردّا عليهم.

كما جاء شبيه هذا المعنى في قوله تعالى :( أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ ) (١) .

لقد كانوا غافلين عن وعد الله سبحانه لرسوله الأمين ، بأنّ اسمه سيكون مقترنا مع مبدأ الحقّ الذي لا يعتريه الفناء وإذا جاء أجله فإنّ ذكره لن يندرس ، نعم ، لقد وعده الله سبحانه بانتصار هذا المبدأ ، وأن ترفرف راية هذا الدين على كلّ الدنيا ، وحياة الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو موته لن يغيّرا من هذه الحقيقة شيئا.

كما ذكر البعض تفسيرا آخر لهذه الآية وهو : إنّ خطاب الله لرسوله الكريم ـ الذي يشمل المؤمنين أيضا ـ مع ما عليهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الإيمان الراسخ ، كان يعكس الخوف والرجاء معا في آن واحد. فكيف بكم أنتم أيّها الكافرون؟ وما الذي تفكّرون به لأنفسكم؟

ولكن التّفسير الأوّل أنسب حسب الظاهر.

واستمرارا لهذا البحث ، يضيف تعالى :( قُلْ هُوَ الرَّحْمنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ ) .

وهذا يعني أنّنا إذا آمنا بالله ، واتّخذناه وليّا ووكيلا لنا ، فإنّ ذلك دليل واضح على أنّه الربّ الرحمن ، شملت رحمته الواسعة كلّ شيء ، وغمر فيض ألطافه ونعمه الجميع (المؤمن والكافر) ، إنّ نظرة عابرة إلى عالم الوجود وصفحة الحياة تشهد

__________________

(١) الطور ، الآية ٣٠.

٥٠٧

على هذا المدّعى ، أمّا الذين تعبدونهم من دون الله فما ذا عملوا؟ وما ذا صنعوا؟

وبالرغم من أنّ ضلالكم واضح هنا في هذه الدنيا ، إلّا أنّه سيتّضح بصورة أكثر في الدار الآخرة. أو أنّ هذا الضلال وبطلان دعاواكم الفارغة ستظهر في هذه الدنيا عند ما ينتصر الإسلام بالإمدادات الإلهية على جيش الكفر بشكل إعجازي وخارق للعادة ، عندئذ ستتبيّن الحقيقة أكثر للجميع.

إنّ هذه الآية ـ في الحقيقة ـ نوع من المواساة للرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمؤمنين ، كي لا يظنّوا أو يتصوّروا أنّهم وحدهم في هذا الصراع الواسع بين الحقّ والباطل ، حيث أنّ الرحمن الرحيم خير معين لهم ونعم الناصر.

ويقول تعالى في آخر آية ، عارضا لمصداق من رحمته الواسعة ، والتي غفل عنها الكثير من الناس :( قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ ) .

إنّ للأرض في الحقيقة قشرتين متفاوتين : (قشرة قابلة للنفوذ) يدخل فيها الماء ، واخرى (غير قابلة للنفوذ) تحفظ بالماء ، وجميع العيون والآبار والقنوات تولّدت من بركات هذا التركيب الخاصّ للأرض ، إذ لو كانت القشرة القابلة للنفوذ لوحدها على سطح الكرة الأرضية جميعا ولأعماق بعيدة ، فإنّ جميع المياه التي تدخل جوف الأرض لا يقرّ لها قرار ، وعندئذ لا يمكن أن يحصل أحد على قليل من الماء. ولو كانت قشرة الأرض غير قابلة للنفوذ لتجمّعت المياه على سطحها وتحوّلت إلى مستنقع كبير ، أو أنّ المياه التي تكون على سطحها سرعان ما تصبّ في البحر ، وهكذا يتمّ فقدان جميع الذخائر التي هي تحت الأرض.

إنّ هذا نموذج صغير من رحمة الله الواسعة يتعلّق بموت الإنسان وحياته.

«معين» من مادّة (معن) ، على وزن (طعن) بمعنى جريان الماء.

وقال آخرون : إنّها مأخوذة من (عين) والميم زائدة. لذا فإنّ بعض المفسّرين ذهبوا إلى أنّ معنى (معين) تعني الماء الذي يشاهد بالعين بغضّ النظر عن جريانه.

إلّا أنّ الغالبية فسّروه بالماء الجاري.

٥٠٨

وبالرغم من أنّ الماء الصالح للشرب لا ينحصر بالماء الجاري ، إلّا أنّه ممّا لا شكّ فيه أنّ الماء الجاري يمثّل أفضل أنواع ماء الشرب ، سواء كان من العيون أو الأنهار أو القنوات أو الآبار المتدفّقة

ونقل بعض المفسّرين أنّ أحد الكفّار عند ما سمع قوله تعالى :( قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ ) قال : (رجال شداد ومعاول حداد) وعند نومه ليلا نزل الماء الأسود في عينيه ، وفي هذه الأثناء سمع من يقول : أتي بالرجال الشداد والمعاول الحداد ليخرجوا الماء من عينيك.

ومن الواضح أنّه في حالة عدم وجود القشرة الصلبة وغير القابلة للنفوذ ، فإنّه لا يستطيع أي إنسان قوي ولا أي معول حادّ أن يستخرج شيئا من الماء(١) .

* * *

تعقيب

جاء في الروايات عن أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام أنّ المراد من الآية الأخيرة من هذه السورة هو ظهور الإمام المهديعليه‌السلام وعدله الذي سيعمّ العالم.

فقد جاء في حديث عن الإمام الباقرعليه‌السلام أنّه قال : «نزلت في الإمام القائمعليه‌السلام ، يقول : إن أصبح إمامكم غائبا عنكم ، لا تدرون أين هو؟ فمن يأتيكم بإمام ظاهر يأتيكم بأخبار السموات والأرض ، وحلال الله وحرامه؟ ثمّ قال : والله ما جاء تأويل هذه الآية ، ولا بدّ أن يجيء تأويلها»(٢) .

والروايات في هذا المجال كثيرة ، وممّا يجدر الانتباه له أنّ هذه الروايات هي من باب (التطبيق).

وبعبارة اخرى فإنّ ظاهر الآية مرتبط بالماء الجاري ، والذي هو علّة حياة

__________________

(١) أبو الفتوح الرازي ، ج ١١ ، ص ٢١٩.

(٢) نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ٣٨٧.

٥٠٩

الموجودات الحيّة. أمّا باطن الآية فإنّه يرتبط بوجود الإمامعليه‌السلام وعلمه وعدالته التي تشمل العالم ، والتي هي الاخرى تكون سببا لحياة وسعادة المجتمع الإنساني.

ولقد ذكرنا مرّات عدّة أنّ للآيات القرآنية معاني متعدّدة ، حيث لها معنى باطن وظاهر ، إلّا أنّ فهم باطن الآيات غير ممكن إلّا للرسول والإمام المعصوم ، ولا يحقّ لأي أحد أن يطرح تفسيرا ما لباطن الآيات. وما نستعرضه هنا مرتبط بظاهر الآيات ، أمّا ما يرتبط بباطن الآيات فعلينا أن نأخذه من المعصومينعليهم‌السلام فقط.

لقد بدأت سورة الملك بحاكمية الله ومالكيته تعالى ، وانتهت برحمانيته ، والتي هي الاخرى فرع من حاكميته ومالكيته سبحانه ، وبهذا فإنّ بدايتها ونهايتها منسجمتان تماما.

اللهمّ ، أدخلنا في رحمتك العامّة والخاصّة ، وأرو ظمآنا من كوثر ولاية أولياءك.

ربّنا ، عجّل لنا ظهور عين ماء الحياة الإمام المهدي ، واطفئ عطشنا بنور جماله

ربّنا ، ارزقنا اذنا صاغية وعينا بصيرة وعقلا كاملا ، فأقشع عن قلوبنا حجب الأنانية والغرور لنرى الحقائق كما هي ، ونسلك إليك على الصراط المستقيم بخطوات محكمة وقامة منتصبة

آمين ربّ العالمين

نهاية سورة الملك

* * *

٥١٠
٥١١

سورة

القلم

مكيّة

وعدد آياتها اثنتان وخمسون آية

٥١٢

«سورة القلم»

محتوى السورة :

بالرغم من أنّ بعض المفسّرين شكّك في كون السورة بأجمعها نزلت في مكّة ، إلّا أنّ نسق السورة ومحتوى آياتها ينسجم تماما مع السور المكيّة ، لأنّ المحور الأساسي فيها يدور حول مسألة نبوّة رسول الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومواجهة الأعداء الذين كانوا ينعتونه بالجنون وغيره ، والتأكيد على الصبر والاستقامة وتحدّي الصعاب ، وإنذار وتهديد المخالفين لهذه الدعوة المباركة بالعذاب الأليم.

وبشكل عامّ يمكن تلخيص مباحث هذه السورة بسبعة أقسام :

١ ـ في البداية تستعرض السورة بعض الصفات الخاصّة لرسول الإنسانية محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وخصوصا أخلاقه البارّة السامية الرفيعة ، ولتأكيد هذا الأمر يقسم البارئعزوجل في هذا الصدد.

٢ ـ ثمّ تتعرّض بعض الآيات الواردة في هذه السورة إلى قسم من الصفات السيّئة والأخلاق الذميمة لأعدائه.

٣ ـ كما يبيّن قسم آخر من الآيات الشريفة قصّة (أصحاب الجنّة) والتي هي بمثابة توجيه إنذار وتهديد للسالكين طريق العناد من المشركين.

٤ ـ وفي قسم آخر من السورة ذكرت عدّة امور حول القيامة والعذاب الأليم للكفّار في ذلك اليوم.

٥ ـ كما جاء في آيات اخرى جملة إنذارات وتهديدات للمشركين.

٥١٣

٦ ـ ونلاحظ في آيات اخرى من السورة الأمر الإلهي للرسول العظيم محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأن يواجه الأعداء بصبر واستقامة وقوّة وصلابة.

٧ ـ وأخيرا تختتم السورة موضوعاتها بحديث حول عظمة القرآن الكريم ، وطبيعة المؤامرات التي كان يحوكها الأعداء ضدّ الرّسول محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

انتخاب (القلم) اسما لهذه السورة المباركة ، كان بلحاظ ما ورد في أوّل آية منها ، وذكر البعض الآخر أنّ اسمها (ن).

ويستفاد من بعض الروايات التي وردت في فضيلة هذه السورة أنّ اسمها «ن والقلم».

فضيلة تلاوة سورة القلم :

نقل عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في فضيلة تلاوة هذه السورة أنّه قال : «من قرأ (ن والقلم) أعطاه الله ثواب الذين حسن أخلاقهم»(١) .

كما نقرأ في حديث عن الإمام الصادقعليه‌السلام أنّه قال : «من قرأ سورة (ن والقلم) في فريضة أو نافلة ، آمنه الله أن يصيبه في حياته فقر أبدا ، وأعاذه إذا مات من ضمّة القبر ، إن شاء الله»(٢) .

وهذا الأجر والجزاء يتناسب تناسبا خاصّا مع محتوى السورة ، والهدف من التأكيد على هذا النوع من الأجر من تلاوة السورة هو أن تكون التلاوة مقرونة بالوعي والمعرفة ومن ثمّ العمل بمحتواها.

* * *

__________________

(١) تفسير نور الثقلين ، ج ٥ ، ص ٣٨٧.

(٢) مجمع البيان ، ج ١٠ ، ص ٣٣٠.

٥١٤

الآيات

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

( ن وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ (١) ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (٢) وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ (٣) وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ (٤) فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ (٥) بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ (٦) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (٧) )

التّفسير

عجبا لأخلاقك السامية :

هذه السورة هي السورة الوحيدة التي تبدأ بحرف (ن) حيث يقول تعالى :( ن ) .

وقد تحدّثنا مرّات عديدة حول الحروف المقطّعة ، خصوصا في بداية سورة (البقرة) و (آل عمران) و (الأعراف) والشيء الذي يجدر إضافته هنا هو ما اعتبره البعض من أنّ (ن) هنا تخفيف لكلمة (الرحمن) فهي إشارة لذلك. كما أنّ البعض الآخر فسّرها بمعنى (اللوح) أو (الدواة) أو (نهر في الجنّة) إلّا أنّ كلّ تلك الأقوال ليس لها دليل واضح.

٥١٥

وبناء على هذا فإنّ الحرف المقطّع هنا لا يختلف عن تفسير بقيّة الحروف المقطّعة والتي أشرنا إليها سابقا.

ثمّ يقسم تعالى بموضوعين يعتبران من أهمّ المسائل في حياة الإنسان ، فيقول تعالى :( وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ ) .

كم هو قسم عجيب؟ وقد يتصوّر أنّ القسم هنا يتعلّق ظاهرا بمواضيع صغيرة ، أي قطعة من القصب ـ أو شيء يشبه ذلك ـ وبقليل من مادّة سوداء ، ثمّ السطور التي تكتب وتخطّ على صفحة صغيرة من الورق.

إلّا أنّنا حينما نتأمّل قليلا فيه نجده مصدرا لجميع الحضارات الإنسانية في العالم أجمع ، إنّ تطور وتكامل العلوم والوعي والأفكار وتطور المدارس الدينية والفكرية ، وبلورة الكثير من المفاهيم الحياتية كان بفضل ما كتب من العلوم والمعارف الإنسانية في الحقول المختلفة ، ممّا كان له الأثر الكبير في يقظة الأمم وهداية الإنسان وكان ذلك بواسطة (القلم).

لقد قسّمت حياة الإنسان إلى عصرين : (عصر التأريخ) و (عصر ما قبل التأريخ) وعصر تأريخ البشر يبدأ منذ أن اخترع الإنسان الخطّ واستطاع أن يدوّن قصّة حياته وأحداثها على الصفحات ، وبتعبير آخر ، يبدأ عند ما أخذ الإنسان القلم بيده ، ودوّن للآخرين ما توصّل إليه (وما يسطرون) تخليدا لماضيه.

وتتّضح عظمة هذا القسم بصورة أكثر عند ما نلاحظ أنّ هذه الآيات المباركة حينما نزلت لم يكن هنالك كتاب ولا أصحاب قلم ، وإذا كان هنالك أشخاص يعرفون القراءة والكتابة ، فإنّ عددهم في كلّ مكّة ـ التي تمثّل المركز العبادي والسياسي والاقتصادي لأرض الحجاز ـ لم يتجاوز ال (٢٠) شخصا. ولذا فإنّ القسم بـ (القلم) في مثل ذلك المحيط له عظمة خاصّة.

والرائع هنا أنّ الآيات الاولى التي نزلت على قلب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في (جبل النور) أو (غار حراء) قد أشير فيها أيضا إلى المنزلة العليا للقلم ، حديث يقول تعالى :

٥١٦

( اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ، خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ ، اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ ، الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ ، عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ ) (١) .

والأروع من ذلك كلّه أنّ هذه الكلمات كانت تنطلق من فمّ شخص لم يكن يقرأ أو يكتب ، ولم يذهب للمكاتب من أجل التعليم قطّ ، وهذا دليل أيضا على أنّ ما ينطق به لم يكن غير الوحي السماوي.

وذكر بعض المفسّرين أنّ كلمة (القلم) هنا يقصد بها : (القلم الذي تخطّ به ملائكة الله العظام الوحي السماوي) ، (أو الذي تكتب به صفحة أعمال البشر) ، ولكن من الواضح أنّ للآية مفهوما واسعا ، وهذه الآراء تبيّن مصاديقها.

كما أنّ لجملة( ما يَسْطُرُونَ ) مفهوما واسعا أيضا ، إذ تشمل جميع ما يكتب في طريق الهداية والتكامل الفكري والأخلاقي والعلمي للبشر ، ولا ينحصر بالوحي السماوي أو صحائف أعمال البشر(٢) .

ثمّ يتطرّق سبحانه لذكر الأمر الذي أقسم من أجله فيقول تعالى :( ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ ) .

إنّ الذين نسبوا إليك هذه النسبة القبيحة هم عمي القلوب والأبصار ، وإلّا فأين هم من كلّ تلك النعم الإلهية التي وهبها الله لك؟ نعمة العقل والعلم الذي تفوّقت بها على جميع الناس ونعمة الأمانة والصدق والنبوّة ومقام العصمة إنّ الذين يتّهمون صاحب هذا العقل الجبّار بالجنون هم المجانين في الحقيقة ، إنّ ابتعادهم عن دليل الهداية وموجّه البشرية لهو الحمق بعينه.

ثمّ يضيف تعالى بعد ذلك :( وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ ) أي غير منقطع ، ولم لا

__________________

(١) العلق ، الآية ١ ـ ٥.

(٢) اعتبر البعض أنّ (ما) في (ما يسطرون) مصدرية ، واعتبرها بعض آخر بأنّها (موصولة) والمعنى الثاني أنسب ، والتقدير هكذا : (ما يسطرونه) ، كما اعتبرها البعض أيضا بمعنى (اللوح) أو (القرطاس) الذي يكتب عليه ، وفي التقدير (ما يسطرون فيه) كما اعتبر البعض (ما) هنا إشارة لذوي العقول والأشخاص الذين يكتبون هذه السطور ، إلّا أنّ المعنى الذي ذكرناه في المتن أنسب من الجميع حسب الظاهر.

٥١٧

يكون لك مثل هذا الأجر ، في الوقت الذي وقفت صامدا أمام تلك التّهم والافتراءات اللئيمة ، وأنت تسعى لهدايتهم ونجاتهم من الضلال وواصلت جهدك في هذا السبيل دون تعب أو ملل؟

«ممنون» من مادّة (منّ) بمعنى (القطع) ويعني الأجر والجزاء المستمرّ الذي لا ينقطع أبدا ، وهو متواصل إلى الأبد ، يقول البعض : إنّ أصل هذا المعنى مأخوذ من «المنّة» ، بلحاظ أنّ المنّة توجب قطع النعمة.

وقال البعض أيضا : إنّ المقصود من( غَيْرَ مَمْنُونٍ ) هو أنّ الله تعالى لم تكن لديه منّة مقابل هذا الأجر العظيم. إلّا أنّ التّفسير الأوّل أنسب.

وتعرض الآية اللاحقة وصفا آخر لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وذلك بقوله تعالى :( وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ ) .

تلك الأخلاق التي لا نظير لها ، ويحار العقل في سموّها وعظمتها من صفاء لا يوصف ، ولطف منقطع النظير ، وصبر واستقامة وتحمّل لا مثيل لها ، وتجسيد لمبادئ الخير حيث يبدأ بنفسه أوّلا فيما يدعو إليه ، ثمّ يطلب من الناس العمل بما دعا إليه والالتزام به.

عند ما دعوت ـ يا رسول الله ـ الناس ـ لعبادة الله ، فقد كنت أعبد الناس جميعا ، وإذ نهيتهم عن سوء أو منكر فإنّك الممتنع عنه قبل الجميع ، تقابل الأذى بالنصح ، والإساءة بالصفح ، والتضرّع إلى الله بهدايتهم ، وهم يؤلمون بدنك الطاهر رميا بالحجارة ، واستهزاء بالرسالة ، وتقابل وضعهم للرماد الحارّ على رأسك الشريف بدعائك لهم بالرشد.

نعم لقد كنت مركزا للحبّ ومنبعا للعطف ومنهلا للرحمة ، فما أعظم أخلاقك؟

«خلق» من مادّة (الخلقة) بمعنى الصفات التي لا تنفكّ عن الإنسان ، وهي ملازمة له ، كخلقة الإنسان.

وفسّر البعض الخلق العظيم للنبي بـ (الصبر في طريق الحقّ ، وكثرة البذل

٥١٨

والعطاء ، وتدبير الأمور ، والرفق والمداراة ، وتحمّل الصعاب في مسير الدعوة الإلهية ، والعفو عن المتجاوزين ، والجهاد في سبيل الله ، وترك الحسد والبغض والغلّ والحرص ، وبالرغم من أنّ جميع هذه الصفات كانت متجسّدة في رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلّا أنّ الخلق العظيم له لم ينحصر بهذه الأمور فحسب ، بل أشمل منها جميعا.

وفسّر الخلق العظيم أيضا بـ (القرآن الكريم) أو (مبدأ الإسلام) ومن الممكن أن تكون الموارد السابقة من مصاديق المفهوم الواسع للآية أعلاه.

وعلى كلّ حال فإنّ تأصّل هذا (الخلق العظيم) في شخصية الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو دليل واضح على رجاحة العقل وغزارة العلم له ونفي جميع التّهم التي تنسب من قبل الأعداء إليه.

ثمّ يضيف سبحانه بقوله :( فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ ) .

( بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ ) أي من منكم هو المجنون(١) .

«مفتون» : اسم مفعول من (الفتنة) بمعنى الابتلاء ، وورد هنا بقصد الابتلاء بالجنون.

نعم ، إنّهم ينسبون هذه النسب القبيحة إليك ليبعدوا الناس عنك ، إلّا أنّ للناس عقلا وإدراكا ، يقيّمون به التعاليم التي يتلقّونها منك ، ثمّ يؤمنون بها ويتعلّمونها تدريجيّا ، وعندئذ تتّضح الحقائق أمامهم ، وهي أنّ هذه التعاليم العظيمة مصدرها البارئعزوجل ، أنزلها على قلبك الطاهر بالإضافة إلى ما منحك من نصيب عظيم في العقل والعلم.

كما أنّ مواقفك وتحرّكاتك المستقبلية المقرونة بالتقدّم السريع لانتشار الإسلام ، ستؤكّد بصورة أعمق أنّك منبع العلم والعقل الكبيرين ، وأنّ هؤلاء الأقزام

__________________

(١) (الباء) في (بأيّكم) زائدة و (أيّكم) مفعول للفعلين السابقين.

٥١٩

الخفافيش هم المجانين ، لأنّهم تصدّوا لمحاربة نور هذه الشمس العظيمة المتمثّلة بالحقّ الإلهي والرسالة المحمّدية.

ومن الطبيعي فإنّ هذه الحقائق ستتوضّح أمامهم يوم القيامة بصورة دامغة ، ويخسر هنالك المبطلون ، حيث تتبيّن الأمور وتظهر الحقيقة.

وللتأكيد على المفهوم المتقدّم يقول سبحانه مرّة اخرى :( إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ) .

وبلحاظ معرفة البارئعزوجل بسبيل الحقّ وبمن سلكه ومن جانبه وتخلّف أو انحرف عنه ، فإنّه يطمئن رسوله الكريمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأنّه والمؤمنون في طريق الهداية والرشد ، أمّا أعداؤه فهم في متاه الضلالة والغواية.

وجاء في حديث مسند أنّ قريشا حينما رأت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقدم الإمام عليعليه‌السلام على الآخرين ويجلّه ويعظّمه ، غمزه هؤلاء وقدحوا بهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقالوا : (لقد فتن محمّد به) هنا أنزل الله تعالى قرآنا وذلك قوله :( ن وَالْقَلَمِ ) وأقسم بذلك ، وإنّك يا محمّد غير مفتون ومجنون حتّى قوله تعالى :( إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ) حيث الله هو العالم بالأشخاص الذين ضلّوا وانحرفوا عن سواء السبيل ، وهي إشارة إلى قريش التي كانت تطلق هذه الاتّهامات ، كما أنّه تعالى أعرف بمن اهتدى ، وهي إشارة إلى الإمام عليعليه‌السلام (١) .

* * *

بحثان

١ ـ دور القلم في حياة الإنسان

إنّ من أهمّ معالم التطور في الحياة البشرية ـ كما أشرنا سابقا ـ هو ظهور

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ١٠ ، ص ٣٣٤ ، (نقل الطبرسي هذا الحديث بسنده عن أهل السنّة).

٥٢٠

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576