الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء ٩

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل0%

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 576

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

مؤلف: آية الله الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
تصنيف:

الصفحات: 576
المشاهدات: 251374
تحميل: 10856


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 576 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 251374 / تحميل: 10856
الحجم الحجم الحجم
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل الجزء 9

مؤلف:
العربية

8 ـ الدرس الآخر الذي يمكن أن نتعلمه من هذه القصّة ، هو أنّ أصحاب المشكلة الأصليين معنيين بالدرجة الأولى في الاشتراك في الجهد المبذول لحل مشكلتهم ، لذا فإنّ «ذو القرنين» أعطى أمرا إلى الفئة التي اشتكت إليه أمر يأجوج ومأجوج بأن يجلبوا قطع الحديد ، ثمّ أعطاهم الأمر بإشعال النار في أطراف السد لدمج القطع فيما بينها ، ثمّ أمرهم بتهيئة النحاس المذاب. وعادة فإن العمل الذي يتمّ بمساهمة وحضور الأطراف الأصليين في المشكلة يؤدي إلى إظهار استعداداتهم ويعطي قيمة خاصّة للنتائج الحاصلة منه ، وللجهود المبذولة فيه، ومن ثمّ يحرص الجميع للحفاظ عليه وإدامته بحكم تحملهم لمجهودات إنشائه.

كما يتّضح من هذه النقطة أن ، المجتمع المتخلف والمتأخّر يستطيع أن ينجز أعمالا مهمّة وعظيمة إذا تمتع ببرنامج صحيح وإدارة مخلصة.

9 ـ الزعيم الإلهي والقائد الرّباني لا يلتفت إلى الجزاء المادي والنفع المالي وإنّما يقتنع بما حباه الله ، لذا رأينا «ذو القرنين» عند ما اقترحوا عليه الأموال قال :( ما مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ ) وهذا النمط من السلوك يخالف أساليب السلاطين وولعهم العجيب بجمع الثروة والأموال.

وفي القرآن الكريم نقرأ مرارا في قصص الأنبياء أنّهم لم يكونوا يطلبون المال جزاء لأعمالهم ودعواتهم.

ويمكن مشاهدة هذا الموضوع في (11) موردا من القرآن الكريم ، سواء ما يخص نبي الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو الأنبياء السابقين ، ففي بعض الأحيان يذكر القرآن تعبير :( إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللهِ ) . وفي أحيان أخرى يضع القرآن محبّة أهل البيتعليهم‌السلام والذين هم ركن القيادة المستقبلية أساسا للجزاء فيقول :( قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى ) .

10 ـ إحكام الأمور هو درس آخر نستفيده من هذه القصّة ، فذو القرنين استفاد من القطع الحديدية الكبرى في بناء السد ، وقد وصلها بالنّار ، ثمّ غطّاها

٣٦١

بالنحاس المذاب كي تمتنع عن التلف والصدأ إذا تعرضت للهواء والرطوبة.

11 ـ مهما كان الإنسان قويا ومتمكنا وصاحب قدرة واستطاعة في إنجاز الأعمال،فعلية ، أن لا يغتر بنفسه ، وهذا هو درس آخر نتعلمه من قصة «ذو القرنين». فقد اعتمد في جميع شؤونه على قدرة الخالق جلّ وعلا ، وقال بعد إتمام السد :( هذا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي ) . وعند ما اقترحوا عليه المساعدة المالية قال :( ما مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ ) . وأخيرا عند ما يتحدث عن فناء هذا السد المحكم ، فإنّه لا ينسى أن ينسب موعد ذلك إلى الله تعالى.

12 ـ كل شي إلى زوال مهما كان محكما وصلدا. هذا هو الدرس الأخير في هذه القصة ، وهو درس للذين يتمنون أو يظنون خلود المال أو المنصب والجاه.

إنّ سد ذي القرنين أمر هيّن قياسا إلى انطفاء الشمس وفناء الجبال الراسيات ، إذا فكيف بالإنسان المعرّض للأضرار أكثر من غيره!؟

ألا يكفي التفكير بهذه الحقائق حافزا على الوقوف بوجه الاستبداد؟

ثانيا : من هو ذو القرنين؟

ذكر المفسّرون كلاما كثيرا عن شخصية ذي القرنين الوارد في القرآن الكريم ، فمن هو؟ وعلى أي واحد من الشخصيات التأريخية المعروفة تنطبق أوصافه ويمكن أن نرجع الآراء إلى ثلاث نظريات أساسية هي :

النظرية الأولى : يرى البعض أنّ «ذو القرنين» ليس سوى «الإسكندر المقدوني»،لذا فإنّهم يسمونه «الإسكندر ذو القرنين» ويعتقد هؤلاء بأنّه سيطر بعد وفاة أبيه على دول الروم والمغرب والمصر ، وبنى مدينة الإسكندرية ، ثمّ سيطر بعد ذلك على الشام وبيت المقدس ، ثمّ ذهب من هناك إلى «أرمينيا» ، وفتح العراق وبلاد فارس ، ثمّ قصد الهند والصين ، ومن هناك رجع إلى خراسان ، وقد بنى مدنا كثيرة ، ثمّ جاء إلى العراق ومرض في مدينة «زور» وتوفي فيها.

٣٦٢

ويقول البعض : إنّه لم يعمّر أكثر من (36) سنة ، أمّا جسده فقد ذهبوا به إلى الإسكندرية ودفنوه هناك(1) .

النظرية الثّانية : ويرى جمع من المؤرخين أنّ «ذو القرنين» كان أحد ملوك اليمن (كان ملوك اليمن يسمّون بـ «تبّع» وجمع ذلك «تبايعه») وقد دافع عن هذه النظرية «الأصمعي» في تأريخ العرب قبل الإسلام ، و «ابن هشام» في تأريخه المعروف بسيرة ابن هشام ، و «أبو ريحان البيروني» في كتاب «الآثار الباقية».

ويمكن لنا أن نلمح في شعر شعراء (الحميرية) وهم من أقوام اليمن ، وبعضا من شعراء الجاهلية تفاخرا بكون «ذو القرنين» من قومهم(2) .

وفقا لهذه النظرية يكون سد ذو القرنين هو سد «مأرب» المعروف.

النظرية الثّالثة : وهي أحدث النظريات في هذا المجال وردت عن المفكر الإسلامي المعروف (أبو الكلام آزاد) الذي شغل يوما منصب وزير الثقافة في الهند. وقد أورد رأيه في كتاب حققه في هذا المجال.

وطبقا لهذه النظرية فإنّ ذا القرنين هو نفسه (كورش الكبير) الملك الأخميني.

أمّا النظريتان الأولى والثّانية فإنّها لا تدعمها أدلة قوية ، ومضافا إلى ذلك فإنّ صفات الإسكندر المقدوني أو ملوك اليمن لا تنطبق مع الصفات الذي ذكرها القرآن لذي القرنين.

من ناحية ثالثة فإنّ الإسكندر لم يبن سدا معروفا. أمّا سد مأرب في اليمن فإنّه لا يتطابق مع الصفات الواردة في سدّ «ذو القرنين». الذي بني من الحديد والنحاس ، وقد أنشئ لصد هجوم الأقوام الهمجية ، في حين أنّ سد مأرب مكوّن

__________________

(1) يمكن ملاحظة ذلك في تفسير الفخر الرازي ، والكامل لابن الأثير (المجلد الأوّل صفحة 287). ويعتقد البعض أن أوّل من قال بهذه النظرية هو الشيخ ابن سينا في كتابه الشفاء.

(2) الميزان ، ج 13 ، ص 414.

٣٦٣

من المواد العادية ، ووظيفته خزن المياه ومنعها من الطغيان والفيضان ، وقد ذكر القرآن شرحا لذلك في سورة «سبأ».

لكل هذه الأسباب سنركز البحث على النظرية الثّالثة ، ونرى من الضروري ـ هنا ـ الانتباه بدقة إلى الأمور التالية :

أ: لماذا سمي ذو القرنين بهذا الاسم؟

البعض يعتقد أن سبب التسمية تعود إلى وصوله للشرق والغرب ، حيث يعبّر العرب عن ذلك بقرني الشمس.

البعض الآخر يرى بأنّه عاش قرنين أو أنّه حكم قرنين ، وأمّا ما مقدار القرن فهناك آراء مختلفة في ذلك.

البعض الثّالث يقول : كان يوجد على طرفي رأسه بروز (قرن) ، ولهذا السبب سمّي بذي القرنين.

وأخيرا فإنّ البعض يعتقد بأنّ تاجه الخاص كان يحتوي على قرنين.

بالطبع هناك آراء أخرى في ذلك ، إلّا أنّ ذكرها جميعا يطيل بنا المقام ؛ وسوف نرى أنّ مبتكر النظرية الثّالثة (أبو الكلام آزاد) استفاد كثيرا من هذا اللقب لإثبات نظريته.

ب : لو لاحظنا بدقة من آيات القرآن الكريم لاستفدنا أنّ ذا القرنين كانت له صفات ممتازة هي :

* هيّأ له الله جلّ وعلا أسباب القوّة ومقدمات الإنتصار ، وجعلها تحت تصرفه وفي متناول يده.

* لقد جهز ثلاثة جيوش مهمّة : الأوّل إلى الغرب ، والثّاني إلى الشرق ؛ والثّالث إلى المنطقة التي تضم المضيق الجبلي ، وفي كل هذه الأسفار كان له تعامل خاص مع الأقوام المختلفة حيث ورد تفصيل ذلك في الآيات السابقة.

* كان رجلا مؤمنا تتجلى فيه صفات التوحيد والعطف ، ولم ينحرف عن

٣٦٤

طريق العدل ، ولهذا السبب فقد شمله اللطف الإلهي الخاص ، إذ كان ناصرا للمحسنين وعدوّا للظالمين ، ولم يكن يرغب أو يطمع بمال الدنيا كثيرا.

* كان مؤمنا بالله وباليوم الآخر.

* لقد صنع واحدا من أهم وأقوى السدود ، السد الذي استفاد لصنعه من الحديد والنحاس بدلا من الطابوق والحجارة. (وإذا كانت هناك مواد أخرى مستخدمة فيه ، فهي لا يعتبر شيئا بالقياس الى الحديد والنحاس) أمّا هدفه من بنائه فقد في مساعدة المستضعفين في قبال ظلم يأجوج ومأجوج.

* كان شخصا مشهورا بين مجموعة من الناس ، وذلك قبل نزول القرآن ، لذا فإنّ قريش أو اليهود سألوا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عنه ، كما يصرح بذلك الكتاب العزيز في قوله تعالى:( يَسْئَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ ) .

ولا يمكن الاستفادة بشيء من صريح القرآن للدلالة على أنّه كان نبيّا ، بالرغم من وجود تعابير تشعر بهذا المعنى ، كما مرّ ذلك في تفسير الآيات السابقة.

ونقرأ في العديد من الرّوايات الإسلامية الواردة عن الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأئمّة أهل البيتعليهم‌السلام أنّه : لم يكن نبيّا بل عبدا صالحا»(1) .

ج : أساس القول في النظرية الثّالثة (في أنّ ذا القرنين هو كورش الكبير) قائم على أصلين وهما :

الأصل الأوّل : وفق العديد من الرّوايات الواردة في سبب نزول هذه الآيات فإنّ الذي سأل عن «ذو القرنين» هم قوم من اليهود ، أو أنّ قريشا قامت بالأمر بتحريض من اليهود ، لذا يجب العثور على أصل هذا الموضوع في كتاب اليهود.

ومن الكتب المعروفة عند اليهود ، هو كتاب «دانيال» حيث نقرأ في الفصل الثامن منه ، ما يلي : «حينما ملك (بل شصّر) عرضت لي وأنا دانيال رؤيا بعد الرؤيا الأولى التي شاهدتها ، وذلك حينما كنت أسكن قصر (شوشان) في بلاد (عيلام)

__________________

(1) يراجع تفسير نور الثقلين ، ج 3 ، ص 294 و 295.

٣٦٥

فقد رأيت وأنا في المنام بأنّي على مقربة من نهر (أولاي) وأن كبشا يقف قرب النهر وكان له قرنان طويلان ، ووجدته يضرب بقرنيه غربا وشمالا وجنوبا ، ولم يتقدم أحد أمامه ، ولأنّه لم يكن يوجد أحد أمامه ، لذا فإنّه كان يتصرف وفقا لما يريد ، وكان يكبر»(1) .

وبعد ذلك نقل عن دانيال في هذا الكتاب قوله : «وقد تجلّى له جبرائيل (أي لدانيال) وفسّر منامه هكذا : إنّ الكبش ذا القرنين الذي رأيته فإنّه من ملوك المدائن وفارس (أو ملوك ماد وفارس).

لقد استبشر اليهود من رؤيا دانيال وعلموا بأنّ فترة عبوديتهم ستنتهي من قبضة البابليين.

ولم تمض مدّة طويلة حتى ظهر (كورش) على مسرح الحكم في إيران ووحّد بلاد (ماد وفارس) وشكّل منهما مملكة كبيرة ؛ وكما قال دانيال ، فإنّ الكبش كان يضرب بقرنه الغرب والشرق ، فإنّ كورش قام بالفتوحات الكبيرة في الجهات الثلاث ، وحرّر اليهود وسمح لهم بالعودة إلى فلسطين.

والطريف ما نقرؤه في التوراة في كتاب «أشعيا» فصل (44) رقم (28) : «ثمّ يقول بخصوص كورش : إنّه كان راعيا عندي (أي عند الرب) وسيقوم بتنفيذ مشيئتي».

يجب الانتباه إلى أنّ وصف كورش ورد في بعض تعبيرات التوراة على أنّه «عقاب المشرق» والرجل المدبّر الذي يأتي من مكان بعيد. (كتاب أشعيا فصل 46 رقم 11).

الأصل الثّاني : لقد تمّ العثور في القرن التاسع عشر الميلادي على تمثال لكورش في طول إنسان تقريبا ، وذلك بالقرب من مدينة «إصطخر» بجوار نهر «المرغاب» ويظهر من هذا التمثال أنّ لكورش جناحين من الجانبين يشبهان

__________________

(1) كتاب دانيال ، الفصل الثامن ، الجمل 1 ـ 4.

٣٦٦

جناح العقاب ، وعلى رأسه تاج يشاهد فيه قرنان يشبهان قرنا الكبش.

فضلا عمّا يطويه هذا التمثال من نموذج قيّم لفن النحت القديم ، فقد جلب انتباه العلماء ، حتى أنّ مجموعة من العلماء الألمان سافروا إلى إيران لأجل رؤيته فقط.

عند تطبيق ما ورد في التوراة على مواصفات التمثال تبلور في ذهن العلّامة (أبو الكلام آزاد) احتمال في وجود اشتراك بين «ذو القرنين» وكورش ، وأنّ الأخير لم يكن سوى «ذو القرنين» نفسه. فتمثال كورش له جناحان كجناحى العقاب ، وهكذا توضحت شخصية «ذو القرنين» التأريخية لمجموعة من العلماء.

وممّا يؤيّر هذه النظرية الأوصاف الأخلاقية المذكورة لكورش في التأريخ.

يقول «هرودوت» ، المؤرخ اليوناني : لقد أعطى كورش أمرا إلى قواته بألّا يضربوا بسيوفهم سوى المحاربين ، وأن لا يقتلوا أي جندي للعدوّ إذا انحنى. وقد أطاع جيشه أوامره ، بحيث أنّ عامّة الناس لم تشعر بمصائب الحرب ومآسيها.

ويكتب عنه «هرودوت» أيضا : لقد كان كورش ملكا كريما ، وسخيا عطوفا ، ولم يكن مثل بقية الملوك في حرصهم على المال ، بل كان حريصا على إفشاء العدل ، وكان يتسم بالعطاء والكرم ، وكان ينصف المظلومين ويحب الخير.

ويقول مؤرّخ آخر هو (ذينوفن) : لقد كان كورش ملكا عادلا وعطوفا ، وقد اجتمعت فيه فضائل الحكماء ، وشرف الملوك ؛ فالهمة الفائقة كانت تغلب على وجوده ، وكان شعاره خدمة الإنسانية ، وأخلاقه إفشاء العدل ، كما أنّ التواضع والسماحة كانا يغلبان الكبر والعجب في وجوده.

الطريف في الأمر أنّ هؤلاء المؤرّخين الذين ذكروا كورش في الأوصاف الآنفة الذكر،كانوا من كتاب التأريخ الغرباء عن قوم كورش ، ومن غير أبناء وطنه ، حيث كانوا من (اليونان) ، والمعروف أنّ أهل اليونان تعرضوا لهزيمة منكرة على يد كورش عند ما فتح «ليديا»!

٣٦٧

ثمّ إنّ أنصار هذا الرأي يقولون : إنّ الأوصاف المذكورة في القرآن الكريم حول «ذو القرنين» تتطابق مع الأوصاف التأريخية لكورش.

والأهم من ذلك أنّ كورش قد سافر أسفارا نحو الشمال والشرق والغرب ، وقد وردت قصة هذه الأسفار مفصّلة في حياته ، وهي تتطابق مع الأسفار الثلاثة لذي القرنين الوارد ذكرها في القرآن الكريم.

فأوّل جيش له كان قد أرسله إلى بلاد «ليديا» الواقعة في شمال آسيا الصغرى ، وهذه البلاد كانت تقع غرب مركز حكومة كورش.

وعند ما نضع خارطة الساحل الغربي لآسيا الصغرى أمامنا ، فسوف نرى أنّ القسم الأعظم من الساحل يغرق في الخلجان الصغيرة وخاصة قرب «أزمير» حيث يكون الخليج بشكل يشبه شكل العين. والقرآن يبيّن أن «ذو القرنين» في سفره نحو الغرب أحسّ بأنّ الشمس غرقت في عين من اللجن.

هذا المشهد ، هو نفس المنظر الذي شاهده «كورش» حينما تطمس الشمس في الخلجان الساحلية لتبدو لعين الناظر وكأنّها غارقة في تلك الخلجان الساحلية.

أمّا الجيش الثّاني فقد كان باتجاه الشرق ، وفي وصفه يقول المؤرخ «هرودوت» : إنّ هذا الهجوم الكورشي في الشرق كان بعد فتح «ليديا» وخاصّة بعد عصيان بعض القبائل الهمجية التي أجبرت بعصيانها كورش على هذا الهجوم.

وتعبير القرآن الذي يقول :( حَتَّى إِذا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَها تَطْلُعُ عَلى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِها سِتْراً ) هو إشارة إلى سفر «كورش» إلى أقصى الشرق حيث شاهد أنّ الشمس تشرق على أناس لم يجعلوا لهم ما يظلّهم من حرّ الشمس ، وهذه إشارة إلى أنّ القوم كانوا من سكنة الصحارى الرحّل.

أمّا الجيش الثّالث فقد أرسله نحو الشمال باتجاه جبال القوقاز حيث وصل إلى المضيق المحصور بين الجبلين ، وبنى هناك سدّا محكما بطلب من أهل

٣٦٨

المنطقة ، لكي يتحصنوا به عن هجمات القبائل الهمجية من قوم يأجوج ومأجوج.

المضيق يسمى في الوقت الحاضر مضيق «داريال» حيث يمكن مشاهدته في الخرائط المنتشرة في الوقت الحاضر ، ويقع بين «والادي كيوكز» و «تفليس» في نفس المكان الذي ما زال يظهر فيه حتى الآن الجدار الحديدي الأثري ، والذي هو نفس السد الذي بناه «كورش» ، إذ ثمّة تطابق واضح بينه وبين ما ذكر القرآن من صفات وخصائص لسدّ ذي القرنين.

هذه هي خلاصة الأدلة التي تدعم صحة النظرية الثّالثة حول شخصية «ذو القرنين»(1) .

صحيح أنّ ثمّة نقاطا مبهمة في هذه النظرية ، إلّا أنّها في الوقت الحاضر تعتبر أفضل النظريات في تشخيص شخصية «ذو القرنين» وتطبيق مواصفاتها القرآنية على الشخصيات التأريخية.

ثالثا : أين يقع سد ذي القرنين؟

بالرغم من محاولة البعض المطابقة بين سد ذي القرنين وبين جدار الصين الذي لا يزال موجودا ويبلغ طوله مئات الكيلو مترات ، إلّا أنّ الواضح أنّ جدار الصين لا يدخل في بنائه الحديد ولا النحاس ، ومضافا إلى ذلك لا يقع في مضيق جبلي ضيق ، بل هو جدار مبني من مواد البناء العادية ويبلغ طول مئات الكيلو مترات ، وما زال موجودا حتى الآن.

البعض يرى في سد ذي القرنين أنّه سد مأرب في اليمن ، ولكن هذا السد برغم وقوعه في مضيق جبلي ، إلّا أنّه أنشئ لمنع السيل ولخزن المياه ، ولم يدخل النحاس والحديد في بنائه.

__________________

(1) لمزيد من التفاصيل يمكن مراجعة كتاب «ذو القرنين أو كورش الكبير».

٣٦٩

ولكن بالاستناد إلى شهادة العلماء وأهل الخبرة فإنّ السد ـ كما أشرنا لذلك قبل قليل ـ يقع في أرض القوقاز بين بحر الخزر والبحر الأسود ، حيث توجد سلسلة جبلية كالجدار تفصل الشمال عن الجنوب ، والمضيق الوحيد الذي يقع بين هذه الجبال الصخرية هو مضيق «داريال» المعروف ، ويشاهد فيه جدار حديدي أثري حتى الآن ، ولهذه المرجحات يعتقد الكثيرون أنّ سد «ذو القرنين» يقع في هذا المضيق ، وأنّ المتبقي من مواصفات آثاره دليل مؤيّد لذلك.

الطريف في الأمر أنّه يوجد نهر على مقربة من ذلك المكان يسمى «سائرس» أي كورش» إذ كان اليونان يسمون كورش ب (سائرس).

الآثار الأرمنية القديمة كانت تطلق على هذا الجدار اسم «بهاك كورائي» والتي تعني «مضيق كورش» أو «معبر كورش» وهذا دليل آخر على أنّ كورش هو الذي بنى السد(1) .

رابعا : من هم يأجوج ومأجوج؟

ذكر القرآن الكريم يأجوج ومأجوج في سورتين ، إذ وردت المرّة الأولى في الآيات التي نبحثها ، والثّانية في سورة الأنبياء ، آية (96).

الآيات القرآنية تؤيّد بوضوح أنّ هذين الاسمين هما لقبيلتين همجيتين كانتا تؤذيان سكان المناطق المحيطة بهم.

وفي كتاب «حزقيل» من التوراة ، الفصل الثامن والثلاثين والتاسع والثلاثين ، وفي كتاب رؤيا «يوحنا» الفصل العشرين ، ذكرا بعنوان «كودك» و «ماكوك» التي تعني بعد التعريب يأجوج ومأجوج.

ويقول العلّامة الطباطبائي ، في تفسير الميزان : إنّه يستفاد من مجموع ما ذكر في التوراة أن مأجوج أو يأجوج ومأجوج هم مجموعة أو مجاميع كبيرة كانت

__________________

(1) للمزيد من التفاصيل يراجع المصدرين السابقين.

٣٧٠

تقطن أقصى نقطة في شمال آسيا ، وهم أناس محاربون يغيرون على الأماكن القربية منهم(1) .

البعض يعتقد أنّ هاتين الكلمتين عبريتين ، ولكنهما في الأصل انتقلتا من اليونانية إلى العبرية ، إذ كانتا تلفظان في اليونانية بـ «كاك» و «ماكاك» ثمّ انتقلتا على هذا الشكل إلى كافة اللغات الأوروبية.

ثمّة أدلة تأريخية على أنّ منطقة شمال شرقي الأرض في نواحي «مغولستان» كانت في الأزمنة السابقة كثيفة السكان ، إذ كانت الناس تتكاثر بسرعة ، وبعد أن ازداد عددهم اتجهوا نحو الشرق أو الجنوب ، وسيطروا على هذه الأراضي وسكنوا فيها تدريجيا.

وقد وردت مقاطع تأريخية مختلفة لحركة هؤلاء الأقوام وهجراتهم ، وقد تمّت واحدة من هذه الهجمات في القرن الرابع الميلادي ، بقيادة «آتيلا» وقد قضت هذه الهجمة على حضارة الإمبراطورية الرومانية.

وكان آخر مقطع تأريخي لهجومهم في القرن الثّاني عشر الميلادي بقيادة جنگيزخان ، حيث هاجم شرق البلاد الإسلامية ودمّر العديد من المدن ، وفي طليعتها مدينة بغداد حاضرة الخلافة العباسية ، وفي عصر كورش في حوالي عام (500) قبل الميلاد قامت هذه الأقوام بعدة هجمات ، لكن موقف حكومة «ماد وفارس» إزاءهم أدّى إلى تعتبر الأوضاع واستتباب الهدوء في آسيا الغربية التي نجت من حملات هذه القبائل.

وبهذا يظهر أنّ يأجوج ومأجوج هم من هذه القبائل الوحشية ، حيث طلب أهل القفقاز من «كورش» عند سفره إليهم أن ينقذهم من هجمات هذه القبائل ، لذلك أقدم على تأسيس السد المعروف بسدّ ذي القرنين(2) .

* * *

__________________

(1) يلاحظ المجلد 13 ، من تفسير الميزان ، ص 411.

(2) لمزيد من التفاصيل يراجع كتاب (ذو القرنين أو كورش الكبير).

٣٧١

الآيات

( وَتَرَكْنا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْناهُمْ جَمْعاً (99) وَعَرَضْنا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكافِرِينَ عَرْضاً (100) الَّذِينَ كانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً (101) أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبادِي مِنْ دُونِي أَوْلِياءَ إِنَّا أَعْتَدْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ نُزُلاً (102) )

التّفسير

عاقبة الكافرين :

لقد تناولت الآية السابقة سد يأجوج ومأجوج وانهدامه عند البعث ، وهذه الآيات تستمر في قضايا القيامة ، فتقول أوّلا : إنّنا سنترك في ذلك اليوم ـ الذي ينتهي فيه العالم ـ بعضهم يموج ببعض :( وَتَرَكْنا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ ) .

إنّ استخدام كلمة «يموج» إمّا بسبب الكثرة الكاثرة للناس في تلك الواقعة ، وشبيه له ما نقوله من أنّ الناس في القضية الفلانية يموجون ، كناية عن كثرتهم ، أو بسبب الاضطراب الخوف الذي يصيب الناس في ذلك اليوم ، وكأنّما أجسادهم تهتز كأمواج الماء.

٣٧٢

طبعا لا يوجد تناقض بين المعنيين ، ويمكن أن يشمل تعبير الآية كلا الحالتين.

بعد ذلك تضيف الآيات :( وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْناهُمْ جَمْعاً ) وبلا شك فإنّ كافة الناس سيجمعون في تلك الساحة ولن يستثنى منهم أحد ، وتعبير( فَجَمَعْناهُمْ جَمْعاً ) إشارة إلى هذه الحقيقة.

من مجموع الآيات نستفيد أنّ ثمّة تحولان عظيمان سيحصلان عند نهاية هذا العالم وبداية العالم الجديد :

الأوّل : فناء الموجودات والناس بشكل آني.

والثّاني : إحياء الموتى بشكل آني أيضا.

ولا نعلم مقدار الفاصل بين الحدثين ، ولكنّ القرآن يعبّر عن هذين التحوّلين بعنوان (نفخ الصور) ، وسنشرح ما يعينه ذلك في نهاية الآية (68) من سورة الزمر إن شاء الله.

وهناك رواية ينقلها «أصبغ بن نباتة» عن الإمام الصادقعليه‌السلام ، يبيّن فيهاعليه‌السلام أنّ المقصود من قوله تعالى :( وَتَرَكْنا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ ) هو يوم القيامة(1) .

وقد يتصّور البعض أنّ هناك تعارضا بين الرّواية وبين ما ذكرناه أعلاه في تفسير الآية ، حيث قلنا : إنّها تعني مرحلة فناء الدنيا ، كما يظهر من الآيات التي تسبقها والتي تليها. لكن هذا التعارض سيزول إذا التفتنا إلى ملاحظة وهي أنّه يتمّ استخدام يوم القيامة ـ في بعض الأحيان ـ بمعناه الواسع الذي يشتمل على المقدمات) أي مقدمات القيامة) ونحن نعرف : أنّ الفناء السريع للدنيا هو أحد المقدمات.

ثمّ تتناول الآيات تفصيل حال الكافرين ، حيث توضح عاقبة أعمالهم ،

__________________

(1) تفسير العياشي ، نقلا عن الميزان في تفسير الآية.

٣٧٣

والصفات التي تقود إلى هذه العاقبة ، فتقول :( وَعَرَضْنا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكافِرِينَ عَرْضاً ) .

إنّ جهنّم ستظهر لهم ، وتتضح لهم الأنواع المختلفة من عذابها ، وهذا هو بحدّ ذاته عذاب أليم موجع ، فكيف إذا ولجوها!؟ من هم الكافرون؟ ولماذا يصابون بمثل هذه العاقبة؟

الآية تعرّف هؤلاء بجملة قصيرة واحدة بقولها :( الَّذِينَ كانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطاءٍ عَنْ ذِكْرِي ) وبالرغم من أنّهم يمتكون آذانا ، إلّا أنّهم يفقدون القدرة على السماع :( وَكانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً ) .

فهؤلاء أسقطوا في الواقع أهم وسيلة لمعرفة الحق وإدراكه ، وأهملوا والوسيلة الهامة في شقاء أو سعادة الإنسان ، يعني أنّهم غطّوا أعينهم وأسماعهم بحجاب وستار بسبب أفكارهم الخاطئة وتعصبهم وحقدهم وصفاتهم القبيحة الأخرى.

الطريف في الأمر أنّ الآية تقول فيما يخص العين : إنّها كانت مغطاة وبعيدة عن ذكري ، وهذه إشارة إلى أنّهم لم يستطيعوا أن يشاهدوا آثار الخالق جلّ وعلا ، لأنّهم كانوا في ستار وحجاب من الغفلة ، ولأنّهم لم يشاهدوا الحقائق فقد اختلفوا الأساطير ونسوا الله.

نعم ، إنّ الحق الواضح ، وكل شيء في هذا الوجود يتحدث مع الإنسان ، والمطلوب أن تكون للإنسان عين تنظر وأذن تسمع!

بعبارة أخرى : إنّ ذكر الله ليس شيئا يمكن رؤيته بالعين ، فما يشاهد هو آثاره ، إلّا أنّ آثاره هي التي تذكّر الإنسان بخالقه.

الآية التي بعدها تشير إلى نقطة انحراف فكرية لدى هؤلاء هي أصل انحرافاتهم الأخرى، فتقول :( أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبادِي مِنْ دُونِي أَوْلِياءَ ) .

٣٧٤

هل يملك هؤلاء المعبودون ـ كالمسيح والملائكة ـ شيئا للدفاع عن الآخرين بالرغم من مكانتهم العالية ، أو أنّ الأمر بالعكس إذ كل ما عند هؤلاء هو من الله ، وأنّهم أنفسهم يحتاجون إلى هدايته؟

إنّ هذه حقيقة واضحة ، ولكنّ هؤلاء تناسوها وتورطوا في شراك الشرك.

في ختام الآية وللمزيد من التأكيد ، تقول الآية :( إِنَّا أَعْتَدْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ نُزُلاً ) .

«نزل» على وزن «رسل» بمعنى الإقامة ، وتعني أيضا الشيء الذي يهيّأ لتقديمه للضيوف ، وذهب البعض إلى أن هذه الكلمة تطلق على أوّل شيء يقدم للضيف عند وروده كالفواكه والشراب.

* * *

٣٧٥

الآيات

( قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالاً (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً (104) أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً (105) ذلِكَ جَزاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِما كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آياتِي وَرُسُلِي هُزُواً (106) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً (107) خالِدِينَ فِيها لا يَبْغُونَ عَنْها حِوَلاً (108) )

التّفسير

أخسر الناس :

هذه الآيات والآيات اللاحقة ـ إلى نهاية السورة المباركة ـ في الوقت الذي تتحدّث فيه عن صفات غير المؤمنين ، فإنّها تعتبر نوعا من التلخيص لكافة البحوث التي وردت في هذه السورة ، خاصة البحوث المتعلقة بقصة أصحاب الكهف وموسى والخضر وذي القرنين، وما بذلوه من جهود إزاء معارضيهم.

٣٧٦

فالآيات تكشف أوّلا عن أخسر الناس ، ولكنّها ـ بهدف إثارة حب الاستطلاع لدى المستمع إزاء هذه القضية ـ تعمد إلى إثارتها على شكل سؤال موّجه إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فتقول :( قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالاً ) .

ثمّ يأتي الجواب بدون أي توقف حتى لا يبقى المستمع في حيرة ، فتقول :( الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً ) .

مفهوم الخسران لا ينطبق على خسران الأرباح وحسب ، بل إنّ الخسران الواقعي هو خسران أصل رأس المال ، وهل هناك رأس مال أربح وأفضل وأحسن من العقل والذكاء والطاقات الإلهية الموهوبة للإنسان من عمر وشباب وصحة؟

إنّ نتاج كل هذه المواهب هي أعمال الإنسان ، وأعمال الإنسان هي في الواقع انعكاس وتجسيد لطاقاتنا وقدراتنا.

عند ما تتحوّل هذه الطاقات إلى أعمال مخرّبة أو غير هادفة ، فكأنّها قد فنيت أو ضاعت ، فهي كمثل الإنسان الذي يحمل ثروة عظيمة معه ، ولكنّه أثناء ذهابه إلى السوق يفقد هذه الثروة ويعود بيد خالية.

وقد لا يكون الخسران خسرانا خطيرا عند ما يتعلّم الإنسان من فقدان الثروة دروسا كبيرة قد تكون في قيمتها مساويه للثروة التي فقدها ، أو أكثر قيمة منها في بعض الأحيان ، فكأنّه لم يخسر شيئا.

إلّا أنّ الخسران الحقيقي والمضاعف هو أن يفقد الإنسان رأسماله المادي والمعنوي في مسالك خاطئة ومجالات منحرفة ويظن أنّه أحسن العمل ، فهو في هذه الحالة لم يحصل على ثمرة لعمله ، وفي نفس الوقت لم يلتفت إلى ما هو فيه ، فيكرّر العمل.

الجميل هنا ، إنّ القرآن الكريم استخدم تعبير( بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالاً ) في حين أنّ المفروض هو القول : «الأخسرين عملا» (لأنّ التمييز مفرد عادة) ولكن لعل

٣٧٧

هذه الصياغة القرآنية بسبب أنّهم لم يخسروا في عمل معين ، بل إنّ جهلهم المركب كان سببا للخسران في جميع البرامج الحياتية وفي جميع أعمالهم.

بعبارة أخرى : إنّ الإنسان قد يربح في تجارة معينة ويخسر في أخرى ، إلّا أنّ المحصلة في نهاية السنة هي أنّه لا توجد خسارة كبيرة ، ولكن من سوء حظ الإنسان أن يخسر في جميع الأعمال التي اشترك فيها.

استخدم كلمة «ضلّ» لعله إشارة إلى هذه الحقيقة ؛ وهي أنّ أعمال الإنسان لا تفني في هذا العالم بأى صورة من الصور ، كما أنّ المادة والطاقة تتبدّل وتتغيّر ولكنّها لا تفنى، ولكن قد تختفي أحيانا ، لأنّه لا يمكن مشاهدة آثارها بالعين ، ولا يمكن الاستفادة منها بأي شكل من الاشكال ومثلها في ذلك مثل رأس المال الضائع والذي لا هو في حوزتنا فنستفيد منه ، ولا هو فان.

أمّا لماذا يصاب الإنسان نفسيا بمثل هذه الحالات؟ فهو أمر سنبحث فيه مفصلا في فقرة البحوث.

الآيات الأخرى تذكر صفات ومعتقدات هذه المجموعة من الخاسرين ، حيث تبدأ بتلك الصفات التي تكون أساسا في مصائبهم فتقول :( أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ ) .إنّهم كفروا بالآيات التي تفتح الأبصار والمسامع ؛ الآيات التي ترفع حجب الغرور وتجسّد الحقائق أمام الإنسان ، وأخيرا فإنّها آيات النور والضياء التي تخرج الإنسان من ظلمات الأوهام والتصورات الخاطئة وترشده إلى عالم الحقائق.

ثمّ إنّهم بعد ذلك نسوا الله وكفروا بالمعاد وبلقاء الله( وَلِقائِهِ ) .

نعم ، فما لم يكن الإيمان بالمعاد إلى جانب الإيمان بالمبدأ ، وما لم يحس الإنسان بأنّ هناك قوّة تراقب أعماله وتحتفظ بكل شيء إلى لحظة انعقاد المحكمة الكبيرة الدقيقة والقاسية ، فإنّ الإنسان سوف لا يعير أهمية إلى أعماله وسوف لا يصلح نفسه.

٣٧٨

ثمّ تضيف الآية أنّهم بسبب من كفرهم بالمبدأ والمعاد فإنّ أعمالهم قد حبطت وضاعت:( فَحَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ ) . وغدت تماما كالرماد في مقابل العاصفة الهوجاء.

ولأنّهم لا يملكون عملا قيما ثمينا لذا :( فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً ) .

لأنّ الوزن يخص الأمور الموجودة ، أمّا هؤلاء فلا يملكون شيئا من الأعمال ، ولذلك ليس لهم وزن ولا قيمة؟ وفي إطار بيان جزاء هؤلاء ، تكشف الآية عن ثالث سبب في انحراف وخسران هؤلاء ، وهو الاستهزاء بما انزل الله فتقول :( ذلِكَ جَزاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِما كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آياتِي وَرُسُلِي هُزُواً ) (1) .

وبذلك فإنّ هؤلاء انتهوا إلى إنكار الأصول الأساسية الثلاثة في الإعتقاد الديني (المبدأ، والمعاد ، ورسالة الأنبياء) والأكثر من الإنكار أنّهم استهزءوا بهذه الأمور!

والآن بعد أن عرفنا علامات الكفار والأخسرين أعمالا ، وبعد أن انكشفت عاقبة أعمالهم ، تتوجه الآيات إلى المؤمنين فتبيّن عاقبتهم ، وبمقايسة بين الاثنين نستطيع تشخيص كل طرف بشكل كامل. تقول الآية :( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً ) .

«الفردوس» بقول كبار المفسّرين (البستان) الذي يشتمل على كل النعم والمواهب اللازمة ، وبذلك فالفردوس هو أفضل وأكمل البساتين في الجنّة.

وبما أنّ كمال النعم بدوامها وأن لا تطالها يد الزوال ، لذا فإنّ الآية تقول بلا فصل:( خالِدِينَ فِيها ) .

وبالرغم من أنّ طبع الإنسان قائم على التغيّر والتنوّع ، إلّا أنّ سكان الجنّة

__________________

(1) هناك كلام بين المفسّرين حول تركيب جملة( ذلِكَ جَزاؤُهُمْ ) فالبعض اعتبر «ذلك» مبتدأ و «جزاؤهم» خبرا و «جهنم» بدلا ، في حين أنّ البعض الآخر اعتبر أنّ المبتدأ محذوف و «ذلك» خبرا له ، و «جزاؤهم جهنم» مبتدأ لخبر آخر تقديره : الأمر ذلك جزاؤهم جهنم. إلّا أنّهم يظهر أنّ الرأي الأوّل أكثر تناسبا من غيره.

٣٧٩

لا يطلبون تغيير مكانهم أو حالهم أبدا :( لا يَبْغُونَ عَنْها حِوَلاً ) . ذلك لأنّهم يجدون كل ما يطلبون حتى التنوع والتكامل كما سيأتي شرح ذلك.

* * *

بحوث

1 ـ من هم الأخسرون أعمالا؟

نلاحظ في حياتنا وحياة الآخرين ، أنّ الإنسان عند ما يقوم بعمل خاطئ ويعتقد أنّه صحيح ، فإنّ جهله المركب هذا لا يدوم أكثر من لحظة أو موقف أو حتى سنة ، أمّا أن يدوم على امتداد عمره فذلك هو سوء الحظ وهو الخسران المبين.

لهذا وجدنا القرآن الكريم يسمي مثل هؤلاء الأشخاص بالأخسرين ، لأنّ الذي يرتكب الذنب وهو يعلم بذلك ، فإنّه سيضع حدا لما هو فيه ويعوّض عن الذنب بالتوبة والعمل الصالح ، أمّا أولئك الذين يظنون أن ذنوبهم عبادة وأعمالهم السيئة أعمالا صالحة ، وانحرافهم استقامة ، فإنّ مثل هؤلاء لا يستطيعون التعويض عن ذنوبهم ، بل يستمرون فيما هم فيه إلى نقطة النهاية ، فيكونون كما عبّر عنهم القرآن :( بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالاً ) .

وفي الرّوايات والأحاديث الإسلامية تفاسير متعدّدة للأخسرين أعمالا ، وإنّ كل واحد منها إشارة إلى أحد المصاديق الواضحة لهذا المفهوم الواسع من دون أن تحدّده ، ففي حديث «أصبغ بن نباتة» أنّه سأل الإمام عليعليه‌السلام عن تفسير الآية ، فقال الإمام : «كفرة أهل الكتاب ، اليهود والنصارى ، وقد كانوا على الحق فابتدعوا في أديانهم وهم يحسبون أنّهم يحسبون صنعا»(1) .

وفي حديث آخر عن الإمام عليعليه‌السلام أيضا ، قوله بعد ذكر الجواب الآنف :

__________________

(1) يراجع نور الثقلين ، ج 3 ، ص 311 ـ 312.

٣٨٠